الفصل الأول

مفهوم النوعية الأكاديمية

لا تتمثَّل رحلة الاستكشاف الحقَّة في السعي خلف مناظر جديدة، بل في امتلاك عينين جديدتين.

مارسيل بروست

مدخل

مصطلح «النوعية» هو واحد من تلك المصطلحات التي يسهل استخدامها ويصعب تعريفها. فقد تم تقاذف هذا المصطلح وإطلاق الكلام عليه بشتى الطرق، خاصةً في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته حين تفشى مفهوم» الإدارة التي تتوخى النوعية الكاملة» أو(«تحسين النوعية المتواصل»، كما يفضل العاملون في التعليم العالي ممن تخلوا عن مصطلح الإدارة). ومفهوم النوعية هو ذلك المفهوم الذي يثير قلق الكثير من الأكاديميين؛ فمصطلح النوعية، بالنسبة لنا، هو واحد من تلك المصطلحات التي تفوق الوصف بحيث يغدو من الأفضل أن ندعها من غير شرح أو تفسير. ويبدو أننا نوافق روبرت بيرسِغ، الذي قال في كتابه الكلاسيكي بوذية زِن وفن صيانة الدراجات النارية: «أنتم تعلمون، ولا تعلمون في الوقت ذاته، ما هي النوعية» (١٩٧٤م، ص٢٢٥). ومعظم الأكاديميين على اقتناع بما دعاه غارفن (١٩٨٨م) بالنظرة المتعالية إلى النوعية، ومفادها أن خبرتنا تجعلنا نميز النوعية ونتبيَّنها ما إن تقع أنظارنا عليها، ولكن لا تتوقعوا منا أن نخبركم ما الذي يجعلنا نتبيَّنها أو كيف نتبيَّنها. وأفضل خدمة تؤدَّى لمصالح المجتمع هي بإبراز مصالحنا وإعطائها مركز الصدارة. وقد يسهل على الآخرين أن يهملوا النظرة المتعالية إلى النوعية بوصفها نظرة متعجرفة لا تخدم سوى ذاتها، لكن هنالك أدلة جوهرية على مشروعية هذه النظرة وسريانها. فمنذ سنوات مضت كتب بولياني (١٩٦٧م) عن «المعرفة الضمنية»، وقوامها معرفة ما لا يمكن التعبير عنه أو صوغه بكلمات. وما من أحد إلا وسبق له أن خاض مثل هذه التجربة؛ حيث نحسُّ أن بحثنا على وشك الوقوع على شيء ما، أو نشعر بأن طلابنا قد التقطوا ذلك الشيء الذي نحاول أن نعلمهم إياه، أو نرتاب بأننا قد أخطأنا شيئًا ما وخلطنا بينه وبين الشيء الذي نحبه، على الرغم من عدم وجود أيِّ أدلة واضحة أو ملموسة تسند ذلك. وحقيقة الأمر أن امتلاك المختصَّ معرفة ضمنية مصقولة جيدًا بالحقل الذي يعمل فيه هو واحد من السمات النوعية التي تسِم المختصَّ الحقيقي. وهذا ما يجعلنا، في مجال التعليم والتعلم، أفضل من يحكم على النوعية ويقرِّر ماهيتها، سواء كنا قادرين على التعبير عنها أم لا. وعلى الأقل، فإن هذا ما يروق لنا أن نعتقده.

ولا يقتصر الأمر على تعالي نظرات الهيئة التعليمية إلى النوعية، بل يتعدَّاه إلى كَونِ هذه النظرات صامتة إلى حد بعيد. وقد وجد مسحٌ قام به ماسي (٢٠٠١م، اتصال شخصي) أن أكثر من نصف المستجوبين من الهيئة التعليمية قد أشاروا إلى أنهم نادرًا ما خاضوا نقاشات حول النوعية، إذا ما كانوا قد خاضوا مثل تلك النقاشات أصلًا؛ فهم يعتبرون النوعية مسألة متروكة لأعضاء الهيئة التعليمية الأفراد، الأمر الذي غالبًا ما يتم بمجاراتهم التطورات الحاصلة في فروعهم وعدم تخلفهم عن سواهم في هذه الفروع، وبذلك لا تحتاج النوعية إلى نقاش إلا حين تظهر أدلة على وجود مشكلة ما.

(١) قوى المحاسبة العامة والمسئولية

غير أن النظرات المتعالية والضمنية إلى النوعية لم تعُد تحظى بكثير من القبول لدى الجمهور بوجه عام. وثمة أسباب كثيرة لذلك ينبع معظمها مما دعاه روبرت زيمسكي (١٩٩٣م) «فقدان القداسة»؛ حيث لم يعُد التعليم العالي في منَعة من ضرورة إبدائه قابلية للمحاسبة العامة وتحمُّله المسئولية وتأكيده على أنه ذو فائدة للمجتمع؛ فالدرجة العلمية في معظم الفروع لم تعُد تلك البطاقة التي تتيح النجاح الاقتصادي، ولم تعُد ذلك الشرط الكافي لتحقيق الهيبة الاجتماعية. غير أنها لا تزال شرطًا ضروريًّا، وتبقى كذلك على نحوٍ مطَّرد؛ فقد غدا الطلاب وذووهم متشددين في مطالبتهم بأن يفِي التعليم العادي بوعوده، خاصةً إزاء الارتفاع الواضح في رسوم التعليم منذ تسعينيات القرن العشرين حتى القرن الحادي والعشرين، ويتطلَّع الطلاب إلى مزايا منافسة، ومهارات قابلة للتسويق وذات رَواج، ولا يكتفون بالتطلُّع إلى خبرة الكلية وحدها؛ حيث يصعب التوصل إلى المزايا المنافسة حين تكون الكلية مكرَّسة لخدمة الكثيرين وليس لخدمة القلة.

وهكذا، فإنَّ ذلك الموقف المريح والرَّضيَّ الذي يتخذه معظم الأكاديميين من النوعية لم يعُد ذا نفعٍ بأيِّ حال. فالقول: «ثقوا بنا، إن لدينا أفضل المعرفة» لم يعُد صالحًا. ومخاطر التشبُّث بمثل هذه التعويذة هي مخاطر جدِّية. انظر الشكل ١-١.
fig1
شكل ١-١: المحاسبة العامة في التعليم العالي.
يصون التعليم العالي مسئوليته العامة وقابليته للمحاسبة ويؤكِّد على فائدته ونفعه للمجتمع بثلاث طرائق (وِرغِن، ١٩٩٨م):
  • (١)
    التنظيم الحكومي: لا يقتصر هذا التنظيم على الحكومة الفيدرالية أو حكومة الولاية، بل يتعدَّى ذلك إلى هيئات التنسيق والتحكُّم. ووجود هذه الزاوية من زوايا المثلث هو لضمان أن تتحمَّل مؤسسات التعليم العالي مسئولياتها أمام الخزينة والمجتمع؛ بحيث تكون على مستوى معايير الأمان والسلامة المناسبة، وتقدِّم برامج تعليمية غير مستنسخة إذا ما أمكن. أمَّا هدف هذا التنظيم فهو الامتثال.
  • (٢)
    السوق: خاصة مع تطور التقنية وابتداع التعليم عن بُعد؛ فالتنافس يشتدُّ على الطلاب بين متعهدي التعليم، والمؤسسات التي تخفق في التلاؤم مع السوق المتغيِّرة تخاطر بسلامتها وبقائها على قيد الحياة. وهدف زاوية السوق بين زوايا المثلث السابق هو المزايا المنافسة.
  • (٣)
    المراجعة المدقِّقة: وثمة سبب يدفعني لأن أضع هذه المراجعة في قمة المثلث؛ فمن بين أشكال المحاسبة العامة الثلاثة، تبقى هذه المراجعة هي الشكل الوحيد الذي يركز على النوعية وتكامل العمل ذاته، كما أنها الشكل الوحيد الذي تمتلك المؤسسة وهيئتها التعليمية قَدْرًا من السيطرة المباشرة عليه؛ فالهيئة التعليمية كجماعة هي التي تقع على عاتقها مسئولية الحفاظ على نوعية البرامج، وما من أحد يرغب في أن يترك هذا الأمر للحكومة أو السوق.
وثمة مفارقة مزعجة هنا. فالمراجعة المدقِّقة؛ أي ذلك الشكل من المحاسبة الذي تجد المؤسسة فيه، أو ينبغي أن تجد، مصلحة راسخة عظيمة، عادةً ما تكون أيضًا أضعف الأشكال؛ فهذا هو المجال الذي أخفقت فيه الهيئة التعليمية، نظرًا لتمسُّكها بالتصوُّرات المتعالية عن النوعية، فعجزت عن تطوير طرائق تمكنها من دفع العموم إلى الاعتراف بوجود النوعية وإقرارها. وسوف أبيِّن في الفصول اللاحقة أن معظم المؤسسات تنظر إلى طرائق المراجعة المدقِّقة هذه، سواء على مستوى الاعتماد أو الاعتراف الرسمي أم على مستوى البرامج، على أنها مجرد طقس شكلي؛ فهي تعتبرها عوائق بيروقراطية تنبغي إزالتها، وشرورًا لا بد من تحملها لكي يمكن إنجاز العمل الأكاديمي الفعلي. وتبعًا لوليامز ماسي (٢٠٠١م)، فإن التهمة الرئيسة ليست عدم اهتمام الهيئة التعليمية بالنوعية، بل انشغال هذه الهيئة بأولويات أخرى:

لا تنظر الهيئة التعليمية مليًّا — أو على الأقل لا تنظر بتلك الطريقة المنظَّمة — فيما نحاول أن ننجزه: فلا تسجِّله، أو تناقشه، أو تجادل فيه، أو تتحدث عنه، أو تفكِّر بالإجراءات التي يمكن أن نستخدمها لكي نحدد مدى جودة عملنا، ثم نعمل على وضع خطط أفضل لعملية التعليم والتعلم … [وهذه النشاطات] شائقة فكريًّا وتمثل نوعًا من التحدي، لكن الكليات لا تكافئ الأساتذة على القيام بها؛ أما البحث العلمي فيُكافَأ، والهيئة العلمية تصبُّ جهودها حيث توجد المكافآت.

(ص٤٥)

إن ذلك لمُخجل، لأن ضمان النوعية من الداخل، وإقرار العموم بوجودها، ربما يكون أنجع سبيل يمكن التعليم العالي من الحفاظ على مجموعة جوهرية من القيم التي تخدمنا جميعًا، ومن بين تلك القيم كلٌّ من الاستقلال، والحكم الذاتي، والسعي خلف المعرفة بطرائق متحررة من أسئلة الكفاءة أو الشعبية.

إننا نخاطر إذ نتجاهل ما يقع على عاتقنا من مسئولية الحفاظ على النوعية، وما من أحد في الأكاديميا يرغب في أن ينهار مثلث النوعية ويتحول إلى خط مستقيم، تقع الحكومة في واحد من طرفيه والسوق في الطرف الآخر، إلا إن ذلك بالضبط ما سيحصل إذا ما قررت الهيئة التعليمية ألا تزعج نفسها بمثل هذه الأمور؛ فثمة مصادر أخرى للمعلومات عن النوعية، مثل ضروب التصنيف والتقدير الرائجة الآن (أو سيئة الصِّيت كما يرى بعض الأكاديميين) التي ينشرها سنويًّا U.S. News and World Report، لا بد أن تملأ الفراغ.

(٢) تعريف النوعية بالسلب (ما ليس النوعية)

ما الذي تعنيه «النوعية» إذن؟ وهل ثمة طريقة لجعل ما هو ضمني قابلًا للرصد والملاحظة، بل قابلًا للقياس؟ إن التقدم صوب الجواب يقتضي أن نتناول أولًا ما ليس النوعية أو تعريفها بالسلب.

(٣) قابلية التسويق أو الرواج

سبق أن أشرتُ بصورة ضمنية إلى أن النوعية لا تتطابق مع قابلية التسويق أو الرواج. فالنوعية ليست القيام بكلِّ ما يمكن أن يدخل السرور على قلوب زبائننا. وإليكم هذه القصة الحقيقية: فقد تعرَّضت كلية الموسيقى في جامعة كبيرة في إحدى المدن الكبرى لضغوط من جرَّاء قلة عدد المسجَّلين فيها، فقررت أن تعطي مقررًا دراسيًّا في تذوُّق الموسيقى الشعبية وتقويمها كدرس أو موضوع اختياري يرمي إلى تلبية حاجات الفروع الأخرى في العلوم الإنسانية. وقد درَّس هذا المقرر مُعِدٌّ ومُقَدِّم محليٌّ لأحد البرامج الموسيقية ألقى محاضراته في قاعة ضخمة كانت تغصُّ بمئات الطلبة المتشوِّقين. فهل حسَّنت هذه المادة الرائجة من النوعية الأكاديمية؟ معظمنا سوف يجيب ﺑ «لا» مدوَّية. وتبعًا لبراسكامب (١٩٩٧م) فإن ثمة فارقًا بين الاستجابة والمسئولية. وإنَّ قدرًا كبيرًا من الاستجابة يشكِّل تهديدًا للمسئولية. وقد سبق لعالمة الاجتماع إيفريت هيوز أن علَّقت على مسئولية الأطباء وقابليتهم للمحاسبة بالقول: «إن الطبيب الذي يكثر من الاستجابة لمرضاه دجَّال أو مشعوذ»؛ فأن تكون مسئولًا يعني أن تعمل من أجل الصالح العام، الأمر الذي يشتمل على الاهتمام بحاجات وأولويات أولئك الذين نخدمهم كما يشتمل على التعبير عن هذه الحاجات والأولويات والتمسك بمبادئ الحرية الأكاديمية، وهي «البحث الحر عن الحقيقة وعرضها الحر» (AAUP، ١٩٩٥).

(٤) الإنتاجية

ولا تتطابق النوعية أيضًا مع الإنتاجية، التي يعرِّفها الاقتصاديون بالنتائج المترتبة على وحدة الدخل (الذي عادة ما يكون المال). فالمزيد من الإنتاج — المزيد من الطلاب، والمزيد من المنشورات، والمزيد من أيِّ شيء — ليس أفضل بالضرورة. وفي المثال الذي أوردته آنفًا زادت الساعات الدراسية المعتمدة في قسم الموسيقى أضعافًا مضاعفة. ومع أنَّ بمقدور المرء القول: إنَّ هذا قد أتاح للقسم أن يلتفت إلى قضايا ملحة وأن يحسِّن النوعية في مجالات أخرى، إلا إن الصلة بين الأمرين هي صلة غير مباشرة في أفضل الأحوال. وعلاوةً على ذلك، فإن التركيز على الإنتاجية يمكن أن يفضي إلى وسواس الحساب وتجاهل نوعية المنتَج الذي هو موضع حساب. وعضو الهيئة التعليمية الذي يحوز أدسَم سيرة ذاتية قد لا يؤدِّي العمل النوعي الأرفع، وعضو الهيئة التعليمية الذي يدرِّس أكبر عدد من الطلاب قد لا يشجع على التعلم النوعيِّ الأرفع.

(٥) الكفاءة

لا تتطابق النوعية، ثالثًا، مع الكفاءة. والكفاءة نسيبة الإنتاجية، على اختلاف التكلفة المكرَّسة لها؛ فتحقيق الكفاءة يعني تحقيق الإنتاجية المثلى بالحد الأدنى من التكلفة. أما أن يقومَ المرء بالشيء الصحيح على نحوٍ كفء فتلك مسألة أخرى. والكفاءة الأعظم لا تترجَم بالضرورة وعلى الدوام إلى القيمة الأعظم، وهذا هو الدرس الذي تعلمته صناعة السيارات منذ سنوات طويلة مع انهيار النوعية على طول خطوط التجميع في هذه الصناعة. كما أن التركيز على كفاءة التدريس، ذلك التركيز الذي أفضى إلى زيادة مطردة في نسبة المقررات التي يدرِّسها مساعدون بأجور زهيدة، هو السبب الرئيس فيما يشعر به الجمهور حيالنا من عدم السرور؛ بل إن انفجار الاهتمام الحالي بالتعلم عن بعد كأداة توفِّر أكبر قدر من كفاءة التعلم هو ما دفع الكثيرين إلى التساؤل ما إذا كنا نقدم لأنفسنا أو لطلابنا أيَّ فضل حقيقي. ويبقى التوصُّل إلى مزيد من الكفاءة هدفًا جديرًا بالعناء إذا ما طُرحت الأسئلة الصحيحة (فيرين وسلافينغز ٢٠٠٠م)، كالسؤال: «ما الميزانيات المالية التي ينبغي توظيفها في برامج مصمَّمة للحد من إنهاك طلاب السنة الأولى؟» أو «ما هي العواقب المالية المترتبة على زيادة نجاح الطلاب في المقررات التي تتَّبع نظام كيلر»؟

(٦) الفعالية

رابعًا وأخيرًا، لا تتطابق النوعية مع الفعالية؛ فالفعالية هي مدى إنجاز فعل ما للهدف المرغوب فيه وتوصله إلى النتيجة المستهدَفة. وتتمثل المشكلة في أن الأهداف قد لا تستهدف النوعية في جميع الأحوال، وحتى لو كانت كذلك، فإن الأفعال قد لا تكون جميعها مبررة بحد ذاتها. إنَّ بتر إصبع هو من غير شك دواء فعال في حال تموته، غير أنه قلما يكون ذلك الفعل الذي يرغب المرء أشد الرغبة في القيام به، وإعطاء اختبارات تقيس تذكر المادة هو من غير شك استراتيجية فعالة في تشجيع الطلاب على قراءة الكتب، لكنها قلما تكون تلك الاستراتيجية المفيدة في التشجيع على التعلم العميق وعلى حب المادة، والأمر الأساسي هو أن التمسك الأعمى بفكرة القيام بما هو فعال قد تحُد من قدرتنا على النظر إلى خيارات أخرى أفضل من هذا الخيار.

(٧) خصائص القسم النوعي

قد يغري القارئ عند هذا الحد أن يفكر: «حسنٌ، إذا كانت النوعية لا تتطابق مع أيٍّ من هذه الخصائص الأربع، فلعلها تكون قائمة على هذه الخصائص مجتمعة». لنأخذ، للحظة، برنامجًا أكاديميًّا يتسِم بالرواج، والإنتاجية، والكفاءة، والفعالية. فهل هذا «برنامج نوعي؟» ما الذي يفتقده هذا البرنامج، إذا ما كان يفتقد أيَّ شيء؟ إنه يفتقد إلى كثير من الاعتبارات، من بينها الاهتمام بالعوامل التالية، كي نذكر قلة وحسب من العوامل:
  • مؤهلات الهيئة التعليمية.

  • الحاجات الاجتماعية.

  • نمو الطلاب والهيئة التعليمية.

  • تماسك البرنامج.

  • المساهمة في رسالة المؤسسة.

وليست هذه سوى قائمة أولية؛ حيث يمكن أن نضيف إليها بنودًا أخرى. ذلك أن على النوعية أن تتطرق أيضًا إلى قضايا التكامل الأكاديمي ومدى إضافة البرنامج قيمة إلى الوحدة التنظيمية الأوسع.

هكذا، قد لا تتمثَّل مشكلة تعريف «النوعية» في كونها تفوق الوصف ولا تُسبَر أغوارها، بل في كونها معقدة ومتعددة الأبعاد. ولقد سبق لي أن عملتُ على تيسير ورشات طرحتُ فيها على كراسي الأقسام سؤالًا مباشرًا: «ما هي خصائص القسم النوعي؟». وتبيِّن القائمتان التاليتان تلك الإجابات الجماعية التي قدَّمتها مجموعتان من الكراسي.

  • إجابات المجموعة ١: حوالي ٦٠ كرسيًّا التحقَت بهذه الورشة الوطنية.
    • الرسالة والرؤية المشتركتان.
    • اعتراف الخارج وتقديره.
    • المقاييس الأكاديمية الرفيعة.
    • التعليم المتميز.
    • البحث الفعال.
    • التعاون والتأمل الذاتي.
    • الابتكار؛ المرونة في التغير.
    • روح الكلية.
    • الاتصال الفعال.
    • التوازن في التركيز على الطلاب، والمجتمع، والمؤسسة، والهيئة التعليمية.
    • الكرسي «النوعي».
    • نجاح الطلاب.
    • التسهيلات الوافية ودعم الأساتذة القويُّ.
    • احترام تعدد الآراء؛ «التوتر الخلاق».
  • إجابات المجموعة ٢: حوالي ٥٠ كرسيًّا، ومديرًا، وقائدًا تعليميًّا من اتحاد كليات في الشمال الشرقي.
    • الرسالة المركزة.
    • الالتزام بتعليم الطلاب وتعلمهم.
    • الهيئة التعليمية المتطورة أكاديميًّا.
    • توفر الموارد اللازمة لتحقيق الأهداف.
    • انسجام الجماعة، وتعددها، وتوازنها السليم.
    • أفضل تناغم ممكن بين الطلاب والهيئة التعليمية من جهة أولى، ورسالة المؤسسة من جهة أخرى.
    • نجاح الطلاب في دراساتهم العليا.
    • بحث الطلاب والهيئة التعليمية الفاعل.
    • المنهاج والتعليم الديناميان المتطوران والحديثان.
    • البرنامج الذي ينتفع به المجتمع فضلًا عن الطلاب.
    • التعبير الحر والعلني عن الأفكار.
    • الروابط القوية مع الخريجين والصناعة.
    • التقويم المتواصل للبرامج واستخدام معطيات القياس.
    • دعم العاملين ذوي القيمة والشأن وتقديرهم.
    • التزام أعضاء القسم بأهداف الكلية وقيمها، والمنظورات الشاملة.
    • القيادة الفعالة ذات الرؤية من طرف الهيئة التعليمية والكرسي.
يلفت تشابه هاتين القائمتين الانتباه. وما يستوقف فيهما هو المدى الذي يصله وصف النوعية بما يجري عمليًّا في القسم: الهدف المشترك، القيادة القوية، تفاعل الهيئة التعليمية والطلاب، المرونة في التغيُّر، والإحساس بوجود الطاقة الدافعة والالتزام. ولعلَّ بمقدورنا أن ندرج كلَّ ذلك تحت ثيمة أو موضوعة، المشاركة. أما الثيمات الأخرى، ككفاية الموارد، فتُقَدَّم بصوت أخفض. وإنه لمن المفيد والمثقِّف أن نقارن البنود الواردة في هاتين القائمتين بالكيفية التي درج بها الأدب البحثي على تعريف «النوعية الأكاديمية». ولقد سبق لهوارث وكونراد (١٩٩٧م) أَن صنَّفا دراسات النوعية الأكاديمية ضمن منظورات أربعة:
  • (١)

    منظور الهيئة التعليمية.

  • (٢)

    منظور الموارد.

  • (٣)

    منظور نوعية الطلاب والجهد الذي يبذلونه.

  • (٤)

    منظور متطلبات المنهاج ومقتضياته.

وسوف أقدِّم أدناه عيِّنات من المعايير التي شاع استخدامها مستمدَّة من كلِّ منظور بين هذه المنظورات:

(٨) أربعة منظورات في النوعية الأكاديمية

منظور الهيئة التعليمية: المعايير

  • التدريب والمؤهلات التعليمية.

  • الإنتاجية العلمية والبحثية.

  • تمويل الأبحاث.

  • المكافآت، ودرجات الشرف، والجوائز.

منظور الموارد: المعايير

  • كتلة حاسمة من أعضاء الهيئة التعليمية والطلاب.

  • موارد مالية.

  • تسهيلات مادية.

منظور نوعية الطلاب وجهدهم المبذول: المعايير

  • مؤهلات تعليمية ومنجزات.

  • مشاركة الطلاب.

  • نوعية جهد الطلاب.

منظور متطلبات المنهاج ومقتضياته: المعايير

  • مقررات تقتضي عملًا جوهريًّا ومتخصصًا.

  • مقتضيات الإقامة.

  • خبرة متراكمة.

جميع هذه المنظورات الأربعة حاضرة ومُمثلة في قائمتي خصائص النوعية التي وضعتها كراسي الأقسام وسواها في الشكل الإجابات السابقة، لكن أيًّا منها لا يمارس سيطرته على النحو الذي تمارس ثيمة «المشاركة» هذه السيطرة.

إذَن، ما الذي يدفع الهيئة التعليمية والكراسي لأن يكون لديها مثل هذا الإحساس بالنوعية الذي يختلف عما لدى الباحثين (ومديري الأكاديميات أيضًا)؟ حقيقة الأمر أنَّ لا وجود لمثل هذا الإحساس المغاير. ففي بعض الأحيان، وفي ورشات عمل تشتمل على كلٍّ من الكراسي والإدارة الأكاديمية المركزية، كنت أفصل المجموعتين وأطلب من كلٍّ منهما أن تجيب عن الأسئلة التالية:

(١) ما هي المعايير التي تقوَّم على أساسها البرامج الأكاديمية؟ و(٢) ما هي المعايير التي ترغب في أن تقوَّم البرامج الأكاديمية على أساسها؟ والإجابة المعتادة التي يقدِّمها الكراسي عن السؤال الأول هي: «لا نعلم في حقيقة الأمر»، أما إجابة المديرين فهي: «إن ذلك يتوقَّف على …» (وهي إجابة غالبًا ما تُطلق بشيء من الضحك العصبي وهم يرمقون بأعينهم الهيئة التعليمية). أما السؤال الثاني، من جهة أخرى، فعادةً ما يستثير إجابات متشابهة شديدة التداخل، حتى إن ذلك كان يثير دهشة المشاركين. وحين كنت أسأل بعد ذلك: «حسنٌ، إذا ما كان هنالك كلُّ هذا القدر من الإجماع على ما يشكِّل قوام النوعية الأكاديمية، فلماذا لا تقوَّم البرامج بهذه الطريقة؟»، كان الردُّ يأتي مباشرةً: «لأن هذه النوعيات الأخرى يصعب كثيرًا قياسها». وهذا أشبه بتلك النكتة القديمة عن السكِّير الذي راح يفتش عن مفاتيح سيارته تحت أعمدة النور في الشارع «نظرًا لوجود الضوء هناك». فنحن نقوِّم البرامج الأكاديمية تبعًا لمعايير مثل التسجيل، وساعات التدريس المعتمدة؛ لأن ذلك هو المكان الذي تتوافر فيه المعطيات.

(٩) آن الأوان لإقامة نظرة جديدة إلى النوعية الأكاديمية

ربما كان بيرسِغ مخطئًا فيما قاله من أننا نعلم ما هي النوعية، ونستطيع أن نميزها حين نراها، لكننا نحسب أننا لا نستطيع قياسها، ولذلك لا نتحدَّث عنها. بيد أننا نتذمر حين يفعل الآخرون ذلك، مثل U.S. News and World report.

أعتقد أن الأوان قد آن لإقامة نظرة مغايرة تمامًا. وسوف أعرض إلى نقاط ثلاث على هذا الصعيد مستندًا إلى أبحاثي الخاصة وأبحاث سواي.

  • (١)
    تنبع النوعية الأكاديمية الحقَّة من المشاركة الأصيلة التي تقيمها الهيئة التعليمية والطلاب مع مادة البحث ومع بعضهم بعضًا، فضلًا عن مشاركة القسم ككل مع جمهوره المتعدد والمتنوع.
  • (٢)
    النوعية ليست مصطلحًا أحادي البعد. فالنوعية تعني أشياء مختلفة باختلاف المساهمين، كالطلاب، والهيئة التعليمية، والأهل، وأعضاء المجالس، والمجتمع الواسع؛ ولذلك فإن ما يشكل قوام البرنامج الأكاديمي النوعي يتوقف على تفاوض هذه المصالح و — بالعكس — فإن البرامج النوعية تنجم عن قيم تم التفاوض عليها. والهيئة التعليمية وسواها من أعضاء المجتمع الأكاديمي لهم حصة حاسمة في هذا التعريف التفاوضي، لكنها ليست الحصة الوحيدة.
  • (٣)
    علائم النوعية، حتى لو كانت ضمنية، ومتعالية، ليست مرئية وحسب بل تقبل القياس أيضًا.

وقبل أن ندخل في هذه النقاط بمزيد من التفصيل، لا بد أولًا من أن نتناول الشروط التي ترغب في ظلها الهيئة التعليمية كأفراد والأقسام ككل في أن تنجز عملًا نوعيًّا، سواء ضُغط عليها لتفعل ذلك أم لم يُضغط.

المراجع

  • American Association of University Professors (1940, 1995), AAUP policy documents and reports, Washington, DC; author.
  • Braskamp, L. A. (1997), On being responsive and resposible, CHEA Chronicle no. 6, Washington, DC: Council for Higher Education Accreditation.
  • Ferren, A. S., & Slavings, R. (2000), Investing in quality: Tools for improving curricular efficiency, Washington, DC: Association of American Colleges and Universities.
  • Garvin, D. A. (1988), Managing quality: the strategic and competitive edge, New York, NY: Free Press.
  • Haworth, J. G., & Conrad, C. F. (1997), Emblems of quality in higher education: Developing and sustaining high-quality programs, Needham Heights, MA: Allyn & Bacon.
  • Massy, W. F. (2001, July/August), Making quality work, University Business, 4, 44–50.
  • Pirsig, R. M. (1974), Zen and art of motorcycle maintenance: An inquiry into values, New York, NY: Bantam.
  • Polyani, M. (1967), The tacit dimension, New York, NY: Doubleday.
  • Wergin, J. F. (1998), Assessment of programs and units, Presentation at the 1998 AAHE Assessment Conferens, Reprinted in Architeecture for change: information as foundation, Washington, DC: AAHE.
  • Zemsky, R. (1993, May/June), On reversing the ratchet: restructuring in colleges and universities, Chang, 25, 56–62.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤