الفصل السادس

تطبيقات العلاج السلوكي المعرفي

ركَّزت الأشكال المبكِّرة من العلاج السلوكي على أساليبِ التعرُّض الخاصة بعلاج القلق، واستهدفت الأشكالُ المبكرة من العلاج المعرفي التفكيرَ السلبي في الاكتئاب. ومنذ تطوير التدخُّلات المعرفية والسلوكية المتكاملة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، يُطَبَّق العلاج السلوكي المعرفي في مجموعةٍ متزايدة من المجالات. سيقدِّم هذا الفصل لمحةً عامة عن نطاقِ المشكلات ومجموعات المرضى الذي استُخدم فيه العلاج السلوكي المعرفي. وكما هو مذكور في الفصل الأول، يرجع جزءٌ كبير من نجاح هذا النوع من العلاج إلى قدرتِه على التطوُّر، وهو ما يحدُث من خلال عملية الممارسة القائمة على الأدلة، كما هو موضَّح في الشكل ٦-١.
fig25
شكل ٦-١: عملية الممارسة القائمة على الأدلة.

لقد قادت الممارسة القائمة على الأدلة العلاج السلوكي المعرفي إلى تطوير مجالاتٍ عدة، أهمها تطويرُ نماذج العلاج السلوكي المعرفي الخاصة بالتشخيص. أدَّت الملاحظات التي تشير إلى أن المرضى الذين يعانون اضطرابَ قلقٍ بعينه يميلون إلى تفسير المواقف بطرقٍ متشابهة؛ إلى تطوير نماذجَ محدَّدة من العلاج السلوكي المعرفي لصياغة اضطرابات القلق المختلفة. لذا، فبدلًا من صياغة جميع اضطرابات القلق وعلاجها بنفس الطريقة، بناءً على سِماتها المشتركة، طُوِّرَت بروتوكولات لاستهداف التشوُّهات المعرفية الأساسية الخاصة باضطراب القلق المحدَّد. يُفترض أن تكون مثل هذه العمليات مركزيةً في الحفاظ على هذا التشخيص المحدَّد. كان أحدُ أقدمِ النماذج الخاصة بالتشخيص موجهًا لفهم اضطراب الهلع وعلاجه، ويُعَد تطوير العلاج السلوكي المعرفي لعلاج اضطراب الهلع مثالًا جيدًا على عملية الممارسة القائمة على الأدلة.

لاحظ عالِم النفس السريري في جامعة أكسفورد، ديفيد إم كلارك، أن المرضى الذين يعانون اضطرابَ الهلع يميلون إلى إساءة تفسير أحاسيسهم الجسدية غير الخطيرة على نحوٍ كارثي؛ أي تفسير الإحساس الجسدي على أنه علامةٌ على كارثة وشيكة. على سبيل المثال، يمكن تفسيرُ الزيادة في معدَّل ضربات القلب على أنها نوبةٌ قلبية وشيكة، بدلًا من تغيُّر طبيعي أو تفسيرات حميدة أخرى مثل الإجهاد أو الإفراط في تناول الكافيين. وبالمثل، يمكن تفسيرُ الصداع على أنه سكتة دماغية. أو الدوخة كعلامة على انهيارٍ وشيك. غالبًا ما كانت الأحاسيسُ التي أُسيءَ تفسيرُها على أنها علامات على كارثة وشيكة؛ هي الأعراضَ الفسيولوجية للقلق نفسه (مثل التعرُّق وزيادة معدَّل ضربات القلب وضيق التنفس والسخونة … إلخ) مما أدَّى إلى حلقة مفرغة من تزايد القلق والأحاسيس الفسيولوجية. بناءً على هذه الملاحظات، اقترح كلارك في عام ١٩٨٦ النموذجَ المعرفي لاضطراب الهلع، وهو أحد نماذج العلاج السلوكي المعرفي الأولى الخاصة بالتشخيص.

fig26
شكل ٦-٢: نموذج كلارك المعرفي الخاص باضطراب الهلع.
إن اقتراح نظريةِ استمرار الاضطراب هو المرحلة الأولى في عملية الممارسة القائمة على الأدلة الموضَّحة في الشكل ٦-٢. وتتضمَّن المرحلة التالية إجراءَ اختبارات تجريبية لهذه النظرية؛ على سبيل المثال، وجدت التجارب أن المرضى الذين يعانون اضطرابَ الهلع قد طوَّروا وعيًا أكبرَ بحالة القلب، ولكن ليس بحالة المَعِدة، مما يشير إلى أنهم يُظهِرون اهتمامًا متزايدًا بالأحاسيس الجسدية ذات التهديد المحتَمل. أو أن نوبات الهلع يمكن أن تحدُث بسبب دخولِ مادة بيولوجية للجسم تشكِّل تحديًا، مثل استنشاق ثاني أكسيد الكربون أو حقن اللاكتات، لإحداثِ أحاسيسَ جسديةٍ غير متوقَّعة. تؤدي هذه التحدياتُ إلى نوبات الهلع فقط، عندما لا يُعْلَم المريضُ بأن الأعراضَ التي يعانيها هي نتيجة للتحدِّي البيولوجي؛ أي عندما لا يُقدَّم له تفسيرٌ بديل غير مهدِّد للأعراض.

بعد مرحلةِ النظرية والاختبارات التجريبية، فالمرحلة الثالثة في دورة الممارسة القائمة على الأدلة، هي تطوير وتقييم التدخُّل الذي يهدف إلى عكس آليات الحلقات المُفْرغة المفترَضة. هذا ما يهدف العلاج السلوكي المعرفي لاضطراب الهلع إلى القيام به؛ لتخفيف مَيل المريض لإنشاء تفسيراتٍ خاطئةٍ كارثيةٍ للأحاسيس الجسدية غير الضارَّة. وعادةً ما يجري ذلك من خلال صياغةٍ دقيقة، يتبَعها مزيج من تحدي واختبار التفسيرات الخاطئة الكارثية، بالإضافة إلى اختبار تفسيرات بديلة وأكثر اعتدالًا للأعراض. عادةً ما تنتقل بروتوكولات التعامل مع الهلع بعد ذلك إلى الحد من التجنُّب، والتعرُّض إلى الأحاسيس الجسدية المخيفة والمواقف التي تثيرها. أظهر العديدُ من التجارب العشوائية المضبوطة، أن العلاج السلوكي المعرفي لاضطراب الهلع فعَّالٌ في تقليل تواتر نوبات الهلع، بحيث لا يتعرَّض معظم المرضى إلى أية نوبات هلع في نهاية العلاج، ويحافظون على هذا على مدار فترة المتابعة. ومع ذلك، في حين أن نتائجَ التجارب العشوائية المضبوطة بعنايةٍ تُعَد مصدرًا مهمًّا للأدلة، فإنها لا تكون مفيدةً بشكلٍ خاص ما لم تُعمَّم في الرعاية السريرية الروتينية لعامة الناس، الذين يعانون اضطرابَ الهلع. لذا فالمرحلة الرابعة من عملية الممارسة القائمة على الأدلة هي نَشْر البروتوكول. إن إظهار فعالية العلاج في ظل الظروف المثالية شيء، وإثبات فعاليته في الرعاية السريرية الروتينية شيءٌ آخرُ. يعتبر نشرُ التدخُّلات الجديدة، التي تسمَّى أيضًا «علم التطبيق»، مجالًا بحثيًّا صعبًا بشكل خاص، وسُيناقش بمزيد من التفصيل في الفصل السابع. وفيما يتعلَّق بالعلاج السلوكي المعرفي لاضطراب الهلع، فقد تحقَّق بعضُ التقدُّم في نشرِه. على سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات أن نسبة المرضى الذين عولجوا من الهلع قد زادت، بعد أن تلقَّى الأطباء تدريبًا على العلاج السلوكي المعرفي للهلع، مقارنةً بما كان يحدُث قبل حصولهم على التدريب، مما يُشير إلى أن العلاج السلوكي المعرفي لاضطراب الهلع يمكن نشرُه بنجاح.

يمكن أن توفِّر عملية تعميم العلاج ليصبح رعايةً روتينية، فرصًا لمزيدٍ من تطوير العلاج. تعني الأعداد المتزايدة والتباين في الأشخاص الذين عولجوا في الممارسة الروتينية، أن التدخُّل قد لا يحصل على نفس النتائج في الممارسة الروتينية، كما حدث في التجارب البحثية الأصلية. وبدلًا من النظر إلى هذا على أنه عيبٌ أو فشلٌ للعلاج الأصلي، يمكن أيضًا اعتباره فرصةً لمزيد من التطوير لكلٍّ من النظرية والتدخُّل على حدٍّ سواء. قبل أن نتناول هذا الأمر بمزيد من التفصيل، يجدُر النظر في الاختلاف بين الفعالية والكفاءة فيما يتعلق بالعلاجات.

الكفاءة في مقابل الفعالية بالنسبة إلى العلاجات

كفاءة العلاج هي تأثيرُ التدخُّل في ظل أفضلِ الظروف الممكنة. على النقيض من ذلك، فالفعالية هي تأثيرُ التدخُّل في ظل الظروف العملية أو ظروف «الحياة الواقعية»، مع الأخذ في الاعتبار عواملَ أخرى مثل مقبولية التدخُّل والالتزام به. لذلك تحدِّد تجاربُ الكفاءة تأثيرَ التدخُّل في ظل الظروف المثالية، بينما تقيس تجاربُ الفعالية (التجارب العملية) تأثيرَ التدخُّل في ظروف العالم الحقيقي.

هناك العديد من الاختلافات بين تجارب الكفاءة وتجارب الفعالية. في دراسات الكفاءة، تُبذل الجهود لتعظيم «الصلاحية الداخلية»؛ لذلك عادةً ما يكون هناك تخصيصٌ عشوائي للحالات النشطة أو الضابطة، ويجري تدريب المعالِجين وتأهيلهم لمستوًى محدَّد من الأداء. وربما اختير المرضى بشكل نشط لأنهم يعانون مشكلةً محدَّدة واحدة فحسب، ولأنهم تمثيلٌ نموذجي لتلك المشكلة. في المقابل، تولي تجاربُ الفعالية الأولويةَ ﻟ «الصلاحية الخارجية»؛ ومن ثَم تهدف إلى ضم الحالات التي تمثِّل تلك التي شوهدت في الممارسة السريرية الروتينية، والتي قد تشمل الحالات المَرضية المشتركة والأعراض غير النمطية. قد تختلف جوانبُ التدخُّل أيضًا — في الممارسة الروتينية، يرى المعالِجون عادةً مجموعةً واسعة من الأعراض لدى المرضى — ولكن في تجربة الكفاءة، قد يكون المعالِجون خبراءَ في علاج هذه المشكلة بالذات. قد تختلف المواردُ المتاحة أيضًا؛ تهدف تجربةُ الكفاءة إلى تقييمِ تأثيرِ العلاج في ظل الظروف المثالية؛ ومن ثَم تُقدَّم الجرعةُ القصوى من العلاج إلى المرضى من قِبل معالجين مدرَّبين تدريبًا عاليًا وخاضعين للإشراف. في المقابل، تسعى تجاربُ الفعالية إلى تقييمِ كيفيةِ عمل العلاج في الممارسة الروتينية؛ حيث ستكون هناك قيودٌ على الموارد؛ لذلك قد يكون المعالِجون أقلَّ خبرةً في هذا التدخُّل بالذات، وقد تكون جرعة العلاج أقل، وقد يكون العبء على المعالِجين فيما يخص عدد الحالات أعلى.

تشكِّل خسارةُ الوزن مثالًا على الاختلاف بين الكفاءة في مقابل الفعالية لتدخلٍ ما. البرامج التلفزيونية التي تركِّز على فقدان الوزن الشديد تمنح المشاركين الكثيرَ من دعم الخبراء والأقران، للانخراط في التمارين والالتزام بنظامٍ غذائيٍّ منخفض السعرات الحرارية. يتبَع التدخُّل — ألا وهو الحصول على سعراتٍ حرارية أقلَّ وممارسة المزيد من التمارين في هذه الحالة — بشكلٍ أساسي ما سينصح به الممارس العام أيَّ مريض يعاني زيادةَ الوزن. ومع ذلك، فالشدة التي يقدَّم بها هذا التدخُّل، والدعم المقدَّم بغرض الالتزام به، يختلفان بشكل ملحوظ. لذا فقد أظهر اتباعُ نظام غذائي وممارسة الرياضة كفاءةً عالية في علاج السمنة، ولكنه أظهر فعاليةً أقلَّ بكثير؛ لأن معظم المرضى غير قادرين على الالتزام بالتدخُّل من دونِ مستويات عالية جدًّا من الدعم. هذا مشابهٌ لحالة الأدوية العالية الكفاءة، ولكن يجد المرضى صعوبةً في تحمُّل آثارها الجانبية أو اتباع الأنظمة الشديدة التقييد.

إذن فما يمكن أن يحدُث هو أن العلاج يبدو أقلَّ فعاليةً في ظروف العالَم الحقيقي، مما كان عليه في تجاربِ الكفاءة الأصلية؛ فهناك حلْقةٌ ما قد فُقدت. في حين أن هذه المسألة مخيِّبة للآمال في البداية، ولكن يمكن استخدُامها فرصةً لمزيد من التطوير. لا بد من فَهْم الملاحظة التي تفيد بأنه لا يستجيب جميعُ المرضى على النحو الأمثل للعلاج، الذي بدوره قد يؤدي إلى مزيدٍ من التطوير للنظرية الأساسية، والتحسينات الناتجة عنها في التدخُّلات. على سبيل المثال، أدَّت ملاحظاتُ مرضى اضطراب الهلع الذين لم يستجيبوا على النحو الأمثل، إلى توسيعِ النظرية المعرفية لاضطراب الهلع. كان معروفًا بالفعل أن تجنُّب المواقف التي تثير القلق يعمل على الحفاظ على القلق، من خلال مَنْع المرضى من اكتشافِ أن تفسيراتهم للأحاسيس الجسدية كانت خاطئة. ومع ذلك، أدَّت الدراسة المتأنية للمرضى الذين لم يستجيبوا للعلاج إلى ملاحظةِ أنه على الرغم من أن هؤلاء المرضى لم يبدُ أنهم كانوا يتجنَّبون موقفًا بعينه صراحةً، فربما كانوا يتجنَّبون بشكل غير مباشر جوانبَ معيَّنة منه. أدَّى هذا بدوره إلى دَمْج مفهوم «سلوكيات السعي إلى السلامة» في النموذج المعرفي للهلع، كما هو موضَّحٌ في الشكل ٦-٣.
fig27
شكل ٦-٣: نموذج معرفي مُعدَّل لاضطراب الهلع.

سلوكياتُ السعي إلى السلامة هي سلوكياتٌ يحاول من خلالها المريضُ الحفاظَ على سلامته، في موقف يعتبره خطيرًا، ولكنها في الواقع تمثل أشكالًا خفيةً من التجنُّب؛ ومن ثَم تمنع إدراك أنه في الواقع يقوم بتفسيرات خاطئة كارثية؛ ومن ثَم تساعد في استمرار المشكلة. على سبيل المثال، إذا كان المريض يخشى تعرُّضه لنوبة قلبية، فقد يقيس نبضه لطمأنة نفسه، وهذه الطمأنينة تقلِّل من قلقه، ولكنها تمنعه أيضًا من اكتشافِ أنه لم يكن سيصاب بنوبةٍ قلبية، سواء أكان نبضه مرتفعًا أم لا. أو، إذا كان يخشى مما قد يظنه الناس به إذا ظهرت عليه أعراضُ القلق في موقف معيَّن، فقد لا يتجنَّب الموقف تمامًا، ولكن بدلًا من ذلك يهتم بشدة بالتحكُّم في أي أعراض قلق أو إخفائها، عندما يكون في هذه الحالة؛ على سبيل المثال، تجنُّب إظهار يدَيه (خوفًا من ظهور الارتعاش). أدَّت الدقة المتزايدة للنماذج الخاصة بالتشخيص إلى تغييراتٍ في بروتوكولات العلاج السلوكي المعرفي. على سبيل المثال، في اضطراب الهلع، سيبحث المعالِج على نحوٍ حثيث عن التفسيرات الخاطئة الكارثية للأحاسيس الجسدية؛ إذ تشير النظريةُ ذاتُ الصلة إلى أن هذه التفسيرات حاسمةٌ في استمرار نوبات الهلع، وسيكون على درايةٍ بإمكانية أن تكون سلوكيات البحث عن السلامة الخفية شكلًا من أشكال التجنُّب؛ ومن ثَم تقوِّض فعالية التعرُّض.

كانت الدراسات التجريبية وتجاربُ العلاج بشكل عام داعمةً للنماذج الخاصة بالتشخيص. ومن ثَم، اقتُرِحَت مثل هذه النماذج للعديد من مشكلات الصحة العقلية الشائعة. على سبيل المثال، يُعتقد أن القلق الصحي تُبْقي عليه تفسيراتٌ خاطئة كارثية مشابهة للأحاسيس الجسدية، كما هو الحال في اضطراب الهلع، ولكن على مدًى زمني أطول. لذا فالإحساس بالوخز في أصابعِ المريض يمكن أن يُساء تفسيره على أنه علاماتٌ مبكِّرة للتصلب المتعدِّد، وليس على أنه نوبةٌ قلبيةٌ وشيكة. وبالمثل، اقتُرِحَت بروتوكولات ونماذجُ علاج سلوكي معرفي خاصة بالتشخيص، وحصلت على دعم تجريبي لعلاج اضطرابات القلق الأخرى، بما في ذلك أنواعٌ محدَّدة من الرُّهاب، واضطراب الوسواس القهري، والرُّهاب الاجتماعي، واضطراب القلق العام. بالطبع تختلف التفسيرات الخاطئة الأساسية التي يُعتقد أنها تكمُن وراء تلك الاضطرابات. في حالة الرُّهاب، ينصبُّ التركيزُ على الخوف من استجابة القلق نفسها، وكذلك المعتقَدات المتعلِّقة بالخطر حول مصدر الرُّهاب؛ على سبيل المثال، إن العناكب من المحتمل أن تلدغ. يشمل الرُّهاب الاجتماعي أيضًا الخوفَ من أعراض القلق، ولكنه يركِّز بشكل أكبرَ على كيف سيرى الآخرون ظهورَ أعراض القلق، أو غيرها من نقاط الضعف المفترَضة. تختلف الموضوعات المعرفية الأساسية في اضطراب الوسواس القهري؛ اعتمادًا على طبيعة الهاجس الأساسي (مثل التلوُّث في مقابل التحقُّق) ولكنها تركِّز على موضوع الشعور المفرِط بالمسئولية عن مَنْع الضرر. يقدِّم المربع أدناه أمثلةً للأفكار المعتادة في اضطرابات القلق المختلِفة.

أفكار معتادة في اضطرابات القلق المختلفة

الرُّهاب الاجتماعي

«سأتعرَّق/سأرتجف/سأتلعثم»

«سيرى الناس أنني قلِق … لن يحترموني»

«لا أعرف ماذا سأقول، سأبدو غبيًّا»

«إذا رأى الناس حقيقتي، فسينتقدونني/فسيرفضونني»

رُهاب محدَّد

«العناكب خطيرة/مثيرة للاشمئزاز»

«إذا اقترب العنكبوت مني، فلن أتمكَّن من التأقلم»

«سيزحف إلى فمي»

اضطراب الوسواس القهري

«الجراثيم في كل مكان — يمكن أن أكون ملوَّثًا»

«إذا لم أتحقَّق، فقد يغمرها الماء/تشتعل فيها النيران»

«لا يمكنني التأكُّد من أنني أغلقته … ستكون كارثة إذا لم أكن قد فعلت»

اضطرابُ القلق العام

«يمكن أن يحدث خطأ … ستكون كارثة إذا حدث ذلك»

«عدم اليقين مرعب»

«يجب أن أفكِّر في المستقبل، وأحاول توقُّع أيِّ شيء يمكن أن يحدُث بشكل خاطئ»

«كل هذا القلق سيئ بالنسبة إليَّ … لا يمكنني التحكُّم فيه»

اضطراب الهلع

«الأحاسيس الجسدية غير المفسَّرة مرعبة»

«سأفزع ولن أكون قادرًا على التأقلم»

«سأفقد الوعي/سأتعرض لأزمة قلبية/سأصاب بسكتة دماغية/سأموت»

العلاج السلوكي المعرفي والصدمات

أحدُ المجالات المتعلقة باضطرابات القلق التي طُبِّق العلاج السلوكي المعرفي عليها؛ هو علاج «الصدمات». ما يشكِّل الصدمة هو محلُّ جدلٍ، ولكن التعريف المقبول عمومًا هو حدَث يتضمن إصابةً خطيرة أو موتًا فعليًّا أو تهديدًا به، أو تهديدًا للسلامة الجسدية للشخص أو للآخرين. «اضطرابُ ما بعد الصدمة» هو استجابةٌ شائعة للتعرُّض إلى حدث صادم. وهو ينطوي على أعراضٍ مثل معاودة معايشة الحدث في استرجاعٍ لذكريات الماضي، والأفكار التسلطية أو الكوابيس، والتجنُّب الشديد للتذكير بالصدمة، وأعراض الاستثارة المتزايدة (مثل سرعة الغضب، والإجفال المُبالغ فيه، والأرق، وصعوبة التركيز) والتغيرات السلبية في الفكر والمزاج (مثل فقدان الاهتمام، أو التقييمات السلبية للذات/العالم/الآخرين، أو الانفصال، أو الشعور باللوم، أو المشاعر السلبية الأخرى).

وعلى الرغم من تصنيفه سابقًا على أنه أحدُ اضطرابات القلق، فإن التصنيف الأحدث (الذي وضعته الجمعية الأمريكية للطب النفسي) قد نقل اضطرابَ ما بعد الصدمة إلى فئةٍ منفصلة تندرج تحت اسم «الصدمات والاضطرابات المرتبطة بالتوتر». يمكن أن تحدُث الصدمة في مرحلة الطفولة أو في حياة البالغين، ويمكن تصنيفها على أنها من «النوع الأول» أو «النوع الثاني» وفقًا لما إذا كانت ناتجة عن واقعة واحدة مثل حادث أو ظروفٍ استمرَّت فترةً زمنيةً أطول، مثل المعارك أو الاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة.

ردودُ الفعل على الصدمة متغيرة بشكلٍ كبير، واضطراب ما بعد الصدمة ليس الاضطراب الوحيد. في حين أن العديدَ من الذين يعانون الصدمةَ ستظهر عليهم أعراضُ اضطرابِ ما بعد الصدمة؛ فقد يستجيب آخرون بالإصابة بالاكتئاب، أو يتطوَّر لديهم اضطراب القلق العام بصورةٍ أكبرَ، أو نوع محدَّد من الرُّهاب؛ على سبيل المثال، رُهاب القيادة بعد التعرُّض لحادث مروري. على المستوى الأساسي الأبسط، العلاج السلوكي المعرفي يرى القلقَ على أنه مدفوع بتصوُّر وجود تهديد؛ تصوُّر أن شيئًا سيئًا قد يحدُث في المستقبل. ما يميز اضطرابَ ما بعد الصدمة عن اضطرابات القلق الأخرى؛ هو أن الحدَث الذي يثير القلقَ أو الصدمة قد وقع بالفعل في الماضي. ومن ثَم، فما تهدف نماذجُ العلاج السلوكي المعرفي لاضطرابِ ما بعد الصدمة إلى فَهْمه هو كيف يُنظر إلى الصدمة على أنها تهديدٌ حاليٌّ أو مستقبلي، ولماذا لا يتضاءل ذلك بشكلٍ طبيعي مع التجربة. وفي حين أن معظم الأشخاص الذين مرُّوا بتجربةٍ صادمةٍ سيستجيبون في البداية بإظهارِ بعض أعراض اضطرابِ ما بعد الصدمة على الأقل؛ فالنمط الأكثر شيوعًا هو نمط التعافي التلقائي. أي إن هذه الأعراض ستختفي تدريجيًّا مع مرور الوقت. على سبيل المثال، أظهرت إحدى الدراسات أنه في حين أن ٩٤ في المائة من عينةٍ مكوَّنة من خمسٍ وتسعين ضحيةَ اغتصابٍ، عانَيْن من جميع الأعراض اللازمة لتشخيص اضطرابِ ما بعد الصدمة بعد فترةٍ وجيزةٍ من الاغتصاب، بعد ثلاثة أشهرٍ من الاغتصاب، فقط ٤٧ في المائة من النساء الضحايا استوفين هذا المعيارَ، مما يعني أن نصفهن تقريبًا قد أظهرن تحسنًا ملحوظًا في غياب أيِّ علاج. ومن ثَم، توجد عمليةُ تعافٍ طبيعيٍّ تتبَع حتى أكثر التجارب إيلامًا، وما تسعى نماذجُ العلاج السلوكي المعرفي إلى فَهْمه هو ما يعرقل هذه العملية، في حالة الأشخاص الذين يستمرُّون في المعاناة من الأعراض. اقترح عالِما علم النفس السريري، أنكه إيلرز وديفيد إم كلارك، نموذجَ علاج سلوكي معرفي لاضطرابِ ما بعد الصدمة موضَّحًا في الشكل ٦-٤ الذي يحاول شرحَ كيف تظل أعراضُ اضطرابِ ما بعد الصدمة مستمرَّة.
fig28
شكل ٦-٤: نموذج علاج سلوكي معرفي لاضطرابِ ما بعد الصدمة.

تبعًا لصياغات العلاج السلوكي المعرفي لاضطرابِ ما بعد الصدمة، طُوِّرَت أشكالٌ محدَّدة من تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي لعلاج أعراض اضطرابِ ما بعد الصدمة. تركِّز المكوِّنات المعرفية على تحديد الطريقة التي تُفَسَّر بها الصدمة على أنها تهديد حاليٌّ، وعلى إعادة تقييم واختبار تلك التفسيرات (حيثما كانت آمنة). تركِّز المكوِّنات السلوكية على التعرُّض للجوانب التي تم تجنُّبها من الصدمة، غالبًا عن طريق جَعْل المريض «يعيد معايشة» الصدمة من خلال استرجاع الذكرى بشكلٍ متكرِّر حتى يصبح القلق مُروَّضًا، أو التفسير التصحيحي مدمجًا. التفسير الشائع أثناء الحدَث الصادم هو تصوُّر التهديد، على سبيل المثال، إنك قد تموت. يمكن أن تساعد معاودةُ معايشة الصدمة الفردَ على دمْج المعلومات التصحيحية في ذاكرته المشبَّعة بالصدمة؛ فعلى الرغم من أنه كان يخشى أن يموتَ في وقت وقوع الحدث الصادم، فهو في الواقع لم يَمُت. مصدرٌ آخرُ شائعٌ للتهديد في اضطرابِ ما بعد الصدمة هو تفسيرُ عواقب الصدمة؛ يشعر الفرد أنه أو حياته أو إدراكه للعالم قد تغيَّر بشكلٍ أساسي إلى الأسوأ بسبب الصدمة. على سبيل المثال، قد يفسِّر تجربته مع أعراض اضطرابِ ما بعد الصدمة على أنها تعني أنه يفقد عقلَه، أو أنه لم يَعُد نفس الشخص. يمكن استخدامُ أساليب العلاج السلوكي المعرفي التقليدية لتطبيع حدوث أعراض اضطرابِ ما بعد الصدمة، بعد حدوث الصدمة ومواجهة التفسيرات السلبية على نحوٍ مفرط. ومع ذلك، من المهم أن ندركَ أن هناك العديد من الحالات التي قد تكون فيها حياةُ الشخص قد تأثَّرت سلبًا بشكلٍ دائم من جرَّاء الصدمة. على سبيل المثال، إذا كانت هناك إعاقةٌ مستمرة نتجت عن ذلك، أو ألمٌ دائم، أو فقدان للأحباء. في مثل هذه الظروف، قد تكون هناك حاجةٌ إلى صياغةٍ أوسع، تتداخل مع نهج العلاج السلوكي المعرفي الذي جرى تطويره لأولئك الذين يعانون ظروفَ حياة سلبية ومستمرة.

التكيُّف مع الشدائد

يتمثَّل أحد الانتقادات الشائعة للعلاج السلوكي المعرفي في أن تركيزه على تصحيحِ التقييمات المشوَّهة، يعني أنه ليس لديه الكثير ليقدِّمه لأولئك الذين يعيشون في ظروفٍ سلبيةٍ، والذين قد تكون تقييماتهم السلبية واقعية. في السنوات الأخيرة، طبَّق معالجو العلاج السلوكي المعرفي مِثل الطبيب النفسي ستيرلنج موري، نماذجَ وأساليبَ العلاج السلوكي المعرفي على أولئك الذين يعانون ظروفَ حياة سلبية؛ على سبيل المثال، على مَن جرى تشخيصهم بمرض عُضال. تقترح مثل هذه النُّهُج أن الأمراض وأحداث الحياة الخطيرة تتحدَّى معتقداتنا الأساسيةَ الكامنة عن أنفسنا والعالم والمستقبل. يتضمَّن التكيُّف مع الفَقْد أو الإصابة أو المرض عمليةَ تقييمٍ وإعادةِ تقييم، وستؤثِّر هذه التقييمات بدورها على استراتيجيات التكيُّف التي يمكن أن تسهِّل هذه العملية أو تعرقلها. تهدف تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي إلى فحص التكيُّف الجيد والتكيُّف السيئ، ومساعدة الشخص خلال عملية التكيُّف مع ظروفِه المتغيرة والاستفادة من ظروفِه على أفضلِ وجه، مهما كانت صعبة. يُولَى اعتبار للأفكار السلبية الواقعية، وقد يكون أسلوب حل المشكلات أكثرَ ملاءمةً من تحدي مثل هذه الأفكار. الهدف هو تعظيم الفرص وتقليلُ المعاناة على الرغم من الظروف. وغالبًا ما يكون هناك تداخلٌ كبيرٌ بين ظروف الحياة السلبية وتجربة الصدمة (بالنسبة إلى طالبي اللجوء على سبيل المثال)، وقد تكون هناك حاجةٌ إلى صياغةٍ مصمَّمةٍ خصِّيصى لدمج كلٍّ من التجارب المؤلمة التي أدَّت إلى ظهور أعراض اضطرابِ ما بعد الصدمة، والظروف السيئة التي أدَّت إلى ظهور التحديات الحالية. على سبيل المثال، طلبت سيدةٌ تُدعى أكوسوا اللجوءَ في المملكة المتحدة مع ابنها الصغير، بعد أن تعرَّضت للعنف الشديد وشهِدته في بلدها الأم. وعلى الرغم من أنها كانت تشعر بالارتياح لابتعادها عن الخطر المباشر، ظلَّت تشعر بأعراضِ ما بعد الصدمة مثل الكوابيس واسترجاع ذكريات الماضي. كانت خائفةً من أن تصادف أحدَ مَن اعتدَوا عليها، في شوارع لندن، أو أن طلبها بالبقاء في المملكة المتحدة سيُرفض وسَتُرَحَّل إلى بلدها أو موطنها الأصلي. ونظرًا لوضعِ طلب لجوئها غير المؤكَّد، فمن السهل رؤيةُ كيف يظل التهديد المتصوَّر قائمًا. بما أن أكوسوا قد تعرَّضت في السابق للعنف والصدمات الجنسية من شخصياتٍ في السلطة (الشرطة والجنود) فقد وجدت صعوبةً بالغةً في الوثوق بمَن في مناصب السلطة. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن اللغة الإنجليزية هي لغتها الأولى، مما يعني أنها كانت منعزلةً جدًّا في المملكة المتحدة، وكافحَت للحصول على عمل. بالنسبة إلى أكوسوا، كان المعالِج بحاجةٍ إلى قضاء وقتٍ إضافي معها لإقامة علاقةٍ مبنيةٍ على الثقة (عَبْر مترجِم)، والعمل على سلامتها واستقرارها، قبل أن يتمكَّنا من الانتقال إلى محاولة علاج أعراضِ ما بعد الصدمة. وما زاد من تعقيد علاج صدمة أكوسوا الخطر الحقيقي المتمثِّل في إمكانية ترحيلها إلى بلدها الأصلي مرةً أخرى، إذا رُفِض لجوءُها. بالإضافة إلى ذلك، كانت الحياة اليومية لأكوسوا صعبة؛ فقد كانت إقامتها في أماكن الإقامة المؤقتة الرديئة، والعزلة الاجتماعية، والموارد المالية المحدودة للغاية تشكِّل تحدياتٍ يومية. عمِل المعالِج مع أكوسوا على حلِّ مشكلة بعضٍ من ظروف حياتها الصعبة هذه، وإجراء تغييراتٍ مثل تلقِّي دروسٍ في اللغة الإنجليزية والتواصل مع أمهاتٍ أخريات. ساعد هذا أكوسوا على أن تصبح مستقرةً بما يكفي؛ لتكون قادرةً على العمل على أعراضِ ما بعد الصدمة الخاصة بها مباشرة.

السلوكيات المتعلِّقة بالصحة

يتبع استخدام العلاج السلوكي المعرفي لمساعدة أولئك الذين يعانون ظروفَ حياةٍ سلبية؛ تطبيقه على السلوكيات المتعلقة بالصحة. في الوقت الحالي، يتأثَّر العديد من أكبر تحديات الصحة العامة، مثل السمنة وإساءة استخدام العقاقير، بسلوكياتنا المتعلقة بالصحة؛ ومن ثَم يجب أن تكون قابلةً للخضوع لاستراتيجيات تغيير السلوك. بالمثل، يشكِّل تحديًا مماثلًا تحسينُ إدارة الحالات الطويلة المدى، إما عن طريق التأثير على السلوكيات المتعلقة بالصحة، أو من خلال التدخُّلات التي تهدف إلى تسهيل الالتزام بالعلاج، والتي قد تشمل تعزيزَ الالتزام بالأدوية، أو وَضْع قيودٍ على نمط الحياة. في بعض النواحي، يكون التدخُّل واضحًا؛ توقَّف عن التدخين، واشرب كمياتٍ أقلَّ من الكحوليات، ومارس الرياضةَ أكثر، وتناول كمياتِ طعامٍ أقل، وتناول الأدوية على النحو الموصوف. ومع ذلك، تُشير البيانات المتعلقة بالامتناع على المدى الأطول وفقدان الوزن، أو بالالتزام بالأدوية، إلى أنه حتى فقدان الوزن بصورةٍ معتدِلةٍ يصعب الحفاظ عليه، وأن ما يصل إلى ٥٠ في المائة من الأدوية الموصوفة لا يجري تناولها. ومن ثَم، لا يزال هناك مجالٌ كبيرٌ للتحسين.

مع أن التدخُّلات الواضحة، مثل التوقف عن التدخين أو اتباع الأنظمة الغذائية المُقَيِّدة للسعرات الحرارية، ذات كفاءة عالية؛ فإن فعاليةَ هذه التدخُّلات، خاصةً على المدى الأطول، أقلُّ ثباتًا. استجابةً لهذا التحدي، ركَّز العلاج السلوكي المعرفي على كيفية المساعدة في جَعْل برامج تغيير السلوك المتعلِّقة بالصحة أكثرَ فعالية. تتطلب استراتيجيات تغيير السلوك هذه ضبطَ النفس، والانضباط الذاتي، والتحفيز المستمر، وكلُّ هذه أمورٌ ينبغي أن تكون قابلةً للتغيير من خلال العلاج السلوكي المعرفي. هناك أسلوبٌ معيَّن، وهو «المقابلات التحفيزية»، يتَّسم بأنه أسلوبٌ لطرح الأسئلة، يُستخدَم لاستكشاف التناقض الوجداني لدى الشخص بشأنِ التغيير، والاستفادة من دافعه للتغيير. طُوِّرَت المقابلات التحفيزية في الأصل للمساعدة في مشكلة التعاطي المفرِط للكحول، ولكن طُبِّقَت منذ ذلك الحين في طائفةٍ واسعةٍ من المجالات. يُسلِّم هذا الأسلوب بأهمية التعاطف مع الوضع الحالي للشخص، وفي الوقت ذاته إظهار التناقض الوجداني لديه بشأن التغيير. يتمثَّل أحدُ المبادئ الأساسية الكامنة في العلاج السلوكي المعرفي في أن الفرد على الأرجح لن يكون في المكان الذي هو فيه من دون سببٍ وجيه؛ لذلك ستكون هناك إيجابيات وسلبيات لأي تغيير. يتجنَّب معالجو العلاج السلوكي المعرفي الانسياقَ إلى إخبار الشخص بما يجب فِعله أو إلى المجادلة معه، وبدلًا من ذلك يركِّزون على دافعه للتغيير، وتمكينه من تطوير كفاءته الذاتية في إحداث تغييرٍ في السلوك والحفاظ عليه.

ومن المجالات ذات الصلة استخدامُ العلاج السلوكي المعرفي في علاج السلوك الإدماني، أو إساءة استخدام المواد المخدِّرة. كانت أكثر التطبيقات وضوحًا هي مشكلة تعاطي الكحوليات والمخدرات، ولكن طُبِّقَت أساليبُ مماثلةٌ على السلوكيات غيرِ المرتبطة بالمواد المخدِّرة، مثل المقامرة، أو التسوق المفرط، أو حتى سلوكيات الاكتناز. على المستوى الأساسي، يُصوِّر العلاج السلوكي المعرفي السلوكياتِ التي تُسبِّب الإدمانَ على أنها محاولاتٌ غير تكيفيةٍ مع مشاعرَ أو ظروفٍ صعبة. النمط العام لمثل هذه السلوكيات هو أنها تُكافَأ على المدى القصير بالشعور الشديد بالرضا، أو بشكلٍ ما من أشكال الرضا، وكذلك بتجنُّب المشاعر السلبية أو التخفيف من الحالات الفسيولوجية غير المريحة. لكنها على المدى الأطول، تصنع مشكلاتٍ أكثرَ من التي تحلُّها، مثل الديون، والصعوبات في العلاقات، وحالات الاشتهاء الشديدة، والمشكلات الصحية. يتفاقم هذا من خلال الاعتماد الفسيولوجي على مادةٍ ما مخدِّرة، حيث يعاني الشخصُ أعراضَ الانسحاب لتلك المادة أو حالاتٍ سيئة أخرى في غيابها. يُؤدِّي هذا بالطبع دور معزِّز قوي؛ إذ تقلِّل المادة المخدِّرة من أعراض الانسحاب الكريهة؛ ومن ثَمَّ تكافئ سلوك تعاطي تلك المادة.

كما هو الحال في جميع أشكال العلاج السلوكي المعرفي، يبدأ العلاج السلوكي المعرفي للسلوكيات التي تُسبِّب الإدمان بصياغةٍ فرديةٍ للصعوبات التي يواجهها الفرد، والتي تتضمَّن عواقبَ السلوك على المدى القصير وكذلك الأطول. بعد ذلك يتعاون المعالِج والمريض لتحديد واختبار طرق كَسْر الحلقات المُفْرغة الخاصة بالسلوك غير المرغوب فيه. قد يتضمَّن هذا تدخُّلاتٍ مثل التدريب على المهارات؛ على سبيل المثال، التواصل الحازم أو حل المشكلات. أو قد يتضمَّن المزيد من أساليب العلاج السلوكي المعرفي الأكثر تقليدية، مثل مواجهة الأفكار ذات الصلة بالمادة المخدِّرة (على سبيل المثال، «أنا بحاجةٍ إليها»؛ «لن أستمتع بأي شيءٍ مرةً أخرى إذا لم أستخدمها»). يمكن أيضًا استخدامُ أساليب الإدارة السلوكية للتعامل مع المثيرات. على سبيل المثال، التعرُّض ومَنْع الاستجابة حيث يتعرَّض المريض تدريجيًّا لتسلسلٍ هرميٍّ من المواقف المحفِّزة، دون الاستجابة باستخدام المادة المخدِّرة. بدلًا من ذلك، قد تُستخدم أساليبُ الاسترخاء لتقليل الاستثارة أو الانخراط في سلوكياتٍ لا تتوافق مع السلوك الإدماني. تُستخدم أساليبُ مماثلة في العلاج السلوكي المعرفي لاضطرابات العادات. ففي هوس نتف الشعر، سيختبر المرضى سلوكياتٍ لا تتوافق مع نتفِ الشعر مثل إبقاء الشعر مربوطًا للخلف، أو ارتداء قبعة، أو إبقاء أيديهم على حِجْرِهم. هذا مفيدٌ بنحو خاص للعادات التي تُفْعَل بإدراكٍ واعٍ محدودٍ (مثل قضم الأظافر). وكما هو الحال في تعاطي المواد المخدِّرة، يسعى العلاج السلوكي المعرفي لاضطرابات العادات إلى صياغة الوظيفة (الوظائف) التي يخدُمها السلوك. هل هو شكلٌ من أشكال التهدئة الذاتية؟ وإن كان كذلك، فما الطرق الأخرى الأقلُّ ضررًا التي يمكن للمريض استخدامُها لتهدئة نفسه؟ وبالمثل، إذا كان السلوك الإدماني يعمل على تخفيف الملل، أو يُحدِث استجابةً لحالات وجدانية سلبية أخرى، فيمكن للمريض تعلُّم استخدام طرقٍ أخرى لتحقيق تلك الأهداف.

يمثِّل الحفاظ على مكاسب العلاج تحديًا خاصًّا في التعامل مع حالات الإدمان واضطرابات العادات. لذا، تعطي تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي الأولويةَ لاستراتيجيات الاستمرار، والوقاية من الانتكاس وإدارته. وهذا ينطوي على النظر في المواقف العالية الخطورة، والتخطيط الدقيق لها. كما هو الحال في المرض العقلي الخطير، قد يكون من المفيد تحديدُ النمط المعتاد لانتكاس الفرد، «العلامة المُميِّزة للانتكاس»، حتى يتمكَّن من وضع خطةٍ لكيفية التدخُّل لتغيير المسار بمجرد ملاحظة علامات الإنذار المبكر. على سبيل المثال، حدَّد مريض لديه تاريخٌ من الانتكاس المزمن لتعاطي الكحوليات علاماتِ الإنذار المبكر لديه — الشعور بتوتر متزايد بسبب العمل، والابتعاد عن شريك حياته، والتوقف عن الانخراط في أنشطة الرعاية الذاتية مثل التمرين — باعتبارها تغيراتٍ عادةً ما تسبق الانتكاس. واستجابةً لذلك، وضع خطةً لاعتبار هذه الأمورِ علاماتِ تحذيرٍ واتخاذِ مسار مكروه من خلال: توظيف مهارات أخرى للتعامل مع ضغوط العمل؛ والانفتاح على التوتر الذي كان يعانيه مع كلٍّ من صاحب العمل وشريك حياته؛ وأخْذ إجازةٍ من العمل والتركيز على الرعاية الذاتية، إذا لزم الأمر. وكان من المهم بنفس القدْر تعلُّم وَضْع حدودٍ مناسبة وطلب المساعدةِ؛ بحيث يكون أقلَّ عُرضةً لخطر الشعور بالإنهاك في أوقات التوتر في العمل.

ثمَّة مجالٌ آخر متعلِّق بالصحة طُبِّق فيه العلاج السلوكي المعرفي بنجاح وهو علم أمراض الأكل. التشخيصات الثلاثة الأكثر شيوعًا لاضطرابات الأكل هي «فقدان الشهية العصبي»، و«الشَّره المرضي العصبي»، و«اضطراب الشراهة عند تناول الطعام»، مع وجود مشكلاتٍ أقل شيوعًا هي «شهوة أكل المواد الغريبة» (تناول مواد غير غذائية) و«اضطراب تجنُّب/تقييد تناول الطعام» (تناول مجموعة محدودة جدًّا من الأطعمة). ركَّزت نُهج العلاج السلوكي المعرفي المبكرة لاضطرابات الأكل على التدخُّلات السلوكية، التي تركِّز على زيادة الوزن وتطبيع أنماط الأكل، وأحيانًا استخدام استراتيجيات الإدارة السلوكية، مثل المكافأة على زيادة الوزن، أو الحرمان من الامتيازات عند عدم زيادة الوزن في حالات فقدان الشهية. ومع ذلك، عانى المرضى للحفاظ على المكاسب التي تحقَّقت في العلاج خارج البيئة المضبوطة، من المحتمل أن ذلك بسبب عدم معالجة المعتقَدات الأساسية. مؤخرًا، طوَّر معالجو العلاج السلوكي المعرفي، مثل الطبيبِ النفسي كريس فيربرن وزملائه، نُسَخًا من العلاج السلوكي المعرفي تعطي مزيدًا من الاهتمام للعناصر المعرفية الأساسية، بالإضافة إلى السلوكيات المتعلِّقة بتناول الطعام. يُنظَر إلى فقدان الشهية العصبي والشَّره المرضي والشراهة عند تناول الطعام، على أنها تشترك في آلياتٍ مشتركةٍ مهمةٍ من الحلقات المُفْرغة، على الرغم من وجود سماتٍ مميزةٍ لكلٍّ منها. على سبيل المثال، الأنماطُ المضطربة للأكل وإعطاءُ قيمةٍ مفرطةٍ لشكل الجسم ووزنه من الأمور الشائعة في اضطرابات الأكل الثلاثة. ولذلك، يركِّز العلاج السلوكي المعرفي لاضطرابات الأكل على كسرِ الحلقات المُفْرغة الشائعة، مثل أنماط الأكل التقييدية المفرطة التي تؤدِّي إلى معاودة الإفراط في تناول الطعام، وإدراك فقدان السيطرة، بالإضافة إلى التصدِّي للمعتقَدات التي تُبالِغ في تقدير الشكل والوزن (على سبيل المثال، «لا يمكنني أن أكون سعيدًا إلا إذا وصلت إلى وزنٍ معيَّن»؛ «لن يحترمَني أحدٌ إلا إذا كنت نحيفًا»). نجح هذا النَّهج في أنواعٍ مختلفةٍ من اضطرابات الأكل، وكذلك مع المرضى الأصغر سنًّا، وقد استُخدِم مع أولئك الذين يعانون نقصًا كبيرًا في الوزن. كانت النتائجُ إيجابيةً مع مدة علاجٍ بلغت أربعين جلسة لأولئك الذين يبدءون العلاج ولديهم نقص كبير في الوزن، وعشرين جلسة لأولئك الذين لم يكونوا كذلك.

الأمراض العقلية الخطيرة

بالإضافة إلى استخدام العلاج السلوكي المعرفي لعلاج مشكلات الصحة العقلية الأكثر شيوعًا، مثل القلق والاكتئاب والإدمان، فقد كُيِّف العلاج السلوكي المعرفي لعلاج الأمراض العقلية الخطيرة. يشير مصطلح «المرض العقلي الخطير» إلى الحالات التي تتسم بفقدان الاتصال بالواقع، مثل «الاضطراب الثنائي القطب» (الذي كان يُعرف سابقًا باسم «الاكتئاب الهوسي») أو الاضطرابات الذهانية مثل «الفصام». الأعراض المميِّزة للفصام هي المرور بحالات هلوسة (تصورات خاطئة) و/أو أوهام (معتقَدات خاطئة) بالإضافة إلى مجموعةٍ من الأعراض التي تؤثِّر على الحالة المزاجية والسلوك، مثل السلوك غير المنظَّم والخمول وغياب المشاعر. ومع أنه من الطبيعي التعرُّض لمجموعة من الحالات المزاجية التي تتراوح من جيدة إلى سيئة، فإن الاضطراب الثنائي القطب يتميز بتقلبات مزاجية مفرطة. فترات المِزاج الجيد، التي تسمَّى «نوبات الهوس»، هي عندما يصبح الشخص عادةً مفرطًا في التفاؤل والنشاط والدافعية، غالبًا بطريقة تؤدي إلى عواقبَ سلبية، مثل الإنفاق المفرِط أو النشاط الجنسي غير المناسب. في حالة الهوس، يكون الشخص مفعمًا بالطاقة، وغالبًا ما ينتقل إلى التهيُّج. قد يتشتَّت انتباهه بسهولة ولا يحتاج إلا إلى قليل من الراحة أو النوم. قد يؤدي هذا إلى خطط وأفكار مُبالَغ فيها ولا تتماشى مع الواقع، كما هو الحال في الأوهام. على سبيل المثال، أوهام العظمة مثل الاعتقاد بأنه شخص ذو أهمية خاصة أو يمتلك قوًى خاصة. عادةً ما تكون نوبات الهوس محدودة زمنيًّا، وفي الفترات الفاصلة بين نوبات الهوس، قد يكون لدى الشخص مستوياتٌ مزاجية طبيعية، أو قد يعاني، وهو الأغلب، مزاجًا اكتئابيًّا، يصل أحيانًا إلى مستوًى حاد.

أسباب المرض العقلي الخطير غير واضحة، ولكن من المحتمل أن تكون متعدِّدةَ الأوجه، وتتضمَّن نقاطَ ضَعفٍ وراثية، وتغيراتٍ في كيمياء الدماغ، فضلًا عن التجارب الحياتية السيئة بما في ذلك الصدمات. تاريخيًّا، كان الخط الأساسي للعلاج هو الأدوية المضادة للذهان، أو التي تعمل على استقرار الحالة المزاجية، وثبَت أن لكليهما تأثيراتٍ علاجية، وآثارًا جانبية ضارة كبيرة. وبسبب المسببات المتعددة الأوجه للأمراض العقلية الخطيرة، لم تُستَخدَم نُهج العلاج السلوكي المعرفي بشكلٍ عام بهدف علاج الاضطراب، وإنما لمساعدة المريض على التعامل مع مرضه قدْر الإمكان، والحد من تأثير الأعراض، وتقليل وتيرة و/أو شدة النوبات.

وقد أدَّى هذا إلى عدة مسارات تدخُّل مختلفة في العلاج السلوكي المعرفي للأمراض العقلية الخطيرة. أحدها هو تكييف التدخُّلات التقليدية للعلاج السلوكي المعرفي لهذه الفئة من الناس. على سبيل المثال، استخدامُ أساليب إدارة الحالة المزاجية المستخدَمة عادةً في العلاج السلوكي المعرفي للاكتئاب أو القلق، أو العلاج السلوكي المعرفي الذي يركِّز على الصدمة. يمكن استخدام هذه التدخُّلات بشكلٍ فعَّالٍ مع المرضى الذين يعانون أمراضًا عقليةً خطيرة، ولكنها قد تتطلب تعديلاتٍ مثل عَقْد جلساتٍ أقصر وأكثر تواترًا لمن يعانون صعوباتٍ في التركيز. بدلًا من ذلك، يمكن أن تركِّز تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي في الأمراض العقلية الخطيرة؛ على تعزيز الامتثال للعلاج بالأدوية. يمكن أن تكون العوائق التي تحول دون الامتثال للعلاج بالأدوية ذات طابع عملي (مثال ذلك، المريض الذي يعاني ضعفًا إدراكيًّا والذي يكافح من أجل تذكُّر تناول أقراصه) أو إدراكي. تشمل العوائق الإدراكية المعتقَدات التي تعكس عدم قبول الحاجة إلى الأدوية، أو الشك في الفوائد التي تجلِبها (على سبيل المثال، عدم تناول المريض الأدوية المضادة للذهان بمجرد أن يبدأ في الشعور بالتحسُّن). تشير الأبحاثُ الحديثة إلى أنه يمكن تحسينُ امتثال المرضى لتناول الأدوية، من خلال تدريب مقدمي الرعاية الصحية على أساليب التغيير السلوكي المعرفي.

من التطبيقات الأخرى للعلاج السلوكي المعرفي في الأمراض العقلية الخطيرة، التدخُّل المباشر في الأعراض التي تخصُّ مرضًا عقليًّا خطيرًا. على سبيل المثال، طوَّر عالِم النفس السريري دانيال فريمان أساليبَ سلوكية معرفية للتعامل مع جنون الارتياب. وبالمثل، اقتُرِحَت أساليبُ سلوكية معرفية للتعامل مع حالات الأوهام والهلوسة والضيق المصاحب لها. بالنظر إلى تركيز العلاج السلوكي المعرفي المتأصِّل على تشكيك المعالِج في نسخة المريض من الواقع، عند العمل مع المرضى الذين يعانون الهلوسةَ أو الأوهام، من المهم بدرجةٍ أكبرَ أن يكون أيُّ تصدٍّ لمثل هذه المعتقَدات قائمًا على علاقة علاجية قوية، وصياغة مشتركة شاملة للصعوبات التي لدى المريض. من هذا الأساس يمكن للمعالِج أن ينتقلَ ليقدِّم له فكرة أنه قد تكون هناك أكثرُ من طريقةٍ لفَهْم تجربته. على سبيل المثال، النظرية «أ» هي أن الأصوات هي كلام الرب مباشرةً إلى المريض، في حين أن النظرية «ب» هي أنها هلوسة سمعية ناتجة عن عقل الشخص نفسه، بسبب مرضه. عندئذٍ يتلقى المريض تشجيعًا على مقارنة الأدلة التي تؤيد والتي تدحض هاتَين النظريتَين المتعارضتَين، وفي النهاية إجراء تجارب سلوكية لتوليد أدلةٍ للتمييز بينهما. الفكرة هي أنه إذا كانت الأصوات تُنسب إلى المرض وليس إلى إلهٍ قدير، فقد تكون أقلَّ إثارة للقلق، ويمكن الاستجابة لها بطرقٍ أكثرَ نفعًا؛ على سبيل المثال، من خلال الشعور بأن المريض أقلُّ اضطرارًا على التصرف بناءً على الأصوات، وأقل خوفًا بشأن عدم التصرف بناءً عليها. استُخدِمَت أساليبُ إعادة توصيف مماثلة في العمل مع جنون الارتياب وأوهام الاضطهاد، وأسفرَت عن نتائجَ مشجِّعةٍ في التجارب الأولية. كان الواقع الافتراضي مفيدًا في مثل هذه التدخُّلات، لتمكين المرضى من إعادة إنشاء سيناريوهات مُتخيَّلة وممارسة مهاراتٍ مطوَّرةٍ حديثًا في بيئات افتراضية.

في الاضطراب الثنائي القطب، كان لتدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي تأثيرٌ أكبر، من خلال التركيز على مَنْع الانتكاس في هذا الاضطراب الذي عادةً ما يأتي على نوبات. يحدث ذلك عن طريق تحديد «العلامة المُميِّزة للانتكاس» لدى الفرد؛ أي نمطه المعتاد من الانتكاس إلى الهوس أو الاكتئاب، والتدخُّل للتغلب على تدهور الحالة المزاجية أو استفحالها. تُستخدم مراقبة الحالة المزاجية والنشاط للكشف عن علامات الإنذار المبكِّر للانتكاس، ويُتَّخذ إجراء لتقليل نمط استفحال الحالة المزاجية أو تدهورها. على سبيل المثال، زيادة الأدوية المضادة للاكتئاب استجابة لانخفاض الحالة المزاجية. أو التعرُّف على علامات الإنذار المبكر لنوبة الهوس مثل انخفاض الحاجة إلى النوم، واتخاذ إجراء لكسر الحلقات المُفْرَغة مثل تقليل النشاط والحصول على مزيد من الراحة، أو الحد من النشاط الموجَّه نحو هدف، أو التصدي للتفكير المتَّسم بالهوس والمبالغة. استهدفت تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي في الاضطراب الثنائي القطب أيضًا؛ أنماطَ التفكير أو الإسناد التي يُعتقد أنها تسهِّل تقلبات المزاج (مثال ذلك التفكير القطبي، حيث يُنظر إلى الأشياء على أنها كلها جيدة أو كلها سيئة) والتفسيرات المُبالغ فيها للنجاح أو الفشل.

لقد غطَّى هذا الفصل مجموعةً واسعةً من المجالات التي طُبِّق فيها العلاج السلوكي المعرفي، من اضطرابات القلق والصدمات إلى الإدمان واضطرابات الأكل، والأمراض العقلية الخطيرة. قبل ختام الفصل سنتناول مجالَين آخرَين استُخْدِم فيهما العلاج السلوكي المعرفي، ولا يعتبران «اضطراباتٍ» أو أمراضًا، وهما: الغضب والصعوبات التي تواجه العلاقات.

الغضب

الغضب ليس اضطرابًا، شأنُه في ذلك شأنُ الخوف أو الحزن. وإنما هو عاطفة تكيفية أو غير تكيفية؛ اعتمادًا على شدتِها وتكرارها وسياقها وطريقة التعبير عنها. يمكن للغضب الذي يتفجَّر كثيرًا أو بشكل مكثَّف، أو الذي يؤدي إلى سلوكٍ غيرِ مفيد أو ضارٍّ أو محزن (للفرد أو للآخرين) أن يكون هدفًا يستدعي التدخُّل. تستند التصورات السلوكية المعرفية للغضب إلى فكرةِ أن الغضب يحدُث عندما يدرك الفرد أن قواعده، للكيفية التي يجب أن يكون عليها العالم، قد انتُهِكَت. على سبيل المثال، «إنه لم يعاملني بالاحترام الذي أستحقه» أو «لا ينبغي أن تكون الحياة بهذه الصعوبة». من المعروف أيضًا أن الغضب يمكن أن يكون ردَّ فعلٍ دفاعيًا، من حيث إنه «يمنع» التعرُّض لمشاعرَ مؤلمة أكثرَ مثل الحزن أو الخوف؛ فالتركيز على كيفية تعرُّضك للإساءة قد يساعد في تجنُّب الاضطرار إلى مواجهة مخاوفك، حول سبب عدم تلقِّيك معاملةً حسنةً بقَدْر ما كنت ترغب. ومن ثَم، فإن أساليب العلاج السلوكي المعرفي للغضب متعدِّدة المكونات. من المحتمل أن يكون أحدُ المكونات الأولى هو إنشاء الدافع. بالنظر إلى الأفكار المذكورة أعلاه التي تشير إلى أن الغضب يرتبط ارتباطًا وثيقًا ﺑ «قواعد الحياة» بالنسبة إلى الفرد أو معاييره الشخصية، وقد يعمل على تجنُّب التعرُّض لمشاعرَ مؤلمة أكثر، فمن المحتمل أن يكون هناك تضاربٌ بشأن التغيير. ولذلك يمكن أن تكون نقطة البداية المفيدة هي النظرَ إلى مزايا الغضب أو مكاسبه، وإيجابيات وسلبيات التغيير. على سبيل المثال، في المثال الوارد في الفصل الثالث، لاحظ نيل أن نوباته المتَّسمة بالغضب والعدوانية كان لها بعضُ الفوائد على المدى القصير، من حيث إنها وضعت حدًّا لانتقاد زوجته له، وسمحت له بالتنفيس عن إحباطه تجاه الوضع. ومع ذلك، فقد كانت لها عيوبٌ أكثر من المزايا، لأنها جعلته يشعر بالسوء تجاه نفسه ولم تؤدِّ إلا إلى تفاقم استهجان زوجته له. يمكن أن يكون إجراء تحليلٍ شاملٍ للمزايا والعيوب ذا أهميةٍ خاصةٍ، عندما تجري إحالة الفرد للعلاج (مثل الإحالات بأمرٍ من المحكمة) لأن غضبه يُسبِّب مشكلاتٍ للآخرين، على سبيل المثال، في السلوك العدواني، على عكسِ ما يحدُث عندما يطلب شخصٌ ما المساعدةَ لنفسِه لأن غضبه يسبِّب له المعاناة. بمجرد إنشاء الدافع للتغيير، تركِّز تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي على استراتيجيات التحكُّم في الغضب، مثل تدريب التحصين من التوتر الذي عَدَّله عالِم النفس السريري رايموند دبليو نوفاكو لاستخدامه مع الغضب.

يتضمَّن تدريب التحصين من التوتر، المطبَّق على الغضب، ثلاث مراحل رئيسية. الأولى هي مرحلة الإعداد، التي تركِّز على تعليم المفاهيم. وفيها يتعلَّم المريض التعرُّف على مثيرات الغضب وأنماطه، بما في ذلك الأفكارُ والمشاعر والسلوكيات والاستجابات الفسيولوجية الأساسية. ثم ينتقل إلى النظر في مزايا وعيوب الغضب (أو التعبيرات السلوكية عن الغضب) وتكوين الدافع للتغيير. تُختَتَم مرحلة الإعداد بوضع تسلسل هرمي لمواقف إثارة الغضب، من الأقل إلى الأكثر إثارة. بعد مرحلة الإعداد، تأتي مرحلة اكتساب المهارات وتعزيزها، مما يعني تعلُّم المهارات للاستجابة بطريقةٍ مختلفةٍ في المواقف التي تُثير الغضب؛ تَعلُّم الاستجابة بدلًا من اتخاذِ ردِّ فعل. يتضمَّن هذا استراتيجياتِ ومهاراتِ التعلُّم، مثل الابتعاد لبعض الوقت، أو استخدام الاسترخاء لتقليل الاستثارة، أو تعلُّم مهارات التواصل الحازم للتعبير عن الآراء على نحوٍ مناسب. يمكن أيضًا تعلُّم المهارات المعرفية من أجل التصدي للأفكار التي تثير الغضب (مثل التوقعات غير الواقعية للآخرين/العالَم؛ والتفسيرات القائمة على إلقاء اللوم) وبدلًا من ذلك تحديدُ عبارات التعلُّم الذاتي البديلة التي تقلِّل الغضب بدلًا من تأجيجه (على سبيل المثال «الغضب لن يُجديَ نفعًا؛ إنه يؤلمني أكثرَ من أي أحدٍ آخرَ»؛ «لا يمكنني التحكُّم في سلوك الآخرين، لكن يمكنني التحكُّم في كيفية استجابتي له»). تتمثَّل المرحلة الأخيرة من تدريب التحصين من التوتر في تطبيق المهارات عَبْر المواقف، وذلك لممارسة المهارات للحد من الغضب والاستثارة في تسلسل هرمي من المواقف التي تثير الغضب بشكلٍ تدريجي. غالبًا ما تُمارَس المهارات في عملياتِ تمثيلٍ للأدوار مع المعالِج أولًا، قبل الانتقال إلى العمل في التسلسل الهرمي للتعرُّض في مواقف الحياة الحقيقية. من المهم أن يُقيِّم المريض نتيجةَ الاستجابة بطريقةٍ مختلِفة في المواقف التي تثير الغضب، ويُدمِج هذا في التخطيط المستقبلي؛ وكذلك أن يحدِّد المواقف العالية الخطورة مقدمًا ويتدرَّب على استراتيجيات التكيُّف. في بعض الحالات وليس جميعها، قد يكون من المفيد عندئذٍ النظرُ في العمل على المعتقَدات الأساسية (على سبيل المثال «السماح للناس بالإفلات من هذا يعني أنني ضعيف»؛ و«إذا لم أبدأ الآن ومرة أخرى، فإن الناس سيستغلون ذلك»)، وتحديد أي مشاعر تم تجنُّبها من خلال الغضب، والنظر فيما إذا كانت بحاجة إلى التدخُّل؛ على سبيل المثال، إذا توقَّف المريض عن الغضب من العالَم بسبب الطريقة التي تعامل بها العالَم معه، فقد يحتاج إلى معالجةِ الكثير من الحزن أو الفقد في تلك الأحداث التي كان غاضبًا بشأنها في السابق.

طُبِّقَت أساليبُ العلاج السلوكي المعرفي للغضب عَبْر نطاق من مجموعات المرضى، بما في ذلك أولئك الذين يعملون في خدمات الطب الشرعي، وكذلك أولئك الذين يعانون إعاقاتٍ ذهنية. كانت النتائج إيجابيةً بشكلٍ عام، مع انخفاضٍ في تجاربِ الغضبِ والتعبيرِ عنه المُبلَّغِ عنها من المرضى أنفسهم. ومع ذلك، فإن النتائجَ على المدى الطويل أكثرُ تنوُّعًا ويصعب تقييمها، ومن الواضح أن الغضب لا يزال يمثل تحديًا في السجون.

صعوبات العلاقات

مثل الغضب، لا تشكِّل صعوباتُ العلاقات اضطرابًا. ومع ذلك، فإن مشكلات العلاقات تسبِّب ضائقةً كبيرة للأفراد، فضلًا عن آثارها على العائلات والأطفال. ولذلك، أصبحت صعوبات العلاقات مجالًا طُبِّقَت التدخُّلات النفسية عليه. قد يطلب الأشخاص المساعدةَ مباشرةً للتركيز على علاقتهم، أو قد يجري تحديدُ العمل على العلاقة على أنه قد يكون مفيدًا، عندما تُشير صياغةُ الحالة إلى أن مشكلات العلاقة قد تُسهِم في الصعوبات التي يواجهها الفرد.

يستخدم العلاج السلوكي المعرفي المعنيُّ بمشكلات العلاقات أساليبَ العلاج السلوكي المعرفي التقليديةَ، ولكن التركيز ينصبُّ أكثرَ على تحسين التواصل ومواءمة توقعاتِ الشركاء، وكذلك على تطوير مهارات حل المشكلات. أنواع المعتقَدات التي حُدِّدَت أهدافًا مهمةً للتغيير في العلاج السلوكي المعرفي لمشكلات العلاقات؛ هي المعاييرُ والتوقعاتُ غير المتوائمة؛ والأحكامُ غير المفيدة على سلوك الآخر؛ وضَعف مهارات التواصل. وكما هو الحال مع النسخ الأخرى من العلاج السلوكي المعرفي، من المهم فَهْمُ السياق التطوري للمعتقَدات ذات الصلة؛ أي من أين أتت. على سبيل المثال، من المرجَّح أن تؤثِّر تجاربُ الطفولة من عائلة الشخص على توقُّعاته في العلاقة (على سبيل المثال، الاعتقاد بأن الزوجة الصالحة دائمًا ما تضع احتياجات زوجها في المقام الأول).

ومع ذلك، من المستبعَد أن يكون تأملُ أصول المعتقَد كافيًا لإحداث تغيير. بدلًا من ذلك، يركِّز العلاج السلوكي المعرفي على تحسين التواصل ومواءمة التوقعات وحل المشكلات بفعالية. قد يعمل الشريكان بنظامَي معتقَدات غير متوافقَين (على سبيل المثال «في العلاقة السعيدة يجب أن نقضيَ كل الوقت معًا» في مقابل «لكي أكون شخصًا بالغًا سعيدًا، فأنا بحاجةٍ إلى درجةٍ من الاستقلالية ووقتٍ لنفسي»). قد يستكشف المعالِج بعد ذلك ما إذا كان يمكن تعديل المعتقَدات إلى شيءٍ يمكن للشريكَين التعايش معه. قد يكون هناك تركيزٌ إضافي على تعديل أحكام إلقاء اللوم غير المفيدة (على سبيل المثال «إنه لا ينظِّف الفوضى التي يُحدِثها لأنه لا يهتم باحتياجاتي») بالتصدي لها. بدلًا من ذلك، يُشَجَّع الشريكان على تقاسمِ المسئولية عن صعوبات العلاقة، وتحديدِ المشكلة (المشكلات) بدقةٍ وتجربةِ حلول مختلفة، دون لوم أو اتهامات متبادلة.

بالإضافة إلى محاولةِ تغيير المعتقَدات، يَستخدم العلاج السلوكي المعرفي للصعوبات في العلاقات التدريبَ على المهارات، مثل التواصلِ الفعَّال وحلِّ المشكلات والأساليب السلوكية (على سبيل المثال، زيادة تواتر السلوكيات الإيجابية مثل تقديم الثناء أو فِعل شيء إيجابي للشريك). عادةً ما تشمل الجلسات كِلا الشريكين، ولكن من المرجَّح أن يشتمل التقييم على بعض الوقت الفردي على الأقل. علاوة على ذلك، قد تكون هناك أحوالٌ يمكن فيها الجمعُ بين العلاجِ الفردي مع العلاج المشتركِ أو إجراؤهما على نحوٍ متزامن. من شأن العلاج الفردي أن يركِّز على المسائل الخاصة بأحد الشريكين، بينما تركِّز الجلسات المشتركة على العلاقة. هذا مفيدٌ بشكل خاص عندما تكون المشكلات مرتبطة؛ على سبيل المثال، تاريخٌ من الصدمات الجنسية يسبِّب مشكلاتٍ في الجانب الجسدي من العلاقة الحالية؛ أو قلقٌ وبحثٌ عن طمأنةٍ يؤثِّران على توازن القوى في العلاقة.

كان أحد انتقادات العلاج السلوكي المعرفي هو أنه مناسِب فقط للقلق/الاكتئاب مع البالغين الذين يُفصِحون عن مكنوناتهم، والذين لديهم تعقُّلٌ نفسيٌّ وقدرةٌ على التفكير بتمعُّنٍ في مشكلاتهم. وبينما طُوِّر العلاج السلوكي المعرفي في الأصل من أجل القلق أو الاكتئاب، سعى هذا الفصل إلى إظهار النطاق الواسع لمجالات أو أنواع المشكلات التي كُيِّف هذا النوع من العلاج من أجلِها وطُبِّق عليها. وبالإضافة إلى التكيُّف مع المشكلات المختلفة، عُدِّلَت أساليبُ العلاج السلوكي المعرفي للعمل مع أنواعٍ مختلفة من المرضى. فعلى الرغم من تطويره في البداية للاستخدام مع البالغين ذوي الذكاء الطبيعي، فقد كُيِّف العلاج السلوكي المعرفي للاستخدام عَبْر نطاق واسع من الأعمار والقدرات الفكرية. جرى إجراء تعديلات على محتوى العلاج السلوكي المعرفي وشكله، للتعامل مع فئاتٍ معينة من الناس؛ على سبيل المثال، عَقْد جلسات أقصر مع الاعتماد بشكلٍ أكبر على المواد المكتوبة لمن يعانون صعوباتٍ في الذاكرة؛ أو استخدام الرسومات أو التسجيلات الصوتية/المرئية لمن لديهم مستوياتٌ أقل من إجادة القراءة والكتابة. لقد تحقَّق الكثير من النجاح في تبسيط بنية العلاج السلوكي المعرفي للمرضى الأصغر سنًّا أو ذوي الإعاقات الذهنية. بالإضافة إلى ذلك، استُخدِمَت أيضًا أساليبُ العلاج السلوكي المعرفي بنجاح في إشراك أفراد الأسرة أو مقدمي الرعاية في علاج طائفة كبيرة من مجموعات المرضى (على سبيل المثال، في مساعدة الآباء على إدارة السلوك المستعصي لطفل؛ أو في إشراك شريك حياة لمراقبة علامات الإنذار من الانتكاس، مثل أنماط النوم المضطربة لمريضٍ يعاني اضطرابًا ثنائيَّ القطب).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤