الفصل الخامس

أنماط الشخصية لها أهميتها

خلال الثلُث الثاني من حملي الثالث، ذهبنا أنا وزوجي إلى المستشفى المحلِّي من أجل فحصٍ روتيني بالموجات فوق الصوتية للاطمئنان على صحة الجنين. ولما كان لدينا صبيان، فقد كنا في حالة من النشوة حين عرفنا أن الطفل الجديد فتاة.

لكن عندئذٍ أخبرنا الطبيب بخبرٍ غير سارٍّ؛ فقد كشفت الموجات فوق الصوتية عن بقعٍ على جزء من المخ تدلُّ على أن الطفلة معرَّضة للإصابة باضطراب جيني خطير؛ ألا وهو تثلث الكروموسوم ١٨. إذا كانت مصابة بهذا الاضطراب فعلًا، فستجد صعوبة في اكتساب الوزن وسيكون من المحتمل جدًّا أن تموت قبل عيد ميلادها الأول.

بمجرَّد أن دخلنا السيارة انفجرت في البكاء. إذ لم أرَ بعين خيالي سوى أنني سأظل أحمل هذه الطفلة طوال ما تبقى من فترة الحمل وأنا أعلم أنها ستموت. لم أستطِع أن أتصوَّر عاقبة سعيدة ولم أستطِع عندئذٍ التحدُّث عن حملي من دون البكاء.

استجاب زوجي لهذا الخبر الذي قد يكون مُفجعًا بطريقةٍ مختلفة تمامًا. إذ أقلني إلى المنزل، ثم عاد بعد بضع ساعات بعدة هدايا وردية اللون — دثار وبيجامة أطفال ودمية دبٍّ صغيرة — وقال لي: «هذه الطفلة ستصير على ما يرام.» فقد دفعته طبيعته المتفائلة لتصور النتائج السارة فحسب. (وللعلم، كان وزن هذه الطفلة عند الولادة أكثر من ثمانية أرطال وهي الآن فتاة في الرابعة عشرة موفورة الصحة وإن كانت عنيدة بعض الشيء.)

أقصُّ عليكم هذه القصة لأدلل على الدور الكبير الذي تلعبه الشخصية في طريقة التفكير التي نتبنَّاها. أجل، تلمُّ بنا جميعًا الأحداث المزعجة — مثل علاقة عاطفية فاشلة، أو نتيجة محبطة في العمل، أو مُشادَّة مع صديق، أو نبأ طبي مفزع. لكننا نستجيب للأحداث المكدرة بطرقٍ مختلفة تمامًا.

فبعض الناس، مثل زوجي، يبدون كأنهم لديهم قدرة سحرية على رؤية الجانب الإيجابي في أي موقف. ربما سمعتُم النكتة التي تحكي عن الفتى الشديد التفاؤل، الذي حين تلقى في الكريسماس كمية هائلة من براز الخيل، صاح قائلًا: «لا بد أنني سأجد حصانًا في مكانٍ ما في الهدية!»

وناس آخرون، ومنهم أنا، لا يعثرون على الجانب الإيجابي من تلقاء أنفسهم. وإنما نظلُّ مهووسين بالأحداث الرديئة في حياتنا الماضية ونجترُّها، ونتخيَّل أسوأ العواقب الممكنة في حياتنا المقبلة. ولا شكَّ أن هذا ليس الأسلوب الأمثل للشعور بالطمأنينة.

في هذا الفصل سأشرح لماذا أصحاب المواقف الذهنية الأكثر إيجابية هم الأكثر سعادة بصرف النظر عن ظروفهم الحياتية. وإن كانت طريقة التفكير الإيجابية لا تأتيك تلقائيًّا، فسوف يَسرُد الجزءُ الأخير من هذا الفصل استراتيجياتٍ يمكنك استخدامها لتتبنَّى نظرةً أكثرَ تفاؤلًا وتعيش حياةً أكثرَ سعادة.

قوة التفكير الإيجابي

تأمَّل وقتًا كنت تَنعم فيه بمزاج رائق بحق. ربما لاحظت أنك حين تشعر بالسعادة، لا تنزعج من المكدرات اليومية الصغيرة — فلا يُثير أعصابك الزحام المروري، ولا صفوف الانتظار الطويلة، ولا الناس المزعجة. لا شك أنها من المنغِّصات الشائعة، لكن شعورك بالرضا يساعدك على التأقلم مع هذه الألوان من الأحداث. فربما تتكيَّف مع الصف الطويل في متجر البقالة بتصفُّح مجلة، أو تستمتع بقضاء أمسية هادئة لم تكن تنتظرها بعد أن ألغى صديقك عشاءً مُرتقبًا في آخر دقيقة بمشاهدة التلفزيون. هذه كلها أمثلة لنرى كيف يُساعدنا الشعور بالسعادة على التأقلم وأن نظل إيجابيين، مهما يكن من أمر.

رغم أننا جميعًا نشعر بالسعادة أحيانًا، بعض الناس، مثل زوجي، يَمضون في الحياة بصدر مُنشرِح بالفطرة. يسير هؤلاء الناس في الحياة متوقِّعين أن الأمور ستئول إلى مصلحتهم ويجدون النظر إلى الإيجابي سهلًا نسبيًّا. (هذه القُدرة على استشراف العواقب الإيجابية فقط تُجسِّدها بوضوح قصةُ سيجموند فرويد عن الرجل الذي قال لزوجته: «إذا كان لا بدَّ أن يموت أحدنا، فسوف أنتقل إلى باريس.»)1 كما أنهم مَرِنون؛ أي إنهم يتعافون من التجارب السلبية بسلاسة نسبيًّا.
ليس من المستغرب أن الناس الذين يتبنَّون هذا النوع من المواقف الذهنية الإيجابية يتمتعون برفاه نفسي أفضل، يشمل ذلك عددًا أقل من أعراض القلق والاكتئاب. هذه القدرة على رؤية الكوب نصف ملآن دائمًا تعني أنهم على أتمِّ الاستعداد للاستجابة لتحديات الحياة. بالتالي فإنهم قادرون على التهوين من تِبعات ظروف حياتية بالغة الصعوبة، مثل التشخيص بالسرطان أو وفاة زوج.2 فإننا مثلًا نجد مستوياتٍ أقل من إجهاد ما بعد الصدمة لدى أصحاب الرؤى المُتفائلة في الحياة بعد النجاة من حوادث إطلاق النار في المدارس.3
لكن مما يُبشِّر بالخير هو أنه مهما كانت ميولنا الفِطرية، فإننا جميعًا نستطيع بالتعوُّد أن نتطور للأفضل في الاستجابة لتحديات الحياة بطُرُق أكثرَ إيجابية. فإن تعلُّم استراتيجيات تبنِّي طريقة تفكيرٍ أكثرَ إيجابيةً والتمرُّنَ عليها يغيِّر مسارات عصبية في المخ فيصير هذا النوع من الاستجابات التكيفية طبيعيًّا أكثر. ومثلما ذكرت باربرا فريدريكسون، عالِمة النفس في جامعة نورث كارولاينا في بلدة تشابل هيل: «أن نمضي الوقت في تعلُّم مهارات استدعاء المشاعر الإيجابية ذاتيًّا من المُمكِن أن يساعدنا على أن نصير بصحةٍ أفضل واجتماعيين أكثر وأشد مرونة عما كُنا.»4

إننا غالبًا ما نَفترِض أن المرور بأحداثٍ سلبية يُؤدِّي إلى شعورنا بالاستياء. ورغم أنه صحيح أن تجارب الحياة المحبِطة والمُزعجة من الممكن أن يكون لها تبِعات قصيرة وطويلة الأجل على سعادتنا، فإنَّ المُهم بحق ليس التعرُّض لتلك الأحداث وحده وإنما بالأحرى طريقة استجابتنا لها، أو رؤيتنا لها. باختصار، حتى حين يمرُّ الناس بالحدث نفسه بالضبط، فإن ما يؤثِّر على شعورهم أبلغ تأثير هو طريقة استجابتهم له ورؤيتهم له.

فلنبدأ إذن بتحرِّي ما يفعله المتفائلون فطريًّا للحفاظ على رؤاهم الإيجابية. وكما سأُبيِّن في هذا الجزء، ثمَّة اختلافات جذرية في الطريقة التي يرى بها الناس المُنغِّصات اليومية العادية وتجارب الحياة الأكثر خطورة وطريقة استجابتهم للاثنين.

لا تقف مكتوفَ اليدين

الذين يعيشون الحياةَ بنظرة إيجابية يواجهون المنغِّصات ويستجيبون لها في الحال. حين يجدون أنفسهم حيالَ عدد هائل من المهام، يجلسون ويضعون خطةً لتولي كلِّ مُهمَّة على حدة. وحين يدخُلون في جدال مع زميل أو صديق، بمجرَّد أن يهدأ انفعالهم يبادرون بالذهاب ويُحاولون حل المسألة.

يساعد اختيارُ مواجَهة المُشكلات مواجَهةً مباشرة في التغلُّب على المُشكلة، أو على الأقل التخفيف من حدتها. فربما يتقلَّص حجم جدول المهام، أو يزول التوتُّر الناشئ عن الخلاف. المُتفائلون سريعو التعافي من العمليات الجراحية، وهو ما يَرجع إلى حدٍّ ما إلى أنهم يبحثون عن معلومات عما ينتظرهم.5 وتمنحُهم هذه المعلومات استراتيجيات واقعية وعملية للاستعداد للإجراء والتعافي منه، وهو ما يسرع بطبيعة الحال من شفائهم.
حتى حين تبدو الظروف مقبضةً وميئوسًا منها، يستمر أصحاب المواقف الإيجابية في الحياة في سعيهم ومثابرتهم. وكما وصف الأمرَ الناشطُ الجنوب أفريقي والرئيس الأسبق، نيلسون مانديلا حين قال:
إنني مُتفائل حتى النخاع. لا أعلم ما إذا كان ذلك راجعًا لطبيعتي أو نشأتي. من التفاؤل أن تظلَّ شاخصًا ببصرِك صوب الشمس، متقدمًا بخطواتك للأمام. لقد مرَّت عليَّ لحظاتٌ حالكة عديدة حيث تضعضعت ثقتي في البشرية للغاية، لكنَّني لم أستسلم لليأس ولم تُطاوعني نفسي على ذلك. فذلك السبيل يورد الفشل والموت.6

أما أصحاب المواقف الأكثر سلبية في المقابل فإنهم يتوقَّعون عواقبَ سيئة؛ لذلك فإنهم يستسلمُون عند مواجهة موقف صعب. قد يتجاهلون المشكلات ويأمُلون فقط أن تزول — وبذلك تطول قائمة المهام ويمتدُّ الخلاف. هكذا يَحرِمهم أسلوب «دفن الرأس في الرمال» هذا من معلوماتٍ عملية يحتمل أن تساعدهم في تحسين الموقف. كما أن اعتقادهم أن لا شيء يتطور للأفضل يعوق قدرتهم على المبادرة. فإنهم بعد وفاة شخص عزيز مثلًا قد يُدركون دون تحيُّز أن الانضمام إلى مجموعةِ دعم المفجوعين سيكون مفيدًا لكنهم لا يفعلون ذلك أبدًا في الواقع.

أصحاب النظرات الإيجابية يسهُل عليهم المضي قُدمًا حتى في أوقات الضغط النفسي؛ لأن لديهم شبكاتِ دعمٍ اجتماعية قوية، تضمُّ عددًا أكبر من الأصدقاء وعلاقات أقوى.7 وهذا بديهي؛ فأغلبنا يُفضِّلون قضاء الوقت مع ناسٍ متفائلين سعداء على قضائه مع شخصيات كئيبة وسلبية على الدوام. وهذه الشبكات الاجتماعية الجيدة تساعدهم بدورها على التخفيف من الآثار السلبية لمُنغِّصات الحياة اليومية. حين تقع أحداث بغيضة، يدرك الناس الذين يدعمهم أصدقاؤهم وأسرتهم جيدًا أن باستطاعتهم الاتكالَ على أحبائهم للحصول على العون. ونتيجة لذلك، تمرُّ هذه الأحداث أقل وطأة بكثير. بل وتساعد المستويات المرتفعة من الدعم على التأقلم حتى عند مواجهة أحداثٍ جسام، مثل التشخيص بالسرطان والكوارث الطبيعية.8

ابحث عن الجانب الإيجابي

الناس الذين يواجهون الحياةَ بنظرة إيجابية لديهم قدرة هائلة على العثور على جانبٍ طيب في أي موقف. وهذه القدرة على رؤية الكوب نصفَ ملآن تمكِّنهم من التأقلُم مع الأحداث السلبية والعثور دائمًا على منحةٍ سحرية في المحنة.

ابني الأكبر، أندرو، لديه موهبة واضحة في هذا النوع من التفكير الإيجابي. كان أندرو وهو في الصف التاسع ضعيفًا في مادة اللغة الإسبانية؛ إذ كانت درجته في منتصف فصل الخريف الدراسي ٥٠. وكنت مهمومة إلى حدٍّ ما بهذا الأمر إلى أن اتصل بي أندرو في نهاية الفصل وقال إن لديه خبرًا سعيدًا بشأن مادة اللغة الإسبانية. لكن حين أفصح أندرو مزهوًّا عن أن درجته كانت ٥٨، لم يكن ذلك بأي حال من الأحوال الخبر السعيد الذي كنتُ أتوقَّع سماعه.

إلا أن أندرو لم يكن مُنزعجًا وأشار إلى أن هذه الدرجة كانت أعلى من متوسِّط درجته في اختبار منتصف الفصل بثماني درجات. وحين ذكرت أن ٥٨ هي الأخرى تعني رسوبه، أجاب أندرو بتفاؤله المعهود أنها بالأحرى أقربُ لدرجة النجاح. ثم ذكرته، ربما بعد أن صرتُ أقلَّ هدوءًا في هذه المرحلة، بأنني أستاذة جامعية، وأنه لا يوجد ما يسمَّى تقديرًا أقرب للنجاح. لكنه أشار مرة أخرى إلى أن مساره — أي تحسُّن ثماني الدرجات — يُوحي بأنه سيحصل على ٦٦ في نهاية الفصل الدراسي الثاني.

من الواضح أن أندرو ماهرٌ في رؤية كل الأشياء من منظور مُتفائل، فرغم أن درجته في اللغة الإسبانية محبِطة تمامًا، فإن تفسيره لدرجته القريبة من النجاح مشجِّع تمامًا في واقع الأمر. فمن الجلي على كل حال، أن الشخص الذي يمكنه الاتصال بمنزله بخبر سعيد لحصوله على ٥٨ هو شخص لديه قدرة مُذهِلة على إيجاد الجانب المشرق.

تؤكِّد الأبحاث التجريبية الفوائد الجمَّة لهذا النوع من الرؤى المتفائلة. ففي إحدى الدراسات، أتى الباحثون ببعض الرفاق المتحابِّين وأخبروهم أنهم سيحلُّون الاستبيان نفسَه بالضبط لتبيُّن ما إن كان الناس المرتبطون بعلاقة عاطفية يرى كلٌّ منهم الآخرَ بنفس الطريقة.9 جلس كل اثنين يواجه كلٌّ منهما الآخرَ على طاولة صغيرة، وتسلَّما ما بدا أنها استبيانات متطابقة. كانت الاستبيانات في البداية متطابقة بحق؛ إذ سألت الصفحة الأولى في كل استبيان عن المكان الذي التقى فيه الاثنان وكم مضى على علاقتهما.

إلا أن الباحثين ضمَّنوا الصفحةَ الثانية تحوُّلًا فارقًا. إذ طُلب من أحدهما في هذه الصفحة أن يدوِّن كل الأشياء التي يبغضها في رفيقه. وطُلِب من الآخر أن يكتب كلَّ شيء في حجرته بالمسكن الجامعي أو مخدعه أو شقته؛ كذلك طُلِب منهما أن يذكرا على الأقل ٢٥ شيئًا.

والآن تأمَّلوا لبرهة شعورَ الشخص الأول، الذي سُئل أن يُدوِّن أشياءَ يَبغضها في رفيقه واعتقد أن رفيقه أُمليَت عليه نفس التوجيهات. وكان عليهم مشاهدة رفقائهم وهم يكتبون على عجل منكبِّين لملء السطور، مفترضين أنهم يبغضون فيهم أشياء متعدِّدة، ٢٥ على الأقل.

في النهاية طُلِب من كل شخص أن يُحدِّد مشاعره تجاه رفيقه ومقدار رضاه عن علاقتهما العاطفية.

لم تكن النتائج التي توصَّل إليها الباحثون مثلما قد نتوقَّع تمامًا. فالأشخاص الذين لم يكونوا راضين تمامًا عن أنفسهم، أدَّى اعتقادهم أن لدى رفقائهم رأيًا سلبيًّا فيها إلى مستويات متدنية من الرضا والحميمية. هذه النتيجة منطقية؛ فأغلبنا سنَشعر بشيء من الإهانة إن اعتقدنا أن رفيقنا يرى فينا نقائص كثيرة جدًّا.

أما أولئك الراضون عن أنفسهم، أي المُقبلون على الحياة بهذه النظرة الإيجابية، فقد كانت نتائجهم على النقيض من ذلك. فإن اعتقادهم أن رفيقهم لديه قائمةٌ طويلة من الشكاوى ضدهم أدَّى لمشاعر أكبر بالقُرب والحميمية. لماذا؟ حسنًا، ما زال رفيقهم على علاقته بهم، إذن فلا بد أنه يحبهم حبًّا شديدًا ليبقى معهم، على كل نقائصهم، ربما هذا الشخص هو توءمهم الرُّوحي بحق؟ بعبارة أخرى، يستطيع أولئك المعتزون بذاتهم أن يتناولوا ما أجدر أن يكون في الواقع تجربة عاطفية فاشلة ويجدوا شيئًا طيبًا. وهذه القدرة على رؤية الجانب الإيجابي — في كل المواقف — تمنح قدرًا أكبر من الرضا عن العلاقة.

هوِّن على نفسك

راندي باوش، أستاذ علوم الكمبيوتر في جامعة كارنيجي ميلون، كان في الخامسة والأربعين حين شُخِّصت حالته بسرطان البنكرياس. وبعد الخضوع لعلاجاتٍ غير موفَّقة طوال عام، أخبره الأطباء أن المرض فتَّاك، وأنَّ له أن يتوقَّع من ثلاثة لستة شهور فقط يظل فيها «مُتمتعًا بالعافية».

بعد أقل من شهر من تلقِّي هذا الإنذار المشئوم، ألقى باوش خُطبة مشرقة وملهمة بعنوان «المحاضرة الأخيرة»؛ حيث أفصح عن حكمته المعتبَرة عن الاستمتاع بالحياة لأقصى حدٍّ. كان من نقاطه الرئيسية إدراك فائدة المتعة المحضة. فكما أفاد: «لا تستهينوا أبدًا بفائدة الاستمتاع. فإنني أُحتضَر لكنَّني مستمتع. وسوف أظل أستمتع كلَّ يوم لأنه لا يُوجد سبيلٌ آخر للعيش.»10

توضِّح رسالة باوش بدقة كيف يتعايش المتفائلون، حتى وهم يواجهون ظروفًا مشئومة تمامًا. فإنهم ينتبهون إلى ما يَملكُون السيطرة عليه — الاستمتاع بوقته في حالته — ولا يستغرقون في الحزن والندم.

هذه القدرة على التغاضي عن الأشياء تُساعد الناس على الاحتفاظ برؤيةٍ إيجابية، لا سيما حين لا يملكون أي سيطرة مطلقًا على الموقف؛ ومن ثَم لا يستطيعون الإقدامَ على إصلاحه أو حله. أما أولئك الذين لا يملكون هذه النزعة الفطرية، في المقابل، فإنهم غالبًا ما يتخبَّطون في أفكارٍ سلبية عند مواجهة الأحداث الخطيرة، وإن كانت خارجة عن سيطرتهم.

تحرَّى الباحثون في واحدة من الدراسات ردودَ أفعال الناس تجاه إحدى الكوارث الطبيعية المحلية الكبرى — زلزال لوما بارييتا عام ١٩٨٩ قرب سان فرانسيسكو، الذي قتل ٥٧ شخصًا وسبَّب دمارًا ماديًّا ضخمًا.11 أفاد بعض الأشخاص بأنهم نزعوا إلى إلهاء أنفسهم عن المشاعر السلبية حيال الكارثة بالمرح مع أصدقائهم أو الذهاب إلى مكانٍ محبَّب لإبعاد الحدث عن أذهانهم. وأفاد آخرون بأنهم مالوا إلى التفكير باستغراق في الكارثة؛ بأن ظلوا يُفكرون مرارًا في لحظة وقوع الزلزال والأشخاص الذين لقُوا حتفَهم وما قد يحدث في الزلزال التالي.

بعد شهرين، تقصَّى الباحثون أحوال الأشخاص في المجموعتين ليتبيَّنوا ما آلت إليه. مثلما توقَّعتم على الأرجح، أدَّى الانغماس في التفكير في هذه الكارثة إلى تدهور أحوال المنغمسين. فقد عانى الأشخاص الذين أمعنوا في تأمل الجوانب السلبية للزلزال أعراضَ الاكتئاب واضطراب كرب ما بعد الصدمة أكثر مما عاناه الذين لم يُمعنوا في تلك الأفكار.

بل ومن الممكن حتى أن يؤدِّي الإمعان باستمرار في الأفكار السلبية مع الوقت إلى اكتئاب سريري. فعلى سبيل المثال، كان المُستغرقون في الحزن بعد وفاة شريك حياتهم بمرضٍ فتاكٍ أكثرَ عرضةً للإصابة بالاكتئاب بعد ستة شهور، حتى حين وُضع في الاعتبار مستوى الدعم الاجتماعي والتشاؤم والنوع الجنسي وسائر مكدِّرات الحياة.12 فإن مَن ينغمسون في تأمُّل الأحداث المأساوية أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب السريري من الذين لا يفعلون ذلك بأربع مرات (٢٠ في المائة مقابل ٥ في المائة).13
من الممكن أيضًا أن يؤدي هذا النوع من التردُّد بين الأفكار السلبية إلى أعراض جسدية.14 فالنساء المصابات بسرطان الثدي اللواتي يشتكين من أفكار سلبية مُلحَّة لا يظهر عليهن الاكتئاب بمستوياتٍ أعلى فحسب وإنما يُعانين آلامًا أكثرَ وأعراضًا جسدية أشدَّ ومستوًى حياتيًّا أسوأ.
تدل هذه الحقائق على أن مجرد عدم التغافل عن الأشياء السيئة من البواعث الرئيسية على الاكتئاب. بعبارة أخرى، يظل المكتئبون متوقفين عند الأفكار السيئة، وغير قادرين فيما يبدو على إخراج أنفسهم من هذه الدائرة السلبية. وكما تقول عالِمة النفس، يوتا يورمان: «باختصار هم يظلون عالقين في موقفٍ ذهني حيث يعيشون مجددًا ما جرى لهم مرارًا وتكرارًا.»15 وكما هو متوقَّع، يؤدي اجترار الأشياء السلبية في الحياة إلى انخفاض الحالة المعنوية.

تأثير العوامل الوراثية

ها هو ذا سببٌ من الأسباب التي تجعل الناس يرون أنفسهم والعالم بطرُقٍ بالغة الاختلاف: تمتد أصول شخصيتك في جيناتك ولو جزئيًّا على الأقل؛ لذلك يسهُل على بعض الناس تبنِّي طريقةِ التفكير الإيجابية عن غيرهم. في واقع الأمر، تُفيد الأبحاث بأن جيناتنا قد تحدِّد سعادتنا بنسبة تصل إلى ٥٠ في المائة تقريبًا. فربما تسهم الجينات مثلًا في تفسير السببِ وراء أن بعض الناس أكثر تفاؤلًا، أو انبساطًا، أو حتى أكثر مرونة.

كيف تحدِّد الجينات السعادة على وجه التحديد؟ رغم أن هذا السؤال أزلي ومهم بالبديهة؛ فقد بدأ الباحثون لتوِّهم فهْم الآليات التي تفسِّر هذه الصلة.

درس الباحثون في إحدى الدراسات أكثر من ٨٣٠ زوجًا من التوائم البالغين، المتماثلين والمتآخين، لتُبيِّن دورَ كلٍّ من التكوين الجيني والبيئة في التنبؤ برفاه الأشخاص.16 أكمل المشاركون أولًا اختباراتٍ لعواملَ مُختلفة تبعث على السعادة، منها قبول الذات، والشعور بالاستقلالية، والنُّضج الشخصي، والعلاقات الإيجابية، والسعي وراء أهداف، والشعور بامتلاك زمام حياتهم.

وتفيد النتائج التي توصَّلوا إليها بأن العوامل الوراثية تتنبأ بمُقوِّمات السعادة الستة كلها. لكن تقترن العوامل الوراثية المختلفة بمقومات مختلفة. بعبارة أخرى، لا يتنبَّأ جينٌ بعينه بالسعادة، والجينات المتنوعة تتنبأ بمقوماتٍ متنوعة من مقومات السعادة.

تسهم الجينات كذلك في تفسيرِ سببِ أن بعض الناس يَمضون في الحياة بسلاسة، حتى حين تواجههم ظروفٌ صعبة، في حين يتعرقل آخرون في أفكارٍ سلبية. تحرَّت دراسة طولية عن بعض الأشخاص من ميلادهم إلى سنِّ ٢٦ عامًا لتبيِّن كيف تؤدِّي أحداث الحياة المثيرة للضغط النفسي — مثل البطالة وسوء المعاملة والإصابات المسبِّبة لإعاقات — إلى الاكتئاب.17 في حالة بعض الناس الذين لديهم تركيبٌ جيني معيَّن، مهما تعدَّدت أحداث الحياة المثيرة للضغط النفسي التي عايَشُوها، لم يكونوا أكثرَ عرضة للإصابة بالاكتئاب من أولئك الذين لم يتعرَّضوا مطلقًا لأحداثٍ مثيرة للضغط النفسي. لكن في حالة البعض ممَّن لديهم شكلٌ آخر من جينٍ معيَّن، أصاب الاكتئاب نحو نصف الذين تعرَّضوا لأربعة أو أكثر من أحداث الحياة المثيرة للضغط النفسي. كما أنهم كانوا أكثرَ عرضة لأن تخطر لهم أفكارٌ انتحارية.

بناءً على ذلك سيرى بعض الناس معلومةَ تأثير العوامل الوراثية على السعادة محبِطةً بعض الشيء. فهذا معناه على كل حال أن العثور على السعادة أسهلُ لدى بعض الناس مقارنةً بآخرين. ورغم أن هذا صحيح، فإنني أعتقد أن الارتباط الجيني بالسعادة أشبه بالأيض — أي سرعة حرق أجسادنا للسعرات الحرارية التي نستهلكها. فبعض الناس لديهم أيضٌ أعلى من آخرين، أي إنهم يستطيعون عامةً تناول كلِّ ما يرغبون فيه، لكن دون أن يزداد وزنهم. (لا أحب هؤلاء الناس، لكنهم موجودون.) وأناس آخرون ليس لديهم امتيازات الأيض السريع؛ لذلك فعليهم الانتباه بحرصٍ أكثرَ إلى ما يأكُلونه والمشاركة في تمارينَ منتظِمة حتى يحافظوا على رشاقتهم. لكن يستطيع الناس الحفاظَ على نحافتهم حتى من دون أن يكون أيضهم سريعًا، ما داموا يهتمُّون بإنجاز هذا الهدف عن طريق نظام غذائي صحي وممارسة الرياضة بانتظام.

إذن صحيح أن بعض الناس تمنحُهم العوامل الوراثية فعلًا ميزةً فيما يتعلَّق بالعثور على السعادة — فربما لا يُضطرُّون إلى بذل مجهود كبير على الإطلاق للعثور على السعادة (ربما ينسجم ابني، باحث اللغة الإسبانية، مع هذه الفئة). لكن بوسع جميع الناس أن يفعلوا أشياء في حياتهم اليومية تجعلهم أكثرَ سعادة، بصرف النظر عن الحمض النووي الخاص بهم.

خلاصة القول

يتعرَّض الكل لتحديات — سواء كانت مُشكلة صحية مزمنة، أو ظروف مالية صعبة، أو خسارة صديق، أو ما شابه. فمن المستحيل تمامًا أن تعيش الحياة مُتجنِّبًا كلَّ تلك التحديات.

لكن ما نملك السيطرة عليه هو الطريقة التي نرى بها تلك الأحداث واستجابتنا لها. وكما بيَّن راندي باوش في محاضرته الأخيرة: «إنما عليك الاختيار إما أن تكون شخصية نَمُّور أو حوَّار.» نَمُّور (شخصية كرتونية)، كما تعلمون غالبًا، نشيط ومتحمِّس وإيجابي تجاه كل الأمور. أما حوَّار فهو على النقيض مُتشائم ومغتَم ومُكتئب.

لكن مهما كانت نزعتك الفطرية، بإمكانك بالمُمارسة أن تتدرَّب على تغيير أفكارك وتحسين طبيعة حياتك، وربما تُطيل سنوات عمرك. وإنها لخطوةٌ مهمَّة واجب اتخاذها بحق، بالنظر إلى الأدلة العلمية الهائلة على أن التفكير باستمرار في أشياء سلبية واجترارها من الممكن أن يضعف قدرتنا على التفكير بوضوح، بل وقد يُؤدي مع الوقت إلى اكتئابٍ حادٍّ. كلُّ ما تَحتاجه هو بعض التغييرات السهلة نسبيًّا في طريقة تفكيرك.

انظر إلى التحديات من زاوية إيجابية

من الاستراتيجيات السهلة نسبيًّا لتغيير طريقة تفكيرنا بهدف زيادة شعورنا بالسعادة، أن نعيدَ تصوُّر تحديات الحياة اليومية بالانتباه للخيرِ فيها بدلًا من الشَّر. لدى أحد أصدقائي استراتيجيةٌ ممتازة للعثور على شيءٍ إيجابي أثناء الزحام الضروري المحبط الناشِئ عن حادثة سيارة: فإنه يذكر نفسه أنه في وضعٍ أفضلَ بكثير من الشخص الذي تعرَّض لتوِّه للحادثة.

أصحاب الرؤية الإيجابية قادرون كذلك على رؤيةِ بعض الفكاهة، حتى عند التكيُّف مع ظروفٍ صعبة. فكما وصف أرثر بروكس، كاتب العمود الصحفي في صحيفة «نيويورك تايمز» ردَّ فعلِ زوجته تجاه اجتماعٍ صعب بين الآباء والمعلمين بشأن أحد أبنائهم المراهقين، «على الأقل عرفنا أنه لا يغش.»18
العثور على الفكاهة يُساعد الناس على التكيُّف مع المكدِّرات الصغيرة في الحياة اليومية، لكنه مهمٌّ بصفة خاصة للتأقلم مع ظروف الحياة الخطيرة. فالمصابون مثلًا بالألم العضلي الليفي — وهو حالة مُنهكة ومُزمنة تتَّسم بألمٍ مُنتشِر في جميع أنحاء الجسم — الذين يعتمدون على الابتسام والضحك للتكيُّف مع مكدرات الحياة اليومية الصغيرة — مثل أن يسكب النادِل الماء عليك — يشتكون من مستوياتٍ أدنى من الضيق النفسي وأعراض جسدية أقل.19 هذه القدرة على تقبُّل الأمورِ بهدوء تُقلِّل الضغط النفسي وآثاره الفسيولوجية السلبية على الجسم، كما رأيتم في الفصل الثاني، بعبارةٍ أخرى، قد يكون الضَّحك، في بعض الحالات على الأقل، هو أفضل دواء.
في المرة القدمة حين تواجه موقفًا غيرَ سارٍّ، ابحث عن أي فائدة، مهما كانت صغيرة، وانتبِه إليها بكل طاقتك. إليك بعض الأمثلة على الطرق التي يمكن أن تبدأ بها رؤيةَ التجارب السلبية من زاوية أخرى:
  • مضطرٌّ للانتظار في المطار؟ نشتكي جميعًا من أنه لم يتسنَّ لنا قط وقتٌ لأنفسنا، فاستغِل هذه الفرصة واتَّصِل بصديقٍ أو اقرأ كتابًا جيدًا.

  • تجاوزَتك ترقية؟ هذا هو الوقت الأمثل لصقل سيرتك الذاتية أو استكشاف خيارات مهنية أخرى ربما تكون مجزية أكثر.

  • ليس لديك خططٌ لليلة رأس السنة؟ لا تحزن؛ فهي ليست ليلةً آمنة للخروج من الأساس. ولست وحدَك مَن ستقضيها في المنزل. فاستجمَّ أمام التلفزيون وشاهِد الاحتفالات في هدوء، أو ابدأ من الصباح الباكر في تنفيذ قرارك للعام الجديد، وهو أن تصير مُنظَّمًا وتوضِّب تلك الخزانة المتراكمة.

رغم أن هذه حلولٌ بسيطة لمكدِّرات صغيرة من واقع الحياة، فإن طريقة التفكير التي نتبنَّاها في مواجهتها قرارُك أنت، ورؤيتها من زاوية إيجابية ستُحدِث اختلافًا كبيرًا فيما تشعر به.

تقبَّل المشاعر السلبية — ثم تجاوزِ الأمر

أحد الفروق الرئيسية بين أصحاب التفكير الإيجابي وأصحاب التفكير السلبي هو القدرة على التغاضي عن الموقف السيئ. أصحاب التفكير الإيجابي يستطيعون؛ وأصحاب التفكير السلبي عامةً لا يفعلون. ولزيادة الطين بِلة، فإن الناس الذين يؤنِّبون أنفسهم لشعورهم بالاستياء غالبًا ما يزداد شعورهم سوءًا على سوء، ولا ريب.

سأل الباحثون في إحدى الدراسات أكثرَ من ١٣٠٠ شخص ما إن كانوا يَنزعون لتأنيب أنفسهم على أفكارهم ومشاعرهم السلبية.20 كان الأشخاص الذين يستاءون من مشاعرهم السلبية لديهم مستويات أعلى من الاكتئاب والقلق، ومستويات أدنى من الرفاه النفسي والرضا عن الحياة. فإنهم باختصار يدورون في دائرة سلبية، حيث يستاءون من أفكارهم ومشاعرهم السلبية، ثم ينغمسون في هذا الشعور بالاستياء. وسريعًا ما تصير هذه دائرة مفرغة كما يمكنك أن تتخيَّل.
تريد اختبارَ نزعتك نحو هذا النوع من السلبية؟ وضع باحثون من جامعة كنتاكي استبيانًا لليقظة الذهنية21 يمكننا تطويعه لقياس مقدارِ نزوعنا لانتقاد أنفسنا. حدِّد درجةَ اتفاقِك مع كل جملة من الجمل الواردة في الجدول التالي.
اجمع درجاتك في هذه النقاط الخمس لترى مقدارَ نزوعك إلى انتقاد نفسِك. كلَّما علتِ الدرجات زاد مقدار انتقاد النفس. إذا اكتشفت أن لديك نزعةً للاستغراق في هذا النوع من انتقاد الذات، فإن أولى الخطوات الهامة الواجب اتخاذها هي مُحاولة قبول هذه الأفكار والمشاعر، وعدم تأنيب نفسك عليها. فكما تقول بريت فورد، أستاذة علم النفس في جامعة تورنتو: «اتَّضحَ أن للأسلوب الذي نتعامل به مع ردود أفعالنا العاطفية السلبية دورًا بالغ الأهمية في حالتنا الصحية في العموم. الناس الذين يتقبَّلون هذه العواطف دون انتقادها أو محاولة تغييرها قادرون على التأقلم مع ضغطهم النفسي بنجاح أكبر.»22

من ثَم، إذا وجدت أنك تُمعن التفكير في شجار مع صديق، أو موقف صعب في العمل، أو الحالة الراهنة للسياسة الأمريكية، فجرِّب أسلوبًا جديدًا: تبيَّن هذه الأفكار والمشاعر السلبية وتقبَّلها. فقد تُحدِّث نفسك على سبيل المثال قائلًا: «أشعر بالوحدة»، أو «لست موفَّقًا في عملي.» اعترف بما تشعر به، وتقبَّله، ثم امضِ قُدمًا.

ابحث عن أصدقاء سعداء

ربما تَعرف سلفًا أن السعادةَ، مثلها مثل الإنفلونزا، مُعْدية. لدى العديد منَّا أصدقاء وأحباء يبدون دائمًا في حالة مزاجية طيبة، وترتفع معنوياتنا حين نقضي معهم الوقت.

واحدة من أوضح الدراسات التي تُؤكد تأثير سعادة الآخرين على سعادتنا تفحَّصت بيانات صادرة عن دراسة لشبكة اجتماعية كبيرة. كان الباحثون في هذه الدراسة قد جمعوا بياناتٍ من أكثر من ٥٠٠٠ شخص يعيشون في فرامينجهام، في ولاية ماساتشوستس، على مدار ٣٠ عامًا (من ١٩٧١ حتى ٢٠٠٣).23 رغم أن الدراسة كانت مصمَّمة خصيصًا لقياس عوامل الخطر المرتبطة بأمراض القلب (السِّمنة والتدخين وتعاطي الكحول)، فإن الباحثين المشاركين سألوا عن «علاقاتهم الاجتماعية» أيضًا. شملت هذه العلاقات الاجتماعية الأقارب (الوالدان والزوج والأشقاء)، والأصدقاء وزملاء العمل والجيران. سجَّل المشاركون في هذه الدراسة أسماء الأشخاص الذين تشملهم دائرة حياتهم حتى يستطيع الباحثون تقصي شبكاتهم الاجتماعية الأوسع وكذلك درجة قرب معارفهم؛ أي مدى قرب سكنهم من الشخص الذي في الدراسة. (تذكَّروا أن هذه الدراسة بدأت عام ١٩٧١، قبل أن يتمكَّن الناس من الاعتماد على الهواتف المحمولة والبريد الإلكتروني والرسائل النصية ليظلُّوا على اتصال بالأشخاص الذين يعيشون بعيدًا.)

تشير نتائج تحليل هذه الشبكة الاجتماعية إشارةً واضحة إلى أن السعادة مُعدية. بعبارة أدق، يبدو على الناس الذين يُحيط بهم العديد من الأشخاص السعداء، ارتفاعٌ في درجة السعادة مع الوقت. فعلى سبيل المثال، تزداد سعادةُ الشخص الذي يعيش على بُعد ميل من صديقٍ سعيد بنسبة ٢٥ في المائة. كما أن الزواج من شخص سعيد والعيش بجوار جارٍ سعيد والشقيق السعيد (الذي يعيش على بُعد ميل) يؤدِّي إلى ارتفاعٍ في نسبة السعادة.

بل ولعل الأعجب من ذلك حتى أنه من الممكن أن نضاعف شعورَنا بالسعادة بطريقة غير مباشرة؛ وذلك عن طريق علاقات أوسع داخل الشبكة الاجتماعية. فالصديق السعيد مثلًا يَزيد من مقدار سعادتك بنسبة ١٥ في المائة. لكن أن يكون لك صديق له صديق سعيد (حتى إن لم يكن صديقك نفسه شخصية سعيدة) فهذا من شأنه أن يَزيد من شعورك بالسعادة بنسبة ١٠ في المائة تقريبًا. وحتى العلاقات الأبعد بوسعها أن تمنحنا السعادة: أن يكون لك صديق له صديق له صديق سعيد من الممكن أيضًا أن يزيد من سعادتك بنسبة ٥٫٦ في المائة.

رغم أن تحليل هذه الشبكة الاجتماعية قد انصبَّ على مزايا أن يكون لدينا أشخاص سعداء في شبكاتنا الاجتماعية، فإنه من الممكن أن يكون تأثير هذه العلاقات بالعكس كذلك. ربما تعلمون سلفًا من تجارب الحياة أن مُخالَطة السلبيِّين من الممكن أن تجعلكم مُغتمِّين. في الجدول السابق، اقضوا دقيقتين في إعداد نوعين من القوائم: الأشخاص الذين يجعلونكم في مزاج طيب، والذين يُعكِّرون مزاجكم. ثم حاولوا أن تقضُوا مزيدًا من الوقت مع الذين في المجموعة الأولى، متى استطعتم.

في اختبارٍ مُبتكَر لقُدرة التجارب السَّلبية على الانتشار داخل الشبكة الاجتماعية، رصد الباحثون في إحدى الدراسات كيف يمكن للحزن أن ينتشر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. في هذه الدراسة بدأ الباحثون بتقييم كلٍّ من العواطف الإيجابية والسلبية المبثوثة في منشورات الناس على موقع «فيسبوك».24 ثم قارَنُوا بين تَكرار هذه التعبيرات العاطفية وكمية هطول الأمطار في مدينة صاحب كل منشور. وكما قد تتوقَّعون، يميل الناس إلى المبالغة في نشر المشاعر السلبية والتقليل من المشاعر الإيجابية، في الأيام المُمطِرة. فإن اليوم الممطر في مدينة كبيرة، مثل نيويورك سيتي يسفر عن ١٥٠٠ منشور سلبي إضافي ينشره المقيمون في تلك المدينة مقارنةً باليوم غير الممطر.

لكن ما يستدعي الاهتمام أكثرَ حتى من ذلك في هذه الدراسة أن الباحثين بعد ذلك تحرَّوا كيف يمكن لمنشورِ شخصٍ ما على «فيسبوك» أن يؤثِّر على التعبيرات التي ينشرُها أصدقاؤه في مدنٍ أخرى. تعطينا هذه النتائج مرةً أخرى دليلًا قويًّا على تأثير العدوى العاطفية داخل الشبكة. بعبارةٍ أخرى، حين ينشر شخص منشورًا سلبيًّا على «فيسبوك» يَزيد احتمال أن ينشر أصدقاؤه منشورًا سلبيًّا ويَنخفِض احتمالُ أن ينشروا منشورًا إيجابيًّا. بالعودة إلى مثال نيويورك، اليوم المُمطِر في مدينة نيويورك لا يسفر فقط عن ١٥٠٠ منشور سلبي إضافي يَنشُره الذين يعيشون في المدينة (ويتعرَّضون للمطر) وإنما عن ٧٠٠ منشور إضافي ينشره أصدقاء يعيشون في أماكن أخرى (ولم يتعرَّضوا للأمطار بالضرورة).

رغم أنك لا تستطيع دائمًا التخلُّص من الأشخاص السلبيين في حياتك — فقد يكون من أفراد الأسرة أو جارًا أو زميلَ عمل — فباستطاعتك أن تعمد إلى قضاءِ وقتٍ أكبرَ مع مَن يجعلك سعيدًا، ووقت أقلَّ مع مَن لا يفعل ذلك. وهذه الاستراتيجية نصيحة مناسِبة خصيصًا لمن لا يتبنَّون طريقةَ تفكير إيجابية من تلقاء أنفسهم. لقد بدأت هذا الفصلَ بوصفِ رؤية زوجي المتفائلة لحالةِ ابنتنا الصحية، حتى حين كنت غارقة في القلق والحزن. ربما بإمكانكم الآن أن تفهموا لماذا اخترت أن أتزوَّجه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤