الفصل الثالث

النظرية وراء العلاج السلوكي المعرفي

في مسرحية «هاملت»، كتبَ شكسبير «لا يوجد شيءٌ جيد أو سيئ في حد ذاته، ولكن التفكير هو ما يجعله هذا أو ذاك»، مدركًا أن الطريقة التي نفسِّر بها الأحداث تؤثِّر على ردود أفعالنا الانفعالية تجاهها. الفكرة الأساسية وراء العلاج السلوكي المعرفي هي أن كيفية إدراكك للموقف تؤثِّر على شعورك به. على سبيل المثال، إذا تجاهلتك إحدى معارفك فسيثير ذلك ردَّ فعلٍ انفعاليًّا يختلف باختلاف كيفيةِ تفسيرك للأمر. قد يكون ردُّ الفعل الانفعالي هو القلق («قد أكون فعلت شيئًا أزعجها؟»)، أو الاكتئاب («لا أحدَ يرغب في التحدث إليَّ على أي حال؛ أنا مملٌّ للغاية»)، أو الغضب («يا لها من وقحةٍ متغطرسة للغاية، أنا لا أستحق مثل هذا الازدراء!»). من ناحية أخرى، قد يكون ردُّ الفعل محايدًا («ربما تكون شاردةَ الذهن ولم تلاحظني»).

وفقًا لنص بيك وزملائه الكلاسيكي في عام ١٩٧٩، فإن العلاج السلوكي المعرفي هو «نهجٌ فاعل وتوجيهي ومنظَّم، يعتمد على الأساس المنطقي النظري القائل بأن مشاعرَ الفرد وسلوكه يتحدَّدان إلى حدٍّ كبير بالطريقة التي يُرتَّب بها العالم». الفكرة الأساسية هي أن الأفكار والمشاعر ستؤثِّر وتتأثَّر بسلوكك وردود أفعالك الفسيولوجية. وكلُّ هذا يتأثَّر بالبيئة المحيطة بك. لذا، ليس فقط ما يحدُث لك هو الذي يحدِّد تجربتك الشعورية، بل أيضًا تفسيرك لما حدَث. عندما يبدو أحد المشاعر غير متناسِب مع الحدث، يمكن للمعنى الشخصي الذي يربطه الفرد بالحدث أن يفسِّر ردَّ الفعل الانفعالي. ولذا، لفهم ضوائق الناس، لا بد أن نفهم «معانيهم»، أي إدراكاتهم؛ أي طريقتهم الفردية في إدراك تجاربهم في العالم. وهو ما يفتح بابَ إمكانية القدرة على تقليل ضوائقهم، من خلال مساعدتهم على تعديل هذه التفسيرات.

صياغة الحالة

يَستخدم جميع أشكال العلاج النفسي مفهومَ «صياغة الحالة»؛ أي الفَهْم النظري لكيفية تطوُّر المشكلة النفسية واستمرارها. تلك الصياغة هي إحدى الطرق الأساسية التي تتمايز من خلالها مدارس العلاج النفسي المختلفة. وهي تختلف في العلاج السلوكي المعرفي عن مدارس العلاج النفسي الأخرى، ليس فقط بالنظريات التي تستند إليها، ولكن أيضًا بالطريقة التي تُتَناوَل بها. تكون عمليةُ وَضْع صياغةِ الحالة في العلاج السلوكي المعرفي، عمليةً تعاونية وشفَّافة، وقائمةً على الفرضيات. وتُستنبط الصياغة — ألا وهي عملية فَهْم الصعوبات التي يعانيها المريض — بشكل تعاوني بين المريض والمعالِج. يقدِّم المعالِج خبرتَه في النظريات المعرفية والسلوكية، ولكن المريض هو الخبير فيما يتعلَّق بتجربته الخاصة. يضع المريضُ والمعالِج معًا فرضياتٍ حول ما أدَّى إلى تطوُّر المشكلة (المشكلات)، وما الذي يجعلها مستمرة.

تُقْتَرح صياغةٌ أولية في شكل فرضية، أو مجموعة من الفرضيات، على أن يتم تطويرها واختبارها وتحسينها خلال العلاج. يجب أن تكون الصياغة في العلاج السلوكي المعرفي صياغةً «فردية»، بحيث تكون مخصَّصة لفرد بعينه. ستكون عناصر الصياغة مشتركةً لدى الأشخاص الآخرين الذين يعانون مشكلاتٍ أو تجاربَ مماثلةً، ولكن المحتوى الدقيق للصياغة في العلاج السلوكي المعرفي لن يعكس سوى تجربة ذلك الفرد فقط. لكي تكون الصياغة مفيدة، لا بد ألَّا تشرح فقط تطوُّر المشكلة، ولكن أيضًا ما الذي يجعلها مستمرةً في الوقت الحاضر. إن هذه العوامل المُحافِظة هي التي تحافظ على استمرار المشكلة، وهي التي يترتَّب عليها ظهورُ أهداف العلاج؛ أي: ما الذي يتحتَّم تغييره حتى لا يواجه هذا الشخصُ تلك المشكلةَ بعد ذلك.

نظرية بيك عن الاضطرابات الوجدانية

نظرًا لتركيز العلاج السلوكي المعرفي على الإدراك، وعلى تفسير الفرد للأحداث، يحتاج نموذج العلاج السلوكي المعرفي إلى تفسير كيفية تكوين الأشخاص لمِثل هذه التفسيرات المميزة. أوضح بيك نظريتَه حول كيفية تطوُّر الاضطرابات الوجدانية، في كتابه الذي نُشر عام ١٩٧٦ بعنوان «العلاج المعرفي والاضطرابات الوجدانية». وقد اقترح، بناءً على التجارب المبكرة التكوينية، أن الناس يطوِّرون «معتقدات أساسية» (التي تسمَّى أحيانًا أيضًا ﺑ «المعتقدات المحورية» أو «المعتقدات غير الشرطية») عن أنفسهم والعالَم والآخرين. إذا كانت هذه المعتقَدات الأساسية سلبيةً (على سبيل المثال، «أنا لست جيدًا بما فيه الكفاية» أو «العالم مكان سيئ»)، فلا بد للأفراد أن يجدوا طريقةً للتكيُّف مع هذه المعتقَدات. على سبيل المثال، يجب أن يجدوا طرقًا للتعامل مع تحديات الحياة المترتِّبة على اعتقادهم بأنهم ليسوا جيدين أو قادرين بالقَدْر الذي يرون أنهم بحاجة إليه. ومن ثَمَّ يطوِّرون قواعدَ لمساعدتهم على التعامل مع الحياة، على الرغم من معتقَداتهم الأساسية السلبية. قد تكون بعض هذه القواعد غيرَ فعَّالة؛ ومن ثَم تُعرف باسم «الافتراضات غير الفعَّالة» (وتُعرف أحيانًا ﺑ «المعتقدات الشرطية» أو «قواعد الحياة الشرطية»). هذه القواعد التي تتَّخذ صيغةَ «إن كان كذا، فسأفعل كذا» توجِّه سلوكَنا، وتساعدنا على التعامل مع المعتقَدات الأساسية السلبية عن أنفسنا أو الآخرين أو العالَم. ربما كانت هذه القواعدُ فعَّالة (تكيُّفية) فيما سبق في الظروف التي تعلمها الفرد فيها، ولكنها قد تكون أقلَّ تكيفية في ظروفٍ لاحقة؛ ومن ثَم يمكن أن تؤديَ إلى اضطراب وجداني. على سبيل المثال، يمكن أن تكون قاعدة مثل «لا بد أن أُبقي الآخرين بعيدًا عني وإلا فسيحاولون التحكُّم بي» استجابةً تكيُّفية للعلاقات الأسرية المتشابكة، ولكن خارج هذا السياق الاجتماعي، من المُحتمَل أن يكون لها أضرارٌ كبيرة مثل العُزلة.

النوع الأخير من المعتقَدات (أو التفكير) الذي يشكِّل أهميةً في نموذج العلاج السلوكي المعرفي للاضطراب الوجداني هو «الأفكار التلقائية». وهي الأفكار الموجودة على المستوى السطحي، والمخصَّصة لمعالجة الوضع الحالي بصورةٍ أكثر تحديدًا، والتي يُعتقد أنها تلعب دورًا أكبرَ في استمرار الاضطرابات الوجدانية بدلًا من التسبُّب فيها. لذا، يحدِّد نموذج بيك ثلاثة مستوياتٍ أو أنواع مختلفة من الإدراك التي يُعتقد أنها مهمة؛ «المعتقدات الأساسية»، و«الافتراضات غير الفعَّالة»، و«الأفكار التلقائية»، ويوضِّح الشكل ٣-١ خصائصَ هذه الأنواع أو مستويات الإدراك.
fig5
شكل ٣-١: خصائص «مستويات» الإدراك المختلفة.

على المستوى السطحي الذي يسهُل الوصول إليه، توجد «الأفكار التلقائية» التي هي تيار الوعي الذي يمرُّ عَبْر أذهاننا. تشبه هذه الأفكار صوتَ أزيز الثلاجة أو ضوضاء الطريق في الخلفية؛ ولذلك قد لا نُعيرها الاهتمام دائمًا، ولكن يمكننا اختيارُ الإنصات إليها إذا أردنا ذلك. إنها أكثرُ أنواع الأفكار تحديدًا وأقلُّها عموميةً. أما على الطرف الآخر من السلسلة، فتوجد «المعتقَدات الأساسية» التي يصعُب الوصول إليها، والتي تكون أكثرَ عمومية. المعتقَدات الأساسية هي معتقَدات مطلَقة وغير شرطيةٍ عن أنفسنا أو الآخرين أو العالَم. تتضمَّن المعتقَدات الأساسية السلبية أفكارًا مثل «أنا غبي» أو «الآخرون غير جديرين بالثقة»، وتعمل هذه المعتقَدات بمنزلة مُرشِّح لخبرتنا، مما يجعلنا نلاحظ ونتذكَّر المعلومات التي تتوافق معها. أما «الافتراضات غيرُ الفعَّالة» فهي تقع على مستوًى وسطٍ بين الأفكار التلقائية والمعتقَدات الأساسية، وهي القواعد التي نستخدمها لتوجيه سلوكنا. عادةً ما تتعلَّق الافتراضات غيرُ الفعَّالة بما يعتقد الناس أنهم بحاجةٍ إليه؛ كي يكونوا سعداء أو آمنين، وكيف عليهم التصرُّف ليرَوْا أنهم جديرون بالاحترام، والمعايير التي يتوقَّعونها من أنفسهم، والآخرين، والعالَمِ بشكلٍ عام. تتمحور المخاوفُ الرئيسية حول القبول والإنجاز والسيطرة. يقدِّم الجدول التالي أمثلةً على افتراضاتٍ أكثرَ وأقلَّ فعاليةً في هذه النطاقات.

أمثلة على الافتراضات الأكثر والأقل فاعليةً

الإنجاز

«إذا لم أتمكن من إنجاز الأمر على نحو مثالي، فلا جدوى من المحاولة» في مقابل «من الجيد أن أجتهد، ولكن من غير الواقعي أن أتوقَّع القيام بكل شيء على أكمل وجه.»

القبول

«إذا كان شخصٌ ما لا يحبني، فهذا يعني وجود عيب فيَّ» في مقابل «لست بحاجة إلى استحسان الجميع لكي أشعر بالرضا عن نفسي.»

السيطرة

«طلب المساعدة علامةٌ على الضَّعف» في مقابل «يمكن أن يكون طلب المساعدة وسيلةً لإيجاد حل، وهو أفضل من المعاناة غير الضرورية بمفردي.»

على سبيل المثال، الشخص الذي لديه معتقَد أساسي بأنه غبي استنادًا إلى تجاربَ مبكِّرة، مثل ضعف التحصيل الدراسي في المدرسة، سيطوِّر قواعدَ أو استراتيجياتٍ للتعايش على الرغم من اعتقاده بأنه غبي. قد يعمل هذا الشخص بكدٍّ شديد للغاية ليعوِّض غباءَه المتصوَّر؛ ومن ثَم قد يقوم في الواقع بعملٍ جيد للغاية. سيعكس هذا الافتراض القائل «لا بد أن أجتهد أكثرَ من الآخرين لمواكبتهم»، وقد يكون تكيفيًّا في العديد من المواقف. وبالمقابل، قد يفعل العكس ولا يجتهد على الإطلاق ليتجنَّب أن يُفْضَح غباؤه، أو لأنه مقتنع تمامًا بأنه سيفشل، لدرجةِ أنه لا يرى أيَّ جدوى من المحاولة. يُحتَمل أن تكون هذه الاستراتيجية أقلَّ تكيُّفية. كما سيكون للمواقف التي يجد نفسَه فيها تأثيرٌ أيضًا. فإذا واجه الشخص الذي يستخدم استراتيجيةَ العمل بكَدٍّ دائمًا لتعويض غبائه المتصوَّر؛ موقفًا يتعذَّر عليه فيه بذلُ جهدٍ إضافي، أو يفشل في تحقيق المعيار المطلوب، على الرغم من عمله الجاد، فسَيُثَار معتقَده الأساسي بأنه غبيٌّ وسيصبح أكثرَ وعيًا به، مما سيزيد من احتمالية الشعور بالضيق. أما الشخص الذي لا يملِك معتقَدًا أساسيًّا بأنه غبي، فقد يعزو مثل هذه الإخفاقات إلى الظروف أو الحظ السيئ؛ ومن ثَم يكون وَقْع التجربة عليه أقلَّ إزعاجًا، وربما تكون احتمالية محاولته مرةً أخرى أرجحَ.

قد تكون المعتقَدات والافتراضات غيرُ الفعَّالة ضارَّةً بسبب مضمونها — فأيُّ شخصٍ يعتقد أنه سيئٌ من المحتمَل أن يعاني — ولكن قد لا يكون مضمونُها غيرُ الفعَّال واضحًا. على سبيل المثال، تُقَدِّر بعضُ السياقات الاجتماعية الثقافية الاستقلالية، وقد تكون هناك مزايا في عدم الاعتماد على الآخرين، وفقًا للسياق الذي توجَد فيه. تتميز المعتقَدات الأساسية والافتراضات غيرُ الفعالة بأنها شديدة الجمود و/أو التطرُّفِ، ولا تعكس تعقيدَ الطبيعة البشرية. من الجيد بالطبع إيلاءُ الأولوية لاحتياجات الآخرين، عندما تكون لديك الموارد اللازمة لذلك، ولكن الشعور بالإلزام بوَضْع الآخرين دائمًا في المقام الأول؛ تفكيرٌ غير تكيُّفي على الأرجح في العديد من المواقف.

يُعتقد أن كلًّا من المعتقَدات الأساسية والافتراضات غير الفعَّالة، يجعل الفردَ عُرضةً للإصابة بالاضطراب الوجداني، اعتمادًا على الظروف. وتلعب الأفكار التلقائية دورًا كبيرًا في استمرار الاضطراب بمجرد استثارتها. وتتفاعل كلُّ هذه الأنواع الثلاثة بعضها مع بعض، بالإضافة إلى الاستجابات الفسيولوجية والسلوكية، لتبقي الفرد «عالقًا» في دائرة الاضطراب. وعلى الرغم من أن عملَ بيك ركَّز في الأصل على الاكتئاب، فقد طُبِّق «النموذج المعرفي للاضطراب الوجداني» الخاص به على مجموعةٍ واسعة من الاضطرابات الوجدانية، ونسخة النموذج الموضَّحة في الشكل ٣-٢ أدناه هي مزيجٌ عامٌّ من نُسخٍ مختلفة يمكن استخدامُها، لمحاولة فَهْم تطوُّر أي مشكلةٍ انفعاليةٍ والدور الذي تلعبه الحلقات المُفْرغة في استمراريَّتها. وسننظر فيما يلي في كيفيَّة فَهْم النظريات السلوكية المعرفية، لكيفيَّة تطوُّر المشكلات النفسيَّة واستمرارها، قبل أن ننتقل إلى تناول التدخُّلات المستخدَمة لعلاجها.
fig6
شكل ٣-٢: نموذج علاجٍ سلوكي معرفي عام.

النتائج المستخلصة من نموذج العلاج السلوكي المعرفي

كما رأينا، تتمثَّل إحدى الفرضيات الأساسية للنموذج السلوكي المعرفي في أن الأحداث ليست فقط هي المهمة، بل الطريقة التي نفسِّر بها تلك الأحداث. ومن ثَم، لمساعدة الأشخاص، نحتاج إلى فَهْم عمليات تفكيرهم، أي طرقهم النموذجية والخاصة بكل موقفٍ لإدراك العالم. يمكن أن يحمل نفس الحدث معانيَ مختلفة تمامًا، كما هو موضَّح أعلاه في المثال الذي يتعرَّض فيه شخصٌ للتجاهل من إحدى معارفه. ومع ذلك، يعتمد ذلك على السياق؛ إذ توجد بعض الأحداث التي تسبِّب إزعاجًا للجميع، مثل تجربة الصدمة أو فقدان الأحباء، وأحد الانتقادات الموجَّهة إلى نموذج العلاج السلوكي المعرفي، هو أن تركيزه على تفسيرِ الفرد للأحداث ينطوي على إمكانية التهوين من وطأة الضيق النفسي، الذي يعانيه نتيجةً للظروف الحياتية الصعبة. فإذا جرى تشخيصك بمرضٍ يهدِّد حياتك، فأي قَدْر من العلاج السلوكي المعرفي لن يفيد بشيءٍ. إن الجانب الذي يمكن للعلاج السلوكي المعرفي أن يفيد فيه على أكبرِ نحوٍ؛ هو عندما يكون ردُّ الفعل الانفعالي غير متناسبٍ مع الحدث، فيما يتعلَّق بشدته أو مدَّته. ومع ذلك، فهناك شيءٌ من إصدار الأحكام متضمَّن في تحديدِ ما إذا كان ردُّ الفعل الانفعالي مبالغًا فيه أو غير متناسبٍ مع الحدث. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون الشعور بالحزن الشديد لفقدان الأطفال مفهومًا للجميع، ولكن ماذا عن نفس مستوى الحزن المفرِط تجاه فقدان حيوان أليف محبَّب؟ وهكذا، تؤثِّر المعايير الاجتماعية والثقافية على ما يُعتبر متناسبًا مع الحدث. علاوة على ذلك، حتى عندما يكون الحدث محزنًا بشكل واضح، فقد يكون للعلاج السلوكي المعرفي بعضُ الفوائد في مساعدة الشخص على إيجاد أفضل طريقة للتكيُّف مع الظروف المتغيِّرة.

تهدف عمليةُ وَضْع صياغة الحالة في العلاج السلوكي المعرفي إلى تقديم فَهْم لِما يسبِّب المشكلات، أو يجعلها تستمر، أو يعيق حلَّها. على سبيل المثال، إذا نسبت الرفضَ إلى شعورٍ متأصلٍ بكونك غير محبوب، فسيؤثِّر ذلك على استجاباتك الانفعالية والسلوكية بشكلٍّ مختلِف عما إذا نسبته إلى الظروف أو سوء الحظ. من المرجَّح أن يؤديَ عزو الرفض إلى وجودِ خَطْب ما بك إلى مزيدٍ من الحزن، وسيؤثِّر على الأرجح على سلوكك المستقبلي في المواقف التي يكون فيها الرفض أمرًا محتملًا، وهو ما قد يتجلَّى على سبيل المثال في صورةِ تجنُّب العلاقات، أو بذل محاولاتٍ حثيثةٍ لإرضاء الآخرين، أو التظاهر بطبيعةٍ عكس طبيعتك. قد تؤثِّر هذه الاستجابات بدورها على احتماليةِ حدوث المزيد من الرفض، كما هو موضَّح في الشكل ٣-٣. وهذا مجرد مثال واحد لنوعِ الحلقة المُفْرغة التي يمكن أن تُتضمَّن في نسخةٍ فرديةٍ من النموذج العام الموضَّح في الشكل ٣-٢.
fig7
شكل ٣-٣: حَلْقة مفرغة توضِّح الاستجابات المحتمَلة تجاه الرفض.

أهمية التجربة والسياق الاجتماعي الثقافي

نظرًا لأن العلاج السلوكي المعرفي يركِّز على الحاضر، وعلى الحلقات المُفْرغة المفترَضة، فغالبًا ما يتعرَّض للانتقاد لتجاهله التجاربَ السابقة للفرد (تاريخه)، والسياق الاجتماعي الثقافي الأوسع. ومع ذلك، فهذا ليس هو الحال بالضرورة. يشير نموذج العلاج السلوكي المعرفي العام الموضَّح في الشكل ٣-٢ إلى أن العوامل المُهيِّئة، بما في ذلك الخبرة السابقة، تجعلك عرضةً للإصابة بالاضطراب الوجداني، وأن أفكارك (على المستويات الثلاثة كلها) تلعب دورًا مهمًّا في استمرار المشكلة، وأن كلَّ هذا يحدث في سياق بيئتك. استخدم معالِجُ العلاج السلوكي المعرفي ديفيد ويستبروك، المدير السابق لمركز أكسفورد للعلاج المعرفي، تشبيه النار لشرح تركيز العلاج السلوكي المعرفي على العوامل المُحافِظة؛ فعلى سبيل المثال، إذا اكتشفت حريقًا، فلن تشرع في مواجهته بالبحث عن عودِ الثقاب الذي تسبَّب فيه، بل ستشرع في مواجهةِ العوامل التي تجعله مستمرًّا حاليًّا — ألا وهي إمدادات الوقود والأكسجين. ومع ذلك، بمجرد السيطرة على الأزمة الحالية، قد يكون من المفيد التحقيق في سببِ حدوث الحريق، أو زيادة مخاطر حدوثه في المقام الأول، لتقليل مخاطر حدوثه مرة أخرى. يكون الوضع مشابهًا في العلاج السلوكي المعرفي، حيث ينصبُّ التركيز الأولي على تحديدِ ومعالجةِ ما يجعل المشكلة مستمرةً في الوقت الحالي، وعلى الأفكار والمشاعر والسلوكيات والاستجابات الفسيولوجية ذات الصلة. ولكن بمجرد معالجة هذه العوامل، يكون من المهم استكشاف عوامل الضَّعف، مثل المعتقَدات الأساسية والافتراضات غير الفعَّالة، لمعرفةِ ما إذا كان يمكن تعديل هذه العوامل، بحيث يكون الشخص أقلَّ عرضةً للمعاناة من المشكلة في المستقبل. وقد يكون السياق الاجتماعي الثقافي وثيقَ الصلة بعوامل الضَّعف تلك في التأثير على القواعد التي نكوِّنها حول كيفية عيش الحياة. على سبيل المثال، معدَّلات اضطرابات الأكل هي الأعلى في الثقافات الصناعية حيث يوجد تركيزٌ على النحافة، خاصة إذا كانت النحافة مرتبطةً بالنجاح. يمكن أن ينطبق هذا الأمر بشكلٍ خاصٍّ على المهن أو الرياضات التي تتطلَّب جسمًا بمواصفاتٍ خاصة (على سبيل المثال، الباليه، وسباقات ركوب الخيل، والجمباز، ومجال عروض الأزياء، والتمثيل).

يقترح نموذج العلاج السلوكي المعرفي أنك تُطوِّر، على أساس التجارب التكوينية، معتقَداتٍ أساسية عن نفسك والعالم. وإذا كانت هذه التجارب التكوينية سلبية، فمن المرجَّح أكثر أن تُطوِّر معتقداتٍ أساسية سلبية. ومن ثَم، فتجارب الطفولة السيئة، مثل سوء المعاملة أو الإهمال أو الفَقْد أو المعاناة بسبب وجود خلل أسري كبير، طالما ارتبطت بالاكتئاب والقلق وحتى الانتحار في مرحلة البلوغ. ومن المثير للاهتمام أن مثلَ هذه التجارب السيئة في مرحلة الطفولة، قد ثبَت أيضًا أنها تتنبَّأ بحدوث نتائجَ أسوأ في جوانبَ أخرى غير نفسيةٍ، مثل الحمل في فترة المراهقة، والأمراض العضوية مثل الربو. تظل الطريقةُ التي تؤدي بها هذه التجارب إلى نتائجَ صحيةٍ، سيئةً غيرَ مفهومة فهمًا كاملًا، ومن المحتمَل أنها تتم عَبْر مساراتٍ عديدة. من الواضح وجودُ تأثير مباشر للفقر والمحدِّدات الاجتماعية للصحة مثل الوظيفة والدخل، ولزيادة استخدام السلوكيات الضارة بالصحة، مثل التدخين والأنظمة الغذائية غير الصحية وتعاطي المخدِّرات. ومع ذلك، تشير الأبحاث الحديثة إلى أنه قد تكون هناك تأثيراتٌ أوسعُ لتجارب الطفولة السيئة، مثل حدوث تغيُّراتٍ في استجابات مراكز المتعة والمكافأة في الدماغ، بعدما أظهرت دراسات تصوير الدماغ وجودَ اختلافاتٍ في مناطقَ معينةٍ من الدماغ (مثل قشرة الفص الجبهي واللوزة الدماغية) بين مَن عانَوا تجاربَ سيئةً في مرحلة الطفولة ومَن لم يُعانوها، وأن تأثير تلك التجارب تراكمي؛ إذ كلما كان عددها أكبر، كان لها تأثيرٌ أكبر. يشير هذا البحث إلى أن الأطفال الذين عانَوا تجاربَ سيئةً هم أكثر عرضةً للمبالغة في ردِّ الفعل، تجاه الضغوط وهم بالغون.

بينما يقرُّ العلاج السلوكي المعرفي بدور العوامل المُهيِّئة مثل تجارب الطفولة السيئة، والعوامل الوراثية، وكيمياء الدماغ، فهو يرى أن هذه العوامل أقلُّ قابليةً للتغيير؛ ومن ثَم يركِّز بدلًا من ذلك على المعتقَدات وأنماط الاستجابة السلوكية أو الانفعالية التي تطوَّرت؛ نتيجةً لهذه التجارب. إن التجارب، سواء كانت سيئة أم لا، ستعلِّمنا قواعدَ عن العالم وأنفسنا والآخرين. هذه القواعد، وفقًا لبوب شوارتس:

تتشكَّل من تجربتنا، أو من حدثٍ أو أحداث في حياتنا دفعتنا إلى اتخاذِ قرار بشأن أنفسنا، حول كيفية التصرُّف في الحياة، وحول كيفية النجاح أو كيفية الاستمرار في الحياة. القوانين الشخصية لها هدف، ولكن عندما تصبح لا واعية وتبدأ في العمل تلقائيًّا، فإننا نعلَق معها طويلًا، حتى بعدما تتوقف عن أداء وظيفة مفيدة. والأسوأ من ذلك أن العديد من أكثر القوانين الشخصية تأثيرًا، قد تشكَّل في مرحلةٍ كنا فيها أصغرَ من أن تكون لدينا صورةٌ دقيقة عن هويتنا، أو عما هو عليه العالَم في الواقع؛ ومن ثَم غالبًا ما تكون تلك القوانين مضلِّلة على نحوٍ رهيب.

يسلِّط اقتباسُ شوارتس المأخوذُ من كتابٍ حول الأنظمة الغذائية، أي غير ذي صلة بالعلاج النفسي، الضوءَ على السبب الذي قد يجعل للتجربة المبكرة مثلَ هذا التأثير المحوري؛ فكلما حدثت التجربة مبكرًا، زادَ احتمالُ تفسيرها بطرقٍ قطبيةٍ غير ناضجة — أي: على أنها إما «جيدة» أو «سيئة» — وقلَّت قدرتُها على أخذِ السياق بعين الاعتبار، أو الموازنة بين وجهات النظر المتنافسة، مما يؤدي إلى تشكُّل معتقَدات مطلَقة.

كما رأينا، يطوِّر الفردُ بعد ذلك استراتيجياتِ تعايُش على الرغم من معتقداته الأساسية السلبية. قد تكون هذه القواعد أو القوانين الشخصية أو «الافتراضات»، بلغةِ العلاج السلوكي المعرفي، فعَّالةً بدرجة أو بأخرى. في الواقع، ربما كانت هذه القواعد فعَّالة للغاية في الظروف التي جرى تعلُّمها فيها، ولكنها قد تصبح غير فعَّالة في مواقفَ أخرى. على سبيل المثال، قد يطوِّر الطفل الذي يُساء معاملته الافتراضَ القائل، «يجب ألا أسمح لمشاعري بالظهور» كطريقةٍ فعَّالةٍ وضروريةٍ للتعامل مع والدٍ متقلِّب المِزاج. ومع ذلك، كشخصٍ بالغ، ستكون هناك عواقبُ كبيرةٌ لعدم التعبير عن المشاعر مطلقًا، وهو ما قد يعرِّض الشخص لخطر الإصابة بالاضطراب الوجداني.

يوضح الشكل ٣-٤ مثالًا لمريضٍ تظل افتراضاته كامنةً، حتى استثارَتها الأحداثُ البيئية. لم يُصَب نيل (غُيِّرت الأسماءُ وتفاصيل الهُوية حفاظًا على السرية والخصوصية) بالاكتئاب حتى منتصف الستينيات من عمره، مع أنه كان قد شكَّل المعتقدات الأساسية ذات الصلة في مرحلة الطفولة. أُحيلَ نيل إلى العلاج السلوكي المعرفي بسبب الحالة المِزاجية السيئة (الاكتئاب) ونوبات الغضب الشديدة. لم يكن قد عانى الاكتئابَ أو الغضب المفرِط من قبل، وفشل شركةٍ كان يديرها مع زوجته هو ما استثار مشكلاته الحالية. عندما بدأت الشركة تتعرَّض لصعوباتٍ مالية، اعتقد نيل أنه سيكون قادرًا على التغلب على تلك الصعوبات في الوقت المناسب؛ ومن ثَم عمِل بجِدٍّ أكثرَ وأخفى حجمَ الصعوبات عن زوجته، ليحميَها من التوتر. ولكن تدريجيًّا، ازدادت الصعوبات المالية سوءًا، حتى لم يَعُد لدى نيل أيُّ خيارٍ سوى إغلاق الشركة، والكشف عن حجم الديون لزوجته. تسبَّب إغلاقُ الشركة وتغيُّر وضعهم المالي في إجبار نيل وزوجته على تأخيرِ خططِ تقاعدهما، وقبول كلٍّ منهما لوظيفةٍ لم يكن ليقبلها لولا ما حدث. وهو ما قد سبَّب أيضًا نشوب خلافاتٍ بينهما؛ كانت زوجة نيل مستاءةً للغاية لأنه أخفى عنها حجمَ المشكلات، وتساءلت عما إذا كان يُخفي أشياءَ أخرى عنها. خلال هذه المشاجرات، بدأ نيل يعاني غضبًا عارمًا، وكانت استجابته إما بالمغادرة غاضبًا أو برمي الأشياء. كان هذا السلوك ينهي الشجارَ، ولكنه لم يُسهم بشيءٍ يُذكَر في حل مشكلات العلاقة، وطوَّر لديه شعورًا أسوأ تجاه نفسه. كان السياق الحالي ذا صلةٍ أيضًا، من حيث إنه لو كان لنيل شريكةُ حياةٍ مختلفة، فلربما كانت مشكلتها في التكيُّف مع الظروف المتغيرة ستكون أقل، أو ربما كانت ستكون أكثرَ تفهمًا لسبب إخفائه للصعوبات. يعرض الشكل ٣-٤ صياغةً تخطيطية للصعوبات التي يعانيها نيل.
fig8
شكل ٣-٤: مخطط صياغة للصعوبات التي يعانيها نيل.

توضِّح صياغةُ حالة نيل كيف أنَّ المعتقَدات التي تشكَّلت في الطفولة، جعلته عُرضةً للمعاناة من المشكلات النفسية في وقتٍ لاحق من حياته. ومع ذلك، لم تُستَثَر هذه المعتقدات حتى نشأت الظروف البيئية التي استفزَّتها. في السابق، لم تتسبَّب هذه القابلية للتأثُّر في حدوثِ أي مشكلات، حيث تمكَّن من العيش ضمن قيود معتقَداته؛ فقد كان قادرًا على إرضاء الآخرين، والحفاظ على هدوء الأوضاع بما فيه الكفاية، حتى ظهرت مجموعةٌ من الظروف الصعبة للغاية. وعندئذٍ عَلِقَ في الحلقات المُفْرغة، حيث أدَّى ما فعله على المدى القصير لإدارة الموقف، إلى تفاقم المشكلة على المدى الطويل؛ فقد أدَّى سلوكه العدواني حينها إلى إنهاء الجدال، ولكنه طوَّر لديه شعورًا بالأسوأ تجاه نفسه على المدى الطويل.

ما الذي يؤدي إلى استمرار المشكلة؟

يشتمل نموذج العلاج السلوكي المعرفي العام الموضَّح في الشكل ٣-٢ على كلٍّ من العوامل المُفجِّرة (ما تسبَّب في المشكلة) والعوامل المُحافِظة (ما يحافظ على استمرار المشكلة). فيما يتعلَّق بالعوامل المُحافِظة، يحدِّد النموذج أربعة عناصر رئيسية: الأفكار، والمشاعر، والسلوكيات، والاستجابات الفسيولوجية. تتفاعل هذه العناصر الأربعة أيضًا مع البيئة، التي تشمل المحيطَ الاجتماعي والثقافي للفرد. تأثير البيئة متبادَل؛ إذ يتأثَّر الفرد ببيئته، ولكنه أيضًا يؤثِّر فيها. على سبيل المثال، سيؤثِّر وجود الفرد في بيئة معادية على طريقة استجابته، وتفكيره، وشعوره، وتصرُّفه؛ فقد يؤدي إدراك الفرد أن محيطه عدوانيٌّ إلى زيادة احتمالية أن يكون ردُّ فِعله عدائيًّا أو عدوانيًّا، وهو ما سيؤثِّر بدوره على المحيطين به. يوضح الشكل ٣-٥ هذه العناصر في صورة «كعكة صليب ساخنة» (وقد سُمِّيت بذلك نسبةً إلى الكعكة الدائرية التي يُزيَّن سطحُها بشكل صليب، وهي من عادات الاحتفال بيوم «الجمعة العظيمة») كما هو موضَّح أدناه. يُعرف هذا النوع من الصياغة أيضًا باسم نهج «الأنظمة الخمسة» أو «النطاقات الخمسة»؛ حيث يكون النطاق الخامس هو تأثير البيئة.
fig9
شكل ٣-٥: نهج كعكة الصليب الساخنة لصياغة الحالة.
يتميز نهج كعكة الصليب الساخنة لصياغة الحالة بكونه بسيطًا وسهلَ الفَهْم. فهو يسرُد العناصر الأربعة الرئيسية للمشكلة، ويضعها في سياق الفرد وبيئته، مع تحديد العلاقات المتفاعلة بين المكونات المختلفة. لكن ما يفشل في فِعله هو استخلاص الحلقات المُفْرغة المحدَّدة؛ ففي هذا النوع من صياغة الحالة، يُنظر إلى كل شيء على أنه يؤدي إلى كل شيء، والعكس صحيح. عندما نفحص صياغةَ حالة نيل، يمكننا أن نرى أن الوضع مختلِف؛ فليس كل الأفكار والمشاعر والسلوكيات والأحاسيس الفسيولوجية مرتبطةً بعضها ببعض بشكلٍ متساوٍ (انظر الشكل ٣-٦). إن إلقاء الأشياء بدلًا من محاولة تعويض زوجته هو الذي يدفعه إلى الاعتقاد بأنها قد تتركه. وبالمثل، فزيادة معدَّل ضربات القلب ليست مصدرًا لشعوره بالذنب أو الندم.
fig10
شكل ٣-٦: مشكلات نهج صياغة كعكة الصليب الساخنة، فيما يخص الصعوبات التي تواجه نيل.
إنَّ الغرض من صياغة الحالة في العلاج السلوكي المعرفي ليس فقط توضيحَ كيفية تطوُّر المشكلة، ولكن أيضًا فحص العلاقات بين المكوِّنات المهمة لفهمِ ما يحافظ على استمرارها. إن تحديد هذه العلاقات هو الذي يمكِّن معالِجي العلاج السلوكي المعرفي من معرفةِ ما يجب تغييره، حتى لا يعاني الشخصُ من المشكلة بعد ذلك. ولذا، فالنوع الأجدى من صياغة الحالة في العلاج السلوكي المعرفي، سيشمل جميعَ العناصر الموضَّحة في الشكل ٣-٥، ولكنه سيذهب إلى حدٍّ أبعدَ، وذلك من خلال تنظيم العناصر الرئيسية للمشكلة (الأفكار والمشاعر والسلوك والاستجابات الفسيولوجية) في صورة «حلقات مُفْرغة». تحدِّد الحلقات المُفْرغة، التي تُعرف أحيانًا باسم «الحلقات اللانهائية»، العلاقاتِ الوظيفية بين العناصر التي تعمل على استمرار المشكلة. غالبًا تكون الأفعال التي يتخذها الفرد لمحاولة حلِّ المشكلة، هي ما تسهم في استمرار المشكلة عن غير قصد. على سبيل المثال، ما كان نيل يفعله على المدى القصير قد أدَّى، دون قصد، إلى استمرار المشكلة على المدى الطويل، كما هو موضَّح في الشكل ٣-٧.
fig11
شكل ٣-٧: دورة تعزيز قصيرة المدى.
يمكن أن يعمل التجنُّب بطريقة مماثلة، من خلال تجنُّب المثيرات التي تجعله قلقًا، يشعر الفرد بتحسُّن على المدى القصير، ولكن يُبقي السلوك التجنُّبي على قلقه، فهو لا يكتشف أبدًا أن الشيء الذي كان قلقًا بشأنه لم يكن خطيرًا في الواقع، أو على الأقل ليس خطيرًا كما كان يخشى أن يكون (انظر الشكل ٣-٨).
fig12
شكل ٣-٨: كيف يؤدي التجنُّب إلى استمرار الخوف.
تقدِّم الأشكال أدناه أمثلةً إضافية للحلقات المُفْرغة النموذجية، التي تجعل الناسَ «عالقين» في أنماطهم الحالية من التفكير والشعور والتصرف. يصف الشكل ٣-٩ حلقةً مُفْرغةً شائعةً في القلق، حيث يُنظر إلى أعراض القلق نفسها على أنها تهديد، مما يؤدِّي إلى تفاقم القلق وتزايد إدراك التهديد، ومن ثَم، المزيد من القلق المتفاقم. تُعَد هذه إحدى الطرق التي تُحدِث بها الاستجابات الفسيولوجية تغييراتٍ في الأفكار والمشاعر والسلوكيات.
fig13
شكل ٣-٩: الخوف من الخوف نفسه بوصفه حلقة مُفْرغة.
ويوضح الشكلان ٣-١٠ و٣-١١ الحلقات المُفْرغة الأكثر شيوعًا في الاكتئاب الناجم عن القلق؛ لأنها تعمل على سوء الحالة المزاجية.
fig14
شكل ٣-١٠: انخفاض النشاط والمكافآت يساعد على استمرار المزاج السيئ.
fig15
شكل ٣-١١: نقد الذات يساعد على استمرار المزاج السيئ.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن الإيمان بمعتقَدٍ ما في بعض الأحيان، يمكن أن يزيد في الواقع من احتمالية تحقُّق هذا المعتقَد على أرض الواقع. كما ذكرنا سابقًا، فالاعتقاد بأنك لن تنجح قد يقودك إلى بذل جهدٍ أقل، أو عدم المثابرة، أو العزوف عن طلب المساعدة عند مواجهة المصاعب؛ وبذلك يصبح المعتقَد نبوءةً ذاتية التحقُّق. وبالمثل، فالاعتقاد بأنك غير محبوبٍ يمكن أن يؤديَ بك إلى التصرُّف بطرقٍ أقلَّ لطفًا؛ ومن ثَم تصبح محبوبًا بصورةٍ أقل. يمكن أن ينطبق الشيء نفسه على القلق بشأن الأداء، أو فيما يتعلَّق بالمعتقَدات عن الآخرين (انظر الشكلَين ٣-١٢ و٣-١٣).
fig16
شكل ٣-١٢: الحلقة المُفْرغة الخاصة بالقلق بشأن الأداء.
fig17
شكل ٣-١٣: الحلقة المُفْرغة الخاصة بالنبوءة الذاتية التحقق.

وختامًا، الغرض من صياغة الحالة في العلاج السلوكي المعرفي، هو محاولة فَهْم كيفية تفاعل العناصر الرئيسية (الأفكار والمشاعر والسلوكيات والاستجابات الفسيولوجية) بعضها مع بعض، بصورةٍ تُبقي على الصعوبات التي يواجهها الفرد في إطار بيئته الخاصة، وسياقه الاجتماعي الثقافي. بمجرَّد الوصول إلى فَهْم أولي، ينتقل ممارس العلاج السلوكي المعرفي إلى استخدام هذا الفَهْم لتحديد أين سيتدخل؛ لتقريرِ ما يجب تغييره حتى لا يظل الشخص «عالقًا» في الحلقات المُفْرغة التي تعمل على استمرار مشكلاته. وقبل أن نتناولَ الأساليب التي يستخدمها العلاج السلوكي المعرفي لتحقيق ذلك، سننظر أولًا في قوام العلاج السلوكي المعرفي؛ أي سِماته وهيكله، الذي يشكِّل الخلفية التي يجري على أساسها تنفيذ أساليب العلاج السلوكي المعرفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤