الفصل السابع

مفهوم المعلومات في علم الأحياء

جون ماينارد سميث

يَشيع استخدام المصطلحات المعلوماتية في مجال عِلمي الأحياء الجزيئي والنمائي. يرجع ذلك الاستخدام إلى فايسمان. في مرحلة تخليق البروتين ومَراحل النمو اللاحقة، تكون الجينات رموزًا، وهو ما يعني أنه لا يُوجد رابط ضروري بين هيئتها (تسلسلها) وتأثيراتها. يتحدَّد تسلسل جين نتيجة لمحاباة الانتخاب الطبيعي له، بسبب التأثيرات التي يحدثها. في علم الأحياء، يُشير ضمنًا استخدام مصطلحات معلوماتية إلى القصدية، بمعنى أن الانتخاب هو الذي طوَّر شكل الإشارة والاستجابة لها. ما يراه المهندس تصميمًا، يراه عالم الأحياء انتخابًا طبيعيًّا.

أحد الأفكار الرئيسة في علم الأحياء المُعاصِر هي فكرة المعلومات. ويمكن اعتبار علم الأحياء النمائي دراسة لكيفية تحويل المعلومات الموجودة في الجينوم إلى بِنية مُكتملة النمو، بينما يبحث علم الأحياء التطوُّري كيف نشأت تلك المعلومات من الأساس. ما دعانا إلى كتابة فصل عن موضوعات متنوِّعة للغاية مثل منشأ الجينات والخلايا واللغة هو أن تلك الموضوعات جميعًا لها علاقة بتخزين المعلومات ونقلها.

(ساتماري وماينارد سميث، ١٩٩٥)

لنبدأ بالمفاهيم التي تَنطوي عليها نظرية المعلومات التقليدية … تلك المفاهيم لا تَنطبق على الحمض النووي لأنها تَستلزم وجود نظام معلوماتي حقيقي، يتكوَّن من مُشَفِّر وناقل ومُستقبِل ومترجم للشفرة، وقناة معلومات بينها. وهي مُكوِّنات لا يبدو أنها موجودة في الأنظمة الكيميائية (أبتر وولبرت، ١٩٦٥). لا تُغيِّر الاستعانة بالاستعارات اللغوية مثل «النسخ» و«الترجمة» لوصف العمليات الكيميائية من الطبيعة الكيميائية لتلك العمليات. فالعمليات الكيميائية ليست إشارات تحمل رسائل. هذا وحتى إن وجِد بث معلوماتي حقيقي فيما بين الجزيئات، فسيكون ذلك البث خاليًا من التشويش (أي، غير عشوائي فعليًّا)، وعليه فلا ينطبق على ذلك النوع من الانتقال المزعوم للبيانات مفهوم الاحتمال، الذي يُعدُّ محوريًّا بالنسبة إلى نظرية المعلومات. (مانر وبونخي، ١٩٩٧)

يتَّضح من هذَين الاقتباسين أنه ثمة ما هو جدير بالمناقشة. سوف أتناول فقط استخدام مفاهيم نظرية المعلومات في مجالات الوراثة والتطور والنماء، ولن أتطرق إلى علم الأحياء العصبي إذ لستُ أهلًا لمناقشته.

(١) التشبيهات المستمدة من مجال المعلومات

يشيع الاستخدام الدارج للمُصطَلحات الخاصة بمجال المعلومات في مجال علم الأحياء الجزيئي. «نسخ» و«ترجمة» و«شفرة» و«ناقل» و«رسول» و«ترادفي» و«تكرار» و«تحرير» و«تصحيح أخطاء» و«المكتبة»، تلك كلها مصطلحات مُتخصِّصة مُستخدَمة في علم الأحياء. وحسب علمي لم يحدث أي لبس ناتج عن عدم فهم معاني تلك المصطلحات. بل إنه يوجد تشابه مدهش في معانيها عند استخدامها في مجال التواصل البشري وفي مجال علم الوراثة. يَكفي أن نضرب مثالًا واحدًا. في عملية «تصحيح الأخطاء» يُقارَن تسلسل القواعد الأربع في شريطِ حمضٍ نووي مُخلَّق حديثًا بالتسلسل المناظِر له من شريط الحمض النووي القديم الذي اتُّخِذ نموذجًا لعملية تخليق الشريط الجديد. وإن وجِدَ «عدم تطابق» (بمعنى، إن لم تكن القاعدة في الشريط الجديد مكملة لتلك الموجودة في الشريط القديم وفقًا لقواعد الاقتران أدنين–ثيامين A-T، وجوانين–سيتوسين G-C)، فستُزال ويحلُّ محلَّها القاعدة الصحيحة. يتَّضح لنا التشابه بين تلك العملية وعملية مقارنة الأحرف الموجودة في نص منسوخ واحدًا تلو الآخر بالأحرف المناظرة في النص الأصلي وتصحيحها إن وجِد اختلاف. جدير بالذكر أيضًا أنه عند وَصف عملية تصحيح الأخطاء على المستوى الجزيئي، وجدتُ من الصعب تجنُّب استخدام الكلمتين «قاعدة» و«صحيح».

إذن يَستخدم علماء علم الأحياء الجزيئي تشبيهات مُستعارة من نظرية المعلومات في عملهم اليومي العادي. تُستخدم التشبيهات في العلوم بطريقتَين. في بعض الأحيان، يوجد تماثل فعلي بين نظامَين فيزيائيَّين مُختلفَين. منذ أكثر من خمسين عامًا، كنت أعمل مهندس طائرات. أحد الأمور التي كنا نُريد أن نعرفها في مرحلة التصميم هي نسق الاهتزاز الميكانيكي في الطائرة التي نُصمِّمها. كي نكتشفَه، صنعنا دائرة كهربية مناظرة، فيها كتل الأجزاء المختلفة للبنية مُمثلة بفروق الجهد المستحثَّة للملفات في الدائرة، والمرونة ممثلة بالسعات الكهربية للمُكثفات. هكذا تنبأت اهتزازات الدائرة الكهربية باهتزازات الطائرة. تفسير ذلك الإجراء هو أنَّ المعادلات التي تصف الاهتزازات الكهربية والميكانيكية مُتطابقة. في الواقع، كنا قد صنعنا حاسوبًا تناظريًّا لغرض خاص. أتذكَّر امتعاضي لاحقًا حين اكتشفت أني استخدمت التشبيه دون أن أدري.

حالات التماثُل التام نادرة جدًّا. والأكثر شيوعًا هو إدراك وجود تشابه شكلي أو نوعي، وهو مفيد في استشفاف مكنونات نظامٍ غير مألوف بمقارنته بنظام مألوف. أحد الأمثلة التقليدية لذلك هو إدراك هارفي أن القلب مضخَّة؛ على الأرجح أنه ما كان ليُدرك ذلك لولا درايته بالاستخدام الهندسي للمضخَّات. أحد الأمثلة الأكثر إثارة للجدل هو حقيقة أن داروين ووالاس يُرجِعان فكرة التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي إلى قراءة «مقال عن مبدأ السكان» لمالتوس. مثال ثالث أبسط هو أن ما قادَني لابتكار نظرية الألعاب التطوُّرية هو وجود تشابُه بينها وبين نظرية الألعاب التقليدية، التي تُحلِّل السلوك البشري؛ في الحقيقة، أهم شيء استفدتُه من ذلك التشابه كان صيغة رياضية مفيدة. ما أقصده هو أن العلماء يحتاجون لاستقاء أفكارهم مِن منبع ما. في الغالب، يستمد علماء علم الأحياء أفكارهم من تشبيهات مُستقاة من التقنيات المعاصرة، وأحيانًا من العلوم الاجتماعية. ومن ثَم من الطبيعي أن يكونوا قد استمدوا خلال القرن العشرين تشبيهات من الآلة التي تعالج المعلومات وتُولِّدها. أول استخدام لمثل تلك التشبيهات قام به أوجوست فايسمان قرب نهاية القرن الماضي وسأُفصِّله فيما يلي. بالطبع إن كان التشبيه وصفيًّا فحسب، فقد يُضلِّل بقدر ما يُوضِّح، كما سأُبيِّن.

لكن في البداية يجب أن أتطرق إلى نقد مانر وبونخي الذي اقتبسته في بداية ذلك الفصل (مانر وبونخي، ١٩٩٧). أولًا، هل صحيح أنه لا يُوجد مُشفِّر أو ناقل أو مُستقبِل، أو مترجم للشفرة أو قناة معلومات؟ تلك العبارة تَلفِت الانتباه إلى بعض جوانب الاختلاف بين النسخ والترجمة في الوراثة والأمثلة المُستمَدة من التواصُل البشَري العادي (انظر الشكل ٧-١).
fig1
شكل ٧-١: مُقارنة بين نقل رسالة بشرية بشفرة مورس (أ) وترجمة رسالة مشفرة في الحمض النووي إلى تسلسل الحمض الأميني المُكوِّن لبروتين ما (ب).

في مثال الرسالة البشرية، تُشفر الرسالة أولًا ثم تُفَك شفرتها. أما في حالة الجينات، نحن نعتبر أن ثمة رسالة بصيغة مُشفَّرة في الحمض النووي الريبوزي الرسول تُترجم في الريبوسوم إلى تسلسل الحمض الأميني المُكوِّن لبروتين ما، إلا أنه قد يكون من المُستغرب أن نعتبر تلك العملية «فكًّا» للشفرة؛ إذ إنها لم «تُشفَّر» في الأساس من البروتين إلى الحمض النووي الريبوزي الرسول. لا أعتقد أن ذلك ينفي التشابه بين العملية الجينية والجزء الثاني من العملية البشرية. لكنه يثير سؤالًا صعبًا. إذا كان الحمض النووي الريبوزي يحتوي على معلومات منسوخة من الحمض النووي، فكيف انتقلَت إليه؟ هل يوجد أي وجهِ تشابه بين منشأ المعلومات في الحمض النووي وشفرة مورس؟ قد يكون ذلك صحيحًا. في الكلام البشري، أول «مُشفِّر» هو الشخص الذي يحول المعني إلى سلسلة من المقاطع الصوتية، التي تحولت في مرحلة لاحقة إلى شفرة مورس. في علم الأحياء، ذلك المُشفَّر هو الانتخاب الطبيعي. قد يبدو ذلك التشبيه غير وارد، أو حتى غير صحيح بالنِّسبة إلى غير الداروينيِّين. لكن الانتخاب الطبيعي هو الذي أنتج في الماضي، من بين العديد من التسلسلات، تسلسُل القواعد الذي يحدد في إطار قناة الاتصال الموصوفة للتو بروتينًا له «معنًى»؛ أي بروتينًا يؤدي وظيفته بطريقة تُرجِّح بقاء الكائن الحي على قيد الحياة. ما يراه المهندس تصميمًا، يراه عالم الأحياء انتخابًا طبيعيًّا.

ماذا عن الادِّعاء القائل بأن العمليات الكيميائية ليست إشارات تحمل رسائل؟ لمَ لا تكون كذلك؟ إذا كانت الرسائل تنتقل بواسطة موجة صوتية أو موجة كهرومغناطيسية أو تيار متذبذب، فما المانع من أن تنتقل عبر مجموعة من الجزيئات الكيميائية؟ أحد أبرز الإدراكات التي أتت بها نظرية المعلومات هي أن المعلومة الواحدة يُمكن أن تَنتقِل عبر نواقل فيزيائية مختلفة. حتى الآن، لم يَستخدِم المُهندسون نواقل كيميائية، في الأساس بسبب صعوبة إدخال المعلومات إلى الوسيط الكيميائي واستخراجها منه. لكن عالم الكائنات الحية أتى بحل لتلك المشكلة.

أخيرًا، ماذا عن الاعتراض على أن مفهوم الاحتمال هو مفهوم أساسي بالنسبة إلى نظرية المعلومات، لكنه غير موجود في التطبيقات البيولوجية؟ هذا بمثابة القول بأن المعلومات لا يُمكن أن تَنتقل عن طريق الكلمة المطبوعة؛ لأن الطباعة لا تصدر صوتًا. في نظرية المعلومات، قياس شانون (١٩٤٨) لمقدار المعلومات — — هو قياس ﻟ «سَعة» قناة ما أو قُدرتها على بث المعلومات، والتي يُحددها عدد الرسائل المختلفة التي يمكن أن تكون قد أُرسِلَت. استُخدِمت الجوانب الاحتمالية في نظرية شانون في علم الأعصاب لكنَّها قط لم تُستخدَم في علم الوراثة؛ إذ يفي افتراضُ تَساوي الاحتمالات بأغلب متطلباتنا. إذا افترضنا وجود سلسلة مكوَّنة من عدد من الرموز، يحتمل أن يكون كلٌّ منها واحدًا من أربعة بدائل مُتساوية الاحتمال، فسينتج ذلك وفق قياس شانون عدد بت من المعلومات. في الرسالة الجينية، توجد أربع قواعد بديلة. إذا كانت متساوية الاحتمال، وكانت كل قاعدة مستقلة عن القواعد المُجاوِرة لها، فسيكون مقدار المعلومات بتَّين لكل قاعدة. في الواقع، القواعد غير مُتساوية الاحتمال، وثمة علاقات بين القواعد المتجاورة، لذا يوجد اختزال أو نقص في مقدار المعلومات، لكنه طفيف، وعادة ما يُتجاهل؛ بالمقارنة، ينتج عن تكرارات الشفرة الوراثية (إمكانية ترجمة بعض الأحماض الأمينية من كودونات مختلفة) قدرًا أكبر من الاختزال. باختصار، نحن لا نَكترث لقياس شانون، لأن بتَّين لكل قاعدة يكفيان تقريبًا، لكن بوسعنا أن نستخدمه لو شئنا. في الواقع، ألَّفت جاتلين (١٩٧٢) كتابًا كاملًا عن تطبيق قياس شانون على الرسائل الجينية. لست واثقًا أن نهجها أثمر عن الكثير، لكنه على الأقل يوضح أن مفهوم الاحتمال يَنطبق على الشفرة الوراثية. إذ يُوجد بينهما تماثُل بِنيوي، لا مجرَّد تشابُه وصفي.

ثمَّة مُعوقات لتطبيق نظرية المعلومات على علم الوراثة. تلك المعوقات ناتجة في الأساس عن معنى المعلومات لا انتقالها. وتلك صعوبة لا تقتصر على علم الوراثة. في بداية ظهور النظرية، كان من المعتاد التأكيد على أنها ليست معنية بالمعنى، بل فقط بمقدار المعلومات؛ فكما قال ويفر (شانون وويفر، ١٩٤٩): «كلمة «المعلومات» في نظرية الاتصال لا تُعنى بما يُنقَل بقدر ما تُعنى بما يمكن أن يُنقَل.» في علم الأحياء، السؤال هو: كيف تحدد المعلومات الجينية الشكل والوظيفة؟

أسرد فيما يلي خمس محاولات، مُتباينة في نجاحها، لتطبيق مفاهيم نظَرية المعلومات على علم الأحياء، أختمها بمشكلة الشكل البيولوجي. ثم في جزء الاستِنتاجات، أستخدم التشابه بين التطوُّر والتصميم الهندسي عن طريق خوارزميات جينية لبيان كيف يُمكن تطبيق الأفكار المستمدة من نظرية المعلومات على علم الأحياء.

(٢) فايسمان وعدم توريث الصفات المكتسبة

يعدُّ تأكيد فايسمان على أن الصفات المكتسبة لا تُورث إحدى النقاط المحورية في تاريخ علم الأحياء التطوري. إذ كان داروين نفسه يؤمن بوجود «تأثيرات الاستخدام وعدم الاستخدام». فما الذي قاد فايسمان إلى ذلك المفهوم المخالف للحدس؟ حتى أسعدني الحظ بقراءة كتابه «نظرية التطور» (فايسمان، ١٩٠٤)، كنت أعتقد أن أسبابه لذلك هي أولًا أن الخط الجرثومي (التناسلي) يَنفصل مبكرًا عن جسم الخلية (السوما)، وثانيًا إنك إن قطعت ذيول الفئران، فستُولَد أبناءها بذيول طبيعية. كنت أرى أن هذَين سببان واهيان. إذ لا يحدث فصلٌ بين الخطِّ الجرثومي وجسم الخلية في النباتات، ومع ذلك لا يقلُّ احتمال انتقال الصفات المُكتسبة في النباتات عنه في الحيوانات؛ وعلى كل حال، جسم الخلية هو مصدر جميع المواد والطاقة اللازمَين للنمو، فما الذي يَمنعه إذن من أن يؤثر في الخلايا الجرثومية؟ أما ذيول الفئران، فليس ذلك هو نوع الصفات المُكتسبة الذي يُتوقَّع أن يَنتقل.

بالطبع، كان ذلك إجحافًا مني تجاه فايسمان. إذ أفرد فصلَين طويلَين في كتابه «نظرية التطور» للصفات المُكتسبة التي لا تورَّث. الحجة الوحيدة التي لم تُستخدم في هذين الفصلَين هي انفصال الخط الجرثومي، وقد كان ذلك مهمًّا بالنسبة إلى فايسمان لأسباب أخرى. كانت حُجته الأساسية هي أنه يوجد العديد من الصفات التي من الواضح أنها تكيفية، لكنها لا يُمكن أن تكون قد تطوَّرت بطريقة لاماركية؛ لأنها لا يمكن أن تكون قد نشأت باعتبارها تكيُّفات فردية في الأساس؛ أحد أمثلة ذلك هو شكل الإهاب أو الهيكل الخارجي للحشرات، والذي يتصلَّد قبل أن تستخدمه؛ ومن ثَم لا يُمكن أن يتكيف أثناء دورة حياة واحدة. ينبني على ذلك أن الصفات التكيفية يمكن أن تتطور دون وراثة لاماركية. لكن ذلك لا يُثبت أن الصفات المكتسبة لا تورَّث. السبب الرئيسي وراء اعتقاده بأنها لا تورَّث هو أنه لا يستطيع تصور آلية ممكنة لحدوث ذلك. هَب أن عضلاتٍ حداد تضخَّمت نتيجة مهنته. كيف يُمكن أن يؤثر ذلك على نمو خلايا حيواناته المنوية، بطريقة تجعلها تُغيِّر نمو بويضة لقَّحها حيوانه المنوي، بحيث تجعل ابنه يرث عضلاته الضخمة؟

موضِّحًا سبب عدم قدرته على تصور آلية لذلك، كتب يقول إن افتراض انتقال صفة مكتسبة «لا يختلف كثيرًا عن افتراض أنه لو أُرسلت برقية إنجليزية إلى الصين فسيتلقاها المستقبِل باللغة الصينية» (في الواقع، هو يستخدم تشبيه البرقية مرتين مع تغيير بسيط في المفردات). هذا لافت للنظر لعدة أسباب. أولًا، هو يقرُّ بأن الوراثة لا تُعنى بنَقل المادة والطاقة فحسب، بل بنقل المعلومات أيضًا. وثانيًا، هو يَستعين بمثال محدَّد لقناة نقل للمعلومات، وهو البرقية. وثالثًا، مع أن رأيه ذلك كان له وزن كبير بالنسبة إلى علم الأحياء، كانت حُجته تَنطوي على مُغالطة نوعًا ما. فعلى كل حال، إن كان بإمكان حيوان منوي أن يُؤثر على حجم عضلة، فلمَ لا تستطيع عضلة أن تُؤثر على حيوان منوي؟ في الواقع، معظم آلات نقل المعلومات التي استخدمناها، مثل الهواتف ومُسجلات الشرائط، تنقل المعلومات في الاتجاهَين؛ إذ لولا ذلك لصارت محدودة النَّفع. لكن بعضها يُشبه النظام الوراثي من جهة أنها تنقل المعلومات في اتجاه واحد فقط. مشغل الأقراص المضغوطة يُحوِّل الأنماط المسجلة على قرص إلى صوت، لكن لا يُمكن أن يُسجِّل المرء صوته على قرص جديد بالغناء بالقُرب من المُشغل. أظنُّ أن عدم توريث الصفات المكتسبة حقيقة غير مُطلَقة الصحة، وإن كانت واردة؛ أي إن المنطق لا يجزم بضرورة حدوثها. لكن بقدر صحتها، فهي ناتجة عن «الفكرة المحورية» في علم الأحياء الجزيئي، والتي تؤكِّد أن المعلومات تَنتقِل من الأحماض النووية إلى البروتينات، لكنها لا تَنتقِل من البروتينات إلى الأحماض النووية.

إذن ماذا عن ذيول الفئران؟ يُخبرنا فايسمان أن رد الناس، حين عرض فكرته للمرة الأولى في اجتماع حول علم الحيوان عُقد في ألمانيا، كان: «لكن لا بدَّ أن ذلك غير صحيح؛ فالجميع يعلم أنه إن أُزيل ذيل كلبة، يُولد جراؤها بذيول مشوهة»؛ وهو مثال وجيه لما أطلق عليه هولدين من قبل مُبرهنة العمة جوبسكا: «تلك حقيقة يعرفها الناس جميعًا». أجريت تجربة الفئران لدحض ذلك الاعتراض.

إنكار أن الوراثة مُختصة بالمعلومات، وأن انتقال المعلومات غالبًا ما يكون عملية غير قابلة للعكس، له تبعات مُؤسفة، كما عرفتُ بالتجربة. في شبابي، كنتُ ماركسيًّا وكنتُ عضوًا في الحزب الشيوعي. لست فخورًا بذلك، لكنه ذو صلة بموضوعنا. فلسفيًّا، الماركسية لا تتفهم مفهوم الجين الذي يؤثر على النمو لكنه لا يتأثر به؛ فذلك مفهوم غير جدلي. لا أقول إن السبب الوحيد وراء آراء ليسينكو هو كونه ماركسيًّا — فقد كان يقف وراءَها أغراض أقل نبلًا — لكني أعتقد أن الماركسية لا بدَّ أن تتحمَّل جزءًا من اللوم. بالطبع، جعَلني ذلك غير مرتاح لآراء فايسمان. وأُجريَت تجربة استمرَّت حوالي ستة أشهر كي أختبرَها. تَعتمِد قدرة ذبابة الفاكهة (الدروسوفيلا) البالغة على تحمُّل درجات الحرارة المرتفعة على درجة الحرارة التي وُضِعَت فيها بيضتها أثناء فترة الاحتضان. لا عجب إذن أني وجدتُ أن تلك الصفة التكيُّفية ليسَت موروثة. بالنسبة إليَّ لم تكن تلك التَّجربة إهدارًا تامًّا للوقت.

(٣) الشفرة الوراثية

الشبه بين الشَّفرة الوراثية والشفرات التي صمَّمها البشر مثل شفرة مورس أو شفرة أسكي (الشفرة القياسية الأمريكية لتبادُل المعلومات) وثيق جدًّا، فلا يحتاج إلى تبرير. لكن ثمة بعض السمات الجديرة بالذِّكر:

  • (١)

    التناظُر بين كودون مُعيَّن والحمض الأميني الذي يشفره عشوائي. تعتمد ترجمة الشفرة على الكيمياء بالضرورة، إلا أن آلة فكِّ الشفرة (الأحماض النووية الريبوزية الناقلة، والإنزيمات المُعيِّنة) يُمكن تغييرها بحيث تُغيِّر عمليات التعيين. بالطبع تحدث طفرات تكون مُميتة لأنها تُحدث تغيُّرًا في عمليات التعيين. من تلك الحيثية، تعدُّ الشفرة رمزية؛ وتلك نقطة سأعود إليها لاحقًا.

  • (٢)

    الشفرة الوراثية فريدة من ناحية أنها تُشفِّر آلة الترجمة الخاصة بها.

  • (٣)

    العلماء الذين اكتشفوا طبيعة الشفرة الجينية وآلة الترجمة كانوا يَضعون في اعتبارهم تشبيه التشفير، وهو ما يظهر بوضوح من المُفردات التي استخدموها لوصف اكتشافاتهم. في بعض الأحيان كان ذلك التشبيه مُضلِّلًا. مثال على ذلك هو الاعتقاد بأنَّ الشفرة الجينية ستُفكُّ كما فُكَّت شفرة النظام الخطي «ب» باكتشاف حجر رشيد. أي إن ما يَلزم هو بروتين ذو تسلسل أحماض أمينية معروف، يُحدِّده جين ذو تسلسل قواعد معروف. في الواقع، ليست تلك هي الطريقة التي تُفكُّ بها الشفرة. بل ما يَحدث هو أنها تُفَك بواسطة «آلة مُترجِمة»؛ وهي الجزء من الخلية الذي يُخلِّق ببتيدًا ذا تسلسُل يمكن معرفته، إذا زُوِّد بجزء من الحمض النووي الريبوزي له تسلسُل معروف. لكن رغم ما به من تضليل، قاد التشبيه المستمد من مجال المعلومات إلى الحل. إذ لو كانت المُشكلة عومِلَت باعتبارها مسألة تخص كيمياء التفاعُلات بين البروتين والحمض النووي الريبوزي، لربما غابت عنَّا الإجابة حتى يومنا هذا.

    في مقال صادفته حين كنتُ على وشك الانتهاء من كتابة ذلك الفصل، يسرد ساركار (١٩٩٦) بشيء من التفصيل تاريخ فكرة «الشَّفرة الخالية من الفاصلات» (كريك وجريفيث وأورجل، ١٩٥٧). أتَّفق معه في أن ذلك أمر مُضلل، مع أني أشرت في موضع آخر (ماينارد سميث، ١٩٩٩) إلى أن تلك الفكرة واحدة من ألمع الأفكار التي تبيَّن خطؤها في تاريخ العلم. لكنها تظلُّ خاطئة. فهي تُوضِّح ببراعة حقيقة أن التشبيهات في العلوم يُمكن أن تكون مُضلِّلة بقدر ما هي مُنوِّرة. لكني أظن أن ساراكار كان حريصًا أكثر من اللازم على الإشارة إلى إخفاقات تشبيه المعلومات والتقليل من قيمة نجاحاته. فهو على سبيل المثال لا يُوضِّح أن تشبيه التشفير هو ما أدَّى أيضًا إلى اكتشاف العلاقة بين الحمض النووي والبروتين (كريك وآخرون، ١٩٦١)؛ باعتبارها كودونًا يُحافظ فيه على «إطار القراءة» الصحيح من خلال القراءة الثلاثية الدقيقة، والذي قد يُؤدي حدوث طفرة فيه تتسبَّب في «تغيير الإطار» إلى تدمير المعنى. من المثير للدهشة أن فرانسيس كريك شارك في تأليف كلتا الورقتين البحثيتَين. مثال آخر هو ادِّعاء ساركار أنه لا يمكن التنبؤ بتسلسُلات الأحماض الأمينية بواسطة الشفرة (بسبب تعقيدات مثل الإنترونات، والانحرافات عن الشفرة الوراثية العامة، وغيرها) وهو ادِّعاء مُضلِّل بشدة؛ فعلماء الأحياء يفعلون ذلك طوال الوقت.

  • (٤)

    يمكن تخيل تطور كائنات مُعقَّدة مُتكيِّفة دون شفرة وراثية. يتصور جودفري–سميث (٢٠٠٠) عالَمًا لا تلعَب فيه البروتينات الدور المحوري نفسه الذي تلعبه في عالمنا، بل تُستنسخ فيه تسلسلات الأحماض الأمينية دون تشفير. باختصار، هو يَقترح أن البروتينات يمكن أن تكون بمثابة نماذج لنفسها، باستخدام ٢٠ جزيئًا «مُوصلًا»، لكل منها طرفان متماثلان، يرتبط أحد الطرفَين بحمضٍ أميني في النموذج، بينما يرتبط الطرف الآخر بحمض أميني مُماثل في شريط مُخلَّق حديثًا. في هذا النظام، لن توجد «شفرة» تربط مجموعة من الجزيئات بمجموعة أخرى من الجزيئات المختلفة كيميائيًّا. أتَّفق في أن ذلك يمكن تصوره، وأنه لا وجود للشَّفرة فيه. لكني سأُجادل فيما يلي لإثبات أن مفهوم المعلومات، والتمايز بين الأسباب الجينية والبيئية في النمو، لن يقلَّ أهمية في عالم جودفري-سميث عنه في العالم الحقيقي.

(٤) الرمز و«الصدفة»

لم يَحُز كتاب جاك مونو «الصدفة والضرورة» (١٩٧١) على قبول الفلاسفة، بخاصة في العالم الأنجلو ساكسوني. لكنه تضمَّن على الأقل فكرة واحدة عميقة، وهي فكرة الصدفة أو عدم الحتمية (التي تُرجمت من المصطلح الفرنسي gratuité بغير دقة إلى gratuity في الإنجليزية وتَعني «العطية»). اكتشف جيكوب ومونو (١٩٦١) كيف يُمكن تنظيم عمل جين معيَّن. عمليًّا، يرتبط بروتين «مُثبِّط»، يُنتجه جين «مُنظِّم» ثانوي، بالجين ويوقف عمله. بعد ذلك يُمكن إعادة تفعيل الجين عن طريق «مُستحِث»، والذي يكون في العادة جزيئًا صغيرًا؛ جزيء اللاكتوز بالنِّسبة إلى هذا الجين. ما يحدث هو أن المُستحِث يرتبط بالبروتين المُنظِّم ويُغيِّر شكله، فيجعله لا يرتبط بالجين ويُثبطه. النقطة التي يُؤكِّدها مونو هي أن موضع ارتباط المستحِث بالبروتين المُنظِّم يختلف عن موضع ارتباط البروتين بالجين؛ فيؤدي المُستحِث تأثيره بتغيير شكل البروتين. نتيجة ذلك نظريًّا هي أن أي جزيء «مستحِث» يُمكنه تنشيط جين أو إيقاف عمله. بالطبع تخضع جميع التفاعلات لقوانين الكيمياء بالضرورة، لكن الكيمياء لا تُحتِّم أن تنظم مستحثات بعينها جينات بعينها. هذه الطبيعة الاعتباطية لعلم الأحياء الجزيئي هي ما أسماه مونو الصدفة.
أعتقد أن مما قد يُقرِّب استنتاج مونو للفهم هو التعبير عنه بالقول إنه في علم الأحياء الجزيئي تُعدُّ المستحثات والمثبطات «رمزية»؛ أي إنه بالاصطلاح السيميائي، لا يوجد ارتباط حتمي بين شَكلها (تركيبها الكيميائي) ومعناها (تنشيط الجين أو إيقافه). تعدُّ سمات أخرى لعلم الأحياء الجزيئي رمزية من تلك الناحية؛ على سبيل المثال الكودون CAC يشفر الهيستيدين لكن لا يُوجد سبب كيميائي يَمنعه من تشفير الجلايسين. (في هذا السياق، وجدتُ أن الفرق السيميائي بين الرمز والأيقونة والإشارة مُهمٌّ أيضًا في مجال التواصل الحيواني (ماينارد سميث وهاربر، ١٩٩٥).)

يتعرض ساركار (١٩٩٦) لمفهوم الصدفة لمونو في نقاش شيق. إذ يُفسِّر مفهوم مونو بأنه ادعاء بأن «التفسير السيبرنيطيقي لتنظيم عمل الجينات يفوق في قيمته التفسيرية نظيره الفيزيائي»، لكنه يقول إن ذلك الرأي لا يُعدُّ منطقيًّا إلا إذا تبين أنه توجد حالات أخرى لتنظيم عمل الجينات ذات طبيعة مشابهة غير مُشغِّل اللاكتوز الذي درسه مونو. واستنتج أن «محاولات تعميم نموذج المُشغِّل على تنظيم الجينات في حقيقيات النوى لم تُثمر عن أي نجاح». أعتقد أنه يصعب إيجاد عالم علم وراثة نمائي يوافقه الرأي. كما سأبين فيما يلي، أفكار مونو شكَّلت أساس البحث في ذلك المجال.

يذهب علماء اللغة إلى أنه لا يُمكن إلا للغة رمزية أن تنقل عددًا غير محدود من المعاني. وأعتقد أن الطبيعة الرمزية لعلم الأحياء الجزيئي هي التي تتيح لها عددًا لا نهائيًّا من الأشكال البيولوجية. سأعود إلى مشكلة الشكل لاحقًا، لكني أولًا سأَحكي كيف قادَتْني التشبيهات المستمدة من نظرية المعلومات إلى طريق مسدود، وفي الوقت نفسه جهَّزتني للاكتشافات الحالية في علم الوراثة النمائي.

(٥) قياس مقدار التطور

في عام ١٩٦٠ تقريبًا، تكوَّنت لديَّ فكرة أنه باستخدام نظرية المعلومات، بوسع المرء أن يقيس مقدار التطور على ثلاثة مستويات في آنٍ واحد؛ الجيني، والانتخابي، والتشكُّلي (المورفولوجي). أما الجانب الجيني فأمره سهل؛ تبلغ سعة القناة بالتقريب بتَّين لكلِّ قاعدة. تتعقَّد الأمور بوجود كميات كبيرة من الحمض النووي المكرَّر، لكن ذلك يُمكن وضعه في الاعتبار. وأما مستوى الانتخاب فصعب قياسه، لكنه ليس مستحيلًا. هب أن أحدًا سأل: «ما مقدار الانتخاب اللازم لبرمجة تسلسل عشوائي بدايةً؟» لو اعتبرنا أن فناء نصف عدد جماعةٍ ما نتيجةً للانتخاب بمثابة إضافة بتٍّ واحد من المعلومات، وهو اعتبار منطقي، فستتطلَّب برمجةُ كل قاعدة بتَّين من المعلومات. المشكلة أن التطور لا يبدأ من تسلسل عشوائي. ما يَحدث هو أن جينًا مبرمَجًا بالفعل (أو زمرة من الجينات) يُنسَخ، ثم يُعدِّل الانتخاب أحد نُسَخه. لكن بوسع المرء أن يُقدِّر بالتقريب، بالبتَّات، مقدار الانتخاب اللازم لبرمجة جينوم موجود. بالاستعانة بفكرة «تكلفة الانتخاب» التي وضعها هولدين (١٩٥٧)، قدَّم كيمورا (١٩٦١) تفسيرًا أبلغ لكيفية تجميع الانتخاب الطبيعي للمعلومات الوراثية في الجينوم.

الخطوة الصعبة هي قياس مقدار التشكل، لكن قبل أن نتطرق إلى هذا الأمر، أود أن أشير إلى أن قياس المعلومات الوراثية والانتخابية الموجودة في الوحدات نفسها له استخدام واحد، قد يكون ضئيل الأهمية. بين حين وآخر يخرج علينا شخصٌ ما، عادةً ما يكون عالم رياضيات، ليُعلن أن الزمن الذي مضى منذ نشأة الأرض ليس كافيًا لإحداث ذلك التنوع والتعقيد المُدهِش الذي نراه. الغريب في تلك التأكيدات التي قد تبدو في ظاهرها كمية، هو أنها لا تُخبرنا بمقدار الزمن الإضافي اللازم؛ أهو ضِعف الزمن المُنقضي، أم مليون ضِعف، أم ماذا؟ الطريقة الوحيدة التي أعرفها لإعطاء إجابة كَمِّية هي الإشارة إلى أنه لو قدَّر المرء بالتقريب كمية المعلومات الموجودة في الجينوم، وكمية المعلومات التي بُرمِجَت بواسطة الانتخاب في ٥ آلاف مليون عام، فسيجدُ أن ذلك الوقت كافٍ. لو تذكرنا أن معظم ذلك الوقت، كانت أسلافنا ميكروبات، فإننا نُقدِّر أن متوسط عدد الأجيال في العام الواحد ٢٠ جيلًا؛ ومن ثَم سنجد أن الانتخاب كان لدَيه ما يَكفي من الوقت لبرمجة الجينوم عشر مرات. لكن ذلك يفترض أن الجينوم يَحتوي على معلومات كافية لتحديد شكل الكائن البالغ. وهو افتراض منطقي؛ إذ يصعب تصور أن تلك المعلومات تأتي من مصدر آخر.

إذن ما مقدار المعلومات اللازم لتحديد شكل الكائن البالغ؟ من الواضح أنه لا يلزم تحديد طبيعة كل ذرة في الجسم وموضعها؛ إذ ليس كل شيء مُحدَّد. يُشير ذلك إلى أن السؤال هو عن مقدار المعلومات اللازم لتحديد تلك السمات التي يَتشاركها فردان لهما نمَطٌ جيني واحد؛ على سبيل المثال التوءم الأُحادي البويضة. للتبسيط، تخيل زوجين من الكائنات الثنائية الأبعاد (يسهل تطبيق المثال على الكائنات ثلاثية الأبعاد). كوِّن صورة لكلٍّ منهما في شكل مصفوفة من النقاط السوداء والبيضاء (التي هي في الواقع بكسلات: هنا أيضًا يُمكن تطبيق المثال على أكثر من نوعَين من البكسلات). ابدأ بعرض البكسلات بحجم دقيق: حينها سيختلف التوءم المُتطابق. ثم كبِّر حجم البكسلات بالتدريج، حتى تصير صورتا التوءم المتطابق مُتماثلتَين. في تلك الحالة يُساوي مقدار المعلومات اللازم عدد البكسلات في الصورة.

لا يلزم إلا وصف الطريقة لترى وجه الخطأ فيها. تخيَّل ثلاث صور باللونين الأبيض والأسود: الأولى نمط من النقاط العشوائية، والثانية لوحة «الموناليزا»، والثالثة دائرة سوداء على خلفية بيضاء. ستتطلَّب الأولى حتمًا مقدارًا من المعلومات مُساويًا لعدد البكسلات. أما لوحة «الموناليزا» فيُمكِن وصفها بعدد أقل من البتَّات، بسبب العلاقات بين النقاط أو البكسلات المُتجاورة، لكنها مع ذلك ستتطلب مقدارًا كبيرًا من المعلومات. أما الدائرة فيمكن وصفها بالقول إنه إذا كان ، فستكون البكسلات سوداء، عدا ذلك فالبكسلات بيضاء (باعتبار أن ab مركز الدائرة وr نصف قطرها). قد يقول قائل إن ذلك لا علاقة له بموضوعنا؛ لأنَّ الجينات لا دراية لها بالهندسة الإحداثية، لكن ذلك ليس صحيحًا. فمُعظَم الأشكال البسيطة — التي تعدُّ الدائرة مثالًا عليها — يمكن تكوينها بعمليات فيزيائية بسيطة، وعليه فإن كل ما يحتاج الجينوم لفعله هو تحديد بضع معاملات فيزيائية؛ على سبيل المثال، يُمكن تثبيت معدلات التفاعل بتحديد الإنزيمات.

المغالطة في منهج «البكسلات» تكمن في أن الجينوم ليس وصفًا للشكل البالغ بل هو مجموعة من التعليمات حول كيفية تكوينه؛ أي إنه بمثابة وصفة، لا مخطَّط تفصيلي.

(٦) هل الجينوم برنامج للنمو؟

أعتقد أنه لا يُوجد اعتراض جدي على الحديث عن وجود شفرة وراثية أو التأكيد على أن الجينات تُشفِّر تسلسُلات الأحماض الأمينية المكوِّنة للبروتينات. قطعًا، يتطلب الجين آلات الترجمة الموجودة في الخلية — الريبوزومات، والأحماض النووية الريبوزية الناقلة وغيرها — لكن ذلك لا يَنفي صحة التشبيه؛ فبرنامج الحاسوب يحتاج حاسوبًا كي يستطيع فعل أي شيء. بالنسبة إلى عالم عِلم الأحياء التطوُّري، القصد هو أن آلات الترجمة يمكنها أن تظل ثابتة في نسل ما (مع أنها تحتاج إلى برنامج جيني لا يَتغيَّر لتحديدها)، لكن التغيرات في البرنامج الجيني يُمكن أن تؤدي إلى تغيُّرات في البروتينات التي ينتجها.

قد يكون أحد الاعتراضات هو أن الجين يحدد فقط تسلسل الحِمض الأميني لبروتين، لكنه لا يحدد شكله المَطوي الثلاثي الأبعاد. في بعض الحالات، لو توافرت الظروف الفيزيائية والكيميائية الملائمة، سوف تَطوي سلسلة الأحماض الأمينية نفسها. الطي هو عملية ديناميكية معقَّدة؛ فلا يُمكن بعد التنبؤ بالبِنية الثلاثية الأبعاد من السلسلة. لكن قوانين الكيمياء والفيزياء لا تحتاج إلى أن تُشفَّر بواسطة الجينات؛ فهي معروفة وثابتة. في عملية التطور، يُمكن أن تُسبِّب التغيرات في الجينات تغيرات في البروتينات، بينما تظلُّ قوانين الكيمياء ثابتة.

لكن الكائن الحي أكثر من مجرَّد حاوية لبروتينات معينة. يتطلَّب النمو إنتاج بروتينات مختلفة في أوقات مُختلفة، وفي مواضع مختلفة. في الوقت الحالي، تحدث ثورة في فهمنا لتلك العملية. الصورة التي تتَّضح لنا تُصوِّر تسلسُلًا هرميًّا معقَّدًا للجينات المُنظِّمة لنشاط الجينات الأخرى. اليوم صار مفهوم الجينات المُرسِلة لإشارات لغيرها من الجينات مهمًّا بقدر ما كانت فكرة الشَّفرة الوراثية منذ ٤٠ عامًا.

في البداية لنذكر تجربة (هالدر وكالارتس وجيهرنج، ١٩٩٥). يُوجد لدى الفئران جين يدعى جين «انعدام العين» (والذي يعرف أيضًا باسم ptx3). يُؤدي حدوث طفرات في ذلك الجين (في متماثلات اللواقح) إلى نموِّ الفأر دون عينَين، مما يُشير إلى أن ذلك الجين في صورته الطبيعية التي لم تَطرأ عليها طفرة يلعب دورًا في نمو العين. نُقِل ذلك الجين الخاص بالفئران في صورته الطبيعية إلى ذبابة الفاكهة، الدروسوفيلا، ونُشِّط في مواضعَ عدة في ذبابة في طور النمو (هالدر وكالارتس وجيهرنج، ١٩٩٥). إذا نُشِّط الجين في ساق في طور النمو، فإن عينًا تنمو في ذلك الموضع؛ بالطبع لا تكون عين فأر بل عين ذبابة مُركَّبة. يُشير ذلك إلى أن الجين يرسل إشارة مفادها «اصنع عينًا هنا»؛ بعبارة أدق، هو يُفعِّل موضعيًّا جينات أخرى ذات صلة بتكوين العين.

لمَ قد يعمل جين خاصٌّ بالفئران في ذبابة؟ لأنه يفترض أن للفأر والذبابة سلفًا مشتركًا كان يوجد فيه سلف ذلك الجين منذ حوالي ٥٠٠ مليون سنة؛ وهذا ما أكَّده وجود جين في ذبابات الدروسوفيلا له تسلسل قواعد مشابه جدًّا لجين انعدام العين الموجود لدى الفئران. ماذا كان يفعل الجين في ذلك السلف البعيد؟ لا نعرف، لكن أحد التخمينات المعقولة هو أن ذلك السلف كان له زوجان من الأعضاء الحسية في رأسه — ربما خلية حساسة للضوء أو زمرة صغيرة من تلك الخلايا — وأن اختلاف تلك الخلايا عن خلايا البشرة العادية فعَّله الجين الموروث من ذلك السلف.

يُثير ذلك سؤالًا حول طبيعة الإشارات التي تنتقل. حاججتُ في موضع سابق بأن المستحِثات والمثبطات لنشاط الجينات رمزية؛ بمعنى أنه لا يوجد رابط كيميائي حتمي بين طبيعة مُستحِث وتأثيراته. في تجارب جيكوب ومونو الأصلية، ما فعَّل الجينات التي تؤيِّض سكر اللاكتوز هو وجود اللاكتوز في الوسط. وتلك سِمة تكيفية حتمًا؛ إذ لا فائدة من تفعيل الجينات إن لم تكن ستُؤدي وظيفة ما. لكن إن كان تفعيل تلك الجينات بواسطة سكر مختلف — المالتوز مثلًا — سيَمنحها ميزة انتخابية، فستكون التغيرات في الجينات التنظيمية التي أنتجت ذلك قد تطوَّرت لا محالة.

غير أن التجربة المذكورة آنفًا تُشير إلى أن الجين المسئول عن بدء نمو العين ظل باقيًا لمدة ٥٠٠ مليون عام. لو أنَّ الجينات رمزية، فلمَ قد يَحدث ذلك؟ فالكلمات رموز، وهي لا تبقى. فالكلمات التي تصف عنصرًا ما تتغيَّر مع الوقت، فلمَ إذن لم يتغيَّر الجين المستخدم في إنتاج العين؟ ويَصير السؤال أصعب إذا ما اعتبرنا حقيقة اكتساب الجينات المرسِلة للإشارات لمعانٍ جديدة. في التطوُّر، عادة ما يحدث أن يُنسَخ جين مُنظِّم، فتَحتفِظ إحدى النسختين بالوظيفة الأصلية، بينما يطرأ تغير طفيف على النسخة الأخرى فتكتسب وظيفة جديدة. أعتقد أنه يمكن تفسير احتفاظ العديد من الجينات المُرسِلة للإشارات بصورتها الأصلية كما يلي. عادة ما تكون الجينات المُنظِمة مرتَّبة في تسلسل هرمي: الجين «أ» يتحكم في الجينات «ب» و«ﺟ» و«د» … إلخ، وكل من الجينات «ب» و«ﺟ» و«د» يتحكَّم بدوره في جينات أخرى. يُرجح أن تكون التغيُّرات التطورية التكيفية تدريجية، وهذا يستبعد التغيُّرات التي تطرأ على الجين الأول في التسلسل الهرمي للجينات التنظيمية. ويرجح أن يكون جين «انعدام العين»، الذي يُحدد موضع نمو العين، جينًا أول في التسلسل، وعليه فقد ظلَّ باقيًا على صورته. لكن النقطة التي أودُّ إثباتها هنا هي أنه من الصعب حتى التفكير في المسألة دون تصوُّر أن الجينات تُرسِل إشارات، ودون إدراك أن تلك الإشارات رمزية.

حتى يومنا هذا، يدور حديث حول أن الجينات «ترسل إشارات» لجينات أخرى، وحول تطور «برمجة» الجينوم وما إلى ذلك. تغزو المصطلحات المعلوماتية علم الأحياء النمائي، كما غزت من قبل علم الأحياء الجزيئي. في القسم التالي، أُحاول أن أوضِّح أسباب ذلك الاستخدام للمُصطلحات.

(٧) نظرية التطور ومفهوم المعلومات في علم الأحياء

أبدأ بمفهوم عن المعلومات يتمتَّع بميزة الوضوح، لكنه سيَستبعد الاستخدام الحالي للمفهوم في علم الأحياء. يذهب دريتسكي (١٩٨١) إلى الآتي. إذا كان مُتغير ما، «أ»، مرتبطًا بمتغير ثانٍ «ب»، فسيصحُّ أن نقول إن «ب» يحمل معلومات عن «أ»؛ على سبيل المثال، إذا كان نزول المطر (أ) مرتبطًا بنوع معين من الغيوم (ب)، إذن نعرف من نوع الغيوم ما إذا كان المطر سيهطل. تعتمد تلك العلاقات على قوانين الفيزياء، وعلى العوامل المحلية التي يسميها دريتسكي «عوامل القناة».

في ضوء ذلك التعريف، من السهل أن نقول إن الجين يحمل معلومات عن شكل الكائن البالغ؛ فلو أن فردًا يحمل الجين المسئول عن الوَدانة، فستكون ذراعاه وساقاه قصيرة. لكن يُمكن أن نقول بالقدر نفسه من الثقة إن بيئة الرضيع تحمل معلومات عن نموه؛ إن كانت تنقصُه التغذية فسيكون وزنه أقل من الطبيعي. بعبارة بسيطة، إن بيئة الطفل تتنبَّأ بمستقبله بالتأكيد. لكن علماء الأحياء يُفرِّقون بين نوعَين من التسلسلات السببية — الجينية والبيئية، أو «الطبيعة» و«التنشئة» — لأسباب عدة. يرجح أن تورَّث الاختلافات الناتجة عن الطبيعة، أما تلك الناتجة عن التنشئة فلا تورَّث؛ التغيرات التطورية هي تغيُّرات ناتجة عن الطبيعة لا التنشئة؛ فالسمات التي تُساعد الكائن الحي على التكيف على بيئته ناتجة عن الطبيعة على الأرجح. لتلك الأسباب، صار التمييز بين الطبيعة والتنشئة مبدأً أساسيًّا في علم الأحياء. بالطبع ذلك التمييز مُمكن دون استخدام مفهوم المعلومات أو تطبيقه على الأسباب الجينية بصفة خاصة. لكن كما تُبيِّن الأمثلة التي ناقشناها آنفًا استُخدِمَت اللغة المعلوماتية لوصف الأسباب الجينية في مقابل الأسباب البيئية. وأودُّ أن أُحاول تبرير ذلك الاستخدام فيما يلي.

سوف أحاول إثبات أن ذلك التمييز لا يُبرَّر إلا إذا استُخدِم مفهوم المعلومات في علم الأحياء فيما يخص الأسباب التي تتَّسم بسمة القصدية دون غيرها (دينيت، ١٩٨٧). في علم الأحياء، العبارة القائلة بأن «أ» يحمل معلومات عن «ب» تُشير ضمنًا إلى أن «أ» اتخذ الشكل الذي هو عليه لأنه يحمل تلك المعلومات. جزيء الحمض النووي له تسلسل معين لأنه يُحدد بروتينًا معينًا، لكن السحابة لا تكون سوداء لأنها تنذر بهطول المطر. عنصر القصدية ذلك نابع من الانتخاب الطبيعي.

سوف أبدأ بعرض تشبيه مُستمد من الهندسة. يريد مهندس مهتم بالخوارزميات الجينية تصميم برنامج حاسوبي وظيفته لعب لعبة تنافسية. إنه يختار لعبة «الثعلب والأوزات» لبساطتها، وهي لعبة تُمارس على لوح داما (لوح مقسم إلى مربعات) تحاول فيها أربع «أوزات» حصار «ثعلب». (تصادف أني ساهمت في «تطور» برنامج للعب تلك اللعبة بالتحديد منذ وقت طويل في أربعينيات القرن العشرين. دون حاسوب، لم أستطع التطرُّق إلى ألعاب أكثر تعقيدًا، لكن لعبة الثعلب والأوزات كانت بسيطة بما يكفي.) أول ما سيفعله المهندس هو وضع مجموعة من «القواعد» تتبعُها الأوزات (على سبيل المثال، البقاء في صف واحد، وعدم ترك فجوات بينها، والبقاء قبالة الثعلب). لكل قاعدة من تلك القواعد معامل واحد أو أكثر (على سبيل المثال، في حالة قاعدة الفجوات تحدد المعاملات موضع أي فجوات ممكنة). بعد ذلك يجعل سلسلة البتَّات تحدد تلك المعاملات، ودرجة الأهمية التي ستُمنَح لكل من القواعد المختلفة عند اختيار الخطوة التالية. ثم يُجري تجربة خوارزمية جينية تقليدية، إذ يبدأ بمجموعة من السلاسل العشوائية، ويدع كلًّا منها تلعب أمام ثعلب ماهر، ثم يختار أنجح تلك السلاسل، ثم يُولِّد مجموعة جديدة من السلاسل بطفرات عشوائية. في لعبة بسيطة مثل لعبة الثعلب والأوزات، سيَنتج في النهاية برنامج يفوز أمام جميع استراتيجيات الثعلب؛ تكون الأمور أكثر تعقيدًا بعض الشيء بالنسبة للعبة الشطرنج. تلك العملية موضَّحة في الشكل ٧-٢أ.
fig2
شكل ٧-٢: مقارنة بين عملية انتخاب «خوارزمية جينية» للعب لعبة «الثعلب والأوزات» (أ) وعملية تطور بيولوجي (ب).
لو أن المهندس كتب ببساطة برنامجًا مُلائِمًا بدلًا من استخدامه نهج الخوارزمية الجينية، لا أظن أن أحدًا كان سيَعترض على القول بأن البرنامج يحمل معلومات، أو على الأقل تعليمات تُمثل مقاصده. بذلك المثال الذي ضربته، أود القول إنه في العملية الموضحة في الشكل ٧-٢أ تحمل سلسلة البتَّات معلومات برمجها الانتخاب لا المهندس. ذلك الاستخدام يُبرِّره حقيقة أنه لو عُلِّمَت كل سلسلة بتَّات والتحركات التي أنتجتها، فسيكون من المستحيل معرفة ما إذا كان المهندس هو المصمم المباشر لها، أم أنها صُمِّمت بواسطة الانتخاب من بين خوارزميات جينية.
عملية التطور البيولوجي موضحة في الشكل ٧-٢ب. وهو يَختلف عن الشكل ٧-٢أ في أمرين. الأول هو وجود مرحلة تشفير. والثاني هو أن الانتخاب المبني على الفوز في اللعبة يُناظره البقاء والتكاثر («الصلاحية») في بيئة معيَّنة. أنا لا أظنُّ أن الاختلاف الثاني مهم.

أعتقد أن المقارنة بين الشكلَين «أ» و«ب» تُبرِّر قول علماء الأحياء بأن الحمض النووي يحوي معلومات برمجها الانتخاب الطبيعي؛ وأن تلك المعلومات تُشفِّر تسلسلات الأحماض الأمينية المكوِّنة للبروتينات؛ وأنَّ الحمض النووي والبروتينات يحملان تعليمات أو برنامجًا لنمو الكائن الحي، لكن بطريقة ما غير مفهومة بالقدر نفسه من الوضوح؛ وأن الانتخاب الطبيعي للكائنات يُغير المعلومات الموجودة في الجينوم؛ وأخيرًا أنَّ المعلومات التي يَحملها الجينوم «ذات معنى»؛ أي إنها تَصنع كائنًا حيًّا قادرًا على الصمود في البيئة التي جرى فيها الانتخاب.

يَكمن وجه الضعف في هذَين النموذجَين، الهندسي والبيولوجي، في أنهما لا يُخبراننا بمصدر «القواعد». في النموذج الهندسي، يَعتمد نجاح العمَلية على البراعة في اختيار القواعد. وفي النموذج البيولوجي، تَعتمِد القواعد على قوانين الفيزياء والكيمياء؛ فالكائنات الحيَّة لا يلزمها ابتكار أو تطوير قواعد لإخبار سلسلة أحماض أمينية بطريقة الطي. لكن تُوجد قواعد صادرة من مُستوى أعلى، استنادًا إلى الحقائق الآتية؛ حقيقة أن الخلايا تَنقسِم على نحو مُتكرِّر؛ وأن كل خلية تحتوي على جينوم كامل؛ وأن الجين يمكن تفعيله أو إيقافه بواسطة جينات أخرى؛ وأن حالات تفعيل أو إيقاف الجين يُمكن أن تنتقل بواسطة انقسام الخلايا إلى خلايا بنوية. تُعنى الأبحاث في مجال علم الأحياء النمائي بتحديد الجينات المُنظِّمة، وبتحديد القواعد العليا ذات المعاملات التي تتحكَّم بها الجينات.

ينبغي الآن أن يكون سبب رغبة علماء الأحياء في التمييز بين الأسباب الجينية والبيئية قد اتضح. تُمثِّل «عوامل القناة» البيئة في الشكل ٧-٢ب. قوانين الفيزياء لا تتغيَّر، لكن البيئة المحلية قد تتغير. التغيرات في البيئة ليست مصدرًا للمعلومات في النظام بل مصدر للتشويش. أحيانًا، تتكيَّف الكائنات مع التغيُّرات في البيئة أثناء دورة حياتها، دون تطور جيني. على سبيل المثال، تتكوَّن الصبغة في بشرة البشر الذين يتعرَّضون إلى ضوء الشمس القوي، فتحميهم من الأشعة فوق البنفسجية. تلك الاستجابات التكيُّفية تقتضي أن يكون الجينوم قد تطوَّر ضمن الانتخاب الطبيعي كي يتأقلمَ مع بيئة متباينة الظروف. ما يُورث ليس الصبغة الداكنة نفسها، بل الآلية الجينية التي تتسبَّب في ظهورها استجابة للتعرض لضوء الشمس.

كان ذلك سردًا للتاريخ الطبيعي لمفهوم المعلومات في علم الأحياء، لا تحليلًا فلسفيًّا. لعب ذلك المفهوم دورًا رئيسيًّا في تطور علم الجينات الجزيئي. صورة التطور التي تتكوَّن هي صورة لتسلسُل هرمي معقَّد للجينات المُنظِّمة، ولنظام إرسال إشارات رمزي في جوهره. يَعتمد ذلك النظام على المعلومات الجينية، لكن الطريقة التي تكون بها تلك المعلومات مسئولة عن الشكل البيولوجي تَختلِف كثيرًا عن الطريقة التي يعمل بها برنامج حاسوبي مما يجعل التشابه بينهما غير مفيد كثيرًا في رأيي؛ مع أنه أقرب إلى الحقيقة من فكرة أن الأنظمة الديناميكية المعقَّدة ستُولد أشكالًا بيولوجية «دون مقابل». مفهوم الصدفة الذي وضعه مونو هو مفهوم أقل شيوعًا لكنه محوري بالنِّسبة إلى علم الأحياء الجزيئي وللنمو، وأعتقد أن أفضل طريقة للتعبير عنه هي بالقول إن الإشارات الجزيئية تُعدُّ رمزية في علم الأحياء.

باعتبار الدور المحوري الذي لعبته، ولا تزال، الأفكار المُستقاة من دراسة التواصُل البشَري في علم الأحياء، أجد من الغريب أن فلاسفة علم الأحياء لم يُولوها القدر الكافي من العناية. أعتقد أن ذلك موضوع يستحقُّ أن يُدرس بإمعان.

(٨) الاستنتاجات

في اللغة الدارجة، تُستَخدَم كلمة «المعلومات» في سياقَين مختلفَين. إذ قد تُستخدم دون أن تنطوي على معانٍ دلالية؛ على سبيل المثال، قد نقول إنَّ ذلك الشكل من الغيوم يعطي معلومات عن احتمالية نزول المطر. في تلك الحالات، لن يعتقد أحد أن الغيمة لها ذلك الشكل لأنها تُعطي معلومات. في المقابل، تحوي تنبؤات حالة الطقس معلومات عن احتمالية سقوط الأمطار، وتكون على صورتها تلك لأنها تنطوي على تلك المعلومات. يُمكن التعبير عن الفارق بالقول إن تنبؤات الطقس قصدية (دينيت، ١٩٨٧) بينما الغيمة ليست كذلك. مفهوم المعلومات المُستخدَم في علم الأحياء هو مِن النوع الأول؛ فهو يشير إلى وجود قصدية. لهذا السبب نقول إن الجينات تحمل معلومات أثناء النمو، بينما لا نقول ذلك على التغيرات البيئية.

يمكن القول إن الجين يحمل معلومات، لكن ماذا عن البروتين الذي يُشفره ذلك الجين؟ أعتقد أنه يجب تمييز الفرق بين حالتين. قد يكون للبروتين وظيفة تُحدِّدها بنيته مباشرة؛ على سبيل المثال، قد يكون إنزيمًا معيَّنًا أو أحد الألياف الانقباضية. يمكن أيضًا أن يكون له وظيفة تنظيمية، كأن يُفعِّل جينات أخرى أو يبطل عملها. تلك الوظائف التنظيمية تكون اعتباطية، أو رمزية. فهي تَعتمد على تسلسلات حمض نووي مُستقبِلة معيَّنة، تطورت بدورها عن طريق الانتخاب الطبيعي. يعتمد نشاط إنزيم ما على قوانين الكيمياء وعلى البيئة الكيميائية (على سبيل المثال، وجود ركيزة مُناسبة)، لكن لا تُوجد بنية يمكن اعتبارها «مُستَقبِلًا» متطورًا ﻟ «رسالة» مصدرها الإنزيم. على النقيض، يعتمد تأثير البروتين المُنظِّم على مُستقبِل متطوِّر للمعلومات التي يحملها؛ جين «انعدام العين» يُرسل إشارة مفادها «اصنع عينًا هنا»، لكن ذلك راجع إلى أن الجينات المسئولة عن صنع العين لها تسلسُل مُستقبلات ملائم لذلك. بالمثل، يَعتمد تأثير الجين على آلة الترجمة في الخلية: الريبوسومات والأحماض النووية الريبوزية الناقلة والإنزيمات المُعيِّنة. لتلك الأسباب، أودُّ القول إن الجينات والبروتينات التنظيمية تَحمل معلومات، على عكس الإنزيمات.

توصَّل ستيرلني وجريفيث (١٩٩٩) إلى استنتاجٍ مُشابه حول مفهوم المعلومات في علم الأحياء. على وجه التحديد، كتَبا يقولان: «المعلومات القصدية تبدو دون سواها مُرشحة أفضل من حيث كون الجينات تَحمل المعلومات النمائية.» لتبرير ذلك الرأي، يُضيفان: «أحد الاختبارات التمييزية للمعلومات القَصدية أو الدلالية هو أن الحديث عن الخطأ أو التمثيل الخاطئ يكون منطقيًّا.» في علم الأحياء، التمثيل الخاطئ مُحتمل الحدوث؛ إذ توجد بنية متطورة تحمل المعلومات، وبنية متطوِّرة تستقبله.

في التواصُل البشَري، يعتمد شكل الرسالة على فاعل بشَري ذكي؛ فتنبؤات الطقس يكتبها البشر (أو الحواسيب التي برمجها البشر)، وهي تستهدف إحداث تغيير في سلوك من يقرؤها من البشر. يوجد مُرسلون ومُستقبلون أذكياء. كيف يمكن إذن أن يُقال إن الجينوم قصدي؟ ناقشتُ فكرة أن ما جعل الجينوم على هيئته تلك هو ملايين الأعوام من الانتخاب، الذي يحابي الجينومات التي تُؤدِّي إلى تطور كائنات قادرة على البقاء في بيئة معينة. نتيجة لذلك، يكون للجينوم تسلسل القواعد الذي يَمتلكه لأنه يُنتِج كائنًا متكيفًا. من هذا الوجه، تعد الجينومات قصدية. التصميم الذكي والانتخاب الطبيعي لهما نتائج مماثلة. أحد تبريرات ذلك الرأي هو أن البرامج التي صممها البشر لإنتاج نتيجة ما تشبه البرامج التي ينتجها الانتخاب غير العاقل، بل قد تكون مطابقة لها.

المراجع

  • Apter, M. J., and Wolpert, L. (1965), Cybernetics and development I. Information theory, Journal of Theoretical Biology, 8: 244–257.
  • Crick, F. H. C., Griffith, J. S., and Orgel, L. E. (1957), Codes without commas, Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America, 43: 416–421.
  • Crick, F. H. C., Barnett, L., Brenner, S., and Watts-Tobin, R. J. (1961), General nature of the genetic code, Nature, 192: 1227–1232.
  • Dennett, D. (1987), The Intentional Stance, Cambridge, MA: MIT Press.
  • Dretske, F. (1981), Knowledge and the Flow of Information, Cambridge, MA: MIT Press.
  • Gatlin, L. L. (1972), Information Theory and the Living System, New York: Columbia University Press.
  • Godfrey-Smith, P. (2000), On the theoretical role of “genetic coding,” Philosophy of Science, 67: 26–44.
  • Haldane, J. B. S. (1957), The cost of natural selection, Journal of Genetics, 55: 511–524.
  • Halder, G., Callaerts, P., and Gehring, W. J. (1995), Induction of ectopic eyes by targeted expression of the eyeless gene in Drosophila, Science, 267: 1758–1791.
  • Jacob, F., and Monod, J. (1961), On the regulation of gene activity, Cold Spring Harbor Symposia on Quantitative Biology, 26: 193–211.
  • Kimura, M. (1961), Natural selection as a process of accumulating genetic information in adaptive evolution, Genetical Research, Cambridge, 2: 127–140.
  • Mahner, M., and Bunge, M. (1997), Foundations of Biophilosophy, Berlin, Heidelberg, New York: Springer-Verlag.
  • Maynard Smith, J. (1999), Too good to be true, Nature, 400: 223.
  • Maynard Smith, J., and Harper, D. G. C. (1995), Animal signals: Models and terminology, Journal of Theoretical Biology, 177: 305–311.
  • Monod, J. (1971), Chance and Necessity, New York: Knopf.
  • Sarkar, S. (1996), Biological information: A skeptical look at some central dogmas of molecular biology, In The Philosophy and History of Molecular Biology, ed. S. Sarkar, Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 157–231.
  • Shannon, C. E. (1948), A mathematical theory of communication, Bell System Technical Journal, 27: 279–423, 623–656.
  • Shannon, C. E., and Weaver, W. (1949), The Mathematical Theory of Communication, Urbana, IL: University of Illinois Press.
  • Sterelny, K., and Griffiths, P. E. (1999), Sex and Death: An Introduction to the Philosophy of Biology, Chicago, IL: University of Chicago Press.
  • Szathmary, E., and Maynard Smith, J. (1995), The major evolutionary transitions, Nature, 374: 227–232.
  • Weismann, A. (1904), The Evolution Theory, trans. J. A. and M. R. Thomson, London: Edward Arnold.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤