الفصل السابع

تَقبل المحن: للصدمات أهمية

في ٢٧ نوفمبر عام ١٩٩٠، كان بي جيه ميلر، الطالب في الصف الثاني بجامعة برينستون، يسير عائدًا لمسكن الطلاب في وقت متأخِّر من الليل حين اتخذ قرارًا غيَّر مجرى حياته. إذ قرَّر في الساعة الثالثة صباحًا، بعد ليلةٍ قضاها في الشرب، أن يصعد لسطح قطار مكُّوكي مكهرب متوقف في الحرم الجامعي. تعرَّض بي جيه لأحد عشر ألف فولت كهربائي جعله يوشك على الموت. وقد أخذته طائرة هيلوكوبتر لمُستشفًى قريب، حيث اضطرَّ الأطباء إلى اقتطاع ساقيه من أسفل الركبتين وبتر ذراعه اليسرى من أسفل المرفق.

بعد عدة شهور من الجراحات والعلاج الطبيعي، عاد بي جيه إلى برينستون وتخرَّج مع دفعته عام ١٩٩٣. رغم أنه ظلَّ يُعاني آلامًا مبرحة، استعاد بي جيه جزءًا كبيرًا من قوَّته البدنية، بل ونافس مع الفريق الأمريكي للكرة الطائرة في بطولة الألعاب البارالمبية الصيفية عام ١٩٩٢ في برشلونة. وهو يعمل الآن طبيبًا في سان فرنسيسكو.

هذه القصة ملهِمة بحق على عدة مستويات، ولا شك أن قدرة بي جيه على التأقلم مع ذلك الحدث المأساوي تدُل على قوَّته الذهنية الجبارة. لكن بالرغم من كل الفوائد التي استفادها من هذه التجربة، والحياة الرائعة التي بناها، لا بدَّ أننا نتصور كيف كانت حياته ستصير أيسر كثيرًا من دون الاضطرار لمكابدة هذا النوع من الألم والخسارة.

غير أنك قد تندهش من رد بي جيه على السؤال الذي يدور في أذهان الكل — «إن كنت تستطيع هل تعود بالزمان وتبطِل ما حدث ليلة تلك الحادثة؟» إذ كان يجيب بالنفي. كما حدَّث مراسل لمجلة «برينستون ألومناي ماجازين» قائلًا: «لقد أسفرت عن أمورٍ حسنة جمَّة. لم أكن متطلعًا للعمل بالطب قبل الحادثة، ولا أعتقد أنني كنت سأصبح طبيب رعاية تخفيفية ماهرًا لو لم أمرَّ بتلك التجربة.»1

يتحدَّث بي جيه بحماسٍ عن الألفة السريعة التي تجمعه بمَرضاه وتعاطُفه معهم. فهو يعمل مع محاربين قدامى فقدوا أطرافهم، وأناسٍ أردتْهم الحوادث مشلولين، ويُشير إلى أن مظهره الخارجي يساعد مرضاه بالأولى. فهم يُدركون على أيِّ حال بمجرد النظر إليه حين يدخل عليهم حجراتهم في المستشفى أنه يَفهم ما عانوه.

هذه القُدرة على رؤيةِ الإيجابي في الظروف القاسية بحقٍّ تُوضِّح كيف تحدِّد طريقةُ تفكيرِنا العواقبَ. رغم أننا لا نستطيع أن نمضي في الحياة مُتجنِّبين كلَّ الخسائر، فإننا نملك سيطرة كبيرة على الطريقة التي نرى بها حتى الصدمات الأليمة. من ثَم؛ فإن معرفة السبيل لتبنِّي طريقةِ تفكير إيجابية جزءٌ أساسي من الحفاظ على مشاعر السعادة، مهما كانت الظروف.

فهْمُ النضوج الذي يعقُب الصدمة

التعرُّض لمرضٍ يُهدِّد الحياة، والأذى الجسدي، وموتُ شخص عزيز، وغيرها من الظروف الصعبة يجبرنا على أن نَنظر إلى أنفسنا والعالم بأساليبَ جديدة. من المفيد أن نعي هذه الظاهرة وأن نكون قادرين على استخدامها لتحويل التجارب المُؤسِفة إلى فرصٍ لإعادة تقييم الأمور والعثور على هدفٍ أسمى في الحياة.

رغم أنه قد يبدو من الصَّعب بشدة أن نرى أيَّ إيجابيات عند مواجهة ظروف شخصية حالكة، فمن الممكن أن نجد بعض الجوانب المفيدة في كل المواقف السلبية تقريبًا. فالعديد من الناس الذين تُشخَّص حالتهم بالسرطان مثلًا يشهدون بمرورهم بتغير في أولويات الحياة، وحياة روحانية أكثر ثراءً، وعلاقات أقوى بمن يُحبُّون. وعلى حدِّ وصف إليزابيث ألكسندر، الشاعرة وأستاذة العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا التي فقدت زوجها وهو في سن الخمسين إثر نوبة قلبية؛ إذ تقول: «علينا بطريقةٍ ما أن ندع المصائب تشكِّلنا فتجعل أرواحنا أقوى وأجمل.»2

يُعرِّف علماء النفس هذا اللون من اختيار المنظور بنُضجِ ما بعد الصدمة، أي المرور بتحوُّلات إيجابية كبرى بعد مجابهة أزمة محورية في الحياة. يحدث هذا النضج بينما يُحاول الناس استيعابَ الصدمة والتأقلُم معها، ومن الممكن أن يُفضي هذا إلى تغيُّرٍ بنَّاءٍ ومستمر.

إن كانت قد عصفت بك صدمة كبرى، فيمكنك قياس مستوى نضجِ ما بعد الصدمة من هذا الحدث باستبيانِ نضجِ ما بعد الصدمة. لإجراء صورة قصيرة من هذا الاختبار،3 أجِب على عَشْر النقاط الآتية واحسبْ مجموع إجاباتك للحصول على إجمالي درجاتك.

تُشير الدرجات المُرتفعة إلى قدرٍ أكبر من النضج الذي يعقب الصدمة. يُقيِّم هذا المقياس خمسة عناصر محدَّدة لذلك النضج: تقدير الحياة، والعلاقات بالآخرين، والتطلعات الجديدة في الحياة، والقوة الذاتية، والروحانية. كل نوع من أنواع النُّضج هذه يساعد الناس على التأقلم مع الأحداث المأساوية بطريقة إيجابية.

كما قد تتوقَّع، القادر على العثور على بعض الجوانب الإيجابية في المواقف الصعبة يحظى بعواقبَ أفضل. إذ نجد مثلًا الناس القادرة على منحةٍ في التشخيص بالسرطان وهم يشهدون بمستوياتٍ أدنى من الضيق والاكتئاب، ومستويات أعلى من العواطف الإيجابية، وتحسُّن عام في طبيعة الحياة.4 كما أنه كما عرفت في الفصل الثاني، يؤدِّي تبنِّي طريقة تفكير إيجابية في خِضَم الشدائد إلى حالةٍ أفضل جسديًّا مع الوقت. فمثلًا المراهقون الذين يُشخَّصون بمرض السكري ويستطيعون أن يرَوا بعض المزايا في هذه التجربة يلتزمون أكثرَ بنظام العلاج الذي يُوصَف لهم، وهو ما يؤدي بالتالي إلى صحَّةٍ أفضل.5
القُدرة على إدراك أن مجابهةِ ضائقةٍ شديدة يأتي بفائدة وهدف، تساعد على الحفاظ على رِباطة الجأش والتوازن، حتى حين تكون الظروف سيئة تمامًا إلى حدِّ أنه يبدو أنه لا سبيل لأن يشعر الإنسان بسعادة حقيقية. مثال على ذلك، جوردن هايتاور التي لاقت شقيقتها ذات الاثنين والعشرين ربيعًا حتفَها في زلزال ٢٠١٠ في هاييتي، فغيَّرت طريقة تفكيرها إزاء الكيفية التي عاشت بها حياتها. إذ قالت: «أدركت أن الانتظار لأعيش الحياةَ كان غباءً بما أن حياتها قد سُلبت على حين غِرَّة وقد يأتيني الدور من بعدها. فبدأت أعيش حياتي.»6 سافرت جوردن حتى الآن ٢٣ دولة، وشاهدت عشرات المسرحيات والعروض والأحداث الرياضية، وتقضي أوقاتًا ممتعة مع أصدقائها وأسرتِها. ولم تَعُد تَحمل همًّا بشأن راتبها الصغير نسبيًّا الذي تتقاضاه من عملها مدرسةً أو بشأن العيش في شقة صغيرة.
أغلبنا سيتعرَّض في مرحلةٍ ما لخسارة كبرى، لتكن وفاة شخص عزيز، أو مرضًا أو إصابة خطيرة، أو طلاقًا. فلا يمكننا أن نعيش الحياة متحاشين كلَّ التجارب البغيضة، لكن بإمكاننا اختيار أن نرى هذه التجارب البالغة الصعوبة من زاويةٍ إيجابية بالالتفات إلى ما سنَربحه، بدلًا من الذي سنخسره. وكما تقول آنا بيراردي، مديرة معهد الاستجابة للصدمات في جامعة جورج فوكس: «يخرج أغلب الناس من الصدمات وهم أكثرُ حكمة، وقد ازدادوا تقديرًا للحياة.»7

المحن تبرِز المباهج الصغيرة

بأي طريقة على وجه التحديد تُساعدنا أحداث الحياة المُثيرة للضغط النفسي على أن نتمتَّع بحياةٍ أفضل؟ التعرُّض لأحداث سلبية والخروج منها يُعزِّز من قدرتنا على إدراك الأشياء البسيطة والاستمتاع بها — شروق شمس خلاب، رواية شائقة، كأس نبيذ لذيذ. كذلك قد يُفيد التعرُّض لبعض الشدائد في تذكيرنا بأن نُقدِّر المباهج الصغيرة في الحياة اليومية، أن نتمهَّل لتأمُّل جمال الحياة.

طلب الباحثون في واحدة من الدراسات من ١٥ ألف بالغ أن يُكمِلوا اختبارًا لقياس التلذُّذ، نوع من تنظيم الانفعالات حيث يَسترسل الناس في التجارب الشُّعورية الإيجابية ويُعزِّزونها.8 (من الممكن أن تستمتع بمذاق قالب شوكولاتة لذيذ بتخيُّلك كم سيكون مذاقه طيبًا قبل أن تشرع في تناوله حتى، وتناول قطع بالغة الصِّغر لتُساعِد على بقاء المذاق لمدة أطول، وإمعان التركيز في مدى روعة مذاق الشوكولاتة في فمك.) ثم سألوا المُشاركين عن أنواع الأحداث السلبية التي مرَّت بهم، سواء كانت موتَ شخص عزيز، أو طلاقًا، أو مرضًا، أو إصابة خطيرة. رغم أن الناس الذين كانوا ما زالوا يُعانون الحدثَ أفادوا بقدرةٍ أقل على الاستمتاع بالأحداث الإيجابية، فإن الذين مرُّوا بتجارب صعبةٍ أكثر فيما مضى أفصحوا عن مستوياتٍ أعلى من التلذُّذ. بعبارة أخرى، يبدو أن المرور بتجاربَ حياتية أكثر صعوبة في الماضي، والتكيُّف معها، يعزِّز من قدرة الأشخاص على الاستمتاع بالتجارب السارة.
تسهم هذه النتائج في تفسير ظاهرةٍ مُحيِّرة — ألا وهي أن السعادة كثيرًا ما تزداد مع التقدُّم في العمر. فمع بلوغ الستين، نكون جميعًا قد مررنا بمواقف حياتية عسيرة، مثل خسارة أحباء، أو انتكاسات في العمل، أو مشكلات صحية. ورغم أننا قد نظن أن المرور بأحداث من هذه النوعية سيُؤثِّر بالسَّلب على السنوات المقبلة، ومن ثَم يؤدي بالناس إلى الشعور بالمزيد من الكآبة والعجز والتشاؤم مع التقدُّم في العمر، فلا حاجة بنا للقلق. إذ يقلُّ شعور الناس بالعواطف السلبية ويزيد شعورهم بالعواطف الإيجابية مع التقدُّم في العمر، أي إن الذين في السبعينيات والثمانينيات من العمر يفيدون بشعورهم بسعادةٍ أكبر من المراهقين!9
سأل الباحثون في دراسة أخرى ١٥٠٠ بالغٍ أعمارهم بين ٢١ و٩٩ عن أدائهم الحيوي العام، بما يشمل الوظائف البدنية والمعرفية والنفسية.10 رغم أن كبار السن أفصحوا عن مستوياتٍ أدنى في الوظائف البدنية والمعرفية كما هو متوقَّع؛ فقد أفادوا بمستويات أعلى من الصحة النفسية. بعبارة أدقَّ، كلما تقدَّم بالشخص السنُّ زادت قناعته بالحياة، وانخفض شعوره بالضغط النفسي والقلق والاكتئاب. علَّق الدكتور ديليب جيست، مدير مركز التمتُّع بالصحة في الشيخوخة في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو، بالقول: «أعرب المشاركون أن رضاهم عن ذاتهم وحياتهم أخذ يزيد عامًا بعد آخر، وعقدًا بعد عقد.»11

تسهم عواملُ عدة متنوِّعة في زيادة مقدار سعادتنا مع تقدُّمنا في العمر. لكنَّ أحد الأسباب هو أن مجابهة أحداثٍ حياتية صعبة تُغيِّر طريقة تفكيرنا، وهذا التحوُّل يجعلنا أكثرَ انشراحًا.

وفقًا للأثر الإيجابي المتعلِّق بالشيخوخة، فإن المسنين بوجهٍ عامٍّ يفضِّلون الشيء الإيجابي في مقابل الشيء السلبي ويولونه اهتمامَهم المتواصل.12 فمثلًا حين يعرض الباحثون على الناس حشدًا من الوجوه بتعبيراتٍ متنوعة، يَلتفِت الأصغر سنًّا أكثر للوجوه التي ترتسم عليها أمارات التهديد، بينما ينجذب انتباه الأكبر سنًّا تلقائيًّا إلى الوجوه المبتهِجة.13 كما أنهم يتذكَّرون الأحداث الإيجابية أكثرَ من السلبية. بعبارةٍ أخرى، ينزع المتقدِّمون في السن إلى تركيزِ انتباههم وذاكرتهم بإمعانٍ على الأشياء الطيبة، بينما يميل الأصغر سنًّا إلى التركيز على الأشياء الرديئة. في رأيك، أيُّ نوع من التركيز يؤدي إلى سعادةٍ أكبر؟
يتجلَّى تحوُّل طريقة التفكير هذه في الكيفية التي يعالج بها مخُّنا الأحداثَ بأنواعها المختلِفة. فعلى سبيل المثال، عرض الباحثون في واحدة من الدراسات على مجموعتَين من الناس، من سن التاسعة عشرة إلى الحادية وثلاثين، ومن سنِّ الحادية والستين إلى الثمانين، صورًا بينما كانوا بداخل جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي.14 كانت بعض الصور تُعبِّر عن تجاربَ إيجابية، مثل مُتزلِّج أثناء فوزه بسباق، وعرضت صور أخرى تجارب سلبية، مثل جنديٍّ جريح. وقاس الباحثون نشاط المخ ليَروا ما إن كان السن أدَّت إلى اختلافٍ في طريقة استيعاب هذه الصور.

على عكس ما توقَّعوه، لم يكن ثمَّة اختلافٌ بين المجموعتين عند رؤيةِ الصور السلبية، على المستوى العصبي على الأقل. لكن حين شاهدتِ المجموعةُ الأكبر سنًّا الصورَ التي عرضت تجاربَ إيجابية، نُشطت كل من المناطق التي تختص بالمشاعر (اللوزة الدماغية) والذاكرة (الحُصَين). هذا يدُل على أن كبار السن استوعبوا الأحداث الإيجابية بشدة؛ فقد كانت مناطق المخ التي تعالج الأشياء الطيبة كأنها تقول «تذكَّر هذا.» لم يُرصَد هذا النوع من النشاط في المجموعة الأصغر سنًّا.

إذن فإننا مع التقدُّم في السن نصير أفضلَ في الانتباه إلى الأشياء الطيبة وتجاهل الأمور الرديئة، وهذا التغيُّر في طريقة التفكير يجعلنا نشعر بسعادةٍ أكبرَ بالطبع. ومثلما وصف ألفين مان، البالغُ من العمر ٩٤ عامًا، استراتيجيته لشيخوخةٍ أفضل لصحيفة «نيويورك تايمز»: «بالتأكيد يرتبط الأمر إلى حدٍّ ما بالعلوم الطبية، لكن الجانب الأهم أن نعيش حياةً خالية من القلق؛ فلا نسمح لشيء لا نملك السيطرة عليه أن يزعجنا على الإطلاق.»15

المِحَن تنمِّي مشاعر التعاطف

في ١٥ أبريل ٢٠١٣، كان كارلوس أريدوندو يشاهد ماراثون بوسطن حين سمع انفجارًا مدويًا. رغم أنه لم يكن يدري ما إذا كانت ستقع انفجاراتٌ أخرى؛ فقد هُرع في الحال نحو رجل كانت ساقاه تنزفان بشدة. فصارت صورة كارلوس، الرجل الذي يعتمر قبَّعة رعاة البقر، وهو يدفع جيف باومان على كرسي متحرك من الصور الرمزية للبطولة التي شُوهدت في ذلك اليوم.

ما الذي دفع كارلوس إلى التصرُّف على الفور دون روية، مُعرِّضًا حياته للخطر؟ أغلب الظن أن تجربته الشخصية مع المصائب كان لها دور. فابن كارلوس البكري، جندي المارينز، لاقى حتفَه عام ٢٠٠٤ في العراق. ومات ابنه الأصغر الذي أُصيب باكتئاب حاد إثر هذا المُصاب مُنتحرًا عام ٢٠١١. من المحتمل أن تكون هذه المآسي قد عزَّزت قدرته على التعاطف مع الآخرين والإقبال على أعمال خير يُنقِذ بها حياة الآخرين.

هذا النوع من التعاطف بين الذين خبروا خسارات كبرى ليس بالشيء غير المألوف. إذ تُدلِّل أبحاثٌ طولية على أن العديد من الناس الذين يموت لهم زوجٌ بسرطان الرئة تظهر تغيراتٌ كبرى على شخصيتهم.16 من بين هذه التغيرات تنامى حبُّ الاختلاط بالآخرين وأهليتهم لثقة الغير وكذلك الآراء الاجتماعية الإيجابية. في الواقع، يُبدي نحو ٤٠ في المائة من الأزواج المفجوعين ارتفاعًا كبيرًا في توجُّههم نحو أفعال الخير.
تكشف أبحاثٌ معملية عن نتائج مشابهة تتعلَّق بتعزيز المِحن للسلوك الاجتماعي الإيجابي. فقد تحرَّى الباحثون في واحدة من الدراسات، مثلًا، مقدارَ ما تعرَّض له بعض الناس من النوازل وكذلك مستويات التعاطف والشفقة لديهم.17 ثم أتاحوا للمشاركين في الدراسة الاختيار بين الاحتفاظ بكل المال الذي دُفع لهم مقابل الاشتراك في الدراسة أو التبرُّع ببعض مُكتسباتهم للصليب الأحمر. وكما هو متوقَّع، كان الناس الذين تعرَّضوا لأحداثٍ سلبية أكثر في حياتهم، وبالتالي أمكنهم التعاطف مع الآخرين المحتاجين لتلك المساعدة، أكثر إقبالًا على التبرع.

لكن لتظلوا مُتذكِّرين أن التعافي من الصدمة يستغرق وقتًا. ففي أعقاب معرفةِ كارلوس أريدوندو مقتلَ ابنِه الأكبر مباشرةً أصابه غمٌّ عظيم، حتى إنه لجأ إلى علاجِ حزنه علاجًا نفسيًّا داخل مصحة. وقدرته على إظهار قدرٍ هائل من الشجاعة والتعاطف خلال هجمات ماراثون بوسطن لم تأتِ إلا بعد مرور بعض الوقت، وبعد أن تصالح مع خسارته.

المِحَن تنمِّي المرونة

لعل الأمر الأهم أن قدرًا مُتناميًا من الأبحاث يشير إلى فوائد المحن في تعزيز مرونة الأفراد؛ أي قدرتهم على التفاعل مع التجارب السلبية على نحوٍ مَرِن وبنَّاء. يبدو أن الأحداث المعاكسة تمدُّ الناس بفرصٍ للاعتياد على التأقلم مع الصدمات، ومن ثمَّ ابتكار استراتيجيات مفيدة للسيطرة على الخسائر المستقبلية على نحوٍ عملي.

إليكم مثالًا بسيطًا على فوائد التعرُّض لحدثٍ صعب وإن كانت صعوبته منخفضة نسبيًّا. درس الباحثون في إحدى الدراسات تأثيرَ رحلة بحرية في نيوزيلاندا استمرت ١٠ أيام على القدرة على التأقلم لدى مراهقين.18 تعرَّض المراهقون لظروف صعبة، منها بذل مجهود بدني شاق، ودُوار البحر، والطقس السيئ، والظروف المعيشية المزدحمة، والمهام اليومية الممتدة. قيَّم الباحثُون مستويات المرونة لدى الطلاب أثناء الرحلة وقيِّموها مرة أخرى بعد خمسة شهور، ثم قارنوا بين مستويات المرونة هذه ومستويات المرونة لدى طلاب بالجامعة لم يُشاركوا في مثل تلك الرحلة.

كانت الفروق في مستويات المرونة بين هاتين المجموعتين طويلة الأمد. فقد أدَّى التعرُّض لظروف قاسية، مصحوبة بالعلم بأن الشخص لديه القدرة على التأقلُم مع هذه التحديات، إلى مستوياتٍ أعلى بكثير من المرونة مقارنةً بطلاب الجامعة الذين لم يذهبوا في رحلة مثل تلك. على هذا النحو، يبدو أن التجارب المجهِدة «تحصِّننا» من الضغوط المقبِلة. فإننا نتعلَّم من التجربة أن لدينا البأس لعبور التحديات الصعبة ويصير هذا الاعتقاد عظيمَ الفائدة حين نتعرَّض لمكدِّراتٍ أخرى فيما بعدُ في الحياة اليومية.

هذا، ومن المسلَّم به أن الضغط النفسي الناجم عن سفر المغامَرات لا يُماثل تمامًا الضغوط النفسية الصعبة التي تُواجهنا في الحياة اليومية. لكن ضغوط عالم الواقع، وحتى مآسيه، تَمنحنا مزايا مماثلة من حيث تعليمنا المرونة.

فمثلًا تابع الباحثون في دراسة أخرى واسعة النطاق نحو ٢٠٠٠ بالغ من سن ١٨ حتى ١٠١ لعدة سنوات لتقييم كيف تغيَّرت حالاتهم بمرور الوقت.19 دوَّن المشاركون أيَّ أحداث محورية مجهِدة تعرَّضوا لها قبل بدء الدراسة، ثم أي أحداث جديدة طرأت. شملت هذه الأحداث الطلاق، وموت شخص عزيز، والأمراض العُضال، والكوارث الطبيعية. ثم قيَّم الباحثون العلاقة بين عدد الأحداث المجهِدة والرفاه النفسي بوجه عام.

ربما تتوقَّع أن يكون الناس الذين تحاشَوا الضغوط الشديدة هم الراضون أكثرَ عن الحياة. لكن في الواقع لم يكن المتمتعون بحياة خالية نسبيًّا من الضغط النفسي أكثرَ سعادة ممَّن تعرضوا لأحداث محورية متعدِّدة بلغ عددها ١٠ أحداث. من كان الأكثر سعادة؟ إنهم أولئك الذين تعرضوا لبعض الأحداث الصعبة (اثنان حتى ستة) وليس عددًا كبيرًا جدًّا من تلك الأحداث.

تشير هذه النتائج إلى أن المرونة لا تأتي بالصدفة، لأغلبنا على الأقل. وإنما نصير أقدرَ على التعافي من الأحداث الصعبة بالتمرُّن. فالناس الذين استطاعوا أن يتجنَّبوا المنغِّصات الكبرى لم تتسنَّ لهم فرصة تنمية هذه المهارات؛ مِن ثَم فإنهم عند وقوع المشكلات يجدون صعوبةً في التكيف معها. تسهم هذه النتائج في تفسير النتيجة المخالِفة للتوقُّعات التي تشير إلى أن المصابين بمرضٍ عصبي خطير من المترمِّلين يشعرون بمعدلات أعلى من السعادة من المتزوجين.20 باختصار، يساعد التعرُّض لخسارةٍ كبرى سلفًا الناسَ على تنمية استراتيجيات تكيفية للتعايش مع ما يطرأ من منغِّصات الحياة؛ مثل أن تُشخَّص حالتهم بمرض يهدِّد حياتهم مثلًا.
تُعطي هذه الأبحاث دليلًا قاطعًا على أن ما لا يكسِرُنا يزيدُنا صلابة ولا شك. تقول روكسان كوهين سيلفر، عالِمة النفس في جامعة كاليفورنيا، إرفين: «كلُّ حدث سلبي يواجهه الإنسان يؤدي إلى محاولةٍ للتكيُّف، مما يحمل الناس على الاطلاع على قدراتهم، والداعمين لهم من معارفهم — يعلمون مَن أصدقاؤهم الحقيقيون. ونعتقد أن ذلك النوع من المعرفة بالغُ الأهمية للتمكُّن من التأقلم فيما بعدُ.»21
لكن ليَبقَ في أذهانكم أنَّ هناك بالطبع حدودًا لفائدة المِحَن. فبرغم كل شيء، كان الأشخاص الذين تعرضوا لعدد كبير من تلك الأحداث في حالٍ أسوأ من الذين مرَّ بهم عدد معقول من تلك المواقف. إليزابيث سمارت، التي اختُطفت من منزلها في ولاية يوتا في سن الرابعة عشرة وأمضَت تسعة شهور تعرَّضت خلالها للإيذاء البدني والنفسي قبل إنقاذها كتبت معقِّبة: «إنني أقوى مما كنت سأُصبح. لكنَّني لا أتمنى لأحد أن يمرَّ بهذه التجربة. لا أعتقد أن أي شخص قد يريد أن يصير قويًّا بهذه الطريقة.»22 لكن حتى في مواجهة عددٍ هائل من التجارب الصعبة، تظل الروح الإنسانية تبرهِن على قدرةٍ مميَّزة على التأقلم، كما ستقرءون في القسم التالي.

قوة التأقلم

في ٢٣ يوليو عام ٢٠٠٧، أقدَم رجلان كانا قد خرجا حديثًا من السِّجن على اقتحام منزل في تشيشير، كونيتيكت. فقيَّدا الأب، الدكتور ويليام بتيت، في القبو. ثم قيَّدا زوجته، جينفير، وابنتيهما، هايلي وميكيلا، في أَسرَّتهنَّ وشرعا يعتديان جنسيًّا على ثلاثتهن. كانت الفتاتان في سن الحادية عشرة والسابعة عشرة. وبعد ذلك، حتى يُخفيا أثرَ جرائمهما، أشعل الرجلان النار في المنزل. تمكَّن ويليام من الهروب من القبو، لكنَّ زوجتَه والفتاتين متنَ من استنشاق الدخان.

يستحيل على أغلب الناس تخيُّل التفاصيل البشعة لهذه القصة، وكذلك هول الخسارة التي ألمَّت بويليام. يبدو فقدان زوجته وابنتَيه شيئًا لا يُحتمل، لا سيما مع الملابَسات الشنيعة لآخر ساعاتٍ لهنَّ على قيد الحياة. وربما يتساءل أغلبنا أنَّى له أن يشعر بالسعادة مرةً أخرى.

بيْد أنه في عام ٢٠١٢ تزوَّج ويليام مرةً أخرى. فقد التقى بزوجته الثانية، كريستين، حين تطوَّعت للعمل مصوِّرة مع مؤسسة عائلة بتيت، المؤسسة الخيرية التي أقامها تخليدًا لذكرى أسرتِه. وقد حضرت أسرة زوجته الأولى عُرسَه وعبَّرت عن سرورها لعثوره على الحب مرةً أخرى. وفي ٢٣ نوفمبر عام ٢٠١٣، رُزق ويليام وكرستين بتيت بمولود جديد، ويليام آرثر بتيت الثالث.

ماذا نتعلم من هذه القصة المأساوية عن تحقيق السعادة؟ من المسلَّم به أن فقدان زوجتِه الأولى وابنتيه غيَّر ويليام بتيت وشكَّله على نحوٍ جذريٍّ وسيَظلُّ يؤثِّر عليه ما تبقَّى من حياته. إلا أن هذه القصة مثال حي على قُدرة الروح البشرية على التأقلم، حتى مع الظروف التي قد يبدو أنها مستعصية على التحمُّل في بادئ الأمر. فبعد مجابهةِ ظروفٍ عسيرةٍ حدَّ البشاعة، يمكننا مع الوقت العثورُ على السعادة مجددًا. مثلما قال الشاعر والروائي رينر ماريا ريلكه: «دعْ كل شيء يحدث لك. كل شيء سواء كان جَمالًا أو رعبًا. حسبك أن تمضي في سبيلك. فليس هناك شعور أبدي.»23
بعيدًا عن الاستناد إلى الحكايات، أثبتت الأبحاث العلمية هي الأخرى قُدرة الروح البشرية على التأقلم مع الأحداث السلبية، حتى حين لا نستطيع تصوُّر إمكانية هذا. فتكشف الدراسات التي أُجريت على الأشخاص الذين عانَوا خسارةَ وظيفةٍ أو إصابةَ النخاع الشوكي أو العمى أنه بعد الفترة الأولى للتكيُّف، يُفيد العديد منهم بالفعل بشعورهم بحالة إيجابية.24 فما زال البشر يثبتون مرارًا وتكرارًا أنه مهما بدا سوء الظروف في لحظتها نستطيع جميعًا أن نعثر على السعادة مجددًا في نهاية المطاف.

خلاصة القول

أحدُ الاقتباسات المفضَّلة لديَّ عن قيمة المِحَن مذكور في كتاب رائع؛ ألا وهو «موسم خسارتي» لبات كونروي. يَسرُد هذا الكتاب أحداثَ موسم غير موفَّق بالمرة لفريق سلةٍ تابع لمدرسة ثانوية، وما تعلَّمه لاعبو ذلك الفريق من هذا الموسم. وها هو ذا الاقتباس:

دائمًا ما تكون الكتب الرياضية عن الفوز؛ لأن القراءة عن الفوز أشدُّ متعة وبهجة بكثير من القراءة عن الخسارة. الفوز رائع من كل ناحية، لكن موسيقى الخسارة الأشد كآبة تتردَّد في أنحاءٍ أعمقَ وأثرى. الخسارة مُعلِّم أشدُّ قسوة وأكثر صرامة، حازم لكنه بصير؛ إذ يدرك أن الحياة أشبه بالمعضلة منها بالمباراة، وأشبه بالمحنة من الرحلة الآمنة. لقد دعمتني خبرتي عن الخسارة خلال المراحل المضطربة من حياتي حين كانت تصلني خطابات الفصل من العمل، وحين نفد رصيدي بالبنك، وحين أخبرت أبنائي الصغار أنني سأترك أمَّهم، وحين استبد بي اليأس، وحين بدأت أحلام الانتحار تبدو كأنها أغانٍ رومانسية عن الخلاص … رغم أنني تعلمت بعض الأشياء من المباريات التي فزنا بها ذلك العام، فما تعلَّمته من الخسارة كان أكثر بكثير.

يُعبِّر هذا الاقتباس عن الفائدة الحقيقية التي يمكننا جميعًا اكتسابها من الخَسارة، ما دُمنا قادرين على تصوُّر تلك الخسارة بطريقة تفكير إيجابية. وبما أنه من المُستحيل أن نعيش الحياة من دون أن تَلحق بنا الخسائر، فعلى الأقل بوسعنا جميعًا أن نحاول تذكُّر تلك التجارب وإدراك ما أضافته لحياتنا وليس ما سلبته فقط.

في يوليو عام ٢٠٠٤ تُوفيَت أمي وهي في السابعة والخمسين بسرطان المبيض، بعد أربعة شهور فقط من التشخيص. كان الأمر كما قد تتخيَّلون مفجِعًا؛ فقد أمضيت شهورًا في حدادٍ على هذه الخسارة، وأتساءل إن كنت سأجد السعادة مرةً أخرى. لكن مع الوقت، والتمرُّن، تعلَّمت أنْ أدرِك ما كسبته بعد وفاتها وأن أقدِّره، مثل توثيقِ علاقتي بشقيقي وتحوُّلٍ كنت في أمَسِّ الحاجة إليه في أهدافي المهنية.

من الممكن أن يكون العثور على المنحة في خِضَم ظروف مصيرية عسيرة أمرًا بالغَ الصعوبة، خاصةً بالنسبة إلى أولئك الذين لا يجدون سهولةً في الانتباه إلى الجانب المضيء من تلقاء أنفسهم. لكن من ناحية أولئك الذين قد يحتاجون إلى مساعدةٍ لتبنِّي هذا النوع من طريقة التفكير الإيجابية، هناك استراتيجيات معيَّنة أثبتت الأبحاث التجريبية أنها قد تُجدي نفعًا، حتى عند مواجهةِ مآسٍ وخسائرَ بالغة.

التركيز على المباهج الصغيرة في الحياة اليومية

إن كنت تحاول التأقلم مع خسارةٍ كبرى، فسيكون من العسير بحق أن تجد الكثيرَ من السعادة في هذا الموقف. لكن إذا جعلت جلَّ انتباهِك للمسرَّات الصغيرة في الحياة اليومية، فمن الممكن أن تصنع اختلافًا كبيرًا أثناء اجتيازك حدثًا مدمِّرًا. بدلًا من الانشغال بالحدث، انشغل بأحد الأنشطة التالية:
  • اذهب في تمشيةٍ بالخارج وتمعَّن في جمال الطبيعة؛ رائحة الحشائش بعد تشذيبها، وألوان الزهور، وصوت الطيور وهي تغرِّد.

  • تواصَل مع صديق عزيز؛ بكتابة خطاب أو الاتصال أو اللقاء لاحتساء القهوة وتبادل آخر أخباركما.

  • انشغلْ بطريقة أو بأخرى — بقراءة رواية، أو مشاهَدة التلفزيون، أو مشاهدة فيلم، أو تنظيم خزانة.

  • مارسِ الرياضة (بأي طريقة تجدُها مناسِبة لك) — احضر درس يوجا، أو اذهب للركض، أو تنفَّس بعمق وابسط عضلاتك.

مهما كانت ظروفك، حاول أن تَعثُر على بضع دقائق ممتعة في كل يوم. وكما تقول شيرل ساندبيرج: «أكبر مفارقة في حياتي أن فقدان زوجي ساعدني أن أجد شعورًا أبلغ بالامتنان — امتنان للطف أصدقائي، ومحبة عائلتي، وضحكات أبنائي.»25 هذا التحوُّل في طريقة التفكير هو الذي يعزِّز السعادة.

أقِم صداقات

من التحديات التي تَحول دون العثور على السعادة إثرَ أيِّ خَسارة كبرى أن الناس يشعرون بالعزلة والوحشة في حزنهم. قد تجد الدعم الاجتماعي بوفرةٍ عقب الخسارة مباشرة، لكنه يَختفي خلال بضعة أيام أو أسابيع — أسرع بكثير مما يتبدَّد الحزن. وحتى حين يتوفَّر الدعم، قد يفتقر الناس للقدرة على التعاطُف بحق مع الخَسارة.

الذين يتواصَلون مع الآخرين، وخاصة مَن يفهم طبيعة الخسارة، يجدون يسرًا أكبرَ في التأقلم والعثور على السعادة مرة أخرى. جماعات المواساة الرسمية وغير الرسمية من الممكن أن تمنح دعمًا مفيدًا لأولئك الذين عانَوا من فقدان شخص عزيز. حيث يستطيع الناجون أن يحكُوا تجاربهم، ويحصلوا على النصح بخصوص التأقلم، ويناقشوا أسئلة محيرة (مثل: لماذا حدث هذا؟ هل الحياة عادلة؟ هل هناك إله؟). يرى العديد من الناس أن الاشتراك في جماعة دعم مع ناسٍ آخرين يفهمون ما يمرون به يساعدهم على الحد من شعورهم بالوحدة. كذلك تفيد بعض الأدلة بأن مناهج التدخل القائمة على الجماعات قد تؤدي إلى الحد من شدة الحزن بدرجةٍ أكبر من العلاج الفردي.26
قيَّم الباحثون في إحدى الدراسات استجابةَ الناجين من حادث إطلاق النار الجماعي الذي وقع في جامعة فيرجينيا للتكنولوجيا عام ٢٠٠٧، الذي مات فيه ٣٣ شخصًا.27 رغم أن بعض الطلاب كما هو متوقَّع ظهرت عليهم معدَّلات أعلى من الاكتئاب والقلق على مدار العام التالي، فلم يظهر تغيُّر كبير على طلاب آخرين من ناحية الحالة المزاجية العامة، سواء للأفضل أو الأسوأ. لكن كان الاكتشاف الأجدر بالانتباه أن بعض الطلاب كانوا بالأحرى أفضل حالًا في العام التالي لهذه المأساة. إذ إن الطلاب الذين التمسوا الدعم الاجتماعي لدى طلاب آخرين وأقاموا علاقاتٍ أقوى معهم أظهروا في واقع الأمر تراجعًا في مستويات القلق والاكتئاب. من ثَم، فإنه عند وقوع أحداث مأساوية بحق، يجني الذين يتواصلون مع الآخرين فوائدَ جمَّة.

اصنع بعض الخير، مهما كانت الظروف

حتى عند مواجَهة مأساةٍ بشعة، يظلُّ بإمكاننا صنْع بعض الخير للآخرين؛ إن لم يكن لأنفسنا. تزخر الحياة بقصصٍ مُلهِمة عن أشخاص استطاعوا النجاة، بل وازدهروا في مواجهة مأساة كبرى بأن جعلوا من خسارتهم خيرًا. وإليكم ثلاثة أمثلة قوية:
  • حين وُلِد برايسون ابن آمي أندرسون ميتًا بعد ٢٢ أسبوعًا فقط، كانت محطَّمة. لكن حين اقترح عليها الأطباء أن تربط ثديها لمنع تكوين اللبن، أصرَّت آمي على الشروع في ضخ اللبن للتبرُّع به لمساعدة الأطفال المبتسرين. (إطعام لبن الأم للأطفال المبتسرين بإمكانه أن يُقلِّل بدرجةٍ كبيرة من احتمال إصابتهم بمشكلاتٍ صحية بالغة الخطورة.) ظلَّت آمي طوال ثمانية شهور تضخُّ اللبن، فتبرَّعت بإجمالي ٩٢ جالونًا من حليب الأم، وقد وجدت في اختيارها هدفًا عظيمًا. إذ قالت: «كان هذا هو الهدف من حياة برايسون وسوف أستجيب له.»28
  • في ٢٥ أكتوبر عام ٢٠١٢، واجهت مارينا وكيفن كريم كابوسًا لا يُوصَف: إذ أقدمَت المربية على طعن ابنتهما لولو ذات الست سنوات، وابنهما ليو ذي العامين حتى الموت. وفي الشهر التالي، أقام آل كريم صندوق لولو وليو لتقديم برامج الفنون والعلوم للأطفال الفقراء. وقال كيفن كريم في أول حفلٍ لجمع التبرعات (الذي نفَدَت تذاكره): «إن حياتهما هي مصدر الإلهام الذي يُحفِّزنا.»29
  • لا شكَّ أنكم تتذكَّرون حادث كولومباين المروِّع الذي وقع في أبريل عام ١٩٩٩، حيث أطلق اثنان من الطلاب النارَ وقتلا ١٣ شخصًا قبل أن ينتحرا هما أنفسهما. في فبراير ٢٠١٦، سو كليبولد، أم أحد الجانيَين، نشرت كتابًا بعنوان «حساب أم: العيش في أعقاب المأساة»، الذي يَسرُد قصة أسرتِها. كان هدفها من كتابة هذه القصة الشخصية جدًّا أن تُساعد الأسر الأخرى على التعرُّف على الإشارات التي لم تلحظها في ابنها، على أملِ أن تسهم تلك المعلومات في الحول دون حدوثِ مآسٍ في المستقبل. وسوف تُستخدم كل أرباحها من هذا الكتاب في تمويل منظَّمات خيرية تُعنى بالأمراض العقلية والحيلولة دون الانتحار.

تُبرهِن هذه الأمثلة الواقعية على ما تلعبه طريقة التفكير الإيجابية من دورٍ قوي في مساعدة الإنسان على العثور على رسالة في الحياة وقُدرة على التأقلم مع ظروفٍ عصيبة بحق. إن كنت تعاني بعد خسارة فادحة، فابحث عن طريقةٍ لخلق بعض الخير من التجربة — ربما بالسعي للتوعية بمرض، أو إنشاء مِنحة دراسية أو جائزة على شرفِ شخص عزيز، أو التطوُّع في منظمةٍ تساعد الآخرين الذين تعرَّضوا لمثلِ تلك الخَسارة. بتبنِّي طريقةِ تفكير إيجابية موجَّهة لفعل الخير، ستستطيع التأقلُم مع الخسائر التي يستعصي قبولها، حتى تجِدَ مع الوقت القناعةَ والسعادة والسكينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤