الفصل الأول

الأصول السلوكية للعلاج السلوكي المعرفي

أدركَ الإنسانُ دَور السلوك في تحديد الاستجابات الانفعالية منذ وقتٍ طويل. فقد قال أرسطو في كتابه «الأخلاق النيقوماخية» إن «التصرُّف بشجاعةٍ هو ما يجعل منا شجعانًا»، بينما أشار يوهان فولفجانج فون جوته (١٧٤٩–١٨٣٢) إلى أنه «في علاج الاعتلالات النفسية … الفهمُ لا يفيد بشيءٍ، والمنطقُ يفيد قليلًا، أما الوقتُ فيفيد كثيرًا، ولكن العمل العازم الحثيث هو كلُّ شيء».

هذه هي الفكرة الأساسية وراء العلاجات السلوكية المعرفية؛ وهي أن إدراكنا (أي: أفكارنا أو الأحداث العقلية الأخرى) وسلوكياتنا يؤثران على الطريقةِ التي نشعر بها، والعكس صحيح. كما أن الأفكار والمشاعر تلعب دورَ الوسيط بين ما يحدُث لنا واستجابتنا له. على سبيل المثال، تعرَّض كلٌّ من جاك وجيل للخَدش من قطةٍ عندما كانا طفلَيْن. تطوَّر خوف جاك إلى رُهابٍ من القطط، بينما لم يحدُث ذلك لدى جيل. يوجد العديد من المتغيِّرات التي كانت السبب في استجابتهما بشكلٍ مختلف، بما في ذلك العوامل البيولوجية مثل القابلية الوراثية للإصابة بالقلق، والعوامل البيئية والاجتماعية الثقافية مثل التعرُّض للقطط الأخرى، والدَّور الذي تلعبه القطط في ثقافتهما. ومع ذلك، قد يكون لدينا الفرصةُ لتحسين الرُّهاب الذي يعاني منه جاك، من خلالِ التحليل الدقيق لأفكاره حول القطط وسلوكه تجاهها.

في السنوات الأخيرة، أصبحَ العلاج السلوكي المعرفي هو النموذجَ السائد للعلاج النفسي، في كلٍّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحَ استخدامه أكثرَ انتشارًا. والدليل على فعاليته كافٍ ليكون تدخلًا موصًى به في معظمِ مشكلاتِ الصحة العقلية الشائعة، المدْرَجةِ في الإرشادات الخاصة بالمعهد الوطني للتميُّز السريري التابعِ لحكومة المملكة المتحدة (https://www.nice.org.uk). ومع ذلك، فإن جزءًا من أسباب نجاح العلاج السلوكي المعرفي هو قدرته على التطوُّر، وهذا التطوُّر مستمر. ولذلك، يختلِف العلاج السلوكي المعرفي اليوم عمَّا كان عليه قبل عَقد أو عَقدين مَضيا، ومن المرجَّح أن يختلف أيضًا بعد عَقد أو عَقدَيْن آخرَيْن. ونظرًا لاتساعِ نطاق العلاج السلوكي المعرفي وتطوُّره المستمر، سيركِّز هذا الكتاب أولًا على العلاج السلوكي المعرفي التقليدي الذي طوَّره ألبرت إليس وإيرون بيك، في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وستنظر الفصول اللاحقة في الكيفية التي تطوَّر بها العلاج السلوكي المعرفي التقليدي، وكيف طُوِّعَ للاستخدام في أُطُرٍ وسياقات مختلفة، وما هي التحديات التي قد يواجهها في السنوات القادمة.

من الناحية التاريخية، نشأ العلاج السلوكي المعرفي من نظرياتٍ حول كيفية تَعَلُّمنا، لا سيما حول كيفيةِ تَعَلُّم السلوكيات، وكذا من عملِ العديد من علماء النفس الذين درسوا العملياتِ المعرفيةَ التي تكمُن وراء كيفية إدراكنا للعالم، وكيف نفكِّر ونتذكَّر. قبل خمسينيات القرن الماضي، كان العلاج النفسي الديناميكي لسيجموند فرويد هو النموذجَ السائد للعلاج النفسي. ولكن التحليل النفسي الفرويدي ركَّز على العمليات غيرِ القابلة للرصد التي تحدُث داخل العقل، مما يعني أنه كان غيرَ قابلٍ للقياس؛ ومن ثَم غير قابل للاختبار إلى حدٍّ كبير، أي إنه لم تكن هناك طريقةٌ لتقييم الأدلة على أساسه النظري أو فعاليته. ومن ثَم، كانت فائدته موضعَ تساؤل لدى علم النفس العلمي، الذي اعترضَ على غيابِ العمليات والنتائج التي يمكن ملاحظتها وقياسها. ونتيجةً لذلك، نشأ العلاج السلوكي من علم النفس العلمي. تبنَّى النهج السلوكي وجهةَ نظرٍ مُفادها أنه نظرًا لأن ما يحدُث في ذهن الشخص غيرُ قابل للملاحظة؛ ومن ثَم غير قابل للدراسة العلمية، يمكن تجاهل جميع العمليات اللاواعية (غير القابلة للرصد)، وركَّز عوضًا عن ذلك على دراسة السلوك الذي يمكن ملاحظته، وعلى تطويرِ النظريات لتفسير كيف تعلَّم الشخص هذا السلوك (نظرية التعلُّم).

درس مُنظِّرو السلوك والتعلُّم الارتباطاتِ بين الأحداثِ التي يمكن ملاحظتها، ولا سيما «المثيرات» (وهي جانبٌ من جوانب البيئة)، و«الاستجاباتِ» (أي: ردود الفعل، التي يمكن ملاحظتها أو قياسها، الصادرة من الشخص أو الحيوان الخاضع للدراسة) لفَهْم كيف يتعلَّم الناس تكوينَ ارتباطاتٍ جديدة بين المثيرات والاستجابات؛ على سبيل المثال، كيف تتطوَّر مخاوفُ لدى الناس من أشياءَ غير ضارة. كان الهدف هو استخدام النظريات الخاصة بكيفية تَعَلُّم الناس، بغرضِ تعديل الاستجابات الانفعالية أو السلوكية غير المرغوب فيها، مثل الخوف. فبدلًا من النظر إلى أنواع الرُّهاب باعتبارها وسيلةَ دفاع ضد القلق من الرغبات المُلحَّة المكبوتة، كما كان يرى فرويد، رأى منظِّرو السلوك والتعلُّم أنها ارتباطاتٌ مكتسَبة. ولذا، كان يُنظَر إلى أنواع الرُّهاب على أنها استجاباتٌ اكتُسِبَت، إما من خلال التجربة المباشرة أو عَبْر شكلٍ من أشكال الملاحظة أو التوجيه. وإذا كان الرُّهاب استجابةً مكتسَبة نتعلَّمها، فمن المنطقي أنَّ ما يمكن اكتسابه يمكن تركه أيضًا.

استخدمَ المنظِّرون السلوكيُّون الحيواناتِ لدراسة عملية التعلُّم علميًّا، وحدَّدوا ثلاثة أنواعٍ رئيسية من التعلُّم. الأول هو «الارتباط الشرطي الكلاسيكي»، وهو التعلُّم الذي يعتمد على الارتباط بين الأحداث، مثل الشعور بالجوع عند سماع جرس العشاء؛ لأنك أصبحت تَربِط بينه وبين مواعيد الوجبات. والثاني هو «الارتباط الشرطي الاستثابي»، وهو التعلُّم الذي يعتمد على نتائج السلوك؛ ومن ثَم تؤدي النتائج الإيجابية إلى تَكرار السلوك، بينما تؤدي العواقبُ السلبية إلى التقليل من تَكرار السلوك. ومن الأمثلة على ذلك تعلُّم عدم لمس الأشياء الساخنة لأنها تؤلم، والعمل سعيًا إلى كسبِ المال. الشكل الثالث والأخير للتعلُّم، هو «التعلُّم القائم على الملاحظة»؛ أي التعلُّم من خلال مشاهدة الآخرين، مثل تعلُّم استخدام لعبة كمبيوتر من خلال مشاهدة شخصٍ آخرَ يلعبها.

الارتباط الشرطي الكلاسيكي

الارتباط الشرطي الكلاسيكي هو التعلُّم الذي يحدث عندما يُقْرَن مثيران بشكلٍ متكرر؛ أي إنهما يحدُثان في الوقت نفسه. الاستجابة التي يولِّدها المثير الثاني في البداية، يولِّدها المثير الأول وحدَه فيما بعد. يتضمن الارتباط الشرطي الكلاسيكي ثلاث مراحل، وفي كل مرحلةٍ تُعْطى المثيرات والاستجابات المَعنية أسماءً علمية محدَّدة.

  • المرحلة الأولى: ما قبل عملية الارتباط الشرطي. تركِّز هذه المرحلة على العلاقة الطبيعية بين المثير والاستجابة. المثيرات والاستجابات هنا غير شرطية؛ لأنها ليست ارتباطاتٍ جرى تعلُّمها (شرطية)، ولكنها استجابات طبيعية. ومن ثَم، فالمثير في البيئة ينتِج استجابة، وهي التي تكون ردَّ فعل طبيعي لهذا المثير. على سبيل المثال، يَنتج عن المثير غير الشرطي، المتمثِّل في الشوكولاتة، استجابةٌ غير شرطيةٍ متمثلة في المتعة. أو يَنتج عن مثيرٍ غير شرطي كعَضة كلب استجابةٌ غير شرطيةٍ متمثلة في الألم. يُطلق على المثير الثاني المتضمَّن في هذه المرحلة المثير المحايد، ويمكن أن يكون أي مثير (مثل لون أو صوت أو شيء) لا تنتج عنه في هذه المرحلة أيُّ استجابة.
  • المرحلة الثانية: أثناء عملية الارتباط الشرطي. تتم عملية الارتباط الشرطي عندما يرتبط المثير المحايد بالمثير غير الشرطي، وعند هذه النقطة يُعرف باسم المثير الشرطي. لإجراء هذا الارتباط، لا بد أن يرتبط المثير غير الشرطي بالمثير المحايد/الشرطي عدةَ مرات. إذا ربطتَ باستمرار بين مثير غير شرطي، مثل عضة كلب، ومثير محايد (الكلب)، فسيصبح المثير المحايد (الكلب) في النهاية مرتبطًا بالألم كاستجابة غير شرطية، حتى في حال غياب المثير غير الشرطي (العَضة). عادةً ما تأخذ مثل هذه الارتباطات العديدَ من صور الاقتران، بين المثيرات المحايدة وغير الشرطية، ولكن يمكن تعلُّمها من خلال اقترانٍ واحدٍ فقط من المثيرات، إذا كانت الاستجابة جديدة، أو ممتعة أو منفِّرة بشكلٍ خاص. على سبيل المثال، إذا أُصِبْتَ بتعبٍ شديدٍ بعد تناول طعامٍ معيَّن (والذي كان في السابق مثيرًا محايدًا)، خصوصًا إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي تتناول فيها هذا الطعام (أي إنه جديد)، فمن المحتمَل جدًّا أن تشعر بالإعياء إذا فكَّرت في هذا الطعام، بغض النظر عما إذا كان هو سبب المرض الأصلي أو لا.
  • المرحلة الثالثة: ما بعد عملية الارتباط الشرطي. الآن جرى الربط بين المثير الشرطي (المحايد سابقًا) والمثير غير الشرطي، لإحداث استجابةٍ شرطيةٍ جديدة. أثبتَ عالِمُ الفسيولوجيا الروسي إيفان بافلوف عمليةَ الارتباط الشرطي الكلاسيكي الشهيرة، عندما جعل الكلاب تفرِز لُعابها عند سماع صوت الجرس، وهذا بإقران صوت الجرس مرارًا وتكرارًا بعملية إطعامها. كان الارتباط الطبيعي هو أن يسيل لعاب الكلاب عند رؤية طعامها، ولكن بعد إقران مشهد طعامهم بصوت الجرس بشكل متكرر، بدأ لعاب الكلاب يسيل بسماع صوت الجرس فحسب، مما يدُل على أنها تعلَّمت ارتباطًا جديدًا بين ما كان سابقًا مثيرًا محايدًا (الجرس) واستجابة غير شرطية (إفراز اللعاب) (انظر الشكل ١-١). مثالٌ يومي على ذلك هو عندما تأتي قطتي ركضًا، عندما تسمعني أفتحُ بابَ الخزانة التي أحتفظ بطعامها فيها. تُبين حقيقةُ أنها لا تأتي عندما أفتح أبوابَ خزاناتٍ أخرى أنها تظهر «تمييزًا للمثير»؛ أي إنها تعلَّمت الاستجابةَ بشكلٍ مختلفٍ للمثيرات المختلفة المتشابهة. تشكِّل نفسُ المبادئ الأساسَ الذي تقوم عليه الوسائل المساعدة في تدريب الحيوانات الأليفة، مثل الأطواق المضادة للنُّباح أو الأسوار المكهربة، حيث يربط الحيوانُ تلك المنطقةَ من الحديقة بالألم؛ ومن ثَم يتعلَّم تجنُّبها.
fig1
شكل ١-١: رسم توضيحي يبيِّن عملية الارتباط الشرطي الكلاسيكي.

بمجردِ ما أُثْبِتَ هذا الارتباط الشرطي الكلاسيكي، أو التعلُّم عن طريق الارتباط، في الحيوانات، كان التحدي التالي هو معرفةَ ما إذا كان ينطبق أيضًا على البشر. كان الإثبات السيئ السمعة، الذي أصبح الآن موضعَ تساؤلٍ أخلاقي، على انطباقه على البشر؛ هو وصف جون واطسون وروزالي راينر الذي يعود إلى عام ١٩٢٠، لتعلُّم صبي، يُعرف باسم «ألبرت الصغير» يبلغ من العمر ما بين ٩ إلى ١٢ شهرًا، الخوفَ من الفئران البيضاء عن طريق الارتباط الشرطي.

دفعت الملاحظات اليومية للأطفال عالمَي النفسِ الأمريكيَّين جون برودوس واطسون وروزالي راينر، إلى افتراض أن استجابات الأطفال التي يُظهِرون فيها خوفًا من الضوضاء الصاخبة، كانت استجاباتٍ فطرية غير شرطية؛ أي إن معظم الأطفال الصغار يَستجيبون بالفطرة تجاه الضوضاء الصاخبة بالخوف. أرادَ واطسون وراينر معرفةَ إنْ كانت استجابة الخوف غير الشرطية هذه يمكن أن تكون شرطيةً بما كان مثيرًا محايدًا فيما سبق أم لا. أولًا، لترسيخ خط أساسٍ يبدءون منه اختبروا استجاباتِ ألبرت للعديد من المثيرات، بما في ذلك فأرٌ أبيض، وأرنب، وقرد. لم يُظهر ألبرت خوفًا مرتبطًا بأيٍّ من هذه المثيرات، ولكنه أصدرَ استجابة بالبكاء تجاه الأصوات المرتفعة. أثناء التجربة، وُضِع فأر أبيض بالقرب من ألبرت الذي شُجِّع على اللَّعب معه. في كل مرةٍ لمس فيها ألبرت الفأر، أحدث القائمان على التجربة ضوضاءَ صاخبة. استجابَ ألبرت للضوضاء بالبكاء وإظهار الخوف. وبعد تكرار الاقتران بين المثيرَيْن (الفئران والضوضاء) عدةَ مرات، بدأ ألبرت في إظهار الخوف والبكاء استجابةً لرؤية الفأر، حتى دون وجود الضوضاء العالية المصاحبة. أصبحَ الفأرُ، الذي كان في الأصل مثيرًا محايدًا، مثيرًا شرطيًّا، وكان يثير استجابةً شرطية مشابهة للضيق (الاستجابة غير الشرطية) الذي ظهر في الأصل استجابةً للضوضاء الصاخبة (المثير غير الشرطي). أظهرَ ألبرت أيضًا بعضَ الخوف من الحيوانات الأخرى البيضاء ذات الفراء، ما يعني أنه أظهر «تعميمًا للمثير»، وهو عكسُ تمييز المثير الذي أظهرته قطتِي، ويحدُث عندما يُظهر الكائنُ الحي الاستجابةَ الشرطية للمثيرات الأخرى التي تشبه المثير الشرطي. أظهر كلٌّ من واطسون وراينر أنه يمكن استخدامُ الارتباط الشرطي الكلاسيكي، لتوليد خوفٍ مرتبطٍ بشيءٍ لم يكن مخيفًا في السابق. في الواقع، لقد خلقوا رُهابًا؛ أي خوفًا غيرَ عقلاني مُبالغًا فيه لا يتناسب مع الخطر الذي يمثِّله الشيء. وخلال الأسابيع القليلة المقبلة، خضعَ ألبرت للملاحظة، وبعد عشرة أيامٍ من إتمام عملية الارتباط الشرطي قلَّ خوفه من الفأر كثيرًا. يُعْرَف تلاشي الاستجابة المكتسَبة هذا باسم «الانطفاء». ولكن توجد أيضًا ظاهرة «الاسترجاع التلقائي»؛ أي عودة ظهور استجابة شرطية متلاشية، عندما يعاود المثير الشرطي الظهور بعد فترةٍ من الغياب. ولذا، لا يوجد ضمانٌ أنَّ خوف ألبرت من الفئران أو الأشياء المماثلة ما كان ليعود في وقتٍ ما في المستقبل.

بينما أظهر كلٌّ من واطسون وراينر أنهما يمكنهما استخدامُ مبادئ الارتباط الشرطي الكلاسيكي، لتحفيز خوفٍ لم يكن ليحدث لولاها، لا يوجد ما يثبت أنهما حاولا عكسَ هذا الخوف. ألهمَ عملُ واطسون وراينر عالِمةَ النفس الأمريكية ماري كافر جونز، فكانت أول مَن حاول استخدامَ الأساليب نفسها، لتقليل الخوف في عشرينيات القرن الماضي. كان بيتر صبيًّا يبلغ من العمر ثلاث سنوات يُعاني رُهابًا طبيعيًّا من الأرانب، كان معممًا لمثيراتٍ مماثلة. استخدمت جونز مبادئَ الارتباط الشرطي الكلاسيكي لتقليل خوفه، من خلالِ عكسِ ما فعله واطسون وراينر مع ألبرت تقريبًا. قدَّمت الأرانبَ تدريجيًّا لبيتر وأقرنت تلك التجربة بمثيرٍ سارٍّ (الحلوى). في البداية، أُبْقيَ الأرنب على مسافةٍ من بيتر ثم قُرِّب تدريجيًّا، وأُعطي بيتر الحلوى في الوقت نفسِه. وكانت النتيجة أن خوفه تضاءل تجاه كلٍّ من الأرانب والمثيرات المماثلة. ومع ذلك، لا نعرف ماذا كانت النتيجة على المدى الطويل.

تطوُّر العلاج السلوكي

في ستينيات القرن الماضي، بدأ المعالجون في استخدام هذه الأساليب لمساعدة المرضى في التغلُّب على مخاوفهم. كانت مهمة العلاج هي مساعدةَ المريض في إنشاء استجابةٍ جديدة، لا يخشى معها المثير الذي كان يخشاه سابقًا. يمكن القيام بذلك بعدَّة طرق. كانت الطريقة الأكثر شيوعًا هي «إزالة التحسُّس المنهجية» أو «العلاج بالتعرُّض التدريجي»، وهو شكلٌ من أشكال «الارتباط الشرطي المضاد» الذي طوَّره الطبيبُ النفسي الجنوب أفريقي جوزيف وولب، في خمسينيات القرن الماضي. تَستخدم هذه الطريقة «التثبيط المتبادل»؛ حيث تُثَبَّط استجابةٌ ما لأنها تتعارض مع استجابةٍ أخرى. في حالة الرُّهاب، الخوف ينطوي على القلق، والقلق يتعارض مع الاسترخاء. ولذا، تُستخدم مهارات الاسترخاء لتثبيطِ استجابة القلق. تَستخدم إزالة التحسُّس المنهجية الازديادَ التدريجي للتعرُّض الذي استخدمته جونز مع بيتر. هذا يعني جَعْل المريض يضع تسلسلًا هرميًّا للمواقف التي يخشى منها، بدءًا من المواقف التي من شأنها أن تزعجه قليلًا، وتعريضه لها تدريجيًّا حتى الوصول إلى المثير الرُّهابي، أو أكثر المواقف التي يخشى منها. في البداية، يُعرَّض المريضُ للمثير الباعث على القلق عند مستوًى منخفض، ويُحافَظ على هذا المستوى من التعرُّض حتى يقلَّ الخوف؛ نتيجةً لكلٍّ من التثبيط المتبادل و«الاعتياد»، وهو التراجع الطبيعي للاستجابة للمثير الذي يُقدَّم للشخص بشكلٍ متكررٍ من دون تغيير (على سبيل المثال، كيف نتوقَّف في النهاية عن ملاحظة أزيز ثلاجةٍ جديدةٍ أو دقَّات ساعةٍ جديدةٍ ونعتاد الأمر)، بحيث يتبدَّد القلق بمرور الوقت. بمجرد أن يُقلَّل القلقُ بشكل كبير، يمكن تعريض المريض إلى نسخةٍ أكثرَ قوة من المثير. تستمرُّ هذه العملية إلى أن يختفي شعور المريض بالقلق. يمكن أيضًا دمجُ هذا التعرُّض المتدرِّج مع الاسترخاء، لتسريع عملية الاعتياد باستخدام التثبيط المتبادَل أيضًا.

مثال على تسلسل هرمي لرُهاب العنكبوت
الموقف تقييم القلق
عنكبوت كبير يزحف على رقبتي ١٠٠
عنكبوت كبير على ذراعي ٩٥
عنكبوت كبير على ساق بنطالي ٩٠
عنكبوت متوسط على وجهي ٩٠
الإمساك بوعاء زجاجي مفتوح به عنكبوت كبير ٧٠
عنكبوت كبير طليق في الجانب الآخر من الغرفة ٦٥
الإمساك بوعاء زجاجي مغلق به عنكبوت كبير ٦٠
الإمساك بوعاء زجاجي مفتوح به عنكبوت متوسط الحجم ٥٠
عنكبوت صغير على رقبتي ٤٠
عنكبوت صغير على يدي ٣٥
مشاهدة فيديو لعناكب كبيرة ٣٥
مشاهدة صور عناكب كبيرة ٢٥
التفكير في العناكب أو الحديث عنها ٢٠

في حين أن إزالة التحسُّس المنهجية شكلَّت تقدمًا كبيرًا في علاج الرُّهاب، فإنها لا تخلو من التحديات. قد يعاني المرضى في سبيل تنفيذ استراتيجيات الاسترخاء أو الاستفادة منها، أو في سبيل الوصول إلى تنبؤاتٍ دقيقةٍ حول مستوى القلق الذي سيشعرون به في موقفٍ معيَّن. علاوةً على ذلك، ليسَت كل أنواع الرُّهاب قابلةً لتطبيق التعرُّض المتدرِّج بطريقةٍ يمكن التحكُّم فيها، كرُهاب العواصف الرعدية أو الحيوانات التي قد تتصرَّف بشكلٍ غير متوقَّع. وبعض أنواع الرُّهاب، مثل رهاب الطيران، يصعب تقسيمها إلى خطواتٍ متساوية الحجم. في مثل هذه الحالات، يمكن استخدام التعرُّض التخيُّلي أو الافتراضي بدلًا من ذلك. لقد ثبَت أن استخدام الواقع الافتراضي فعَّالٌ في علاج الخوف من الطيران. طوَّر عالِمُ النفس السريري لارس-يوران أوست جلسةَ علاجٍ واحدة للرهاب، حيث يحاول كلٌّ من المريض والمعالِج العملَ على التسلسل الهرمي للمريض في جلسةٍ واحدةٍ (عادةً نصف يوم). ولهذا الأمر مزاياه العملية (على سبيل المثال، عدم الاضطرار إلى الاحتفاظ بالعناكب لعدة أسابيع)، ووجدَ أوست أن «٩٠ في المائة من المرضى قد تحسَّنوا كثيرًا أو تعافوا تمامًا بعد متوسط ١,٢ ساعة من العلاج». في بعض الحالات، تعاونَ علماءُ النفس مع شركات الطيران التجارية؛ لتقديم دوراتٍ تدريبيةٍ قائمة على التعرُّض لعلاج الخوف من الطيران.

استُخدِمَت مبادئ الارتباط الشرطي الكلاسيكي عَبْر مواقف مختلفة، بدايةً من الإعلانات عن السيارات والمشروبات الكحولية، إلى حماية الأنواع المهدَّدة بالانقراض أو الماشية. لمنع الأسود من افتراس الماشية، تُعْطى لحوم بقر مضافًا إليها موادُّ كيميائية تسبِّب الغثيان. سيؤدي هذا إلى توليد نفور من لحم الأبقار لدى الأسود؛ لأنها ستربطه باستجابةٍ بغيضة (الغثيان). وبالمثل، غالبًا ما يتضمَّن الإعلان عن السيارات أو المشروبات الكحولية عارضاتِ أزياء جميلات. أظهرت الأبحاث أن الرجال الذين شاهدوا إعلانًا عن سيارة يتضمَّن امرأةً جميلة؛ قيَّموا السيارة لاحقًا على أنها أسرع وأكثر جاذبية، وأفضل تصميمًا من الرجال الذين شاهدوا الإعلان عن نفس السيارة من دون المرأة الجميلة. وبالمثل، تسارع وكالات الدعاية والإعلان إلى إلغاء العقود مع المشاهير الذين تعرَّضوا لتشويه السمعة؛ وهذا لأنهم لم يعودوا مرتبطين بدلالاتٍ أو مشاعر إيجابية.

الارتباط الشرطي الاستثابي

رأى بعضُ علماء النفس، مثل بورس فريدريك سكينر، أن الارتباط الشرطي الكلاسيكي مفرطٌ في التبسيط، بحيث لا يمكن أن يكون تفسيرًا كاملًا لكل عمليات التعلُّم. كانت النتيجة تطويرَ نظرية «الارتباط الشرطي الاستثابي»، والمعروفة أيضًا باسم «الارتباط الشرطي الإجرائي» أو «التعلُّم الإجرائي». استندت نظريةُ التعلُّم هذه إلى «قانون الأثر» الذي وضعه إدوارد ثورندايك في عام ١٩٢٧، والذي اقترحه بعد ملاحظاتٍ للقطط التي تحاول الهروبَ من صندوق متاهة. كي تتمكَّن من الهروب، كان على القطة أن تضغط على مقبض. اكتُشِف أنه مع المحاولات المتكررة، ستتمكَّن القطة من الهروب بسرعة أكبر، حيث تكون وتيرة المحاولات غير الفعَّالة أقلَّ تكرارًا، وتكون وتيرة المحاولات الفعَّالة أكثرَ تكرارًا. في النهاية ستذهب القطة مباشرةً إلى المقبض. وهكذا تكون القطة قد تعلَّمت كيفية الخروج من المتاهة. وهذا مثالٌ على الارتباط الشرطي الاستثابي، وهو نمطٌ من التعلُّم تتأثَّر فيه قوة السلوك أو تكراره بنتائجه، مثل المكافأة أو العِقاب، ويتم التحكم في السلوك من خلال سوابقَ تسمَّى «المثيرات التمييزية»، التي تعمل كإشارةٍ إلى تلك النتائج. ينص قانونُ الأثر الذي وضعه ثورندايك على أن الاستجابات التي تنتج تأثيرًا مُرضيًا (أو التي تتجنَّب مصدرًا للإزعاج) في موقف معيَّن؛ يصبح احتمال حدوثها مرةً أخرى في تلك الحالة أكبر، والاستجابات التي لها تأثير مزعج يصبح احتمال حدوثها مرةً أخرى في تلك الحالة أقل. باختصار، بعض النتائج يقوِّي السلوك، وبعضها الآخر يضعِفه. حدَّد سكينر نوعَيْن من العناصر الاستثابية يؤثِّران على السلوك:

  • الاستجابات التعزيزية أو المعزِّزات: هي استجاباتٌ من البيئة تزيد من احتمالية تكرار السلوك.
  • الاستجابات العقابية: هي استجاباتٌ من البيئة تقلِّل من احتمالية تكرار السلوك.

استخدمَ سكينر غرفة ارتباط شرطي استثابي، تُعرف باسم «صندوق سكينر»، لإظهار كيف يعمل العقاب والتعزيز الإيجابي والسلبي. إنَّ صندوق سكينر هو صندوق متاهة يمكن فيه تعريضُ حيواناتٍ، مثل الحَمَام أو الفئران، لمثيراتٍ يتمُّ التحكُّم فيها بعناية. احتوى الصندوق على مقبضٍ يُخرِج طعامًا إذا ضغط عليه الحيوان. وبينما يتحرَّك الحيوان داخل الصندوق، فإنه في النهاية سيضغط على المقبض بمحض المصادفة، وسرعان ما تعلَّمت الحيوانات الضغطَ على المقبض للحصول على الطعام، مما يدُل على التعزيز الإيجابي لسلوك الضغط على المقبض. وقد أثبتَ سكينر تعزيزًا سلبيًّا من خلال تعريض الحيوان لتيارٍ كهربائيٍّ مزعج، يمكن إغلاقُه عن طريق الضغط على المقبض («تعلُّم الهروب»). مرةً أخرى، بتكرار التجارب، تعلَّمت الحيوانات الضغطَ على المقبض على الفور. ضمنت نتيجةُ نجاتهم من التيار الكهربائي أنهم سيُكرِّرون هذا الفعل. في الواقع، عندما سبق تشغيل التيار الكهربائي ظهورُ ضوء، تعلَّمت الحيوانات الضغطَ على المقبض لمَنْع تشغيل التيار («تعلُّم التجنُّب»). وعندما يتضمَّن التعزيز إضافةَ شيءٍ ما (مثل الطعام) إلى موقفٍ ما؛ لزيادة احتمالية حدوث السلوك (الضغط على المقبض)، فإنه يسمَّى «التعزيز الإيجابي». التعزيز السلبي يكون عند نَزْع شيءٍ ما (التيار الكهربائي الكريه) لزيادة احتمالية حدوث السلوك. بعض المثيرات التي تعمل معزِّزاتٍ هي بطبيعتها مُرضية («معزِّزات أولية») لأنها تلبي حاجةً ما، مثل الطعام أو الماء. على النقيض من ذلك، فالمعزِّزات الثانوية هي أشياءُ مُرضية فقط لارتباطها بمعزِّز أساسي. على سبيل المثال، يُعَد المال معززًا ثانويًّا، حيث يمكن استخدامه لشراء الأشياء التي تلبي الاحتياجات (المعزِّزات الأولية).

يعكس العقابُ التعزيزَ من خلال ما يمارسه من إضعافٍ أو تقليلٍ بقوة الاستجابة أو تكرارها، ويمكن أن يكون العقاب إيجابيًّا أو سلبيًّا أيضًا. «العقاب الإيجابي» يكون بإضافة مثيرٍ بغيضٍ لتقليل تكرار سلوكٍ ما. على سبيل المثال، توبيخ الطفل لكونه مشاكسًا. على النقيض من ذلك، فإن «العقاب السلبي» هو عند إزالة شيءٍ سارٍّ، مثل «وقت اللعب»، لتثبيط سلوكٍ غيرِ مرغوبٍ فيه. وعلى الرغم من هذه الاختلافات المفاهيمية، فقد يكون من الصعب التمييزُ بين الاثنَين في الممارسة العملية؛ فإذا عُوقِبَ الطفلُ بالاحتجاز بسبب التحدُّث في الفصل، فهل العقاب في هذه الحالة إيجابيٌّ أو سلبيٌّ؟ إنه إيجابي لأنَّ مثيرًا غيرَ سارٍّ أُضيفَ (الحرمان من وقت الراحة)، ولكنه سلبي أيضًا لأن إمكانية الحصول على مثيرٍ سارٍّ (أيًّا كان ما يمكن للطفل فِعله إذا لم يُحرَم من وقت الراحة) قد انتُزِعَت. بشكلٍ عام، الأكثر فعالية هو محاولةُ تعزيز السلوك المرغوب فيه بدلًا من معاقبة السلوك غيرِ المرغوب فيه. ومع ذلك، قد يكون هذا صعبًا، وهذا لأنه في كثيرٍ من الأحيان على المستوى العملي، ما نريده أكثرَ هو تقليل تكرار السلوك غير المرغوب فيه (مثل العدوانية)، ويمكن أن يكون من الصعب معرفةُ كيفية مكافأة غياب هذا السلوك بشكلٍ فعَّال، لا سيَّما إذا كان سلوكًا وتيرة تكراره قليلة. علاوة على ذلك، هناك بعضُ الأدلة على أن تقديم المكافآت الخارجية يمكن أن يقوِّض الدافعَ الداخلي. ولذا، فإن مكافأة الطفل على تناول الخضراوات قد يقلِّل في الواقع من حبِّه لها، حتى لو نتجَ عن ذلك زيادةُ تناوله لها. (انظر الجدول ١-١).

يؤثِّر أيضًا المعدَّل الذي تُمنَح به المكافأة على مدى قوَّتها كمعزِّز. تُقاس قوة التعزيز بطريقتَين. أولًا: «معدَّل الاستجابة»، وهو معدَّل تكرار السلوك؛ أي عدد المرات التي يضغط فيها الفأر على المقبض؛ وثانيًا: «معدَّل الانطفاء»، وهو المدة التي يستغرقها الفأر للتوقُّف عن الضغط على المقبض، بمجرَّد توقُّف خروج الطعام.

جدول ١-١: أنواع العقاب والتعزيز
الإيجابي (إضافة مثير) السلبي (إزالة مثير)
التعزيز (يزيد من احتمالية تكرار السلوك) مثال: مكافأة الأطفال على انتظامهم في الحضور إلى المدرسة بالمال. مثال: تغريم الوالدَيْن اللذَيْن لا يحضُر أطفالُهما بشكل منتظم.
العقاب (يقلِّل من احتمالية تكرار السلوك) مثال: تكليف البعض بكتابة بعض الفقرات عدة مرات؛ عقابًا لهم على تحدُّثهم أثناء الدرس. مثال: حرمان البعض من وقت الراحة؛ عقابًا لهم على تحدُّثهم أثناء الدرس.
تُعرَف طريقةُ تنفيذ التعزيز وفقًا لجدول زمني محدَّد أو قاعدة بعينها باسم «نظام التعزيز»، وتَرِد أنواعه الرئيسية في الجدول ١-٢. كما ترون بالجدول أدناه، فمن المفارقة أن قوة ظهور السلوك لا تزيد كلما ضمنت الحصول على مكافأة بشكلٍ مستمر. بل غالبًا ما تكون أقوى المعزِّزات هي تلك التي يكون الحصول عليها أقلَّ توقعًا، مما قد يساعد في توضيح الإغراء الذي تشكِّله المقامرة أو شراء تذاكر اليانصيب.
جدول ١-٢: أنظمة التعزيز
نظام التعزيز المكافأة معدَّل الاستجابة معدل الانطفاء
مستمر مكافأة في كل مرة يظهر فيها السلوك (مثل جرعات يتحكَّم فيها المريض من مسكِّنات الألم). منخفض — لا يتطلب جهدًا كبيرًا حيث يمكنك الحصول على المكافأة وقتما تشاء. سريع — سرعان ما يتضح أن الفعل لم يَعُد ينتج عنه المكافأة.
فترة ثابتة مكافأة بعد فترة زمنية ثابتة شريطة إظهار السلوك مرةً واحدة على الأقل خلال ذلك الوقت (على سبيل المثال، جرعات من مسكِّنات الألم في أوقات محدَّدة). متوسط — يوجد بعض الدافعية للعمل من أجل الحصول على المكافأة. متوسط — يستحق مواصلة المحاولة لفترةٍ، لمعرفةِ إن كان سيصبح فَعَّالًا مرة أخرى كما كان، أم لا.
نسبة ثابتة مكافأة بعد حدوث السلوك لعدد محدَّد من المرات (على سبيل المثال، مكافأة الطفل ببعض الحلوى عند حصوله على خمس نجوم، في مخطَّط النجوم التشجيعي الخاص به). معدَّل الاستجابة مرتفع؛ لأن المكافآت تزيد بزيادة الجهد المبذول. معدل الانطفاء متوسط، حيث يستغرق الأمر بعضَ الوقت لإدراك أن القواعد قد تغيَّرت.
نسبة متغيرة يكافأ السلوك بعد عدد غير متوقَّع من المرات (مثل شراء تذكرة يانصيب أو المقامرة). معدَّل الاستجابة مرتفع؛ لأنك لا تعرف مقدار الجهد المطلوب منك للحصول على المكافأة. معدل الانطفاء بطيء؛ لأنه من الصعب معرفة أن المكافأة لم تَعُد متوفرة إذا كانت دائمًا غير متوقعة.
فترة متغيرة مكافأة بعد فترةٍ زمنيةٍ متغيرة، شريطة إظهار السلوك مرةً واحدةً على الأقل خلال ذلك الوقت (مثل التحقُّق من رسائل بريدك الإلكتروني). معدَّل الاستجابة مرتفع؛ لأنك لا تعرف مقدار الجهد المطلوب منك، للحصول على المكافأة. معدَّل الانطفاء بطيء؛ لأنه من الصعب معرفة أن المكافأة لم تَعُد متوفرةً إذا كانت دائمًا غير متوقعة.

استُخدِمت مبادئُ الارتباط الشرطي الاستثابي للتأثير على السلوك في العديد من السياقات. غالبًا ما تكون مثل هذه التدخُّلات شكلًا من أشكال «برنامج تعديل السلوك» الذي يستخدم أنظمةَ التعزيز و/أو العقاب، من أجل زيادة تكرار السلوكيات المرغوبة، و/أو تقليل تكرار السلوكيات غير المرغوب فيها. هذا أمرٌ شائع في سياقات الفصول الدراسية؛ حيث يتمُّ تقديم الثناء أو المكافآت على العمل أو السلوك الجيد، والعقاب على العمل أو السلوك السيئ. تُظهِر الأبحاث أن مكافأة المدخلات أكثرُ فعاليةً من مكافأة المخرجات؛ ومن ثَم فمكافأة الأطفال بالمال مقابل المذاكرة (المدخلات) تؤدِّي إلى حصولهم على درجاتِ اختبارٍ أفضلَ من مكافأتهم مباشرةً على تحقيق درجاتٍ أفضل في الاختبار (المخرجات). تشير مثل هذه الأبحاث إلى أن أنظمةَ «الدفع مقابل الأداء» للمعلِّمين، التي يتم فيها مكافأتهم بناءً على درجات اختبارات طلابهم (المخرجات)، قد لا تكون الاستراتيجية الأكثرَ فاعلية.

غالبًا ما تُستخدَم مبادئ الارتباط الشرطي الاستثابي في إدارة سلوك الطفل، مع استخدام مخطَّطات النجوم التشجيعية والمكافآت للسلوك الجيد، واستراتيجية قضاء بعض الوقت في مكان مخصَّص للعقاب للسلوك غير المرغوب فيه. استخُدمت تدخُّلات مماثلة لتعزيز الحضور في المدرسة، على سبيل المثال، من خلال مكافأة الحضور المنتظم بالمال أو قسائم الشراء، أو بتغريم الوالدَيْن على عدم حضور طفلهما بشكلٍ منتظمٍ في المدرسة. قد تَستخدم مؤسسة بأكملها مثلَ هذه الاستراتيجية. يستخدم بعضُ مستشفيات الطب النفسي أو المرافق التعليمية نظامًا يسمَّى «الاقتصاد الرمزي»؛ حيث يحصل الفرد على نقاطٍ أو ما شابه للقيام بالسلوك المرغوبِ فيه، ويمكن أن يُستبدَل بها مكافآت مثل الحصول على وجباتٍ خفيفة أو امتيازاتٍ بعينها أو القيام بأنشطة محدَّدة. غالبًا ما تعتمد السجون أيضًا على مثل هذه المبادئ، بتقديم مكافآتٍ على السلوك الجيد، أو غياب السلوك السيئ، مثل امتيازات متعلِّقة بمشاهدة التلفزيون، وعقاب السلوك غير المرغوب فيه بالاحتجاز الفردي. في الواقع، يمكن القول إن المجتمع القائم على استخدام النقود هو اقتصادٌ رمزي كبير؛ حيث يكافأ السلوك المرغوب (العمل) برموز تشجيع (المال) تتيح الحصولَ على المكافآت.

لقد غطَّى هذا الفصل أولَ شكلَيْن من أشكال التعلُّم، ألا وهما الارتباط الشرطي الكلاسيكي والارتباط الشرطي الاستثابي. ويُعتقَد أن الشكل الثالث من التعلُّم، وهو التعلُّم القائم على الملاحظة، يتضمَّن المزيد من الوساطة المعرفية، وهذا ما سنتناوله في الفصل الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤