الفصل السادس

بيولوجيا أعماق المحيطات

لا يوجد تعريفٌ واحد لأعماق المحيطات. فقد جرَت العادة على الإشارة إلى عمق ٢٠٠ متر باعتباره الحدَّ الفاصل بين المحيطات «الضحلة» و«العميقة»، غير أن ثمَّة مخططاتٍ أخرى قد استخدمت عمق ٨٠٠، أو ١٠٠٠، أو حتى ٢٠٠٠ متر باعتباره هذا الحدَّ الفاصل. سنستخدم هنا التعريف الحاليَّ للسجلِّ العالمي لأنواع أعماق البحار (WoRDSS) الذي يُعرِّف عمق المحيط بأنه عمود الماء وقاع المحيط الذي يمتد عمقه إلى أكثرَ من ٥٠٠ متر، وهو العمق الذي يكون عنده كلٌّ من الاختلاف الموسمي في درجات الحرارة، والملوحة، وتأثير ضوء الشمس في حدِّه الأدنى. يغطي هذا الموئل قرابة ٩٠ في المائة من حجم المحيط غير أن هذه المنطقة الشاسعة لا تزال أقلَّ البيئات دراسةً وفهمًا على هذا الكوكب. لكي تتضح الصورة، رسم علماء المحيطات حتى الآن خرائطَ من نحوِ ١٠ إلى ١٥ في المائة من مساحة قاع المحيط العالمي باستبانةٍ قدرُها نحو ١٠٠ متر، في حين رسم علماء الفلك خرائطَ شبه كاملة لسطحِ كلٍّ من الزهرة، والمريخ، والقمر بالكامل وبدقةٍ مماثلة، كما رسموا خرائطَ جزءٍ كبير من كوكب المريخ باستبانةٍ قدرُها نحو ٢٠ مترًا، وجزءٍ كبير كذلك من القمر باستبانةٍ تصل إلى سبعة أمتار. ومن ثَم فإننا نعرف عن جغرافيا الأجسام في نظامنا الشمسي أكثرَ مما نعرفه عن أكبر موئل على سطح كوكبنا. علاوة على ذلك، لم يُرسم حتى وقتنا الحاضر سوى نحو ٠٫٠٥ في المائة من أرضية محيطات الكوكب بالقدْر من التفصيل الذي يُمكِّننا من تبيُّنِ سماتٍ لا تتعدى في حجمها بضعة أمتار. حتى إنَّ قدرًا أقلَّ بكثير من ذلك قد كُشف عنه من أرضية المحيط عبر الغواصات المأهولة والمرْكبات المدارة عن بُعد. بالمقارنة، نجد أن ١٢ شخصًا قد أمضَوا ما مجموعه ٣٠٠ ساعة على سطح القمر، بينما أمضى ثمانيةُ أشخاص أقلَّ من ١٩ ساعة من الاستكشاف في منطقة التحدي العميق، التي هي أعمقُ جزء في المحيط العالمي.

البيئة الفيزيائية لأعماق المحيطات

تخلو أعماق المحيطات، فيما عدا بالقرب من حدودها العليا، من ضوء الشمس، الذي تعجز بقاياه الأخيرة أن تخترقَ عمقًا يتجاوز ٢٠٠ متر في معظم أجزاء المحيط العالمي، أو أكثر من ٨٠٠ متر أو نحو ذلك، حتى في أكثر مياه المحيطات صفاءً.

يُشكِّل الضغط الشديد سمةً مميزة أخرى لأعماق المحيطات. فمياه البحر تُعد مادةً ثقيلة، ويمكن لعمودٍ من مياه البحر يبلغ ارتفاعه ١٠ كيلومترات — وهو الارتفاع المعتاد في الأجزاء الأكثرِ عمقًا من المحيط العالمي — أن ينتج عنه ضغط قدره ١٠ آلاف طن لكل متر مربع، وهو ما يعادل وزن ٥٥ طائرة جمبو نفاثة.

باستثناء عددٍ قليل من الأماكن المعزولة للغاية، تتميز أعماق المحيطات بكونها بيئةً باردة طوال العام، حيث تبلغ درجات حرارة البحر عادةً ما يتراوح بين نحو درجتين مئويتَين إلى أربع درجات مئوية. وحيث تقع أعماق المحيطات في الغالب تحت منطقة الحد الأدنى للأكسجين؛ إذ عادةً ما توجد على أعماقٍ تتراوح من نحو ٢٠٠ إلى ١٠٠٠ متر، فإن تركيزات الأكسجين الذائب تكون عادةً أكثرَ من القدْر الذي يمكن أن تعيش فيه الكائنات الحية.

يندُر كذلك الغذاءُ في أعماق المحيطات. فنظرًا إلى غياب ضوء الشمس، ليس ثمة إنتاجٌ أوَّلي للمواد العضوية عن طريق البناء الضوئي. وإنما تتكون قاعدة السلسلة الغذائية في أعماق المحيطات في الغالب من وابل «الثلج البحري»، وهي موادُّ عضوية دقيقة (POM) تغوص ببطءٍ عبر عمود الماء من سطح مياه المحيط المضاء بنور الشمس. يُستكمَل هذا بالأجسام الكبيرة للأسماك والثدييات البحرية التي تغوص أسرعَ إلى القاع بعد نفوقها، حيث توفِّر ولائمَ على فترات متفرقة للكائنات التي تعيش في أعماق المحيطات.

وهكذا فإن الصورة التي تطرأ على الأذهان عن أعماق المحيطات هي أنها ذلك الموئل البارد، والمظلم، والمضغوط بشكل هائل، والمحدود في مغذياته؛ أي تلك البيئة القاسية والشاقة للغاية من منظور الإنسان. إلا أن هذا الموئل الهائل يمتلك تنوعًا كبيرًا في الحياة البحرية المُهيَّئة ببراعةٍ للعيش في ظل هذه الظروف.

سُبل تكيُّف حيواناتِ أعماق المحيطات

في بيئة منطقة البحر المفتوح لأعماق المحيطات، ينبغي أن تكون لدى الحيوانات القدرةُ على الحفاظ على حياتها في العمق المناسب دون إهدار طاقتها في بيئتها الفقيرة بالغذاء. عادةً ما يتحقَّق هذا عن طريق تقليل الكثافة الإجمالية للحيوان إلى كثافة مياه البحر بحيث تكون متعادلة الطفو. لذلك، غالبًا ما تكون أنسجةُ أسماك أعماق المحيطات وعظامها لينةً ومائعة. كما تُهيمن على بيئة منطقة البحر المفتوح في أعماق المحيطات الحيوانات الجيلاتينية مثل قنديل البحر، والسَّحَّاريَّات، والمشطيات، والسالبيات التي تقترب كثافةُ أجسامها من كثافة مياه البحر.

نظرًا إلى ندرة الغذاء في بيئة أسماك أعماق المحيطات؛ فإن تلك الأسماء تجد نفسها مضطرةً إلى الاستفادة الكاملة من كل وجبة تتوفَّر لها. فبالمقارنة بالأسماك في المحيط الضحل، يمتلك العديد من أسماك أعماق المحيطات أفواهًا كبيرة للغاية قادرةً على فتحها باتساعٍ كبير، وعادةً ما تكون مزوَّدة بعدةِ أسنان طويلة، وحادة، ومدبَّبة للداخل. من الأمثلة الجيدة على ذلك ثعبان البحر البجع، وسمكة أبو الشِّص، والأسماك ذات الفك المرتخي، وسمك المبتلع الكبير (انظر شكل ٦-١(أ)). يمكن لهذه الأسماك التقاطُ فريسةٍ أكبر من حجمها وابتلاعُها كي لا تفوِّت وجبةً نادرة لمجردِ كِبر حجمها. كما تمتلك هذه الأسماك مَعِدة قابلة للتمدد إلى حدٍّ كبير كي تستطيع استيعاب مثل هذه الوجبات.

على الرغم من عدم اختراق أي ضوء للشمس لأعماق المحيط؛ فإن هذه الأسماك تتلألأ بفضلِ نوع آخَر من الضوء البيولوجي المصدر، والمتمثل في الوهج والوميض الناتجَين عن ضيائيتها الحيوية. وتَنتُج هذه الظاهرة عن تفاعلٍ كيميائي في أعضاءٍ مُهيَّئة لهذا الغرض تُعرف بالحوامل الضوئية (الفوتوفورات) والموجودة في أجسام العديد من حيوانات أعماق المحيطات بما في ذلك الأسماك، والأخاطب، والحبار، وقنديل البحر، والديدان، والقشريات، ونجوم البحر. تُنتِج الحيوانات بشكلٍ عام الضوءَ بأنفسها، ولكنها في بعض الحالات تطوِّر علاقة تكافلية مع البكتيريا المُضيِئة حيويًّا التي تُنتِج الضوء.

fig29
شكل ٦-١: أمثلة لأسماك أعماق المحيطات: (أ) مبتلِع كبير وقد ابتلع فريسة من الأسماك، (ب) سمكة فانوسية تظهر الحوامل الضوئية على طول جانبها وبطنها، (ﺟ) سمكة أبو الشِّص ملتصق بها ذكر طفيلي.
تُمثِّل الضيائية الحيوية إحدى سُبل التكيف الرئيسية في أعماق المحيطات، وقد تطورَت في العديد من مجموعات الحيوانات المختلفة كلٌّ على حدة؛ لخدمة وظائفها الحيوية مثل التزاوج، وإيجاد الطعام، وتجنُّب المفترسات. على سبيل المثال، تمتلك الأسماك الفانوسية صفوفًا من الحوامل الضوئية على طول بطونها وجوانبها، التي ينبعث منها ضوء أزرق، أو أخضر، أو أصفر (انظر شكل ٦-١(ب)). هذه الحوامل مرتَّبة في نمطٍ خاص بكل نوع من أنواع الأسماك الفانوسية، وفي بعض الأنواع يختلف النمطُ في الذكور عنه في الإناث. كما تُمكِّن الأعين الكبيرة هذه الأسماكَ من ملاحظة الضوء المنبعث من أسماك أخرى من النوع نفسه؛ الأمر الذي يُستخدم للتواصل والعثور على الشركاء من أجل التزاوج في بيئة أعماق المحيط الشاسعة.
تستخدم بعض أسماك أعماق المحيطات خاصيةَ الضيائية الحيوية لجذب الفرائس النادرة. تمتلك سمكة أبو الشِّص لوامسَ طويلة ومرنة — أشبه بقصبات صيد — تمتدُّ لأعلى بين عينيها، وفي نهايتها عضو مضيء يُسمى «إسكا» (انظر شكل ٦-١(ﺟ)). تلتوي الإسكا لتشبه سمكةً صغيرة تعمل وسيلةَ إغراء لجذب الفريسة بالقرب الكافي لابتلاعها كاملةً. ويعمل لمس الإسكا على الفور على تحفيز الفكَّين للانفتاح على طريقة الباب المسحور. تشيع الاختلافات في هذا الأمر بين أسماك أعماق المحيطات؛ إذ يمتلك العديدُ منها زوائدَ باعثةً للضوء بالقرب من فكيها وتعمل كوسيلة لإغراء الفرائس.

تستخدم العديد من حيوانات أعماق المحيطات خاصيةَ الضيائية الحيوية للدفاع عن أنفسها ضد المفترسات. على سبيل المثال، عندما تقترب من حبار مصاص الدماء سمكةٌ من المفترسات، تُنتِج مجموعة من الومضات تبثُّ الرعب في الكائن المفترس. وإذا زاد الهجوم عليه، يُطلق سائلًا مليئًا بجزيئاتٍ مضيئة تُغلِّف المفترس وتساعد الحبار نفسه على الهروب.

يُعد العثور على شريكٍ للتزاوج في أعماق المحيطات تحديًا. غير أن سمكة أبو الشِّص قد حلت هذه المشكلة من خلال أسلوبِ تكيُّفٍ غير عادي؛ إذ تختزل ذكورُ معظم أنواع هذه السمكة حجمها لتصبح في هيئةٍ طفيلية صغيرة تعلَق بشكلٍ دائم بالإناث التي تكبُرها بكثير في الحجم (انظر شكل ٦-١(ﺟ)). يلتصق فمُ الذكر بجسم الأنثى وتندمج أوعيته الدموية بأوعيتها. بذلك يكون الذكر حاضرًا دائمًا لتخصيب بويضات الأنثى، مما يُغني الأنثى عن الحاجة إلى العثور على ذكرٍ في وقت التكاثر. بالطبع يصبح على الذكر القَزمِ في المقام الأول تحديدُ موقع الأنثى، وعلى الأرجح يكون ذلك عن طريق الرائحة أو الانجذاب إلى الإسكا المُضيئة حيويًّا، ولكن بمجرد التصاقه بالأنثى تكون مسألة العثور على شريكٍ للتزاوج قد حُلت.

ليس مُستغرَبًا أنَّ حيوانات أعماق المحيطات قد اكتسبَت أساليبَ للتكيف في بيئةٍ شديدة الضغط. لا تؤثِّر هذه الضغوط الشديدة على بِنيات تلك الحيوانات فحسب، بل إن لها أيضًا تأثيراتٍ عميقةً على فسيولوجيتها وكيميائها الحيوية. فالضغط الشديد يؤثِّر على فسيولوجيا أغشية الخلايا عن طريق ضغطها وطرد سوائلها، وجعلها أكثرَ صلادة، ومن ثَم أقلَّ قدرة على توجيه المغذيات والنُّفايات إلى داخل الخلية وخارجها. اكتسبت كائناتُ أعماق المحيطات أساليبَ تكيفيةً عبر كيميائها الحيوية للمحافظة على أداء أغشية خلاياها تحت الضغط، وتشمل هذه الأساليب تعديلَ أنواع جزيئات الدهون (الليبيدات) الموجودة في الأغشية من أجل الحفاظ على سيولة الغشاء تحت الضغط المرتفع. تؤثِّر الضغوط العالية أيضًا على جزيئات البروتين، مما يعوقها في كثيرٍ من الأحيان من الانطواء لاتخاذ الأشكال الأنسب لعملها بكفاءة كأنزيمات أيضية. في ردِّ فِعلها على ذلك طوَّرَت حيوانات أعماق المحيطات سلالاتٍ جديدة من الإنزيمات الشائعة المقاومة للضغط، والتي تُخفِّف من هذه المشكلة.

الهجرة الجماعية من أعماق المحيطات

تُظهر جموعٌ غفيرة من العديد من أنواع حيوانات أعماق المحيطات سلوكًا غير عادي؛ إذ تقوم برحلةٍ عمودية يومية من الأعماق إلى المياه الضحلة، فيما ربما يُعد أكبرَ هجرة للحيوانات على كوكب الأرض. فعندما يجتاح غروبُ الشمس المحيطات، تسبح إلى أعلى أعدادٌ كبيرة من الحيوانات البحرية بما في ذلك مجذافيات الأرجل، والجمبري، وقنديل البحر، والحبار، والسالبيات، والأسماك من أعماقٍ تصل إلى ١٠٠٠ متر أو أكثر نحو السطح. يُقدَّر أن نحو خمسة مليارات طن من الحيوانات تتحرك نحو السطح كلَّ ليلة، بما في ذلك أعدادٌ ضخمة من الأسماك الفانوسية، وهي أحد أكثر الأسماك وفرةً في الطبقات الوسطى لمياه المحيطات. وعند شروق الشمس يرجع هذا التجمعُ من حيوانات منطقة البحر المفتوح ليغوص في الأعماق مرةً أخرى. تتميز كتلة الحيوانات المهاجرة بأنها شديدة الكثافة لدرجةٍ تجعلها تعكس الموجات الصوتية من أنظمة سونار السفن، فتظهر على هيئة «قاع زائف» مميز في الطبقات الوسطى للمياه، يُعرف باسم طبقة التشتُّت العميقة (DSL). يبدو أن التغيرات اليومية في مستوى الضوء تُمثل إشارةَ توجيه مهمة لمواصلة الهجرة، وإن كانت الهجرة العمودية تحدُث أيضًا تحت جليد القطب الشمالي أثناء الظلام المستمر في الشتاء. لا بد إذن أن تلك الكائنات تمتلك ساعةً بيولوجية داخلية.

لا بد أيضًا أن الكائنات المشاركة في هذه الهجرة الجماعية تجني بعض الفوائد الكبيرة من قيامها بهذه الرحلة الهائلة يومًا. والتفسير الأكثر قبولًا حاليًّا هو أن العوالق الحيوانية، مثل مجذافيات الأرجل، تهاجر إلى السطح لتتغذَّى على العوالق النباتية في الليل؛ فمن المفترض أن مجذافيات الأرجل تصبح أقلَّ وضوحًا في الظلام للمفترسات مثل الأسماك، التي تشهد وفرةً أكبرَ في المياه الضحلة. ثم تغادر بعد ذلك الطبقةَ المضاءة خلال النهار لتفادي رؤيةِ المفترِسات لها. وعلى الأرجح أن الأسماك الفانوسية وغيرها من الكائنات المستهلكة الصغيرة الأخرى تقوم بالهجرة كذلك لتجنُّب المفترسات، ولكي تتبع طعامها من العوالق الحيوانية. من شأن هذه الهجرة أيضًا أن تمنح الطاقةَ لبعض الكائنات المشاركة فيها؛ حيث تقضي اليوم في مياهٍ شديدة العمق والبرودة تنخفض فيها معدَّلاتُ التمثيل الغذائي فيمكنها الحفاظ على طاقتها أثناء هضم وجبتها الليلية.

تدفُّق الطاقة في أعماق المحيطات

يأتي جميع غذاء الكائنات الحية في أعماق المحيطات تقريبًا من الإنتاج الأوَّلي في الطبقة المضاءة. يكون هذا الطعام في هيئةِ موادَّ عضوية ميتة تغوص من سطح المحيط كالثلج البحري. ويتكوَّن من كتلٍ، أو مجاميع، لزجة صغيرة من جُسيمات عضوية تشتمل على خلايا عوالق، وعوالق حيوانية ميتة، وكُريات برازٍ تُنتِجها العوالق الحيوانية. تغوص هذه المجاميع ببطءٍ عبر عمود الماء بمعدَّلٍ يتراوح من نحو ١٠٠ إلى ٢٠٠ متر في اليوم. وهكذا يستغرق الأمر منها أسابيعَ للوصول إلى أرضية المحيط العميق. على طول الطريق، تستخلص البكتيريا القيمة الغذائية في تلك المجاميع في عمود الماء؛ ومن ثَم كلما غاصت أعمق، زاد استنفادُ ما بها من موادَّ مغذية. عندما تصل هذه الموادُّ العضوية في النهاية إلى أرضيةِ المحيط، فما يتبقَّى من طاقةٍ غذائية تستخدمه حيوانات القاع. بعضها آكلةٌ للعوالق مهيَّأة لتصفية الجسيمات العضوية المعلَّقة في طبقةٍ من مياه البحر فوق القاع مباشرة. وبعضها الآخر آكلاتٌ للرواسب؛ إذ يمكنها استهلاك المواد العضوية التي تراكمَت على الرواسب السطحية أو في داخلها. أما اللافقاريات القاعية المفترسة فتتغذَّى على آكلات الجسيمات هذه، بينما تقتاتُ أسماك القاع على الحيوانات القاعية.

نظرًا إلى أن المواد العضوية تتراكم في القاع على مدار فترات شديدة الطول، تحتوي رواسبُ أعماق المحيطات على نسبةٍ كبيرة من المواد العضوية في شكلِ موادَّ عضوية ذائبة ومواد عضوية دقائقية، تُشكِّل الأساسَ للشبكة الغذائية الميكروبية، حيث تستهلك البكتيريا والعتائقُ الوفيرة هذه الموادَّ مصدرًا للغذاء. تحتوي الرواسب أيضًا على أعدادٍ غير عادية من الفيروسات، نحو مليار لكل جرام من الرواسب. وهذا يخلق حلقةً فيروسية عن طريق إصابة البكتيريا والعتائق التي تُطلِق موادَّ عضوية ذائبة وموادَّ عضوية دقائقية مرةً أخرى في الرواسب وعمود المياه عند موتها. يبدو أن قدرًا كبيرًا من هذه الطاقة يُعاد تدويره بسرعةٍ داخل الحلقة الفيروسية، ولا يتوفر الكثير منها للكائنات الأكبر مثل الطلائعيات والعوالق الحيوانية الأكبر.

تنوُّع حيوانات القاع في أعماق المحيطات

كان قاع أعماق المحيطات فيما مضى يُعد صحراء بيولوجية، ولكن مع الحصول على المزيد من العينات العاليةِ الجودة في ستينيَّات القرن العشرين والمزيد من المشاهدات التي تمكنَت منها الغواصات وكاميرات المركبات التي تعمل عن بُعد، بدا واضحًا أن ثمة مجموعةً متنوعة ومذهلة من الحيوانات تعيش في أرضية أعماق المحيطات. يشمل هذا أنواعًا مختلفة من اللافقاريات الآكلةِ للعوالق مثل الإسفنج، وزنابق البحر، وأقلام البحر، وشقائق النعمان البحرية، ومراوح البحر، والديدان المروحية، كذلك الحيوانات التي تتغذى على الرواسب مثل الديدان، وخيار البحر، ونجوم البحر الهشة، وقنافذ البحر، والحلزونات الصدفية، إضافةً إلى المفترسات مثل قنافذ البحر، ونجوم البحر، وشقائق النعمان البحرية، ومزدوجات الأرجل، والأخاطب (انظر شكل ٦-٢).
fig30
شكل ٦-٢: التنوُّع القاعي في أعماق المحيطات: (أ) خيار البحر على عمق ٢٦٦٠ مترًا. ملاحظة: الفم (ف) محاطٌ بحلقة من لوامس التغذية التي تلتقط جزيئات الطعام من الرواسب، (ب) حيوان شبيه بشقائق النعمان ملتصقٌ بساق إسفنج على عمق نحو ٤٠٠٠ متر، وقد يصل طول اللوامس إلى مترين، (ﺟ) الأخطبوط المُسمَّى بالأخطبوط الشبحي «كاسبر» على عمق ٤٠٠٠ متر.

مجتمعات المَنافس المائية الحرارية والمسارب الباردة

الفكرة القائلة بأن جميع الأطعمة الموجودة في أعماق المحيطات تأتي من السطح ليست صحيحةً تمامًا. فهناك بعض المواقع المميزة للغاية في أرضية المحيط العميق يتكون فيها الطعام في مكانه. وهذا شكلٌ من أشكال الإنتاج الأوَّلي الذي لا تُحركه الطاقة المستمَدة من ضوء الشمس، وإنما الطاقة الموجودة في المرْكبات الكيميائية. فالمَنافس المائية الحرارية الغائصة تُمثل أحد الأمثلة على الحياة في أعماق المحيطات التي تُديرها الطاقة الكيميائية.

اكتُشفَت المنافس المائية الحرارية عبر غواصة المسافات العميقة «ألفين» Alvin في عام ١٩٧٧ على حافة أحد المحيط بالقرب من جزر جالاباجوس على عمق نحو ٢٧٠٠ متر. منذ ذلك الحين اكتُشف العديد من المنافس المائية الحرارية الأخرى في جميع أنحاء المحيط العالمي، التي غالبًا ما تكون على حافات المحيطات، وقد قُدِّر أن آلاف المنافس في أرضية المحيطات نشطةٌ طوال الوقت.

تنشأ المَنافس المائية الحرارية عندما تتسرَّب مياهُ البحر إلى أرضية أعماق المحيطات حيث تتفاعل مع الصخور الساخنة لتُشكِّل سائلًا فائقَ التسخين مُحمَّلًا بالمواد الكيميائية. يخرج هذا السائل في حالات الضغط المرتفع إلى المحيط عبر الشقوق كما في فوَّارة مياهٍ حارة. في الغالب تتجمع العديد من تلك الفوَّارات معًا لتُشكِّل حقولًا من المنافس التي تتراوح أحجامها من حجم طاولة بلياردو إلى حجم ملعب تنس.

عادةً ما تُخرِج المَنافس المائية الحرارية سائلًا أسودَ اللون من خلال هياكلها الشبيهة بالمدخنة، التي قد يصل ارتفاعها إلى عشرات الأمتار (انظر شكل ٦-٣). يكون السائل المنبثق من «فوَّهات الدخان السوداء» هذه عاليَ الحمضية وداكنًا بفعل الجزيئات المعدنية الصغيرة المعلَّقة التي تحتوي على الكبريت، والتي تترسب من السائل المنبثق أثناء اختلاطه بمياه البحر الباردة المحيطة. يمكن أن تتجاوز درجةُ حرارة السائل المنبثق من فوهات الدخان السوداء ٤٠٠ درجة مئوية في لحظة خروجه من أرضية المحيط. تُشكِّل أنظمةٌ أخرى للمَنافس المائية الحرارية، تُسمى «فوهات الدخان البيضاء»، مداخنَ بيضاءَ من كربونات الكالسيوم، ويمكن أن يبلغ ارتفاعها ٦٠ مترًا وتُخرِج سائلًا أفتح لونًا شديدَ القلوية عند درجات حرارة منخفضة ويحتوي على كميات كبيرة من الهيدروجين والميثان.
fig31
شكل ٦-٣: كتلة من الديدان الأنبوبية (يسار الصورة) تنعم بمياه البحر الدافئة بالقرب من فوهة دخان سوداء، تقذف سائلًا درجة حرارته ٤٠٠ درجة مئوية على عمق ٢٢٥٠ مترًا.
تزدهر أنواعٌ كثيرة من البكتيريا والعتائق بالقرب من المَنافس المائية الحرارية. فهي تستخدم المركَّبات الكيميائيةَ الموجودةَ في السوائل المنبثقة، بما في ذلك كبريتيد الهيدروجين، والهيدروجين، والميثان؛ مصدرَ طاقة لإنتاج مركَّبات عضوية مثل الجلوكوز. لم تتَّضح تمامًا حتى الآن تفاصيلُ بعض عمليات التمثيل الكيميائي المختلفة التي تستخدمها البكتيريا والعتائق في مواقع المَنافس المائية الحرارية. غير أن إحدى العمليات المستخدَمة على نطاقٍ واسع تتضمن تكسير كبريتيد الهيدروجين ( ) لتكوينه الطاقةَ؛ من أجل إنتاج مركَّبات عضوية من ثاني أكسيد الكربون الذي تمتصُّه من مياه البحر. ويمكن تلخيص العملية بالمعادلة التالية:

يتطلب هذا الشكلُ من أشكال التمثيل الكيميائي الأكسجينَ لإدارة العملية، من ثَم يُعرف باسم التمثيل الكيميائي الهوائي. فهو يرتبط في الأساس بضوء الشمس؛ لأن البناء الضوئي هو مصدر الأكسجين على الكوكب. من ناحيةٍ أخرى، لا تحتاج الكائنات الدقيقة التي تقوم بالتمثيل الكيميائي، الذي يستخدم الهيدروجين أو الميثان من فوهات الدخان البيضاء مصدرًا للطاقة، إلى الأكسجين، وهي العملية المسمَّاة بالتمثيل الكيميائي الهوائي. علاوةً على ذلك، فإن الهيدروجين والميثان اللذين تستخدمهما للحصول على الطاقة يمكن توليدهما عبْر عمليات جيوكيميائية بحتة تُجرى تحت أرضية المحيط. وهكذا، فإن هذا الشكل من أشكال الإنتاج الأوَّلي عبر التمثيل الكيميائي يدعم شكلًا أخَّاذًا وقد يبدو غريبًا إلى حدٍّ ما من أشكال الحياة التي لا تربطها صلةٌ بالشمس والبناء الضوئي المعتمد على الضوء.

تدعم البكتيريا والعتائق التي تقوم بالتمثيل الكيميائي والموجودة في بيئات المَنافس مجتمعًا حيوانيًّا مذهلًا يضم الحلزونات الصدفية العملاقة، وبلح البحر العملاق، وأنواعًا مختلفة من سرطانات البحر، والبطلينوس، وشقائق النعمان البحرية، والديدان، والجمبري، ومزدوجات الأرجل، وبرنقيل الأوز، والأخاطب، والأسماك. لم تكن معظم الأنواع الموجودة في المَنافس معروفةً في السابق قبل اكتشاف المَنافس، وليس لها وجودٌ في مكانٍ آخرَ إلا في أنظمة المَنافس.

بعض البكتيريا والعتائق المستقلة العيش، عالقةٌ في أعمدة المَنافس أو تُشكِّل ما يُشبه الحصائر على القاع الصخري المجاور للمَنافس. وتعمل بعض الحيوانات الموجودة في المَنافس، مثل الحلزونات الصدفية وبلح البحر، على تصفية هذه الكائنات الحية الدقيقة من مياه البحر، بينما يرعى بعضُها الآخر، مثل البطلينوس، على تلك الحصائر الميكروبية. غير أن معظم الحيوانات التي تعيش عند المنافس لا تتغذَّى مباشرةً على هذه الكائنات الدقيقة المستقلة العيش. فقد طوَّرت بدلًا من ذلك علاقاتٍ تكافليةً معقَّدة مع بكتيريا التمثيل الكيميائي التي تستمدُّ منها غذاءها. من الأمثلة الجيدة على ذلك الدودة الأنبوبية العملاقة، «ريفتيا باتشيبتيلا»، التي توجد بوفرةٍ في العديد من مواقع المَنافس في المحيط الهادي (انظر شكل ٦-٣). تعيش هذه الديدان الغريبة داخلَ أنابيب واقية بيضاء يصل طولها إلى مترين أو أكثر، وليس ثمة أثرٌ لوجود جهاز هضمي لدى البالغين منها. وتمتلك عمودًا أحمرَ لامعًا يمكن تمديده من أنابيبها لامتصاص كبريتيد الهيدروجين والأكسجين من محيطها. ثم تنتقل هذه المواد الكيميائية داخل الجهاز الدموي للدودة إلى هيكلٍ خاص شبيهٍ بالمَعِدة يُسمى بجسم التغذية، مليءٍ ببكتيريا التمثيل الكيميائي التي تُنتِج الغذاء لنفسها ولمضيِّفتها الدودة الأنبوبية. طوَّرَت أنواعٌ أخرى من تلك التي توجد في المَنافس أشكالًا أخرى من أشكال العلاقات التكافلية مع بكتيريا التمثيل الكيميائي. على سبيل المثال، تتغذى سرطانات البحر اليتي، وهي سرطانات بحر يبلغ طول الواحد منها ١٥ سنتيمترًا ولم يُكتشف إلا في عام ٢٠٠٥ في المَنافس بجنوب جزيرة الفصح، على بكتيريا التمثيل الكيميائي التي يربيها فوق جسمه. ويحتضن الحلزون الصدفي العملاق وبلح البحر في المَنافس بكتيريا التمثيل الكيميائي في أنسجة خياشيمها. توفِّر المادة العضوية التي تُنتجها البكتيريا معظم الطعام للحلزون الصدفي العملاق وبلح البحر، وعلى الرغم من قدرتها على التغذية بالترشيح، فإنها ستموت من دون التغذية التي يُنتجها شركاؤها التكافليون.

تُعرف المَنافس المائية الحرارية بكونها إحدى سمات أعماق المحيطات غير المستقرة وقصيرة الأجل. فالمشاهدات المتكرِّرة لأنظمة المنافس تُظهر أن معدَّل التدفُّق والتركيب الكيميائي للسوائل المنبثقة من شأنه أن يختلف على مدى أشهر، وقد لوحظت مَنافس نافقةٌ تحيط بها بقايا مجتمعات من المنافس. يُرجَّح أن مدة عمر المَنافس النموذجية في حدود عَقد إلى قرن. ونظرًا إلى أن العديد من حيوانات المَنافس لا يمكنها العيش إلا بالقرب من المَنافس، وأن المسافة بين أنظمة المنافس يمكن أن تبلغَ مئات أو آلاف الكيلومترات؛ فمن المحيِّر كيف تهرب حيوانات المَنافس من المَنافس المحتضرة وتستعمر منافسَ بعيدة أو أخرى تكونَت حديثًا. من المعروف أن بعض حيوانات المَنافس تنمو بسرعة كبيرة ويمكن أن تصل إلى أحجامٍ كبيرة وإلى النضج الجنسي قبل نُفوق المَنافس. على سبيل المثال، يمكن للدودة الأنبوبية العملاقة أن تنموَ إلى مترين في العام الواحد. ونظرًا إلى حجمها الكبير، يمكن للعديد من حيوانات المنافس أن تُنتج أعدادًا كبيرة من اليرقات العوالقية لدرجةِ أن تيارات أعماق المحيط البطيئة الحركة قد تتشتَّت على مسافات طويلة، مما يسمح لها باستعمار مواقع المَنافس الأخرى. في بعض الأنواع، قد ترتفع اليرقات إلى السطح حيث تنتشر بسرعةٍ أكبرَ مع تيارات السطح قبل أن تغوص مرةً أخرى في أرضية المحيط حيث تجد موقعَ مَنافسَ مناسبًا لاستعماره.

المَنافس المائية الحرارية ليست المصدرَ الوحيد للسوائل المحمَّلة بالمواد الكيميائية التي تدعم المجتمعات الفريدة القائمة على التمثيل الكيميائي في أعماق المحيطات. فكبريتيد الهيدروجين والميثان يتسرب أيضًا من قاع المحيط في العديد من المواقع بدرجاتِ حرارة مماثلة لمياه البحر المحيطة. ومنذ عام ١٩٨٣ اكتُشف العديد من هذه «المسارب الباردة» المنتشرة على طول الحافات القارية لجميع محيطات العالم على أعماقٍ من منطقة المد والجزر إلى أكثرَ من ٧٦٠٠ متر. تشبه المجتمعاتُ المرتبطة بالتسربات الباردة إلى حدٍّ كبير مجتمعاتِ المَنافس المائية الحرارية، مع وجود العديد من الحيوانات على علاقة وثيقة ببكتيريا التمثيل الكيميائي. فيمكن أن يوجد الحلزون الصدفي، وبلح البحر، والإسفنج، وسرطان البحر بوفرةٍ كبيرة، جنبًا إلى جنب مع أجماتٍ كثيفة من الديدان الأنبوبية. يبدو أن المسارب الباردة مصادرُ أكثر استدامةً للسوائل، مقارنةً بمَنافس الماء الساخن ذات الطبيعة المؤقتة. وهكذا، فعلى عكس مجتمعات المنافس المائية الحرارية، يمكن أن تمتلك مجتمعاتُ التسربات الباردة أنواعًا بطيئةَ النمو وطويلةَ العمر. على سبيل المثال، يُقدَّر أن بعض الديدان الأنبوبية في المسارب الباردة قد تبلغ أعمارها ٢٥٠ سنة أو أكثر.

سقوط الحيتان وغيرها من الثروات الغذائية في أعماق المحيطات

على الرغم من أن أعماق المحيطات تُمثِّل إحدى أكثر البيئات محدوديةً في غذائها على الكوكب، تصل حزمٌ كبيرة من الطعام إلى القاع، وتُكوِّن واحةً غذائية محلية لجمعٍ غفير من حيوانات أعماق المحيطات. جثث الحيوانات البحرية الكبيرة التي سرعان ما تغرَق في حالةٍ سليمة هي مصدرٌ لتلك الوفرة الغذائية.

اكتُشفت مواقعُ ﻟ «سقوط الحيتان»، حيث تغوص جثث الحيتان النافقة في أرضية المحيط العميق، (انظر شكل ٦-٤)، عبر الغواصات وباستخدام أجهزة المسبار الصوتي للمسح الجانبي. كان يُفترض في السابق أن سقوط الحيتان من الأحداث النادرة في أعماق المحيطات، غير أن ثمة أدلةً متزايدة على أن مِثل هذه الولائم تتكوَّن بشكلٍ متكرر أكثرَ مما كان يُعتقد. وقد قُدِّر أنه في أيِّ وقت من الأوقات يوجد مئاتُ الآلاف من جثث الحيتان في قاع المحيط العالمي في مراحلَ مختلفةٍ من تحلُّلها، حيث يوفِّر كلٌّ منها قيمةً غذائية تُعادل ما يوفره ما يقرب من ٢٠٠٠ عام من الثلوج البحرية المتراكمة في موقع الجثة. وقد حُسب متوسط المسافة بين سقوط كلِّ حوت وآخَر في أرضية المحيط بنحو ١٢ كيلومترًا، وربما أقل من ذلك بكثير تحت طرُق الهجرة ومناطق التكاثر والتغذية لأنواع الحيتان الأكثر وفرة. من المرجَّح أن سقوط الحيتان كان أكثرَ شيوعًا بكثيرٍ في أرضية المحيط العميق قبل الانخفاض الكبير في أعداد الحيتان الناتج عن الصيد البشري في القرن التاسع عشر إلى ستينيَّات القرن العشرين.
fig32
شكل ٦-٤: بقايا سقوط حوت في خندق مونيري قبالة سواحل كاليفورنيا. التقط هذه الصورةَ باحثا معهدِ بحوث ومتحف خليج مونتيرري المائي روبرت فريينهوك وشانا جوفريدي، أثناء غوصهما في فبراير عام ٢٠٠٢ باستخدام إحدى المركَبات التي تعمل عن بُعد، وهي المركبة تيبورون. يمثل «الزغب» (الأحمر) على عظام الحوت الآلاف من ديدان أعماق المحيطات التي تتغذى على الدهون والزيوت في العظام.

أول ما تصل هذه الجثثُ الكبيرة التي يبلغ وزنها من ٣٠ إلى ١٦٠ طنًّا إلى أرضية المحيط، تَعرف مجموعاتٌ كبيرة من آكلات الجيف المتنقلة مواقعَها من رائحتها خلال أيام، مثل أسماك الجريث، والراتيل، والقرش، وسرطان البحر، ومزدوجات الأرجل التي تُزيل بلا هوادة الكثيرَ من المواد اللحمية على مدار أشهُر إلى سنة، وذلك حسَب حجم الحوت. بعد ذلك، يستعمر عظام الحوت وكذلك الرواسب حول جثة الحوت، التي تُثريها موادُّ متكونةٌ من اللحم المتحلل، أعداد هائلة من الديدان، والقشريات، واللافقاريات الأخرى التي تستهلك على مدار العامين التاليَين الدهونَ والزيوت الموجودة في العظام والرواسب. ويشمل هذا الديدانَ المتخصصة، وتسمَّى الديدان العظمية، التي تمدُّ هياكلَ شبيهة بالجذور إلى داخل عظام الحوت. تحتوي هذه «الجذور» على بكتيريا تساعد على هضم الدهون ونقل العناصر الغذائية للديدان. في المرحلة النهائية التي تستمر عقودًا، تستخدم بكتيريا التمثيل الكيميائي والحيوانات المَضيفة لهذه البكتيريا، مثل الحلزون الصدفي وبلح البحر، كبريتيدَ الهيدروجين المتسرِّبَ من المواد العضوية المتحللة في العظام والرواسب؛ مصدرًا للطاقة. ومن المثير للاهتمام أن العديد من أنواع الحيوانات التي تستعمر المرحلة الأخيرة من تحلُّل سقوط الحيتان عُثر عليها أيضًا في المَنافس المائية الحرارية والمسارب الباردة. لذلك، فمن الممكن أن تعمل بقايا سقوط الحيتان المتناثرة في أرضية المحيط بمنزلة «مَواطئ أقدام» ذات مسافات قصيرة فيما بينها، تُمكِّن هذه الأنواعَ من الانتشار بسهولةٍ أكبرَ عن طريق مراحلِ يرقاتها العوالقية عبر المسافات الكبرى التي تفصل بين مجتمعات المَنافس المائية الحرارية والمسارب الباردة.

الجبال البحرية: أنظمة بيئية فريدة في أعماق المحيطات

تُمثل الجبال البحرية مواقعَ لنشاطٍ بيولوجي كبير في أعماق المحيطات. فقد يمتد ارتفاعها المفاجئ من أرضية المحيط وقممها إلى آلاف الأمتار تحت سطح المحيط. وعلى عكس السهول السحيقة المسطحة ذات القاع الناعم المحيطة، توفِّر الجبال البحرية منصةً صخرية معقَّدة تدعم وفرةً من الكائنات الحية التي تختلف عن قاعيات أعماق المحيطات فيما حولها.

غالبًا ما يُهيمن على قمم الجبال البحرية وجوانبها مجتمعٌ عالي الكثافة يشبه الأدغال ويتألَّف من المرجان الصخري الذي يعيش في المياه الباردة، والشعاب المرجانية اللينة، ومراوح البحر، والمرجان الأسود، والإسفنج (انظر شكل ٦-٥). وعلى عكس الحال في المياه الضحلة والمرجانيات البانية للشعاب في المناطق الاستوائية، التي تحصل على كثيرٍ من طعامها عبر الحييونات الصفراء التي تقوم بالبناء الضوئي، تفتقر المرجانيات الصخرية في أعماق المحيطات إلى الحييونات الصفراء، وتعتمد فقط على ترشيح العوالق الحيوانية والجزيئات العضوية العالقة من مياه البحر. تنمو هذه الشعاب المرجانية الصخرية ببطءٍ شديد، وقد تُعمِّر عدةَ مئات من السنين. تُظهِر أنواع الشعاب المرجانية الأخرى في مناطق الجبال البحرية أعمارًا شديدة الطول أيضًا، حيث تمتدُّ أعمارها لآلاف السنين. على سبيل المثال، أظهر أحدُ أنواع المرجان الأسود، «لييوبثيس»، الذي أُخذت عيناتٌ منه من أحد الجبال البحرية في المحيط الهادي باستخدام الكربون المشع، أن عمره يرجع إلى نحوِ ٤٢٠٠ عام، مما يجعله من بينِ أطول الحيوانات المستعمرة عمرًا في العالم. تُشكِّل هذه الأجماتُ التي يُهيمن عليها المرجان موئلًا لمجموعةٍ كبيرة من الحيوانات الأخرى مثل نجوم الريش، وزنابق البحر، والنجوم الهشة، ونجوم البحر، وخيار البحر، والبرنقيلات، وزقَّاقات البحر، والديدان، والجمبري وتجمُّعات غنيَّة من الأسماك.
fig33
شكل ٦-٥: نجوم ريش وشعاب مرجانية ليِّنة تعيش على عمق نحو ١٢٠٠ متر على جبل ديفيدسون البحري قبالة ساحل كاليفورنيا. التُقِطَت هذه الصورة عبْر مركَبة تُدار عن بُعد، تابعةٍ لمعهد بحوث ومتحف خليج مونتيرري المائي، وهي المركَبة تيبورون، وذلك خلال الرحلات الاستكشافية التي موَّلها المكتب الوطني لاستكشاف المحيطات والبحوث التابع للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي ومؤسسة ديفيد ولوسيل باكارد (عبر معهد بحوث ومتحف خليج مونتيرري المائي).

تقود الدافعَ وراء الإنتاجية العالية لمجتمعات الجبال البحرية عدةُ عوامل تختلف باختلاف عمق الجبل البحري وأنماط تيارات المحيط بجواره. فيمكن للجبال البحرية ذات القمم القريبة نسبيًّا من السطح أن تعيق طبقةَ التشتُّت العميقة التي تمتاز بالهجرة إلى الأسفل، مما يؤدي إلى محاصرةِ أعداد كبيرة من العوالق الحيوانية وتركزها كلَّ ليلة. يوفر هذا مصدرًا للغذاء للمستهلِكات العالقة الوفيرة والأسماك التي تتغذى على العوالق. من شأنِ الجبال البحرية أيضًا أن تتأثر بالتيارات الأفقية التي تتدفق عبْرها وأن تُعدِّل فيها. يمكن أن يؤديَ هذا إلى تكوُّن «أعمدة تايلور»، أو دوامات من مياه البحر الدوارة التي تبقى فوق قمة الجبل البحري. ويمكن أن يؤديَ هذا أيضًا إلى الإبقاء على العوالق الحيوانية وتركيزها حول قمة الجبل البحري وجوانبه.

تدعم الجبالُ البحرية تنوعًا كبيرًا من أنواع الأسماك، بما يقرُب من ٨٠٠ نوع سُجِّل عيشها حول الجبال البحرية. ففي ستينيَّات القرن العشرين، بدأت سفن الصيد في أعماق المحيطات التي تبحث عن مخزونٍ جديد من الأسماك في الصيد في مناطق الجبال البحرية واكتُشفت تجمعات كبيرة من الأنواع المهمة تجاريًّا. أدى هذا إلى تكوُّن مصايد جديدة للأسماك تُركِّز على مناطق الجبال البحرية. فشِباك الصيد القاعية تُسحَب من القمة نزولًا إلى جوانب الجبال البحرية لاصطياد الأسماك. وتشمل أنواع الأسماك التجارية المستهدفة السمك الخشن البرتقالي، وسمك الأوريو، والفونسينو، والجراند، والسمك المسنن. لا تعيش هذه الأسماك بشكلٍ دائم عادةً في الجبال البحرية ولكنها تتجمع في الجبال البحرية في أوقاتٍ معينة من السنة للسَّرْء، أو للتغذِّي على الحبار والأسماك الصغيرة، أو لمجرد الراحة. وتتميز بالبطء الشديد في نموِّها، وبأعمارها الطويلة، وبنضجها في عمرٍ متقدم؛ ومن ثَم بانخفاض قدرتها على التكاثر. من الأمثلة الجيدة على ذلك السمكُ الخشن البرتقالي المعروف بأنه يعيش مدةً تزيد على ١٢٠ عامًا وبوصوله إلى مرحلة النضج في عمر الثلاثين تقريبًا، وبإنتاج إناثه أعدادًا قليلة نسبيًّا من البيض. يشيع مثلُ هذا المسار في حياة العديد من أنواع أسماك أعماق المحيطات.

كثيرًا ما توصف مصايد الجبال البحرية بأنها عمليات تنقيب وليست مصايدَ مستدامة للأسماك. فعادةً ما تنهار مصايدُ الأسماك في غضون سنوات قليلة من بدء الصيد؛ ومن ثَم تنتقل شِباك الصيد إلى الجبال البحرية الأخرى غير المستغَلَّة للحفاظ على المصايد. ستكون استعادةُ مصايد الأسماك المحلية حتمًا بطيئةً للغاية بسبب انخفاض قدرة هذه الأنواع من أسماك أعماق المحيطات على التكاثر.

إن تدمير مخزون الأسماك ليس مبعثَ القلق الوحيد المرتبط بالصيد في مناطق الجبال البحرية. فالصيد في الجبال البحرية يتسبَّب في أضرارٍ واسعة النطاق للمجتمعات المرجانية الهشة؛ إذ لا تحصد شِباكُ الصيد الأسماكَ فحسب، بل تحصد كذلك أعدادًا كبيرة من المرجان الصخري، والمرجان الأسود، والحيوانات القاعية الأخرى التي تعيش على الشعاب المرجانية. كما يمكن أن تصبح كثافةُ الصيد على الجبال البحرية عاليةً للغاية، حيث تُجر عادةً مئات إلى آلاف الشِّباك في منطقة الجبل البحري الواحدة. بذلك يمكن حصدُ عشرات الأطنان من المرجان في شبكة واحدة، وفي أحد المصايد الجديدة في الجبال البحرية قُدِّر أن ما يقرُب من ثلث إجمالي ما تصطاده الشِّباك هو من الصيد العرضي المرجاني. وقد أظهرَت بوضوحٍ المقارناتُ بين الجبال البحرية «المَصِيدة» و«غير المَصِيدة» مدى الضرر الذي لحِق بالموائل وفقدانها للتنوُّع في الأنواع الناتج عن الصيد بشباك الجر، مع تحوُّل موائل المرجان الكثيفة إلى أنقاضٍ في معظم المناطق التي فُحِصَت.

لسوء الحظ، توجد معظم الجبال البحرية في مناطق خارج الحدود الوطنية، الأمر الذي يجعل من الصعب للغاية تنظيمَ أنشطة الصيد بها، لكن بعض الجهود جاريةٌ لإنشاء معاهدات دولية تهدف إلى تحسين إدارة النظم البيئية للجبال البحرية وحمايتها. ليس مستغرَبًا أن تصبح المصايد القائمة على الجبال البحرية مثارًا للجدل. وتُشكِّل مصايد السمك الخشن البرتقالي النيوزيلندية مثالًا جيدًا على تاريخ مصايد الأسماك في الجبال البحرية وعلى الآراء الحاليَّة بشأن استدامتها. فقد بدأت هذه المصايدُ في أواخر السبعينيَّات وتوسعَت بسرعةٍ كبيرة، وبحلول الثمانينيات بلغ المصيدُ السنوي في ذروته نحو ٥٤ ألف طن. في ذلك الوقت، كان واضحًا أن مخزون السمك الخشن البرتقالي كان أقلَّ بكثير في إنتاجيته مما كان يُظن، وأنه قد تعرَّض للصيد الجائر المُفرِط. فانخفض إجماليُّ المصيد المسموح به إلى ٢٥ ألف طن بحلول منتصف التسعينيَّات، وإلى نحو ١٧ ألف طن بحلول عام ٢٠٠٠، كما أُغلق العديد من أماكن المخزون أمام الصيد. وحظر العديدُ من كبار بائعي المواد الغذائية بالتجزئة السمكَ الخشن البرتقالي من أرففهم وانهارت مصايد الأسماك تمامًا. ومن ثَم طوَّرت حكومة نيوزيلندا جنبًا إلى جنب مع العاملين في صناعة الصيد طرقًا لتقدير إنتاجية السمك الخشن البرتقالي، وبدأت بعض مخزونات الأسماك في إعادة التكوُّن منذ ذلك الحين. يبلغ المصيد السنوي الآن نحو ٧٠٠٠ طن وقد تحوَّل التركيز إلى «صيدٍ أقلَّ ومكسبٍ أكثرَ». في عام ٢٠١٦، نال ثلاثة مخزونات للسمك الخشن البرتقالي تصديقَ مجلس الإشراف البحري ومقره لندن (MSC) باعتبارها مخزونات مستدامة استنادًا إلى أحجامها، وأثر المصايد على النظام البيئي البحري الأوسع، وجودة إدارة المصايد. ونحو ثلثي إجمالي مصايد الأسماك الآن قيدُ التصديق. كان أحد الشروط لذلك يتمثَّل في أن سفن الصيد يجب أن تعود إلى مواقع جرِّ الشِّباك نفسها كلَّ عام؛ للحد من تدمير المرجان في الجبال البحرية، ويجب على العاملين في الصناعة أن يضعوا خُطةً لزيادة فهم آثار الصيد على الشعاب المرجانية. ولكن لا تتفق كلُّ مجموعات حماية البيئة مع تصديق مجلس الإشراف البحري ومقره لندن، بما في ذلك الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) ومنظمة السلام الأخضر (جرينبيس)، بحجة أنه لا يزال من السابق لأوانه أن ننعتَ هذه المصايد بالاستدامة، كما أدرجت هيئةُ فورست أند بيرد النيوزيلندية السمك الخشن البرتقالي تحت خيار «يجب ألا تتناوله» في دليلها لعام ٢٠١٧ لأفضل الأسماك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤