الفصل الخامس

التفاوض على قيم القسم

نحن لا نرى العالم على ما هو عليه، بل نراه على ما نحن عليه.

أناييس نن

مدخل

يعني اتخاذ القرارات بشأن النوعية، بالتعريف، إطلاق ضروب من الأحكام التي تتعلق بالقيمة. وتتراوح أحكام القيمة من تحديد أسئلة التقويم الجديرة بأن تُطرَح، إلى تحديد أنواع المصادر والأدلة التي يمكن أن تكون مفيدة، إلى إضفاء معنى على المعطيات التي نجمعها وتقرير ما نفعله بها. وقبل أن أتناول موضوعات طرح الأسئلة وجمع الأدلة وإضفاء المعنى، أريد أن أناقش كيف يمكن للقسم أن يحدد لنفسه على نحو فعال تلك القيم الأساسية التي سترتكز إليها في النهاية مثل هذه القرارات. ولقد لاحظ دونالد كنيدي، رئيس ستانفورد السابق، أنَّ «كون جميع القرارات المؤسسية تمثِّل، في النهاية، القيم والطموحات الجمعية للهيئة التعليمية هو أمر يساعد في تبيُّن السبب الذي يقف خلف تنظيم الجامعات هذا التنظيم الذي هي عليه وسلوكها هذا السلوك الذي تسلكه» (أورده والفوورد وآخرون، ٢٠٠٠م، ص١٥). وسوف أبيِّن في هذا الفصل أنَّ لدى القسم النوعي مجموعة من القيم الأساسية التي سبق التفاوض عليها مع المساهمين الأساسيين في هذا القسم.

فكم مرة أسهمتَ في مناقشات تنبع من أقوال مثل الأقوال التالية؟

اتجاهات التسجيل للدراسة الاختصاصية تميل إلى الانخفاض، وعلينا أن نفعل شيئًا بهذا الخصوص.

الطلاب يشتكون من صعوبة حلقات بحث التخرُّج. كيف يمكن أن نتعامل مع هذه الزمرة من الأولاد البكَّائين؟

كان عامنا الدراسي مُنتِجًا، حيث سجَّلنا رقمًا معتبرًا من حيث منشوراتنا الفردية في المجلات المحكمة.

طلابنا المتخرجون يبدون قانعين بنَيل وظائف أكاديمية في مؤسسات من الدرجة الثانية والثالثة. أين مكمن الفشل؟

لاحظ ما يجري في كلِّ قول من هذه الأقوال. فكلٌّ منها يشتمل على مجموعة من الافتراضات الضمنية المتعلقة بمعنى المعطيات وما ينبغي القيام به. ففي القول الأول: يؤخذ انخفاض التسجيل كدليل على وجود مشكلة، وعلى أنَّ هذه المشكلة هي شيء يمكن للقسم أن يفعل حياله شيئًا ما، وأنَّ من الواجب إيجاد سبيل لعكس اتجاه هذا الهبوط. وفي القول الثاني: تؤخذ شكاوى الطلاب كدليل على وجود خطأ ما لدى الطلاب أنفسهم، وليس في المنهاج أو التدريس، وعلى أنَّ القسم بحاجة إلى طلاب أفضل، وأكثر اندفاعًا. وفي القول الثالث: تؤخذ منشورات القسم كدليل على الإنتاج العلمي، مع إشارة واضحة إلى أن الأكثر هو أفضل. وفي القول الرابع: يؤخذ إيجاد الطلاب مواقع أكاديمية في مؤسسات غير الجامعات البحثية كدليل على برنامج للدراسات العليا ضعيف. ولست أوحي هنا بأنَّ لا أهلية أو مزية لأيٍّ من هذه الأقوال، بل أشير إلى أنَّ كلًّا منها يستند إلى استدلالات تقوم على حقائق مُفترضة، كلُّ منها عرضة بدوره لتأويلات متعددة.

لنأخذ القول الأخير، على سبيل المثال. (فمن يقرءون هذا القول من العاملين في جامعات ليست بحثية قد يجدون فيه ازدراءً أو حتى إهانة، أمَّا العاملين في برامج الدراسات العليا فيعلمون ما أتحدَّث عنه). فأعضاء الهيئة التعليمية الذين يعملون في برامج الدراسات العليا لطالما استخدموا هيبة الجامعات التي تتخذ طلاب الدكتوراه لديها علامةً على نجاحها كهيئة تعليمية مُشرفة، فإذا ما عمل طلابها في مؤسسات مهيبة، كان ذلك عظيمًا؛ أو إذا ذهبوا إلى مؤسسات مماثلة لمؤسستهم، كان ذلك حسنًا؛ أما إذا أُلقي بهم في جامعة «أدنى»، فذلك ليس بالحسن؛ وإذا ما اختاروا التدريس في مؤسسة تمنح شهادة البكالوريوس من غير انتقائية أو في كلية عامة، فذلك ليس بالمقبول. (دون أن نذكر اختيار المتخرِّج أن يعمل خارج الحياة الأكاديمية كليًّا!)، ويظهر معنى هذا الخطِّ من التفكير بكامل وضوحه حين نفكك منطقه ونفهم المقاييس الضمنية التي يستخدمها. فهو يسير على النحو التالي: يمكن تصنيف المؤسسات من حيث هيبتها تبعًا لمقاييس للنوعية أحادية البعد، وبما أن هذه التصنيفات مقبولة على نطاق واسع، فإن نوعية المتخرِّج يمكن قياسها من خلال نوعية المؤسسة التي تختار ذلك الشخص كعضو في الهيئة التعليمية. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ على الطلاب أن يرغبوا في السير على خطى مُشرفيهم ويدِّرسوا في جامعة بحثية، فكلما زادت الهيبة كان ذلك أفضل. وإذا لم يرغب الطلاب في ذلك، أو إذا كافحوا من أجل موقع في جامعة بحثية ولم يحظوا سوى بأقل من ذلك، فإنَّ في ذلك إشارة سلبية إلى برنامج الدراسات العليا، وإلى المشرف شخصيًّا. ومثل هذه الحقائق بالنسبة للهيئة التعليمية التي تدرس طلاب الدراسات العليا هي مقاييس تُقارن إزاءها التصورات والتجارب، وتُطلَق أحكام القيمة المتعلقة بنوعية البرامج.

غير أنَّ الآخرين، أولئك الذين لديهم رهان مختلف في القسم، يمكن أن يقدِّموا تأويلات مختلفة تمامًا عن هذا التأويل. فمقاييس القيمة مختلفة تمامًا لدى طلاب الدراسات العليا. وقسم الدراسات العليا النوعي هو، بالنسبة لكثير منهم، ذلك القسم الذي يعدُّهم لسلسلة واسعة من الاختصاصات المحتملة، وبذلك يكون التنوُّع في الوظائف والتعيينات علامة إيجابية، وليست سلبية. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ الطلاب يتطلَّعون على نحو متزايد إلى مهن تختلف في نوعها عن مهنة مشرفيهم، مهن توفِّر قدرًا أكبر من إمكانية التكامل مع حيواتهم الشخصية (تروِر وأوستن وسورسينيللي، ٢٠٠١م). والتدريس في كلية عامة هو المهنة المختارة، بالنسبة لكثير من هؤلاء الطلاب، وليس ضربًا من الخيبة. وأخيرًا، فإنَّ تلك المؤسسات التي تستخدم شهادات الدكتوراه الجديدة في هيئاتها التعليمية من المرجَّح أن ترضيها رؤية أقسام الدراسات العليا فيها تتَّخذ خطوات لتهيئة طلابها لسلسلةٍ أوسع من مسئوليات الهيئة التعليمية، كما يظهر على نحو مقنع في حالة «البرنامج الوطني لإعداد الهيئة التعليمية المستقبلي» (غراف، برويت لوغان، ويبل ومساعدوهم، ٢٠٠٠م).

(١) النوعية تبعًا لعين الناظر

إنني أستخدم هذا المثال الواسع لأبيِّن أنَّ النوعية، حين يكون المقصود بها نوعية القسم، تكون في حقيقة الأمر تبعًا لعين الناظر. والإقرار بهذا الأمر وفهمه ضروريان بالمطلق إذا ما كان القسم يرغب في تحسين النوعية أيَّ تحسين. ولست أعني هنا أنَّ كلَّ نقاش حول النوعية الأكاديمية مقدَّر له أن يغرق في النسبية، أو أنَّ الإجماع الكامل أمر ضروري تمامًا. ففي المثال أعلاه، ثمة مصالح مختلفة لدى كلٍّ من الهيئة التعليمية التي تدرس طلاب الدراسات العليا، وطلاب الدراسات العليا، والمؤسسات التي تستخدم هؤلاء الطلاب في الوظائف الأكاديمية، ولذلك فإنَّ هذه الجماعات سوف تنظر إلى نوعية البرامج على هذا الأساس. فمصالح الهيئة التعليمية تتمثَّل في أن ينتجوا نسخًا مماثلة لهم وإرسال هذه النسخ إلى أماكن ذات هيبة رفيعة، حيث يمكن لهذه النسخ أن تقدِّم صورة إيجابية عن المؤسسة وعنهم هم أنفسهم. ومصالح الطلاب تتمثَّل في نَيل أوراق اعتماد اختصاصية يمكن تسويقها بطرائق تلائم أهدافهم الحياتية. أمَّا مصالح الهيئة التعليمية في المؤسسات التي تستخدم الخريجين فتتمثَّل في جذب الطلاب من البرامج التي تعدُّهم أحسن الإعداد للعمل الأكاديمي في أماكن مثل أماكنهم. وهذه المصالح المختلفة تُخدَم ويُسعَى وراءها في كلِّ حالة، فهل تتصارع؟ لا، ليس بالضرورة، ما لم تُستَخدم مجموعة من هذه المصالح لإقصاء سواها. ذلك أنَّ التمسُّك بالقيم التي تمليها مجموعة واحدة وحسب من المساهمين لا بد أن تؤدي إلى المشاكل بصورة تكاد أن تكون دائمة.

وعلى مدى سنين كثيرة، كانت برامج الدراسات العليا النوعية هي تلك التي تجلب للهيئة التعليمية صِيتًا وطنيًّا أو دوليًّا واسعًا، وسجلًّا مهمًّا من حيث المنح التي تُقدَّم للبحث، وقاعدة من الطلاب الملتحقين بها شديدة المنافسة. (بالمناسبة، «مجلس البحث الوطني» لا يزال يصنِّف برامج الدراسات العليا على هذا الأساس). وهكذا، يكون المهم بالنسبة للهيئة التعليمية التي تدرِّس طلاب الدراسات العليا أن تقيس نجاحها من خلال التعيين في الجامعات ذات الأسماء الكبيرة؛ أما الطلاب فيودُّون الذهاب إلى تلك الجامعات؛ لأنها توفِّر لهم فرصة أفضل في نَيل وظيفية تعليمية مهيبة في حين تحكم مؤسسات الاستخدام على طاقة هيئتها التعليمية تبعًا للمكان الذي حصلت منه على درجات تخرُّجها. ولكن لننظر إلى ما جرى في ثمانينيات القرن العشرين؛ حيث انخفضت الأسعار كثيرًا في سوق الوظائف الأكاديمية بالنسبة لمعظم الفروع، ما أدَّى إلى سوق في مصلحة المشترين في مؤسسات الاستخدام. كما شعرت هذه المؤسسات أيضًا بضغوط تدفعها لأن تكرس مزيدًا من الاهتمام بالتدريس ومشاركة المجتمع. وتمثَّلت النتيجة في أنَّ لجان البحث راحت تتفحَّص أوراق اعتماد المتقدِّمين بنظرة أشد نقدية، ليس من حيث سجلاتهم البحثية وحسب؛ بل أيضًا من حيث قدرتهم على المساهمة في مجموعة واسعة من الأهداف التي وضعتها المؤسسة لنفسها. وإذ أدرك الطلاب أنهم لم يُعَدُّوا بما فيه الكفاية بالنسبة للأغلبية الساحقة من المواقع الأكاديمية المتاحة، راحوا يشكِّلون جماعات ضغط لتغيير هذا الواقع والسعي وراء برامج التخرُّج التي يمكن أن تهيِّئهم على نحوٍ أفضل لمثل هذه المهن في جامعات أصغر، وفي كليات الفنون الحرَّة، والكليات العامة. وبدورها، فإنَّ كثيرًا من مؤسسات الإمداد راح يطوِّر برامج مستقبلية لإعداد الهيئة التعليمية ويسوِّقها بكثافة؛ حيث رأت هذه المؤسسات أن نوعية البرامج باتت ذات معنًى مختلف كليًّا.

ما الذي ينبغي أن نتعلمه من هذا الأمر؟ إنه لا يقتصر على أنَّ النوعية تتوقف على الإطار المرجعي الذي يتمسَّك به أولئك الذين لديهم مصالح مختلفة غالبًا ما تكون متصارعة، بل يتعداه إلى إنَّ من الممكن الاعتماد على هذه الضروب من الاختلاف ومناقشتها أو التفاوض عليها بطريقة تفضي إلى برنامج أفضل، برنامج يلبي مزيدًا من التلبية حاجات كلٍّ من المساهمين.

(٢) التفاوض: تعريف

أودُّ أن أكون واضحًا فيما أعنيه ﺑ «التفاوض». فالمعنى الضمني المعتاد لهذا المصطلح هو التسوية، كما في حالة شارٍ وبائع يتساومان على شراء سيارة. غير أنَّ للتفاوض، عمليًّا، معنى أوسع بكثير؛ حيث يحصل التفاوض كلما انخرط أناس ذوو مصالح مختلفة في نقاش يروم التوصُّل إلى اتفاق. ومصالح البشر تمثِّل ما لديهم من رهانات على البرنامج. فطلاب الدراسات العليا لهم مصلحة في الحصول على الوظيفة الأكاديمية التي يريدونها، والمؤسسات التي تستخدمهم لها مصلحة في أن تجد مرشحين يقدِّمون لها أفضل مزيج من الموهبة يلبي حاجاتها المؤسسية؛ أمَّا الهيئة التعليمية التي تدرس طلاب الدراسات العليا فلها مصلحة في أن تقدِّم خرِّيجين يحسِّنون من هيبتها وهيبة أقسامها. وقد أشار سيرفيرو وولسون (١٩٩٤م) إلى أنَّ البرامج التعليمية ليست تلك النشاطات الحيادية، بل تعبِّر عن مصالح تتعلَّق بالكيفية التي ينبغي أن يكون عليها العالم؛ ولذلك فهما يلاحظان أن مسئولية المعلمين الأساسية هي في أن يكونوا واضحين بشأن «نوع العالم الذي يودُّون أن تشكِّله ممارستهم» (ص٥).

وإنني لأوافق على هذا كلَّ الموافقة؛ فمن المسئوليات الأساسية للأقسام الأكاديمية أن تكون، أولًا: واضحة في تحديد أصحاب المصالح والقيم التي هي موضع رهان والكيفية التي يمكن بها أن توضع على الطاولة، وثانيًا: أن تتفاوض على هذه المصالح بغية التوصُّل إلى مجموعة من مقاييس النوعية التي يرغب القسم في أن يتحمَّل مسئوليتها بصورة جمعية.

(٣) كيفية التفاوض على المصالح

ثمة إرشادات ممتازة على هذا الصعيد، ففي كتابهما تقويم الجيل الرابع (١٩٨٩م)، يصف إيغون غوبا وإيفونا لنكولن عملية تقويم البرامج بأنها ليست علمًا مجرَّدًا، أو حصولًا على الوقائع. فما يفترضه مثل هذا المنظور هو وجود حقيقة موضوعية في مكانٍ ما، تتمثَّل مهمتنا في إيجاد سبيل لتحديدها وقياسها. وبخلاف ذلك، يرى غوبا ولنكولن أنَّ التقويم هو نتيجة لمحاولة المساهمين أن يستخرجوا معنًى مما يلاحظونه ويرصدونه، أي أن يستخرجوا ضَربًا من الواقع المبنيِّ بناءً والمتأثِّر أشدَّ التأثُّر بالقيم الخاصة الموجودة لديهم. وعلى هذا الأساس، فإنَّ جماعات المساهمين المختلفة تفسِّر المجموعة ذاتها من الوقائع بطرائق مختلفة.
وإضافةً إلى نموذج غوبا ولنكولن، سوف أعتمد بكثرة على ثلاثة مصادر أخرى. أولها: هو كتاب سيرفيرو وولسون تخطيط المسئولية في تعليم البالغين (١٩٩٤م)، وثانيها: هو كتاب مكميلان وبيربيرت عقد أكاديمي جديد (٢٠٠٢)، وثالثهما، مقالةً كتبتها منذ سنين خلت حول تقويم بناء السياسة التنظيمية (ورغن، ١٩٦٧م)، حيث أستمدُّ منظوراتي من هذه المصادر الثلاثة وأدفعها معًا بطريقة تقوم على تجربتي الخاصة في العمل على الأقسام الأكاديمية. والحال، أنَّ المقاربة التي أقترحها للتفاوض على مقاييس القسم تشتمل على ست خطوات.

(٤) تحديد المساهمين في البرنامج أو القسم

كثُر استخدام مصطلح «المساهم» في هذه الأيام حتى بات في خطر من أن يغدو نوعًا من الكليشيه المبتذلة مثل مصطلح «المستهلك». وببساطة، فإنَّ المساهم هو كلُّ من يكون عُرضة للكسب أو الخسارة مما يفعله البرنامج، ما يعني أنَّ له مصلحة أكيدة في هذا البرنامج. ويحدد غوبا ولنكولن (١٩٨٩م) ثلاثة أنواع من المساهمين: «المساهمون الفاعلون»، أولئك الأشخاص الذين يشاركون في إنتاج البرنامج، أو استخدامه، أو تطبيقه؛ «المساهمون المنتفعون»، أولئك الأشخاص الذين يكسبون على نحو ما من البرنامج؛ و«المساهمون الضحايا»، أولئك الأشخاص الذين يتأثَّرون سلبًا بالبرنامج» (ص٢٠١-٢٠٢). ولا ينبغي أن يكون صعبًا تحديدُ المساهمين الأساسيين في قسم أكاديمي. فالمساهمون الفاعلون يشتملون على هيئة القسم التعليمية وكرسي القسم؛ والمساهمون المنتفعون يشتملون على الطلاب، والخرِّيجين، والأهل، والمستخدِمين، والفرع الأكاديمي، وإدارة الجامعة (نظريًّا على الأقل!). ومع أنَّ تحديد المساهمين الضحايا لا يكون في العادة بمثل هذا الوضوح، إلا إنَّ هؤلاء يشتملون في السياق الأكاديمي على الأقسام الأكاديمية الأخرى التي هي عرضة لفقدان مواردها جرَّاء نَيل القسم المعني الحظوة بدلًا منها. ومع أنَّ بمقدورنا أن نتصوَّر المجتمع كلَّه كمنتفع بالبرنامج أو كضحية محتملة له، إلا أنه يكفي لأغراضنا هنا أن نتكلَّم على أولئك الذين تكون رهاناتهم في البرنامج مرتفعة نسبيًّا.

انخراط كلِّ مجموعة من المساهمين في ضَرب من التركيز الحسَّاس، بدءًا من المركز مع هيئة القسم التعليمية، ثم العمل باتجاه الخارج

التركيز الحسَّاس (غوبا ولنكولن، ١٩٨٩م) هو طريقة في تحديد ما سيدور حوله التفاوض على المقاييس، وهو يشير إلى ثلاثة أنواع من التأكيدات يتمسَّك بها المساهمون: المطالب، وهي تلك التأكيدات التي يحبِّذها البرنامج، والاهتمامات، وهي تلك التأكيدات التي لا يحبِّذها، والقضايا، وهي تأكيدات يمكن للبشر العاقلين أن يختلفوا عليها. ولأنَّ جماعات المساهمين المختلفة تتمسَّك بمجموعات مختلفة من المطالب والاهتمامات والقضايا، فإنَّ من المهم أولًا أن نحدد هذه الأمور بوصفها نقاط افتراق ونضعها على الطاولة. وسوف أعرض في الحال إلى الطريقة التي يمكن أن يتم بها ذلك، حيث كنت قد أجريت مثل هذه المقاربة كمستشار للأقسام في عدد من الجامعات، ووجدت أنها مفيدة.

تحديد مصالح الهيئة التعليمية: بانخراط المساهمين الفاعلين في القسم، أعني هيئته التعليمية، في نقاش مركَّز (عبر البريد الإلكتروني أو — وهو الأفضل — عبر لقاء أو سلسلة لقاءات تعقِدها الهيئة) بهدف تحديد مصالح الهيئة التعليمية الجمعيَّة، وهنا ينبغي أن تُطرح أسئلة عدَّة على نحوٍ مباشر وصريح: «ما هي القوى التي يحوزها هذا القسم؟ ما هي الأمور الحسنة التي يقوم بها؟ كيف يضيف قيمة إلى الكلية والمؤسسة!» (مكميلان وبيربيرت،٢٠٠٢م)؟ و«ما هي نقاط ضعفه؟ ما الذي يفعله وينبغي أن يتوقَّف عن فعله؟ ما الذي لا يفعله وينبغي أن يفعله؟» وبذلك تجيب الهيئة التعليمية عن السؤال المتعلق بأصناف التأكيدات الثلاثة المشار إليها — المطالب والاهتمامات والقضايا — وتُشرِك أعضاءها في التعليق عليها.
  • المطالب: تمثِّل قيمًا مشتركة لا تحتاج سوى القليل من التفاوض، وبذلك تشكِّل لباب مقاييس النوعية كما تراها هيئة القسم التعليمية. ومن المطالب الممكنة أن «يوفِّر القسم بيئة خصبة يزدهر فيها علم الهيئة التعليمية»، وأن «يُعَد الطلاب أحسن الإعداد كلٌّ حسب شهادته (تمريض، محاسبة، هندسة … إلخ)»، وأن «يغدو لدى الطلاب أساس راسخ في الفرع x، بصرف النظر عن الموضوع الدراسي الذي يُختار كحقل اختصاص». ولنلاحظ أنَّه في حين يمكن لمثل هذه الأقوال أن تتشابه مع الأقوال التي تشير إلى أهداف المؤسسة أو رسالتها الرسمية؛ إلا إنَّ مصدرها ليس مجموعة من التجريدات البعيدة بل قيم يحملها أفراد. كما أنَّها جميعًا ضروب من أحكام القيمة.
  • الاهتمامات: تمثِّل قيمًا مشتركة أيضًا، لكنها قيم تشعر الهيئة التعليمية أنها لا تُخدَم جيدًا. وتشتمل الاهتمامات الممكنة على أقوال مثل: «لا تحترم بقية أقسام المدرسة مساهماتنا كما ينبغي»، «ثمة حالة من عدم التوازن في نظام المكافآت الذي يحبِّذ البحث أكثر من التدريس»، وهذا ما يضيف إلى جوهر مقاييس النوعية؛ ذلك أنَّ مناقشة الاهتمامات تحسِّن نوعية القسم.
  • القضايا: أو الاختلافات الواضحة والمعقولة، والتي تشكِّل أساس معظم التفاوض الشديد، ومن الأمثلة على هذه القضايا عدم الاتفاق على سياسات القبول، والترقية، ومعايير التثبيت، أو على السياسات المتعلقة بحجم العمل المطلوب من الهيئة التعليمية.
وَضع قائمة بالقيم المُجمَع عليها: حيث توضع هذه القائمة استنادًا إلى كلٍّ من المطالب والاهتمامات، مع التعبير عن الاهتمامات بصورة إيجابية بنَّاءة. ومثال على ذلك أن نستبدل بالقول: «إنَّ أعضاء الهيئة التعليمية متشرذمون ومعزولون واحدهم عن الآخر»، القول: «إن لأعضاء الهيئة التعليمية معرفةً جوهرية واحدهم بعمل الآخر، وغالبًا ما يميلون إلى التعاون».
تفحُّص القضايا: حيث تُحدد أولًا تلك القضايا الجديرة بالاهتمام. كأن نسأل: «ما هي العواقب التي يمكن أن تترتب على عدم قيامنا بأيِّ شيء حيال هذه الحالة المحدَّدة من الاختلاف؟» فإذا ما كان الجواب هو: «عواقب قليلة أو لا شيء»؛ فإنَّ المسار المناسب هو ببساطة أن نتفق على أن نختلف. والهيئة التعليمية في القسم لا بدَّ أن تختلف على كثير من الأشياء التي لا ترتبط إلا عرَضًا بالقيم الأساسية، وتاليًا بنوعية القسم. ومثال على ذلك، أنَّ قضية من قضايا القسم يمكن أن تدور حول ما ينبغي أن تكون عليه أولويات القسم البحثية. وما دامت الهيئة التعليمية منتجةً على المستوى الفردي، وأولوياتها الشخصية ليست في حالة صراع، فإنَّ حلَّ هذه القضية قد لا يكون أمرًا حاسمًا وضروريًّا. أما إذا كانت القضية تنعكس على القيم الأساسية فلا بدَّ من التفاوض على هذا الاختلاف. ومن هذه القضايا الأخيرة أدوار الهيئة التعليمية ومسئولياتها. فقد يرى بعض أعضاء الهيئة التعليمية أنَّ القسم النوعي يقتضي مشاركة جميع أعضاء الهيئة التعليمية وانخراطهم في البحث الفاعل؛ في حين يمكن لأعضاء آخرين أن يروا أن مساهمات الهيئة التعليمية يمكن أن تتَّخذ أشكالًا كثيرة، وأنَّه ما دام القسم ككلٍّ منكبًّا على البحث الفاعل، فإنَّه ينبغي أن يكون متوقَّعًا من الأعضاء أن يسهموا بطرائق مختلفة، أي بالتركيز على التدريس أو الخدمة. ويمكن للتفاوض على هذه الاختلافات القيميَّة أن يؤدِّي إلى اتفاق مفاده أنَّ «نوعية» القسم تتطلَّب من كلِّ عضو أن يشارك فرعه فكريًّا تلك المشاركة النشطة التي تسهم في واحدٍ من أنواع البحث الأربعة التي حددها كتاب البحث: إعادة نظر (بوير، ١٩٩٠م)، غير أنه لا يتوقَّع من جميع أعضاء الهيئة التعليمية أن يكونوا على الدرجة ذاتها من الإنتاج في البحث، ما داموا قادرين على إضافة قيمة بطرائق أخرى.
التغذية الراجعة من الآخرين: حيث تُستخدم قيم برنامج الهيئة التعليمية كمادة يُؤخَذ فيها رأي المنتفعين من القسم، بدءًا من الأقرب إليه، أعني الطلاب، والخريجين، والمستوى الثاني من الإدارة (العميد). فيقال: «هذا ما يمثِّله قسمنا، والقيم التي نقترح أن يُحكَم على نوعية عملنا من خلالها. فإلى أيِّ حد تختلف مقاييسكم، إذا ما كانت تختلف؟» و«كيف ترون أنَّ القسم يمكن أن يضيف قيمة إلى الكليَّة (المؤسسة)؟ وكيف ترون أنه ينبغي أن يضيف قيمة بطرائق ليست قائمة حتى الآن؟».

(٥) جمع مطالب جماعات المساهمين واهتماماتهم وقضاياهم وتصنيفها بحسب قوة المصلحة

والغاية هنا هي التصنيف من خلال القيم التي يحملها أولئك الذين هم خارج القسم ووضع بعض الخيارات الواضحة أمام هيئة القسم التعليمية. ففي الأكاديميا، شأن غيرها من المنظمات الاختصاصية، تكون الأقسام الأكاديمية وحدات شبه مستقلة وتمسك بمعظم أوراق اللعبة. فالهيئة التعليمية هي التي تقرِّر، ضمن حدود، كيف تقارب وظائفها وتصرف وقتها، والقسم ككل هو الذي يقرر، ضمن حدود، أين يضع موارده وكيف يستجيب للمبادرات والإرشادات المتعددة التي تقدِّمها المؤسسة؛ ولذلك فإنَّه من غير الواقعي ولا المرغوب فيه أن ننخرط في عملية تفاوض على القيم، ونحن نزعم أنَّ لدى جميع الأطراف الموجودة على الطاولة قوة متساوية في التأثير على النتيجة. كما أنَّه من الخطأ الفادح في الوقت ذاته أن نزعم أنَّ القسم يتمتَّع بالاستقلال التام، كما لو أن لا أهمية لمصالح أيٍّ من المساهمين الآخرين. هكذا تكون قيم القسم هي الأساسية عمليًّا، مع انعكاس قيم المساهمين الآخرين عليها ووجودها قبالتها. ويمكن أن ننظر إلى اللاعبين الأساسيين كما هو الحال في الشكل ٥-١.
fig3
شكل ٥-١: حلقات المساهمين.

تحتل الهيئة التعليمية والكرسي مركز سلسلة من الحلقات متحدة المركز. وفي الحلقة الأولى من المساهمين ثمة الطلاب، والأقسام الأخرى في المدرسة التي تربطها بالقسم المعني روابط منهاجية أو بحثية متينة، والعميد، وفي الحلقة الثانية ثمة الإدارة الأكاديمية المركزية للمؤسسة والخريجون، وفي الحلقة الثالثة ثمة الأهالي ومجلس المؤسسة، وفي الحلقة الرابعة الجمعية الاختصاصية أو الفرعية التي ينتمي إليها القسم. أمَّا المساهمون الأساسيون الآخرون وموقعهم فأمر متوقِّف على رسالة القسم. وعلى سبيل المثال، فإنَّ الأقسام التي تربطها روابط جماعية قوية عبر الخدمة — التعلُّم وسواها من المشروعات المشتركة — لا بدَّ أن تضع هذه المصالح في واحدة من الحلقات الداخلية. وكلما زاد الاقتراب من المركز، زادت قوة المحاسبة، واشتدَّت أهمية المصالح. وينبغي أن يتم التوليف بين مصالح واهتمامات كلِّ جماعة من المساهمين في ضرب من القيم المشتركة، كما هو الحال بالنسبة لهيئة القسم التعليمية. ويمكن أن نضع قضايا المساهمين الداخلية جانبًا لوهلة، إنما مع إخضاعها للمراقبة المحترسة.

(٦) المقارنة بين مقاييس الهيئة التعليمية ومقاييس المساهمين الآخرين، بدءًا بأولئك الذين يحتلون موقعًا مركزيًّا بالنسبة للقسم، وتحديد التعارضات

تمثِّل هذه الاختلافات تصورات مختلفة للنوعية، وهي ليست بالاختلافات الحسنة ولا السيئة، وليست بالاختلافات الخاطئة ولا المصيبة؛ غير أنَّ من الواجب التفاوض عليها، بالأخصِّ تلك القريبة من المركز، والكيفية التي يختار بها القسم أن يفعل ذلك هي ما يجعل العملية عملية سياسية واعية.

(٧) اختيار الموقع التفاوضي، استنادًا إلى القوة الفعلية أو المحتملة لدى المساهم أو مجموعة المساهمين

لدى القسم عدد من الخيارات المتاحة: التنافس، التصافق، التعاون، التحالف (وِرغِن، ١٩٧٦م). وهذه الخيارات مرتبة من الأشد خطورة إلى الأقل خطورة، ومن الأقل فقدانًا للاستقلال إلى الأشد فقدانًا له.

التنافس: الاستراتيجية التنافسية هي ببساطة تجاهل الاختلاف، أو محاولة إعلام الآخر أو إقناعه بأنَّ الصراع ينبغي أن يُحلَّ في صالح مصلحة مسيطرة. وعلى سبيل المثال، فإنَّ من الممكن للقسم أن يتخذ موقفًا تنافسيًّا ضدَّ مصالح الطلاب الذين يودُّون الحد من إلحاح المنهاج على التعلم الحر لصالح توجُّه أكثر تقنيةً، وذلك من خلال بذل القسم جهودًا في شرح أهمية التعليم الحر وتبريره.
التصافق: استراتيجية التصافق هي رُوحية التسوية المألوفة؛ حيث يُليِّن كلُّ طرف موقفه حتى يتمَّ التوصُّل إلى اتفاق. فالقسم يمكن أن يتصافق مع عميده، الذي يريد مزيدًا من الإلحاح على المنح البحثية كمقياس للنوعية، وذلك عبر التوافق على رفع طموحات القسم مقابل حصة أكبر من النفقات العامة.
التعاون: استراتيجية التعاون تدعو أعضاء جماعات المساهمين الأخرى إلى عملية اتخاذ القرار الفعلية. ولطالما عمدت الكليات والجامعات إلى التعاون مع المجتمع من خلال مجالس المواطنين التي تشرف على أعمالها. كما يمكن للقسم، على مستوى أصغر بكثير، أن يتعاون مع المستخدِمين أو الخريجين عبر إقامة لجنة استشارية وإعطائها بعض السلطة على الأقل (وليس المهم هنا تجميلَ الوضع أو زخرفة الواجهة).
التحالف: أخيرًا، تقوم استراتيجية التحالف عندما تضم جماعة من المساهمين قواها إلى قوى جماعة أخرى بقصد التوصُّل إلى هدف مشترك. وتتَّصف التحالفات، في التعليم العالي، بأنها حاسمة فيما يخصُّ الطريقة التي تعمل بها الجامعة، وهذا ما كان بالدريدج قد أشار إليه منذ وقت طويل (١٩٧١م). وعلاوةً على ذلك، فإنَّ التحالفات تميل لأن تكون مؤقتة ومرتبطة بغرض محدَّد. ولكن لنلاحظ أنَّ التحالف الحقَّ يعني التخلي عن الاستقلال إزاء جماعة المصالح الأخرى في قبولٍ لغاية مشتركة؛ حيث يمكن للقسم أن يسعى إلى تحالف مع أقسام أخرى في مواجهة رغبة العميد في إطلاق خطة ترمي إلى تخفيض الاستخدام في القسم والحد من سلطة هذا الأخير.

والسؤال الآن، أيُّ استراتيجية نختار من بين هذه الاستراتيجيات؟ تتمثَّل الإجابة الميكافيلية عن هذا السؤال بعمل كلِّ ما من شأنه أن يعود على القسم بأقصى ما يمكن ويكلِّفه أقلَّ ما يمكن، مع الأخذ بعين الاعتبار عواقب الإخفاق. وقد يبدو مثل هذا الموقف وحشيًّا ومستهجنًا، وهو كذلك بالفعل من بعض النواحي، ولكن لنأخذ في الحسبان الأمرين التاليين: أولًا، إنَّ ما سبق أن عرضناه آنفًا هو ما وصفه سيرفيرو وولسون (١٩٩٤م) بأنه «عملية ديمقراطية جوهرية»؛ أي إنها طريقة تدفع القسم لأن يولي مساهميه اهتمامًا صريحًا دون أن يدفع الأمر كلُّه صوب التردِّي إلى ضرب من «النسبية الشَّالة» (ص١٤٠). ثانيًا، ينبغي أن نُبْقي في الذهن أنَّ واحدًا من أحجار الزاوية بالنسبة للاختصاص الأكاديمي هو الاستقلال، أي السعي إلى المعرفة وخوض مخاطر الإخفاق دون أن تقيِّد ذلك المصالح السياسية للخارجية. ومقابل استقلالهم، فإنَّ الاختصاصيين الأكاديميين يعتبرون مهنتهم خدمةً للصالح العام. وإلا لما كانوا أكثر من مجموعة من المستشارين الذين تلقوا تعليمًا حسنًا. ولقد سبق أن أشرت في فصل سابق إلى أن الهيئة التعليمية الأكاديمية لا يُفترض بها أن تستجيب لكل نزوة يعبِّر عنها أحد المساهمين؛ غير أنَّ المتوقع منها أن تخدم الصالح العام بتلك الطرائق التي تمليها المصلحة العامة.

(٨) التفاوض على مقاييس نوعية القسم، انطلاقًا من المركز والعمل باتجاه الخارج

من الطبيعي أن يكون للمساهمين الذين يقعون في المركز أو بقربه أقوى الأصوات وأن يتم التفاوض على مصالحهم بحرص واحتراس. وكلما انتقل القسم خطوة ناجحة من الحلقات الداخلية إلى الحلقات الخارجية، يمكن أن يواجه «تشددًا» أكبر، ومزيدًا من الاستراتيجيات التنافسية (اقرأ «المقنِعة» و«التعليمية») المختارة حيث لا تُجرى التغييرات الجوهرية إلا حين تكون عواقب عدم إجرائها هي تلك العواقب الخطيرة. (ومن الأمثلة الواضحة هنا الامتثال لمقاييس الاعتماد أو الاعتراف المحلية أو التخصُّصية).

وينبغي أن أشير إلى أنَّ هذه الخطوات ليست خطَّية. فعندما تُطوَّر مقاييس القسم، يجب أن توضع أمام الهيئة التعليمية لمراجعتها. فهي في النهاية، مقاييس هذه الهيئة التعليمية التي تبدي استعدادًا لأن تتحمَّل مسئوليتها المشتركة وتُحاسب عليها؛ ولذلك فإنَّ العملية دائرية، أو بصورة أدق، حلزونية. فالمقاييس ليست جامدة قَط، بل سائلة متطوِّرة تتغيَّر بتغيُّر مصالح المساهمين.

خاتمة

هل يعني هذا أن وضع المقاييس هو عملية لا تنتهي أبدًا، وأنَّ على الأقسام أن تنخرط في حلقة لا نهاية لها من تطوير مقاييس النوعية ومعرفة آراء المساهمين الآخرين بها؟ يمكنني أن أتصوَّر عينَي القارئ وهما تدوران إذ يفكِّر بهذا الأمر ويتأمَّله. كأنَّ الأقسام وكراسيها ليس لديها في الأصل ذلك الكثير مما تفعله! وإنني لأتعاطف مع هذا، ولست أشير إلى أن ما اقترحته أعلاه ينبغي أن يُعمَل كلُّ عام، أو حتى كل خمسة أعوام؛ بل أشير، بدلًا من ذلك، إلى أن تُجرى هذه العملية كاملة من البداية كلَّ عشرة أعوام، على نحوٍ ربما يكون مبرمجًا زمنيًّا؛ بحيث يتوافق مع الأمور ذات الرهان المرتفع مثل الاعتماد ومراجعة البرامج. وعندئذٍ يمكن للمقاييس المتفاوض عليها أن تخدم كنقاط انطلاق لخطط العمل السنوية على مستوى القسم والهيئة التعليمية، وكروافع للتفاوض مع الإدارة المركزية (على الموارد الاختيارية) وعندئذٍ يمكن أن تقوم الهيئة التعليمية بمراجعة مقاييس القسم وصقلها كل ٣–٥ أعوام، تبعًا لدرجة التغيُّر في المؤسسة.

والنقطة الأخيرة هنا هي أنَّ القيم التي تحملها هيئة القسم التعليمية لا ينبغي تحديدها وحسب، بل يجب تفحُّصها أيضًا وربما تحدِّيها، ولقد قامت والفوورد وزملاؤها (٢٠٠٠م) بمراجعة الأدبيات البحثية حول القيم الأكاديمية ووجدوا أنَّ القيم التالية هي القيم الأبرز: الزمالة، الاستقلال، الحرية الأكاديمية، التخصص/الخبرة، العقل، والمنهج العلمي. وقد أشاروا إلى أنَّ هذه القيم قد لا تقتصر على التصارع في أغلب الأحيان وحسب، بل يمكن أن تكون ناقصة أيضًا: «لعل الأدبيات تتجاهل بعض القيم الأساسية، خاصةً … قيمة الخدمة والمراقبة» (ص١٧). فالقيم التي من المرجح أن تتجاهلها الهيئة التعليمية أكثر من غيرها هي على وجه الدقة تلك التي من المرجح أن تبرز إلى السطح عند التفاوض مع المنتفعين من القسم.

وكيف يمكن للقسم أن يعلم إذا ما كانت قيمه تُخدَم كما ينبغي؟ ذلك يتمُّ بتحديد أدلة التقويم المناسب وجمعها، وهذا هو موضوع الفصل التالي.

المراجع

  • Baldridge, J. V. (1971), Power and conflict the university: research in the sociology of complex organizations, New York, NY: Wiley.
  • Boyer, E. (1990), Scholarship reconsidered: Priorities of the professoriate, princeton, NJ: Carnegie Foundation for the Advancement of Teaching.
  • Cervero, R. M., & Welson, A. L. (1994), Planning responsibly for adult education: A guide to negotiating power and interests, San Francisco, CA: Jossy-Bass.
  • Gaff, J. G., Pruitt-logan, A. S., Weibl, R. A., & Associates, (2000), Building the faculty we need: Colleges and universities working together, Washington, DC: Association of American Colleges and Universities.
  • Guba, E. G., & Lincoln, Y. S., (1989), Fourth generation evaluation, Newbury Park, CA: Sage.
  • McMillin, L. A., & Berbert, J. (Eds), A new academic compact: Revisioning the relationship between faculty and their institutions, Bolton, MA: Anker.
  • Trower, C., Austin, A., & Sorcinelli, M. (2001, May), Paradis lost: How the academy converts enthusiastic recruits into early-career doubters, AAHE Bulletin, 53(9), 3–6.
  • Walvoord, B. E., Carey, A. K., Smith, H. L., Soled S. W., Way, P. K., & Zorn, D. (2000), Academic departments: How they work, how they change, ASHE-ERIC Higher Education Report, 27 (8), San Francisco, CA: Jossey-Bass.
  • Wergin, J. F. (1976), Evaluation of organizational policymaking: A political model, Review of Educational Research, 46 (1), 75–115.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤