الفصل الأول

بدايات التنقيب في فلسطين واكتشاف أورشليم القديمة

بدأت قصة التنقيب الأثري في فلسطين عام ١٨٦٥م، مع تشكيل هيئة بريطانية أُطلق عليها اسم صندوق التنقيب في فلسطين Palestine Exploration Fund. تشكلت الهيئة برعاية الملكة فيكتوريا، ورئاسة أعلى مرجع ديني في المملكة؛ وهو أسقف كانتربري، وعضويةِ ثمانية وسبعين من أبرز شخصيات المجتمع الدينية والاجتماعية في ذلك الوقت. وقد بلغ عدد المتبرعين الأوائل للصندوق ٢٧٢ متبرعًا، بينهم الملكة التي تبرعت بمبلغ مئة جنيه إسترليني، وبلغت حصيلة التبرعات ٣٠٤٥ جنيهًا.
أما الهدف من إحداث هذا الصندوق، فهو السعي وراء معلومات أركيولوجية متزامنة مع سجلَّات الكتاب المقدس. وعلى حد تعبير بيان تأسيس الصندوق، فإن أهدافَه تتركَّز في: «التحري الدقيق والمنهجي لآثار وطبوغرافية وجيولوجية وعادات وتقاليد الأرض المقدسة؛ من أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس.»١ ولعل مما زاد في حماسة الجهات التي تنادت لتشكيل الهيئة؛ النجاحات التي حققتها الأركيولوجيا البريطانية في العراق، عندما اكتشف المنقِّب اللامع هنري لايارد أهم مواقع الحضارة الآشورية في نمرود ونينوى، وجلب إلى المتحف البريطاني عددًا من أهم روائع النحت الآشوري، بينها المسَلَّة المعروفة باسم المسلة السوداء؛ وهي نصب نقش عليه الملك شلمنصر الثالث (٨٥٩–٨٢٤ق.م.) كتاباتٍ وصورًا تمجِّد انتصاراته في بلاد الشام، بينها صورة تمثِّل رجلًا في حُلَّة كنعانية ساجدًا عند قدمَيِ الملك الآشوري، وتحت الصورة كتابةٌ تقول: «جزية ياهو بن عمري». وكانت هذه الجملة بمثابة أول نص خارجي مكتشَف يتقاطع مع أي حدث من أحداث الرواية التوراتية؛ ذلك أن ياهو المذكور هنا هو الملك العاشر في سلسلة ملوك إسرائيل؛ على ما ورد في سفر الملوك الثاني من الكتاب.
بعد عامين من المسح التمهيدي ورسم الخرائط لقسم كبير من أراضي فلسطين، وصلت الحملة التنقيبية الأولى برئاسة الكابتن وارن R. E. Warren؛ الضابط في الجيش البريطاني، وهدفها القدس. كانت القدس في ذلك الوقت محصورةً ضمن سورها القديم الذي رمَّمه وأعاد بناءه السلطان العثماني سليمان القانوني في القرن السادس عشر؛ مستفيدًا من خط أساسات السور الروماني الذي بُني في مطلع القرن الثاني الميلادي، عندما شيد الإمبراطور هادريان مدينة إيليا كابيتولينا فوق أنقاض مدينة أورشليم التي سوَّاها بالتراب. وقد استخدم المنقِّب وارن الخريطة التي أعدها المسح التمهيدي لمدينة القدس؛ من أجل تحديد مواقع التنقيب داخل السور، كما اعتمد على كتاب التوراة، وعلى كتابَي المؤرخ اليهودي يوسيفوس من القرن الأول الميلادي — وهما: «تاريخ اليهود» و«الحروب اليهودية» — اللذين يحتويان على وصف لمعالم المدينة في القرن الأول، ولكن مشكلة هذه المراجع أن التوراة يفتقر إلى الدقة في تحديد الملامح الطبوغرافية، أما مؤلَّفا يوسيفوس فلا يصلُحان إلا لتحديد بعض المعالم المعاصرة له؛ لأنه اعتمد، فيما يتعلق بالفترات الأقدم، على القصص والروايات المتداولة أكثرَ من اعتماده على التحقيق التاريخي.٢
أجرى وارن عددًا من الأسبار في المواقع المشار إليها بأرقام داخل دوائر على الخريطة الموضحة في الشكل رقم ١-١، ولكن النتائج لم تكن مشجعةً؛ لأن أقدم ما توصل إليه يعود إلى العصر البيزنطي؛ لذلك قرر التوجه إلى منطقة الحرم الشريف التي يُعتقد بأنها موقع هيكل سليمان القديم. وهنا اصطدم برفض السلطات العثمانية التي لم تسمح له بالتنقيب داخل سور الحرم؛ رغم تقديرها للهيئة السامية التي تقف وراء مشروع التنقيب. ثم اتفق الطرفان على إجراء الأسبار حول الحرم وعلى بُعد بضعة أمتار من السور الخارجي.
fig2
شكل ١-١: مدينة القدس في القرن اﻟ١٩م.
يقوم الحرم فوق مصطبة حجرية هائلة ترتكز على ذروة سلسلة تلال القدس الشرقية، وترتكز بجدارها الشرقي على أرضية وادي قدرون، وبجدارها الغربي على أرضية وادي تبيريون؛ كما دعاه يوسيفوس، وهو الوادي المركزي الذي يقع بين سلسلة الهضاب الشرقية للقدس والهضاب الغربية (انظر المخطط في الشكل رقم ١-٢A). فلقد حلت هذه التقنية المعمارية مشكلة تشييد معبد واسع على ذروة الهضبة الضيقة التي لا يتجاوز عرضها ثمانين مترًا، وسهلت فرش أرضية فوق سطح المصطبة تتسع لباحات المعبد وبنائه الرئيسي وملحقاته.
fig3
شكل ١-٢: a-3 مصطبة الحرم الشريف المتطابقة مع مصطبة هيكل هيرود الكبير. b-3 مصطبة هيكل زربابل المدعو بالهيكل الثاني.

كانت خطة وارن تستهدف الوصول إلى الأساسات السفلية للمصطبة التي ترتكز على القاع الصخري للتل؛ من أجل تحديد تاريخ بنائها. فمن المفترض أن هيكل أورشليم قد مر بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: هي هيكل سليمان الذي يرجع إلى أواسط القرن العاشر قبل الميلاد، والذي تهدم مع بقية أورشليم في حملة نبوخذ نصر ملك بابل عام ٥٨٧ق.م. والمرحلة الثانية: هي هيكل زرُبابل الذي بناه العائدون من السبي البابلي على أنقاض هيكل سليمان حوالي عام ٥١٦ق.م.، ويُدعى أيضًا بالهيكل الثاني. أما المرحلة الثالثة فهي توسيعات هيرود الكبير؛ الملك الذي عيَّنه الرومان لحكم أورشليم من عام ٣٧ق.م. إلى عام ٤ق.م.، فقد كان هذا الملك ذو الأصل العربي محبًّا للعمران وتشييد المنشآت الضخمة في عاصمته وفي خارجها، وقام في سياق نشاطاته هذه بتوسيع هيكل زرُبابل، وزاد مساحته إلى الضعف؛ وذلك بتوسيع المصطبة القديمة وترميم المعبد والإضافة عليه.

من أجل الوصول إلى الأساسات السفلية للمصطبة، عمَد المنقِّب وارن إلى حفر أنفاق شاقولية موازية لجدار المصطبة، بعمق ثلاثين مترًا أو أكثر؛ وصولًا إلى القاعدة الصخرية التي يرتكز عليها الأساس تحت ذلك الردم الهائل من الركام الترابي. وعند ملامسة القاع اتجه نحو الأساس بدهليز أفقي حتى كشف عن حجارته. وقد استطاع وارن باستخدام هذه الطريقة الشاقة والخطرة الدورانَ حول جدران المصطبة الأربعة، والكشفَ عن أساساتها، وتبين له أن الأقسام المطمورة في التراب هي استمرار للأقسام الظاهرة فوقه، وأن الأسلوب المتبع في بنائها وطريقة نحت ورصف حجارتها تنتمي إلى النمط المعماري لعصر هيرود الكبير، وبذلك تم التأكد منذ ذلك الوقت المبكر من أن البقية الباقية من هيكل أورشليم — وهي مصطبته الهائلة — لا علاقة لها بهيكل سليمان ولا بالهيكل الثاني، وأن المسجد الأقصى وقُبَّة الصخرة وبقية المنشآت الإسلامية قد قامت مباشرةً فوق أرضيات معبد هيرود، التي جرى ترميمها والإفادة منها.

يعطي الشكل رقم ١-٣ فكرة عن تقنية وارن، وفيه نرى النفق الأول الذي حفره عند الزاوية الجنوبية الشرقية للمصطبة، والطريقة التي كان يتم بواسطتها إنزال وسحب العاملين في النفق، كما نرى حجارة الأساس التي كشف عنها الدهليز الأفقي، ونلاحظ صلتها ببقية جدار المصطبة.
بعد حوالي قرن من الزمان أكدت تنقيبات حملة كاثلين كينيون، التي جرت بين عامي ١٩٦١م و١٩٦٧م، نتائج المنقِّب وارن بخصوص مصطبة الحرم الشريف وعلاقتها بالعمارة الهيرودية، ولكن المنقبة كينيون طرحت رأيًّا جديدًا مفاده أن مهندسي الملك هيرود قد وسَّعوا المصطبة القديمة انطلاقًا من جدارها الشرقي الذي استفادوا منه وأضافوا إليه، وأن هذا الجدار ما زال قائمًا ويشكل جزءًا من الجدار الشرقي لمصطبة هيرود. فلقد لاحظت كينيون بعد إزالة الركام الترابي عن الجدار الشرقي أن هذا الجدار يتألف من قسمين يلتقيان عند خط يقع على مسافة ٣٠ مترًا من الزاوية الجنوبية الشرقية للمصطبة، وأن القسم الشمالي من الجدار مبني بحجارة محدَّبة وخشنة؛ على عكس القسم الجنوبي المبني بحجارة ملساء منحوتة بأسلوب العصر الهيرودي (انظر الصورة في الشكل رقم ١ في القسم المصور آخر الكتاب)، ثم قادها استعراض أنماط البناء ونَحْت الحجارة التي كانت سائدةً خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، إلى نتيجة مفادها أن القسم الشمالي من الجدار الشرقي الذي تختلف حجارته عن الحجارة الهيرودية في القسم الجنوبي؛ ينتمي إلى نمط فينيقيٍّ كان سائدًا في عدد من مدن الساحل خلال القرن السادس قبل الميلاد، وأنه الجدار الباقي من مصطبة زربابل التي بُنيت (أو رُممت) حوالي عام ٥١٦ق.م. أما بقية جدران المصطبة القديمة، فقد استوعبتها التوسعات الهيرودية في الاتجاهات الثلاثة الباقية، ولم يبق لها أثر (انظر مخطط كينيون في الشكل السابق رقم ١-٢؛ الذي يوضح الصلة بين مصطبة هيرود ومصطبة زربابل الأقدم). ومع ذلك فإن كينيون تعترف بعدم وجود بينات أثرية ستراتيغرافية٣ تدعم نظريتها هذه.
fig4
شكل ١-٣: أحد أسبار المنقب وارن الشاقولية حول مصطبة الحرم الشريف.
هذا، وتلخص السيدة كينيون نتائجها بخصوص هيكل أورشليم بقولها: «إن المصطبة القائمة اليوم هي كل ما بقي لنا من هيكل هيرود الذي يعود إلى نهاية القرن الأول قبل الميلاد، فبعد تهديم المعبد من قِبل الرومان في حملتهم على أورشليم عام ٧٠ ميلاديًّا، تم استخدام حجارته في تشييد أبنية مدينة إيليا كابيتولينا الرومانية، وما بقي من الحجارة جرى الإفادة منه في الفترة البيزنطية والإسلامية. وحتى إذا سمحت الظروف بالتنقيب تحت الحرم الشريف وقبة الصخرة، والذي سيكون من نتيجته تخريب مكان على غاية من الجمال والقداسة؛ فإن من المؤكد أن المنقِّبين لن يعثروا على شيء يُذكر؛ لأن أرضياتِ الحرم الشريف تقوم فوق القاعدة الصخرية للتل مباشرةً. إن جزءًا من هذه القاعدة الصخرية يمكن رؤيته الآن تحت قبة الصخرة، ويُدعى الصخرة المقدسة.»٤
على أن أهم ما تركته لنا حملةُ وارن التنقيبية الأولى، هو اكتشاف جدار ضخم ينطلق من الزاوية الجنوبية الشرقية للمصطبة باتجاه الجنوب. وكانت ضخامة الجدار تؤكد كونه سور مدينة، فتابعه وارن بحفرياته مسافةً قصيرةً ثم توقف بعد أن تأكد لديه بأنه قد اكتشف سور مدينة أورشليم القديمة، وأن المدينة التي يبحث عنها ليست تحت مدينة القدس الحالية، بل تقع إلى الجنوب من جدار المصطبة الجنوبي، وتمتد على شريط ضيق فوق هضبة أوفيل (انظر مخطط كينيون في الشكل رقم ١-٤). بعد ذلك عملت الحملات التنقيبية التالية على كشف بقية أساسات السور الشرقي، ثم جاءت حملة كاثلين كينيون في مطلع ستينيات القرن العشرين؛ لتكشف عن بقية الأساسات، وترسُمَ المخطط التقريبي لأورشليم القرن العاشر قبل الميلاد، التي يُفترض أنها كانت عاصمة مملكة داود وسليمان، ومقرًّا لإدارة ما يُدعى بالمملكة الموحدة لكل القبائل العبرانية. ولكن السيدة كينيون قد ميزت في الموقع بين مستويين أثريين؛ الأول: هو أورشليم اليبوسية٥ التي ترجع إلى ما قبل القرن العاشر قبل الميلاد، وتقع على مسافة ٢٠٠ متر من الجدار الجنوبي للمصطبة، والمستوى الثاني: هو التوسعات التي عزَتْها للملك سليمان، وتقع بين الجدار الجنوبي للمصطبة والسور الشمالي للمدينة اليبوسية.

في الفصول الثلاثة القادمة سوف نبسط المسائل التاريخية والأركيولوجية المتعلقة بأورشليم اليبوسية وأورشليم داود وسليمان، ونقارن حصيلتنا مع الرواية التوراتية.

fig5
شكل ١-٤: حدود سور أورشليم القديمة كما رسمته كينيون، وتدعو كينيون هذا المخطط بأورشليم عصر سليمان.
١  من أجل هذا المقتبس وما يليه من قصة اكتشاف أورشليم، راجع الفصل الأول من كتاب:
Kathleen Kenyon, Digging Up Jerusalem, London 1974.
٢  مصدرنا الرئيسي عن قصة اكتشاف أورشليم هو كتاب المنقبة البريطانية كاثلين كينيون:
Kathleen Kenyon, Digging Up Jerusalem, London 1974.
٣  الستراتيغرافيا stratigraphy هي أسلوب حديث في تأريخ البنى المعمارية المطمورة في التراب؛ اعتمادًا على فحص اللُّقى الأثرية الموجودة في الردم الترابي مثل كسرات الفخار وما إليها.
٤  Kathleen Kenyon, Digging Up Jerusalem, p. 110.
٥  نسبةً إلى اليبوسيين الكنعانيين من سكانها القدماء، وقد دُعيت أورشليم مراتٍ قليلةً في التوراة بالاسم يبوس، ولكن ينبغي التنويه هنا إلى أن الاسم يبوس غير وارد في السجلات الخارجية، ولا يوجد لدينا أي نص يذكره خارج التوراة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤