الفصل الثالث

الحياة في المحيط الساحلي

تتكوَّن المناطق الساحلية للمحيط العالمي من شريطٍ ضيق من المحيط يمتدُّ من الخط الساحلي إلى حافة الرف القاري. على الرغم من صِغر هذه البيئة المحيطية الساحلية نسبيًّا؛ إذ تمثل نحو سبعة في المائة فقط من مساحة المحيط العالمي؛ فهي ذات أهمية كبيرة للمجتمع البشري. وحاليًّا ما يقرُب من ٤٤ في المائة من السكان، أو ٣٫٤ مليار شخص، يتجمَّعون على طول الساحل أو يعيشون على مساحة ١٥٠ كيلومترًا من الساحل. يتزايد هذا الرقم سريعًا مع هجرة المزيد من الناس إلى المراكز الحضرية بالقرب من المناطق الساحلية. وأسفرَت التوقُّعات عن أنه بحلول نهاية القرن فإن ١٣ مدينة من أكبر مدن العالم البالغ عددها ١٥ مدينة، ستُصبح على الساحل أو على مقربة منه.

هذه العلاقة الوثيقة مع المجتمع البشري تعني أن المحيط الساحلي تلحق به آثارٌ جسمية. فهو بيئةٌ مستقبِلة للعديد من المنتجات الثانوية للأنشطة البشرية، مثل الملوِّثات الصناعية والزراعية، ومخلفات الصرف البشري والحيواني، والنُّفايات البلاستيكية، والانسكابات النفطية. يزداد الصيد في المحيط الساحلي موفرًا الكثيرَ من الأطعمة البحرية غير المستزرَعة التي يحصل عليها البشر من المحيطات. إنه أيضًا المكان الذي توجد فيه معظم عمليات تربية الأحياء المائية، مما يوفِّر المزيدَ من الأطعمة البحرية للاستهلاك البشري، ولكنها أيضًا تُخلِّف وراءها النُّفايات، مثل الأعلاف غير المستهلكة والمواد البرازية التي تتراكم وتتحلَّل في أرضية المحيط. علاوةً على ذلك، يُستغل المحيط الساحلي بكثافةٍ في توفير موارد أخرى مثل النفط والغاز.

بسبب قُرب المحيط الساحلي من اليابسة وضحالته النسبية؛ تسنَّى لنا دراسته بسهولةٍ نسبية عن طريق الغوص، وسفن الأبحاث الصغيرة، والأدوات الراسية، ومؤخرًا عن طريق شبكات من آلاف المُستشعِرات المتصلة بالإنترنت التي تجمع بياناتٍ مستمرَّة آنيَّة عن فيزياء المحيطات وكيميائها، وبيولوجيتها. ومن ثَم تُجمَّع الكثير من المعلومات عن بيولوجيا الحياة البحرية الساحلية وآلية عمل النظم البيئية. إذا استُخدمت هذه المعرفة بطريقةٍ فعالة، فستُمكِّننا من إدارةٍ أفضل لمختلِف الموائل التي تُشكِّل البيئةَ الساحلية في مواجهة الوجود البشري المتنامي.

موائل غابات عشب البحر

غابات عشب البحر هي موائلُ بحريةٌ تتميز بالجمال والأهمية، وتوجد في القيعان الصخرية في المياه الضحلة بالقرب من الشاطئ. وتعيش في المناطق الساحلية الباردة والمعتدِلة؛ حيث لا تتجاوز درجاتُ حرارة المحيط عادةً ٢٠ درجةً مئوية. كما تشهد ازدهارًا كبيرًا في المياه الباردة الغنية بالمغذِّيات في مناطق التيار الصاعد الساحلية (انظر شكل ٣-١).
fig14
شكل ٣-١: التوزيع العالمي لغابات عشب البحر. أجناس غابات عشب البحر الموضَّحة على الخريطة هي السائدة في المنطقة المشار إليها.
تتكون غابات عشب البحر من تجمعاتٍ كثيفة من الأعشاب البحرية البُنية، أو عُشب البحر العملاق. في حين أن معظم الكائنات التي تقوم بعملية البناء الضوئي في المحيطات هي كائناتٌ مجهرية، ووحيدة الخلية، وعالقة، فإن عشب البحر العملاق عبارة عن شكل كبير متعدِّد الخلايا من الطحالب التي تعلَق بقوةٍ في القاع عبر هياكلَ شبيهةٍ بالجذور، تُعرف باسم المثبِّتات (انظر شكل ٣-٢). المُثبِّت هو هيكل تثبيت، وليس نظامًا للجذور، وليس لعُشب البحر العملاق جهازٌ وعائي خاص لنقل الطعام والمغذيات عبر الثالوس. وبدلًا من ذلك، فإن عشب البحر العملاق يمتص المغذيات، والماء، وثانيَ أكسيد الكربون مباشرةً من مياه البحر المحيطة.

يبدأ عشب البحر العملاق حياته في صورةِ أبواغ مجهرية تستقرُّ في أرضية المحيط، وتنمو إلى نباتاتٍ مجهرية ذكَرية أو أنثوية، تُسمى بالنباتات المشيجية. والنبات المشيجي هو المرحلة الجنسية لدورة حياة العشب. تُنتج النباتاتُ المشيجية الذكرية الحيواناتِ المنوية، التي تُطلق في المحيط حيث تُخصَّب البويضات الموجودة على سطح النباتات المشيجية الأنثوية. وتنمو البويضات المخصَّبة لتصبح ثالوسيات، أو نباتات جرثومية، ترتبط في أذهاننا عادةً بعُشب البحر العملاق.

fig15
شكل ٣-٢: تركيب ثالوس عشب البحر العملاق.
تتميز غابات عشب البحر بالإنتاجية العالية. ففي ظل الظروف المواتية ينمو عشبُ البحر العملاق بسرعةٍ كبيرة، وتبلغ بعضُ أنواعه أحجامًا كبيرة جدًّا. على سبيل المثال، يمكن لعشب البحر العملاق «الماكروسيستس»، المتوفرِ بكثرةٍ على طول سواحلِ أجزاءٍ كثيرة من العالم (انظر شكل ٣-١)؛ أن ينموَ بمعدَّلاتٍ تزيد على ٣٠سم في اليوم الواحد، وقد يصل طوله إلى أكثرَ من ٣٠ مترًا في أقلَّ من عام. وتُكوِّن أعشاب البحر العملاقة «غابات» تُشكِّل ظُلاتٍ سطحية كثيفة تُحمَل عاليًا في عمود مياه البحر بمساعدة عوَّامات مملوءة بالغاز تُسمى مثانات العوم.

توفِّر غابات عشب البحر الأساسَ لموئلٍ بحري شديد الخصوبة والتنوُّع. تعيش أنواعٌ كثيرة من الكائنات الحية عالقةً بسطح أعشاب البحر نفسها، أو مدفونةً في ثنايا المثبِّتات، ويوفِّر عشب البحر العملاق المأوى والغذاء للعديد من أنواع اللافقاريات والأسماك، بما في ذلك الأنواع التي تُحصَد لأغراضٍ تِجارية.

قنافذ البحر هي الكائن الرئيسي الذي يتغذَّى على عشب البحر العملاق؛ على الرغم من أنها عادةً ما تُزيل بطريقٍ مباشر القليلَ جدًّا من الكتلة الحيوية لعشب البحر العملاق الحي، ربما ١٠ في المائة أو نحو ذلك، ما لم توجد بأعدادٍ كبيرة جدًّا. يدخل الكثير من طاقة عشب البحر العملاق المجتمعَ الحيوي لغابات عشب البحر في صورةِ مواد نباتية ميتة، تستهلكها مجموعةٌ من آكِلات الجيَف، بما في ذلك قنافذ البحر وأذن البحر إن وُجدت. ويتغذى على قنافذ البحر مجموعةٌ من المفترِسات التي تشمل أنواعًا من نجوم البحر، والقواقع، والأخطبوط، والكَرْكَند الشائك، وسرطان البحر، والأسماك. وفي شمال المحيط الهادي، تتغذى أيضًا ثعالبُ البحر على قنافذ البحر.

أظهرَت الدراسات الطويلة المدى لموائل عشب البحر العملاق أنه عُرضةٌ لرعي قنافذ البحر الجائر. عندما يحدث هذا، فإن مجتمعات عشب البحر العملاق الوارفة، والمنتجة، وذات التنوُّع البيولوجي تتحوَّل إلى «أراضٍ قاحلة من قنافذ البحر» يُخيم عليها الشحوبُ والقَفر (انظر شكل ٣-٣(أ) و(ب)). على الرغم من حدوث هذه «التحولات الطَّورية» بشكلٍ طبيعي على نطاقٍ محدود؛ فقد أصبحَت مؤخرًا مشكلةً أكثر تواترًا وذاتَ طابَعٍ عالمي. إذ شهدت غاباتُ عشب البحر انهيارًا سريعًا، وواسع النطاق، وكارثيًّا في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك شمال شرق المحيط الهادي في ستينيَّات وسبعينيات القرن العشرين، وشمال غرب المحيط الأطلنطي في السبعينيات والثمانينيات، وعلى طول ساحل النرويج في السبعينيات، ومؤخرًا جدًّا على طول الساحل الشرقي لتسمانيا في القرن الحادي والعشرين.
fig16
شكل ٣-٣: انهيار غابات عشب البحر: (أ) غابة نموذجية من أعشاب البحر، (ب) أرضٌ قاحلة تسودها قنافذُ البحر التي حلَّت محلَّ غابةٍ من أعشاب البحر.

حقَّق علماء الأحياء البحرية تقدمًا جيدًا خلال العقود الثلاثة الماضية في كشف العوامل المختلفة التي من شأنها إجهادُ موائل غابات عشب البحر إلى الدرجة التي تجعلها عرضةً للتحول السريع إلى أرضٍ قاحلة من قنافذ البحر. فقد تمكَّنوا من التعرف على كلٍّ من عوامل الإجهاد الفيزيائي والبيولوجي التي غالبًا ما تتفاعل لبذلِ تأثير جمعي. ومعظمها نابعٌ من الأنشطة البشرية، أو تزيد تلك الأنشطة من تأثيرها.

يمكن أن يكون الإجهاد الفيزيائي المؤثِّر على غابات عشب البحر في صورة ارتفاع درجات حرارة المحيط عن درجاته الطبيعية أو في صورةِ أحوالٍ بحرية قاسية على غير المعتاد. على سبيل المثال، فإن الأوقاتَ التي تكون فيها مياهُ البحر دافئةً على غير المعتاد في المحيط الهادي لساحل أمريكا الشمالية، والناتجة عن انخفاض أو توقف التيار الصاعد للمياه الباردة العميقة؛ من شأنها أن تُمثل إجهادًا على عشب البحر العملاق لدرجةٍ تجعله عُرضةً لرعي قنافذ البحر الجائر، ولا سيما إذا كانت أعدادُ قنافذ البحر أعلى من المعتاد لأسباب أخرى. كما أن الموجات الكبيرة الناتجة عن العواصف والمرتبطة بأحداث ظاهرة النينيو الشديدة يمكنها أن تُمزِّق عشب البحر العملاق إلى أشْلاء، وتقتلعَ العديد منه عن مُثبتاته. يمكن أن يتبع ذلك تأثيرُ قنافذ البحر في المنطقة؛ حيث ترعى على أيٍّ من أعشاب البحر العملاقة النامية التي تحاول إعادةَ استعمار المنطقة وتَعوق إعادة تكوين موئل لعشب البحر العملاق. كما يزيد تغيرُ المناخ الذي يتسبَّب فيه الإنسان من تَكرارِ مثل هذا الإجهاد الفيزيائي على غابات عشب البحر، ويزيد كذلك من مدَّته وحجمه؛ مما يجعلها أكثرَ عُرضةً للرعي الجائر والانهيار.

إن التناقص في وفرة وجود مفترس رئيسي لقنافذ البحر نتيجةً للتدخلات البشرية، هو أحد العوامل المسهِمة في انهيار غابات عشب البحر التي قُتلتْ بحثًا. أحد الأمثلة الكلاسيكية على ذلك هو تفاعل المفترس والفريسة بين ثعالب البحر وقنافذ البحر. فمن خلال تغذِّيها على قنافذ البحر، تُحافظ ثعالب البحر على كثافة الرعي على عشب البحر العملاق في مستوًى أقلَّ من المستوى الحرِج، وهو ما يُساعد في الحفاظ على مجتمعٍ مستقر لغابات عشب البحر. ولكن إذا اختفَت ثعالب البحر بأعدادٍ كبيرة من النظام، يمكن أن تشهد أعدادُ قنافذ البحر زيادةً كبيرة؛ مما يزيد كثيرًا من الإجهاد الناتج عن الرعي المفرط على غابات عشب البحر.

بمجرد وصول أعداد قنافذ البحر إلى كثافةٍ حرجة، سرعان ما تنهار غابات عشب البحر لتصبح أراضيَ قاحلةً من القنافذ. لهذا السبب، غالبًا ما يُشار إلى ثعالب البحر باعتبارها أحدَ الأنواع الرئيسية، التي قد لا توجد بأعداد كبيرة ولكنها تلعب دورًا أساسيًّا في تشكيل بِنية المجتمع البحري والحفاظ عليها.

كانت ثعالب البحر على مدى التاريخ أحدَ الأعضاء الموجودة بوفرة في مجتمعات عشب البحر العملاق في المحيط الساحلي على طول حافة شمال المحيط الهادي؛ من شمال اليابان إلى ولاية باها كاليفورنيا. وقُدِّر إجماليُّ تَعداد جماعتها الطبيعية في حدود ١٥٠ ألف إلى ٣٠٠ ألف.

غير أن ثمة دليلًا من دراسة النُّفايات أنه قبل أكثر من ٢٠٠٠ عام اصطاد الصيادون الأليوتيون الأصليون في جزر ألوتيان ثعالب البحر بكثرة، وهو ما كان كفيلًا بإحداثِ تحوُّل لمواقع بِنْية المجتمع البحري الساحلي، من مجتمعٍ يُهيمن عليه عشبُ البحر العملاق إلى مجتمعٍ تُهيمن عليه قنافذُ البحر. وبدايةً من القرن الثامن عشر، بدأ تجارُ الفِراء في اصطياد ثعالب البحر على نطاق صناعي واسع؛ من أجل الحصول على فِرائها الكثيفة، وبحلول أوائل القرن العشرين لم يتبقَّ سوى بضعة آلاف من ثعالب البحر في جميع أنحاء نطاقها؛ حيث تأهُل فقط بعضُ الملاجئ الساحلية المعزولة. أدَّى هذا إلى تكوُّن أراضٍ قاحلة واسعةِ النطاق من قنافذ البحر في أماكنَ مثلِ جزر ألوتيان، وقبالة سواحل ألاسكا، وكندا، وأماكن أخرى. حُظِر صيد ثعالب البحر التِّجاري في الأغلب من عام ١٩١١ وبدأت الجهود الرامية إلى المحافظة عليها، مع وضع الجماعات الباقية من ثعالب البحر في مناطقَ معينة. نتيجةً لذلك، ارتفعَت أعداد ثعالب البحر إلى أكثرَ من ١٠٠ ألف حيوان تحتلُّ ثلثَي نطاقها السابق، ورُصد رجوع العديد من المناطق الوفيرة في ثعالب البحر الآن إلى موائل يُهيمن عليها عشبُ البحر العملاق.

من الأمثلة الأخرى على التأثير النابع من الأنشطة البشرية الهلاكُ الذي حلَّ مؤخرًا بغابات عشب البحر قبالةَ شرق تسمانيا. وذلك لأن احترار المحيط في المنطقة قد سمَح بانتشار أعداد كبيرة من قنافذ البحر «سينتروستيفانوس رودجيرسي» من البر الرئيسي لأستراليا باتجاه القطب إلى تسمانيا؛ مما يتسبَّب في الرعي الجائر على نطاقٍ واسع لعشب البحر العملاق، وانهيار أكثرَ من ٩٥ في المائة من غابات عشب البحر في شرق تسمانيا.

بمجرد تكوين الأراضي القاحلة من قنافذ البحر، يمكنها أن تستمرَّ عدةَ عقود. يرجع جزءٌ من السبب في ذلك إلى أنه بمجرد أن تستهلك قنافذُ البحر جميعَ أعشاب البحر العملاقة، تستمرُّ أعدادها؛ لأنه باستطاعتها البقاء على قيد الحياة عن طريق التغذية على مصادرَ أخرى للغذاء، بما في ذلك الطحالب ذات القشور الصلبة التي تنمو على أسطح الصخور العارية، وعلى اللافقاريات الصغيرة. وعادةً ما يتطلب الأمر حدثًا كبيرًا آخر؛ لتحفيز المنطقة على الرجوع إلى طبيعتها موئلًا لعشب البحر العملاق. يمكن أن يحدث هذا في هيئة نُفوق أعداد هائلة من قنافذ البحر، مما يُقلل من الإجهاد الناتج عن الرعي المفرط على نباتات عشب البحر العملاق النامية، ويُمهد الطريق لإعادة تكوُّن موئلٍ لعشب البحر. وقد ينتج مثلُ هذا النفوق الجماعي لقنافذ البحر عن مرضٍ يُصيبها، ومن المفارقة أن احترار المحيطات الناتجَ عن الأنشطة البشرية من المرجَّح أن يَزيد من تَكْرار أمراض من هذا النوع؛ ومن ثَم يساعد في استعادة عشب البحر العملاق. هذا لأن الأوقاتَ التي تكون فيها مياه البحر دافئةً على غير المعتاد من شأنها أن تتسبَّب في إجهاد قنافذ البحر وفي جعلهم أكثرَ عرضةً لمسببات الأمراض.

لا يزال هناك الكثير لنتعلمَه عن التغيُّرات المعقَّدة المصاحِبة لتدهورِ عشب البحر العملاق وتعافيه، وسيُصبح إجراء المزيد من البحث أمرًا بالغَ الأهمية في الإدارة المستقبلية لموائل غابات عشب البحر والإبقاء على مَزاياها البيئية والاجتماعية، لا سيما في تأثيرات النشاط البشري المتزايدة سريعًا على المحيطات.

مروج الأعشاب البحرية

تُعد الأعشاب البحرية أساسًا لنوعٍ مهم آخَر من الموائل البحرية الواسعةِ الانتشار في القيعان الرملية والطينية للمياه الضحلة من المناطق المدارية إلى القطب الشمالي؛ حيث إن القارَّة القطبية الجنوبية هي القارة الوحيدة التي تخلو من الأعشاب البحرية. على خلاف عشب البحر العملاق؛ فإن الأعشاب البحرية هي نباتات مزهِرة تكيَّفَت للعيش مغمورةً بالكامل في مياه البحر. وقد نشأت في الأصل على اليابسة وهي المجموعة الوحيدة من النباتات المزهرة التي أعادت استعمارَ البيئة البحرية.

fig17
شكل ٣-٤: تكوين الأعشاب البحرية.
تمتلك الأعشاب البحرية جذرًا حقيقيًّا وجهازًا وعائيًّا وتمتص مغذياتها من الرواسب التي تعيش عليها (انظر شكل ٣-٤). أوراقها عبارة عن شفرات طويلة، ورفيعة، ومرنة؛ إذ يبلغ طولها عادةً من نحو ١٠سم إلى ٥٠سم، غير أنه قد يصل إلى بضعة أمتار في بعض الأنواع. تستعمر الأعشاب البحرية قاعَ البحر بمدِّ سيقانٍ تحت الأرض، أو ريزومات؛ حيث تُنبت نباتات جديدة. يمكنها أيضًا التكاثرُ جنسيًّا، عبر حمل التيارات لحبوب اللقاح بين الزهور، وبنثر التيارات للبذور كذلك.

تتميز الأعشاب البحرية بإنتاجيتها العالية. يمكن للشفرات أن تنموَ بمعدَّل سنتيمتر كامل في اليوم وتتساقط وتُستبدل باستمرار. وهكذا يمكن للأعشاب البحرية أن تُشكِّل مروجًا شاسعةً تُغطي عشرات الآلاف من الهكتارات وتضمُّ آلاف الأوراق في كل متر مربع من قاع البحر. وتشهد مروج الأعشاب البحرية أوجَ وفرتها في المياه التي لا يزيد عمقها على ١٠ أمتار؛ حيث تكون مستويات الضوء عالية، غير أنه يمكن العثور عليها على أعماقٍ تزيد على ٤٠ مترًا في مياه بحر شديدة الوضوح. في المناطق المعتدلة، تمثِّل «الزوستيرة»، أو عشبة الأنقليس، نوعًا واسع الانتشار من الأعشاب البحرية، بينما تشيع «الثالاسيا»، أو عشب السلحفاة، في المناطق الاستوائية.

تشكِّل الأعشاب البحرية الأساسَ لمجتمع متنوِّع. فنجد أن عدة أنواع من الكائنات المتشبِّثة وذات القشور تستعمر سطح شفرات الأعشاب البحرية، في حين أن أنواعًا مختلفة من الحيوانات المنقِّبة، مثل الحلزون الصدفي والديدان، توجد بين الجذور. توفِّر هذه الكائنات الحية مصدرًا غنيًّا للغذاء والمأوى للأسماك والحيوانات الأخرى، بما في ذلك الأنواع المهمة تِجاريًّا.

في المناطق المعتدلة، يوجد عددٌ قليل من الحيوانات التي يمكنها الرعي مباشرةً على شفرات الأعشاب البحرية القاسية، باستثناء بعض الطيور؛ مثل البجع، والأوز، والبط. وفي المياه الاستوائية، تتغذى حيوانات الرعي الكبيرة مثل خِراف البحر والأطوم، والسلاحف الخضراء مباشرةً على أوراق الأعشاب البحرية الحية. تتحطَّم الأوراق الميتة وجذور الأعشاب البحرية بفعل البكتيريا والفطريات وتتغذى عليها مجموعةٌ من آكلات الحتات مثل الديدان، وسرطان البحر، ونجوم البحر الهشة، وخيار البحر.

ترتبط السلحفاة الخضراء، «تشيلونيا ميداس»، ارتباطًا وثيقًا بمروج الأعشاب البحرية. وتمثل السلاحف الخضراء راعيًا رئيسيًّا للأعشاب البحرية؛ لذلك تُسمى بعض الأنواع الاستوائية من أعشاب البحر بعشب السلحفاة. يمكن للسلحفاة الخضراء البالغة أن تأكل نحو كيلوجرامَين من الأعشاب البحرية يوميًّا.

تتزاوج السلاحف الخضراء في البحر وتعود الإناث إلى الشواطئ نفسِها التي فقست فيها لتضع بيضها. تحفر الأنثى حفرةً في منطقة جافة من الشاطئ حيث تضع بيضها. ثم تُغطي البيض بالرمل وتعود أدراجَها إلى المحيط. وقد ترجع الأنثى عدة مرات إلى الشاطئ نفسِه أثناء موسم التكاثر على فترات؛ من بضعة أسابيع كي تضع دفقاتٍ متتاليةً من البيض. يفقس البيض بعد بضعة أشهر، وعادةً ما يكون ذلك في الليل، وسرعان ما تنطلق فراخ السلاحف إلى المحيط. وهنا تبقى في المياه الساحلية بالقرب من مكان فقسِها لتتغذَّى وتنمو. عندما تنضج السلاحف، تُهاجر إلى أرضٍ جديدة من الأعشاب البحرية للتغذية؛ حيث تبقى هناك حتى تُصبح مستعدةً للعودة إلى شواطئ أعشاشها من أجل التكاثر. يمكن أن تُغطيَ هذه الهجرات مسافاتٍ شاسعة. على سبيل المثال، تتغذى جماعةٌ من السلاحف الخضراء على الأعشاب البحرية على طول الساحل البرازيلي، ولكنها تهاجر مسافةً تزيد على ٢٣٠٠ كيلومتر من شواطئ أعشاشها في جزيرة أسينشين الصغيرة في وسط جنوب المحيط الأطلنطي؛ من أجل التكاثر. وتستعين السلاحف بزاويةِ أشعة الشمس واتجاه الموج والرائحة؛ لتفقُّدِ طريقها إلى الجزيرة.

تُصطاد السلاحف الخضراء بكميات كبيرة في جميع أنحاء العالم للحصول على لحمها، كما يُحصد بيضها من شواطئِ تعشيشها للتغذي عليه. وبذلك انخفضَت أعداد السلاحف الخضراء بشكل كبير وأصبحت من الأنواع المهدَّدة بالانقراض على مستوى العالم. وقد قُدِّر أنه في عصورِ ما قبل كولومبوس كان هناك أكثرُ من ٩٠ مليون سلحفاة خضراء تقطن البحر الكاريبي وحده. وفي مذكراتهم، وصَف المستكشفون السلاحفَ الخضراء في منطقة البحر الكاريبي بأنها «بأعدادٍ لا نهائية»، و«تكاثر لا ينضب». منذ ذلك الحين شهدَت أعدادها خَسارةً فادحة؛ حيث انخفضَت لتصل الآن إلى نحو ٣٠٠ ألف، أو ٠٫٣٣ في المائة من أعدادها التي كانت عليها عبر التاريخ. وحيث إن أعدادها الآن منخفضةٌ للغاية؛ فقد أصبح تأثيرها على مجتمعات الأعشاب البحرية حاليًّا ضئيلًا، ولكن في الماضي كان بإمكان السلاحف الخضراء أن تقتاتَ بأعدادٍ هائلة على نحوٍ استثنائي على الأعشاب البحرية. فقد كان من شأنها أن تُحافظ على اقتصاص أعشاب البحر، كالمسطحات الخضراء، وأن تُقلل من كثافة المروج، ومن ثَم تُقلل من المنافسة المباشرة بين الأنواع المختلفة لأعشاب البحر وتسمح بالتعايش بين العديد من الأنواع. من دون السلاحف الخضراء في النظام، أصبحَت الآن مروجُ الأعشاب البحرية في أغلبها نوعًا أحاديًّا مهيمنًا واحدًا.

خِراف البحر والأطوم هي من الثدييات البحرية الكبيرة التي ترعى أيضًا على الأعشاب البحرية. تعيش الأطوم في المياه الدافئة للمحيط الهندي والمحيط الهادي؛ حيث توجد خراف البحر في منطقة البحر الكاريبي وخليج المكسيك، وقبالة سواحل غرب أفريقيا. وقد تبيَّن أن الأطوم في أستراليا تُصمِّم مروجًا للأعشاب البحرية على غِرار السلاحف الخضراء. فتعمل مجموعاتُ الأطوم على ترقيق مروج الأعشاب البحرية، مما يخلق مساحةً لمزيدٍ من أنواع الأعشاب البحرية للتعايش ولإعادة تكوين النباتات النامية والأعلى في القيمة الغذائية. وقد شُبِّه هذا ﺑ «استنبات» الأطوم لمروج الأعشاب البحرية بطريقةٍ توفر لها تغذيةً محسَّنة.

تُعد الأعشاب البحرية ذاتَ أهميةٍ كبيرة للمجتمع البشري. فنظرًا إلى كفاءتها في محاصرة الرواسب والربط بينها، تعمل على استقرار قاع المحيط، وتساعد في حماية السواحل من التعرية. كما تعمل مروجُ الأعشاب البحرية أراضيَ حاضنة ومناطقَ علفية للعديد من أنواع الأسماك ذات الأهمية التجارية، وكذلك للَّافقاريات ذات الأهمية التجارية مثل الحلزون الصدفي، وسرطان البحر، والجمبري، والمحار.

لذلك مما يُثير قلقًا بالغًا التدهورُ الخطِر في مروج أعشاب البحر في جميع أنحاء العالم. فقد أظهر تقييمٌ عالمي شامل اختفاءَ ٢٩ في المائة من مروج الأعشاب البحرية المعروفة بين عامَي ١٨٧٩ و٢٠٠٩. وبلغ معدَّل الخسارة نحو واحد في المائة قبل عام ١٩٤٠، غير أنه قد تزايد إلى نحو سبعة في المائة في السنة منذ عام ١٩٩٠. جزء كبير من هذا ناتجٌ عن عمليات تصريف مياه الصرف، والتنمية الساحلية، وتجريف قاع البحر، وهي الأنشطة التي تُطلق كمياتٍ زائدة من المغذيات والرواسب إلى المياه الساحلية، مما يُقلل من نقاء المياه ويؤدي إلى اختناق الأعشاب البحرية. كما تؤدي مراوحُ القوارب ومراسيها إلى التمزيق المستمرِّ لمروج الأعشاب البحرية. علاوةً على ذلك، فإن الأعشاب البحرية التي يُجهدها التلوث أو ارتفاع درجات حرارة المحيطات تكون أكثرَ عرضةً للإصابة بالأمراض.

من الواضح أن البشر بحاجةٍ إلى إيلاء قيمة أكبر بكثير لموائل الأعشاب البحرية واتخاذ الخطوات اللازمة للحفاظ عليها. وهذا يعني حماية موائل الأعشاب البحرية المهمة من عمليات التنمية الساحلية وتوعية سائقي القوارب الترفيهية بعدم القيادة في المناطق الضحلة الكثيفة بالأعشاب البحرية، وبالابتعاد عن الرسوِّ على مروج الأعشاب البحرية.

مجتمعات القاع اللين

تتكوَّن مساحاتٌ شاسعة من المناطق الساحلية للمحيط العالمي من قيعانٍ رملية أو طينية. وتتأثَّر هذه الموائل بشدةٍ بالتيارات وحركة الأمواج، خاصةً في الأعماق الضحلة. فتوجد القيعان الرملية حيث تهبُّ التيارات القوية بما يكفي لحمل جزيئات الطين الدقيقة التي يسهُل تعلُّقها في المياه بعيدًا، تاركةً وراءها حُبيبات الرمل الخشنة. وتوجد القيعان الطينية في المناطق القليلة التيار، وتميل إلى أن تكون غنيةً بالجزيئات الدقيقة التي تستقرُّ وتتجمع في مثلِ هذه المناطق. في كلتا الحالتين، ثَمة غيابٌ تام للغطاء النباتي، وتهيمن الحياة الحيوانية على هذه الموائل.

توجد معظم الحيوانات التي تعيش في موائل القاع اللين مدفونةً في الرواسب ويُشار إليها باسم الكائنات الحية القاعية. وتشمل في معظم الأنحاء أنواعًا مختلفة من الحلزون الصدفي والديدان التي تعيش في الجحور. والعديد منها من آكلات العوالق التي تُرشِّح العوالق والجزيئات العضوية من مياه البحر التي تعلوها. تمدُّ الحلزونات الصدفية الآكلة للعوالق سيفونات طويلة من جحورها لأعلى إلى سطح الرواسب وتضخُّ هذه المادة الغذائية العالقة. أما الديدان الآكلة للعوالق فغالبًا ما تعيش في أنابيبَ تمدُّ منها مجموعةً من اللوامس التي تستخدمها لترشيح الجسيمات العالقة. من ناحية أخرى، فإن بعض الحلزونات الصدفية والديدان القاعية هي من آكلات الرواسب، حيث تحصل على الغذاء بالاستهلاك المباشر للرواسب وهضم المواد العضوية والبكتيريا الموجودة في الرواسب أثناء مرورها عبر أحشائها.

ليس كلُّ أعضاء مجتمعات القاع اللين من ساكني الجحور. فبعضها، الذي يُشار إليه باسم الكائنات الحية القاعية الفوقية، يعيش على سطح الرواسب، وتشمل نجوم البحر الهشة، وقنافذ البحر، ونجوم البحر، وخيار البحر، ودولار الرمل، والقواقع، وسرطان البحر، والجمبري. يتغذَّى العديدُ من هذه الكائنات التي تعيش على سطح الرواسب إما عن طريق التقاط الجزيئات العضوية الجاثمة على سطح الرواسب أو بابتلاع وهضم الجزيئات العضوية التي تحتوي عليها، كما تفعل آكلاتُ الرواسب القاعية. أما الكائنات الأخرى مثل القواقع، وسرطان البحر، ونجوم البحر، فهي من المفترسات؛ إذ تتغذى على أعضاءٍ آخرين في المجتمع.

تدعم الأعضاء القاعية والقاعية الفوقية في مجتمعات القاع اللين مجموعةً من الأسماك المفترسة التي تتغذَّى على القاع والتي تعيش في قاع المحيط أو بالقرب منه. ويشمل هذا الورانك والشِّفنِينِيَّات وغيرها الكثير من الأنواع المهمة تِجاريًّا مثل أسماك الحدوق، والبولوق، وسمك النازلي، وسمك القد وكذلك السمك المفلطح؛ مثل سمك فلاوندر، والهلبوت، وسمك موسى. عادةً ما تُصطاد هذه الأسماك التي تعيش في القاع، والمعروفة مجتمِعةً باسم الأسماك القاعية أو أسماك القاع، باستخدام شِباك الصيد القاعية، وتلعب دورًا حيويًّا في غذاء الجماعات البشرية.

المناطق الساحلية الميتة

تتعرَّض العديد من الأنظمة البحرية الساحلية للإجهاد والتغيير بشكلٍ كبير؛ نظرًا إلى إطلاق المغذيات الزائدة في المياه الساحلية الذي تتسبَّب فيه الأنشطة البشرية، وهي العملية التي يُشار إليها باسم الإثراء الغذائي. ويُعد المسبب الرئيسي في ذلك هو المركَّبات التي تحتوي على النيتروجين والفوسفور.

دورة النيتروجين هي واحدة من أكثر دورات المغذيات التي شهدَت تغيرًا في الكوكب بسبب النشاط البشري. ويُعد استخدام الأسمدة النيتروجينية على اليابسة للحفاظ على خصوبة التربة وزيادة غلة المحاصيل؛ مصدرًا رئيسيًّا من مصادر التلوث بالنيتروجين. هذا لأن جزءًا من مركَّبات النيتروجين التي تُنشر على الأراضي الزراعية لا تتضمَّنها المحاصيل بل تتسرب بفعل الأمطار إلى الجداول والأنهار؛ ومن ثَم إلى المحيطات. كما أن الكثير من النيتروجين الذي يُرشَّح من الأراضي الزراعية يكون في صورة نترات.

من المصادر الأخرى للتلوث بالنيتروجين عمليات تصريف النُّفايات البشرية والحيوانية. كما تُنتج مركَّبات النيتروجين أيضًا أثناء حرق الوقود الأحفوري، والأخشاب، ومخلفات المحاصيل، التي ينتهي بها الحال في الأنهار والمحيطات في صورة حمض النيتريك في الأمطار الحمضية.

يُعد الاستخدام المكثَّف للأسمدة الفوسفاتية مصدرًا رئيسيًّا من مصادر التلوث بالفوسفور. وذلك لأن بعضًا من الفوسفات ينجرف إلى الجداول والأنهار، ومعظمه يلتصق بجزيئات التربة؛ ومن هنا يجد طريقه إلى المحيطات. كما تُعد نُفايات الصرف البشرية والحيوانية مصدرًا آخرَ لمركَّبات الفسفور، كما في عمليات إزالة الغابات. في تلك الحالة الأخيرة، ينجرف في الأنهار بعضٌ من التربة التي تصبح عاريةً بعد إزالة الأشجار، وكذلك رماد الأشجار المحترقة، وكلاهما يحتوي على الفوسفور. تُقدَّر تركيزات الفوسفور في العديد من الأنهار الآن في المتوسط بضَعف المستويات الطبيعية، وينتهي الكثيرُ منها في المحيطات.

يُحفِّز الإثراء الغذائي للمحيطات بالنيتروجين والفوسفور الزائدَين الإزهارَ الهائل للعوالق النباتية، خاصةً في المياه الساحلية. وعندما تموت هذه الكتلة من الكائنات المنتجة الأولية، تتحلَّل وتستهلك المزيد من الأكسجين في مياه البحر. إذا انخفضَت مستويات الأكسجين الذائب عن المستويات اللازمة للحفاظ على معظم الحياة البحرية في المنطقة، حوالي مليلترَين لكل لتر من مياه البحر، فإن النتيجة ستكون تكوُّن «مناطق ميتة» بحريةٍ مؤقَّتة أو دائمة. ويرتبط بالمناطق الميتة كلٌّ من فقدان التنوُّع البيولوجي، وارتفاع معدَّل نفوق الأسماك، وانهيار مصايد الأسماك المحلية.

تضاعَف عدد المناطق البحرية الميتة في المحيط العالمي تقريبًا كلَّ عَقدٍ من الزمان منذ ستينيَّات القرن العشرين، وقد استقر الآن على عدد ٥٠٠ منطقة، بعد أن كان أقلَّ من ٥٠ منطقة في عام ١٩٥٠. وليس من المستغرَب شيوعُ المناطق الميتة في المساحات المعرَّضة لصرف المياه من الزراعة الكثيفة. فالمنطقة الميتة في خليج المكسيك هي من السمات الموسمية التي تنتج عن تصريفِ الموادِّ الغذائية بكميةٍ هائلة في الربيع إلى الخليج من نهر المسيسيبي، الذي يجرف مساحةً كبيرة من الأراضي المزروعة بكثافة. عادةً ما تُغطي هذه المنطقة مساحةً من نحو ١٥ ألف إلى ١٨ ألف كيلومتر مربع، على الرغم من أنها كانت تقترب من ٢٣ ألف كيلومتر مربع في عام ٢٠١٧. وبعيدًا عن التدمير الشامل للنظام البحري الطبيعي؛ فإن هذه المنطقة الميتة تؤثِّر سلبًا على المصايد التجارية والترفيهية للجمبري والمحار في الخليج. توجد مناطقُ ميتة أخرى في أجزاءٍ من بحر البلطيق، وشمال البحر الأدرياتيكي، وخليج تشيسابيك، والعديد من المواقع في المناطق الساحلية في شرق آسيا. وتُعد المنطقة الميتة في بحر البلطيق واحدةً من أكبر المناطق الميتة على الكوكب، وتغطي الآن بانتظامٍ مساحةَ نحو ٧٠ ألف كيلومتر مربع، وهي مساحة في حجم مساحة أيرلندا تقريبًا.

المناطق الميتة هي من السمات الضارَّة في المحيطات الساحلية، وتتزايد بسرعة في العدد والحجم. غير أنه يمكن إيقاف هذا المسار وعكسه في نهاية المطاف من خلال تطبيقٍ واسع النطاق لممارسات زراعية منضبطة، تعمل على تحسين استخدام الأسمدة والتقليل منه، والاستثمار في تحسين أنظمة إدارة الصرف.

الإزهار الضار للعوالق النباتية

كثيرًا ما يحدث إزهارُ العوالق النباتية السامة في المياه الساحلية. وعادةً ما يُشار إليه بمصطلح «إزهار الطحالب الضارة». ويمكن أن تكون كثافاتُ خلايا العوالق النباتية في هذا الإزهار عاليةً لدرجةٍ تُغيِّر من لون المحيط، أحيانًا إلى لونٍ ضارب إلى الحُمرة؛ ولذلك تُعرف بالاسم الشائع «المد الأحمر».

يُنتَج إزهار الطحالب الضارة من عدد صغير من أنواع العوالق النباتية، السَّوطيات الدوَّارة في كثيرٍ من الأحيان، والتي تنتِج مجموعةً من السموم القوية التي يمكن أن تُفرَز في مياه البحر. ثم تنتقل هذه السموم بعد ذلك عبر الشبكة الغذائية، فتتراكم أولًا في العوالق الحيوانية التي تتغذى على العوالق النباتية السامة، وفي حيوانات مثل الحلزونات الصدفية، وبلح البحر، والأسقلوب، والمحار التي تتغذَّى بالترشيح على العوالق السامة. ثم يمكن أن تنتقل السموم إلى أعلى السلسلة الغذائية وصولًا إلى الأسماك، والطيور البحرية، والثدييات البحرية. ويمكن أن تتأثر كلُّ هذه الكائنات بدرجةٍ أكبر أو أقلَّ عبر استهلاك هذه السموم، مما يؤدِّي في بعض الأحيان إلى نُفوق أعداد كبيرة من الأسماك وأعضاء الحياة البحرية الآخرين، بما في ذلك الطيور البحرية والثدييات البحرية، ويتسبب في إغلاق المصايد المحلية.

يمكن أن يُعاني البشر الذين يتغذَّون على المحاريات والأسماك الملوَّثة أعراضًا عصبية، مثل وخز الأصابع وشلل عضلي، وكذلك مشكلات تنفُّسية وأعراض مَعدية مِعَوية مثل الإسهال، والقيء، وتشنُّجات البطن. ومن شأن هذه الأعراض أن تكون بالغةَ الحِدة وقاتلةً في بعض الأحيان. وفي بعض الأحيان، يمكن أن تصبح العوالق النباتية السامة معلَّقةً في الهواء بفعل حركة الأمواج، ما يُكوِّن رذاذًا ساحليًّا يمكنه أن يُسبب أعراضًا شبيهة بأعراض الربو عندما يستنشقه البشر.

يُمثل إزهار الطحالب الضارَّة العرَضي ظاهرةً طبيعية، وربما كان دائمًا سمةً من سمات المياه الساحلية. وقد وصف المستكشفون الأوائلُ في القرنَين السابع عشر والثامن عشر أحداثَ تغيُّر لون المياه، ولاحظوا أن الشعوب الأصليِّين الساحليِّين يتجنَّبون حصادَ المحاريات في أوقاتٍ معينة من العام في أماكنَ بعينها؛ خوفًا من التسمم. غير أن المناطق الساحلية في جميع أنحاء العالم تشهد في العقود الأخيرة أحداثًا لإزهار الطحالب الضارة بوتيرة، واستمرارية، ونطاق جغرافي أكبرَ بكثير، وتؤثِّر على عددٍ أكبر من أنواع العوالق النباتية.

لم يتَّضح كليًّا السببُ وراء حدوث ذلك. فقد يُفسَّر جزئيًّا بالتحسُّن في تحديد أحداث الإزهار السام وتسمُّم الغذاء والإعلان عنها، ولكن يكاد يكون من المؤكد ارتباطُ الأمر بالإثراء الغذائي في المياه الساحلية التي تُعزز إزهار العوالق النباتية. إضافةً إلى ذلك، فإن أنواع العوالق النباتية السامة تُنقل بانتظامٍ من ميناء إلى آخر حول العالم عبر مياه صابورة السفن. مياه الصابورة هي مياهُ بحر تُضخُّ في خزانات الصابورة وحمولات الشحن للسفن؛ لمنحها استقرارًا أفضلَ أثناء السفر. وعادةً ما تُستخدم مياه الصابورة عندما تُنزِل السفينةُ حمولتها في أحد الموانئ وقد خفَّت حمولتها أو أصبحَت بلا حمولة. فتُستخدَم ملايينُ اللترات من مياه البحر في كل مرة، ثم غالبًا ما تُنقل وتُطرح في الميناء التالي عندما تحمل السفينةُ حمولةً جديدة. تُعد هذه من الآليات المحتملة المتسبِّبة في توسيع نطاق أنواع العوالق النباتية السامة. فبعض الأنواع يمكنها أن تُنتج أكياسًا — وهي مرحلةُ راحةٍ طويلة الأجل من دورة حياتها — من شأنها أن تظلَّ كامنةً في رواسب القاع سنواتٍ عديدةً حتى تُصبح الظروف مواتيةً لنموها، مما يُشكِّل البداية لأحد أحداث إزهار الطحالب الضارة.

الاجتياحات البيولوجية

يمكن أن تتعرَّض العديد من الكائنات البحرية الأخرى في المياه الساحلية علاوةً على العوالق النباتية السامة؛ للضخِّ في خزانات صابورة السفن. عندما تكون السفينة في المياه الضحلة، يمكنها أيضًا أن تعمل على ضخِّ الرواسب وأيِّ كائنات ترتبط بها وتعيش في القاع. وعندما تُضَخ مياه الصابورة بعد ذلك، قد تُطلق معها أيضًا هذه الكائناتُ الحية. بهذه الطريقة تدخل إلى المناطق المختلفة كائناتٌ دخيلة سامة أو لا تنتمي إلى المنطقة؛ حيث لا توجد فيها عادةً دون تدخلٍ بشري. يُنقل ما يقرب من ١٠ مليارات طن من مياه الصابورة على مستوى العالم كلَّ عام، وتُنقل آلاف الأنواع البحرية حول العالم في مياه الصابورة كل يوم.

تنقل السفن أيضًا الكائنات البحرية إلى مسافاتٍ طويلة بطرقٍ أخرى، حيث تستعمر الكائناتُ الحية الحفَّارة، مثل ديدان السفن، هياكل السفن الخشبية كما تُفسد الكائنات العالقة بها مثل البرنقيل والأعشاب البحرية تلك الهياكل أيضًا. يمكن لهذه الكائنات الحية أن تنطلق في مرحلة يرَقاتها التي تتميَّز بالعيش المستقلِّ في الموانئ الأجنبية، ثم تستقر في القاع، مما يسمح لها باستعمار مواقع جديدة.

عادةً ما يبقى القليل جدًّا من الكائنات الدخيلة على قيد الحياة في بيئاتها الجديدة. غير أن بعضها يُصادف ظروفًا تُمكِّنه من الاستقرار جيدًا، بل واجتياح المجتمع البحري الطبيعي في المنطقة في بعض الأحيان. قد يكون هذا بسبب غياب المفترسات، أو مسببات الأمراض، أو الطفيليات التي تُهاجم الكائن الدخيل في موقعه الجديد، الأمر الذي يُبقي عادةً على أعدادها في المعدَّلات الآمنة. كما قد تُتاح له إمداداتٌ غذائية ذات وفرةٍ غير معهودة، أو يمتلك القدرة على منافسة الأنواع المحلية على الغذاء والموئل. إن أمثلة الكائنات البحرية الدخيلة كثيرةٌ جدًّا وتشمل أنواعًا مختلفة من الأعشاب البحرية، وقناديل البحر، والإسفنج، والديدان، وسرطانات البحر، والبرنقيلات، ونجوم البحر، والحلزونات الصدفية، وبلح البحر، والمحار، والقواقع، والأسماك، وغيرها الكثير.

يُعد إدخال حيوان يُشبه قنديل البحر، وهو القنديل المشطي «نيميوبسيس ليدي»، من المياه الساحلية لأمريكا الشمالية إلى البحر الأسود عبر مياه الصابورة في ثمانينيَّات القرن العشرين مثالًا يوضح جيدًا الدمار الذي يمكن أن تُسببه الكائنات البحرية الدخيلة. فسرعان ما تضاعفَت أعدادُ هذا الحيوان كالطاعون في بيئة البحر الأسود الخالية من المفترسات ليستهلك بنهمٍ العوالقَ الحيوانية الطبيعة في البحر، وقد شمل هذا الاستهلاكُ البيضَ والأسماك في مراحل نموِّها المبكرة. أدَّى ذلك إلى انهيار مخزون الأسماك في أوائل التسعينيَّات، مما تسبَّب في تكبُّد خسائرَ اقتصاديةٍ كبيرة في المنطقة، كما اختفت الدلافين التي تتغذَّى على هذه الأسماك. ومن اللافت أن الأمر تطلب انتقال نوعٍ سامٍّ آخرَ من أنواع القناديل المشطية، «بيرويو أوفاتا»، عن طريق مياه الصابورة أيضًا، للتخفيف من وطأة هذه الكارثة البيئية. في نحو عام ١٩٩٧، بدأ هذا النوع في الازدهار في البحر الأسود، متغذيًا بكثافةٍ على النوع الدخيل الأول، مما تسبَّب في انخفاضٍ حادٍّ في أعداده. ثم قُضي على قناديل «بيرويو أوفاتا» نتيجةَ استنفادها مصدرَ غذائها. ومنذ ذلك الحين، استُعيد مخزون الأسماك وعادت الدلافين.

يُعد اجتياح نجم البحر الياباني «أسترياس أمورينسيس» للمياه في أستراليا مثالًا جيدًا آخرَ على التأثير الكبير الذي يمكن أن تُلحقه الأنواع الغريبة عند غزوها موئلًا جديدًا. موطن هذا النوع من نجوم البحر هو المياه الساحلية لليابان، وشمال الصين، والكوريَّتين الشمالية والجنوبية، وروسيا، غير أنه قد انتقل في وقتٍ ما في ثمانينيَّات القرن العشرين إلى تسمانيا، ربما في طَور اليرقة عبر مياه الصابورة أو ربما قد التصق في سنٍّ مبكرة بهياكل السفن القادمة من شمال المحيط الهادي.

تفاقمَت أعداد هذا النوع من نجوم البحر في موقعه الجديد، ووصلت بحلول منتصف التسعينيات إلى كثافاتٍ غير عادية في بعض الأماكن. على سبيل المثال، في مصبِّ نهر ديروينت في تسمانيا هناك نحو ٣٠ مليون نجم بحر من هذا النوع بكثافاتٍ تصل إلى ١٠ نجومِ بحرٍ في كل متر مربع واحد. هذا النوع من نجوم البحر هو من المفترِسات الشرهة؛ إذ يتغذى تقريبًا على أي شيء في طريقه، بما في ذلك المحاريات، وسرطانات البحر، وقنافذ البحر، وزقَّاقات البحر، ونجوم البحر الأخرى، ويُحوِّل القاع إلى استزراع أحادي افتراضي من نجوم البحر الدخيلة. كما يُشكِّل هذا النوعُ تهديدًا لعمليات تربية الأحياء المائية في المنطقة مع احتمالية التسبُّب في هلاك مزارع بلح البحر، والمحار، والأسقلوب.

بمجرد ترسُّخ هذه الكائنات الدخيلة يصبح من المستحيل القضاءُ عليها. فقد بُذلَت محاولات للسيطرة على انتشار نجم البحر الياباني عن طريق تجنيد غوَّاصين لإزالته يدويًّا، أو بمحاصرته، أو بصيده. كما حُصد لأغراضٍ تجارية وحُوِّل إلى سماد. غير أن أيًّا من ذلك لم يُحقِّق نجاحًا كبيرًا في استعادة النظام البحري الطبيعي في المنطقة. وتُركز الجهود الآن على الحد من انتشار النوع من خلال حملةِ توعيةٍ تُشجِّع على الإبلاغ بالمشاهدات المحلية، والتي يتابعها برنامجٌ سريع الاستجابة لاستئصال النوع من المنطقة.

تُبذل جهودٌ دولية للحدِّ من انتشار الأنواع البحرية الغريبة في مياه الصابورة. فمن المفترض أن تُفرِّغ السفنُ خزَّانات الصابورة ثم تُعيد ملئها في المحيط المفتوح قبل الوصول إلى الميناء. السبب وراء ذلك هو أن الكائنات المتجولة العالقة في مياه الصابورة التي تنتقل من الميناء ستُطلَق في المحيط المفتوح حيث لا يمكنها البقاءُ على قيد الحياة، وأن الكائنات العالقة المنتقلة من المحيط المفتوح ستُطلَق في المياه الساحلية للميناء التالي حيث لن تكون الظروف مناسبةً للبقاء على قيد الحياة. تشترط دولٌ كثيرة أيضًا معالجةَ مياه الصابورة بنظامٍ على ظهور السفن؛ لإزالة الكائنات الحية أو قتلها قبل تصريفها في الموانئ. يمكن أن يشمل ذلك معالجاتٍ باستخدام الترشيح، أو الحرارة، أو المطهرات، وعادةً ما يكون بالجمع بين هذه الوسائل.

الحطام البلاستيكي

على مدار الستين عامًا الماضية، أصبحت الموادُّ البلاستيكية، المشتقة من النفط والغاز، من المنتجات الواسعة الانتشار التي لا غنى عنها في المجتمع البشري، ومصدرًا رئيسيًّا للنُّفايات البشرية. ففي عام ١٩٦٧، كان يُنتَج نحوُ مليوني طن من البلاستيك سنويًّا؛ وقد أصبح الإنتاج الحاليُّ نحو ٣٨٠ مليون طن في العام. ووَفقًا للتقديرات، فإن البشر أنتَجوا ما مجموعُه نحوُ ٨٫٣ مليارات طن من البلاستيك حتى يومنا هذا، وهو ما يزيد على ثلاثة أرباع ما طُرِح، وانتهى به الأمر في مدافن النُّفايات أو تراكم في البيئة الأوسع نطاقًا.

ليس من المستغرَب دخولُ كميات هائلة من هذه النُّفايات البلاستيكية إلى البيئة البحرية، بمعدَّلٍ يبلغ نحو ١٠ ملايين طن في السنة حاليًّا. يأتي ما يقرُب من ٨٠ في المائة من الحطام البلاستيكي البحري من اليابسة، وذلك إما مباشرةً أو عبر الأنهار. فهناك ١٠ أنهار؛ اثنان منها في أفريقيا، والباقي في آسيا، تُصرِّف نحو ٩٠ في المائة من مجموع الحطام البلاستيكي البحري. كما تُمثل السفنُ والقوارب مصدرًا آخر من مصادر التلوث بالحطام البلاستيكي البحري. والسبب في ذلك إلقاءُ السفن التجارية والترفيهية وقوارب الصيد مجموعةً كبيرة ومتنوعة من القمامة البلاستيكية، أو فقدانها كمياتٍ كبيرةً من مُعدَّات الصيد من صنَّارات، وعوامات، وشِباك.

إحدى المشكلات الرئيسية للحطام البلاستيكي هي استمراريته في البيئة. فالمواد البلاستيكية، التي يُقدرها البشر لصلابتها ومتانتها، تتحلَّل ببطءٍ شديد، وسيستمرُّ معظمها في البيئة مئات السنين. وهكذا أصبحَت المحيطات عرضةً لتراكم النُّفايات البلاستيكية لأكثر من نصف قرن. أصبح الآن وجود الحطام البلاستيكي شائعًا في كل مكان في المحيطات؛ إذ تجده طافيًا على السطح وعالقًا في عمود الماء، ومتراكمًا في جميع الدوامات المحيطية الخمس التي تميل، بسبب حركتها الدائرية، إلى محاصرة الحطام العائم، كما يستقرُّ في أرضية المحيط في جميع الأعماق ويتناثر على جميع السواحل. وبمرور الوقت، يتحلَّل الحطام البلاستيكي ليصير شظايا من «الجسيمات البلاستيكية» الدقيقة العالقة في المحيطات ثم يغوص ببطءٍ شديد إلى أرضية المحيط.

تُعد كميةُ الحطام البلاستيكي العالقة على الشواطئ في جميع الأنحاء أمرًا مروعًا. ففي المملكة المتحدة هناك في المتوسط أكثرُ من سبعة آلاف قطعةٍ من البلاستيك على طول كيلومتر واحدٍ من الشاطئ، وفي منطقة البحر الكاريبي يوجد عددٌ من القِطَع يتراوح من ١٩٠٠ إلى أكثر من ١١ ألف قطعة، وفي إندونيسيا أكثر من ٢٩ ألفًا. وتُظهِر الدراسات الاستقصائية لقاع البحار في المناطق الساحلية أنه عادةً ما توجد مئاتُ القطع من الحطام البلاستيكي في الكيلومتر المربع الواحد، وفي بعض الأماكن في إندونيسيا ومنطقة البحر الكاريبي يمكن أن توجد آلاف القطع البلاستيكية في كل كيلومتر مربع.

أُجريت دراسة استقصائية على كمية الحطام البلاستيكي العائم في المحيطات على مدار ٢٤ رحلة بحثية نُظِّمت بين عامَي ٢٠٠٧ و٢٠١٣ عبر جميع الدوامات المحيطية الخمس، وعلى طول المناطق الساحلية لأستراليا، وفي خليج البنغال والبحر الأبيض المتوسط. باستخدام البيانات التي جرى جمعها، قُدِّر وجود أكثر من خمسة تريليونات قطعةٍ من البلاستيك تزن أكثرَ من ٢٥٠ ألف طن طافية على سطح المحيطات. فالشِّباك التي تسحبها السفن تحصد بانتظام من ألف إلى ١٠٠ ألف قطعة بلاستيكية في كل كيلومتر مربع من سطح المحيط، وفي بعض الأحيان تستخرج أكثرَ من ذلك بكثير. ومعظم البلاستيك الموجود في المحيطات — نحو ٩٢ في المائة — عبارةٌ عن جُسيمات بلاستيكية دقيقة بحجمٍ يقلُّ عن ٤٫٧٥مم.

يُشكِّل الحطام البلاستيكي ضررًا بالغًا على العديد من أشكال الحياة البحرية التي تظنُّه طعامًا وتبتلعه أو تعلق فيه. فقد رُصِد تأذِّي مئات الأنواع المختلفة من جرَّاء الحطام البلاستيكي، بما في ذلك الطيور البحرية مثل البطاريق، وطيور القطرس، والبجع، والعديد من طيور الشاطئ، وكذلك الثدييات البحرية بما في ذلك الحيتان، والفقمات، وأسود البحر، وثعالب البحر، وأسماك القرش، وخراف البحر، والأُطُم، والسلاحف. وعادةً ما يحدُث التشابك بسببِ ما يُلقى في البحار من شِباك وحبال الصيد، وخيوط الصيد الأحادية النسيج، وأشرطة ربط الحُزَم، وحلقات حَمل العبوات المكونة من ستِّ فتحات. عادةً ما تلتهم الطيور البحرية والسلاحف الحطام البلاستيكي بجميع أشكاله جميع الأنواع؛ إذ ربما تظنه أشياءَ صالحة للأكل. فالسلاحف على سبيل المثال يبدو أنها تخلط بين الأكياس البلاستيكية وقناديل البحر التي هي إحدى فرائسها. يمكن أن يؤدِّي ابتلاع البلاستيك إلى انسداد الأمعاء والموت، كما يمكن أن تتسرَّب المواد الكيميائية السامة من المواد المُبتلَعة وتتسبب في آثارٍ ضارة أخرى. كما وُجِدت الجسيمات البلاستيكية الدقيقة أيضًا في أمعاء وأنسجة العوالق الحيوانية، بما في ذلك مجذافيات الأرجل. ومما يدعو إلى القلق أن الجزيئات البلاستيكية يُعثر عليها الآن في الأطعمة البحرية التي يأكلها البشر، بما في ذلك سمك القد، وسمك الحدوق، والماكريل، والمحاريات. لا يزال تأثيرُ تناول الأطعمة البحرية الملوَّثة بالبلاستيك على الإنسان محلًّا للجدل، على الرغم من تحذير الهيئة الأوروبية لسلامة الغذاء في عام ٢٠١٦ من تزايُد الخطر المحتمل على سلامة الغذاء وصحة الإنسان.

إن حجم أزمة الحطام البلاستيكي مروع، ولكن لحسن الحظ هناك مستوًى سريع النمو من الوعي المجتمعي والاهتمام بهذه القضية، كما تكتسب المبادرات الهادفة لمعالجة المشكلة زخمًا. فثمة اتفاقٌ عام على وجوب السعي إلى نهج متعدِّد الجوانب يشمل كلًّا من الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، وقطاع الصناعة في جميع أنحاء العالم، ويشمل ذلك: تحسين أنظمة جمع النُّفايات، لا سيما في الدول الفقيرة؛ للحدِّ من تسرُّب المواد البلاستيكية من اليابسة إلى المحيطات، وزيادة نسبة المواد البلاستيكية التي يُعاد تدويرها إلى منتجات بلاستيكية يمكن إعادة استخدامها زيادةً كبيرة، والحد من كمية المنتجات البلاستيكية الجديدة الصُّنع، وإيقاف الطلب على المواد البلاستيكية من خلال مبادرات مثل حظر استخدام الأكياس البلاستيكية التي تُستخدم مرةً واحدة، وتقليل استخدام البلاستيك في تصنيع عبوات الأغذية، إضافةً إلى إزالة الحطام البلاستيكي من الأنهار قبل وصوله إلى المحيطات، وإزالة الحطام البلاستيكي الذي وصل بالفعل إلى البيئة البحرية لتقليل ضرره المستمرِّ على الكائنات البحرية ومنعه من التفكُّك إلى جسيماتٍ بلاستيكية دقيقة أكثرَ ضررًا، ويتعذر إزالتها.

أطلقت منظمة ذا أوشين كلين أب، وهي منظمة غير رِبحية، خطةً طَموحة للحدِّ بشكل كبير من الحطام البلاستيكي المتركِّز في تيار شمال المحيط الهادي، الذي يُشار إليه عادةً برُقعة النُّفايات الضخمة في المحيط الهادي. وقد نُشرت أول نسخةٍ تجريبية من نظام التجميع الخاص بالمنظمة في التيار للاختبار في أواخر عام ٢٠١٨. يتكوَّن النظام من أنبوبٍ عائم على شكل حرف U بطول ٦٠٠ متر تتدلَّى منه تنورةٌ بعمق ثلاثة أمتار. تنقل الرياح والأمواج تلقائيًّا البلاستيك العائم عند السطح أو تحته مباشرةً إلى داخل مركز النظام حيث يتركَّز. وتُصنع التنورة من المواد الملساء التي لا يمكن اختراقها بحيث لا يمكن محاصرةُ العوالق فيها، ويمكن للأسماك أن تسبح تحتها. كما نُشرت نسخةٌ معدَّلة من نظام التجميع هذا صُمِّمَت لجمع البلاستيك بشكلٍ أكثرَ فعالية في منتصف عام ٢٠١٩ لاختبار النظام بشكلٍ أفضل وهي الآن تؤدي مهمةَ جمع البلاستيك بنجاح. وتُخطط ذا أوشين كلين أب الآن لبناء أسطولٍ من نحو ٦٠ نظامًا بالحجم الكامل ونشره، وتزويده بسفن لإزالة البلاستيك من الأنظمة كل بضعة أشهر وإعادته إلى الأرض لإعادة التدوير. تُقدِّر المنظمةُ أن هذه الأنظمة من شأنها إزالة ٥٠ في المائة من البلاستيك الموجود في رقعة النُّفايات الضخمة في المحيط الهادي في غضون خمس سنوات. غير أنه كي تحظى مشكلة البلاستيك البحري بالمعالجة الوافية؛ فإن أنظمة التنظيف هذه ينبغي أن تكون جزءًا من مجموعةٍ أوسعَ من المبادرات التي تهدف إلى وقف تدفُّق البلاستيك من اليابسة إلى المحيطات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤