الفصل التاسع

الطبيعة مفيدة للعقل والجسم

يعمل أكثر من ٤٠ ألف موظَّف في المقر الرئيسي لشركة أمازون وسط مدينة سياتل. لكن حتى في هذه البيئة الحضرية، يستطيع الموظَّفون السير بين الأشجار، ومشاهدة تدفُّق المياه في جدول داخلي، وعقد اجتماعات في غرف ذات جدران تُغطِّيها الكروم. يحتوي هذا المبنى على نباتات من ٤٠٠ نوع مختلف، ما بين نباتات صغيرة مثل النباتات الحزازية والسرخسيات وأشجار يبلغ طولها ٥٠ قدمًا.

أمازون واحدة من الشركات العديدة التي تحرص على إدخال الطبيعة في مكان العمل. ولدى أير بي إن بي جدارٌ من النباتات في مقرها في سان فرانسيسكو؛ وتضمُّ أبل غابةً بها ما يزيد عن ثمانية آلاف شجرة في مقرِّها في كوبرتينو، كاليفورنيا؛ وسوف يحوي مقر جوجل الجديد في مدينة ماونتن فيو، في كاليفورنيا أشجارًا، ومناظرَ طبيعية شاسعة، ومسارات للدراجات.

لماذا تنفِق الشركات أموالًا طائلة على إنشاء تلك البيئات؟ من الجلي أن هذه الاختيارات قائمة على أبحاثٍ علمية هائلة أثبتت دور الطبيعة في إثارة الإبداع، والحد من الضغط النفسي، بل وزيادة إنتاجية العمل.

ما الشعور الذي تثيره فيك الطبيعة؟

تأمَّل مرةً من المرات وأنت تسير على الشاطئ، أو تتمشَّى في حديقة مزهرة، أو تستمع إلى صوت طيور مغرِّدة، أو حتى تطالع الحشائش والنباتات من النافذة. كيف كان شعورك؟ مشاهدة الطبيعة أو سماعها أو حتى التفكير فيها يجعل العديد من الناس يشعرون بطاقةٍ أكبر وسلام وحيوية. لهذا السبب ندفع مالًا أكثر مُقابل حجرة فندقية تطلُّ على المحيط أو منزل بحديقة واسعة.

لتحديد فوائد الطبيعة طلب الباحثون من المشاركين في إحدى الدراسات أن يتخيَّلوا فحسب كيف يكون إحساسهم في مواقفَ مختلفة.1 وإليك اثنين من تلك المواقف:
  • «تخيَّل أنك وصديقك تُهرولان معًا في بهوٍ مُمتدٍّ داخل مبنًى حديث.»

  • «تخيَّل أنك وبعضًا من أصدقائك في متنزَّه عام، تتمرَّنان معًا على الحشائش.»

هذان الموقفان كلاهما متشابهان جدًّا؛ فهما ينطويان على قضاء وقت مع صديق وممارسة نشاط بدني. إلا أنَّ الناس تُفيد بمشاعر مختلفة حسب الموقف الذي تخيَّلوا أنفسهم فيه. تحديدًا، يُفصح مَن يتخيلون أنفسهم يقضون وقتهم في الخارج عن شعورهم بمستوياتٍ أعلى من الحيوية، تضمَّنت الشعور بنشاط ويقظة وانتعاش أكبر.

في دراسة ثانية، طلب الباحثون من الناس أن يُطالعوا صورًا لمناظر طبيعية أو غير طبيعية. تضمَّنت صور الطبيعة، على سبيل المثال، صحراءَ تُحيط بها منحدرات صخرية ومنظرًا لبحيرة في الليل. أما صور المناظر غير الطبيعية فاحتوت على مناظرَ لشارع في مدينة ذات مُبانٍ على الجهتين وطريق في الليل. ومرة أخرى أدلى الذين رأوا المناظر الطبيعية بمستويات أعلى من الحيوية عن الذين رأوا المناظر غير الطبيعية.

وتكون فوائد الطبيعة في الشعور بالرفاه أقوى حين يقضي الناس الوقت في الخارج فعليًّا بدلًا من تخيُّل أنهم يقضون وقتهم بالخارج أو يطالعون الصور فحسب. فمجرَّد السير مدة ١٥ دقيقة في ممشًى محفوف بالأشجار بجانب نهر يُسفِر عن مستويات أعلى من الطاقة واليقظة مقارنةً بالسير في مكان داخلي من دون أيِّ إطلالات على الخارج.

فوائد العيش قريبًا من الطبيعة

كيف تبعث الطبيعة على الشعور بالسعادة في الحياة الواقعية؟ في إحدى الدراسات، تقصَّى الباحثون بيانات عينة ضخمة جدًّا — شملت أكثر من ١٠ آلاف شخص يعيشون في بريطانيا.2 أعطى كل هؤلاء الناس تقييمات لحالاتهم المزاجية العامة، وكذلك رضاهم عن الحياة. كذلك ضمَّت هذه البيانات معلومات عن الأماكن التي يُقيم فيها الناس، بحيث يمكن تحديد «حجم» الطبيعة التي يتعرَّضون لها يوميًّا، من حدائق ومتنزهات وماء. لكن لعل الأهم أن هذه البيانات ظلت تُجمع سنويًّا على مدار ١٨ عامًا، حتى يتسنَّى للباحثين أن يروا أيضًا كيف اقترن الانتقال إلى موقع جديد (ربما احتوى على قدر مختلف من المساحات الخضراء) بالحالة المزاجية والرضا عن الحياة.

كشفت هذه النتائج عن فوائد جمَّة للعيش في بيئات قريبة من الطبيعة. بعبارة محدَّدة، أظهر الناس الذين يعيشون قربَ الطبيعة معدلاتٍ أدنى كثيرًا من القلق والاكتئاب، ومعدلات أعلى كثيرًا من الرضا عن الحياة بوجهٍ عام. لم تكن هذه الآثار ضئيلة أو طفيفة. فقد كان العيش قرب الطبيعة، في واقع الأمر، أفيَدَ لصحَّة الناس العقلية من الزواج بنسبة ٣٣ في المائة.

وقد كشفت دراسة أُجريت في أحياء مختلفة في ويسكونسن عن نتائجَ مشابِهة بخصوص الآثار المفيدة للطبيعة.3 فقد كان احتمال إقرار الأشخاص الذين يقيمون في حيٍّ يقلُّ فيه الغطاء الشجري عن نسبة ١٠ في المائة إصابتهم بالاكتئاب والقلق أعلى، في جميع مستويات الدخل. بعبارة أخرى، كان الشخص الفقير الذي يعيش في منطقةِ غاباتٍ أرجح أن يكون سعيدًا عن الثري الذي يعيش في منطقةٍ خالية من الأشجار في حيٍّ فاخر.
ويوجد المزيد من الأخبار السَّعيدة. فمجرد التعرُّض لفترة قصيرة للطبيعة — حتى إن لم تكن تعيش قريبًا منها — يؤدِّي إلى سعادة وجيزة. فالناس الذين يمرُّون فحسب بمساحات خضراء في المدينة يُبدون ارتفاعًا في مستوى السعادة، مما يفيد بأنه حتى أحواض الزهور والأشجار والمساحات الصغيرة من الخضرة في البيئة الحضرية يجعلنا في مزاجٍ جيد. على نحو مماثل، يشعر الناس الذين يعيشون في نيويورك بالقرب من متنزهٍ عام بسعادة أكبر، على الأقل عند تقييمهم حسب النبرة الإيجابية في تغريداتهم على «تويتر» (من كلماتهم ورموزهم التعبيرية).4

على النقيض، هل يمكنك أن تخمِّن من أين تصدر أقل التغريدات سعادة؟ قرب مراكز المواصلات، مثل محطة بنسلفانيا، وهيئة الموانئ، ومدخل نفق ميدتاون، مما يُشير على ما يبدو إلى استياء من حركة المرور وتأخُّر حركة النقل.

حسنًا، قد لا يكون أيٌّ من هذه الأشياء مُدهِشًا للغاية. فكما قال الباحثون أنفسهم: «مَن عساه لا يَبتهِج وسط خضرة متنزَّه عام، أو يوشك على الانتحار حين تتوقَّف به حركة المرور أو ينتظر قطارًا متأخرًا؟» لكنَّني سأصف لاحقًا في هذا الفصل فوائد الطبيعة لرفاهنا الجسدي.

حتى النباتات المنزلية مفيدة هي الأخرى!

إنه لمِن الواضح إذن أن الطبيعة مهمَّة من أجل رفاهنا النفسي. لكننا لا يسعدنا جميعًا الحظ بالعيش أو العمل في بيئاتٍ تحيط بها الطبيعة، خاصةً مَن يعيشون في المدن ويعملون بها. (المفارقة أنني بينما أكتب هذا الفصل، يُجرى بناء مسكن جديد للطلبة من خمسة طوابق خارج نافذة مكتبي بالضبط، ليحجب عني تمامًا منظرًا بديعًا لسلسلة جبال). لكن مما يَبعث على التفاؤل أن ثمَّة أدلةً تُفيد بأنه حتى النباتات الداخلية من الممكن أن تُحسب باعتبارها «طبيعة» وتؤدِّي إلى آثار إيجابية.

في واحدة من أوائل الدراسات التي بحثت تأثير النباتات الداخلية على الصحة، طلب الباحثون من موظَّفين مكتبيين في ولاياتٍ عدة أن يُحدِّدوا درجة رضاهم عن وظائفهم في المجمل وأن يُدلوا بمعلوماتٍ عن بيئة عملهم.5 سُئل الموظَّفون تحديدًا ما إن كانت نوافذ مكاتبهم تطل على مساحاتٍ خضراء وما إذا كانت لديهم نباتات داخلية حية في مكاتبهم.
بوجه عام، أفاد العاملون الذين لديهم نباتات داخلية حية في مكاتبهم بدرجةٍ أكبر من السعادة والرضا عمَّن ليس لديهم نباتات. يوجد أدناه نسبة الذين أدلَوا بشعورهم «بالرضا» أو «السعادة البالغة» في كل مجموعة:
  • ٨٢ في المائة من المجموعة التي «لديها نباتات ونوافذ».

  • ٦٩ في المائة من المجموعة التي «لديها نباتات لكن من دون نوافذ».

  • ٦٠ في المائة من المجموعة التي «لديها نوافذ لكن من دون نباتات».

  • ٥٨ في المائة من المجموعة التي «ليس لديها نباتات ولا نوافذ».

المثير للاهتمام أنه رغم أن العاملين ممَّن لديهم كلٌّ من نباتات داخلية وإطلالة على الطبيعة قد أدلوا بتمتُّعهم بأفضل ظروف معيشية، فإنَّ امتلاك نباتات داخلية كان أكثر منفعة حتى من الإطلال على الطبيعة. كذلك أفاد العاملون في مكاتب تضمُّ كلًّا من النباتات وإطلالة على الطبيعة بسعادةٍ أكبر بوظائفهم والعمل الذي يُؤدُّونه.

حسنًا، من الأسئلة الجوهرية بشأن هذه البيانات هو ما إن كان ثمَّة عوامل أخرى تفسِّر هذه العلاقة بين مكان العمل والرضا عن الحياة. فالأرجح على كل حال، أن يعمل الموظفون الأكبر سنًّا، ويشغلون مناصبَ أرفع، ويجنون مالًا أكثرَ في مكاتب بنوافذ تطلُّ على مناظر طبيعية. لكن هذه العوامل الأخرى لم تُفسِّر العلاقة: فلم يكن هناك اختلافات في درجات السعادة التي أدلَوا بها حتى عند تحييد البيانات الخاصة بالسنِّ والراتب ومستوى التعليم والمنصب.

وثمَّة مسألة أخرى بشأنِ بيانات الدراسة التي وصفتُها للتو. فقد جمعَت هذه الدراسة بياناتٍ من أشخاص يعملون في بيئات معينة، ومن ثَم فربما تكون هناك عوامل أخرى أسفرت عن الفروق في درجة الرضا والسعادة. فمن الوارد مثلًا أن الناس الأكثر سعادة عامةً والأكثر رضًا في حياتهم يختارون شراء نباتات داخلية — أي إنها ليست مسألة أن النباتات تُعطي روحًا إيجابية وإنما أن وجود النباتات هو اختيار مقصود من جانب الأشخاص الذين يَنعمون بالرفاه.

للتحقُّق من هذا الاحتمال، اختبر الباحثون كيف يمكن للتغيرات في بيئة العمل أن تؤدي لتغيرات في الرضا عن مكان العمل.6 في البداية، أتمَّ كل العاملين اختباراتٍ لقياس الرضا عن مكان العمل والتركيز والإنتاجية. ثم بعد مرور ثمانية أسابيع، تعرَّض نصف العاملين لتعديل في البيئة؛ إذ أحضر مهندس ديكور عددًا من النباتات الخضراء ذات الأوراق الكبيرة، وُزعت في أنحاء موقع العمل. فوُضِع، في المتوسط، ثلاثة نباتات لكل خمسة مكاتب، بحيث يكون على مرأى مِن كل مكتب نبتتان على الأقل. لم يُجرَ للموظفين الآخرين أيُّ اختلاف في بيئة عملهم.

بعد ثلاثة أسابيع من وضع النباتات، أتمَّ العاملون مرة أخرى اختبارات لقياس مستوى الرضا عن بيئة العمل والتركيز والإنتاجية. رغم أنه لم يكن ثمَّة اختلاف في درجة الرضا عن بيئة العمل بين الأشخاص في المجموعتين، فإن العاملين الذين صاروا يرون نباتات في بيئة مكاتبهم أعربوا عن ارتفاع في قدراتهم على التركيز وفي إنتاجياتهم. كما أن شهادات العاملين أنفسهم عن شعورهم بارتفاع إنتاجياتهم دعمتها بيانات موضوعية أثبتت أن الذين كانوا في مكاتب بها نباتات كانوا يُنجزون المهام أسرع (وبنفس الدقة بالضبط) عمَّن كانوا في مكاتب من دون نباتات.

ما الذي توحي به هذه النتائج لمن لم يُحالفه الحظ منَّا ليتمتَّع بإطلالة جميلة على الطبيعة من نافذة مكتبه (أو منزله)؟ فلتبتَعْ بعضَ النباتات!

امنح عقلك استراحة — اخرُج في نزهة على الأقدام

ما هو إذن ذلك الشيء المميَّز في قضاء الوقت في الطبيعة الذي يُؤدِّي إلى تلك الفوائد الكبرى؟ تحفل حياتنا اليومية بإثارة مُستمرة من الهواتف والمرور والتلفزيون وما إلى ذلك. تستحوذ هذه الأحداث جميعًا على انتباهنا. إلا أن قُدرة المخ على البقاء منتبهًا لمدة طويلة محدودة. ومن الممكن أن ينتهي بنا الحال إلى الشعور بالارتباك وبأننا مستنزَفون ذهنيًّا؛ هذا ما يدعوه العلماء بصفة غير رسمية «إرهاق المخ». بعبارة أخرى، تحتاج أمخاخنا إلى استراحة.

وفقًا لنظرية استعادة الانتباه، يمنحنا قضاء بعض الوقت في الطبيعة استراحةً معرفية من كل عوامل التشتيت الخارجية التي نواجهها في حياتنا اليومية. إذ تسمح الأماكن الطبيعية للمخ بالاسترخاء، وبذلك تؤدي دورًا بالغ الأهمية في المساعدة على استعادة قدراتنا المعرفية. في واقع الأمر، يبدي الناس تحسنًا في الذاكرة والانتباه بعد السير لمدة ساعة في مكان طبيعي هادئ، وهو ما لا يحدث بعد السير في شارعٍ صاخب بمنطقة حضرية.7 واللافت للانتباه أن تلك الفوائد تُرَى حتى بين الذين يُعانون اكتئابًا سريريًّا.8
حتى الاستراحات القصيرة وسط الطبيعة من الممكن أن تساعد على تحسين الذاكرة والانتباه والتركيز. فطلاب المدارس الثانوية، على سبيل المثال، يعطون أداءً أفضل في الامتحانات حين يكون فصلهم مُطلًّا على منظرٍ طبيعي أخضر، بدلًا من حجرة بلا نوافذ أو حجرة مطلة على مساحات من صُنع الإنسان، مثل بناء أو ساحة انتظار سيارات.9 بالمثل، الأشخاص الذين يطالعون سطحًا أخضر عشبيًّا لمدة ٤٠ ثانية فقط يُبدون قدرةً أفضل على التركيز ويرتكبون أخطاءً أقل في الاختبارات المعرفية مقارنةً بمن يطالعون سطحًا خرسانيًّا مجردًا.10

بناءً على ذلك، إليك طريقة يسيرة لتمهِل ذهنك استراحة: اقضِ بعض الوقت في الطبيعة.

تشعُر بضغط نفسي؟ اخرُج إلى الطبيعة!

قضاءُ بعض الوقت في الطبيعة يساعد عقولَنا وأجسادَنا على الاسترخاء. فإن التعرُّض للطبيعة يُؤدي ببساطة إلى تحوُّل الجسم من حالة الاستثارة البالغة إلى حالةٍ من الراحة والاسترخاء. من ثمَّ فإن قضاء بعض الوقت في الطبيعة استراتيجيةٌ مُمتازة للحدِّ من الضغط النفسي والآثار الضارة للاستثارة الفسيولوجية المستمرة على أجسادنا.

في دراسة حديثة، ارتدى فيها المشاركون قبَّعات تحتوي على أقطاب كهربائية حتى يتمكَّن الباحثون من قياس نشاط المخ، عُقدت مقارنة مباشرة بين استجابات المخ للأنواع المختلفة من البيئة.11 فأظهر الذين تمشَّوا في موقعٍ أشبه بالمتنزه موجاتٍ دماغية أهدأ، شاملة مستوياتٍ أدنى من الاستثارة والإحباط، مقارنة بمن ساروا في مناطق حضرية.
الأشخاص الذين يسيرون في متنزهٍ لمدة ساعة يشعرون لاحقًا بقلق أقل مقارنة بالأشخاص الذين يسيرون في شارع مزدحم.12 كما أنهم يُبدون مستوياتٍ أقلَّ من الاجترار الذي يؤدي إلى الاكتئاب، كما عرفت في الفصل الخامس.13 كذلك هم يُبدُون تراجعًا في النشاط العصبي في المنطقة المرتبطة بالمرض العقلي في المخ.
بل ويُساعد هذا النوع من التعرُّض للطبيعة لمدةٍ قصيرة على التقليل من الضرر الفسيولوجي للضغط النفسي. من الأمثلة على ذلك أن أبحاثًا أُجريت في اليابان عن «شينرين يوكو» («الاستحمام في الغابة»؛ أي قضاء بعض الوقت في منطقة غابات) تُشير إلى أن مجرد السير في الغابة لمدة ٢٠ دقيقة أو نحو ذلك يُؤدي إلى مستويات أدنى من ضغط الدم، ومعدَّل ضربات القلب، وهرمون الضغط النفسي الكورتيزول مقارنةً بالسير في منطقة حضرية.14
تُفسِّر هذه الاكتشافات لماذا نجد الأشخاص الذين يقضُون بعض الوقت في الطبيعة — بما في ذلك المتنزَّهات العامة والحدائق الخاصة — لديهم معدلات أدنى من الضغط النفسي والأمراض المرتبطة بالضغط النفسي.15 وكما تقول كريستين مالاكي، الأستاذة في كلية الطب والصحة العامة بجامعة ويسكونسن: «إذا أردت أن تشعر بتحسُّن، فلتخرج.»16
عِلاوة على ذلك، فحتى رؤية صور لمَشاهد طبيعية تحدُّ من استجابة الجسم الطبيعية للضغط النفسي. في إحدى الدراسات وضع الباحثون لمشاركين من طلبة الجامعة مجسَّات لقياس النشاط الكهربي في القلب.17 ثم عرضوا عليهم سلسلةً من الصور على شاشة كمبيوتر. عرضت بعض الشاشات صورًا لمساحات حضرية، مثل المباني والسيارات المتوقفة، في حين عرضت شاشات أخرى مساحات طبيعية في بيئات حضرية، مثل أشجارٍ على امتداد رصيف إحدى المدن.

بعد مُطالَعة الصور، عمد الباحثون إلى استثارة مشاعر الضغط النفسي لدى المشاركين في الدراسة. إذ أُعطوا أولًا مجموعة من المسائل الرياضية الصعبة. ثم بُلِّغوا كذِبًا بأن درجاتهم في هذا الاختبار لم تكن جيدة مقارنةً بدرجات الطلبة الآخرين. وقد أثار هذا الإجراء، بطبيعة الحال، مشاعرَ الضغط النفسي. ثم عُرضَت نفس الصور مرة أخرى للتحقُّق مما إذا كانت مشاهدة معالم طبيعية ستساعد على الحد من استجابتهم الفسيولوجية للضغط النفسي.

كما توقَّع الباحثون، ساعدت مشاهدة صور الطبيعة الطلابَ على التعافي من الضغط النفسي. فقد كان معدَّل ضربات القلب لدى الطلبة الذين شاهدوا صورًا لمساحات خضراء أدنى من الذين شاهدوا مساحات خرسانية. من ثَم فإن هذه الدراسة تُفيد بأن حتى مُشاهَدة صور المساحات الخضراء قد تُساعد الأشخاص على التعافي من الضغط النفسي الخفيف الوطأة.

ويُسهِم بحثٌ أحدث في مجال علم الأعصاب في تفسير السبب الذي يجعل مشاهدة الطبيعة تحدُّ من مشاعر الضغط النفسي. إذ عرض الباحثون في هذه الدراسة على الناس صورًا لمشاهد حضرية ومشاهد طبيعية وهم على جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، الذي يقيس نشاط المخ.18 وقد رُوعيَ التواؤُم بين الصور بحيث تكون كلٌّ منها مبهجة للعين وتضمُّ ألوانًا متنوعة؛ إذ ضمَّت المشاهد الحضرية آفاقًا مدنية جميلة، من دون زحام مروري أو دخان. عُرِض كل نوع من الصور لمدة دقيقتين، حيث كانت صورة جديدة تظهر كل ثانية ونصف ليظل الناس مستغرقين في المهمة.

رغم التشابه بين نوعَي الصور؛ فقد أشارت بيانات قياس نشاط المخ إلى تفاوتٍ ملحوظ. فالأجزاء المسئولة عن التعاطف والإيثار والاستقرار العاطفي والتوجُّه الذهني الإيجابي في المخ كانت أنشط كثيرًا عند عرض المناظر الطبيعية. على النقيض، كانت أجزاء المخ المسئولة عن تقييم الخطر والشعور بالضغط النفسي والقلق أنشط بكثير عند عرض صور المناظر الحضرية. تشير هذه النتائج إلى أن الأشخاص الذين يُشاهدون الطبيعة يُظهِرون نشاطًا أهدأ في الموجات الدماغية، مما يدلُّ على شعورٍ أكبر بالاسترخاء وإحساس أدنى بالقلق.

تأثير الحُجرة ذات الإطلالة

في واحد من أحدث الاختبارات لتبيُّن العلاقة بين الطبيعة والصحة الجسدية، طالع الباحثون الملفات الطبية لمرضى كانوا قد خضعوا لجراحة المرارة في مستشفًى في إحدى ضواحي بنسلفانيا على مدار ١٠ سنين.19 كان لهذا المُستشفى موقعٌ فريد في الطابقين الثاني والثالث؛ إذ كان المرضى يطلُّون من حجراتهم في أحد جانبي المبنى على مجموعة بديعة من الأشجار، بينما كان المرضى في الجانب الآخر يطلُّون على جدار من الطوب البني.

ثم قارن الباحثون بين معدَّلات تعافي أولئك الذين خُصِّصت لهم حجرة تطلُّ على منظر طبيعي في مقابل من طلَّت حجراتهم على جدار من الطوب. ثم أرادوا كذلك التأكدَ من عدم ضلوع عوامل أخرى في سرعة التعافي، فتوخَّوا تقسيم المرضى بكل مجموعة من مجموعتي الإطلالات حسب الجنس والسن (في حدود خمس سنوات) وما إن كانوا مدخنين، وما إن كانوا بدناء.

وقد كانت النتائج التي توصَّلوا إليها جديرةً بالاهتمام. أولًا، كشفت تقارير الممرضات عن أن المرضى المطلين على جدار الطوب البني كانوا أكثرَ سلبية في تعافيهم عمن يطلون على منظر طبيعي، ودوَّنت المُمرضات ملاحظات على غرار «يحتاج إلى الكثير من الدعم» و«مستاء ويبكي». كذلك احتاج المرضى المُطلُّون على الجدار إلى مسكِّنات أكثر وأقوى. وأخيرًا، والأهم، أن المرضى المطلِّين على الطبيعة خرجوا قبل المرضى الآخرين بيوم تقريبًا في المتوسط: ٧٫٩٦ مقابل ٨٫٧٠.

رغم أن هذه الدراسة تُعطي دليلًا قويًّا على أن مشاهدة الطبيعة تساعد المرضى على التعافي من الجراحات، فإن العوائق العملية واضحة. فالعديد من المستشفيات يقع في مناطقَ حضرية على كل حال، وتوفير نافذة مُطلَّة على الطبيعة لكل مريض قد لا يكون ممكنًا.

لحسن الحظ، بإمكان أشكالٍ أخرى من الطبيعة أن تؤدي هي الأخرى إلى نتائج إيجابية. إذ نرى مثلًا معدلاتٍ أدنى من الألم والقلق والإرهاق لدى مرضى الجراحة ممن لديهم نبات حي في حجراتهم بالمستشفى خلال فترة النقاهة عمن ليس لديهم نباتات في حجراتهم.20 كذلك تظهر عليهم مستوياتٌ أقل من الاستثارة الفسيولوجية، شاملة ضغطَ دم ومعدَّل ضربات قلب أقل، كما يحتاجون إلى مسكِّنات أقل.21
بالإضافة إلى ذلك، فإن النظر إلى صورٍ للطبيعة من الممكن أن يؤدي إلى نتائج شبيهة جدًّا. ففي دراسة أخرى، حصل مرضى في طور النَّقاهة من عملية قلب على حجرات متطابقة في كل النواحي إلا اختلافًا واحدًا مُهمًّا: القطعة الفنية الموجودة في تلك الحجرة. 22 بعض المرضى لم يكن لديهم أي ملمَح فني في حجراتهم على الإطلاق، وآخرون كان لديهم رسمٌ تجريدي، وآخرون كان لديهم صورة فوتوغرافية كبيرة لمنظَرٍ طبيعي (سواء كان جدولًا محفوفًا بالأشجار أو غابة ظليلة). تبيَّن أن المرضى الذين كانوا في الحجرة التي بها صور الجدول المحفوف بالأشجار كانوا أقل قلقًا واحتاجوا إلى مُسكِّنات أقل مقارنةً بمن كانوا في الحجرات الخالية من القِطع الفنية، وذات الفن التجريدي، وحتى تلك التي احتوت على صورة الغابة المعتمة.

الطبيعة مفيدة لصحَّتك

بالنظر إلى الدور الذي تلعبُه الطبيعة في الحد من الضغط النفسي والاستثارة، لا عجب أن الذين يقضون بعض الوقت في الطبيعة يتمتَّعون برفاهٍ جسدي عام أفضل ولديهم عدد أقل من الشكاوى المتعلقة بالصحة.23 فإنك على سبيل المثال تجد لدى سكان الأحياء التي تحتوي على مساحات خضراء أكثر، من أشجار ومُتنزَّهات، معدلات أدنى من الأمراض المزمنة، مثل السكري (أقل بنسبة ١٤ في المائة)، وارتفاع ضغط الدم (أقل بنسبة ١٣ في المائة)، واضطرابات الدهون (أقل بنسبة ١٠ في المائة).24
كذلك تنخفض مستويات ضغط الدم المرتفع بين الناس الذين يقضون وقتهم في الطبيعة. بل وتفيد بعض الأدلة في الواقع بأن التردُّد على المساحات الخارجية الخضراء لمدة ٣٠ دقيقة أو نحو ذلك كل أسبوع يحدُّ من انتشار ضغط الدم المرتفع، الذي يُسهم إسهامًا رئيسيًّا في اضطرابات مزمنة أخرى، بنسبة تصل إلى ٩ في المائة.25
الأهم أن الأبحاث الطولية تُعطي أدلةً قوية على أن قضاء الوقت في الطبيعة من الممكن أن يطيل أعمارنا فعليًّا. فقد ظلَّ الباحثون في إحدى الدراسات يُتابعون أكثر من ١٠٠ ألف امرأة كن قد ملأن استبيانات صحية على مدار ثماني سنوات.26 وبمساعدة التصوير بالأقمار الصناعية، تحقَّقوا كذلك من كمية النباتات الخضراء في منطقة كلٍّ منهنَّ. وحتى بعد تحييد العوامل الأخرى التي تزيد من احتمال الوفاة، مثل السن والتدخين ومؤشر كتلة الجسم والوضع الاجتماعي الاقتصادي، كانت وفاة النساء المقيمات في مناطق أكثر خضرة أقل بنسبة ١٢ في المائة من اللواتي يُقِمن في مناطق أقل خضرة.
لكن ليس المقصود بهذا أن قضاء الوقت في الطبيعة من الممكن أن يقيَ من كل الأمراض أو يشفيها. وكما ذكرت كلير كوبر ماركوس، أستاذة تصميم المناظر الطبيعية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي: «قضاء الوقت في التفاعل مع الطبيعة في حديقة حسنة التصميم لن يشفي من السرطان أو يعالج ساقًا مُصابة بحرق شديد. لكن ثمة أدلة قوية على أنه من الممكن أن يحدَّ من الألم والضغط النفسي — وهو بذلك يُعزِّز جهازك المناعي بطرقٍ تسمح لجسدك وللعلاجات الأخرى بأن تساعدك على الشفاء.»27

خلاصة القول

قضاء وقت في الطبيعة عظيمُ الفائدة للصحة الجسدية والنفسية أيضًا، كما عرفت خلال هذا الفصل. إلا أنَّنا دائمًا ما نُقلِّل من أهمية قضاء الوقت في الطبيعة من أجل سعادتنا. فالأشخاص الذين يخرجون ولو في تمشية قصيرة نسبيًّا — لمدة ١٧ دقيقة تقريبًا — يستهينون بما لتلك التمشية من آثار على حالتهم المزاجية وشعورهم بالاسترخاء.28

والآن وقد عرفت فوائد الطبيعة، التمسِ السبيل لقضاء المزيد من الوقت في الطبيعة. وإليك بعض الطرق السَّهلة لفعل ذلك.

أدخلِ الطبيعة في حياتك

لقضاء الوقت في الطبيعة فوائد جمَّة، مِن شحذ الانتباه والتركيز للحد من الاكتئاب والقلق لخفض معدَّل نبضات القلب وضغط الدم. تبلغ هذه الآثار جميعًا أقصاها فيما يقضي الناس وقتهم فعليًّا في الطبيعة، وثمَّة طرقٌ شتى لدمج شكل من أشكال الطبيعة في حياتنا اليومية. وها هي ذي بعض الأمثلة السهلة:
  • اخرج للتمشية.

  • اشترِ نباتات لمنزلك ومكتبك.

  • استمع إلى أصوات الطبيعة على قرصٍ مُدمَج أثناء قيادة سيارتك أو تنظيف منزلك.

وتذكَّر أن أي نوع من أنواع الطبيعة له نفس التأثير. فالأشخاص الذين يُفيدون بتعرُّضهم لأي نوع من الطبيعة بدرجةٍ أكبر في بيئة عملهم — من مشاهدة الطبيعة خارج نوافذهم إلى امتلاك نبات طبيعي في مكتبهم إلى قضاء استراحتهم بالخارج — يُظهِرون مستويات أدنى من الضغط النفسي وشكاوى صحية أقل.29 على نفس النحو، الأشخاص الذين يتوقَّفون لتصوير معالم الطبيعة — مثل الأشجار والنباتات وغروب الشمس — يُظهِرون مستويات أعلى من السعادة والفرح مُقارنةً بمن يلتقطون صورًا لأشياء من صنع الإنسان.30 لذا لا تقلق إن لم يكن بإمكانك إيجادَ الوقت للتنزُّه سيرًا على الأقدام مدة ٣٠ دقيقة في الخارج كل يوم؛ حسبك أن تبدأ بإيجاد طرق صغيرة وبسيطة لدمج الطبيعة في حياتك بطريقةٍ ما.

ازرع حديقة

حسنًا، هذا الجزء صعب عليَّ؛ إذ إنني لا أُحسن رعاية النباتات البتَّة. لكنَّ البحوث التجريبية تُخبرنا بأن زراعة حديقة والعناية بها طريقة ممتازة للحد من الضغط النفسي وإعطاء أدمغتنا استراحة هي في أمسِّ الحاجة إليها.

في إحدى الدراسات أعطى الباحثون للمشاركين نشاطًا يستثير الضغط النفسي لينجزوه، ثم طلبوا منهم أداء أحد نشاطين.31 إذ طُلب من نصف الأشخاص القراءة مدة ٣٠ دقيقة بالداخل. وطُلِب من الآخرين القيامُ بأعمال البستنة بالخارج لمدة ٣٠ دقيقة. رغم أن كلا النشاطين أدَّى إلى هبوط مستويات الضغط النفسي؛ فقد أدَّت البستنة إلى تقليل الضغط النفسي أكثر من القراءة.
كذلك تؤدِّي البستنة إلى فوائد صحية؛ منها الحد من الاكتئاب والقلق وزيادة الرضا عن الحياة.32

اذهب إلى الشاطئ

لدى العديد منَّا ذكرياتٌ طيبة عن قضاء وقت على الشاطئ، من بناء قلاع من الرِّمال للسباحة وسط الأمواج المتكسِّرة لمشاهَدة الأمواج في ارتطامها بالشاطئ. وثمة سبب للشعور براحة كبرى عند قضاء وقت على الشاطئ؛ فالنظر إلى المياه يساعد على تهدئة الأعصاب ويحدُّ من التوتر. فهو يخفِّض معدل نبضات القلب وضغط الدم ويزيد بعض الهرمونات، مثل السيروتونين والإندورفينات، التي تجعلنا نشعر بالانشراح.

صحيح أنه من فوائد قضاء الوقت على الشاطئ الاستراحة التي يمنحها لأدمغتنا من الإثارة الدائمة للحياة اليومية. لكنها ليست الراحة وحدها التي تجعلنا منشرحين حين ننظر إلى المياه. مما يدعو إلى الدهشة، أن صورَ الطبيعة التي تحتوي على مياه من الممكن أن تجعل مشاهديها في حالات أشد إيجابية، أكثر حتى من صور الطبيعة التي تحتوي على مساحات خضراء فحسب.33

هل تريد معرفة المزيد عن فوائد قضاء الوقت قرب المياه؟ اطلع على كتاب «العقل الأزرق»، لعالم الأحياء البحرية، والاس نيكولز، الذي يصفُ مدى فائدة المياه لكلٍّ من الصحة الذهنية والبدنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤