الفصل الرابع

خَلقُ القسم المشارِك

أجدر الأشخاص بالرثاء في هذه الدنيا ذلك الذي يمتلك البصر ولا يمتلك البصيرة.

هيلين كيلر

مدخل

أشرتُ في الفصل الأول إلى أنَّ النوعية الأكاديمية تنبع من مشاركة القسم الأصيلة بمكوِّناته جميعًا؛ ورأيت في الفصل الثالث أنَّ مشاركة القسم هي واحد من العوامل الحاسمة التي تسهم في خلق المناخ المؤسَّساتي النوعي (ورغن وسوينغن، ٢٠٠٠م). ودراستنا ليست سوى واحدة من بين دراسات كثيرة كشفت أهمية المشاركة. ومن بين هذه الدراسات دراسة بنسيمون ونيومان (١٩٩٣م)، وماسي وويلغر وكولبِك (١٩٩٤م)، وبينيت (١٩٩٨م)، ووالفورد وآخرين (٢٠٠٠م)، وخاصةً دراسة هاورث وكونراد (١٩٩٧م). ومن بين الأسباب التي تقف وراء إيلاء المشاركة كلَّ هذا القدر من الاهتمام في السنوات الأخيرة غياب هذه المشاركة المطلق. وعالم الأساتذة حافلٌ بالمفارقات، ولا شك أنَّ أكثرها مدعاةً للحيرة هي: كيف يمكن لجماعة من البشر التزم جميع أفرادها بحياة تقوم على المشاركة في عملية التعلم أن تكون بعيدة كلَّ هذا البعد عن مشاركة أعضائها بعضهم بعضًا، أو مشاركة القسم الذي ينتمون إليه. وإذا ما كانت المهنة الأكاديمية هي الأشد فردانية من بين الثقافات التنظيمية جميعًا (سِنغ،٢٠٠٠م)، فما هو سبب هذه الحالة؟ ولماذا حين تتكلم على تعاون القسم يعامل الناس كلامك كما لو كان ضربًا من الإرداف الخُلفي الذي يجمع لفظتين متناقضتين؟ ولماذا لا يزال زملائي يمازحونني، على الرغم من مرور ما يقارب عشر سنوات على صدور كتابي القسم المتعاون (وِرغن ١٩٩٤م)، فيقولون إنَّه الكتاب الفانتازي المحض الوحيد الذي نشرته جمعية التعليم العالي الأميركية (AAHE)؟ كيف سرنا في هذا السبيل؟ ثمَّة ثلاثة من الأسباب على الأقل، أحدها شخصي، والآخران مرتبطان بالبيئة أو الوسط.

(١) الأسباب التي تقف وراء ندرة التعاون على مستوى القسم

فردانيةُ أعضاء الهيئة التعليمية

أولًا: إنَّ أعضاء الهيئة التعليمية انطوائيون إلى حد بعيد بطبيعتهم (كلارك،١٩٨٧م). فنحن نستمتع بأننا وحدنا، متروكون لرغباتنا وإرادتنا. وليس الأمر أننا لا نستطيع أن نكون اجتماعيين، بل الأمر أننا نكتسب طاقةً من الأفكار أكثر مما نكتسب من البشر. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ الحرية والمرونة التي نتمتَّع بها تجذب أولئك الذين يقول عنهم بينيت إنَّهم «مهيَّئون مسبقًا لأن يكونوا فردانيين أشدَّاء» (١٩٩٨م، ص١٩)، وهو استعداد تعززه قواعد الدراسات العليا:

… دراسة الماضي الموروث تلك الدراسة المدققة النقدية والعين على تحدي التراث ومراجعته، وتطوير المرء لطرائقه المميزة في تفسير المعطيات والظواهر القائمة في فرعه العلمي والدفاع عن هذه الطرائق، ومحاولته أن «يصنع لنفسه اسمًا». غير أنَّ الإلحاح الأشدَّ هو إلحاح انضباطي من حيث الطابع بصورةٍ تكاد أن تكون دائمة. أما الإلحاح على الروحية التي تعزِّز الجامعة بوصفها جماعة فكرية وأخلاقية ملتزمة بمهمة مشتركة فهو أوهى من ذلك بكثير.

(ص١٩)

الإلحاح على البحث

ثانيًا: خلقت نهاية الحرب العالمية الثانية فورة في الأبحاث غير مسبوقة لا تزال جارية إلى اليوم. وكان الدافع وراء ذلك تقرير وضعه فانيفار بوش (مكتب البحث والتطوير العلميين في الولايات المتحدة، ١٩٤٥م) أشار فيه إلى أنَّ السبيل المتاح أمام الولايات المتحدة للاحتفاظ بقوتها ونفوذها اللذين اكتسبَتهما من الحرب هي التوظيف والاستثمار الكثيفين في البحث الأساسي، في العلوم والهندسة بوجه خاص، وأفضل مكان لهذا البحث هو الجامعة. ولم يمضِ وقت طويل حتى تدفقت ملايين الدولارات إلى هذه المؤسسات. أمَّا ألبرت (١٩٨٦م)، على الرغم من كونه عالمًا وباحثًا، فقد كتب مقالةً كثيرًا ما يُستَشهد بها يشجب فيها إغراء المنح الفيدرالية الذي أزاح المهمة المركزية للجامعة وهيئتها التعليمية من التدريس إلى البحث. والهيئة التعليمية، مثل بقية البشر، تتبع المال، وخلال الخمسين عامًا الأخيرة على الأقل كان أكثر المال متركِّزًا في منح البحث الفيدرالية.

تغيير الرسالة

ثالثًا: لقد انكبَّت المؤسسات الأكاديمية على ما دُعيَ ﺑ «تغيير الرسالة» — تلك الرغبة النهمة في تحسين مكانة المؤسسة بالصعود على سلم كارنيجي — وهو أمر يعود جزئيًّا إلى تلك الهيبة التي حققتها الجامعات ذات الأجندات البحثية الكبرى. فالكليات تريد أن تصبح جامعات، والجامعات التي تمنح شهادة الماجستير تريد أن تصبح جامعات تمنح شهادة الدكتوراه، والجامعات التي تمنح الدكتوراه تريد أن تصبح جامعات بحثيَّة، والجامعات البحثية تريد أن تصبح بين الجامعات العشرة الكبار (أو بين ال ٢٥ أو ال ٥٠ الكبار، إذا ما كانت متواضعةً في طموحها) بحسب تصنيف «مجلس البحث القومي». أما السبيل إلى التميز فواضح: لِتنل أكبر المنح الفيدرالية التي تتيح لكَ استخدام أساتذة مساعدين وقائمين بالأعمال لكي يتولَّوا الطلاب، واترُك عمل الجامعة لأولئك الذين لم يعُد بوسعهم أن يقدِّموا أبحاثًا لامعة.

وعواقب ذلك واضحة وصريحة؛ ففي دراسة جرت مؤخرًا وتناولت عيِّنة واسعة من أعضاء الهيئة التعليمية تمثِّل مختلف المؤسسات، طُلب من المستجوَبين أن يُسمُّوا زميلًا رفيع الشأن في قسمهم ثم ينتقوا من قائمةٍ للصفات تلك السمات والخصائص التي تميز هذا الشخص. ولقد كانت الصفات الثلاث الأكثر اختيارًا هي «تكريس الوقت للعمل»، و«الطموح»، و«المنافسة»؛ حيث اختارها أكثر من ٨٠٪ من المستجوَبين. وبالمقابل، فقد جاءت صفة «اللاعب ضمن فريق» في أسفل القائمة، فلم يخترها سوى ٥٦٪. ولقد قام ماسي وويلغر وكولبيك (١٩٩٤م)، في محاولةٍ لتحديد بعض الخصائص التي تميز القسم الفعَّال، بمقابلة ٣٠٠ من أعضاء الهيئات التعليمية في ٢٠ مؤسسة، ووجدوا أن السمة المميزة لثقافات الأقسام هي التذرُّر والانعزال. فمعظم المستجوَبين لم تكن لديهم رغبة المشاركة في تلك النقاشات البنَّاءة التي تقتضيها مشاركتهم في تناول ما يواجههم من قضايا في عملهم الجماعي. وكانت النتيجة ما دعاه الباحثون باسم «الزمالة الجوفاء»؛ حيث نجد قشرة من الكياسة هي عبارة عن قناع يغطي ضربًا عميقًا من رفض التعاون وممانعته، خوفًا من تبديد الوقت والطاقة بعيدًا عن الأولويات البحثية.

وما يبرز من خلال هذه الأبحاث جميعًا، ومن معظم التجارب الشخصية التي تُروى، هو صورة أعضاء الهيئة التعليمية في الكلية بوصفهم زمرًا منعزلة من المقاولين الأكاديميين الذين يعملون على أجنداتهم الخاصة. ويتمثَّل أحد الردود الممكنة على ذلك بالاكتفاء بإظهار عدم المبالاة: وما أهمية ذلك؟ فالثقافة الأكاديمية أشادت منظومة للتعليم العالي هي موضع حسد الدنيا برمَّتها. فلماذا العبث بالنجاح؟ لماذا لا نستخدم أفضل الهيئات التعليمية التي يمكن استخدامها (أي تلك الهيئات التي تتمتَّع بتاريخ علمي هو الأشد هيبة) ونتركها حرة طليقة؟ أما التفكير على نحوٍ مختلف في الهيئة التعليمية كجماعة فيستوقف بعضهم بوصفه تفكيرًا بيروقراطيًّا إن لم يكن تفكيرًا اشتراكيًّا صريحًا، ليس سوى التفكير الأخير في ذلك الخيط الطويل الجدير بالرثاء من التخطيطات الإدارية الغرَّة والجاهلة التي ترمي إلى زيادة نفوذ المديرين والحدِّ من سلطة الهيئة التعليمية واستقلالها. وأودُّ الآن أن أردَّ على هذه الحجج، التي لا تنقصها الوجاهة، بالنقاط الستِّ التالية:
  • (١)

    على الرغم من الأسطورة السائدة التي تشير إلى العكس، فإنَّ عمل الهيئة التعليمية ليس ذلك العمل القابل للنقل على وجهٍ خاص. ذلك أن جزءًا وحسب من الهيئة التعليمية هو الذي يحوز أوراق اعتماد تتيح له أن يتحرك تلك الحركة الصاعدة، أو حتى الجانبية، عبر المؤسسات. فالعمل الذي يقوم به أعضاء الهيئة التعليمية هو عمل يتم في سياق المؤسسة ويقترن بها، سواء راقَ ذلك الهيئة التعليمية أم لا.

  • (٢)
    ويصحُّ الشيء ذاته على الأقسام. فعمل قسم السيكولوجيا في الكلية A يختلف عن عمل نظيره في الكلية B، حتى حين يكون لهما الحجم ذاته والرسالة ذاتها. فالعمل الجماعي الذي تقوم به الهيئة التعليمية هو أيضًا عمل سياقي.

    إنَّ نزعة المقاولة لدى الهيئة التعليمية بغياب المسئولية الجماعية تهدِّد تماسك المنهاج الدراسي. فواحد من أقوى الانتقادات في القرن العشرين الماضي هو أنَّ التعليم العالي الأميركي لا يولي اهتمامًا كافيًا رسالته الخاصة بالطلاب (رابطة الكليات والجامعات الأميركية، ١٩٨٥م): فالمؤسسات (وأقسامها) منشغلة أشد الانشغال بالتركيز على أجنداتها البحثية، وقد عهدت بمناهج طلابها الدراسية إلى الأساتذة المساعدين والقائمين بالأعمال حتى باتت هذه المناهج مفتقرة إلى التماسك وإلى أي نوع من أنواع السيطرة على النوعية. وما يثير حنق النقَّاد أشد الإثارة هو أنَّ الطلاب في هذه الأقسام غالبًا ما يُنظَر إليهم كبقرة حلوب تدعم خزينة الهيئة التعليمية الخاصة ببرامج الدراسات العليا التخصصية أشد الدعم. والحال، أنَّ ثمة سبيلًا واحدًا لكي يغدو المنهاج الدراسي أشد تماسكًا، وهو أن يضعف ذلك التملك الحصري الذي تتملَّك به الهيئة التعليمية مناهجها الدراسية، وأن تتناقش فيما بينها حول ما تدرِّسه والكيفية التي تدرِّسه بها.

  • (٣)

    لقد أشرت في الفصل الثاني إلى أنَّ الرغبة في الانتماء إلى الجماعة هي واحدة من أقوى المحفِّزات لدى الهيئة التعليمية. وحتى حين يرى أعضاء الهيئة التعليمية الشباب أحلامهم بالانتماء إلى جماعة العلماء تتبخر، إذ يتكشف لهم ما ينبغي أن يفعلوه لتحقيق المزايا المنافسة، فإنَّ الرغبة في هذه الصلة وهذا الانتماء لا تزول قطُّ (شستر وويلر ومساعدوهما، ١٩٩٠م): بل تهجع وحسب. ومنذ سنوات عدَّة، نشرت جين تومكنز مقالة قُرِئَت على نطاق واسع وكتبت فيها بحدَّة عن توحُّد الوسط الأكاديمي وانعزاله، وعن توقها إلى الانتماء إلى جماعة أوسع تربط فيما بينها غاية مشتركة (تومكنز، ١٩٩٢م). والحال، أنَّ إمداد أعضاء الهيئة التعليمية بالوسائل اللازمة لإدراك رغبتهم الكامنة في الانتماء إلى الجماعة يمكن أن يشكِّل قوة فعالة وإيجابية من أجل التغيير.

  • (٤)

    من المهم ألا نخلط بين استقلال أعضاء الهيئة التعليمية والخصخصة. فالاستقلال أساسي للحرية الأكاديمية ولا يمكن اختزاله. والهيئة التعليمية تحتاج الحرية في متابعتها لعملها، دون أن يقيِّدها ما يُعتبر شعبيًّا أو قابلًا للتسويق. ويحقق أعضاء الهيئة التعليمية استقلالهم بمشاركتهم في العمل الذي ينفع المجتمع. أما في ثقافة الخصخصة فلا يشعر أعضاء الهيئة التعليمية سوى بمسئوليتهم عن أنفسهم وعما يفيد سيرتهم المهنية. وسوف أبين لاحقًا أن وضع تعريف لعمل الهيئة من ضمن مقاييس (بارامترات) القسم؛ بحيث يسهم الجميع بطرائق تعتمد أشد الاعتماد على مصالحهم الفردية، ومواهبهم، وخبراتهم (إذ لا ينبغي أن نتوقع من كلٍّ منهم أن يتفوق في كلِّ شيء)، يمكن أن يفضي إلى توسيع نطاق الخيارات وليس إلى تضييقه. لقد كتب سارتر مرة عن «طغيان الحرية»؛ ووَضع عمل الهيئة التعليمية في سياق رسالة القسم يمكن أن يحبط هذا الطغيان ويجعل عمل الهيئة التعليمية أشد اتِّسامًا بالحرية الشخصية.

  • (٥)

    أخيرًا، إذا لم يكن أيٌّ من هذه الأسباب مقنعًا بما يكفي، فثمة هذا السبب: الهيئة التعليمية التي تعمل من أجل الصالح الجماعي بدلًا من الصالح الخاص تزيد من نفوذها السياسي. ومن الصعب أن نتصوَّر ثقافة أشد إضعافًا لسلطة الهيئة التعليمية، في مواجهة التهديدات والمخاطر الخارجية، من الثقافة القائمة الآن. وما دام أعضاء الهيئة التعليمية أولئك الفاعلون الأفراد غير المسئولين سوى عن أنفسهم، فلن تكون لهم سوى سلطة واهية كجماعة. وهكذا، فإن إزاحة التركيز من «عملي إلى عملنا» (رايس، ١٩٩٦م)، ليس في صالح المؤسسة وحدها، بل في صالح الهيئة التعليمية أيضًا وإلى أبعد الحدود.

والتحدِّي، إذَن، هو كيف نُشركُ القسم بطرائق تكفُّ عن دعم جماعات اغتنام الفرص المناسبة السائدة حاليًّا وتساعد القسم على تطوير إحساس بالمسئولية الجماعية (وِرغِن، ١٩٩٤م). كيف يبدو القسم المشارك، وما الذي يمكن أن يقوم به لكي يغدو أكثر مشاركة؟ سوف أتَّخذ نقطة انطلاق عمل هاورث وكونراد (١٩٩٧م)، حيث يقترحان أنَّ البرامج عالية النوعية تتَّسم بخمس صفات: (١) تنوُّع المساهمين ومشاركتهم. (٢) ثقافات المساهمة. (٣) التعلُّم والتعليم القائمان على التفاعل. (٤) المقتضيات البرنامجية المترابطة. (٥) الموارد الكافية (ص٢٨). ويرى الكاتبان أنَّ الصفتين الأوليين هما صفتان حاسمتان:

في البرامج عالية النوعية، عادةً ما يسعى أعضاء الهيئة التعليمية والمديرون إلى جذب ودعم أعضاء الهيئة التعليمية والطلاب الذين يبثُّون منظورات جديدة في تعليمهم وتعلمهم كما في تعليم وتعلم الآخرين ويبدون مشاركةً في هذا التعليم والتعلم … فمديرو البرامج، والهيئة التعليمية، والطلاب … يطورون ويعزِّزون ثقافات تشدِّد على التوجه البرنامجي المشترك، وعلى جماعة المتعلمين، وعلى البيئة التي تتحمَّل المخاطر.

(ص٢٨)

يقيم هاورث وكونراد نظريتهما على تحليل سبع وأربعين برنامجًا لدرجة الماجستير، ويركِّزان هذا التحليل على بيئات الأقسام التي تساعد أشد المساعدة على التعليم والتعلم. وعلى الرغم من محدودية النموذج الذي يُقدمانه، إلا أنه يوفر إطارًا ممتازًا لتناول القسم ككلٍّ، بكلِّ رسالاته المتعددة. ولنتذكر أننا في دراستنا للتقويم في الأقسام كنا قد وجدنا أن الأقسام المشاركة كانت واحدة من الصفات الخمس الأساسية التي تميز المناخ المؤسساتي النوعي. ومكتشفاتنا تدعم مكتشفات هاورث وكونراد، وصولًا إلى أدقِّ التفاصيل. أما الخصائص التي تميز الأقسام المشاركة بوجه عام فهي التالية.

(٢) خصائص الأقسام المشاركة

جو الاستقصاء النقدي

تشكِّل هذه الخاصية أساسًا لجميع الخصائص الأخرى. ويعرِّف كريس أرجريس (١٩٩٩م)، المنظِّر في مجال التنظيم، جو الاستقصاء النقدي على النحو التالي:

يحتاج [البشر] لأن يتأمَّلوا نقديًّا سلوكهم الخاص، ويحددوا الطرائق التي يسهمون من خلالها في خلق مشكلات للتنظيم دون أن يقصدوا ذلك، فيعملون من ثم على تغيير تصرفهم. ويكون عليهم، بصورة خاصة، أن يتعلموا أن طريقتهم في تحديد المشكلات وحلها يمكن أن تكون هي ذاتها مصدر هذه المشكلات.

ويُعتبر جاك ميزيرو من بين أبرز المفكرين المعاصرين في مجال تعلم البالغين. وكان قد طوَّر في مجموعة من الكتب تعود بدايتها إلى أواخر سبعينيات القرن العشرين، نظريةً في تعلم البالغين أطلق عليها اسم «التعلم التغييري». (ويمكن للقارئ أن يجد آخر مستجدَّات هذه النظرية في ميزيرو ومساعديه، ١٩٩٠م). وباختصار، فإنَّ نظرية التعلم التغييري تقوم على متن ضخم من الأبحاث في المعرفة الإنسانية (انظر، مجلس البحث القومي، ٢٠٠٠م)، يشير إلى أنَّ البشر ليسوا تلك الصفحات الفارغة، التي يقتصر أمرها على تلقي المعلومات وتخزينها من أجل استعادتها لاحقًا. فهم يتعلَّمون، بخلاف ذلك من خلال بناء المعرفة، وتنظيمها في مخطط معرفيٍّ تُربَط به من ثمَّ المعلومات الجديدة. ولأنَّ الخبرة الحياتية لكلٍّ منا هي تلك الخبرة الفريدة تمامًا، فإنَّ الطريقة التي نبني بها معرفتنا للعالم تكون فريدة أيضًا. فكلٌّ منا يعالج المعلومات الجديدة على نحوٍ مختلف. وفي بعض الأحيان لا يتم الاحتفاظ مطلقًا بتلك المعلومات الجديدة التي لا تُدرَك صلتها بمخططنا القائم. وكلما تقدَّمنا في العمر، زادت مقاومة هذه المخططات للتغيير؛ ولذلك يشير ميزيرو إلى أنَّ السبيل الوحيد أمام تعلم البالغين العميق حقًّا هو عبر تغيير هذه المخططات المعرفية.

المعضلة المربكة: يحصل تغيير المخططات المعرفية عبر ما يدعوه ميزيرو ﺑ «المعضلة المربكة»، أو المشكلة التي لا تتلاءم مع مخططاتنا الراهنة، فتدفعنا لأن نرى الأشياء بصورة مختلفة. وعندها فقط، ومن خلال مراجعة منظوراتنا المعرفية ذاتها، نتعلم على نحو يتخطَّى التعلم السطحي. إنه الفارق بين أن نتمكَّن من سرد حبكة مسرحية شكسبير هاملت وأن نفهم هذه المسرحية بطريقة تساعدنا أيضًا على فهم تعقيدات الشرط الإنساني الباقية على مرِّ الزمن. وهو الفارق بين أن نقدر مساهمات الثقافات العالمية المختلفة، وأن نستخدم تلك الثقافات كأدوات تعيننا على فهم أفضل للافتراضات التي تشكِّل أساس ثقافتنا. وهو الفارق أيضًا بين أن نطرح من أذهاننا شكاوى الطلاب من عدم أهمية المقرر الدراسي ونعتبرها غرارة أو كسلًا، وأن نستخدم تعليقات الطلاب كشرارة تدفعنا إلى تأمُّل عملنا ذلك التأمُّل النقدي.
الخطاب: المفتاح الآخر بين مفتاحي التعلم التغييري، بحسب ميزيرو، هو الخطاب. ففي حين يمكن للتعلم العميق أن يحصل بالتأمل الفردي، إلا أنَّ حصوله يكون محتملًا أكثر، وبصورة أشد قوة، حين يبدأ الفرد بفهم منظورات الآخرين وكيف يختبرون الواقع ذاته على نحو مختلف. فمثل هذه المحادثات قد تطلق هي ذاتها شرارة المعضلة المربكة لدى المساهمين فيها، مفضيةً إلى ضروب من الفهم مشتركة وعميقة. ويكمن مفتاح ذلك في تجنُّب ذلك الضرب من الخطاب الاستقطابي الذي تكون فيه الحيرة شديدة ومثيرة للقلق إلى درجةٍ تدفع المساهمين إلى الانسحاب إلى مواقعهم الأصلية، فلا يتعلموا أيَّ شيء مطلقًا (سوى أن يتجنبوا مثل هذه الحالات في المستقبل!). وهكذا يتمثَّل الهدف في أن نخلق أوضاعًا يولِّد فيها الصراع طاقةً إيجابيةً ويكون ضربًا من الخلاف البنَّاء.

ولأن ذلك كله يبقى في مجال النظري، فإن من السهل أن نضرب أمثلة شائعة على الكيفية التي يعمل أو يخفق بها التعلم التغييري. والسؤال هو، إلى أيِّ مدى تصحُّ هذه النظرية على تعلم الأقسام؟

عُد بذاكرتك للحظةٍ إلى مناسبات في قسمك أفضت إلى ذلك النوع من تجربة التعلُّم المشترك الموصوفة أعلاه. وإذا ما كنت محظوظًا فسوف تخرج بأمثلة كثيرة. فما المشترك بين هذه الحالات؟ قلِّب هذا السؤال في ذهنك قبل أن تواصل القراءة.

أحسبُ أنَّ جوابك يشتمل على بعضٍ مما يلي أو على كلِّه:
  • الكلام بحرية على العمل

  • تقويم التعاون عاليًا، مع الإيمان بأن الكلَّ يزيد على مجموع الأجزاء.

  • احترام البوح، وتقويمه عاليًا، والتشجيع عليه، بما في ذلك البوح بالمعضلات والشكوك الشخصية.

  • أَخذُ قادة القسم زمام المبادرة في ضرب المثال على التأمُّل النقدي وتحديد نبرته وطابعه.

  • غَلبَةُ فَهم لا يدَّعي امتلاك أيِّ إجابات، أو منظورات، أو مقاربات صحيحة؛ حيث يسعى المساهمون بدلًا من ذلك إلى التعلُّم من بعضهم بعضًا في جوٍّ تُعَلَّق فيه التحيزات.

  • تفهم أن الوقت الذي يستغرقه الخطاب هو أمر مهم وله الأولوية على المهام الأخرى في تلك اللحظة.

  • عدم حيلولة المحادثة دون إطلاق المساهمين تعليقاتهم الحادَّة على المجريات.

كيف يمكن لقائد القسم أن يخلق مثل هذا المناخ؟ تنطوي العناصر السابقة على جزء من الجواب: بضرب المثال الشخصي على السلوك التأملي النقدي وخلق أوضاع مريحة لمثل هذا التفكير. لكن بروكفيلد (١٩٩٥م) يشير إلى أنَّ خلق البيئة التأملية يحتاج إلى أكثر بكثير من السجال العقلاني أو الإقناع الأخلاقي، يحتاج إلى إجراء تغييرات في البنية الاجتماعية. وهو يورد القصة التالية التي رواها مايلز هورتن، المختص بتعليم البالغين والناشط الاجتماعي:

إحدى أحبِّ قصص مايلز … هي قصة مزارع جنوبي كان يدفع الآخرين إلى سلوك مناهض للتفرقة العنصرية ليس بقوة الحجَّة أو إثارة الشفقة أو الدعوة إلى الأفكار الديمقراطية، بل بتركه جردلًا واحدًا وحسب من الشراب في المكان الذي يعمل فيه البيض والسود أو يلعبون. فإذا ما أراد العمال البيض أن يطفئوا ظمأ الصيف القائظ، كان عليهم أن يشربوا الماء من البرميل ذاته، وأن يستخدموا مغرفة الشراب ذاتها التي سبق أن مسَّتها شفاه العمال السود. ويزعم مايلز أن ما نجم من تحوُّل في الموقف حين شرب العمال البيض من المغرفة ذاتها التي شرب منها العمال السود كان أعمق وأبعد مدى من أي قرار بالتغير يُتخذ استجابةً لدعوات الأخلاق المسيحية أو العدالة الاجتماعية.

(ص٢٥١-٢٥٢)
ويقترح بروكفيلد على القسم اثنين من التغييرات البنيوية:
  • (١)

    جعلُ الالتزام الواضح بالتأمل النقدي جزءًا من نظام المكافآت؛ حيث يمكن لذلك أن يتخذ شكل معايير لاستخدام أعضاء الهيئة التعليمية، بسؤال الطلاب في سياق ضروب التقويم عما إذا كانوا قد واجهوا تحديًا أو دُعوا إلى تجريب منظورات أخرى، وبجعل أوراق الاعتماد دليلًا قياسيًّا للتقويمات السنوية وكذلك للترقية والتثبيت.

  • (٢)

    إتاحة فرص متطورة أمام الهيئة التعليمية تتيح لها المشاركة في التأمل النقدي، وجَعلُ ذلك جزءًا مما يُعتبر ممارسة مهنية جيدة. وإتاحة الوقت للنقاشات النقدية الجماعية خلال أسبوع عمل الهيئة التعليمية: «كلَّ أسبوعين أو ثلاثة، ينبغي تكريس جزء من يوم الكلية لجلسة حلٍّ للمشاكل تجتمع فيها [الهيئة التعليمية] معًا لتناقش معضلات عملها وعثراته». (بروكفيلد،١٩٩٥م، ص٢٥٣).

هاتان فكرتان مفيدتان كلتاهما. وردِّي على أولئك الذين يقولون أن لا وقت لديهم، أو يتساءلون ما الذي يمكن أن يكون أقل أهمية من مشاركتهم كقسم في مزيد من التأمل النقدي، هو أولًا: أنَّ التأمل ينبغي أن يكون في القلب من عمل الهيئة التعليمية وليس فضلة أو زيادة. وثانيًا: إنَّ إمعان النظر والنقاش المتأني كجماعة أكاديمية لا بد أن يجعلا العمل الجماعي ليس ذا نوعية رفيعة وحسب بل سريع الإنجاز. وهنا تمثِّل سرعة الإنجاز أمرًا حسنًا.

وهكذا، فإنَّ القسم الذي يشارك في الاستقصاء النقدي على نحوٍ منتظم، يقوم بما يلي (بريسكل وتوريس، ١٩٩٨م):

يطرح أسئلة مفتوحة النهايات عنه هو ذاته: ففي دراستنا تقويم الأقسام (وِرغِن وسوينغن، ٢٠٠٠)، وجدنا أن الأقسام المشاركة تطرح على نفسها أسئلة بسيطة وخادعة مثل: «ما الذي نفعله؟» و«لماذا نفعله على هذا النحو؟» وعادة ما تُطرَح هذه الأسئلة في سياق الدراسة الذاتية (التي تُقدَّم من أجل نيل الاعتماد أو الاعتراف التخصصي ولدى مراجعة البرامج)، وهي دراسة عادةً ما تستخدمها الأقسام كفرصة لطرح بعض القضايا الأساسية المتعلقة بالعمل الذي تقوم به. وطرح الأسئلة النقدية لا يُمثِّل مشكلة في العادة بالنسبة للهيئة التعليمية. فهذه الهيئة، بطبيعتها وموقعها الاجتماعي، ممتازة في مجال النقد: فنحن نحلل السجالات الأكاديمية ونقوِّمها؛ لأنَّ ذلك جزء مما يدور حوله البحث العلمي. أمَّا جَعلُ هذه الأسئلة مفتوحة النهاية حقًّا والتعبير عنها بطريقة تدفعنا إلى تحدِّي قيمنا، وقناعاتنا، وافتراضاتنا، فمسألة أخرى تمامًا؛ فالنماذج الذهنية التي نستخدمها لتهدي سلوكنا هي نماذج قوية وفاعلة؛ لأنها ضمنية، ونحن نأخذها كمسلَّمات ونعتبرها من طبيعة الأمور. بيد أنَّ هزَّ هذه المنظورات المعرفية ورجَّها فنٌّ دقيق قائم بذاته.
يتأمل فيما يفعله: من المؤسف أنَّ الهيئة التعليمية غالبًا ما تكون بارعةً في طرح الأسئلة النقدية، لكنها قلما تكون كذلك في مجال التأمل النقدي. والتأمل هو جزء من فرعنا الأكاديمي؛ حيث ننظر إلى أيِّ مدى توسِّع أعمالنا وأعمال سوانا القاعدة المعرفية في حقلنا وتغنيها. غير أنَّ ذلك الضرب من التأمل الذي وصفه جون ديوي أولًا (١٩٩٣م) ثم وصفه كتَّاب، مثل بروكفيلد (١٩٩٥م) وميزيرو (١٩٩٠م) هو أمر يختلف تمامًا عن هذا. فالتأمل الحقيقي، عند ديوي ومريديه، يقوم على التعلم من سلوكنا: بتفحُّص منظوراتنا المعرفية في ضوء تجاربنا؛ بحيث يمكن أن نطوِّر فهمًا أفضل للكيفية التي يعمل بها العالَم؛ ولذلك فإننا نحتاج لأن نتعلم كيف نتأمل لا فيما نعرفه وحسب بل في الكيفية التي نستخدم بها ما نعرفه في اتخاذ القرارات وتصويب السلوك. وبعبارة أخرى، فإننا نحتاج لأن نتأمل في عملية تعلِّمنا فضلًا عن تأملنا في محتوى هذا التعلُّم.
يقيم مشاركةً بين التأملات الفردية عبر الحوار: يرى ميزيرو (١٩٩٠م) أنَّ مشاركة البالغين في تعلم عميق يعني أن يتأملوا بطريقة تتيح لهم أن يقارنوا بين منظوراتهم وسواها من المنظورات. وكما يشير بريسكل وتوريس (١٩٩٨م)، فإنَّ الحوار يقتضي انفتاحًا على وجهات نظر متنوعة والسعي على هذا النحو إلى إقامة أرضية جديدة عبر المعاني المشتركة، وفهم الكلِّ، والكشف عن الافتراضات الأساسية. ولقد كشف ماسي وويلغر وكولبيك (١٩٩٤م) بوضوح أنَّ هذا النوع من الحوار نادرًا ما يجري في الأقسام الأكاديمية، حيث يكون القصد — إذا ما جرت مناقشة القضايا أصلًا — هو الإملاء أو الإقناع، وليس التأمل معًا. أما حين تكون غاية الحوار هي تعلم الواحد من الآخر، فيغدو الخلاف وعدم التوافق مصدرًا للطاقة على التعلم.
يضفي معنى على المعطيات التي يجمعها: أشرت في الفصل الثالث إلى أنَّ المؤسسات أو وحداتها الأكاديمية نادرًا ما تتخطى تحليل المعطيات ذلك التحليل البسيط أو تفتح نقاشات حول ما تعنيه هذه المعطيات. ويبدو أن لدى معظم المعنيين ذلك الافتراض الذي مفاده أنَّ المعطيات تتكلم من تلقاء ذاتها وأنَّ تفسير المعطيات ينبغي أن يكون مباشرًا ومستقيمًا ويُفضي إلى استنتاج وحيد. ولقد جعلت التكنولوجيا المعلومات سهلة المأتَى؛ بحيث يمكن للمؤسسات أن تغرق فيها، لكن الأقسام التي تتسِم بثقافة التحري والاستقصاء هي تلك التي تسأل نفسها: «ما القضايا التي نواجهها كقسم؟ ما نوع المعلومات التي تساعدنا في تحديد أنواع هذه القضايا وتجعلنا أكثر علمًا بمسارات الفعل البديل؟» و:«كيف نفسِّر المعلومات ما إن تتوفَّر لنا؟».

وإليكم هذا المثال: كان قسم البيولوجيا في إحدى المؤسسات التي قمنا بزيارتها في سياق دراستنا تقويم الأقسام (وِرغِن وسوينغن، ٢٠٠٠م). مهتمًّا بما كان يقوم به من تهيئة طلابه الذين يتخصصون في المجالات الصحية. ومن بين المعطيات التي جمعها معدلات المصابرة في عدد من كليات علوم الصحة؛ حيث اكتشف القسم أنَّ طلاب الدراسات العليا الذين دخلوا كليات التمريض أو المعالجة الفيزيائية يبدون معدلات أعلى بكثير من أولئك الذين التحقوا بكليات الطب البشري أو طب الأسنان. وأرادت الجامعة إجابة عن السؤال: «ما الذي نفعله بهذه المعلومة؟ هل يعني ذلك أننا لم ننجز العمل الواجب في تهيئة الطلاب للتمريض وسواه من الاختصاصات المرتبطة به؟» (ولقد كشف مزيد من الاستقصاء أن معدلات المصابرة في هذه المدارس كانت تعكس مصابرة الطلاب جميعًا، وليس مصابرة طلاب التخصص وحدهم).

يربط بين التأمل والفعل: لقد كان جون ديوي محقًّا في قوله: إنَّ البشر يتعلمون بعمق أشد حين يتأملون عملهم ويقومون به على حد سواء. والأقسام التي تتسِم بثقافة الاستقصاء النقدي هي تلك التي تطرح على نفسها السؤال: «ما الذي ينبغي أن نقوم به على نحوٍ مختلف، في ضوء ما نعلمه الآن؟» أما التوصُّل إلى جواب عن هذا السؤال فيشتمل على ما دعته جوديت رامالي (١٩٩٩م، اتصال شخصي) باسم «إدارة الخطر المعقول»: أي، دعم المبادرات التي تساعد على مضيِّ الوحدة قُدمًا، من غير أن تُعرَّض هذه المبادرات لتلك الدرجات الزائدة من الخطورة التي تجعل الفشل كارثيًّا. وعادةً ما يتطلَّب ذلك أن يأخذ القسم الأفكار النيِّرة، ويسوسها باحتراس، ويوفِّر لها فرصة أن تعمل، ويكون متوافقًا مُقدَّمًا على الأدلة التي تساعد أشد المساعدة في تحصيل النجاح وإحداث التغيير.

الفهم المشترك لعمل الهيئة التعليمية

كما أشرت من قبل، فإنَّ الهيئة التعليمية، في ثقافة أكاديمية تزداد خصخصتها باطراد، يتزايد احتياجها إلى أن تشعر بأنها مرتبطة بجماعة فكرية. والارتباط — أبعد من تلك الارتباطات السطحية التي تنطوي عليها «الزمالة الجوفاء» (ماسي وويلغر وكولبيك، ١٩٩٤م) — يتطلَّب أن يكون لدى أعضاء الهيئة التعليمية معرفة مشتركة بالعمل الذي يقومون به. غير أنَّ الكليات والجامعات مصممة على نحو يكاد يضمن الحد من التفاعل بين أعضاء الهيئة التعليمية. ويعبِّر بِل تيرني عن ذلك بقوله: «الهيئة التعليمية مسكونة ببنى فرعية منعزلة تحدُّ من القدرة على التواصل عبر الاختلاف بدل أن تحثَّ عليه. والمفارقة في ذلك، أنَّه في زمن تزايد التداخل بين الفروع … لا نزال نعمل في بنى ومجالات دراسية تحدُّ من روابط الزمالة وضروب التفاهم» (١٩٩٩م، ص١١).

لا شك أنَّ كثيرًا مما يفعله أعضاء الهيئة التعليمية يتم على نحوٍ منعزل، دون أن يكون ثمة ما يشير إلى تغيير في ذلك. ولا أريد أن أصل من ذلك، كما يفعل بعضهم، حدَّ اقتراح أن تُعاد صياغة فضاءات عمل الهيئة التعليمية؛ بحيث ينجز أعضاؤها عملهم الفردي في البيت ويمضون وقتهم الجامعيَّ في التفاعل مع الطلاب والزملاء! ولست أرى أيضًا أنَّ الفهم المشترك لا يمكن أن يتحصَّل سوى بصرف أعضاء الهيئة التعليمية مزيدًا من الوقت في اللقاءات. فعلى الرغم من أن الحوار هو عنصر مهم، بل ضروري، من عناصر التأمل النقدي، إلا إن هنالك سبلًا أخرى للتوصل إلى الفهم المشترك.

عمل الهيئة التعليمية هو مِلك الجماعة: يبدأ القسم، أولًا، بمقدمة مفادها أنَّ عمل الهيئة التعليمية (التدريس والخدمات فضلًا عن البحث) هو ملك الجماعة (شولمان، ١٩٩٥م)، أي أن عمل الهيئة التعليمية يُعتبر جزءًا من عمل القسم، وبذلك يكون عرضةً للتعاون الندِّي والمراجعة الندِّية. ويبيِّن كلٌ من بحثي (وِرغِن وسوينغن، ٢٠٠٠م) و«مشروع عمل الهيئة التعليمية» الذي أطلقته الكليات الأميركية الجديدة المتحدة (مكميلان وبيربيرت، ٢٠٠٢م) بكلِّ وضوح أنَّ أي محاولة لتحديد رسالة الوحدة ومسئوليتها الجماعية هي محاولة فارغة إذا لم يكن هنالك مثل هذا الفهم. وما يعنيه ذلك هو أن الهيئة التعليمية ليست لها حقوق ملكية على المقررات أو البرامج، وأنَّ زيارة أعضاء الهيئة التعليمية صفوف واحدهم الآخر هو أمر مقبول، بل ينبغي أن يكون روتينيًّا، وأنَّ أعضاء الهيئة يتَّخذون القرارات المتعلقة بالمنهاج الدراسي على أساس معرفة بما يُدرَّس وكيفية تدريسه، وأنَّ الخدمات تُقدَّم وتناقش بصورة جماعية، كجزء من العملية الرامية إلى فهم الكيفية التي يمكن بها خدمة مصالح القسم؛ وأنَّ خطط العمل الفردية في الهيئة التعليمية، بما فيها الغايات، ومعايير التقويم، أمور عامة بالنسبة للهيئة التعليمية في القسم ككل.
الإقرار بأنَّ الأولويات لا تكون واضحة على الدوام: ثانيًا: يعترف القسم بأنَّ الهيئة التعليمية لا بد أن تُدفَع، في ظلِّ البنية الحالية التي تتَّسم بها معظم المؤسسات، في اتجاهات متعددة، دون أن يكون لديها ما يرشدها ويهديها. والأسوأ من ذلك بعد هو أن يكون لديها رسائل مختلطة فيما يتعلق بتحديد الأولويات. ومثل هذا الحمل ثقيل على أعضاء الهيئة التعليمية الشباب، الذين غالبًا ما يتملَّكهم شعور بأنَّ عليهم القيام بكل هذا العمل وحدهم. وعلاوةً على هذا، فإنَّ الهيئة قد لا تتبين في بعض الأحيان فرص التعاون، أو السبل التي يمكن أن تتيح لها أن تضاعف عملها أو تجعله متقاطعًا في غاياته مع عمل الآخرين. والرسالة التي نوصلها إلى القسم هي هذه: لقد مضى زمن «الذكاء بعيد المدى» (لانغنبرغ، ١٩٩٢م)، إذا ما كان قد وُجد في أيِّ يوم من الأيام. والمطالب الزائدة والمتنوِّعة المترتبة على الهيئة التعليمية تقتضي مناقشة الأولويات على مستوى الوحدة.
تمتلك الهيئة التعليمية الوسيلة اللازمة للتشارك في عملها: ثالثًا: تطور الهيئة التعليمية نوعًا من المنتدى للتشارك في عملها على نحو يبني الثقة ويوفِّر ضمانات مفادها أنَّه ما من صفقات تمييزية فردية تعقد مع الكرسي. وثمة طرائق عدة للقيام بذلك. ففي إحدى الجامعات أجرت الهيئة التعليمية جردًا بمهامها وواجباتها واستخدمت ما وجدته في تمثيل بصري على هيئة مخطط لعملها استُخدِم بدوره كدليل للأقسام الفردية في تحديد المواضع التي يتعثَّر فيها العمل المفروض على أعضاء الهيئة التعليمية والمواضع التي ينبغي على كلٍّ منهم أن يركِّز فيها جهوده (مكميلان وبيربيرت، ٢٠٠٢م). وبهذه الطريقة تتمكَّن الهيئة التعليمية من تحديد تلك الأماكن التي تتَّسق فيها مساهماتها مع عمل القسم الأوسع. فضلًا عن تلك الأماكن التي يسهم فيها القسم في عمل المؤسسة. أما في جامعة أخرى، فقد التقيتُ المشاركين في مجموعات البرامج وطلبت من كلٍّ منهم أن يحدد عمله التعاوني، وكيف يرى أنَّ عمل مجموعته قد أسهم في عمل القسم، وكيف يرى إلى مساهمة مجموعات البرامج الأخرى. وقد أفضى مثل هذا العمل إلى منظورات أفضل لأدوار الهيئة التعليمية وأزال تلك الضروب القديمة من سوء التفاهم. ولقد لفتَني كيف خلق الانسجام القوي بين العمل العام وعمل أعضاء الهيئة الفردي كلًّا من جوِّ الثقة والإحساس الرفيع بالمسئولية الفردية.

الإحساس المشترك بالرسالة والمسئولية الجماعية (القائمة على الزمالة)

الأمر الأساسي هنا هو أنَّ فهم عمل الهيئة التعليمية الجماعي ينبغي أن يبدأ من الفرد ثم ينطلق باتجاه الخارج، وليس العكس. فالمناقشات التي يجريها القسم بشأن رسالته كفيلة بأن تدفع أعضاء الهيئة التعليمية لأن يضعوا أعينهم في مؤخرة رأسهم، ولماذا لا؟ فمثل هذا النوع من النشاط يمكن أن يدفع الهيئة التعليمية إلى الجنون: فهو لا يفتقر إلى الدافع الفكري وحسب، بل يُرى على نطاق واسع — وبحقٍّ في العادة — على أنه عمل فارغ ليس فيه من النفع أكثر من إرضاء بعض الإداريين أو سواهم. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ أعضاء الهيئة التعليمية بارعون في تفكيك النصوص بحيث تُقطع اللغة قطعًا وشرائح إلى الحدِّ الذي تكفُّ فيه الرسالة عن توصيل أيِّ شيء فريد خاص بالقسم (سايمور، ١٩٩٢م).

بَيد أنَّ هنالك طريقة أفضل، وهي العمل من الداخل إلى الخارج. والإحساس المشترك بالهوية ينبغي أن يبدأ بجرد للعمل الذي تقوم به الهيئة، كما أشرنا أعلاه، يتلوه تفحُّص لما يضيفه هذا العمل إلى الكلِّ الجمعي، ومقدار القيمة التي يضيفها هذا الكلُّ الجمعي إلى المؤسسة. وكما تقول مكميلان وزملاؤها: «العمل الجماعي ليس العمل المتراكم. وعمل الوحدة الأكاديمية يزيد على مجموع ما يعمله أعضاء هيئتها التعليمية: فهو فهم قائم على التفاوض والنقاش لاتِّساق عمل الوحدة ككلٍّ مع رسالة المؤسسة الأوسع» (مكميلان وبيربيريت، ٢٠٠٢م، ص٩٤). وإضافة إلى ذلك، تضيف مكميلان وزملاؤها، أنَّ الانسجام بين الهيئات التعليمية الفردية وأقسامها، وبين الأقسام ومؤسساتها، ينبغي أن يوصف من حيث القيمة المضافة، أو من حيث «تمكين عمل الآخرين أو المساهمة فيه» (ص٩٥). وأصحاب هذه الدراسة، بوصفهم ناطقين باسم فرق من الهيئات التعليمية منخرطة في «مشروع عمل الهيئة التعليمية» الذي ترعاه الكليات الأميركية الجديدة المتحدة، يقترحون «دورة للقيمة» بسيطة لكنها إلزامية، ويصفونها على النحو التالي:

يبني أعضاء الهيئة التعليمية الفردية تجارب عملهم الخاص بمزاولتهم اهتماماتهم الخاصة، ومهاراتهم، ومواهبهم إنَّما في سياق تحديد الطرائق التي يضيف عملهم من خلالها قيمة إلى عمل الوحدة الأكاديمية التي ينتمون إليها. وبالمثل، فإنَّ عمل الوحدة، بمجموعه، ينبغي أن يضيف قيمةً إلى عمل المؤسسة … وأخيرًا، ولإتمام هذه الدورة، على المؤسسة أن تضيف قيمة إلى عمل الهيئة التعليمية … هكذا يغدو ملزمًا لجميع أعضاء المؤسسة — الهيئة التعليمية، والكوادر، والمديرين — أن يضيفوا قيمة إلى الكلِّ أو يسهموا فيه.

(ص٩٥)

ويعترف هؤلاء الكتَّاب بأنَّ حلقة القيمة هذه ليست منظومة مغلقة تتجاهل العلاقات القائمة خارجها (كتلك التي يمكن أن تقيمها الهيئة التعليمية مع جماعات أخرى تنتمي إلى فروعها العلمية)، أو المسئوليات المشتركة التي يمكن أن تتقاسمها الوحدات الأكاديمية مع سواها. وهي، بذلك، تمثِّل منظورًا مفيدًا، ونقطة افتراق، وسبيلًا لتركيز مناقشات القسم.

كيف يمكن لنا، إذَن، أن ننقل التركيز من تصور عمل الهيئة التعليمية على مستوى القسم تصورًا تراكميًّا إلى تصوره تصورًا جمعيًّا؟ كيف يمكن لهذا الضرب من التفاوض والنقاش أن يعمل، بعد أن يكون جَرد أعمال الهيئة التعليمية الفردية قد تمَّ؟ والأهم أيضًا، كيف يمكن للقسم أن يتعامل مع السؤال الصعب الذي يعتبر مثل هذه الأمور أقلَّ الأمور أهمية؟

تحديد ما هو «جمعيٌّ»: من المهم أولًا إيضاح معنى «الجمعيِّ»، هذا المصطلح الذي ينطوي على بعض المعاني السياسية سيئة الحظِّ. غير أنني استخدم هذا المصطلح بالمعنى الذي يشير فيه جون بينيت إلى «الزمالة» الأكاديمية «السليمة»؛ حيث «يحقق الأفراد أقصى الحرية والرضا الشخصي … [بما في ذلك] الشعور بأنَّ الواحد جزء ممَّا يتجاوز ذاته ويفوقها كبرًا» (١٩٩٨م، ص٣٠)؛ أو بالمعنى الذي يشير فيه جوزيف كاتز إلى «الجماعة» الأكاديمية التي:

ينبغي أن تكون جماعة من الأشخاص الذين يوحِّدهم فهم جمعيٌّ، وأهداف مشتركة خاصة بهم، ورابطة إلزام متبادل، ودفق عاطفة يجعل الحفاظ على الجماعة موضوعًا للرغبة، وليس مجرد عبء أو واجب يُفرَض فرضًا أو يُملى إملاءً. فالجماعة تنطوي على شكل من الإلزام الاجتماعي تحكمه مبادئ تختلف عن تلك التي تفعل فعلها في السوق والدولة.

(أورده تيرني، ١٩٩٩م، ص١١-١٢)

وهكذا، فإنني حين أستخدم مصطلح «المسئولية الجمعية» أعني أنَّ الوحدة الأكاديمية ككلٍّ تَقبل تحمُّل مسئولية ما تفعله وما يترتب عليه من مفاعيل، وتعمل بطريقة تعزِّز كلًّا من المحاسبة الفردية والمتبادلة؛ ولذلك تقتضي المسئولية الجمعية تعاونًا ذا مغزى على مستوى الهيئة التعليمية: مشاركة أناسٍ ذوي مهارات متكاملة وملتزمين بغاية مشتركة ويشعرون بالمسئولية عن الناتج الجمعي الذي يترتَّب على عملهم. ويتطلب مثل هذا التصوُّر للتعاون ما يزيد على ما نجده عادةً في جماعات العمل التي تقيمها الهيئات التعليمية؛ حيث يسهم هؤلاء في غاية مشتركة لكنهم لا يشعرون بالمسئولية سوى عما أسهموا به بصورة فردية. غير أنَّ من الواجب أن نعلم أيضًا أنَّ «التعاون»، في الأكاديمية، لا ينبغي أن يعني «عمل الفريق» على الدوام. وقد اقترحت بنسيمون وأونيل (١٩٩٨م) تمييزًا مفيدًا بين نوعين من التعاون: فهناك «تعاون الجماعة – المنظمة»، وهو ما نعتبره في العادة تعاونًا، أي وجود مجموعة من البشر تعمل معًا من أجل غاية مشتركة. لكن هاتين الكاتبتين تشيران أيضًا إلى «تعاون الفرد – المنظمة»؛ حيث يعمل الأفراد على نحوٍ فردي متَّجهين صوب هدف تم فهمه على نحو متبادل، وهو تعاون قيِّم بالمثل وأشد ملاءمة لثقافة الأكاديمية من بعض النواحي.

تطوير أهداف القسم: ما إن يضع القسم جردًا بالأعمال الفردية للهيئة التعليمية ويتحقق من نقاط الاشتراك، حتى تكون الخطوة التالية استخلاص مجموعة من الأهداف القسمية الضمنية من هذه الطموحات الفردية. وعلى القسم أن يطرح على نفسه بعض الأسئلة الأساسية: ما الذي أضفناه كوحدة؟ كيف نكون أكثر من مجرَّد حاصل لنشاطات الهيئة التعليمية الفردية؟ ما هي قوانا الجمعية، ومصالحنا، وتجربتنا التي تجعل جماعتنا فريدة، مختلفة عن الأقسام المماثلة في الجامعات الأخرى؟ كيف يمكن أن نقدِّم أفضل المساهمة لما فيه خير طلابنا، ومؤسستنا، وفرعنا؟

وعلينا أن نحترس من افتراض أنَّ عمل كلِّ واحد لا بد أن يأتي منسجمًا تمامًا وفي موضعه الملائم من العلبة المفاهيمية. فالأقسام الأكاديمية (والمؤسسات الأوسع التي هي جزء منها) لها أهداف متعددة وهي تتنوَّع كثيرًا من حيث تبادل الاعتماد بين أعضائها، وعادةً ما تكون بلا مهام واضحة يتشاطرها جميع هؤلاء الأعضاء؛ ولذلك فإنَّ محاولة تحويل الأقسام الأكاديمية إلى فرق هي اقتراح خاسر. في حين أنَّ رسالة القسم التي تتطور بالاكتساب من الجرد الفردي والتأمل الجمعيِّ تشكِّل مرساةً، وحجر زاوية، ونقطة اتصال لجميع أعضاء الهيئة التعليمية. وهي النقطة التي يمكن عندها لأعضاء الهيئة التعليمية أن يحددوا كيف يمكن أن يكون لهم أشد التأثير، فضلًا عن تحديدهم أيِّ النشاطات هي التي يمكن أن يقللوا من الإلحاح عليها.

عمل الهيئة التعليمية المتفاضل

هذه الخطوة حاسمة، بل وصعبة على نحو استثنائي. وهي حاسمة لأنه ليس بذي معنى كبير أن نتورط في مشكلة تحديد عمل القسم دون أن نقوم بالخطوة الإضافية التي تتمثَّل بالملاءمة بين عمل القسم ومواهب الأفراد ومصالحهم. وهي صعبة لأنَّ القواعد الثقافية في الأكاديمية لا تزال تسير في الاتجاه المعاكس:
  • المنظومة لا تزال تكافئ أصحاب الإنجازات البارزة على نحوٍ متفاضل من حيث الإنجاز، والحراك، والهيبة، والأجر. وما كان هذا ليشكِّل مشكلة لو كانت هنالك طرق متعددة مفتوحة أمام التبريز الأكاديمي، لكننا جميعًا نعرف ما هو الحال. وقد أظهر فايرويزر (١٩٩٦م) أنه حتى فيما يُدعى بالمؤسسات التدريسية، مثل كليات الفنون الحرَّة، ما يُؤخذ في الحسبان هو البحث وليس التدريس أو الخدمة.

  • لا يمكن للأقسام أن تفعل ذلك وحدها. ولا يكون لديها سوى حافز ضعيف يدفعها إلى إجراء تغييرات جذرية في عملياتها حين يكون التصور السائد أنَّ بقية الجامعة — أو الفرع — تواصل الحفاظ على الوضع القائم. وثمة أدلة وافرة على أنَّه كلما غامر القسم أكثر صوب الحواف، زاد قلق الهيئة التعليمية حيال العواقب السلبية التي يمكن أن تترتَّب على ذلك (وِرغِن، ١٩٩٤م). فما الذي يدفع الهيئة التعليمية لأن تجري تغييرات في أدوارها إذا ما كانت المكافآت ستبقى على حالها؟

  • مثل أي تغيير منهجي ونظامي في الأكاديمية، فإنَّ وضع الأمور موضع التنفيذ هو أمر صعب، والوقت الذي يستغرقه ذلك طويل، والعوائد الإيجابية بطيئة القدوم.

وثمة دراسة عميقة لحالة التفاضل في عمل الهيئة التعليمية في جامعة كبرى تابعة للدولة (برويت، ٢٠٠١م) تقدِّم مثالًا دراماتيكيًّا حول هذه النقطة الأخيرة. فقد درست برويت الكيفية التي تم بها عمليًّا تنفيذ سياسة الجامعة العامة في نشر تفاضل عمل الهيئة التعليمية على مستوى القسم في أربعة أقسام للفنون والعلوم. ووجدت أن واحدًا من الأقسام قد نفَّذ تلك السياسة تمامًا؛ حيث راح أعضاء الهيئة التعليمية يتشاركون أعمالهم بحرية ويناقشون النسب المتفاضلة سنويًّا، وأنَّ قسمًا آخر نفَّذ تلك السياسة على الورق، في حين واصلت الهيئة التعليمية ما كانت تقوم به من قبل، أما القسم الثالث فلم ينفِّذ تلك السياسة إلا بالنسبة لهيئة تعليمية غير منتجة (اقرأ: لا تنشر) كطريقة تدفعها إلى القيام بمزيد من التدريس، والرابع لم ينفِّذ السياسة مطلقًا، بل وأنشأ ملفَّات صورية لكي يجعل الأمر يبدو كما لو أنَّه نفَّذ تلك السياسة!

خطط عمل الهيئة التعليمية ذات الطابع الفرديِّ: يكمن مفتاح نجاح العمل المتفاضل في خطط العمل الفردية لدى أعضاء الهيئة التعليمية. ولخطط العمل هذه هدفان اثنان:
  • (١)

    تقديم إطار لنشاط أعضاء الهيئة التعليمية الأفراد في سياق رسالة القسم وأهدافه.

  • (٢)
    على المستوى الجمعي، تقديم فسيفساء عمل القسم بوصفه كلًّا. وبحيث يمكن أن يكون قابلًا للمحاسبة فرديًّا وبصورة متبادلة. وكما تشير مكميلان وزملاؤها، فإنَّ من الضروري إقامة توازن بين تحديد الحدود والحفاظ على المرونة:

    سيكون على المؤسسات أن تقرر إلى أيِّ حد يمكن أن تكون خطط عملها متفاضلةً؛ حيث يمكن وضع بعض البارامترات على مستوى الحرم الجامعي ككل أو على أساس الوحدة، وهذا يعني تحديد النسبة المئوية الدنيا/القصوى للوزن الذي تلقي به الهيئة على المواطنة، أو البحث، أو التدريس عند قيامها بالتقويم. كما يمكن وضع البارامترات من خلال حالة التعاقد أو الامتهان لدى أعضاء معينين من الهيئة التعليمية؛ فالهيئة التعليمية الموضوعة تحت الاختبار قد تحتاج لأن تلتحق بالتدريس والبحث أكثر من المواطنة؛ أما الهيئة التعليمية التي تعمل على نحو جزئي أو بعقود أساتذة زائرين فيمكن أن يكون لديها عدد محدود من الطلاب الذين يستشيرونها وكذلك نسبة محدودة من التزامات الخدمة. غير أنَّه كلما زادت المرونة الممنوحة للهيئة التعليمية في وحدة معينة لكي تناقش خططها بصورة تعاونية، تولِّد مزيد من الاحتمالات الخلَّاقة … وبصورة إجمالية، فإننا نشجع المؤسسات على أن تقلل إلى أدنى حد من الحواجز وتزيد إلى أعلى حد من المرونة؛ ذلك أنَّ حجمًا واحدًا لا يمكن أن يناسب جميع الوحدات إلا بقدر ما يناسب جميع الهيئات التعليمية الفردية.

    (مكميلان وبيربيرت، ٢٠٠٢م، ص٩٩–٨٩)

ثمة نقطة أخرى ينبغي أن نشير إليها بشأن خطط عمل الهيئة التعليمية: هي ألَّا يُسمَح لاستخدامها بأن يتحول إلى ضَرب آخر من ضروب العمل الإداري المضجر، لأن ذلك لا بدَّ أن يودي بكامل غايتها. فمن الضروري أن تكون هذه الخطط وثائق حيَّة، عرضة للنقاش دومًا بحسب ما تملي الظروف والفرص. وعلاوة على هذا، فإنَّ من الحاسم أن تدرك خطط العمل ليس تنوُّع المهارات والمصالح في هيئة القسم التعليمية وحسب، بل تنوُّع المهارات والمصالح بحسب عمل عضو الهيئة الواحد. فتنميط زميل من الزملاء باعتباره ذلك الذي يدرِّس مقدمة المقرر أو الذي يمسك بزمام السيطرة على الجامعة أو يتلقى المنح هو أمر غير منصف لكلٍّ من عضو الهيئة التعليمية والقسم. فالحيوية النابضة لا يمكن الحفاظ عليها ما لم يُشجَّع البشر على التطور ومحاولة أشياء جديدة.

ويحتوي كتاب مكميلان وبيربيرت (٢٠٠٢م)، ميثاق أكاديمي جديد، أمثلة شتى على تلك السبل التي أوجدتها الأقسام لتطوير وتنفيذ السياسات الخاصة بتفاضل أعضاء الهيئة التعليمية، وهو ما أدعو القارئ إلى تفحُّصه بإمعان واستخراج ما فيه من أفكار. وأشد ما يلفت الانتباه في هذه الأمثلة هو مدى اختلافها: فليس ثمة طريقة واحدة هي المثلى للقيام بها. والمفتاح يكمن في إيجاد سبل للعمل معًا تضفي معنى على نوع القسم الذي لدينا.

الفهم المشترك للكيفية التي يضيف بها القسم قيمة إلى المؤسسة

تضيف الأقسام قيمة — أي أنها تسهم في خير المؤسسة — بطرائق شتى. فالمعايير التي تضفي معنى على قسم للبيولوجيا يتمتع بجدول أعمال بحثيٍّ مهم ومسارات خدمية جوهرية لا تضفي مطلقًا أي معنى على قسم للموسيقا يتسِم بعدد قليل من المنتسبين ولا يتلقى أيَّ منح تدعمه. وهذان القسمان يسهمان بطرائق مختلفة تمامًا في صالح المؤسسة العامة، وبذلك يحتاجان لأن يقوَّما على هذا الأساس. فمن الممكن لمقاييس القيمة التي يضيفها قسم البيولوجيا أن تشتمل على المقاييس التقليدية: ساعات التدريس المعتمدة، الدَّخل من المنح الخارجية، وما شابه. أما قسم الموسيقا، من جهة أخرى، بإلحاحه على تطوير المهارة الاحترافية والمساهمة في حياة المجتمع الثقافية، فالأرجح أن يعتمد على أشكال من الأدلة أكثر رهافة، مثل المواقع الوظيفية التي نالها الخريجون والمعطيات الخاصة بالشهرة والشهادات.

ويبقى الإغراء شديدًا بأن يُقاس ما يسهل قياسه، والخروج بمعايير كمية تمكن من خلالها المقارنة بين الأقسام. وأسوأ استراتيجية بالنسبة للقسم هي أن يكون سلبيًّا حيال هذا الأمر فيقبل أيَّ معايير تُفرَض من الخارج. وحتى في حالة الصيغ المعقدة التي تساعد في تفسير الفروق بين الأقسام في حجم الصفِّ، أو الإلحاح على الاستديو أو المخبر، أو الاستثمار في التعلم عن بُعد، ما من معيار واحد أو مجموعة من المعايير يمكن أن تلتقط تلك القيمة التي يضيفها القسم إلى المؤسسة، فمن شأن الهيئة التعليمية في القسم، وبصورة جمعية، أن تقترح كيف ترغب في أن تُقوَّم. فأعضاء الهيئة التعليمية هم وحدهم القادرون على تحديد دقائق العمل الذي يعملونه وما يترتب عليه من أثر؛ ولذلك فإنَّ أسئلة كالأسئلة التالية ينبغي أن تُطرَح أيضًا كجزء من التأمل النقدي: «كيف لنا أن نعلم أننا ننجز مهمتنا بنجاح؟ ما الأدلة التي يمكن أن تساعدنا في تحديد مدى إنجازنا الفعال لأهدافنا التدريسية، الخدمية، البحثية؟ كيف يمكن أن نوضح السبل التي نضيف قيمة من خلالها إلى المؤسسة؟» وهَلم جَرًّا. وتشير تجربتي في العمل على مثل هذه القضايا مع الأقسام، والعمداء، والإدارة المركزية إلى وجود إقرار واسع بقوة التنوع في القسم، ورغبة في مناقشة المعايير التي يقوَّم على أساسها عمل هذا القسم. والمفتاح هنا هو ما إذا كان القسم متحمسًا حيال هذا الأمر، وراغبًا في أن يخطو إلى الأمام ويقول: «هذه هي الطريقة التي نضيف بها قيمة إلى المؤسسة …» و«هذه هي الأدلة على ذلك».

(٣) خاتمة: القسم المشارك

fig2
شكل ٤-١: القسم المشارك.
يلخص الشكل ٤-١ الثيمات الأساسية في السجال الذي قدَّمته.

يمكن تعريف العمل الأكاديمي على ثلاثة مستويات: (١) عمل عضو الهيئة التعليمية الفرد، (٢) عمل القسم، (٣) عمل الكلية/المؤسسة. وعمل القسم هو بحقٍّ في مركز سداسي الأضلاع المضاعف هذا. ويعرَّف عمل القسم بطريقتين: بالعمل الجمعي لأعضاء الهيئة التعليمية الأفراد، الذي يُعرَّف بمقدار القيمة التي تضيفها الهيئة التعليمية إلى القسم، وبالتفاوض مع المؤسسة، الذي يُعرَّف بمقدار القيمة التي تضيفها المؤسسة ذاتها. فأولويات المؤسسة تغدو معايير لخيارات القسم، وأولويات القسم تغدو معايير لخيارات الهيئة التعليمية. وما يجري عبر هذا كله هو أربع عمليات مختلفة، تنعكس في أربعة أسهم موجَّهة. فالسهمان اللذان يشيران إلى الجنوب الشرقي والجنوب الغربي يدلَّان، على التوالي، على عمليتَي التأطير والتركيز: اللتين تحددان الخيارات والمعايير المتاحة، وتستخدمان هذه المعايير في اتخاذ قرارات تتعلق بالمواضع التي تُصَبُّ فيها الطاقة: والسهمان اللذان يشيران إلى الشمال الغربي والشمال الشرقي يدلان، على التوالي، على عمليتي التفاضل والتكامل: إدراك كيف يمكن لضروب المساهمة في الصالح العام أن تأخذ أشكالًا مختلفة، واستخدام هذه المساهمات المتفاضلة في تحديد كلٍّ أشد تماسكًا، وكذلك إدراك أنَّ عمل الهيئة التعليمية الفردي يتأثَّر بالفرع أو الاختصاص المعني، وأنَّ عمل المؤسسة يتأثَّر بعقدها الاجتماعي.

وما أراه هو أنَّ القسم النوعيَّ يأخذ على محمل الجِد هذه العمليات والتأثيرات جميعًا ويتأمل ذاته نقديًّا إذ يطلق أحكام القيمة. أما السبيل الآخر للتفكير في هذا الأمر فهو القول بأن للقسم النوعي جانبين: فهو لا يكتفي بتأطير الخيارات تبعًا لما يلائم المؤسسة وقواها الجمعية، بل يقوِّم ذاته بالطريقة عينها؛ ولذلك فإن القسم المشارك هو القسم الذي يسلك بطرائق تنسجم مع المبادئ التالية:

مبادئ القسم المشارك

  • (١)

    عمل المؤسسة، المعرَّف من حيث عقدها الاجتماعي وعمل وحداتها القسمية الجمعيِّ، يؤطِّر خيارات عمل الأقسام.

  • (٢)

    يهتدي القسم بكلٍّ من محصلة أعمال أعضاء هيئته التعليمية، والكيفية التي تضيف بها هذه الأعمال ككلِّ قيمة إلى المؤسسة.

  • (٣)

    عمل القسم يوفِّر أساسًا لتأطير عمل أعضاء الهيئة التعليمية الفردي.

  • (٤)

    يهتدي أعضاء الهيئة التعليمية في خياراتهم بكلٍّ من كيفية إضافتهم قيمة لفروعهم وكيفية إضافتهم قيمة إلى عمل أقسامهم.

  • (٥)

    الخيارات، سواء لدى أعضاء الهيئة التعليمية الأفراد أو لدى الأقسام ككلٍّ، هي نتاج تفاوض مع المساهمين الأساسين.

وتتطلب المقاربة الفعالة لمسألة النوعية أن يتناول أعضاء القسم أمرين نادرًا ما يتناولونهما: القيم المشتركة التي يقوم عليها عمل القسم، ونوع الأدلة التي تساعدهم على إطلاق أنفع الأحكام المتعلقة بالنوعية. وسوف أتناول هاتين القضيتين في الفصلين التاليين.

المراجع

  • Association of American Colleges and Universities, (1985), integrity in the college curriculum: A report to the academic community, Washington, DC: Author.
  • American Association of University Professors, (1940, 1995), AAUP policy documents and reports, Washington, DC: author.
  • Alpert, D. (1986), Performance and paraysis: The organizational context of the American research university, Journal of Higher Education, 56(3), 76–102.
  • Bennett, J. B. (1998), Collegical professionalism: The academy, individualism, and the common good, Phoenix, AZ: Oryx.
  • Bensimon, E. M., & Neumann, A. (1993), Redesigning collegiate leadership: Teams and teamwork in higher education, Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press.
  • Bensimon, E. M., & O’Neill, H. F., Jr. (1998), Collaborative effort to measure faculty work, Liberal Education, 84(4).
  • Brookfield, S. D. (1995), Becoming a critically reflective teacher, San Francisco, CA: Jossey-Bass.
  • Clark, B. R. (1987), The academic life: Small worlds, different worlds, Princeton, NJ: Carnegie Foundation for the Advancement of Teaching.
  • Dewey, J. (1933), How we think: A restatement of the relation of reflective thinking to the educative process, Lexington, MA: D.C. Heath.
  • Fairweather, J. (1996), Faculty work and the public trust: Restoring the value of teaching and public service in American academic life, Boston, MA: Allyn & Bacon.
  • Haworth, J. G., & Conrad, C. F. (1997), Emblems of quality in higher education: Developing and sustaining high-quality programs, Needham Heights, MA: Allyn & Bacon.
  • Langenburg, D. N. (1992, Septembere 2), Team scholarship could help strengthen scholraly traditions, The Chronicle of Higher Education, A64.
  • Massy, W. F., Wilger, A. K., & Colbeck, C. (1994, July/August), Overcoming “hollowed” collegiality, Change, 26(4), 10–20.
  • McMillin, L. A., & Berbert, J. (Eds), (2002) A new academic compact: Revisioning the relationship between faculty and their institutions, Bolton, MA: Anker.
  • Mezirow, J. (1990), How critical reflection triggers transformative learning, In J. Mezirow & Associates (Eds.), Fostering critical reflection in adulthood: A guide to transformative and emancipatory learning, San Fracisco, CA: Jossey-Bass.
  • National Research Council, (2000), How people learn: Brain, mind, experience, and school (expanded ed.), Washington, DC: National Academy Press.
  • Preskill, H., & Torres, R. T. (1998), Evaluative inquiry for learning in organizations, Thousand Oaks, CA: Sage.
  • Pruett, E. S. (2001), Restructuring faculty workload: A qualitative study of the effects of faculty role differentiation on senior faculty members perception of the quality of their work lives, Doctoral dissertation, Virginia Commonwealth University.
  • Rice, R. E. (1996), Making a place for the new American scholar, New Pathways: Faculty career and employment for the 21st century, Working Paper Series, inquiry No. 1, Washington, DC: AAHE.
  • Schuster, J. H., Wheeler, D. W., & Associates (1990), Enhancing faculty careers: Strategies for development and renewal, San Francisco, CA: Jossy-Bass.
  • Senge, P. M. (2000), The academy as learning community: Contradiction in terms or realizable future? In A. F. Lucas & Associates (Eds), Leading academic change: Essential roles for department chairs (pp. 275–300), San Francisco, CA: Jossy-Bass.
  • Seymour, D. T. (1992), On Q: Causing quality in higher education, Phoenix, AZ: Oryx.
  • Shulman, L. (1995, January), Teaching as community property, Adress to AAHE Forum on Faculty Roles and Rewards, San Diego, CA.
  • Tierey, W. G. (1999), Building the responsive campus: Creating high performance colleges and universities, Thousand Oaks, CA: Sage.
  • Tompkins, J. P. (1992, November/December), The way we live now, Change, 24, 12–19.
  • United States office of Scientific Research and Development, (1945), Science, the endless frontier: A report to the president by Vannevar Bush, Washington, DC: Author.
  • University of California at Los Angeles Higher Education Research institute, (1997), The American college teacher: National norms for the 1995-96 HERI faculty survey, Los Angeles, CA: author.
  • Walvoord, B. E., Carey, A. K., Smith, H. L., Soled, S. W., Way, P. K., & Zorn, D. (2000), Academic departments: How they work, how they change, ASHE-ERIC Higher Education Report, 27 (8), San Francisco, CA: Jossy-Bass.
  • Wergin, J. F. (1994), The collaborative department: How five campuses are inching toward cultures of collective responsibility, Washington, DC: AAHE.
  • Wergin, J. F., Swingen, J. N. (2000), Departmental assessment: How some colleges are effectively evaluating the collective work of faculty, Washington, DC: AAHE.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤