الفصل الثامن

تحسين النوعية المؤسساتية

عقيم هو التفكير بلا أفعال؛ أما الفعل بلا تفكير فهو مميت.

جيمس كولفارد

ما يُعتد به هو ما تتعلمه بعد معرفة.

إيرل ويفر

مدخل

أريد في هذا الفصل الأخير، أن أعيد النظر في السؤال الذي طرحته في بداية هذا الكتاب: ما الذي يميز القسم أو البرنامج النوعي؟ وأن أتناول سؤالين آخرين في محاولة لأن أوجز الموضوعات الأساسية في كتابي هذا: ما هي المفاتيح لإيجاد أقسام فاعلة؟ وما الذي يمكن لأعضاء هيئة القسم التعليمية وكرسيه أن يفعلوه في إحداث ثقافات التميز هذه؟

(١) خصائص القسم النوعي

لنتذكر قائمتي الخصائص التي تميز الأقسام النوعية في الفصل الأول: فهما قائمتان كانت قد وضعتهما مجموعات تتألَّف في أكثرها من كراسي الأقسام بعد أن طُلب منها تحديد مواصفات الأقسام النوعية في مؤسساتها. وإليكم هذا التوليف بين القائمتين:

خصائص الأقسام النوعية: الهيئة التعليمية والمديرون

  • رسالة ورؤية مشتركتان.

  • توازن في التركيز على الطلاب، والمجتمع، والمؤسسة، والهيئة التعليمية.

  • أفضل انسجام ممكن بين الطلاب ورسالة المؤسسة.

  • التزام بالتميز في التدريس وتعلُّم الطلاب.

  • قيمة رفيعة للاستقلال المهني.

  • مشاركة مهمة للطلاب مع الهيئة التعليمية ومع بعضهم بعضًا.

  • بحث فاعل سواء من قبل الطلاب أم من قبل الهيئة التعليمية.

  • تعاون وتأمل ذاتي.

  • ابتكار؛ مرونة في التغير.

  • زمالة وإحساس قوي بالجماعة الأكاديمية.

  • احترام تعدد الآراء؛ توتُّر خلَّاق.

  • تقويم مستمر للبرامج واستخدام معطيات التقويم.

  • روابط متينة مع الخريجين والصناعة.

  • قيادة ذات رؤيا، سواء من قِبَل الهيئة التعليمية أم من قِبَل الكرسي.

(٢) علائم النوعية في الأقسام الأكاديمية

أريد الآن أن أضيف ثلاثة مصادر أخرى للحكمة فيما يتعلق بعلائم النوعية في الأقسام الأكاديمية.

المصدر الأول

أستمد هذا المصدر من والفوورد وزملائها (٢٠٠٠م) الذين قاموا بمراجعة مكثَّفة للأدبيات التي تتناول فعالية الأقسام، وتوصَّلوا إلى هذه القائمة من السمات التي تميِّز الأقسام السليمة:

معرفة الذات: معرفة الأقسام ما لديها من ثقافات، وبيئات، وافتراضات، وقيم، ونماذج ذهنية، وما لدى الآخرين.
التفكير المنظوماتي: استكشاف وفهم كيف تتفاعل جميع عناصر المنظَّمة وبيئتها.
التفاعل المفتوح والمنتج: الإعلاء من شأن التقارب، قضاء المزيد من الوقت معًا، المزيد من التفاعل المتآزر، وأساليب صحية لإدارة الصراع.
حرية واسعة للأفراد: التأكيد على حرية الأفراد الواسعة والإعلاء من شأن التمكُّن الشخصي.
تركيز خارجي على البيئة، والمساهمين، والنتائج: تقويم آثار القرارات الجماعية بما يمكِّن من حصول تعلُّم الجماعة.
نزعة المقاولة: الإعلاء من شأن الحلول القائمة على المغامرة وإعمال الخيال والتي تتولد من التفاعل والتزام الأعضاء بالجماعة.
تعزيز التزام الأفراد بصالح الجماعة ورفاهيتها.
الإلحاح على تعلُّم الفرد والجماعة: تغيير السلوكات على أساس تفحُّص قيم القسم ونتائج عمله.
جمع المعلومات عن ثقافة القسم وبيئته والعمل عليها.
القادة الأخيار: دعم القادة المنفتحين، المتعاونين، الذين يبذلون الجهد في التوصُّل إلى قرارات جماعية، لكنهم فاعلون في توجيه القسم (ص٦-٧).

لاحظوا ثيمات المشاركة، والتأمل النقدي، والزمالة الصادقة، وجميعها مما ألح عليه هذا الكتاب. لاحظوا أيضًا التداخل مع القائمة التي وضعها الكراسي، مع أنَّ أحدًا منهم لم يقرأ كتاب والفوورد.‍‍

المصدر الثاني

المصدر الثاني هو مبادئ النوعية السبعة الأساسية التي وضعها وليم ماسي (٢٠٠١م)، والتي تقوم على تجربته الواسعة كباحث في التعليم العالي ومُعلم متضلع من قضايا النوعية. وعلى الرغم من استخدامه لرطانة إدارة النوعية الكلية هنا وهناك، إلا أنَّ تشابه مبادئه مع ما قدَّمناه للتوِّ هو لافت أيضًا:
  • تحديد نوعية التعليم من حيث النتائج.

  • التركيز على عملية التدريس والتعلُّم.

  • السعي وراء التماسك في المنهاج والعملية.

  • العمل بصورة تعاونية على تحقيق المشاركة والدعم المتبادلين.

  • إقامة القرارات على الواقع ما أمكن.

  • الحد من تقلُّب النوعية القابلة للضبط والتحكُّم.

  • جَعلُ تحسين النوعية المتواصل أولوية عليا (ص٥٠).

المصدر الثالث

سبق أن استشهدت كثيرًا بهذا المصدر الثالث، وهو نظرية المشاركة في نوعية البرنامج التي قدَّمها هاورث وكونراد (١٩٩٧م)، وتقوم على مقابلات مع ٧٨١ شخصًا في ٤٧ من برامج التخرُّج (الماجستير). وهذه النظرية معروضة في الشكل ٨-١.
fig4
شكل ٨-١: نظرية المشاركة في نوعية البرنامج.

وتبعًا لهاورث وكونراد، فإنَّ البرامج عالية النوعية هي تلك التي «تقدِّم تجربة تعلُّم غنية تؤثِّر بصورة إيجابية وبنَّاءة على تقدم الطلاب وتطورهم» (١٩٩٧م، ص٢٧). وهو أمر يحصل حين توظِّف الأقسام الوقت والطاقة الكافيين لخلق خمس مجموعات من الصفات وتعزيزها:

مساهمون متعددون ومشاركون: باستخدام ودعم هيئة تعليمية وطلاب يتميزون بتنوع منظوراتهم ويوفِّرون مجالًا مناسبًا لخطاب بنَّاء.
ثقافات المساهمة: وهي ثقافات تتميز بوجود غايات مشتركة، وجماعة داعمة، وحرية في خوض المخاطر المعقولة.
التعليم والتعلُّم التفاعليان: عبر المشاركة الفاعلة والفعلية في موضوع البحث.
متطلبات البرنامج المترابطة: بما يفضي إلى ضروب من الفهم المشترك والنتائج الملموسة على صعيد التعلُّم.
الموارد الكافية للطلاب والهيئة التعليمية: على هيئة إمدادات، ومعدَّات، وتسهيلات، وموارد مكتبية وحاسوبية.

على الرغم من أنَّ هاورث وكونراد يقصران نظريتهما على تطوير البرامج التعليمية عالية النوعية وتعزيزها، خاصةً برامج الدراسات العليا، إلا أنَّ الإطار الذي يقدِّمانه يظلُّ مفيدًا أيضًا في وصف خصائص البرامج النوعية ككلٍّ. لاحظوا مرة أخرى، ذلك التداخل الجوهري مع القوائم الأخرى، خاصةً المجموعتين ١ و٢. ويشير هاورث وكونراد إلى أنَّ أطروحة المشاركة التي يقدِّمانها تضع المساهمين المتعددين والمشاركين وثقافات المساهمة في المرتبة الأولى بين متساوين من علائم نوعية القسم. وهذا ما يمكن أن يوافق عليه كثير من الكراسي، إذا ما حكمنا على ذلك من التداخل بين القوائم.

(٣) خصائص القسم الأكاديمي النوعي: تركيب

لو جمعنا معًا هذه المصادر الأربعة المختلفة — والتي تقوم على التجربة العملية، والبحث، ونظرية المشاركة، والنظرية الموثَّقة أو المؤكَّدة، على التوالي — يمكن أن يتحصَّل لدينا التركيب التالي:

جماعة أكاديمية متعددة وداعمة

  • قيمة رفيعة للاستقلال المهني.

  • هيئة تعليمية وطلاب من خلفيات ومنظورات مختلفة.

  • مجال مناسب للخطاب البنَّاء: احترام تعدد الآراء؛ توتر خلَّاق.

  • دعم الابتكار، المغامرة، والمخاطرة المعقولة.

  • مرونة إزاء التغير.

ثقافة المسئولية الجماعية

  • رسالة ورؤية مشتركتان.

  • توازن في التركيز على: الطلاب، المجتمع، المؤسسة، الفرع.

  • التزام فردي بصالح المجموع.

  • التزام جماعي بصالح المؤسسة والمجتمع.

  • مشاركة مهمَّة للطلاب مع الهيئة التعليمية ومع بعضهم بعضًا.

التزام بالتميز في التعليم، وتعلُّم الطلاب، والبحث

  • أفضل انسجام للطلاب مع رسالة المؤسسة.

  • مشاركة فاعلة وفعلية للطلاب في موضوع البحث.

  • متطلبات البرنامج المترابطة والمنهاج الدراسي المتماسك.

  • البحث الفاعل من قبَل الطلاب والهيئة التعليمية.

ثقافة التأمل النقدي

  • إلحاح على التأمل الذاتي الفردي والجماعي.

  • تقويم مستمر للبرامج واستخدام حذر لمعطيات التقويم.

  • إلحاح على كلٍّ من تعلم الفرد وتعلُّم الجماعة

قيادة ذات رؤيا من طرف الهيئة التعليمية والكرسي

  • انفتاح، تعاون، وصناعة مشتركة للقرارات.

  • تفكير منظوماتي.

  • تفكير رؤيوي.

موارد كافية للطلاب والهيئة التعليمية

  • الإمدادات، والمعدات، والتسهيلات المطلوبة.

  • الموارد المكتبية والحاسوبية.

ينبغي أن نبقي في الذهن أنَّ للمساهمين من غير الهيئة التعليمية والإدارة قوائم أخرى. وتخميني، الذي يقوم على أحاديث كثيرة مع هذه الجماعات الأخرى، أنَّ قوائم النوعية لا بد أن تتداخل إلى حد بعيد. فالطلاب والأهل سيكونون أكثر اهتمامًا بقيمة البرنامج الأداتية (أي بتهيئة الطلاب لمهنهم المُختارة)، في حين ستكون المجالس والقيِّمون أكثر اهتمامًا بالاقتصاديات ومؤشرات الإنتاجية مثل التسجيل وساعات التدريس المعتمدة. غير أن القسم الأكاديمي الذي يعكس معظم النوعيات الآنفة أو كلها من المرجَّح أن يجد حظوة أبعد من هيئته التعليمية وإدارة المؤسسة المركزية.

(٤) خَلقُ القسم النوعي

ليس خلق ثقافة النوعية بالمشروع الفردي. فهو يتطلَّب جهدًا مشتركًا، ومزجًا لمواهب ومنظورات الكرسي والهيئة التعليمية.

(٥) كراسي الأقسام كعوامل في العمل النوعي

لا تقود الأقسام نفسها بنفسها. وهي تشتمل على كراسي لهذا الغرض. وقادتها يُدعَون أيضًا باسم «الكراسي» لهذا الغرض أيضًا. وهؤلاء ليسوا زعماء أو عُرَفاء، وليسوا أيضًا مجرد زملاء بمكاتب كبيرة وعقود لاثني عشر شهرًا. إنهم قادة، لكنهم قادة من نوع خاص تعرفه الأكاديميا وحدها. وهم يتدبَّرون تفاصيل القسم الإدارية، بالطبع، لكنهم مسئولون أيضًا عن تحديد عمل القسم وصياغته أو إعطائه قوامه، والموازنة بين مصالح الهيئة التعليمية الفردية ومصالح الكلِّ الجماعية. وهذا أكثر من أيِّ شيء آخر، ما يجعل كراسي الأقسام في الكليات والجامعات يختلفون عن الإدارات الوسطى في المنظمات الأخرى. إنَّهم مُيسِّرون، مفاوضون، مُضفُون للمعنى، وبناءون للجسور. وإليكم ما قالته: «المائدة المستديرة حول التعليم العالي» التي عقدتها بيو عن الدور الخاص لكراسي الأقسام: «إنَّ الكرسي، أكثر من أي شخص آخر في القسم، هو الذي ينبغي أن يدعو إلى اجتماعات الهيئة التعليمية التي تثير إجابات مهمَّة تحدِّد طبيعة عمل هذه الجماعة، وذلك لأنَّ هذه الاجتماعات تطرح أسئلة قوية» (١٩٩٦م، ص١٠). ولقد سبق أن وُضِعَت كتب كثيرة جيدة بقصد المساعدة على تطوير مهارات القيادة لدى كراسي الأقسام: غميلش وميسكن (١٩٩٣م)، تَكِر (١٩٩٣م)، لوكاس (١٩٩٤م)، سيغرين وكريسوِل وويلر (١٩٩٥م)، ليمنغ (١٩٩٨م)، هيشت وهيغرسون وغميلش وتكر (١٩٩٩م)، بنسيمون ووارد وساندرز (٢٠٠٠م)، ولوكاس ومساعدوه (٢٠٠٠م). وأريد أن أُجمِل نصائحهم الجيدة وأعيد تكرارها. غير أني أريد أيضًا أن أثير بعض النقاط التي تركِّز على مسئولية كرسي القسم في تحسين نوعية قسمه.

من الصعب أن نتخيَّل قسمًا نوعيًّا دون كرسي نوعي. والكراسي النوعية هي التي تقوم بالأشياء التالية:

تفهم الديناميات الفريدة التي تُميز ثقافة أكاديمية: فهم لا يقعون فريسة الاعتقاد بأن قسمهم مجرد مجموعة من أعضاء الهيئة التعليمية ذوي المصالح الأكاديمية المتماثلة، ولا يستسلمون لتصوُّر القسم على أنَّه فريق، على الأقلِّ بالمعنى التقليدي لهذا المصطلح. وهم يدركون أنَّ أعضاء الهيئة التعليمية ليسوا أعضاء في فريق إلا بمعنى محدود، ويقاومون وصفهم بهذا الوصف. ومع الاعتذار لزميلتي آن لوكاس، التي كتبت كثيرًا عن الأقسام بوصفها فرقًا (١٩٩٤، ٢٠٠٠م)، لا أعتقد أنَّ مصطلح «الفريق» يصف جيدًا حالة الأقسام الأكاديمية، وهو على الأقلِّ لا يصفها ذلك الوصف الكامل. ذلك أنَّ «الفريق»، تبعًا لكاتزنباخ وسميث (١٩٩٣م)، هو عدد ضئيل من الأشخاص ذوي المهارات المتكاملة يلتزمون بغاية مشتركة، ومجموعة من الأهداف الأدائية، وبمقاربةٍ يتحملون مسئوليتها على نحوٍ مشترك» (ص١١٢).

وهناك الكثير من أشباه هذا التعريف تُطَبق على الأقسام الأكاديمية: فكرة التكامل واحترام الاختلاف، والغاية المشتركة (رسالة المؤسسة)، وتحمُّل المسئولية الجماعية. غير أنَّ ما يتركه هذا التعريف هو تلك الصفات الحاسمة بالنسبة لثقافة النوعية الأكاديمية: التعويل على الاستقلال وإبداع أعضاء الهيئة التعليمية الأفراد وليس على نتاجات الفريق، والمجال المتاح أمام الخلاف البنَّاء، بل الحاجة إلى هذا الخلاف، وإدراك أنَّ للمؤسسات رسائل متعددة، خاصةً في الأقسام الكبيرة، وتاليًا عدم وجود مهام واضحة يتشاطرها جميع الأعضاء.

ومن وجهة نظري، فإنَّ أفضل طريقة للنظر إلى الأقسام هي النظر إليها على أنها جماعات مصالح: وحدات تنظيمية يتقاسم فيها الأعضاء مصالح وغايات أكاديمية مشتركة، ويدركون تنوُّع أدوارهم ويثمنونه، ويتحملون مسئولية جماعية عن العمل الذي يقومون به، دون أن يتجاهلوا استقلالهم الفردي والتزامهم الحرية الأكاديمية. كما أنَّ النظر إلى الأقسام كجماعات مصالح يشير أيضًا إلى أهمية السيرورات السياسية كمحددات أساسية من محددات النوعية. وإذا ما نظرنا إلى نوعية الأقسام بوصفها تفاوضًا ناجحًا بين مصالح متعددة، فإنَّ النتيجة التي تلي ذلك هي أنَّ لدى الهيئة التعليمية مصلحة مشتركة، أو رهانًا مشتركًا، في ذلك التفاوض.

تركِّز على خلق أجواء العمل النوعي وعلى تحديد العوائق أمامه وإزالتها: لقد لاحظت في الفصل الثاني أنَّ الأبحاث المتوفِّرة في حوافز الهيئة التعليمية تشير إلى أنه في حين ينبغي لأنظمة المكافأة أن تكون متَّسقة مع السلوك المرغوب فيه، على الكراسي وغيرهم من القادة الأكاديميين أن يؤكِّدوا على أهمية الحوافز الداخلية بوصفها المصدر الأساسي للطاقة على العمل النوعي. وهكذا لا تكون المشكلة كيف نحفِّز الهيئة التعليمية — ذلك الشيء الذي تشعر معظم الكراسي أنَّ القيام به لا يكفي — بل كيف نتعهد بالرعاية بيئةً للعمل تتسم بالاستقلال الرفيع، وفرص التقدير والاعتراف المهمة، والجماعة الأكاديمية القوية، والإمكانية الواسعة للفعالية الشخصية.
تدرك أنَّ خَلق رؤية مشتركة وتعزيزها هو عمل مهم وحيوي، ما دامت هذه الرؤية طموحة، وطيِّعة، ومرنة إزاء اختلافات التأويل: فالكراسي الناجحة لا تبدد وقت أقسامها بتمارين فارغة ترمي إلى ابتداع كلام عن الرسالة والرؤية. إلا أنهم يدركون أهمية تطوير هذه الغايات المشتركة على نحوٍ استقرائي: أي تأطير رسالة القسم عبر تجريدها أو استخلاصها من العمل الذي يقوم به أعضاء الهيئة التعليمية كأفراد، وبالتفاوض مع أولويات المؤسسة، وكذلك تأطير رؤية مشتركة بتجريدها واستخلاصها من قيم وطموحات أعضاء الهيئة التعليمية الأفراد. وهي تدرك أيضًا أنَّ أفضل الرؤى هي تلك الجريئة بل المتهورة، لكنها تكون قابلة للتفاوض على الدوام على أساس المعلومات الجديدة والفرص الناشئة. وهي لا تترك نفسها رهينة قصر النظر والتفكير الخطِّي في الخطط الاستراتيجية الشكلية، بل تعطي نفسها وأقسامها: حرية الانخراط في التجريب، والابتكار، وخوض المخاطر المعقولة ضمن سياق رؤيتها المشتركة.
تخوض «مناقشات صعبة» (لوكاس، ٢٠٠٠م) حول القضايا التي تهمُّ القسم: فهي لا تخشى من تناول القضايا تناولًا مباشرًا ومن وضعها على الطاولة. وهي تدرك عقم «الزمالة الفارغة» (ماسي وويلغر وكولبيك، ١٩٩٤م) وما تخلِّفه من عطالة، كما تدرك أن التطور والتغير غالبًا ما ينجمان عن القلق والاضطراب. وهي تعرف أيضًا ذلك الحد الذي يغدو عنده الخلاف البنَّاء ضربًا من النجاح الأكاديمي المريب، على هيئة تحليل ونقد لا نهايةَ لهما.
تصغي جيدًا وتحترم حكمة زملائها الجمعية: فأعضاء الهيئة التعليمية هم لاعبون شبه مستقلين في وحدات شبه مستقلة. ففي الثقافات الأكاديمية، لا ينبغي التسامح مع المنظورات المتعددة وحسب، بل ينبغي احترامها أيضًا. كما تعرف الكراسي الناجحة، في الوقت ذاته، نقاط التوافق المحتملة وتقدر على التقاطها والإفصاح عنها.
تؤطِّر القضايا على نحوٍ واضح، وتُحدد الخيارات، وتشرح عواقب القرار المتخَذ: فالكراسي النوعية تدرك أن التوافق التام ليس ممكنًا دائمًا بل وليس مرغوبًا فيه. وهي تعلم أنَّ دورها يقتضي اتِّخاذ قرارات قاسية، بل ومؤلمة، لصالح الكلِّ. غير أنها تدرك أيضًا أنَّ القرارات الصعبة تكون أكثر اطلاعًا وأشدَّ قبولًا حين تُدعَى الهيئة التعليمية إلى عملية اتخاذ هذه القرارات وتشارك فيها.
تخلق سبلًا أمام تأمل القسم النقدي في عمله كوحدة: فمن غير ذلك، قد تكون الهيئة التعليمية مُرضية ومنتِجة كأساتذة وباحثين أفراد، لكن القسم ككلٍّ لا يتم التركيز عليه، وعمله لا يكون متماسكًا، ومصالح مساهميه (خاصةً الطلاب) يمكن أن تتضرر. والكراسي النوعية تقارب تقويم النوعية تلك المقاربة الفاعلة التي تتجه من الداخل إلى الخارج، ولا تنتظر من المديرين الأكاديميين أو القوى السياسية من خارج المؤسسة أن يملوا الشروط عليها. فهي تعمل مع القسم على تحديد الأسئلة الأساسية التي يحتاج القسم ككلٍّ لأن يتناولها، ومصادر الأدلَّة التي تزيد اطلاع هذه الأسئلة على نحو بالغ الإفادة، وسُبل إضفاء المعنى والقيام بالعمل المناسب.

(٦) أعضاء الهيئة التعليمية كعوامل في العمل النوعي

أشرتُ في الفصل الثالث إلى أنَّ مقاومة الهيئة التعليمية عادةً ما تكون واحدًا من المُشتبَهين الذين يُحمَّلون مسئولية الحالة المؤسفة لكثير من مبادرات التغيير المؤسساتية. غير أنَّ السمعة ليست ذلك الشيء الخالي تمامًا من الأهمية، سواء حسُن ذلك أم ساء. وسد الطريق أمام التغيير ليس بالشيء الرديء على الدوام، الأمر الذي يشير إليه بوضوح مصير تلك المبادرات التي أُسيء توجيهها بعدم تخصيص الميزانيات المناسبة لها أو إدارتها بالأهداف. غير أنه كما يصعب أن نتصوَّر قسمًا نوعيًّا دون كرسي نوعيٍّ، يصعب أيضًا أن نتصور قسمًا نوعيًّا دون هيئة تعليمية تلتزم العمل النوعي. وكما قلت في الفصل الرابع، فإنَّ عمل القسم النوعي ليس مجرد محصِّلة العمل النوعي الذي ينجزه الأفراد. فعلى القسم ككلٍّ أن يلتزم التأمل النقدي، والنماء، والتغير بوصفه وحدة. وأعضاء الهيئة التعليمية في مثل هذه الأقسام يعكسون سلوك الكراسي النوعية. كما أنهم يقومون بما يلي:

يفهمون، مثل كراسيهم، الديناميات الفريدة التي تَسِمُ الثقافة الأكاديمية: فهم يدركون ضرورة الموازنة بين الأجندات الفردية والأجندات الجماعية، وبين المغامرة الفردية وأولويات القسم. ويشعرون فرديًّا وجماعيًّا بالمسئولية عن نجاح القسم، فيكرِّسون طاقاتهم للأهداف المشتركة ولو كان ارتباط هذه الأهداف بعملهم الفردي غير مباشر وحسب. وهم يقاومون إغراء ادِّعاء التملك الحصري لمقرراتهم الدراسية وسواها من الأعمال التي يَحسُن أن تُردَّ إلى القسم وتنتمي إليه.
يعرفون أنفسهم جيدًا ولديهم إحساس المحراب ضمن أقسامهم: فهم صادقون مع أنفسهم بشأن ما هم عليه، وما يحفِّزهم، وما يمكن أن يسهموا به في الصالح العام.
يتعالون على التعاون المريح (والفوورد وآخرون، ٢٠٠٠م) من خلال المساهمة بحرية وانفتاح في القضايا التي تُهم القسم: فهم يدركون مخاطر الزمالة الفارغة ويعلمون أنَّ الاهتمام بالقضايا المهمة هو في مصلحتهم على المدى البعيد. وهم يحترمون واحدهم الآخر بما يتجاوز مجرد تحمُّل الاختلاف، فيقدِّمون النقد البنَّاء طواعية ويقبلونه. وهم يتقاسمون عملهم علانية، بما فيه التدريس، كجزء من عمل المؤسسة.
يحلمون، ويطمحون، ويعلمون كيف تُتَرجم رؤاهم الشخصية إلى رؤى مشتركة.
يعترفون بأنَّ حاجاتهم كزملاء هيئة تعليمية تتغير بمرورها عبر مساراتهم المهنية: فهم يشجعون أعضاء الهيئة الشباب بالنُّصح وإقامة العلاقات الشخصية معهم والإفادة من المنظورات الجديدة التي يحملها هؤلاء، كما يشجعون الأعضاء الكبار بالاعتماد على تجربتهم وتاريخهم المؤسساتي.
يساهمون مساهمة كاملة في توجيه القسم وحكمه: فهم لا يعاملون إدارة القسم على أنَّها شرٌّ لا بد منه أو على أنها مصير الزملاء غير المناسبين للقيام بعمل الأكاديمية الحقيقي. وهم يفهمون صنع القرار الأكاديمي على أنه عملية لهم جميعًا حصتهم فيها. ويتحاشون إغراء المطالبة باستشارة كاملة في جميع القرارات إذا ما كانوا يتحاشون تحمُّل مسئولية تنفيذ هذه القرارات. وهم يجعلون شاغلهم فهم العمليات الخاصة بالموازنة، وإجراءات جمع الموارد، والاستخدامات البديلة للتمويل. وهم يدركون أخيرًا، أن مصالحهم لا تكون منسجمة على الدوام مع مصالح القسم أو المؤسسة.
يطبِّقون نوعيات التحري النقدي — تلك النوعيات التي تعلَّموها جيدًا من خلال تطبيقها في البحث العلمي — على عملهم الخاص: فقد تعلموا أن العمل النوعي يتطلَّب منهم أن يكرِّسوا قسطًا من وقتهم للتأمل الدقيق، الذي يقوم على كلٍّ من المعطيات التقويمية وخبرتهم الخاصة، وعلى ما يقومون به، والسبب الذي يدفعهم إلى القيام به، وما إذا كانت الآثار المترتبة على ما يقومون به تأتي لمصلحة المنتفعين الأساسيين، أعني طلابهم.
وأهم ما يسِم نوعية المؤسسة هو نوعية أقسامها وبرامجها الأكاديمية. فالأقسام ليست مجرد وحدات تنظيمية مسئولة عن تحقيق أغراض المؤسسة، بل هي تنظيمات شبه مستقلة بحد ذاتها، وحيويتها هي التي تجعل المؤسسة تنبض. ومن غير نوعية البرنامج، فإنَّ ما يجري في بقية المؤسسة لا يُحدِث فارقًا مهمًّا؛ ولذلك أعتقد أنَّ من الخطأ الفادح أن نشطب الأقسام، كما يفعل بعضهم، بوصفها ضَربًا من المفارقة التاريخية، التي تقف إلى الأبد في وجه التغيير المنشود. وبخلاف ذلك، فإنني أقف إلى جانب الرأي الذي عبَّرت عنه والفوورد وزملاؤها (٢٠٠٠م):

الأقسام ليست مجرد حجرات محكمة الإغلاق أو حواجز أو ديناصورات؛ فهي تشتمل على عضويات تحاول أن تنجز مهام صعبة ومعقَّدة في ظروف صعبة ومعقدة. وليس من الواضح ما إذا كان بمقدور الأقسام أن تتغيَّر بما يكفي لأن تكون فعالة في العالم سريع التغير الذي تواجهه. لكن الأمل الوحيد في التغيير يكمن في البناء على بنى الأقسام الخاصة، وثقافاتها، وما تتيحه من سُبل ممكنة أمام التغيير.

المراجع

  • Bensimon, E. M., Ward, K., & Sander, K. (2000), The department chair’s role in developing new faculty into teachers and scholars, Bolton, MA: Anker.
  • Gmelch, W. H., & Miskin, V. D. (1993), Leadership skills for department chair, Bolton, MA: Anker.
  • Haworth, J. G., & Conrad, C. F. (1997), Emblems of quality in higher education: Developing and sustaining high-quality programs, Needham Heights, MA: Allyn & Bacon.
  • Hecht, I., Higgerson, M. L., Gmelch, W. H., & Tucker, A. (1999), The department chair as academic leader, Phoenix, AZ: Oryx.
  • Katzenbach, J. R., & Smith, D. K. (1993, March/April), The discipline of teams, Harvard Business Review, 111–120.
  • Knight Higher Education Collaborative, (1996, February), Double agent, Policy perspectives, 6(3).
  • Leaming, D. R. (1998), Academic leadership: A practical guide to chairing the department, Bolton, MA: Anker.
  • Lucas, A. F. (1994), Stengthening departmental leadership: A teambuilding guide for chairs in colleges and universities, San Francisco, CA: Jossey-Bass.
  • Lucas, A. F., & Associates (2000), Leading academic change: Essential roles for department chair, San Francisco, CA: Jossey-Bass.
  • Massy, W. F. (2001, July/August), Making quality work, University Business, 4, 44–50.
  • Massy, W. F., Wilger, A. K., & Cobeck, C. (1994, July/August), Overcoming “hollowed” collegiality, Change, 26 (4), 10–20.
  • Seagren, A. T., Creswell, J. W., & Wheeler, D. W. (1995), The department chair: New roles, responsibilities, and challenges, ASHE-ERIC Higher Education report, No. 1, Washington, DC: George Washington University, Graduate School of Education and Human Development, (ED 363 164).
  • Tucker, A. (1993), Chairing the academic department (3rd ed.), Washington, DC: American Council on Education/Oryx.
  • Walvoord, B. E., Carey, A. K., Smith, H. L., Soled, S. W., Way, P. K., & Zorn, D. (2000), Academic departments: How they work, how they change, ASHE-ERIC Higher Education Report, 27 (8), San Francisco, CA: Jossey-Bass.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤