الفصل السابع

إضفاء المعنى على أدلة النوعية

إننا أكثر حكمةً مما نعلم.

رالف والدو إيمرسون

أخطر شيء في الدنيا أن تحسب أنَّك تفهم شيئًا.

من مأثورات بوذية زِن

مدخل

أشرتُ في الفصول السابقة، أنَّ البحث عن نوعية البرامج هو في النهاية فعل شخصيٌّ وتأويلي رفيع. والنوعية لا تتحدَّد قطُّ بالأرقام والإحصائيات، أو بالقصص والشهادات. ويقوم فعل الحكم على القيمة من خلال جمع البشر للمعلومات، وإضفاء معنى عليها عبر تمريرها في مصفاة منظوراتهم المعرفية الخاصة وتوجُّهاتهم القيمية، ثم إطلاق حكم، وهو حكم غالبًا ما يكون ضمنيًّا بل وغير واعٍ.

وسوف أركِّز في هذا الفصل على الكيفية التي يمكن بها للقسم أن يؤوِّل ويَستخدم المعلومات التي يجمعها عن ذاته والكيفية التي يمكن أن يفعل بها ذلك بطريقة تفضي إلى ثقافة تأملية نقدية. وسوف أتناول بهذا الصدد كلًّا من الأسئلة التالية: كيف نؤوِّل الأسئلة التقويمية التي جمعناها، وكيف نفعل ذلك في سياق جمعيٍّ أكاديمي؟ كيف نستخدم الأدلة لتحدي الافتراضات التي نفترضها بشأن ما نفعله وما نُحدِثه من تأثيرات على المساهمين؟ كيف نستخدم المعطيات في تحسين عملية اتخاذ القرار؟

يبدو أننا غالبًا ما نفترض أنَّ أحكام النوعية تكون واضحة ما إن ننظر إلى الأدلة، كما نفترض أنَّ المقاييس التي نستخدمها في إطلاق هذه الأحكام هي مقاييس مطلقة يقتنع بها الجميع. غير أنَّ أيًّا من هذين الافتراضين ليس صحيحًا. دعونا نعود إلى الأقوال الأربعة التي استخدمتها في بداية الفصل الخامس.

اتجاهات التسجيل للدراسة الاختصاصية تميل إلى الانخفاض، وعلينا أن نفعل شيئًا ما بهذا الخصوص.

الطلاب يشتكون من صعوبة حلقات بحث التخرج. كيف يمكن أن نتعامل مع هذه الزمرة من الأولاد البكَّائين؟

كان عامنا الدراسي منتجًا، الأمر الذي يشير إليه عدد المنشورات الفردية في المجلات المحكَّمة.

خريجونا يبدون قانعين بنيل وظائف أكاديمية في مؤسسات من الدرجة الثانية والثالثة. أين أخفقنا؟

لاحظوا أنَّ هنالك أحكام قيمة واضحة تُطلق في كلِّ قول من هذه الأقوال، وتقوم على مقاييس للأداء ضمنية. ومن ثَم، فإنَّ هذه الأحكام تفضي إلى استنتاجات بشأن ما ينبغي أن يفعله القسم. وتعمل قيم القسم التي يتم التفاوض عليها بالطريقة التي اقترحناها في الفصل الخامس على جعل الافتراضات التي تقف خلف هذه الاستنتاجات أجلَى وأوضح، لكنها لا تحسم الجدال بالضرورة. فقد يتفاوض القسم على قيمة أن يكون التسجيل فيه كبيرًا، وقد يتخيَّل أن التسجيل ينبغي أن يصل الحد الأمثل، ولكن هل يعني ذلك أنَّ أي انخفاض في التسجيل هو علامة على وجود مشكلة؟ إلى أيِّ حد يجب أن تصل شكاوى الطلاب في عُلوها وصياحها قبل أن نبرِّر لأنفسنا القيام بفعل جماعيٍّ ما؟ هل يمكن للسنة المنتِجة على صعيد البحث أن تشير إلى أمور أخرى؟ ما عدد المتخرجين الذين ينبغوا أن يعملوا في مؤسسات الدرجة الأولى، لكي تشعر الهيئة التعليمية بأنها نجحت في الإشراف عليهم؟

(١) المقاييس: تعريف

أطرح في هذا الفصل استراتيجيةً في تحديد مقاييس النوعية سواء بالنسبة للبرنامج أم بالنسبة لإضفاء معنى على أدلة النوعية التي تقدَّم بخصوص هذا البرنامج. غير أنني أودُّ أولًا أن أوضح مصطلح «المقياس» ذاته. ذلك أنَّ «المقياس»، مثل «النوعية»، هو مفهوم غامض، وفي حين يشير مصطلح «المعايير» إلى تلك الضروب من الأدلة المُستخدَمة في التوصُّل إلى أحكام القيمة، فإنَّ مصطلح «المقياس» هو نقطة مقارنة بالنسبة لمعيار معين، وبذلك يوفِّر أساسًا لإطلاق حكم القيمة. وإذا ما كان لنا أن نتخيَّل المعيار بوصفه نوعًا من عصا الياردة المجازيَّة، فإنَّ المقاييس هي العلامات الموجودة على تلك العصا. وعلى سبيل المثال، قد يكون معيار القسم هو «طلاب الاختصاص الذين يكملون منهاجهم الدراسي خلال ستة أعوام». فهذه المعلومة ليست ذات فائدة كبيرة بحد ذاتها. فما هو الأداء الذي يُعتبر مقبولًا؟ ٦٠٪؟ ٧٠٪؟ ٨٠٪؟ أعلى من العام الماضي؟ ضمن المراتب الخمسين الأولى بين مئة مؤسسة مماثلة؟ ولذلك، فإنَّ المقياس هو مستوى الأداء الذي يمكن قبالته المقارنة بين الأدلة التقويمية والتوصُّل إلى أحكام تتعلق بالقيمة. وثَمة طرائق عدَّة لتأطير المقاييس:

المقاييس بوصفها أهدافًا

نحن جميعًا على ألفة بوضع الأهداف. ذلك أننا نضع للأداء أهدافه، سنويًّا أو لفترات زمنية مختلفة. وهي أهداف يتعاون أعضاء الهيئة التعليمية في وضعها مع الكراسي، وتتشارك الأقسام في وضعها مع العمداء، وتتشارك الكليات في وضعها مع الإدارة المركزية، وتتشارك المؤسسات في وضعها مع مجالسها. ومن ثَم، فإنَّ الأداء الفعلي يُقارَن بالأداء المُراد ويتمُّ التوصُّل إلى حكم. ولكن يا ليت الدنيا بهذه البساطة! فالحدود التي تتسِم بها الأهداف كمقاييس هي حدود جدِّية. لننظر في هذا: «سالي، لقد أشارت خطة عملك السنوية إلى أنك كنت ستنشرين في هذا العام ثلاث مقالات وفصلًا من كتاب. وأرى هنا أنَّك لم تنشري سوى مقالتين، أما المقال الآخر فلا يزال قيد الطبع وفصل الكتاب لا يزال قيد المراجعة. سوف أعطيك تصنيف «أقل من المرضي» في البحث». إنَّ أهداف الأداء، مهما تكن فائدتها كأدوات للتفكير المنظَّم والتركيز على النتائج، إنما تطرح مشكلات جدِّية فيما يتعلق بإطلاق أحكام القيمة.

فهي تفترض أداءً كاملًا وإمكانية تنبؤ كلِّية: فالكلام عن طموحاتنا، أو ما نحلم بوجوده، شيء — مع أنَّ سنغ (٢٠٠٠م) يشير إلى أنَّ طموحات الجماعة هي أمور أساسية في التعلُّم التنظيمي — وتحويل هذه الطموحات والأحلام إلى أمور ملموسة يمكن أن نتحمَّل مسئوليتها هو شيء آخر تمامًا. فمن الممكن أن يبرز حشد من المشكلات أو الفرص غير المتوقعة، حتى في الحياة الأكاديمية ذات الإيقاع المستقر نسبيًّا، ومثل هذه الأمور قد تجعل الأهداف التي سبق أن أُمعِنَ فيها النظر أشد الإمعان أهدافًا قليلة الأهمية، أو بلا أهمية على الإطلاق. وعلاوةً على ذلك، ولأنَّ المستقبل شديد الغموض ولا يمكن التنبُّؤ به، فإنَّ الأرقام غالبًا ما تُعرَض على الملأ في محاولة لإضفاء مزيد من الدِّقة على الأهداف. ولكن ما مدى إمكانية التوصل إلى معدَّل احتفاظ يبلغ ٨٠٪ خلال خمسة أعوام؟ لا أحد يعلم حقًّا.
وهي تطرح صراعات بين المصالح: يقول المقوِّم ما يكل كوين باتون (١٩٩٧م): إنه رأى على جدار أحد المكاتب ملصقًا يقول: «أعظم المخاطر ليس أن تكون أهدافنا رفيعة فلا نحققها، بل أن يكون هدفنا بالغ التواضع ونحققه» (ص١٥٤). وبعبارة أخرى، فإنَّ وضع توقعات متواضعة هو أمر حسن إذا كنت تريد أن تبدو ناجحًا، لكنه رديء إذا كنت تريد أن تحقق نوعية فعلية. وهذه معضلة تواجه واضعي الأهداف طوال الوقت.
والهوس بالأهداف التي يمكن قياسها يمكن أن يستغرق عمر البرنامج كلِّه ويحرفه عن أغراضه الفعلية: لقد سبق أن تناولت هذه النقطة بوصفها ظاهرة «انزياح الهدف» (بلاو وسكوت، ١٩٦٢م). فالتفكير في المؤشرات الكمية — كمعدَّلات القبول والاحتفاظ، ودولارات المنح المقدَّمة، وما إلى ذلك — كأدلة على نوعية البرنامج هو شيء، والتثبُّت على هذه المؤشرات كما لو كانت أهدافًا بحد ذاتها هو شيء آخر تمامًا. وعلى سبيل المثال، إذا ما وضع قسمٌ لنفسه هدفًا أن يزيد تسجيل الدراسات الاختصاصية فيه بنسبة ٣٠٪ خلال السنوات الخمس التالية، فذلك أمر حسن، إذا ما كان ثَمة وضوح لدى الجميع بأنَّ مجرد تحقيق هذا الهدف لا يثبت بالضرورة نوعية البرنامج (أو، بالعكس، أنَّ الفشل في تحقيق هذا الهدف لا يشير بالضرورة إلى الإخفاق). وعلى أعضاء الهيئة التعليمية أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال مرة بعد مرة: «ما عواقب تحقيق هذا الهدف؟ كيف يمكن لذلك أن يسهم في غاياتنا الأساسية؟».

ولست أعني هنا، مرةً أخرى، أن وضع الأقسام أهدافًا جماعية هو فكرة رديئة. بل على العكس تمامًا. فأهداف البرنامج تعكس، بطريقة التوجُّه بحسب النتائج والتطلُّع قدمًا، ما يمثِّله القسم وما ينوي إنجازه. واتخاذ الأهداف كدريئة للأداء هو أمر حسن. ولا تنشأ المشكلات إلا حين تنزاح الأهداف من استخدامها كأدوات لتركيز الطاقة والالتزام إلى استخدامها كمقاييس يتحمَّل البرنامج المسئولية ويُحاسب على أساسها.

المقاييس بوصفها تاريخًا

يمكن للقسم أن يقارن أداؤه مع نتائج السنوات السابقة أو مع نتائج مجموعات من السنوات السابقة. وكلما كانت الفترة أطول، كان ذلك أفضل، لأنَّ ذلك يساعد على تمييز الاتجاهات والنزعات الفعلية من الانحرافات المؤقتة والعابرة. ومن المرشحين الواضحين لهذا النوع من التحليل معطيات التسجيل والاحتفاظ، المقررات الدراسية ومعادلات تفرُّغ الهيئة التعليمية، ودولارات المنَح الخارجية، وما إلى ذلك. أما النظر إلى الأداء الحالي كجزء من اتجاه طويل الأمد فيقدِّم مزية إضافية تتمثَّل بالاعتراف بوجود التغير التدريجي المتنامي، الأمر الذي قد لا يُلاحظ على المدى القصير. وعلى سبيل المثال، فقد سبق لزيمسكي وماسي (١٩٩٣م) أن كتبا عن ظاهرة الارتفاع التدريجي في الأسعار الأكاديمية، وهي ظاهرة أدَّت إلى تخفيض في نفقات التدريس لصالح الهيئات التعليمية البحثية ذات السيرة الرفيعة، الأمر الذي غدَا بعد ذلك مقياسًا للجميع في إنفاقهم على التدريس. ويمكن للأقسام التي يعمل فيها الارتفاع التدريجي في الأسعار على ما يرام ألا تشعر بذلك، إلى أن تُرى الخطوط التي يسير فيها هذا الاتجاه على مدى طويل نسبيًّا. والمشكلة مع التاريخ بوصفه مقياسًا هي — بالطبع — التاريخ ذاته. فالنظر إلى الوراء لا يساعد القسم دائمًا على التطلع إلى الأمام.

المقاييس بوصفها أحكامًا ضمنية

تأتي هذه المقاربة للمقاييس من منظورات مختلفة تمامًا، وهي تفترض أنَّ ضروب النوعية المعقدة مثل نوعية البرامج التعليمية لا تعنو بسهولة للمقاربات التحليلية التي تفضي إلى نتائج محددة، أما مكوِّنات نوعية البرنامج وعناصرها فتفوق البرامج ذاتها في كونها تتعذر على الوصف والتحليل؛ ولذلك فإنَّ أحكام القيمة ينبغي أن تقوم على أساس تقويم كلِّي يجريه أكاديميون متضلِّعون تمامًا من أغراض الأكاديميا وتقاليدها. ومثل هذه المنظور هو الذي يدفع إلى استخدام الزملاء ذوي السيرة الرفيعة في مؤسسات أخرى كمراجعين: ففي حين يقدَّم لهم قدر كبير من المعلومات عن أغراض البرنامج وأهدافه، فإنَّ اهتمامهم الأساسي يبقى متركِّزًا على النظر في البرنامج ككلٍّ ووضع تقويم له من موقعهم كخبراء. والحال أنَّ ثمة الكثير مما يمكن أن يُقال بشأن هذه المقاربة: فمعرفة رأيٍ خارجي في قيمة البرنامج، وتنقية هذا الرأي عبر عدسات خبير (آيزنر،١٩٩١م)، يمكن أن يكون أمرًا رفيع القيمة كوسيلة لتحدي الافتراضات السائدة ودفع الأقسام وهيئاتها التعليمية إلى رؤية ذاتها على نحوٍ مختلف. ويشير آيزنر إلى أننا «بحاجة لأن نتعلَّم رؤية ما تعلمنا أن تفوتنا ملاحظته» (ص٧٧). غير أنَّ هنالك بعض العوائق أيضًا. ومن أهمها أنَّ المقاييس — بتعريفها — لا تكون ظاهرة قط. فهي تتوقَّف تمامًا على الخبير الذي يُطلق الحكم. وهكذا، يمكن أن تكون الأحكام الضمنية التي يطلقها الخبير الخارجي مفيدة وفاعلة كمصدر للأحكام المتعلقة بنوعية البرنامج، إلا إنَّها لا تكون ذات معنى إلا حين نتعامل معها كتقنية مساعدة وحسب.

المقاييس بوصفها علامات هادية

مصطلح «العلامات الهادية» هو مصطلح آخر من المصطلحات التي تم استيرادها من الحركة المهتمة بالنوعية في عالم الأعمال فجاءت حاملةً معها متاعها المعتاد. ويشير هذا المصطلح بمعناه الواسع إلى عملية تحديد المؤسسات أو الأقسام المشابهة لمؤسسة المرء أو قسمه والتي لديها أفضل الممارسات، واستخدام هذه الممارسات كمقاييس للمقارنة. والحال أنَّ نتائج المؤسسات الأخرى يمكن أن تكون مفيدة جدًّا كمصدر للطموح، خاصةً بالنسبة لأولئك الذين يمكن بغير ذلك أن يكونوا متشائمين وعيَّابين بشأن قدرة مؤسستهم. ومن الأمثلة على ذلك أنَّ الهيئة التعليمية في قسم الفنون والعلوم في جامعة بحثية كبيرة يمكن أن تفترض أنَّ جماعات التعلم المؤلَّفة من زمر قليلة من الطلاب الجيدين ليست ممكنة في مؤسسة مثل مؤسستهم إلى أن تسمع بما يحصل على هذا الصعيد في مؤسسة أخرى يروق للهيئة التعليمية أن تقارن نفسها بها. ففي مثل هذه الحالة يفعل فعله ذلك «الانتشار عن طريق الحسد»، وهي عبارة للي شومان. غير أنَّ للاتكاء الزائد على المقاييس بوصفها علامات هادية نقاط ضعفه الواضحة. فالمؤسسات النظيرة، مهما بدت مشابهة، تظلُّ مختلفة من نواحٍ مهمة لا تُحصى، بنيويًّا، وثقافيًّا، وماليًّا، وتاريخيًّا، بغضِّ النظر عن اختلاف الشخصيات وأساليب القيادة. والنتائج التي تلائم مؤسسة معينة قد تكون غير واقعية في مؤسسة أخرى، والعكس بالعكس.

(٢) تحديد المقاييس من خلال الفرع، أو الاختصاص، أو التوجيهات الخاصة بالاعتماد

البرامج التي تتجاهل المقاييس الوطنية التي تضعها هيئات خارجية تعرِّض نفسها للخطر، وقلة قليلة هي التي تفعل ذلك. غير أنَّه من الصعب أن نتصوَّر أيضًا أن يرضى أيُّ قسم بمجرَّد تلبية مقاييس الحد الأدنى التي تضعها هذه الهيئات.

والقسم ليس مضطرًّا — بالطبع — لأن يكون أسير واحدة وحسب من هذه المقارنات، ذلك أنَّ لكلٍّ منها مكامن قوتها ونقاط ضعفها الفريدة، فضلًا عن أنَّ الجمع بين المقارنات ليس ممكنًا وحسب بل مرغوب فيه أيضًا. فالأدلَّة المتعلقة بالتسجيل من المحتمل كثيرًا أن تكون مهمة ومفيدة حين تُقارَن مع برامج مشابهة أو يُقتدى بها، والأدلة المتعلقة بأداء الطلاب قد تستخدم بصورة جيدة جميع الأدلة آنفة الذِّكر. فالمهم هو أن تكون الأمور واضحة بشأن نقاط المقارنة والحصول على موافقة أعضاء القسم.

وإذا ما كان القسم نمطيًّا من جميع النواحي، والمعطيات متوفِّرة طوال الوقت: إحصائيات التسجيل والاحتفاظ، الجوانب الديمغرافية، ساعات التدريس المعتمدة، وما إلى ذلك، وجب عليه أن يضيف إلى ذلك نتائج التخرُّج، وعمليات المسح التي يقوم بها المُستخدِم، وجماعات الطلاب المركَّزة، وعمليات المسح التي تقوم بها الأسواق، وسوى ذلك من الإجراءات الخاصة، وسوف يجد أنَّ كلَّ وجهة نظر يمكن أن تجد معطًى من المعطيات مفيدًا في دعمها ومساندتها. وإذا لم يكن القسم كذلك، فإنَّ بمقدور المرء أن يرى أنَّ هذا القسم لا يتحصَّل على المعطيات الصحيحة أو أن معطياته تنطوي على خلل فادح. واسمحوا لي أن أذكر بهذا الصدد أنني أتابع على اﻟ CNN في بعض ليالي السبت برنامج The Capital Gang؛ وأنفُر على الدوام من استخدام روبرت نوفاك، المعلق المحافظ، لأيِّ معطيات تتعلق بالاقتصاد الوطني كي يبيِّن أنها تدعم الحاجة إلى تخفيض الضرائب على رءوس الأموال. (وهذا بالطبع، ما يفعله الفقهاء الليبراليون، إنما بطريقتهم الخاصة). ويبدو أنَّ البشر لا يعيدون النظر بآرائهم إلا حين تكون الأدلة واضحة وقاطعة.

غير أنَّه ليس من الضروري أن تكون الأمور على هذا النحو. فالسيناريوهات الأخرى ممكنة. والمطلوب هو طريقة أخرى في النظر إلى المعطيات، وطريقة أخرى في النظر إلى التعلم الإنساني. ولنتذكَّر هنا مناقشتنا للتعلم بوصفه تحولًا وتغيُّرًا في الفصل الرابع. فالمفتاح لجَعل الأدلة التقويمية مفيدة هو خلق مجموعة من الشروط التي يزداد فيها إلى أبعد حد احتمال أن تهتم بذلك الهيئة التعليمية، الأمر الذي يحصل حين تُقدَّم الأدلة بطريقةٍ تخلق «معضلة مربكة»، بحسب مصطلح ميزيرو (١٩٩٠م): معضلةُ ما هو غير واضح ولا يسهل تفسيره، وما لا يعزِّز القيم أو التحيزات القائمة. (وإذا ما كانت الأدلة قاطعة فعلًا، كاكتشاف أنَّ أعدادًا كبيرة من الطلاب قد فشلت فجأة في امتحانات المجلس، قد يكون من الضروري أيضًا أن نُعنى بقلق الهيئة التعليمية قبل أن يغدو ممكنًا قيام أي نقاش عقلاني).

لنتذكَّر من الفصل الرابع تلك الخصائص بالغة الخصوبة فيما يتعلَّق بالتحرِّي النقدي في القسم: طرح أسئلة مفتوحة النهايات، التأمل فيما يفعله القسم، إقامة مشاركة بين التأملات الفردية، إضفاء معنى على المعطيات، والربط بين التأمل والفعل. وسوف أكرِّس ما بقي من هذا الفصل لتناول هذين الأمرين الأخيرين.

(٣) تأويل معطيات التقويم

يتطلب الاهتمام بالمناقشات المفيدة الخاصة بمعنى المعطيات استراتيجيةً لتركيز هذه المناقشات. ويقدم باتون، في كتابه التقويم المتركِّز على الانتفاع (١٩٩٧م) بعض الأفكار المفيدة على هذا الصعيد، وسوف أقتبس من كتابه هذا بحرية. فتأويل الأدلة التقويمية المفيد له خطوات عدة:

تهيئة المسرح لاستخدام الأدلة

من المفيد أن نطرح بدايةً سلسلة من الأسئلة الخاصة بالمعطيات تبدأ ﺑ «ماذا لو». فقبل تسجيل الأدلة وتقريرها، من الحسن أن ندعو أعضاء القسم للتأمل فيما يمكن أن تعنيه لهم مكتشفات عدة، وأن نسألهم: «ما الذي تعنيه بالنسبة لكم النوعية المتدنية، والنوعية المقبولة، والنوعية المثلى؟» ثم نقدم لهم معطيات افتراضية ونسأل: «ما الذي يمكن أن تفعلوه بهذه المعطيات؟ ما الأفعال التي ينبغي أن نقوم بها إذا ما خرجنا بمثل هذه النتائج؟».

فمثل هذه الأسئلة لا تقتصر على تشجيع التأمل النقدي قبل أن تتصلب المواقف وحسب، بل تتعدى ذلك إلى مساعدة أعضاء القسم في تحديد ما يمكن أن يكون شديد الإفادة بالنسبة لهم، والأسئلة المهمة التي يمكن أن يكونوا قد أغفلوا طرحها. لنفترض — على سبيل المثال — أنَّ القسم عازم على مراجعة النتائج التي حققتها مؤخَّرًا مجموعة مركَّزة من طلاب الدراسات العليا. قد يقول أعضاء الهيئة التعليمية: إنَّ النوعية المتدنية تكون قائمة إذا ما شعر أكثر من نصف الخريجين بأنَّهم لم يُعَدُّوا بما فيه الكفاية فيما يتعلق باثنين أو أكثر من أهداف المنهاج الدراسي، وأنَّ النوعية المثلى تكون قائمة إذا ما شعر ٨٠٪ من الخريجين بأنهم قد أُعِدُّوا إعدادًا وافيًا في جميع المجالات، وأن النوعية المقبولة هي التي تكون بين هذين الحدَّين. وفي مثل هذه الحالة، فإنَّ طرح هذه الأسئلة التي تهيئ المسرح لا بد أن يضع القيم الجمعية لدى الهيئة التعليمية على الطاولة ويحبط ما يمكن أن يبرز لاحقًا من النزعات الدفاعية المحتمَلة.

تقديم المعطيات ببساطة

ينطبق هنا مبدأ Ockam’s Razor القاضي بأنَّ النظرية الأبسط من بين نظريتين متنافستين أو أكثر هي المفضَّلة، فكلما بلغ التفسير حدَّه الأقصى من حيث البساطة زاد احتمال أن يكون التفسير الأصح. أما جداول المعطيات الضخمة بأعمدتها وأعمدة أرقامها فليس من المحتمل أن تفضي إلى الكثير من إضفاء المعنى. وكذا إجراءات التحليل التي لا تعلم بواطنها سوى قلة قليلة إذا لم تقترن بعروض بسيطة. ومن جهة أخرى، فإنَّ دعوة أعضاء القسم إلى التنقيب في المعطيات وجذورها يمكن أن يفضي إلى تبصُّرات مفيدة إذا ما كنَّا نتوقع أن يفضي ذلك التنقيب إلى عرض أبسط. ويلاحظ باتون (١٩٩٧م) أنَّ من المهم أن نوازن بين تعقيد الحياة الفعلية وبساطة تقديمها أو عرضها، علمًا بأنَّ جعل المعطيات مفهومةً لا يعني اختصار كلِّ شيء إلى نسبٍ مئوية ومعدَّلات وحسب. وفي بعض الأحيان تقتضي إقامة التوازن المناسب تقديم منظورات متعددة. وعلى سبيل المثال، لنفترض أنَّ القسم ينظر في اتجاهات تسجيل الأقليات الإثنية؛ إذ تقرر لديه أنَّ المزيد من تنوُّع الطلاب يفضي إلى تجربة تعليمية أغنى، ويفضي تاليًا إلى منهاج دراسي ذي نوعية أرفع. ولنفترض أنَّ تلك الاتجاهات كانت على نحوٍ ما نجد في الجدول ٧-١.
جدول ٧-١: اتجاهات التسجيل: الطلاب من الأقليات/الطلاب من غير الأقليات.
منذ خمس سنوات اليوم التغير المطلق ٪
الأقليات ٢٠ ٢٥ ٥ ٢٥
غير الأقليات ١٠٠ ١٢٠ ٢٠ ٢٠

هل غدا الطلاب اليوم أشد تنوعًا، أم لا؟ الجواب يتوقَّف على ما إذا كان التركيز هو على التغير المطلق أم النسبي.

إنَّ واحدًا من أسباب وجود مثل هذا الميل إلى استخدام المزيد من المعطيات الكمية في التقويم (دراسات الحالات، المقابلات، القصص، وما إلى ذلك) هو الدقة الزائفة التي تعطيها الأرقام. لقد شهدنا جميعًا هلع الكرسي في قسمٍ ما وهو يحسب متوسط معدَّلات الطلاب ويجد أنها قد انخفضت إلى الفاصلة العشرية الثانية، ثم يستخدم هذه النتيجة في تصنيف أعضاء الهيئة التعليمية بحسب ارتفاع المعدلات لديهم. والمشكلة هنا ليست في استخدام الأرقام، بل في أنَّ الأرقام لا تُفسَّر على النحو الصحيح. وتقديم المعطيات ببساطة لا يعني الاستسلام للمغالطات الاختزالية؛ حيث يمكن تلافي مثل هذه المشكلات بتأويل المعطيات بالطرائق المقترحة أدناه.

تحديد الدعاوى والاهتمامات التي تطرحها هذه المعطيات، والتفاوض على قضايا التأويل

مهما بدت الأدلة قوية ومقنعة في الظاهر، ومهما كان إعداد القسم للأدلة جيدًا بتحديد مستويات الرغبة فيها، فإنَّ التأويلات وأحكام القيمة لا بد أن تبقى موكولة إلى التفاعل بين المعطيات. فالأدلة التقويمية بحد ذاتها لا تجيب عن الأسئلة بل تجعلها أكثر حدَّة وأغنى بالمعلومات. أما الإجابات فهي أحكام قيمة وهي تاليًا شخصية إلى حد بعيد.

إليكم مثال يساعد في إلقاء الضوء على هذه العملية. لنفترض أنَّ قسمًا للتخطيط المديني كان يراجع نتائج تعلُّم طلاب الاختصاص كدليل على نوعية برنامجهم أثناء الدراسة الجامعية. وكان أعضاء القسم قد قرروا مسبقًا أن ينظروا إلى مقررات الذروة الدراسية كمصدر أساسي للأدلة، خاصةً مدى قدرة الطلاب المتقدمين على مكاملة المعرفة المستمدة من مصادر متعددة عند الاختصاص. دعونا نتصور محادثة كالمحادثة التالية بينما كانت الهيئة التعليمية تراجع مشروعات الطلاب:

تروقني الطريقة التي طبَّق بها الطلاب نظرية النُّظم العامة على المشكلات المدينية. يبدو أنهم التقطوا الفكرة التي مفادها أنَّ العمل على مشكلة واحدة يمكن أن يؤثِّر على سواها. (دعوى أو زعم).

ربما يكون الأمر كذلك، لكن لا يبدو أنهم قد فهموا جيدًا أنَّ التغير ليس خطيًّا. كنت أودُّ أن أرى في مشروعاتهم مزيدًا من المرونة والتجريب الذي يشكِّل جزءًا من هذه المشروعات. (اهتمام).

أوه، أعتقد أنَّ هنالك مرونة كبيرة في هذه المخططات. فالطلاب، في النهاية، لم يتعلموا بعد سوى قواعد اللعبة. والمرونة الحَقة سوف تأتي لاحقًا، حين يخرجون إلى العمل. (قضية).

والدعاوى أو المزاعم هي، في جوهرها، أحكام قيمة تشير إلى أنَّ المقاييس قد تمَّت تلبيتها، في حين أنَّ الاهتمامات هي أحكام بأنَّ هذه المقاييس لم تتم تلبيتها. وما إن يتم التوصل إلى توافق على الدعاوى والاهتمامات، حتى ينبغي أن يتحول الانتباه إلى القضايا، أو النقاط التي تباعدت عندها التأويلات. ولنتذكَّر من الفصل الخامس أنَّ السؤال الأول الذي ينبغي طرحه بشأن القضايا هو ما إذا كانت تستحق الاكتراث بها والقلق إزاءها. وبما أنَّ الإجابة ﺑ (لا) عن هذا السؤال تفوق الإجابة ﺑ (نعم)، فإنَّ المسار المناسب هنا هو الاتفاق ببساطة على عدم الاتفاق. أما إذا كانت الإجابة ﺑ (نعم)، ولم تكن القضية من النوع الذي يمكن حلُّه أمبريقيًّا، فإنَّ القسم يكون قد كشف عن تصدُّعات في القيم، وينبغي أن يتم التفاوض عليها بالسبل الموصوفة في الفصل الخامس.

الربط بين التأمل والفعل

عادةً ما كان يُدعى ذلك سدَّ العروة، قبل أن يتحوَّل هذا المصطلح إلى كليشيه أخرى من كليشيهات التقويم. ومن جهتي، فإنَّ هذا المصطلح لم يرقني بأي حال من الأحوال؛ لأنه ينطوي على إغلاق العملية بطريقة بالغة النظافة والحِذَق. غير أنَّ التأمل النقدي الذي لا يفضي إلى نتائج عملية يبدو لي أشبه بتبديدٍ للوقت مهيب، بغضِّ النظر عمَّا يمكن أن يكون التعلُّم العميق قد خلَّفه في أعقابه. وما يشير إليه الربط بين التأمل والفعل هو الخطوات التالية.

الجرد والتقدير

يتطلَّب القيام بما هو مفيد، وفي ضوء تبصُّرات جديدة، أن يقوم القسم — أولًا — بجرد ما لديه وتقديره. ما الذي تشير إليه الأدلة من حيث مكامن قوتنا ونقاط ضعفنا؟ وبعبارة أكثر فجاجة بعض الشيء، كيف يمكن لنا أن نرتقي بوضعنا إلى الحد الأقصى من المزية التنافسية؟ هل تشير الأدلة إلى أنَّ رسالتنا قد تطورت، ولو بطرائق لا تكاد تُذكَر؟ ما الذي يبدو على أنه محرابنا، في الكلية، والمؤسسة، والفرع؟ ما مدى ارتياحنا لهذا المحراب؟ كيف يؤثِّر ما تعلمناه عن أنفسنا على ما نحن عليه وما نطمح لأن نصيره؟

إعادة النظر في الدعاوى والاهتمامات

يمكن عندئذٍ للقسم أن يُعيد النظر في دعاويه واهتماماته ويرى ما أضافته. هل تعكس الدعوى والاهتمامات قيم القسم الأساسية؟ إذا ما استمرت هذه الدعاوى، وتم تناول الاهتمامات بنجاح، هل سيغدو القسم ما يطمح أن يكون؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما هو الغائب أو المفقود، وكيف يمكن أن نعيد تحديد الثغرات بوصفها فرصًا؟

مخاطبة المنتفعين من البرنامج

يمكن من ثم استخدام النتائج المترتبة على هذه المناقشات في مخاطبة المنتفعين من البرنامج. ومن المفيد في هذا الأمر أن نعود إلى الفكرة الخاصة بإضافة القيمة، ونفكِّر بالكيفية التي يضيف بها البرنامج قيمة إلى طلابه، أو إلى الكلية أو المؤسسة، وإلى الفرع أو الاختصاص (دعاوى)، والكيفية التي يمكن بها تحسين هذه القيمة بتناول مشكلات أساسية (اهتمامات). ينبغي، إذن، مخاطبة جماعات المساهمين المحليين وتحسُّس ما عندهم من آراء وأفكار.

إلى الطلاب: «إننا نلبِّي حاجاتكم التعليمية عن طريق … ويهمنا أن نحسِّن تعليمكم عن طريق … فإلى أيِّ حد يلائم ذلك حاجاتكم التعليمية؟».
إلى الخريجين: «لقد اكتسب الطلاب من منهاجنا الدراسي ما يلي … ويهمنا أن نحسِّن تعليمهم من خلال تناول الاهتمامات التالية … إلى أي حد يتطابق ذلك مع إحساسكم بما ينبغي أن تكون عليه أولوياتنا؟».
إلى الإدارة المركزية: «إننا نضيف قيمةً إلى المؤسسة بالطرق التالية … وبغية تحسين القيمة التي نضيفها، نقترح تناول ما يلي … إلى أي مدى يتطابق ذلك مع إحساسكم بما ينبغي أن يكون عليه دور قسمنا؟».

تطوير خطة عملية

يمكن استخدام التغذية الراجعة التي يقدمها المساهمون كمادة خام تُصاغ منها خطة للعمل. وتحسُّس ما لدى المنتفعين من البرنامج من آراء وأفكار بشأن ما ينبغي على القسم أن يقدِّمه لهم ومكامن التقصير لا يقتضي من القسم أن يغدو مطية لمصالح الآخرين. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ موقف القسم ذاته يغدو أقوى؛ لأنه هو الذي أخذ المبادرة ووضع الأجندة. وكما لاحظت في الفصل الخامس، فإنَّ امتلاك إحساس واضح بقيمة القسم لدى المساهمين يمكِّنه من أن يتصرف على نحوٍ فعَّال عبر اختياره استراتيجيات التفاوض التي تتلاءم على أفضل وجه مع علاقات القوة، بدل أن يتصرف من غير هذه المعرفة، أو الأسوأ، بدل أن يتراجع ولا يفعل أي شيء إلى أن تقع الفأس في الرأس.

ويمكن لوضع خطةٍ للعمل أن يكون عملية عقيمة على المدى الطويل، وهو ما أدركته مؤسسات لا تُعدُّ ولا تُحصى من خلال أشكال شتَّى من التخطيط الاستراتيجي. ولقد سبق لي في هذا الكتاب أن انتقدت تلك الممارسة التي تستخدم الأهداف كمقاييس للنوعية، ليس لأن امتلاك الأهداف أمر سيئ، بل لأن استخدام الأهداف كمقاييس يفترض وجود عالم عقلاني ويمكن التنبؤ به، في حين أنَّ الحوادث، والفرص، والمشكلات غير المنظورة يمكن أن تحوِّل حتى الأهداف التي أُمعِن فيها النظر إلى أشياء تالفة لا أمل فيها.

وإذَن، لماذا الخطة؟ لماذا لا نكتفي بالمضيِّ في سبيلنا «خبط عشواء»، كما تقول عبارة برايبروك وليندبلوم (١٩٦٣م) الكلاسيكية؟ أعتقد أنَّ الجواب لدى تييرني، في كتابه الأخَّاذ بناء الحرم الجامعي سريع الاستجابة (١٩٩٩م). ففي حين يوافق على أنَّ الصور العسكرية للتخطيط الاستراتيجي (حشد القوات لحلِّ مشكلات محددة) تؤدي إلى تخطيط أحادي الاتجاه، قصير البصر، وغير منتج، إلا أنه يرى أيضًا أنَّ الكلِّيات والجامعات تعاني من شكل من «نقص النظام المؤسساتي» (ص٧٥) بجنوحها من مبادرة للتغيير إلى أخرى. وهي تعاني — بعبارة أخرى — من افتقار إلى التفكير الاستراتيجي. ومع أنَّ تييرني يبدو كأنه يقدِّم نصيحة متناقضة هنا، إلا أنَّ الأمر ليس كذلك في الحقيقة. فما يقترحه هو أن تطوُّر المؤسسات (والأقسام، تاليًا) رؤى، تتعلَّق بما هي عليه وما ترغب في أن تغدو عليه، وتكون قائمة على التاريخ والثقافة والتجربة والمعرفة الشاملة بجمهورها. وعندئذٍ، فإنَّ المنظمة الحكيمة، بدلًا من أن تهاجم مثل هذه الرؤى، سوف تشجع التفكير الخلَّاق عبر دعمها التجريب، والمحاولة والخطأ، وانتهاز الفرص. غير أنَّ ما تحتاجه مثل هذه الجهود هو التأمل النقدي: ما مدى تطابق ما نفعله مع رؤيتنا وإسناده لها؟ كيف يمكن أن نغدو أفضل، نحن ومؤسستنا وطلابنا؟ كيف يسهم ما نفعله في خلق جوٍّ داعم للتفكير الخلَّاق وحلِّ المشكلات؟ فمثل هذا النوع من التفكير يفضي إلى ما دعاه رامالي في سياق آخر (١٩٩٨م، اتصال شخصي) بإدارة المخاطر المعقولة. كما يمكن أن نجد دعمًا أمبريقيًّا لأفكار تييرني في تقرير بعنوان مشروع مستقبلي (سميث ١٩٩٨م)، وهو دراسة شاملة للتغيُّر في ١٨ كلية وجامعة في كاليفورنيا، حيث طرأ أعظم التغيُّر في المؤسسات التي تتَّسم بثقافاتها التجريبية، وليس في تلك التي تمتلك خططًا استراتيجية رفيعة.

(٤) نوعية القسم: تعريف

هكذا لا يمضي الربط بين التأمل والفعل في اتجاه واحد وحسب، ولا يقتصر على كونه سدًّا للعروة. وأفضل أنواع الفعل هو ذاك الذي يؤدي إلى مزيد من التأمل. والأقسام والبرامج النوعية تعرف ذلك. وهي تعمل على تلك المعرفة من خلال تطويرها رؤية جماعية ذات معنى، بالنظر إلى موارد القسم وسياقه المؤسساتي، ومن خلال إصغائها الدقيق لمصالح مساهميها والاستجابة لهذه المصالح بطريقة أصيلة دون أن تساوم على حريتها الأكاديمية واستقلالها، ومن خلال رعاية التجريب ودعمه على نحو لا يخشى الفشل بل يشجع التعلُّم، ومن خلال العمل على ما تعلَّمته عن نفسها بطريقة تجعل أعضاء الهيئة التعليمية أشدَّ ارتباطًا بالمساهمين وببعضهم بعضًا. ولو كان عليَّ أن أخرج بتعريف واحد ﻟ «النوعية المؤسساتية» لكان هذا التعريف.

المراجع

  • Blau, P. M., & Scott, W. R. (1962), Formal organizations: A comparative approach, San Francisco, CA: Chandler.
  • Braybrooke, D., & Lindblom, C. E. (1963), A strategy of decision, New York, NY: Free Press.
  • Eisner, E. W. (1991), The enlightened eye: Qualitative inquiry and the enhancement of educational practice, New York, NY: Macmillan.
  • Mezirow, J. (1990), How critical reflection triggers transformative learning, In J. Mezirow & Associates (Ed.), Fostering critical reflection in adulthood: A guide to transformative and emancipatory learning, San Francisco, CA: Jossey-Bass.
  • Patton, M. Q. (1997), Utilization-focused evaluation: The new century text, Thousand Oaks, CA: Sage.
  • Senge, P. M. (2000), The academy as learning community: Contradiction in terms or realizable future? In A. F. Lucas & Associates (Eds.), Leading academic change: Essential roles for department chairs (pp. 275–300), San Francisco, CA: Jossey-Bass.
  • Shulman, L. S. (1995, Jaanuary), Teaching as community property, Address to AAHE Forum on Faculty Roles and Rewards, San Diego, CA.
  • Smith, V. B. (1998), The futures project: A tow-year activity of 18 independent colleges and universities in California, Final report to James Irvine Foundation.
  • Tierney, W. G. (1999), Building the responsive campus: Creating high performance colleges and universities, Thousand Oaks, CA: Sage.
  • Zemsky, R., & Massy, W. F. (1993, May/June), On revesing the ratchet: Restructuring in colleges and universities. Chang, 25, 56–62.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤