الفصل السابع

الحياة في مناطق المد والجزر

تُشكِّل منطقة المد والجزر في المحيط العالمي شريطًا رفيعًا من خط الشاطئ يقع بين علامتي المد والجزر، وتُغمَر بالكامل بمياه البحر في حالة أعلى ارتفاع للمد وتصبح فارغةً تمامًا من المياه في حالة أدنى مستوًى للجزر. تكاد تنحصر الكائنات الشاغلة لمنطقة المد والجزر في الكائنات البحرية التي تكيفَت للعيش في بيئة فيزيائية نالها الإجهاد الشديد، حيث تأثرت بالتعرض للهواء، وبأقصى درجات الحرارة وأدناها، وبالرياح، وبقصف الأمواج. وعلى الرغم من أن هذه المنطقة لا تُمثل سوى جزءٍ صغير من المحيط العالمي، فهي موطنٌ لمجتمع بحري متنوِّع ومثير للاهتمام يمكن للبشر دراسته والاستمتاع به باستمرار؛ نظرًا إلى سهولة الوصول إليه. إنها أيضًا مكان يصطاد فيه الناس الأطعمة البحرية بانتظام، وهي عُرضة لمجموعة كبيرة من التأثيرات البشرية، بما في ذلك الصيد الجائر، وتسرُّب النفط، وأعمال التنمية الساحلية، وآثار أقدام آلاف الزائرين.

المد والجزر

يُمثل المد والجزر المنتظِمان السمةَ الغالبة على تلك المنطقة. القوة الدافعة وراء المد والجزر هي قوة السَّحب التي تبذلها جاذبيةُ القمر والشمس على الكتلة السائلة للمحيط العالمي. ونظرًا إلى كون القمر أقربَ بكثيرٍ إلى الأرض من الشمس، فإن له تأثيرًا أكبر من الشمس في حدوث المد والجزر.

يؤدي القمر إلى انتفاخ مياه المحيطات في جانب الأرض الأقرب إليه. يحدث انتفاخٌ آخر في المحيطات بالجانب الآخر من الأرض وذلك، بعبارةٍ بسيطة؛ لأن الأرض تُسحب أيضًا نحو القمر وبعيدًا عن الماء في هذا الجانب البعيد. تستمر الأرض في الدوران أسفلَ هذين الانتفاخين، ومن ثَم، نظريًّا، فإن أي نقطة على الكوكب ستمر أسفل الانتفاخَين كل يوم، وهو ما يفسِّر سببَ حدوث المد والجزر على خط الشاطئ مرتين في اليوم عادةً؛ أي بفاصلٍ زمني ١٢ ساعة تقريبًا بين المرة والأخرى.

تُعدِّل جاذبية الشمس من تأثير القمر. فعندما يكون كلٌّ من الأرض والقمر والشمس على خطٍّ مستقيم واحد تقريبًا (كل شهر عند اكتمال القمر وعند ظهور القمر الجديد)، تُضاف قوة سَحب الشمس إلى قوة سَحب القمر؛ ولذلك يكون المدُّ والجزر في ذروته في هذا الوقت، فيما يُعرف بالمد والجزر «الربيعي». وعندما يُشكِّل كلٌّ من الأرض والقمر والشمس زاويةً قائمة تقريبًا (خلال رُبعَي القمر الأول والأخير)، تُنقِص قوة سَحب الشمس من قوة سَحب القمر ويكون المد والجزر في أدنى مستوياته في هذا الوقت، وهو ما يُعرف بالمد والجزر «المَحاقي».

هكذا يؤسِّس القمر والشمس للإيقاع الأساسي للمد والجزر ولارتفاعه على كوكبنا. تُحدِث كتلُ اليابسة القارية تعديلاتٍ جذريةً في هذا الإيقاع والارتفاع، حيث تتداخل تداخلًا واضحًا مع انتفاخات مياه المحيطات، وشكل أحواض المحيطات، وخواص خط الشاطئ في المنطقة. والنتيجة هي أن القمر والشمس يُحدثا نوعًا من تَخَضخُض المحيطات المدِّي الجزري على نطاقِ حوض المحيط، الذي يتغيَّر في مجاله ومنطقته لتكوين أنماط وارتفاعات مختلفة في المد والجزر في الموقع الساحلي الواحد. لذلك، على الرغم من أن معظم المواقع الساحلية تشهد جزرَين ومدَّين يوميًّا بالارتفاع نفسه تقريبًا (وهو ما يُسمى بالمد والجزر نصف النهاري)، تشهد بعض المناطق مدَّين وجزرَين يوميًّا بارتفاعات مختلفة تمامًا (مد وجزر نصف نهاري مختلط)، ويشهد عددٌ قليل من الأماكن مدًّا واحدًا وجزرًا واحدًا فقط خلال اليوم (مد وجزر نهاري).

سُبل تكيُّف الكائنات الحية في مناطق المد والجزر

يُحدِث المد والجزر تأثيراتٍ كبيرةً في حياة الكائنات البحرية في مناطقه، حيث يغمرها المدُّ بانتظام ثم تُصبح عرضةً في أوقاتٍ متفاوتة للهواء، والحرارة، والبرودة، والأمطار، والأمواج في حالة الجزر. طوَّرت الكائنات التي تعيش في مناطق المد والجزر طرقًا مختلفة للتعامل مع مثلِ هذه الصور من الإجهاد. على سبيل المثال، لدى القواقع البحرية الصغيرة، أو أصداف البحر، التي تعيش في منطقة المد والجزر الصخرية في المناطق الاستوائية، طرقٌ مختلفة لتجنُّب ارتفاع درجة الحرارة في حالات الجزر. فلها أصدافٌ فاتحة اللون لتقليل امتصاص الحرارة، وحدبات صغيرة على أصدافها تعمل كأجنحة التبريد في المُبرِّد (الرادياتور)، وتتشبَّث بالصخور قدرَ الإمكان بخيطٍ مخاطي لتجنب الاحتكاك المباشر بالطبقة السفلى. ويتجنب بلح البحر والبرنقيلات التي تعيش في منطقة المد والجزر الصخرية فقدانَ الماء والتَّجفُّف في حالة الجزر عن طريق إغلاق أصدافها بإحكام، وحبس كميةٍ كافية من الماء بداخلها للبقاء على قيد الحياة حتى حدوث المدِّ التالي. كما تلجأ سرطانات البحر إلى الشقوق أو إلى أسفل الحصائر الرطبة التي تُكوِّنها الأعشاب البحرية، أو تتراجع ببساطةٍ إلى الشاطئ مع انحسار المد. أما الأعشاب البحرية التي تعيش في منطقة المد والجزر، فيمكن لبعضها تحمُّلُ الجفاف الشديد، حيث تفقد ما يصل إلى ٩٠ في المائة من المياه في أنسجتها في حالة الجزر. ويفرز بعضُها الآخر غطاءً مُخاطيًّا هلاميَّ الملمس يساعد على حبس المياه في أنسجتها. فالحيوانات والنباتات التي تعيش في منطقة المد والجزر في المناخات الباردة يجب أن تتكيَّف مع أدنى درجات الحرارة، والتي تصل في بعض الأحيان إلى عشرات الدرجات تحت الصفر، أوقاتًا تصل إلى ساعات أو أيام عند تعرضها للهواء. بعضٌ من هذه الكائنات الحية تُنتج مركَّبات مضادةً للتجمد، تساعد في حماية أنسجتها من التجميد أو في منحها قدرةً فائقة على تحمُّل التجمُّد.

يتعيَّن على كائنات مناطق المد والجزر التي تعيش على خطوط الشواطئ المكشوفة أيضًا أن تتكيَّف مع قُوى السَّحب والتحطيم الناتجة عن الأمواج. فالبرنقيل والمحار البالغان يتكيفان مع هذه القُوى بلصق نفسيهما بشكلٍ دائم في الصخور، بينما يتشبَّث البطلينوس، والقواقع، والخيتونات بإحكامٍ بهياكلِ تعلُّقٍ عضلية شبيهة بالأقدام، ويُثبِّت بلح البحر البالغ نفسه بالصخور بإفراز ألياف قوية شبيهة بالخيوط تُسمى «خيوط بيسال». كما تَستخدم طحالب مناطق المد والجزر مثبتاتٍ لتثبيت أنفسها بسطحٍ صلب، وتتمتَّع بثالوسات مرنة يمكن ثنيُها ولفُّها مع الأمواج دون أن تتضرر.

تقسيم مناطق المد والجزر

من السمات الكلاسيكية لمنطقة المد والجزر، ولا سيما في الشواطئ الصخرية، تقسيمُها الرأسي حيث تتوزَّع الحياة فيها على نطاقات أفقية مميزة، وغالبًا ما يُميَّز بينها بألوانها المختلفة (انظر شكل ٧-١).
fig34
شكل ٧-١: نمط نموذجي لتقسيم مناطق المد والجزر في حالة الجزر على شاطئ صخري في ولاية واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية.
يتشابه النمط الملحوظ للتقسيم الرأسي على الشواطئ الصخرية تمامًا من منطقةٍ إلى أخرى حول الكوكب، مما أدى إلى وضع تصوُّر ﻟ «نظام عالمي» مقبول بوجه عام لوصف هذه المناطق. في هذا النظام تُقسَّم منطقة المد والجزر إلى أربعة نطاقات، يمكن الإشارة إليها، من الأعلى إلى الأدنى على الشاطئ، بنطاق الرَّذاذ، ونطاق المد، ونطاق المد والجزر المتوسط، ونطاق الجزر (انظر الشكلين ٧-١ و٧-٢).
fig35
شكل ٧-٢: تقسيم مناطق المد والجزر الصخرية إلى أربعة نطاقات «عالمية».

يقع نطاق الرذاذ فوق خطِّ أعلى مدًى للمدِّ الربيعي ويتمثل اتصاله المباشر الوحيد بالبيئة البحرية في الرذاذ المتناثر من الأمواج. وهو جزءٌ من الشاطئ تقلُّ فيه كثافة الكائنات الآهلة له؛ لأن عددًا قليلًا فقط من الكائنات الحية يمكنه الصمود أمام ظروفه القاسية للغاية. لا يُغمر نطاق المد بالكامل بالمياه سوى خلال المد الربيعي، مع تعرُّض أجزاء منه للهواء من أيامٍ إلى أسابيع، ومن ثَم يمثل بيئةً قاسية للغاية أيضًا. أما عن نطاق المد والجزر المتوسط، فهي المساحة من الشاطئ بين مستويات المد المتوسط والجزر المتوسط؛ ولذلك تُغمر معظم أجزائه بالمياه أوقاتًا طويلة خلال معظم دورات المد والجزر. يغطي هذا النطاق بكثافة مجموعةً متنوعة من النباتات والحيوانات البحرية. يتمثل نطاق الجزر في المساحة الواقعة بين مستوَى متوسطِ مدى الجزر وأدنى مستوًى للجزر الربيعي. وبذلك يظل مغمورًا بالكامل بالمياه خلال معظم دورات المد والجزر وهو أقلُّ أجزاء منطقة المد والجزر عرضةً للإجهاد.

على الشواطئ في مناطق المد والجزر الصخرية في المناطق المعتدلة تستعمر نطاقَ الرذاذ رُقعٌ من الأشنات ذات اللون البرتقالي الفاتح والرمادي، والبكتيريا الخضراء المزرقَّة التي تُشكِّل طبقةً سوداء رقيقة على الصخور، والطحالب الخضراء الشبيهة بالشعر. كما تنتشر في نطاق الرذاذ أصدافُ البحر والبطلينوس التي تقتات على البكتيريا والطحالب، وكذلك متساويات الأرجل التي تنبش في المواد العضوية الميتة. بالنسبة إلى هذه الحيوانات، يُعد نطاق الرذاذ مَلاذًا من سرطانات البحر والقواقع المفترسة التي لا تستطيع المخاطرة بالبقاء أوقاتًا طويلة في هذه البيئة القاسية.

تهيمن على نطاق المد البرنقيلاتُ التي غالبًا ما تتجمع بكثافةٍ بحيث تُكوِّن شريطًا مميزًا أبيض اللون على الشاطئ. تمر البرنقيلات بطَورٍ تكون فيه على هيئة يرقات صغيرة تشبه الجمبري، يُسمى السيبرد، حيث تنجرف وتسبح بحُرية في المحيط. عندما تجد اليرقة مكانًا مناسبًا لتستقرَّ فيه في منطقة المد والجزر، تُفرِز غِراءً من غدةٍ في رأسها وتُثبِّت نفسها على سطحٍ صلب. ثم تُفرِز مأوًى جيريًّا يشبه الصندوق حول نفسها مغطًّى بزوجين من الألواح التي يمكن فتحها وغلقها كالباب المسحور. عندما تكون الألواح مفتوحةً في حالة المد، يمد البرنقيل مجموعةً من الأرجل الريشية التي تُرشِّح العوالق من مياه البحر. وفي حالة الجزر تكون الألواح مغلقةً لحماية الحيوان بداخلها من المفترسات ومن التجفُّف.

يشغل نطاق المد والجزر المتوسط بكثافةٍ بلح البحر، الذي عادةً ما يُكوِّن شريطًا أسودَ مميزًا على الشاطئ. وكالبرنقيلات، يتكاثر بلح البحر أيضًا إلى يرقات صغيرة مستقلة العيش، تُسمى باليرقات حاملة الغشاء، تتفرَّق مدةً في المحيط ثم تبحث عن مكانٍ مناسب للاستقرار في منطقة المد والجزر. عندما تعثر يرقة بلح البحر على بقعةٍ جيدة، تُثبِّت نفسها بالصخور عن طريق إفراز خيوط بيسال من غدة في قدمها، ثم تنمو وتتحول إلى الشكل المألوف لبلح البحر البالغ ذي الصدفتَين. ويُرشِّح بلح البحر البالغ العوالق من مياه البحر عندما تنغمر به، أما في حالة انحسار المياه فيغلق صدفاته بإحكام لتجنُّب الجفاف والمفترسات الرحالة مثل نجوم البحر. كما يشغل نطاق المد والجزر المتوسط أيضًا المحار، والبطلينوس، وأصداف البحر وأنواعًا مختلفة من الأعشاب البحرية اللحمية البنية اللون التي توفر مأوًى رطبًا لنجوم البحر وقنافذ البحر وغيرها من الحيوانات البحرية في حالة الجزر.

تَشغل نطاقَ الجزر بكثافة مجموعةٌ من الأعشاب البحرية والحيوانات التي يمكنها تحمُّل التعرُّض العرضي للهواء. ففيها تنتشر الأعشاب البحرية الحمراء، والخضراء، والبنية، جنبًا إلى جنب مع أنواع كثيرة من الحيوانات البحرية بما في ذلك شقائق النعمان، ونجوم البحر، وقنافذ البحر، والنجوم الهشة، وخيار البحر، وسرطان البحر، والقواقع، وبزاقات البحر، والديدان.

على شواطئ المد والجزر الصخرية في المناطق المدارية، تُكوِّن أنواعٌ مختلفة من البكتيريا والطحالب أغشيةً رمادية وسوداء اللون على الصخور في نطاق الرذاذ. في هذا النطاق، تتغذى مجموعةٌ متنوعة من أصداف البحر على هذه الأغشية. عادةً ما تُضفي الطحالبُ الثاقبة للصخور على نطاق المد لونًا أصفر. وقد توجد البرنقيلات، والبطلينوس، والقواقع في نطاق المد، ولكنها تكون عادةً بأعداد صغيرة مقارنةً بأعدادها في الشواطئ الصخرية المعتدلة. كما توجد في الغالب منطقة وردية في نطاق المد والجزر المتوسط تُكوِّنها الطحالبُ المرجانية المكوِّنة للقشور. وتحتلُّ أنواعًا مختلفة من القواقع هذا النطاق إلى جانب بلح البحر، وشقائق النعمان البحرية، والبطلينوس، والبرنقيلات. غالبًا ما تُغطي الأعشاب البحرية البنية الصخور في نطاق الجزر الذي يُعد موطنًا لمجموعة متنوعة من الكائنات البحرية مثل قنافذ البحر، وشقائق النعمان البحرية، والبطلينوس، وخيار البحر، والإسفنج.

أُسس تقسيم مناطق المد والجزر

على مدى عقودٍ عديدة، سعى علماء الأحياء البحرية لفهم العوامل التي تُكوِّن الأنماط المميزة للتقسيم الرأسي على شواطئ المد والجزر الصخرية. ومن المعروف الآن أن منطقة المد والجزر قد تكوَّنَت نتيجةَ تأثيرٍ متبادل معقَّد للعوامل البيولوجية والفيزيائية. بشكلٍ عام، فإن قدرة العشب البحري أو الحيوان على تحمُّل العوامل الفيزيائية، مثل التعرض للهواء والحرارة والبرودة والجفاف وقُوى الأمواج، هي ما يُحدد نطاق منطقة المد والجزر الذي يمكن للعشب أو الحيوان العيش فيه. أما العوامل البيولوجية، مثل المنافسة والرعي والافتراس وأنماط استيطان اليرقات، فتؤثِّر في العوامل الفيزيائية وتتأثَّر بها وتُغيِّر فيها وتُحدد في النهاية أماكنَ عيش الكائنات الحية على الشاطئ.

يُمثل التأثير البيولوجي المتبادل بين البرنقيلات، وبلح البحر، ونجوم البحر، والأعشاب البحرية على الشاطئ الصخري المعتدل مثالًا جيدًا على آليَّة سريان هذا الأمر. لمكان المعيشة أهميةٌ كبرى في منطقة المد والجزر، مما يجعل التنافس عليه أحد العوامل المهمة التي تؤثِّر على التوزيع الفعلي لبعض الأنواع على الشاطئ. لدى البرنقيلات القدرةُ على الاستقرار والعيش في أي مكان في نطاق المد والجزر المتوسط ونطاق المد على الشواطئ الصخرية المعتدلة بسبب قدرتها على تحمُّل عوامل الإجهاد الفيزيائية. ولكنها عادةً ما تُستبعد من معظم أجزاء نطاق المد والجزر المتوسط الأكثر اعتدالًا حيث تكون أقلَّ عرضةً للإجهاد، ولديها وقتٌ أطول للتغذية، وتنمو أسرع. ذلك لأن بلح البحر يتفوق على البرنقيل في نطاق المد والجزر المتوسط. يتمكَّن بلح البحر من ذلك بفضل نموِّه الزائد وخنقه للبرنقيلات. وهكذا، تستمر البرنقيلات في نهاية المطاف في اللجوء في الأساس لنطاق المد حيث لا يستطيع بلح البحر تحمُّل البيئة القاسية.

إلا أن البرنقيلات لا تُستبعد تمامًا من نطاق المد والجزر المتوسط وتظل به على هيئة بقع. هذا نتيجة شكل آخر من أشكال التأثير البيولوجي المتبادل، وهو الافتراس. ففي نطاق المد والجزر المتوسط، من شأن نجوم البحر افتراسُ بلح البحر، ومن ثَم يَحول ذلك بينه وبين هيمنته الكاملة على هذا النطاق. إلا أن نجوم البحر لا يمكنها المغامرة بدخول نطاق المد والجزر المتوسط لتناول بلح البحر إلا لأوقاتٍ محدودة في حالة المد، ومن ثَم يحول ذلك بينها وبين الإفراط في تناول بلح البحر. ولكن في نطاق الجزر، يمكن لنجوم البحر أن تفترسَ بلح البحر في أغلب الأوقات كما تشاء، وبذلك يمكنها القضاء على بلح البحر في هذا النطاق تمامًا.

لذلك، ففي هذا الوضع، يتحدَّد الحدُّ الأعلى لتوزيع البرنقيلات بالعوامل الفيزيائية والحد الأدنى منه بعامل بيولوجي، وهو منافسة بلح البحر على المكان، وبالمثل، يُحدد الحد الأعلى لتوزيع بلح البحر بالعوامل الفيزيائية والحد الأدنى بعامل بيولوجي، وهو في هذه الحالة افتراس نجوم البحر. كلما دُرسَت منطقة المد والجزر الصخرية عن كثَب، زاد انكشاف حجم التعقيد في أشكال التأثير البيولوجي المتبادل. على سبيل المثال، تتنافس الأعشاب البحرية البُنية أيضًا على مكان المعيشة في نطاق المد والجزر المتوسط، وإذا استقرَّت تمامًا في مكانٍ ما، يمكنها الحفاظ عليه بمنع يرقات بلح البحر والبرنقيل من الاستقرار هناك. يبدو أن هذا نتيجة انجراف شفرات أعشاب البحر ذهابًا وإيابًا عبر السطح الصخري بفعل حركة الأمواج ومنع يرقات بلح البحر والبرنقيلات من ضمان التثبُّت. من ناحية أخرى، فإن رعي البطلينوس والقواقع على الأعشاب البحرية من شأنه أن يُقلل من غطاء الأعشاب البحرية، ما يسمح لبلح البحر والبرنقيلات بالتثبُّت. كردِّ فعلٍ لهذا الرعي، يمكن لبعض الأعشاب البحرية إنتاجُ موادَّ كيميائية سامة تعوق الرعي المتزايد.

التأثيرات البشرية

يمكن أن تتعرض منطقة المد والجزر لتأثيرات بشرية خطِرة؛ نظرًا إلى سهولة الوصول إليها وارتباطها الوثيق باليابسة وأعمال التنمية البشرية. فهي تمد البشر بمصدرٍ جاهز من الأطعمة البحرية غير المستزرعة مثل بلح البحر، والمحار، والبطلينوس، وأصداف البحر، وقنافذ البحر، وسرطان البحر، والحلزون الصدفي، وأذن البحر، وأنواعًا مختلفة من الأعشاب البحرية التي غالبًا ما تُحصد على سبيل الترفيه وعلى أساسٍ يفتقر إلى التنظيم بدرجة كبيرة. في بعض الأماكن القريبة من المناطق المأهولة بالسكان، تُحصد مثل هذه الكائنات الحية بشكلٍ مفرط وهي الآن نادرةٌ أو غائبة عن منطقة المد والجزر التي كانت تتمتع بوفرة فيها. يمكن لمثلِ هذا الحصاد أيضًا أن يُلحِق تغييراتٍ جوهريةً في بِنية مجتمعات منطقة المد والجزر. من الأمثلة الجيدة على ذلك حصادُ قواقع منطقة المد والجزر المفترسة الكبيرة على يد السكان المحليين في تشيلي. ففي المناطق التي تُحصد فيها هذه القواقع، يُهيمن على نطاق المد والجزر المتوسط استزراعٌ أحاديٌّ لبلح البحر، ولكن في حالة منع مثل هذا النوع من الحصاد، يعيش في نطاق المد والجزر المتوسط البرنقيلات والأعشاب البحرية، وكذلك بلح البحر، ويتمتع النطاق بتنوُّع أعلى إجمالًا في الأنواع. هذا لأن القواقع تأكل بلح البحر ومن ثَم تمنع بلح البحر من التفوق على الأنواع الأخرى في السيطرة على المكان.

في بعض الدوائر القضائية حول العالم، وضِعَت خطوات من أجل إدارةٍ أكثرَ عناية للآثار الناجمة عن الحصاد الترفيهي في منطقة المد والجزر عن طريق فرض حصص للحصاد الترفيهي أو عن طريق إنشاء محميات بحرية «محظورة» حيث لا يُسمح بالحصاد بأي شكل من الأشكال.

تتعرَّض الكائنات في المنطقة أيضًا للحصاد التجاري على نطاق واسع. على سبيل المثال، يُحصد نوع يتميز بوفرته من الأعشاب البحرية البنية، والمعروفة باسم «العُشب الصخري»، تجاريًّا من مناطق المد والجزر في شرق كندا وولاية ماين. تُجفَّف الأعشاب البحرية وتُستخدم في صناعة السماد العضوي، وعلف الحيوانات، والمكملات الغذائية، وفي استخراج الألجينات التي لها عدة استخدامات، ومنها كمادة مضافة للآيس كريم ومنتجات الألبان الأخرى. كما يُحصد أيضًا بلح البحر غير المستزرع للأغراض التجارية قبالة سواحل ولاية ماين، بينما يُحصد المحار تجاريًّا في مناطق المد والجزر بجنوب أفريقيا وأماكن أخرى حول العالم.

ومجرد أبسط الأفعال من السير فوق الصخور وقلبها في منطقة المد والجزر إلى مشاهدة الكائنات الحية تحتها من شأنها أن تكون مدمِّرة لتلك البيئة. لا يُشكل هذا مشكلةً في السواحل المعزولة، ولكن الشواطئ الصخرية القريبة من المراكز الحضرية تجذب أعدادًا هائلة من الزائرين ويمكن أن تتأثَّر بشدة. لتوضيح الصورة، تجذب بعض مواقع مناطق المد والجزر الصخرية «المُستهلَكة» على طول ساحل كاليفورنيا ٢٥ ألف إلى ٥٠ ألف زائر سنويًّا لكل ١٠٠ متر من خط الشاطئ. ولا تزال المواقع الأقل شعبية تستقبل من ٢٠٠٠ إلى ١٠ آلاف زائر في السنة لكل ١٠٠ متر من خط الشاطئ. يؤدي وطءُ أقدام كل هؤلاء الزائرين الذين يسيرون في منطقة المد والجزر على نطاق الجزر؛ إلى إزاحة الأعشاب البحرية والحيوانات وتحطيمها. كما يتسبَّب العديد من الزائرين أيضًا في انقلاب الصخور، مما يؤدي إلى تحطيم الكائنات الحية التي تعيش على قممها وتعريض الكائنات الحية التي تعيش تحت الصخور إلى الجفاف، وحركة الأمواج، والافتراس. يؤدي هذا إلى وجود صخورٍ بأطراف من الكائنات التي تعيش حول حوافها فقط ولا يعيش أيٌّ منها في الأسطح العلوية أو السفلية للصخور. وحتى في المحميات البحرية المحظورة، يمكن للناس السير بحريةٍ في منطقة المد والجزر؛ ومن ثَم يستمر هذا الشكل من أشكال التأثير. لذلك، إن كانت هناك رغبة في توفير حماية كاملة لبعض مناطق المد والجزر المُستهلَكة، فمن الضروري تثقيفُ العامة حول التأثيرات التي يمكن أن يتسببوا فيها، وفي بعض الحالات، الحد من عدد الزائرين، أو الإبقاء عليهم في «مسارات» من مناطق المد والجزر، أو تقييد الوصول إلى بعض المواقع تمامًا.

في حضارتنا القائمة على الوقود الأحفوري، يُشكل التلوث النفطي تهديدًا لمجتمعات المد والجزر في أي مكان على هذا الكوكب، كما يتضح في تكوُّن كرات القطران الواسعة الانتشار — كرات النفط الخام — التي يُعثر عليها وقد انجرفت على الشواطئ. تصل كرات النفط الخام إلى المحيط من أربعة مصادر رئيسية: التسربات الطبيعية، وعمليات الاستخراج، والنقل، والاستهلاك. وفقًا للبيانات التي نشرها المجلس القومي الأمريكي للبحوث التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم في عام ٢٠٠٣، فإن تقسيم هذه المصادر هو على النحو التالي تقريبًا:

يتسرب نحو ٦٠٠ ألف طن من النفط الخام طبيعيًّا إلى البيئة البحرية كل عام من التكوينات الجيولوجية المحتوية على النفط أسفل قاع المحيط. يمثِّل هذا ما يقرُب من نصف كل كمية النفط الخام الذي يدخل إلى المحيطات. وتُطلق هذه الكمية الكبيرة من النفط الخام بمعدَّلٍ بطيء، ومن عدة مواقع مختلفة، لا تتضرر معه البيئة البحرية بأكملها.

أما الأنشطة البشرية المرتبطة بالتنقيب عن النفط وإنتاجه، فتؤدي إلى إطلاق في المتوسط ما يُقدر بنحو ٣٨ ألف طن من النفط الخام في المحيطات كل عام، وهو ما يمثل نحو ٦ في المائة من إجمالي النفط الداخل إلى المحيطات نتيجةَ النشاط البشري في جميع أنحاء العالم. على الرغم من صِغر حجم هذا التسرُّب مقارنةً بالتسرب الطبيعي، يمكن للنفط الخام من هذا المصدر أن يتسبَّب في أضرار جسيمة للنظام البيئي الساحلي نظرًا إلى إطلاقه بالقرب من السواحل، وأحيانًا بكميات كبيرة جدًّا ومركزة. في الحقيقة، تُعد كارثة تسرُّب النفط في خليج المكسيك عام ٢٠١٠ أكبرَ حادث لتسرُّب النفط في البيئة البحرية في التاريخ. في هذه الحادثة، غرقَت منصةٌ لحفر آبار النفط في أعماق المحيط على بُعد نحو ٦٦ كيلومترًا من الساحل في مساحةِ مياه تُقدَّر بنحو ١٥٠٠ متر، مما سمح بتدفُّق كمياتٍ هائلة من النفط الخام من خزانٍ تحت أرضية المحيط. خلال مدةِ ثلاثة أشهر، تسرَّب نحوُ ٦٧٠ ألف طن من النفط إلى خليج المكسيك قبل تحديد موقع التدفُّق تحت الماء في النهاية. وتلوث نحو ٧٩٠ كيلومترًا من الخط الساحلي بالنفط الذي تسبب في تغطيةِ وخنقِ وتسمُّم الحياة البحرية في منطقة المد والجزر وما تحتها، وكذلك الحياة البرية الساحلية. كما أدَّى إلى إغلاق مصايد الجمبري في كثيرٍ من أنحاء الخليج. بالإضافة إلى ذلك، تسبَّبَت المشتتات الكيميائية والأجهزة الميكانيكية المستخدَمة في مرحلة التنظيف في مزيدٍ من الضرر للحياة البحرية.

نتج عن نقل النفط والمنتجات النفطية حول العالم في ناقلات إطلاق نحو ١٥٠ ألف طن من النفط في جميع أنحاء العالم كل عام في المتوسط؛ أي نحو ٢٢ في المائة من إجمالي ما يدخل من النفط إلى المحيطات نتيجةَ النشاط البشري. يمكن للانسكابات النفطية من الناقلات أن تكون كبيرةً ومركَّزة بدرجة كارثية، ومن ثَم شديدة الضرر. عندما رسَت الناقلة إكسون فالديز على الصخور قبالة سواحل ألاسكا في عام ١٩٨٩، تسرَّب نحوُ ٣٧ ألف طن من النفط إلى لسان برينس وليام البحري. حملت التيارات بقعة الزيت أسفل سواحل ألاسكا، حيث غطَّت نحو ٢١٠٠ كيلومتر من خط الساحل، وألحقَت أضرارًا جسيمة بمنطقة المد والجزر وتسبَّبت في نفوق مئات الآلاف من الطيور البحرية، وآلاف الثدييات البحرية، وعددٍ غير محدَّد من الأسماك، كما أُغلقت مصايد السلمون، والرنجة، وسرطان البحر، والجمبري، والسمك الصخري، وسمك السمور. تظل آثار هذه الكارثة باقيةً حتى يومنا ولا تزال أجزاء من خط الشاطئ ملوَّثة بالنفط أسفل سطح المياه مباشرة. من المشجِّع أن عدد انسكابات الناقلات الكبيرة (الذي تزيد على ٧٠٠ طن)، ومن ثَم إجمالي كمية النفط التي تدخل إلى البيئة البحرية من هذا المصدر، قد انخفضت بشكل ملحوظ خلال العقود الثلاثة الماضية، وذلك من متوسط ٧٫٧ انسكابات سنويًّا بين عامي ١٩٩٠ و١٩٩٩ إلى ٣٫٢ بين عامَي ٢٠٠٠ و٢٠٠٩ وإلى ١٫٨ بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٧.

يدفق نحوُ ٤٨٠ ألف طن من النفط إلى البيئة البحرية كلَّ عام في جميع أنحاء العالم من التسرُّب المرتبط باستهلاك المنتجات المشتقة من النفط في السيارات، والشاحنات، وبدرجةٍ أقل في القوارب. يتجمع فقدُ النفط من تشغيل السيارات والشاحنات في المناطق الحضرية المرصوفة من مكان انجرافه في الجداول والأنهار، ومنها إلى المحيطات. المثير للدهشة أن هذا يُمثل أهمَّ مصدر للتلوث النفطي الناتج عن الأنشطة البشرية في البيئة البحرية، وهو نحو ٧٢ في المائة من إجمالي التلوث بالنفط. ونظرًا إلى أنه مصدرٌ واسع الانتشار من مصادر التلوث؛ فهو يُعد الأصعبَ في السيطرة عليه. لهذا التلوث بالنفط المستمر والواسع الانتشار تأثيرٌ خبيث على الكائنات البحرية وعلى عمليات المجتمعات البحرية. ومن المعروف أن للعديد من أنواع الهيدروكربونات العضوية الموجودة في النفط آثارًا ضارةً وتراكمية على العديد من الكائنات البحرية، حتى في حالة التركيزات المنخفضة للغاية، ولا سيما على الحيوانات البحرية في مرحلة اليرقات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤