الفصل الخامس

الحياة البحرية في المناطق الاستوائية

تشمل البيئة البحرية الاستوائية تلك الأجزاء من المحيط العالمي التي تكون فيها المياه السطحية دافئةً باستمرارٍ على مدار العام، حيث نادرًا ما تنخفض إلى أقلَّ من ٢٠ درجة مئوية. وتوجد هذه المناطق داخل حزامٍ محيطي يمتدُّ على خط الاستواء تقريبًا من مدار السرطان في نصف الكرة الشمالي إلى مدار الجدي في نصف الكرة الجنوبي (خط عرض ٢٣ درجة شمالًا إلى خط عرض ٢٣ درجة جنوبًا).

الشعاب المرجانية

تُجسد الشعاب المرجانية الصورة النمطية للبيئة البحرية الاستوائية، وتمثل أنظمة طبيعية تحظى بأهمية عالمية لجمالها، وتنوُّعها البيولوجي، وإنتاجيتها، وأهميتها الاقتصادية (انظر شكل ٥-١). فهذه «الغابات المطيرة المحيطية» هي أنظمةٌ شديدة التعقيد تضم تنوعًا مذهلًا من الكائنات البحرية — من ربع إلى ثلث جميع أنواع الكائنات البحرية — إضافةً إلى عددٍ من الأنواع المختلفة للشعاب المرجانية على مستوى العالم، التي يُقدَّر مجموعها بالملايين.

تُوفر الشعاب المرجانية الغذاءَ لمئات الملايين من البشر، حيث تُشكِّل أنواعُ أسماك الشعاب نحوَ ربع إجماليِّ الأسماك التي تصطادها البلدان الأقلُّ نموًّا. كما توفر حواجزَ حماية طبيعية تقي المجتمعات الساحلية من الأمواج المتولدة من الأعاصير. كما تُمثل أساسًا للعمالة في مجال السياحة لملايين الأشخاص في الكثير من المناطق التي تنتشر فيها الشعاب في مياهها الساحلية. وبعيدًا عن هذه الخدمات ذات الصلة بالنظام البيئي، التي تُقدر بمليارات الدولارات، تحظى الشعاب المرجانية بقيمةٍ جوهرية هائلة من المستحيل تحديدها كميًّا؛ كما يمكن أن يشهد بذلك أيُّ شخص قد مارس الغطسَ أو الغوصَ في بقعةٍ ذات شعابٍ سليمة؛ فلولا هذه الشعاب المرجانية لأصبح كوكبنا ومجتمعنا البشري أكثرَ فقرًا ولا حدود لفقره.

fig22
شكل ٥-١: منظرٌ جوي للشعاب المرجانية في جزيرة هيرون، الحاجز المرجاني العظيم، أستراليا.

المتطلبات الفيزيائية للشعاب المرجانية

على الرغم من أهميتها، تحتلُّ الشعاب المرجانية مساحةً شديدةَ الصغر من سطح الكوكب — ما يزيد قليلًا على ٢٨٤ ألف كيلومتر مربع — وهي ما تقلُّ عن ١٫٢ في المائة من مساحة الرف القاري للمحيطات. وهذا يجعل الشعاب المرجانية نظامًا بيئيًّا نادرًا على النطاق العالمي. هذا لأن المتطلبات الفيزيائية للحيوانات الأساسية البانية للشعاب — المرجانيات — محدَّدة للغاية.

تزدهر المرجانيات البانية للشعاب بشكلٍ أفضلَ في درجات حرارة المحيط الأعلى تقريبًا من ٢٣ درجة مئوية، ويوجد بعضها حيث تنخفض درجات الحرارة إلى أقلَّ من ١٨ درجة مئوية مُددًا زمنية كبيرة. وبذلك تغيب الشعاب المرجانية في خطوط العرض المدارية حيث يحدث التيار الصاعد لمياه البحر الباردة مثلما في السواحل الغربية لأمريكا الجنوبية وأفريقيا. يتطلب ازدهارُ الشعاب المرجانية أيضًا مستوياتٍ عاليةً من الضوء؛ لذلك يقتصر وجودها بشكل عام في مناطق المياه الصافية التي يقلُّ عمقها عن نحو ٥٠ مترًا.

لا يمكن للمرجانيات البانية للشعاب عادةً أن تتحمل تحليةَ مياه البحر لما يقلُّ عن درجة ملوحة ٣٠ تقريبًا أوقاتًا كبيرة؛ ومن ثَم لا توجد في المناطق المعرَّضة لتدفقاتٍ متقطعة من المياه العذبة، مثل المناطق الواقعة بالقرب من مصبَّات الأنهار أو في المناطق التي تتدفَّق فيها المياه العذبة بكمياتٍ عالية. لذا تغيب الشعاب المرجانية على طولِ كثيرٍ من سواحل المحيط الأطلنطي الاستوائية في أمريكا الجنوبية، التي تعرضَت لتصريف المياه العذبة من نهر الأمازون ونهر أورينوكو.

وأخيرًا، تشهد المرجانيات البانية للشعاب أفضلَ ازدهار لها في المناطق ذات الحركة الموجية المعتدلة إلى العالية، والتي تُبقي على مياه البحر مشبعةً جيدًا بالهواء، مما يجلب إمدادًا مستمرًّا من الطعام للمرجانيات، ويُزيل الرواسب الحاجبة للضوء من على سطحها.

تطورَت أنظمة الشعاب المرجانية المذهلة والمثمرة في تلك الأجزاء من المحيط العالمي؛ حيث يتلاقى هذا المزيج من الظروف الفيزيائية، كما هو الحال في البحر الكاريبي، والعديد من جزر إندونيسيا، والفلبين، وجنوب المحيط الهادي، والمحيط الهندي الاستوائي، وفي البحر الأحمر، وقبالة الساحل الشمالي الشرقي والساحل الشمالي الغربي لأستراليا (انظر شكل ٥-٢).
fig23
شكل ٥-٢: توزيع الشعاب المرجانية.

الطبيعة البيولوجية للشعاب المرجانية

المرجانيات البانية للشعاب، والمعروفة أيضًا باسم المرجانيات الصلبة أو الصخرية، هي حيوانات مُكوِّنة للمستعمرات تنتمي للشُّعبة ذاتِها التي تنتمي لها شقائقُ النعمان البحرية. وتتكون كلُّ مستعمرة من الآلاف من الحيوانات التي تُسمى بالبوليبات (انظر شكل ٥-٣). تنمو المستعمرات بالتكاثر اللاجنسي؛ حيث تتبرعم باستمرارٍ عن البوليبات بوليباتٌ جديدة، مُكوِّنةً طبقةً ممتدة من البوليبات المتطابقة وراثيًّا التي تشترك في تجويفٍ مِعوي واحد.
fig24
شكل ٥-٣: تشريح بوليب مرجاني.

مع نمو المستعمرة، تستخرج البوليبات الكالسيوم من مياه البحر المحيطة لإفراز هيكل عظمي من كربونات الكالسيوم بكميات كبيرة، والذي يكون خارج البوليبات نفسها. وحسب النوع، توجد البوليبات داخل أكواب منفردة في الهيكل العظمي، أو في صفوف داخل أخاديد طويلة في الهيكل العظمي. وقد تتراجع البوليبات في الهيكل العظمي لتحظى بالحماية.

إحدى السمات المميزة للمرجانيات البانية للشعاب أنها على الرغم من كونها من الحيوانات فإنها يتميَّز سلوكها وظيفيًّا من عدة نواحٍ بأنه شبيهٌ بسلوك النباتات، وهو ما يُفسر عدم ازدهارها إلا في البيئات الجيدةِ الإضاءة. وهذا لأن جميع المرجانيات البانية للشعاب قد دخلَت في علاقةٍ وثيقة بالكائنات الدقيقة التي تقوم بالبناء الضوئي. تتميز الأنسجة المُبطِّنة للوامس البوليبات وتجويفها المعوي بامتلائها بخلايا بناءٍ ضوئي تُعرف بالحييونات الصفراء (انظر شكل ٥-٣). وهي عبارة عن سوطيَّات دوَّارة معدَّلة تقوم بالبناء الضوئي، في مجموعة من العوالق النباتية التي تعيش عادةً مستقلةً في المحيطات (انظر الفصل الثاني). يمكن لسنتيمترٍ مربع واحد من الأنسجة المرجانية أن يحتويَ على عدة ملايين من خلايا الحييونات الصفراء.

«تُنمِّي» المرجانيات البانية للشعاب الحييونات الصفراء كي تحصل منها على غذائها. غير أنها لا تستهلك الحييونات الصفراء مباشرةً، بل تتحكم كيميائيًّا في كثافتها في أنسجتها وتحفزها كي تُفرزَ بعض المركَّبات العضوية، التي تُخلِّقها عبر البناء الضوئي، مباشرةً في أنسجة أمعائها. وبحسب النوع، تستخلص الشعاب المرجانية ما بين ٥٠ في المائة إلى ٩٥ في المائة من طعامها تقريبًا من الحييونات الصفراء.

ثَمة طرقٌ عديدة تحصل بها الشعاب المرجانية على الحييونات الصفراء. عندما تتبرعم البوليبات لاجنسيًّا، يحتفظ كل بوليب جديد ببعض الحييونات الصفراء. كما يمكن للبوليبات المرجانية أن تتكاثر جنسيًّا حيث يدمج بوليب عادةً بعضًا من حييوناته الصفراء في كل بيضة يُنتِجها. غير أن العديد من الشعاب المرجانية لا تتوارث الحييونات الصفراء، وينبغي أن تحصل عليها من البيئة المحيطة أثناء نموها. في هذه الحالة، يبدو أن اليرقات المرجانية تُفرز مادةً كيميائية في مياه البحر تجذب السلالات المفضَّلة من السوطيات الدوارة، التي تُبتلع وتُدمج في خلايا المرجان نفسه. يحيط المرجان بعد ذلك كلَّ خلية من خلايا السوطيات الدوارة بغشاءٍ خاص، ويبدأ في التحكم في عملية تمثيلها الغذائي.

يستفيد كلٌّ من الشعاب المرجانية والحييونات الصفراء من علاقتهما التكافلية، غير أن الشعاب هي الطرف المسيطر في العلاقة. يكمن جمالُ تلك العلاقة في الطريقة التي تُمكِّن بها كلَّ مُغذٍّ من المغذيات العاليةِ الكفاءة من إعادة التدوير بين الطرفَين. تحصل الحييونات الصفراء التي تقوم بالبناء الضوئي، والتي تجد لها ملجأً حاميًا داخل أنسجة المرجان، على إمداداتٍ مستمرة من منتجات نُفايات التمثيل الغذائي اللازمة لعملية البناء الضوئي — ثاني أكسيد الكربون، والنيتروجين، والفوسفور — مباشرةً من مُضيفها المرجاني. في وجود الضوء، تُحوِّل هذه العناصر الغذائية إلى مركَّبات عضوية، «يسرق» المرجانُ بعضَها طعامًا. كما يستفيد المرجان أيضًا من الأكسجين الذي تُولِّده الحييونات الصفراء منتجًا ثانويًّا لعملية البناء الضوئي.

على الرغم من توفير الحييونات الصفراء لنسبةٍ كبيرة من احتياجات الشعاب المرجانية من الطاقة؛ فإن معظمَ المرجانيات البانية للشعاب تُكمِّل نظامَها الغذائي بالتقاط الطعام من البيئة الخارجية. عادةً ما تتغذى الشعاب المرجانية في الليل عن طريق مدِّ بوليباتها أعلى الهيكل العظمي، وهو ما يجعل المستعمرات المرجانية تبدو «مغطاةً بالفراء» في الليل. يحيط بفمِ كل بوليب حلقةٌ من اللوامس مزوَّدة بخلايا «لاسعة» خاصة، تُسمى بالأكياس الخيطية اللاسعة، (انظر شكل ٥-٣)، تُخرج خيوطًا سامَّة ولزجة تُخمِد الحيوانات الصغيرة، وخاصة العوالق الحيوانية، التي تتغذَّى عليها من المستعمرات المرجانية. كما تفرز الشعاب المرجانية خيوطًا لزجةً من المخاط تجمع الجسيمات العضوية الصغيرة، والتي تُسحَب بعد ذلك إلى أفواه البوليبات.

أنواع الشعاب المرجانية

تنمو الشعاب المرجانية ببطء، في حدود بضعة سنتيمترات في السنة، غير أنها تُشكِّل على مدى حِقبٍ زمنية طويلة هياكلَ متينةً وضخمة، وهي الهياكل الكبرى ضمن الهياكل التي تصنعها الكائنات الحية. وهناك ثلاثة أنواع رئيسية لهياكل الشعاب المرجانية؛ الشعاب الحلقية، والشعاب الهدابية، والحواجز المرجانية (انظر شكل ٥-٤).
fig25
شكل ٥-٤: مراحل في تكوين الشعاب الحلقية. الصورة عبارة عن منظر جوي لتايارو، وهي جزيرة مرجانية حلقية صغيرة في غرب مجموعة جزر تواموتو في بولينزيا الفرنسية.
يَشيع وجود الشعاب الحلقية في المناطق الاستوائية للمحيط الهندي والمحيط الهادي، ويرتبط وجودها بالجزر المحيطية (انظر شكل ٥-٤(أ)). يبدأ تكوُّن الشعاب الحلقية عند استعمار المرجانيات البانية للشعاب جوانبَ جزيرةٍ بركانية حديثة التشكُّل لتُكوِّن شعابًا «هدابية» (انظر شكل ٥-٤(ب)). غالبًا ما تغرق مثلُ هذه الجزر المُشكَّلة حديثًا ببطءٍ؛ نظرًا إلى الوزن الهائل الذي تبذله على قاع المحيط الأساسي. أثناء غرقها، تستمر الشعاب المرجانية المحيطة بها في النمو لأعلى على طبقةٍ من كربونات الكالسيوم التي تُفرزها، مكوِّنةً رصيفًا من الحجر الجيري الذي يزداد عمقًا بمرور الوقت. تنفصل هذه الشعاب في النهاية عن الجزيرة ببحيرةٍ تملؤها مياهُ البحر، وتُعرف باسم «الحواجز» المرجانية (انظر الشكل ٥-٤(ﺟ)). وعندما تختفي الجزيرة نفسُها في النهاية تحت سطح المحيط، تستمر الشعاب المرجانية في النمو صعودًا من قاعدتها الجزرية نحو سطح المحيط، مكوِّنةً هيكلًا دائريًّا أو شبهَ دائري حول البحيرة، وهو ما يُعرف بالشعاب الحلقية (انظر شكل ٥-٤(د)).

يمكن للذروة الحية للشعاب الحلقية أن ترتكزَ على طبقةٍ سميكة للغاية من الحجر الجيري الذي كوَّنَته الشعاب المرجانية. اخترقت ثقوبُ السبر في حلقية إنيويتك بجزر مارشال ما يقرُب من ١٤٠٠ متر في الحجر الجيري قبل الاصطدام بالصخر البركاني، مُشكِّلةً الجزءَ العُلوي من الجزيرة البركانية التي نشأت عليها الشعاب الحلقية. كان من الممكن أن يستغرق الأمر نحو ٦٠ مليون سنةٍ من نمو الشعاب المرجانية لإنشاء غطاءٍ بهذا السُّمك من الحجر الجيري.

يمكن أن تنموَ أيضًا الشعاب الهدابية والحواجز المرجانية بمحاذاةِ كُتل اليابسة القارِّية. تفصل الشعابَ الهدابية عن الساحل قناةٌ ضيقة، بينما توجد الحواجز المرجانية على مسافةٍ أكبر قبالة الساحل. تنتشر مثل هذه الحواجز المرجانية عندما ينحسر الخط الساحلي الذي تنمو عليه أو يغمره ارتفاعُ منسوب مياه البحر. من شأن الحواجز المرجانية أن توجد بهياكل كبيرة للغاية، وأكبرها هو الحاجز المرجاني العظيم الذي يمتدُّ إلى نحو ٢٦٠٠ كيلومتر قبالة الساحل الشمالي الشرقي لأستراليا.

إنتاجية الشعاب المرجانية

يُمثل المرجانُ العمودَ الفقري للنظام البيئي للشعاب، حيث يُشكِّل موئلًا معقدًا ثلاثيَّ الأبعاد يدعم جيدًا التنوُّعَ والوفرة الملحوظَين في الحياة البحرية. وتتميز اللافقاريات البحرية بغزارة إنتاجها. فبعضها، مثل الإسفنج ومراوح البحر والمرجانيات اللينة، يعيش ملاصقًا للشعاب. بينما يتميز بعضُها الآخر بقدرةٍ أكبرَ على الحركة، مثل قنافذ البحر، وخيار البحر، ونجوم البحر، وسرطان البحر، والجمبري، وبزاقات البحر. كما توجد الأسماك الملوَّنة بوفرةٍ وبصورة لافتة، وينتشر عيش الأسماك المفترسة الكبيرة مثل الهامور، والباراكودا وأسماك القرش على الشعاب السليمة.

تُشكِّل الشعاب المرجانية السليمة أنظمةً بحرية غزيرة الإنتاج. وهذا في تباينٍ صارخ مع مياه المناطق الاستوائية المحيطة بالشعاب، التي تُعرف بفقرها في المغذيات والإنتاج. فمن شأن الشعاب المرجانية أن تتَّسم بإنتاجية ٥٠ ضعفًا أو حتى ١٠٠ ضعفٍ من إنتاجية بيئة المحيطات المحيطة؛ ولذلك عادةً ما تُعد بمنزلة واحاتٍ وسط الصحاري البحرية الاستوائية.

من الصعب في البداية أن نفهم كيف من شأن الشعاب المرجانية أن تتمتع بالإنتاج الغزير نظرًا إلى عدم وجود كائنات منتجة أولية تعيش على الشعاب المرجانية. إلا أن الحييونات الصفراء المخبَّأة داخل أنسجة المرجانيات نفسها تَشغل ما يصل إلى ١٠ في المائة من الكتلة الحيوية للمرجانيات الحية؛ وبذلك تُمثل كتلةً كبيرة من الكائنات المنتجة الأولية الدقيقة. ينتشر أيضًا على نطاقٍ واسع عيشُ أنواعٍ أخرى من الكائنات المنتجة الأولية على الشعاب المرجانية، بما في ذلك الطحالب المجهرية، والبكتيريا الخضراء المزرقة التي تخترق الهياكل العظمية المرجانية، والطحالب المرجانية الحمراء والخضراء التي تُشكِّل طبقةَ تغطيةٍ واسعة الانتشار على الأسطح الصلبة المكشوفة، وأشكالٌ مختلفة من الطحالب الجيرية الدقيقة التي تُشكِّل طبقاتٍ تشبه العشب على أجزاءٍ من الشعاب. كل هذا يَزيد من الكتلة الكبيرة، على الرغم من عدم وضوحها للعيان بعض الشيء، من الكائنات الحية التي تقوم بالبناء الضوئي وتعيش على الشعاب المرجانية.

تتميَّز مياه البحر المتدفقة فوق الشعاب المرجانية بأنها مُضاءة جيدًا، غير أنها شديدةُ الفقر في المغذيات. إذن من أين تأتي المغذيات لتدعم هذه الواحات البحرية الاستوائية الغزيرة في إنتاجيتها؟ كما اتضح، فإن الشعاب المرجانية هي بمنزلة أحواض هائلة من المغذيات؛ إذ تمتلك القدرةَ على البحث عن النيتروجين والفوسفور المتاحين في محيطاتها الفقيرة بالمغذيات، ثم تحتفظ بهذه المواد الغذائية وتستخدمها بكفاءةٍ عالية. تمتصُّ الطحالب المرجانية بعضًا من المغذيات الشحيحة مباشرةً من مياه البحر المتدفقة فوق الشعاب المرجانية. علاوةً على ذلك، تحصل الشعاب المرجانية على بعض المغذيات من العوالق الحيوانية والجزيئات العضوية الميتة التي تُرشِّحها من مياه البحر مصدرًا غذائيًّا تكميليًّا. كما تتكون أيضًا النتراتُ عن طريق البكتيريا الخضراء المزرقة المُثبِّتة للنيتروجين التي تعيش في صلةٍ بالشعاب المرجانية وكائنات الشعاب الأخرى، مثل الإسفنج، أو التي تتميز بالعيشِ المستقلِّ في مياه البحر. وبمجرد الحصول على هذه المغذيات الثمينة، يُعاد تدويرها جيدًا مرارًا وتَكرارًا بين الكائنات المنتجة الأولية والحيوانات التي تعيش على الشعاب، وذلك مع عدم افتقاد البيئة المحيطة منها سوى القدْر الضئيل. أفضل مثال على ذلك هو إعادة التدوير المُحكمة للمغذيات بين الحييونات الصفراء وأنسجة مُضيفاتها المرجانية.

توجد الطحالب الكبيرة اللحمية المكشوفة، أو الأعشاب البحرية، متناثرةً على الشعاب المرجانية السليمة؛ لأن الأسماك العاشبة تستهلكها في الحال، ومن أمثلة تلك الأسماك سمك الدامسل وسمك الجراح التي تتوفر عادةً بأعدادٍ كبيرة على الشعاب المرجانية. كما أن قنافذ البحر، مثل قنافذ البحر السوداء ذات الأشواك الطويلة الخطِرة المظهر، «الدياديما»، هي أيضًا من آكلات العشب بامتياز. تلعب هذه الكائنات العاشبة معًا دورًا مهمًّا في الحفاظ على نظامٍ للشعاب المرجانية السليمة؛ بفضل منعها لنموِّ الطحالب الكبيرة السريعة النمو الأخرى من نموها السريع، ومن قتلها للشعاب المرجانية بحجبها للضوء.

لا تتمتَّع الشعاب المرجانية بتحصينٍ كامل ضد الافتراس برغم هياكلها العظمية الخارجية الواقية. تتكيَّف جيدًا عدةُ أنواع من الأسماك، المعروفة باسم آكلات المرجان، مع التغذية على الشعاب المرجانية. وبعضها مثل سمكة الفراشة، يقطف بوليبات مرجانيةً بأكملها من المستعمرة. فالأفواه الشبيهة بالملقط لسمك الفراشة، المزودة بالعديد من الأسنان الصغيرة، مناسبةٌ تمامًا لهذا الغرض. بينما بعضها الآخر، مثل سمكة الببغاء، يعضُّ أو يَبرُد قِطعًا من المرجان، وكذلك الهيكل العظمي، ويلتهمها، ويهضم الأنسجة الرخوة للشعاب المرجانية وكذلك الطحالب والبكتيريا في الهيكل العظمي المرجاني. وعن الأفواه الشبيهة بالمنقار لأسماك الببغاء، التي تتكون من ١٥ صفًّا من الأسنان الشديدة الصلابة، فتتكيف جيدًا مع هذا النوع من سلوكيات التغذية. فعند الغطس أو الغوص فوق الشعاب، يمكن للمرء أن يسمع الضوضاء الصاخبة لسربٍ من أسماك الببغاء وهي تتغذى على الشعاب المرجانية وتطحنها. أما عن بقايا المواد التي تهضمها سمكة الببغاء، فتُطرح في صورة رمال. تُنتج سمكة الببغاء الكبيرة نحو ٤٥٠ كيلوجرامًا من الرمال في السنة، يتراكم في جيوبٍ فوق الشعاب المرجانية، ويساعد في تكوين الشواطئ الرملية المرتبطة ببعض أنظمة الشعاب المرجانية.

التكاثر الجنسي في الشعاب المرجانية

يمكن للمرجانيات البانية للشعاب الانفصالُ عن المستعمرة الأم، واستعمارُ موائل جديدة عبر التكاثر الجنسي. فمعظم أنواع المرجان خِناث؛ أي لديها القدرة على إنتاج كلٍّ من البويضات والحيوانات المنوية في المستعمرة الواحدة. وفي بعض الأنواع، تكون القاعدة وجودَ مستعمرات مذكَّرةٍ ومؤنثة منفصلة. فمعظم أنواع الشعاب المرجانية تستخدم ما يُسمى بالسَّرْء عبر البث؛ أي إنها تُطلق أعدادًا ضخمة من الحيوانات المنوية والبويضات في المحيط حيث يحدث الإخصاب. تنمو البويضات المخصَّبة إلى شكل من أشكال اليرقات المهدبة الصغيرة، تُسمى البلانولا، التي تنقلها التياراتُ أيامًا أو أسابيعَ حسب النوع. وعندما تجد البلانولا الظروفَ المواتية، تسبح إلى القاع، حيث تلتصق معًا وتبدأ مستعمرةً جديدة.

في جميع أنحاء العالم، عادةً ما تَسرَأ المستعمرات المرجانية فوق جزء كبير من الشعاب المرجانية بصورةٍ متزامنة في حدثٍ مذهل من السَّرْء الجماعي حيث تُصبح مياه البحر المحيطة مشبَّعةً بالأمشاج المرجانية، التي تشكِّل بقعًا مميزة على سطح المحيط. وفي أجزاء من الحاجز المرجاني العظيم، على سبيل المثال، فإن ملايين المستعمرات التي تتكون من عدة أنواع مختلفة من المرجان تَسرَأ معًا في ليلة واحدة، أو على مدار بضع ليالٍ، وذلك خلال ربيع نصف الكرة الجنوبي أو أوائلِ الصيف بعد اكتمال القمر. على الأغلب، تطوَّر السَّرْء الجماعي في الشعاب المرجانية لتكوين تركيزات كثيفة للغاية من الحيوانات المنوية والبويضات في مياه البحر؛ من أجل ضمان معدَّلاتٍ عالية من الإخصاب الناجح. ويمكن للبويضات المرجانية التمييزُ بين الأنواع المختلفة من الحيوانات المنوية الموجودة في مياه البحر أثناء عملية السرء الجماعي؛ ومن ثَم ترفض الحيوانات المنوية الآتية من نوعٍ مختلف، ومن ثَم تحدُّ من فرص التهجين بين الأنواع.

تتحكم في موسم تكاثر المستعمرات المرجانية عواملُ مثل التغيرات الموسمية في درجة حرارة المحيط أو طول النهار، وهذه العوامل تعمل على وضع الشعاب المرجانية في حالةِ تكاثر في الآن نفسه. كما تُحفِّز السَّرءَ الفعلي للمستعمرات الناضجة عواملُ مختلفة، بما في ذلك دورة القمر، وانخفاض في مستويات الضوء عند غروب الشمس، والإشارات الكيميائية التي تُطلقها في الماء مستعمراتٌ أخرى من النوعِ نفسِه. وهكذا يمكن لما يُسمى بالشعاب المرجانية «البدائية» الكشفُ عن مستويات الضوء، وتمييزُ أطوار القمر، والتواصل فيما بينها كيميائيًّا.

الاضطرابات الفيزيائية والبيولوجية التي تتعرَّض لها الشعاب المرجانية

على الرغم من ضخامة هياكلها، فإن الشعاب المرجانية عُرضةٌ لاضطراباتٍ فيزيائية واسعة النطاق. فالأمواج الكبيرة التي تُحدثها الأعاصير التي تمر بالقرب من الشعاب المرجانية تعمل باستمرارٍ على تكسُّر مناطقَ شاسعةٍ من الشعاب المرجانية الحية وسقوطها. وعادةً ما يستغرق التعافي من مثلِ هذا الضرر عقودًا تقريبًا أو أكثر. فاحترار المحيط الناجم عن تغير المناخ يُهيئ الظروف لمزيدٍ من العواصف القوية والمتكررة، التي تُسبب ضررًا أكبرَ وأكثرَ تواترًا واتساعًا في نطاقه للشعاب المرجانية، ويحدُّ من قدرتها على التعافي التام في الأوقات التي تتخلَّل هبوب العواصف. كما تُسبب أمواج التسونامي الكبيرة التي تولِّدها الزلازل العنيفة، مثل زلزال ٢٦ ديسمبر ٢٠٠٤، أضرارًا واسعة النطاق. علاوةً على ذلك، يغمر الشعابَ المرجانية الساحلية بشكلٍ دوري جريانُ المياه العذبة الذي يتبع الفيضانات الكبرى، الأمر الذي من شأنه أن يتسبَّب في قتل أعداد كبيرة من الشعاب المرجانية.

تتعرَّض الشعاب المرجانية أيضًا لاضطراباتٍ بيولوجية واسعة النطاق. فالانفجار في أعداد نجم البحر «المكلَّل بالشَّوك» من جنس تيجان الشوك «أكانثاستر» دائمًا ما يؤدي إلى تدمير الشعاب المرجانية في المحيط الهادي، والمحيط الهندي، والبحر الأحمر. يُعد نجم البحر المكلَّل بالشَّوك من نجوم البحر الضخمة؛ إذ يصل قُطره إلى نصف متر، وهو يتغذى تحديدًا على البوليبات المرجانية. ويوجد عادةً بأعدادٍ قليلة للغاية على الشعاب المرجانية، أقلُّ من حيوان واحد لكل هكتار. يمكن لكل نجم بحر منفرد انتزاعُ أنسجة المرجان الحي في مساحة متر مربع أو نحو ذلك كلَّ شهر؛ مما لا يُعد عمومًا معدَّلًا كفيلًا بإلحاق الضرر بالشعاب المرجانية. ولكن عندما تتجاوز أعداده نحو ٣٠ نجم بحر في الهكتار الواحد من الشعاب المرجانية، يبدأ في استهلاك الشعاب المرجانية بمعدَّلٍ أسرع من قدرتها على النمو، ومن شأن ذلك أن تترتَّب عليه نتائجُ كارثية على الشعاب المرجانية. أثناء ذروة نمو أعداد نجم البحر المكلَّل بالشَّوك، التي يمكن أن تستمر عدة سنوات، مع تنقُّل نجوم البحر من شعابٍ مرجانية إلى أخرى، ووصول أعدادها إلى ما يزيد على ١٠٠٠ نجم في الهكتار الواحد، تتعرَّض مساحاتٌ كبيرة من الشعاب المرجانية للتجرُّد، مُخلِّفةً وراءها هياكلَ عظمية عارية (انظر شكل ٥-٥). يُعد التعافي بعد مثلِ هذا التفشي عمليةً بطيئة تستغرق في أي مكان مدةً تتراوح من خمس سنوات إلى أكثرَ من ١٠٠ سنة حسب حجم المساحة المتضرِّرة من الشعاب المرجانية وشدة هذا الضرر، ويمكن أن يلحق الشعابَ المرجانية ضررُ نجم البحر المكلَّل بالشَّوك مجددًا قبل أن تتمكَّن من التعافي التام.
fig26
شكل ٥-٥: نجم بحر مكلَّل بالشَّوك يتغذَّى على مستعمرات مرجانية. وقد جرَّد نجم البحر الشعاب المرجانية عن يمين الصورة من البوليبات، مُخلِّفًا وراءه هيكلًا عظميًّا عاريًا.

كان أول توثيق لنوبات تفشِّي نمو نجم البحر المكلَّل بالشَّوك في ستينيَّات القرن العشرين في اليابان وأستراليا، وقد لوحِظَت بانتظام منذ ذلك الحين في العديد من الأماكن المختلفة. ربما حدَث مثلُ هذا التفشي بشكلٍ طبيعي في الماضي، إلا أن تواتره وحجمه يشهدان تزايدًا الآن، مما يشير إلى وجود تأثير بشري في الأمر. فشبكة الأشواك لدى نجم البحر المكلَّل بالشَّوك تجعل منه وجبةً غيرَ مستساغة لمعظم المفترسات المحتملة، على الرغم من أن بعض أنواع الأسماك يمكنها تناولُه، وكذلك الحلزون البحري الكبير، والمعروف بالترايتون العملاق. وقد افتُرض أن الإفراط في صيد بعض مفترساته من الأسماك، وكذلك المجموعات النَّهِمة من حلزون الترايتون العملاق، ذات القواقع التي يوليها صيَّادو الهدايا التذكارية أثمانًا باهظة؛ قد سمح لأعداد نجم البحر المكلَّل بالشَّوك بالانفجار في بعض المناطق. ومن المقترح أيضًا أن مثل هذه الانفجارات في أعداد نجم البحر المكلَّل بالشَّوك مرتبطةٌ بجريان المياه من اليابسة بعد هطولٍ غير طبيعي لأمطارٍ غزيرة، مما يؤدي إلى جرف المغذيات الزائدة من الأرض الزراعية إلى المياه الساحلية. تحفز المغذياتُ إزهارَ العوالق النباتية التي تُشكِّل مصدرًا وفيرًا للغذاء لنجم البحر المكلَّل بالشَّوك في مرحلةِ يرقاته العوالقية. هذا من شأنه أن يؤديَ إلى معدَّلاتٍ مرتفعة ارتفاعًا استثنائيًّا من بقاء مراحله المبكرة على قيد الحياة، الأمر الذي يُسفر عن تدفُّقٍ في استجلابِ أعدادٍ كبيرة من الصغار، وانفجارٍ في كثافة أعداد النوع بعد بضع سنوات.

على الرغم من أن أسباب تفشي أعداد نجم البحر المكلَّل بالشَّوك لم تُفهم فهمًا تامًّا بعد؛ فإنَّ لأثره أضرارًا جسيمة على الشعاب المرجانية في العديد من المناطق. فلطالما شهد الحاجز المرجاني العظيم موجاتٍ لتفشي نجم البحر المكلَّل بالشَّوك؛ أولها في عام ١٩٦٢، ثم في الفترتين بين العامين ١٩٧٩ و١٩٩١، والعامين ١٩٩٣ و٢٠٠٥، وكان آخرها ذلك التفشِّي الذي بدأ في عام ٢٠١٠. قلَّت مساحةُ الغطاء المرجاني على الحاجز المرجاني العظيم بنحو ٥٠ في المائة منذ عام ١٩٨٥، ويُعزى ما يقرُب من نصف هذا الانخفاض إلى تفشي أعداد نجم البحر المكلَّل بالشَّوك.

حاولَت الحكومة الأسترالية السيطرةَ على موجات تفشي نجم البحر المكلَّل بالشَّوك في بعض الشعاب المرجانية المختارة باستخدام فِرقٍ من الغوَّاصين الذين يحقنون نجوم البحر بالسُّم، لكن هذا النهج ليس فعالًا بالمرة، ويستلزم الأمر إيجادَ طريقةٍ أفضلَ لاستنقاءِ أعدادٍ كبيرة من نجوم البحر. تنطوي إحدى الطرق الجديدة على اكتشافِ إشارةٍ كيميائية فريدة تُطلقها نجومُ البحر المكلَّلة بالشَّوك في مياه البحر، التي تستحثُّها على التجمع معًا قبل أن يوفر لها السَّرءُ بعض الأمل في التكاثر. وثمة احتماليةٌ لتطوُّر هذه المادة الكيميائية لتصبح «طُعمًا» لجذب أعدادٍ كبيرة من نجوم البحر إلى بقعةٍ واحدة وتسهيل عملية استنقائها.

تتأثَّر الشعاب المرجانية كذلك بمجموعةٍ من الأمراض التي يمكنها أن تتسبَّب في تغيُّر لون أنسجتها المرجانية، وإصابتها بالأورام، وموت أنسجتها. لا يُعرف الكثير عن مسبِّبات هذه الأمراض وآثارها، إلا أنها ترتبط على الأرجح بالعدوى بفيروسات، وبكتيريا، وفطريات مختلفة. وقد تسبَّب مرضٌ مرجاني غايةٌ في الخطوة يُعرف باسم «مرض الشريط الأبيض» في مقتل نوعين من الشعاب المرجانية المتفرعة في منطقة البحر الكاريبي — مرجان قرون الأيَّل ومرجان قرون الألكة — منذ أن لوحظ تفشِّيه في عام ١٩٧٩. شكَّلت هذه الشعابُ المرجانية في الماضي أجماتٍ شاسعةً ومنيعة وبديعة في المياه الضحلة في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي، ولكن على مدار الخمسة والثلاثين عامًا الماضية قتَل مرضُ الشريط الأبيض ما يصل إلى ٩٥ في المائة منها، وكلا النوعين مُدرَج الآن في قانون الأنواع المهدَّدة بالانقراض في الولايات المتحدة. ومن المثير للاهتمام أن الأبحاث الحديثة قد كشفَت أن نسبةً صغيرة من مرجان قرون الأُيَّل المتبقِّي مقاوِمةٌ الآن للمرض، مما يفتح المجال أمام الاستزراع الخارجي لهذه السلالات المقاومة للأمراض لإعادة تأسيس جماعاتها في أنحاءٍ مختارة من منطقة البحر الكاريبي.

التأثيرات البشرية المحلية والإقليمية على الشعاب المرجانية

على الرغم من تعرُّض المرجانيات البانية للشعاب لمجموعةٍ من الاضطرابات الفيزيائية والبيولوجية الطبيعية؛ فقد صمَدَت عدةَ ملايين من السنين. أما الآن، فمن المؤسف أن أصبحَت الشعاب المرجانية في خطرٍ مُهدِّد بسبب مجموعة واسعة من الاضطرابات التي يتسبب فيها الإنسانُ على المستويين المحلي والإقليمي.

يُشكِّل الصيد الجائر تهديدًا كبيرًا للشعاب المرجانية. فنحوُ ثُمن سكان العالم — ما يقرُب من ٨٧٥ مليون شخص — يعيشون على بُعدِ ١٠٠ كيلومتر من أماكنِ وجود الشعاب المرجانية. معظم هؤلاء الأشخاص يعيشون في دولٍ أقلَّ نموًّا ودولٍ جُزرية، ويعتمدون بشكلٍ كبير على الأسماك، التي يحصلون عليها من الشعاب المرجانية المحلية، مصدرًا للغذاء. ليس من المدهش إذن أنْ أصبح الصيدُ غيرُ المستدام مشكلةً متفشيةً في معظم أنظمة الشعاب المرجانية في أنحاء الكوكب.

كانت الأسماك المفترسة الأكبر حجمًا وذات القيمة العالية، مثل الهامور والنهَّاش، والتريفالي، وسمك نابليون؛ أولَ الأسماك التي استهدفها الصيادون على الشعاب المرجانية السليمة. يؤدي هذا إلى سرعة استنزافها؛ ومن ثَم يبدأ الصيادون بالضرورة في التحول في صيدهم إلى الأسماك في المستويات الأدنى في السلسلة الغذائية، ويستهدفون في الأساس الأسماكَ العاشبة. ينتج عن ذلك شعابٌ مرجانية تعيش فيها أسماكٌ صغيرة يصعب صيدها، وقليلة في قيمتها الغذائية، وتخلو فعليًّا من الأنواع المفترِسة الكبيرة مثل أسماك القرش والهامور التي تميزَت بالوفرة فيما مضى، كما تخلو من الأسماك العاشبة الأكبر حجمًا التي تتغذى على الطحالب الكبيرة.

تصبح الشعاب المرجانية في هذه الحالة أقلَّ مرونةً وأكثرَ عرضةً للاضطرابات الأخرى في النظام. تُمثِّل الشعاب المرجانية في منطقة البحر الكاريبي مثالًا كلاسيكيًّا على آثار الصيد الجائر التي تُزعزع استقرار الشعاب. معظم دول جزر الكاريبي مكتظةٌ بالسكان، وقد تعرضَت أعدادٌ كبيرة من الشعاب المرجانية للصيد الجائر بحلول القرن التاسع عشر. يتعرض الآن ما لا يقل عن ٦٠ في المائة من الشعاب المرجانية في المنطقة للصيد الجائر بشكلٍ مفرط، ويندُر بشدة وجود الأسماك المفترِسة والعاشبة.

في البداية كانت إزالة الأسماك العاشبة من النظام تُعوضها زيادةٌ في أعداد قنافذ البحر من نوع «دياديما أنتيلاروم» التي لم يكن عليها التنافس في الغذاء مع الأسماك العاشبة على الطحالب الكبيرة. واصلت هذه القنافذ الرعي مرةً أخرى والتحكم في كمية الطحالب الكبيرة على الشعاب المرجانية. ثم بدايةً من العام ١٩٨٣، انتشر أحد الأمراض الذي يُصيب قنافذ البحر بسرعةٍ عبر منطقة البحر الكاريبي، وقتل تقريبًا جميعَ قنافذ «دياديما» في جميع أنحاء المنطقة في غضون عامين. في ذلك الحين وقد غابت في الواقع جميعُ الكائنات العاشبة التي تعيش على الشعاب المرجانية؛ ازدهرَت الطحالب الكبيرة بسرعة، وفاقت الشعاب المرجانية في النمو. نتيجةً لذلك، وعلى مدار عقدٍ من الزمان، تحوَّلت الشعاب المرجانية في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي من هياكل يُهيمن عليها المرجانُ إلى أنظمةٍ تهيمن عليها الأعشاب البحرية التي تفتقر إلى سمات اللون، والتنوُّع، والتعقيد التي تتميز بها الشعاب المرجانية السليمة. فبمجرد أن رسخَت الطحالب الكبيرة والسميكة على الشعاب المرجانية، تعرقلَت بشدةٍ إعادةُ نمو الشعاب المرجانية. وهكذا، فمن المؤسف أن هذا الانهيار الهائل الذي يشهده النظام البيئي للشعاب المرجانية في منطقة البحر الكاريبي؛ سيستمرُّ إلى أجلٍ غير مسمًّى مع استمرار الصيد الجائر، وسيزداد تعقيدًا مع وجود عواملِ إجهادٍ أخرى. فالشعاب المرجانية في جميع أنحاء العالم عرضةٌ لضغوط الصيد الجائر، وتنتشر الآن على نطاقٍ واسع تحولاتٌ مماثلة لتلك التي حدثت في منطقة البحر الكاريبي.

الشعاب المرجانية مُعرَّضةٌ بشدة لأي تدهور في جودة المياه ينشأ عن أعمال التنمية الساحلية والتغيرات في استخدام الأراضي. فجريان الرواسب من الأراضي الزراعية، والمناطق التي أزيلت منها الغابات، ومن أعمال الحفر أثناء تطوير السواحل يُقلل من نقاء المياه، ويغطي الشعاب المرجانية بالرواسب، مما يقلل بدوره من كمية الضوء الذي تمتصه إلى الشعاب المرجانية، ويؤدي إلى اختناق البوليبات. يمكن حتى للزيادات الطفيفة في تركيزات المغذيات أن تتسبَّب في إجهاد الشعاب المرجانية بتحفيزها مستوياتٍ مرتفعة من العوالق النباتية، التي تُقلل من نقاوة المياه واختراق الضوء. كما تحفز زيادةُ العناصر الغذائية نموَّ الطحالب الكبيرة الخانقة للشعاب المرجانية. تُشكِّل إذن نفايات الصرف الصحي غير المُعالَجة تهديدًا واضحًا على الشعاب؛ وكذلك المغذيات في الصرف الزراعي.

يؤثِّر الصرف القادم من الأراضي الزراعية على مرونة أجزاء من الحاجز المرجاني العظيم. فكلٌّ من الرواسب، والمغذيات، ومبيدات الأعشاب تُصرَف في نظام الحاجز المرجاني العظيم من مستجمعات المياه الضخمة التي تبلغ مساحتها نحو ٤٢٤ ألف كيلومتر مربع. ترعى الماشية في كل مكان في كثيرٍ من أنحاء هذه المستجمعات، وينمو قصب السكر على أجزاءٍ أخرى من مستجمعات المياه، ولا سيما تلك المجاورة للممرات المائية في السهول الفيضية الساحلية الخِصبة. ويُقدَّر أن صرف الرواسب الآن قد زاد بمعدَّل من خمس إلى تسع مرات، وأن تأثير المياه الغنية بالمغذيات تصاعد ليتجاوز ١٠ إلى ٢٠ ضِعفَ ما كان عليه التأثير قبل تطوير مستجمعات المياه قبل عام ١٨٥٠.

من الصعب تقييمُ التأثيرات الإجمالية لهذا الصرف على الحاجز المرجاني العظيم بسبب عدم وجود معلومات عما كانت عليه الشعاب المرجانية قبل تطوير مستجمعات المياه. ومع ذلك، ثمة احتمال كبير بتعرُّض الشعاب المرجانية الموجودة على بُعد نحو ١٠ كيلومترات من الساحل الآن للخطر نتيجةَ فرط المغذيات وأن الشعاب الأبعد عن الشاطئ تتأثر بطرقٍ ستؤدي قريبًا إلى التقليل من مرونتها في مواجهة عوامل الإجهاد الأخرى. واستجابةً لذلك، ثَمة جهودٌ في طريقها لتطبيق ممارسات إدارية جديدة للأراضي، من شأنها أن تُقلل من الملوِّثات في مياه الصرف؛ مثل الاستخدام الأكثر كفاءةً للأسمدة، والحدِّ من استخدام مبيدات الأعشاب، وإعادة إنشاء الغطاء النباتي الضِّفِّي على طول حافات الأنهار والجداول؛ للمساعدة في تصفية مياه الصرف من الرواسب والمغذيات.

لم تؤخذ دراسة الشعاب المرجانية على محمل الجِد على مستوى العالم إلا في سبعينيَّات القرن العشرين؛ حيث كانت الشعاب في معظم الحالات بحالةٍ جيدة بعد بدء التأثيرات البشرية. هذا يجعل من الصعب تحديدَ ما يُشكِّل نظامًا «طبيعيًّا» للشعاب المرجانية السليمة، كما كان موجودًا قبل اتساع نطاق الآثار البشرية. حاول علماء أحياء الشعاب المرجانية الحصولَ على صورةٍ أوضحَ لما يبدو عليه نظام الشعاب المرجانية غير المتأثر؛ ومن ثَم يعيدون ضبط «أساسنا» المتحيز، وذلك من خلال دراسة الشعاب المرجانية في الشعاب الحلقية غير المأهولة في جزر لاين النائية، التي تقع في وسط المحيط الهادي على بُعد ١٦٠٠ كيلومتر جنوب هاواي. ثم قارنوا ما وجدوه في الشعاب الحلقية غير المأهولة بالشعاب الحلقية الأخرى التي يزداد تعدادُ سكانها باستمرارٍ في سلسلة الجزر نفسِها التي تعرضَت لمستوياتٍ مختلفة من الإجهاد الناتج عن الصيد والتلوث.

وجدوا أن الشعاب المرجانية في الشعاب الحلقية غير المأهولة تهيمن عليها أعدادٌ كبيرة من المفترِسات العليا التي تضمُّ أسماكًا كبيرة مثل أسماك القرش، وأسماك الجاك، والنهَّاش الأحمر، والهامور، وأن الشعاب المرجانية الحية تُغطي ما يقرُب من ١٠٠ في المائة من مساحة القاع، وأنه لا وجود للطحالب الكبيرة في تلك الشعاب. في هذه الشعاب المرجانية تتكون نسبة ٨٥ في المائة استثنائية من الكتلة الحيوية السمكية من المفترسات الكبيرة، التي يتشكل تقريبًا ثلاثةُ أرباعها من أسماك القرش. يدعم هذه الكتلةَ الحيوية «التي تميزها غلَبةُ المستويات العليا في السلسلة الغذائية» من الأسماك المفترسة؛ معدَّلُ دورانٍ سريع للتكاثر السريع ونموِّ الأسماك المُفترَسة مثل سمك الفراشة، وسمك الببغاء، وسمك الدامسل. أما الشعاب المرجانية في الجزر الحلقية المأهولة بالسكان، فتختلف عن ذلك تمامًا. ففيها تندُر الأسماك المفترسة، وتهيمن على الشعاب المرجانية أعدادٌ كبيرة من الأسماك العاشبة الصغيرة بحجم أسماك أحواض السمك، في ذلك النمط من «غلبة المستويات الدنيا في السلسلة الغذائية» الذي نظنه إحدى خواص الشعاب المرجانية. تتميز هذه الشعاب بمستوياتٍ أقلَّ بكثير من الغطاء المرجاني، وبكمياتٍ أكبرَ بكثير من الطحالب الكبيرة. وهكذا، تُزودنا هذه الأنظمة القليلة المتبقية للشعاب المرجانية في الجزر الحلقية النائية غير المأهولة بلمحةٍ عمَّا بدَت عليه معظم الشعاب المرجانية منذ مئات السنين قبل انتشار التأثير البشري.

التأثيرات البشرية على النطاق العالمي على الشعاب المرجانية

لم يتعدَّ نطاق التهديدات البشرية على الشعاب المرجانية الذي تناولناه حتى الآن المحليةَ أو الإقليمية. غير أن الخطورة القصوى التي تهدِّد الشعاب المرجانية هي خطورةٌ عالمية في نطاقها؛ إذ تتمثل في احترار المحيطات وتحمُّضها؛ نتيجةَ أزمة المناخ التي يتسبَّب فيها الإنسان.

تُعرف الشعاب المرجانية بحساسيتها الشديدة لدرجة حرارة البحار؛ ومن ثَم تتسبَّب أيُّ زيادات طفيفة في درجات الحرارة عن الدرجات القصوى المعتادة في فصل الصيف؛ في إجهادها. وتعاني الشعاب المرجانية التي تجهدها الحرارة من «الابيضاض»، حيث تطرد الحييونات الصفراء من أنسجتها. ومن دون الحييونات الصفراء تصبح الأنسجة المرجانية شفافةً، ويظهر من خلالها الهيكلُ العظمي الجيري الأبيض الموجود تحتها. إذا كان الإجهاد في درجة الحرارة متوسطًا وقصيرَ المدى، يمكن للشعاب المرجانية أن تُعيد اكتساب حييوناتها الصفراء وأن تحتفظ بحياتها، على الرغم من أنها قد تكون أكثرَ تأثرًا بضغوطٍ أخرى، مثل الأمراض. فالشعاب المرجانية التي أجهدَتها الحرارة بشدةٍ ليست لديها القدرة على استعادة حييوناتها الصفراء بالسرعة الكافية، ولا يمكنها العيش من دونها.

تُعتبر نوباتُ ابيضاض الشعاب المرجانية العرضية القصيرة المدى ظاهرةً طبيعية. ولكن ابتداءً من عام ١٩٨٠، ازدادت وتيرةُ وشدةُ ابيضاض الشعاب المرجانية عالميًّا بشكل سريع؛ نتيجةً لاحترار المحيطات الناتج عن زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للكوكب (انظر شكل ٥-٦). فمنذ الابيضاض الذي أصاب الشعابَ المرجانية عالميًّا في عام ١٩٨٠، لم يرجع ليُصيبها مرةً أخرى إلا في عامَي ١٩٩٨ و٢٠١٠ وفي الفترة بين عامَي ٢٠١٥ و٢٠١٧. وتلك المرة الأخيرة — في السنوات «المتعاقبة» الأولى من نوعها، والأطول، والأوسع نطاقًا، والأكثر ضررًا إلى يومنا هذا — قد أصابت جميعَ مناطق الشعاب الرئيسية على الكوكب. وكان تأثيرها على الحاجز المرجاني العظيم كارثيًّا؛ فقد نفق ٤٩ في المائة من جميع الشعاب المرجانية الواقعة على امتداد ١٦٠٠ كيلومتر. في الماضي، كان الوقت يكفي لتمكُّن الشعاب المرجانية من استعادةِ بعضٍ من غطائها قبل الإصابة بالابيضاض مرةً أخرى. إلا أن تصور درجات حرارة سطح المحيطات في المستقبل، إلى جانب المعرفة بفسيولوجيا الشعاب المرجانية؛ يُظهر أنه بحلول عام ٢٠٥٠ تقريبًا سيصيب الابيضاضُ الشعابَ المرجانية على مستوى العالم سنويًّا، وأنه سيصيبها في بعض المناطق بحلول منتصف ثلاثينيَّات القرن الحادي والعشرين. وهكذا فنحن الآن مع الأسف على مشارفِ مرحلةٍ يتفوق فيها معدَّلُ الإصابة بالابيضاض على قدرة الشعاب المرجانية على التعافي.
fig27
شكل ٥-٦: التغيُّرات في تركيز ثاني أكسيد الكربون ( ) في الغلاف الجوي للأرض على مدى الألفي عام السابقتين، تزامنًا مع مرات ابيضاض الشعاب المرجانية عالميًّا. يعرض الجزء الرمادي الزيادةَ ذات المعدَّل الطويل المدى في تركيز ثاني أكسيد الكربون بينما يعرض الجزء الأبيض معدَّل زيادة تركيزه في العقود الأخيرة.

لا تتسبَّب هذه الزيادة في تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي في ارتفاع درجة حرارة المحيطات فحسب، ولكنها كما بينَّا في الفصل الأول تجعل مياه البحر أكثرَ حمضية. وتحمُّض المحيطات بدوره يجعل من الصعب على المرجان تصنيعَ هياكله العظمية من كربونات الكالسيوم. من ثَم يستلزم الأمر من الشعاب المرجانية أن تستهلك المزيد من الطاقة كي تُنتج هياكلها العظمية، وهو ما يؤدي إلى إبطاء نموِّها، ويتسبب في الإجهاد، الذي بدوره يجعلها أكثرَ عرضةً لعوامل الإجهاد الأخرى مثل درجة الحرارة والأمراض. سيؤدي استمرار التحمض في النهاية إلى توقف الشعاب المرجانية عن النمو تمامًا، كما سيتسبب، في مرحلةٍ ما، في ذوَبان هياكلها العظمية ببطء. وبمعدَّلات التحمض الحاليَّة، سيحدث هذا بحلول عام ٢٠٨٠ تقريبًا؛ حيث ستبدأ الهياكل العظمية لمعظم الشعاب المرجانية في الذوبان بمعدَّلٍ أسرع من معدَّل تكوُّنها.

مستقبل الشعاب المرجانية

أمام هذه المجموعة المتنوِّعة من التأثيرات البشرية الإقليمية والعالمية، تتدهور سلامةُ الأنظمة البيئية للشعاب المرجانية تدهورًا سريعًا، وينتظرها مستقبلٌ قاتم للغاية. فستختفي بالكامل الأنظمة البيئية التي يُهيمن عليها المرجان من سطح الكوكب في الخمسين عامًا القادمة إذا لم تُحقَّق أهدافُ الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري لاتفاق باريس ٢٠١٥، المتمثلةُ في الحفاظ على الزيادة في متوسطات درجات الحرارة العالمية بأقلَّ بكثيرٍ من درجتين مئويتين فوق مستوياتِ ما قبل العصر الصناعي. بالمعدَّلات الحاليَّة للانبعاثات العالمية، سيجتاز العالمُ قريبًا النقطةَ التي يمكن عندها تحقيقُ هذا الهدف. وحتى إن تحقق الهدف، فسيختفي من ٧٠ إلى ٩٠ في المائة من الشعاب المرجانية على الكوكب بحلول عام ٢٠٥٠ تقريبًا. وهكذا وصلنا للأسف إلى النقطة التي سرعان ما ستُصبح بعدها الشعاب المرجانية أنظمةً بيئية أسطورية لا وجود لها سوى في الأفلام وعمليات المحاكاة التي يُنشئها الكمبيوتر لتذكير الأجيال القادمة بما فقَده الكوكب.

من حُسن الحظ أن علماء الأحياء المرجانية وفاعلي الخير والمنظمات غير الحكومية يعملون الآن معًا لتطوير خطط طوارئ طويلة الأمد للحفاظ على بعضٍ على الأقل من النظم البيئية للشعاب المرجانية في حالةٍ طبيعية نسبيًّا، وربما لإعادة تأسيسها في وقتٍ ما في المستقبل. وثمة العديد من الاستراتيجيات التكميلية الآخذة في الظهور، والتي تعطي مجتمِعةً بصيصًا من الأمل حول مستقبل الشعاب المرجانية.

من المبادرات المهمة إنشاءُ حافظة عالمية لنظم الشعاب المرجانية البيئية التي يُرجَّح بشكلٍ كبير بسبب موقعها الجغرافي أن تكون الأقلَّ تأثرًا بتغيُّر المناخ، بما في ذلك احترار المحيطات وتزايد العواصف، التي هي أيضًا الأكثرُ قدرةً على إعادة توطين المناطق المجاورة عبْر انتشار يرقاتها الرحَّالة عندما يستقرُّ المناخ، كما نأمُل أن يحدث ذلك. وقد أُنجز هذا البحث الآن مُسفرًا عن التعرف على ٥٠ منطقةً للشعاب المرجانية فيها فرصة جيدة نسبيًّا للنجاة من أسوأ آثار التغير في المناخ. تشمل هذه المناطق مواقعَ في الفلبين، وبورنيو، وإندونيسيا، والحاجز المرجاني العظيم، وبولينيزيا الفرنسية، وشرق أفريقيا، والبحر الأحمر، ومنطقة البحر الكاريبي. وتتمثَّل الخطوة التالية في تطوير وتنفيذ خطط إدارية ستحمي الشعاب المرجانية في هذه المواقع من التأثيرات المحلية، مثل الصيد الجائر والتلوث؛ وذلك لتعزيز مرونتهم في مواجهة الإجهاد الناتج عن التغيُّر في المناخ.

تهدف إحدى المبادرات الأخرى إلى تحديد «واحات» من الشعاب المرجانية في مختلِف أنحاء الكوكب حيث لا تزال تبدو بقعٌ صغيرة من الشعاب المرجانية قادرةً على البقاء، بل ومزدهرة، ضد أسوأ التأثيرات الناتجة عن تغيُّر المناخ وتأثيرات البيئة المحلية، بما في ذلك الابيضاض، والعواصف، وتفشِّي أعداد نجوم البحر المكلَّلة بالشَّوك. وقد حُدد العديد من هذه الواحات حتى الآن في المحيط الهادي ومنطقة البحر الكاريبي. وفي بعض الحالات، يبدو أن الواحات قد نجَت إلى الآن من أسوأ التأثيرات بسبب مواقعها، على سبيل المثال، بسبب البُعد عن مسارات العواصف الرئيسية، أو بسبب نموِّها في المياه العميقة الأقل تأثرًا بالعواصف، أو بسبب تعرُّضها لمستوياتٍ منخفضة من التلوث. في حالات أخرى، بدا أن للشعاب المرجانية سماتٍ بيولوجيةً كيَّفَتها لمقاومةٍ أفضلَ لتأثيرات درجات الحرارة في أعالي المحيطات، أو أن أنظمة الواحات تتَّسم بخصائصَ بيئية تُمكِّنها من التعافي سريعًا من الابيضاض أو من ضرر نجوم البحر المكلَّلة بالشَّوك، ومن تلك الخصائص وجودُ أعداد كافية من آكلات العشب في تلك الأنظمة تضمن هذا التعافيَ. تساعد هذه الواحات الصغيرة في تحديد المناطق التي يمكن إعطاء الأولوية للاهتمام بحفظها، وقد تعمل في المستقبل مواقعَ لإعادة إعمار المناطق المجاورة؛ وذلك إما عن طريق الانتشار السلبي لليرقات، أو عن طريق الاستزراع الخارجي الإيجابي للشعاب المرجانية ذات الخصائص المواتية في مواقعَ أخرى.

يعتقد العديد من علماء الشعاب المرجانية والعاملين في إدارتها الآن أن مثل هذه التدابير وحدها لن تكون كافيةً لضمان المحافظة والاستعادة للشعاب المرجانية والخدمات البيئية التي توفِّرها للأجيال القادمة. لذلك يرجِّحون الحاجة الماسة لإحداث تدخلات أكثرَ فعالية تنطوي على أساليبَ وتقنياتٍ جديدة. ويشتمل أحد الأساليب المقترحة على «تدفُّق جيني مُساعَد» تُنقَل فيه الشعاب المُقاوِمة بالفعل لدرجات الحرارة المرتفعة في المحيطات إلى المياه الباردة؛ حيث ستكون لها فرصةٌ أفضل في البقاء مع ارتفاع درجات حرارة المحيطات هناك. قد يشمل هذا، على سبيل المثال، نقلَ الشعاب المرجانية المتكيفة مع الحرارة من شمال الحاجز المرجاني العظيم إلى الشعاب الأكثر برودةً في جنوب الحاجز المرجاني العظيم. طورَت كذلك بعض المجموعات البحثية نهجًا آخرَ يُسمى «التطور المُساعَد». من أمثلة التطور المُساعَد تطوير سلالات من الأنواع المرجانية التي تتكيَّف مع درجات حرارةٍ أعلى باستخدام تقنيات التكثير الانتقائية. يمكن بعد ذلك زراعةُ هذه الشعاب المرجانية المقاومة للحرارة واستزراعها خارجيًّا لاستعادة حالة الشعاب المرجانية. كما اقتُرِح أيضًا استخدام تقنيات التحرير الجيني الحديثة، مثل تقنية «كرسبر-كاس٩» CRISPR-Cas9، لتسريع هندسة التطور المُساعَد لسلالاتٍ متفوقة من الشعاب المرجانية، وهذه التقنيات تُجرَّب بالفعل.

على الرغم من أن اعتماد هذه التقنيات ذات الحلول الجذرية على نطاق واسع قد يساعد في الحفاظ على الشعاب المرجانية واستعادتها في مواقع «ذات قيمة عالية»؛ يبدو أنه من غير المرجَّح إمكانيةُ استخدامها استخدامًا فعالًا من حيث التكلفةُ لإرجاع مناطقَ شاسعة من النظم البيئية للشعاب المرجانية لحالتها القديمة ما قبل الاضطراب. في هذه الحالة، قد يستلزم الأمر تطويرَ موائل اصطناعية «مُصمَّمة» للشعاب من أجل مضاعفة بعض خدمات النظام البيئي التي توفِّرها الشعاب الطبيعية، مثل الموائل لمصايد الأسماك وحماية السواحل. من الواضح أن بيولوجيا الشعاب المرجانية، بطبيعة الحال، على أعتاب حِقبةٍ جديدة تركِّز على ابتكارِ أساليبَ جديدة لحماية واستعادة الأنظمة البيئية للشعاب المرجانية والحفاظ على الأقل على بعضٍ من جمالها وخدمات نظامها البيئي في مواجهة التغيُّر المناخي السريع.

الغابات الساحلية (المانجروف)

الغابة الساحلية هو مصطلحٌ جامع ينطبق على مجموعةٍ متنوعة من الأشجار والشجيرات التي تستعمر مناطقَ المد والجَزر الموحلة المحمية في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، مما يؤدي إلى تكوُّن غابات المانجروف أو المنجال.

أحد أكثر أنواع أشجار المانجروف شيوعًا المانجروف الأحمر، «ريزوفورا مانجل» والمانجروف الأسود، «أفيسينيا جرمينان». يمكن تمييز المانجروف الأحمر بالتشابك المميز لجذوره الداعمة التي تساعد في تثبيت أشجاره في الرواسب الناعمة. أما المانجروف الأسود فيتميز بجذوعه الأشبه بجذوع الأشجار المعتادة، والمحاطة بكتلةٍ من الهياكل الشبيهة بالأوتاد، تُسمى بالجذور الهوائية (انظر شكل ٥-٧)، يُكوِّنها نظامٌ للجذور المدفونة في الرواسب وتنبثق من الجذع.
fig28
شكل ٥-٧: إحدى أشجار المانجروف الأسود، «أفيسينيا جرمينان» سانت توماس، جزر العذراء الأمريكية، وتُظهر نظامًا يمتدُّ لنطاق واسع من الجذور الهوائية (ج ﻫ).
تعيش أشجار المانجروف في بيئةٍ قاسية للغاية تتكوَّن من رواسب مشبعة بمياه البحر ومليئةٍ بالمواد المتحللة، مما يجعلها كائنات لا هوائية، أو تفتقر إلى الأكسجين. لتتعامل مع نقص الأكسجين، طورَت أشجار المانجروف نُظمًا للجذور تبرَع في استخلاص الأكسجين من الهواء أو من مياه البحر عند غمرِها به. وتُغطَّى الجذور الداعمة للمانجروف الأحمر بهياكلَ عُقَيديَّة صغيرة تُسمى العُدَيْسات، يتوفَّر من خلالها الأكسجين لنظام الجذور تحت الأرض. أما الجذور الهوائية الشبيهة بالأوتاد في المانجروف الأسود، التي تُغطيها أيضًا العُدَيْسات، فتعمل كأنابيب الغطس؛ إذ تسحب الأكسجين من الهواء أو مياه البحر المحيطة (انظر شكل ٥-٧).

تكيَّفَت أشجار المانجروف أيضًا على النمو في الرواسب المالحة. فهي تتعامل مع الملح الزائد بعدةِ طرق. ومنها أن لجذور شجرة المانجروف وسيقانها أنسجةً خاصة تعمل حاجزًا لتقليل كمية الملح التي تدخل إلى النبات. ولكنَّ بعضًا من الملح لا يخترق النبات، الذي يمكنه تحمُّل تركيزات الملح في عصارته التي يُشكِّل حجمُها أكثرَ من ١٠ إلى ١٠٠ مرة من حجم عصارة النباتات الأخرى. إضافةً إلى ذلك، فإن أوراق المانجروف الأسود بها غددٌ خاصة تعمل على تركيز الملح الزائد وإفرازه. تتجمع بلورات الملح على السطح السفلي للأوراق وتنجرف عنها عند هطول الأمطار. كما تُركِّز أشجار المانجروف الملح في الأوراق القديمة، واللحاء، والزهور، والثمار التي تأخذ الملح معها عندما تسقط من الأشجار.

تُنتج أشجار المانجروف أزهارًا تُلقحها الرياح أو النحل. تُنتج الزهور البذور التي تنبت في الشتلات التي تنمو لتصبح أشجارًا صغيرة ذات سيقان مميزة على شكل سيجار بينما لا تزال على الأشجار. وتكون هذه الأشجار الصغيرة، أو وحدات التكاثر، جاهزةً لإنتاج الجذور بمجرد سقوطها من الشجرة الأم ووجودها في موئلٍ مناسب. لوحدات التكاثر هذه القدرةُ على الطفو، ويمكنها العيش في مياه البحر، ويمكن أن تنجرف مع التيارات مدةً تزيد على عام. وبمجرد أن تعلق على الشاطئ المناسب فسرعان ما تمدُّ جذورها وتنمو.

تُشكل أشجارُ المانجروف موئلًا معقدًا ومُنتِجًا. لا يمكن سوى لبعض الكائنات الحية، باستثناء عددٍ قليل من سرطانات البحر، أن تقتاتَ مباشرةً على أوراق المانجروف. غير أن أشجار المانجروف تُسقِط باستمرارٍ أوراقَها وأفرُعَها الميتة، التي تتحلل بفعل البكتيريا والفطريات، مُشكِّلةً الأساسَ لشبكة غذائية مُنتِجة. فسرطان البحر والجمبري وغيرها من الكائنات تتغذَّى على هذه المادة الفتاتية، ثم تتناول الأسماك، والسلاحف، وطيور الشاطئ هذه الكائنات.

تمثِّل أشجار المانجروف أهميةً كبيرة من المنظور البشري. فالمياه التي تحميها غابات المانجروف توفر موئلًا مهمًّا لحضانة صغار العديد من أنواع الأسماك، وسرطانات البحر، والجمبري التي تعيش على الشعاب المرجانية. يعتمد العديد من المصايد التجارية على وجود غابات المانجروف السليمة، بما في ذلك سرطان البحر الأزرق، والجمبري، والكَركند الشائك، وسمك البوري. تعمل غابات المانجروف أيضًا على استقرار الشواطئ الأمامية وحماية الأراضي المجاورة من التآكل، لا سيما من آثار العواصف الكبيرة وأمواج تسونامي. على سبيل المثال، أظهرَت الدراسات أن منطقة الفيضانات في جنوب غرب فلوريدا التي تسبَّب فيها إعصار ويلما في عام ٢٠٠٥ كانت ستمتدُّ داخليًّا بنسبة ٧٠ في المائة من مساحتها لولا الحمايةُ التي وفرَتها لها منطقةٌ من غابات المانجروف الساحلية. تعمل أيضًا غابات المانجروف بمنزلة مرشحات بيولوجية؛ عن طريق إزالة المغذيات الزائدة وحماية الرواسب من المياه المُصرَّفة من اليابسة قبل دخولها إلى البيئة الساحلية، وبذلك تحمي الموائل الأخرى مثل مروج الأعشاب البحرية والشعاب المرجانية.

يلحق الدمار بطبيعة الحال بمساحاتٍ شاسعة من غابات المانجروف بسبب الأعاصير التي تقتلع أشجارها، أو تخنق جذورها بالرواسب الزائدة. عادةً ما يمكن لغابات المانجروف أن تتعافى من مثلِ هذه الأحداث في غضون عَقدَين أو ثلاثة عقود. غير أنه من المؤسف أن معظم التدمير الواقع لأشجار المانجروف يتسبَّب فيه الآن النشاطُ البشري. فالبشر يحصدون أشجار المانجروف بكثافةٍ للحصول على الأخشاب، والحطب، وإنتاج الفحم. كما تُزال بشكلٍ دوري لإفساح المجال لأعمال التنمية الساحلية. علاوة على ذلك، غالبًا ما تُحوَّل غابات المانجروف إلى أراضٍ زراعية، على سبيل المثال لزراعة الأرز، وإلى بِركٍ كبيرة لاستزراع الجمبري والأسماك وإنتاج الملح.

نتيجةً لهذا الإجهاد الكبير الذي يتسبَّب فيه البشر، تأخذ غابات المانجروف في الاختفاء السريع. في مدةِ ٢٠ عامًا بين عامي ١٩٨٠ و٢٠٠٠ انخفضَت مساحة غابات المانجروف على مستوى العالم من نحو ٢٠ مليون هكتار إلى أقلَّ من ١٥ مليون هكتار، وتَشغل أشجار المانجروف الآن ما يزيد قليلًا عن ثمانية ملايين هكتار. وقد بلغ فقدان أشجار المانجروف في بعض المناطق بعينها معدَّلًا مثيرًا للقلق بحق. على سبيل المثال، فقدَت بورتوريكو نحو ٨٩ في المائة من غابات المانجروف في المدة بين عامَي ١٩٣٠ و١٩٨٥، وفقد الجزء الجنوبي من الهند نحو ٩٦ في المائة من غابات المانجروف بين عامي ١٩١١ و١٩٨٩. يستلزم الأمر جهودًا متضافرةً للحماية والإدارة على المستوى المجتمعي والمستوى الحكومي المحلي والوطني من أجل وقف الدمار الذي يلحق بغابات المانجروف في مواجهة التزايد السريع في تعداد السكان. وتستلزم أشجار المانجروف السليمة القائمة بالفعل حمايةً كاملة قدْر الإمكان. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي العمل على تطوير السياسات والاستراتيجيات وتنفيذها للبدء في تجديد موائل المانجروف المتدهورة في المناطق الحرجة من أجل استعادة خدمات نظامها البيئي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤