الفصل العاشر

مملكة يهوذا الكنعانية

في نهاية عصر الحديد الأول (١٠٠٠ق.م.)، عندما كانت منطقة الهضاب المركزية قد امتلأت بما لا يقل عن ٢٠٠ قرية جديدة، كانت مرتفعات يهوذا خالية تقريبًا، وفيما عدا بضعة مستقرات زراعية لا تزيد كثيرًا عن أصابع اليدين، فإن المنطقة كانت موئلًا للجماعات الرعوية التي جاءتها من البوادي الشرقية والجنوبية، والتي كانت تنتقل بقطعانها طلبًا للمرعي، وعندما بدأ خط الجفاف بالتراجع نحو الجنوب بعد أن صعِد إلى مسافة قصيرة من أورشليم خلال فترة الجفاف الميسيني، أخذت زراعة الزيتون بالانتعاش مع مطلع القرن العاشر، وازداد عدد المستقرات الزراعية إلى ٣٤ قرية لم يتجاوز عدد سكانها معًا ٨٠٠٠ نسمة في أفضل الأحوال،١ وفي هذا الوقت باشرت مدينة لخيش، أقوى مدن سهل شفلح، بتوسيع مناطقها الزراعية باتجاه مرتفعات يهوذا، من أجل تلبية الطلب على المنتجات المتوسطية، وخصوصًا زيت الزيتون، بعد عودة النشاط إلى الطرق التجارية الدولية، وهذا ما ساعد على زيادة عدد القرى الزراعية في منطقة يهوذا، والتي راح أهلها يجهزون المدرجات المنبسطة الصالحة لزراعة الكرمة والزيتون والثمار المتوسطية الأخرى، كما عملت سلطات لخيش على تشجيع الرّعاة المتنقلين على الاستقرار والتحول إلى حياة الزراعة (تومبسون ١٩٩٩م، ص١٦٧). نحو أواخر القرن العاشر، يبدو أن أورشليم قد دبت فيها الحياة، وأخذت بالتحول إلى مركز إداري صغير، ولكن الدلائل مفقودة على وجود سكن مكثف في الموقع.
يقول عالم الآثار الإسرائيلي إ. فنكلشتاين في كتابه: The Bible Unearthed، الصادر عام ٢٠٠١م:
«إن صورة أورشليم في زمن داود وابنه سليمان قد تلونت عبر العصور بظلال رومانسية وأسطورية. وقد ساعد الحُجاج الوافدون، والصليبيون، وأصحاب الرؤى من كل نوع، على ذيوع القصص الخرافية عن عظمة مدينة داود ومعبد سليمان. من هنا، لا عجب إذا طرحت عملية البحث عن بقايا هيكل سليمان نفسها على أولويات علم الآثار التوراتي خلال القرن التاسع عشر. على أن تلك العملية لم تكن سهلة، وبالكاد مثمرة، نظرًا لطبيعة الموقع … لقد جرى التنقيب مرارًا وتكرارًا في موقع أورشليم القديمة، وخلال الحملات التنقيبية المكثفة التي جرت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بإشراف Yigal Shiloh من الجامعة العبرية، تم البحث في مدينة داود المركز السكني الأصلي لأورشليم القديمة، عن البقايا الأثرية لعصر البرونز وعصر الحديد. ولكن المدهش، على ما يقول ديفد أوسيشكين الآثاري والأستاذ في جامعة تل أبيب، أن العمل الميداني لم يوفَّق في العثور على دلائل حياة سكنية خلال القرن العاشر، لا في هذه المنطقة ولا في غيرها من أورشليم التوراتية. إن غياب الدلائل على وجود الحياة السكنية هنا لا يقتصر على فقدان البُنى المعمارية الضخمة، بل يتعدى ذلك إلى فِقدان الكسرات الفخارية التي تميَّز بها القرن العاشر في بقية المواقع. يقول بعض الباحثين بأن النشاطات المعمارية اللاحقة في الموقع قد محت آثار أبنية القرن العاشر، ولكن ماذا عن الكسرات الفخارية؟ لقد عثرت الحملات التنقيبية على فيضٍ مِن لُقى الكسرات الفخارية في المستويات الآثارية لعصر البرونز الوسيط وعصر الحديد المتأخر، ولكن لا شيء من القرن العاشر. من هنا، فإن التفسير الأكثر تفاؤلًا لهذه الظاهرة يذهب إلى القول بأن أورشليم القرن العاشر كانت مقرًّا سكنيًّا متواضعًا جدًّا لا يمكن تصنيفه إلا كقرية هضبية اعتيادية.
«هذه الحالة المتواضعة التي كانت عليها أورشليم تتناسب إلى حد كبير مع الوضع السكاني العام في بقية مناطق يهوذا خلال الفترة نفسها، والتي لم يَزدْ فيها عدد القرى عن عشرين قريةً صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها مجتمعة بضعة آلاف نسمة، غالبيتهم من الرعاة المتنقلين. من هنا، فإن الاحتمال ضعيف جدًّا في أن تكون قرية أورشليم الصغيرة هذه، ومن ورائها إقليم يهوذا الخالي تقريبًا من السكان، قد صارت مركزًا لإمبراطورية امتدت من البحر الأحمر في الجنوب إلى العمق السوري في الشمال. ولكن هل من المستبعد أن يُفلح ملك مقتدر، هنا، في تجهيز العدد والعدة من أجل اكتساب هذه المساحة الواسعة من الأرض والمحافظة عليها؟ إن جواب علم الآثار على مثل هذا التساؤل هو أنه لم يُعثَر على دلائل تشير إلى ثروة في المنطقة أو طاقة بشرية، أو مستوًى من التنظيم، مما هو ضروري لتجهيز وإعالة جيش كبير في الميدان، حتى ولو لفترة قصيرة ومحدودة من الزمن. وحتى لو فرضنا جدلًا بأن أهل يهوذا القليلي العدد قد استطاعوا القيام بغزوات سريعة على الأقاليم المجاورة، فكيف كان بإمكانهم إدارة أصقاع إمبراطورية طموحة مثل تلك المعزوة لسليمان بن داود؟»٢ بعد هذا المقطع المطول الذي اقتبسناه عن فنكلشتاين، نعود إلى القول إنه في سياق القرن التاسع فقط (وهو القرن الذي شهد صعود مملكة دمشق ومملكة السامرة، وازدهار مدن سهل شفلح والسهل الفلستي، وتشكُّل ممالك عمون ومؤاب وإدوم) تحولت أورشليم إلى مدينة مسكونة على نطاق يُعتد به، كما بلغت حركة الاستيطان ذروتها في منطقة مرتفعات يهوذا، حيث تم تنظيف معظم الأراضي من الأحراش البرية، وجرى تحويلها إلى مدرجات زراعية، وكانت منتجاتها تُدفع إلى الأسواق المحلية في كلٍّ من أورشليم وحبرون ولخيش، ثم دخلت هذه المدن الثلاث في تنافس من أجل السيطرة على مرتفعات يهوذا التي لم تكن قد خضعت بعدُ إلى سلطة مركزية (تومبسون ١٩٩٩م، ص١٦٣، و١٩٩٢م، ص٣٣٢-٣٣٣). ورغم أننا لا نملك من الوثائق التاريخية ما يمكِّننا من رسم صورة واضحة عن هذه المرحلة، إلا أنه من المؤكد أن أورشليم قد أفلحت حوالي عام ٧٥٠ق.م. في بسط سلطتها على كامل يهوذا؛ وصولًا إلى بئر السبع في الجنوب، وألغت استقلال مدينة حبرون، وبذلك تحول أمراء أورشليم إلى ملوك وظهر اسم مملكة يهوذا لأول مرة في السجلات الآشورية، وكذلك اسم ملكها آحاز، بين الممالك التي دفعت الجزية إلى تغلات فلاصر الثالث، كما ورد معنا في الفصل السابق.

في أواخر القرن الثامن، إذن، تتقاطع الرواية التوراتية لأول مرة مع المصادر الخارجية فيما يتعلق بأخبار مملكة يهوذا. وفي تلك الفترة تدخل أورشليم لأول مرة أيضًا معترك الحياة السياسية في المنطقة. أما ما قبل ذلك، فإن كل الأخبار التوراتية حول أورشليم ويهوذا، هي بالنسبة للمؤرخ الموضوعي بمثابة «ما قبل تاريخ»، وتنتمي إلى جنس الأدب الديني لا إلى جنس الكتابة التاريخية. إن غياب الدلائل على قيام سلطة مركزية في المناطق الهضبية الفلسطينية خلال القرن العاشر، وكذلك على قيام مملكة يهوذا خلال القرن التاسع ومعظم القرن الثامن، لا يُعزى إلى عدم اكتمال معلوماتنا الأركيولوجية عن المنطقة، بل العكس تمامًا هو الصحيح. إن كل ما في حوزتنا الآن من معلومات يؤكد أن أول كيان سياسي موحد ومنظم في المناطق الهضبية، قد ظهر مع بناء مدينة السامرة في مطلع القرن التاسع، وأن هذا الكيان السياسي المعروف في السجلات التاريخية باسم مملكة السامرة، أو إسرائيل أو بلاد عمري، لم ينشأ عن مملكة موحدة سبقتْه وكانت عاصمتها أورشليم؛ لأنه من المستحيل التحدث عن مملكة بدون قاعدة سكانية وعن عاصمة بدون دليل على وجود مدينة. أما إلى الجنوب من أورشليم، فإن كل المعلومات تؤكد أن هذه الأراضي التي دُعيت فيما بعدُ بمملكة يهوذا، لم تشهد الوحدة السياسية إلا عشية دمار مملكة السامرة، وأن هذين الكيانين لم يتعاصرا إلا لفترة وجيزة، وذلك على عكس الرواية التوراتية التي ترسم صورة شعب واحد توزَّع في مملكتين عقب موت سليمان.

تعزو الرواية التوراتية تأسيس مملكة يهوذا إلى رحبعام بن الملك سليمان بعد وفاة أبيه (حوالي عام ٩٣١ق.م.)، مثلما تعزو تأسيس مملكة إسرائيل إلى والي سليمان عليها المدعو يربعام بن نباط، الذي أقام في شكيم واستقل عن أورشليم سياسيًّا وإداريًّا، كما استقل دينيًّا بعد أن بنى لشعبه معبدين للعجل المقدس، ومنعهم من التوجه إلى معبد أورشليم. وفي الحقيقة، فإن مثل هذه الأخبار لا تزيد مصداقية عن الأسطورة الرومانية التي تعزو بناء مدينة روما إلى الأخوين روموس وريمولوس، اللذين أرضعتهما ذئبة وربَّتْهما في الغابة قبل أن يشِبَّا على الطوق، وغيرها من الأساطير المشابهة المتعلقة بنشأة المدن وأصول الممالك. بعد وفاة رحبعام بن سليمان، وحتى ورود أول ذكر لملك على يهوذا في السجلات الآشورية، وهو الملك آحاز، تفيدنا الرواية التوراتية بأن أحد عشر ملكًا توالوا على عرش يهوذا في أورشليم. وبما أن الوقائع الأركيولوجية والتاريخية لا تفيدنا بأن مملكة يهوذا كانت قائمة قبل أواسط القرن الثامن، فإن أولئك الملوك المفترضين على يهوذا لم يكونوا سوى أمراء محليين في أورشليم الناشئة. ونحن لا نستطيع الابتداء، بسرد تاريخ يهوذا إلا اعتبارًا من تاريخ الإشارة إليها في المصادر الخارجية.

ارتقى آحاز العرش حوالي عام ٧٣٥ق.م.، واختطَّ منذ البداية سياسة العمالة لآشور في المنطقة، وهي السياسة التي سيستمر عليها ملوك يهوذا لأكثر من قرن، والتي ستضمن استقلال هذه المملكة بعد تدمير معظم الممالك الفلسطينية، أو إلحاقها بآشور. فآحاز لم يكتفِ بالدور الصغير المرسوم له من قِبَل آشور، وإنما تطوع مِن تلقاء ذاته لتأييدها عسكريًّا عندما سار بقواته لمساعدة تغلات فلاصر على حصار دمشق، وكان في طليعةِ مَن دخل المدينة، على ما نفهم من سفر الملوك الثاني (١٦: ١–١٠). في دمشق رأى آحاز المذبح الذي في معبدها فأعجبه، وطلب من أوريا كاهن معبد أورشليم أن يصنع له مثله، بعد أن زوده برسم مفصل له، فبنى له أوريا مذبحًا مشابهًا، راح آحاز يذبح عليه ويوقد لآلهة آرام ونسي إله آبائه (الملوك الثاني ١٦: ١٠–١٧ وأخبار الأيام الثاني ٢٨: ٢٣-٢٤).

عيَّن آحاز ابنه حزقيا وليًّا للعهد ومشاركًا له في الحكم، وهو ما زال غلامًا مراهقًا، فحكم إلى جانب أبيه مدة أربع عشرة سنة قبل انتقال السلطة إليه كاملة بوفاة أبيه، وبذلك امتدت سنوات حكمه من ٧٢٩ق.م. إلى ٦٨٦ق.م. وقد أفرد له محرر سفر الملوك الثاني ومحرر سفر أخبار الأيام الثاني حيزًا من الكتاب لم يُفرَد لملك آخر من ملوك يهوذا. فهو الملك التقي الصالح الذي أعاد عبادة يهوه إلى سابق عهدها في هيكل أورشليم وهدم مقامات ومراكز عبادة الآلهة الأخرى، وهو من وسَّع أراضي المملكة وضم إليها مناطق جديدة، وهو مَن حصَّن أورشليم وبقية مدن يهوذا، وهو من زاد غلة الزراعة وكثَّر المواشي وجعل طرق التجارة آمنة. ولكن حزقيا هذا قد قام بأول وآخِر محاولة تمرد على السلطة الآشورية، عندما منع الجزية عنها بتحريضٍ من فرعون مصر الذي وعده بالمساعدة العسكرية في حال تعرضه للانتقام.

كان صارغون الثاني قد أبقى على استقلال يهوذا ولم يمسَّ عاصمتها بسوء، رغم ما ألحقه من دمار بالسامرة والمدن الفلستية أشدود وغزة وعقرون، التي صُوِّرت مشاهد حصارها وافتتاحها على نحت بارز عُثر عليه في قصر صارغون. فلقد أفلح آحاز في كسب رِضا صارغون مثلما أفلح في كسب رضا سلفيه شلمنصر الخامس وتغلات فلاصر الثالث. ولكن طموحات حزقيا الإقليمية، وقيام كلٍّ من بابل ومصر بتحريضه على العصيان ووعده بالمساعدة، كانت وراء إحساس حزقيا بقوته وبقدرته على التمرد. وفي الحقيقة، فإن قرار حزقيا لم يأتِ نتيجة حسابات خاطئة، بل جاء نتيجة حسابات بدت له دقيقة. فمصر التي كانت تعِدُ سابقًا بالمساعدة ولا تفي بوعودها، قد وفت هذه المرة. وقبل أن تتحرك آشور لإخماد التمرد الجديد في فلسطين وفينيقيا، كانت القوات المصرية متواجدة في فلسطين بشكل مكثف، وجاهزة للتدخل إلى جانب حزقيا وغيره من الملوك الفلسطينيين الذين وعدتهم مصر بالمساعدة. ومن ناحية أخرى، جاء التشجيع من ملك بابل المنفي المدعو مردوخ أبال إيدينا، الذي كان قد قاد تمردًا فاشلًا ضد آشور، ثم هرب وراح يؤلب من منفاه الممالكَ السورية على العصيان. وربما كان يخطط من أجل العودة سرًّا إلى بابل وقيادة تمرد جديد يتوافق مع التمرد في فينيقيا وفلسطين، وبذلك يتم إشغال آشور على جبهتين، وتغدو فرص نجاح التمرد على إحدى هاتين الجبهتين كبيرة جدًّا. ولدينا خبر في سفر الملوك الثاني عن زيارة رُسُل ملك بابل، الذي يدعوه النص بردوخ بلادان، للملك حزقيا، وهي الزيارة التي تحمل من المعاني أكثر مما فهم محرر النص التوراتي: «في ذلك الزمان أرسل بردوخ بلادان ملك بابل رسائل وهدية إلى حزقيا؛ لأنه سمع أن حزقيا قد مرض. فسمع حزقيا لهم وأراهم كل بيت ذخائره، والفضة والذهب والأطياب، وكل بيت أسلحته.» الملوك الثاني (٢٠: ١٢-١٣).

وكان النبي إشعيا من أكثر معارضي سياسة حزقيا في الانحياز لمصر والاعتماد على عونها. وعندما لم يَلقَ من الملك أذنًا صاغية، راح يمشي في شوارع أورشليم حافي القدمين رافعًا عقيرته بالنبوءات: «ويلٌ للذين ينزلون إلى مصر للمعونة، ويستندون على الخيل، ويتوكلون على المركبات لأنها كثيرة، وعلى الفرسان لأنهم أقوياء، ولا ينظرون إلى قُدُّوس إسرائيل ولا يطلبون الرب، وهو أيضًا حكيم ويأتي بالشر ولا يرجع بكلامه … أما المصريون فهم أناس لا آلهة، وخيلهم جسد لا روح، والرب يمد يده فيسقط المعين ويسقط المعان، ويفنيان كلاهما» (٣١: ١–٣).

لم تُحرك آشور في البداية ساكنًا؛ لأن سنحاريب، الذي ولي العرش بعد صارغون في عام ٧٠٥ق.م.، كان مشغولًا خلال السنوات الأولى من حكمه بمشاغل المملكة الداخلية. ولكنه في عام ٧٠١ق.م. شن حملة واسعة على غربي الفرات، استهدفت عددًا من الممالك الفينيقية والفلسطينية التي استغلت الفترة الانتقالية بين حكم صارغون وحكم سنحاريب، وامتنعت عن دفع الجزية، وعلى رأس هذه الممالك صيدون ولخيش وأشقلون. فقد عبر سنحاريب الفرات واجتاز سورية الشمالية هبوطًا نحو صيدون فأخضعها، ثم تابع حملته فأخضع بقية المدن الفينيقية التابعة لصيدون وصولًا إلى عكا، ومن عكا هبط نحو أشقلون زعيمة التحالف الفلستي، فحاصرها وفتحها وقبض على ملكها صدقيا، وأرسله أسيرًا إلى آشور. عند ذلك استسلمت له بقية مدن فلستيا، فتوجه نحو سهل شفلح وحاصر مدينته الرئيسية لخيش ودمرها تدميرًا كاملًا، ولم يبقَ في الميدان سوى حزقيا ملك يهوذا، الذي وضع ثقته بالقطعات العسكرية المصرية التي جاءت لمعونته، وانتظر سنحاريب في مكان يدعوه النص الآشوري بسهل ألتقو. وهنا نقرأ في نص سنحاريب المقاطع الآتية:
«دعا حزقيا لمساعدته قوات مصر وإثيوبيا التي جاءت بأعداد كبيرة لا تُحصى، وفي سهل ألتقو انتظمت صفوفهم ضدي وشحذوا أسلحتهم. بعد استخارة نبوءة إلهي آشور هاجمتهم وهزمتهم، وفي غمرة القتال أسرت بنفسي فرسان العربات وأمراءهم من مصريين وإثيوبيين، حاصرت مدينة ألتقو ومدينة تمنة وأخذتهما … أما حزقيا نفسه فقد صار كعصفور في قفص، حبيسًا في مقره الملكي أورشليم، فأحطته بالمتاريس والخنادق لحجز الفارين عند البوابات. أما المدن التي أخذتها منه فقد أعطيتها لأشدود وعقرون وغزة، وبذلك أنقصت مساحة أراضيه، ووضعت عليه جزية سنوية تفوق الجزية السابقة، لقد غمره الخوف من رهبة جلالتي، والقوات التي استدعاها إلى أورشليم لدعم صمودهم قد اختلت صفوفها وتركته. عند ذلك أرسل إليَّ في نينوى عاصمتي ثلاثمائة وزنةٍ من الفضة وثلاثين وزنةً من الذهب.»٣

يتصف القسم الأخير من نص سنحاريب المتعلق بحملته على يهوذا بالغموض والاضطراب، فمن الواضح أن سنحاريب قد هزم التحالف المصري الأورشليمي، وأنه قد ضرب على أورشليم حصارًا شديدًا، ولكنه قد ارتد عنها وقَبِل جزية الملك حزقيا. وبالطبع فإن سنحاريب لم يكن لينهزم عند أسوار أورشليم، بعد أن فتح مدنًا أقوى منها وأكثر منعة، ولكن أخبارًا وصلته من بلاطه في نينوى عن مؤامرات ودسائس سياسية، فآثر الإسراع في العودة إلى الوطن لمعالجة الأمور.

وفي المقابل، فإن محرر سفر الملوك الثاني يروي عن وصول سنحاريب إلى المنطقة وإلقائه الحصار على أورشليم ثم ارتداده عنها. ولكن المحرر الذي كان يستقي معلومات مبعثرة وغير مترابطة، لم يكن يعرف شيئًا عن مقدمات الحملة الآشورية، واعتقد أنها كانت موجهة أساسًا ضد يهوذا، نقرأ في سفر الملوك الثاني ما يلي:
«في السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا، صعد سنحاريب ملك آشور على جميع مدن يهوذا الحصينة وأخذها. وأرسل حزقيا ملك يهوذا إلى ملك آشور، إلى لخيش، يقول قد أخطأت، ارجع عني ومهما جعلت عليَّ حملتُه. فوضع ملك آشور على حزقيا ثلاثمائة وزنة من الفضة وثلاثين وزنة من الذهب، فدفع حزقيا جميع الفضة الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك. وأرسل ملك آشور ترتان وربشاقي وربساريس.٤ من لخيش إلى الملك حزقيا بجيش عظيم، فصعدوا وأتوا إلى أورشليم … ودعوا الملك، فخرج إليهم إلياقيم الذي على البيت، وشبنة الكاتب، ويوآخ المسجل. فقال لهم ربشاقي: قولوا لحزقيا … على من اتكلت حتى عصيت عليَّ؟ هل اتكلت على عكاز هذه القصبة المرضوضة، على مصر التي إذا توكأ عليها أحد دخلت في كفه وثقبتها؟ هكذا هو فرعون لجميع المتكلين عليه. وإذا قلتم على الرب إلهنا اتكلنا … هل بدون الرب صعدتُ إلى هذا الموضع لأخربه؟ … اسمعوا كلام الملك العظيم ملك آشور. هكذا يقول الملك: لا يخدعكم حزقيا؛ لأنه لا يقدر أن ينقذكم من يدي … اعقدوا معي صلحًا واخرجوا إليَّ، وكلوا كلُّ واحد من جفنته ومن تينته، واشربوا كلُّ واحد من ماء بئره، حتى آتي وآخذكم إلى أرض كأرضكم،٥ أرض حنطة وخمر، أرض خبز وكروم، أرض زيتون وعسل، واحيوا ولا تموتوا» (١٨: ١٣–٣٢).

ولكن النبي إشعيا يشدد من عزيمة حزقيا ويتنبأ له: «هكذا قال الرب: لا تخَفْ بسبب الكلام الذي سمعته، الذي جدف عليَّ به غلمان ملك آشور. ها أنا ذا أجعل فيه روحًا فيسمع خبرًا ويرجع إلى أرضه، وأُسقطه بالسيف في أرضه … هكذا قال الرب عن ملك آشور: لا يدخل هذه المدينة، ولا يرمي سهمًا، ولا يتقدم عليها بترس، ولا يقيم عليها مترسة، في الطريق الذي جاء فيه يرجع، وإلى هذه المدينة لا يدخل. يقول الرب: وأحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل عبدي داود. وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش آشور مائة ألف وخمسة وثمانين ألفًا، ولما بكروا صباحًا إذ هم جميعًا جُثث ميتة، فانصرف سنحاريب ملك آشور وذهب راجعًا، وأقام في نينوى. وفيما هو ساجد في بيت إلهه نسروخ، ضربه ابناه أدر ملك وشر آصر بالسيف، ونجوا إلى أرض أراراط، وملك أسر حادون ابنه عوضًا عنه» (١٩: ٥–٧، و٣٢–٣٧).

تتفق رواية سفر الملوك الثاني مع الرواية الآشورية في خطوطها العامة، رغم اختلافهما في العديد من التفاصيل، فصعود القوات المصرية لمساعدة حزقيا بأعداد كبيرة غير مذكور في الخبر التوراتي، رغم وجود تلميح بالاتكاء على مصر، وكذلك الأمر بخصوص المعركة الكبيرة في سهل ألتقو بين القوات الآشورية وقوات مصر ويهوذا. أما تراجع سنحاريب عن أسوار أورشليم فيعزوه محرر السفر، وكما يمكن لنا أن نتوقع دومًا، إلى معجزة من الرب الذي تدخَّل وضرب الآشوريين ليلًا.

هذه هي الأخبار التاريخية المتوفرة لدينا بخصوص الفترة الأولى من نشوء يهوذا كمملكة فلسطينية قوية، وبروز أورشليم كعاصمة إقليمية مهمة خلال فترة حكم آحاز وابنه حزقيا، فماذا عن الوثائق الأركيولوجية؟ إن الدلائل الرئيسية يجب أن تأتي من أورشليم. فمنذ بدايات القرن التاسع قبل الميلاد تبدأ كسرات الفخار، وغيرها من اللُّقى الأثرية الصغيرة الدالة على وجود حياة نشطة في الموقع، بالظهور بغزارة، بعد أن كانت معدومة تقريبًا خلال عصر الحديد الأول ومطلع عصر الحديد الثاني في القرن العاشر قبل الميلاد. هذه الدلائل على عودة الحياة إلى المدينة والزيادة المستمرة في عدد سكانها، تتزامن مع ظهور أخبار أورشليم ومملكة يهوذا في المصادر الخارجية. وبما أن كل البُنى المعمارية السابقة على العصر البيزنطي قد زالت بسبب الاقتلاع الدائم للحجارة في كل طبقة آثارية واستخدامها في الطبقة التي تليها، فإن دليلنا المتبقي هو السور.

لقد رسمت المنقبة كاثلين كينيون حدود المدينة اليبوسية-الداودية على ذروة هضبة أوفيل، وقالت إن خط الأسوار بقي على حاله خلال فترة حكم الملك داود (انظر المخطط في الشكل رقم ١-٤). أما التوسعات الشمالية المحصورة بين الخط الشمالي القديم للمدينة اليبوسية وجدار الحرم الجنوبي، فقد عزَتْها المنقبة إلى عصر سليمان، أي إلى أواسط القرن العاشر، ودعتها بمنطقة التوسعات السليمانية، رغم أن البينة الستراتيغرافية كانت تشير إلى أن سور هذه التوسعات يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد. أما كيف نقلت كينيون تاريخ بناء سور التوسعات الشمالية من القرن الثامن إلى القرن العاشر، فلأنها لاحظت أن هذا السور قد بُني بحجارة منحوتة بالأسلوب الذي تم التعرف عليه في أبنية السامرة، ووُصف بالفينيقي، وأُرجع تاريخه إلى مطلع القرن التاسع قبل الميلاد. وهذا يعني في رأيها أن بناة سور القرن الثامن قد استخدموا أنقاض سور سابق كان قائمًا في الموضع نفسه خلال عصر سليمان.٦ ونحن إذ نرفض هذا الاستنتاج لعدم منطقيته من جهة، ولعدم اتفاقه مع كل ما صرنا نعرفه عن تاريخ وأركيولوجيا أورشليم، فإننا نعتبِر مخطط أورشليم المدعوة بالسليمانية في الشكل رقم ١-٤، بمثابة مخطط أورشليم خلال عصر آحاز وحزقيا، في القرن الثامن قبل الميلاد.
ولدينا ملمح أركيولوجي هام من عصر حزقيا في أورشليم، يستحق أن نتوقف عنده. ففي معرض تعداده لنشاطات حزقيا الدفاعية والمعمارية، يذكر محرر سفر الملوك الثاني عن قيام حزقيا بحفر قناة نفقية تحت أورشليم، اخترقت هضبة أوفيل، وأُجري فيها ماء نبع جيحون من موقعه بوادي قدرون شرقًا، ليصب في بركة سلوام على المنحدرات الغربية للهضبة: «وحزقيا هذا، سد مخرج مياه جيحون الأعلى، وأجراها إلى الجهة الغربية من مدينة داود، وأفلح حزقيا في كل عمله» (٣٠: ٣٢). يبلغ طول هذه القناة حوالي ٥٦٠ مترًا، وقد تم اكتشافها من قِبل المنقب وارن في أول حملة تنقيبية في موقع أورشليم عام ١٨٦٧م، ثم قام المنقب باركر بتنظيفها عام ١٩١١م، ثم أعادت حملة السيدة كينيون تنظيفها وإعادتها إلى ما كانت عليه أيام حزقيا. ويستطيع أي زائر اليوم أن يسير عبرها من منبع الماء إلى مصبه في البركة التي يُطلق عليها اليوم اسم بركة سلوان؛ نسبةً إلى قرية سلوان القائمة على مرمى النظر من سور القدس القديم الحالي. ولكن مسيرة المنقبين الأوائل لم تكن بهذه السهولة، فقد كان عليهم السير على أربع أحيانًا أو الزحف على البطن بسبب تراكم الأتربة والنفايات عبر العصور، دون أن يكونوا متأكدين من وصولهم إلى الطرف الآخر وخروجهم سالمين (انظر مخطط القناة في الشكل رقم ١٠-١ أدناه).
وقد تم العثور قبل نهاية القناة على نقش حجري يذكر طريقة حفر القناة، ونفهم منه أن فريقَا حفرٍ قد انطلقا كلٌّ من اتجاه؛ واحد من جهة النبع، والآخر من جهة البركة، وأنهما التقيا في نقطة الوسط تحت ذروة الهضبة تمامًا. النص مكتوب بالقلم الآرامي وباللهجة الكنعانية الفلسطينية، التي تعتبر لغة التوراة ولغة نقش ميشع ملك مؤاب، شكلان من أشكالها. وهذه ترجمته: «على هذه الطريقة تم شق النفق، بينما النحاتون يرفعون معول الحفر كلٌّ تجاه رفيقه من الطرف الآخر، وبينما بقي ثلاث أذرع للنحت، سُمع صوت رجل ينادي الآخر لأنه وجد ثقبًا في الصخر من ناحية اليمين، وثقبًا آخر من ناحية اليسار. ولدى متابعة النحت، رجل مقابل رجل، معول مقابل معول، سالت المياه من النبع إلى البركة مسافة مائتين وألف ذراع، وكان ارتفاع الصخر فوق رأس النحاتين مائة ذراع.»٧
لقد درج المؤرخون حتى الآن على ربط قناة سلوام بنشاطات حزقيا الدفاعية، خصوصًا بعد توقعه لهجوم آشوري. وحجتهم في ذلك أن خط السور الشرقي للمدينة لا يمكن أن يهبط باتجاه وادي قدرون إلا إلى مسافة محسوبة تسمح بالدفاع عن نبع جيحون، دون التعرض لرشقات أسلحة المحاصرين المتمركزين على منحدرات جبل الزيتون. ولقد كانت المدينة قادرة على حماية النبع أمام جيوش محلية قليلة العدد وغير مدربة على الحصار الطويل، أما في مواجهة جيش إمبراطوري على درجة عالية من الكفاءة والخبرة القتالية ومقدرة على الحصار الطويل، فإن النبع سيكون عُرضة للسقوط، عاجلًا أم آجلًا، من هنا، فقد لجأ حزقيا إلى حفر هذه القناة النفقية وأجرى فيها الماء إلى الجهة الغربية، لتصب في بقعة تغطيها الصخور وتحجبها عن أعين الأعداء، ويسهل الدفاع عنها حتى في حال اكتشافها. غير أن هذه النظرية لم تعُد صالحة بعد أن اكتُشف مؤخرًا وجودُ جيب واسع في السور الشرقي للمدينة، وظيفته احتواء نبع جيحون؛ إضافة إلى وظيفته الأخرى في توسيع المنطقة السكنية على منحدرات أوفيل الشرقية. وهذا يعني أن النبع قد صار محصورًا بين سورين؛ السور القديم المرتفع، والسور الجديد المنخفض. وقد أرجعت بعثة التنقيب، التي اكتشفت السور الجديد، تاريخِه إلى أواخر القرن الثامن قبل الميلاد؛ الأمر الذي يجعل حزقيا مسئولًا عن بنائه أمرًا محتملًا.٨

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا الاكتشاف، هو لماذا بذل حزقيا مجهودًا جبارًا في جر مياه جيحون إلى بِركة تقع خارج السور الغربي، طالما أن السور الجديد كان كفيلًا بالدفاع عن النبع؟ وهنا يتابع أصحاب النظرية الدفاعية قولهم بأن بوابة السور الجديد وأبراجها المصممة خصوصًا للدفاع عن النبع؛ سوف تكون الهدف الأول للعدو، وأن بِركةً احتياطية في منطقة مموهة على السفح الغربي ضرورية في حال سقوط السور الأول، ولكن هذا الجواب غير مقنع من الناحية العسكرية؛ لأن الجيش الإمبراطوري المدرب على القتال، مدرب أيضًا على التجسس وجمْع المعلومات عن قوة الموقع المحاصر وموارده الغذائية والمائية. ولا أعتقد بأن الآشوريين الذين أمضوا قرونًا في حصار وفتح المدن الحصينة، كانوا عاجزين عن اكتشاف موقع بركة سلوان، حتى قبل إلقاء الحصار على أورشليم. من هنا، فإنني أرجح أن قناة السلوام لم يكن لها وظيفة دفاعية، وأن آحاز، أو ابنه حزقيا، قد حفرها لكي يؤمِّن لسكان الجهة الغربية من أورشليم مصدرًا مائيًّا قريبًا؛ أسوةً بسكان الجهة الشرقية، خصوصًا وأن الدراسات الجيولوجية الحديثة تُبرهن على أن حفر قناة السلوام لم يكن معجزة هندسية كما ظن الآثاريون حتى وقت قريب، ولم يكن بالمشروع الباهظ التكاليف.

fig19
شكل ١٠-١: قناة سلوام.
لقد لاحظ المستكشفون الأوائل، وكل من عمل في تنظيف القناة بعد ذلك، المسائل التقنية الصعبة التي كان على القائمين على مشروع القناة في تلك الأيام مواجهتُها وحلُّها. وعلى رأس هذه المسائل مشكلة التوجه تحت الأرض ومشكلة الميل. فلقد كان من الصعب، أو المستحيل فعليًّا، على فريقِ حفْرٍ واحد أن يحافظ على الاتجاه المرسوم له تحت الأرض بدون البوصلة التي لم تكن معروفة في ذلك العصر، ناهيك عن صعوبة أو استحالة المهمة على فريقَي حفْر عليهما أن ينطلقا من اتجاهين متعاكسين ليلتقيا في نقطة الوسط. أما بخصوص الميل، فإن حساباته النظرية وتطبيقاتها كانت أعقد بكثير مما يمكن لوسائلِ تلك الأيام التعامل معها، خصوصًا وأن الماء قد تدفق عقب هدم الحاجز الفاصل بين فريقي الحفر، فكيف تغلب مهندسو تلك الأيام على هذه المشكلات؟ بقي هذا السؤال معلقًا بدون إجابة، إلى أن قام الجيولوجي Dan Gill بدراسة التكوين الجيولوجي للنفق، وخرج بنتيجة مفادها أن النفق ليس من صنع الإنسان، بل هو تشقق صخري طبيعي لم تتدخل يد الإنسان فيه إلا من أجل تشذيبه وإزالة حاجز صخري يفصل قسمه الشرقي عن قسمه الغربي.٩

نعود الآن لمتابعة تاريخ أورشليم ويهوذا، فرغم أن أورشليم استطاعت نحو أواخر القرن الثامن قبل الميلاد السيطرة على مرتفعات يهوذا ووضع أمراء حبرون (وهي المدينة الثانية في المرتفعات بعد أورشليم) تحت حمايتها، إلا أن لخيش، المدينة الكبرى في سهل شفلح والمنافس الرئيسي لأورشليم منذ بداية الانتعاش الاقتصادي، بقيت السوقَ الرئيسية للمحاصيل المتوسطية للمناطق الجنوبية، وخصوصًا زيت الزيتون. لقد كان الآشوريون يتحرقون للسيطرة على مراكز إنتاج الزيت وتنظيم تجارته بما يلائم مصالحهم، ولكن مدينة لخيش، بثروتها واتساع تجارتها وتأثيرها على مدن شفلح وفلستيا، كانت عقبة كأداء أمام مخططات آشور. من هنا، كانت لخيش أحد الأهداف الرئيسية لحملة سنحاريب المؤرخة بعام ٧٠١ق.م.، وكانت المدينة الوحيدة التي تم إحراقها وتدميرها تدميرًا كاملًا بحيث لم تقم لها قائمة بعد ذلك. ولعل في لوحات النحت البارز التي تمثل حصار وتدمير لخيش وسبْي أهلها، والتي تم العثور عليها في قاعة عرش سنحاريب، ما يبرهن على أهمية هذه المدينة الفلسطينية، وعلى أهمية النصر الذي حققه سنحاريب عليها.

كانت أورشليم أول المستفيدين من زوال منافستها القديمة لخيش، فلقد صارت الآن حرة في بسط سلطتها وتوسيع مناطقها إلى ما وراء حبرون جنوبًا وحتى منطقة النقب، ثم حلت محل لخيش كسوق لمنتجات الخمور والزيوت التي راحت تعيد تصديرها على طول الطرق التجارية الدولية، فأثْرَتْ وتوسعت وزاد عدد سكانها، حتى بلغ حوالي ٢٥٠٠٠ نسمة في أواسط القرن السابع قبل الميلاد؛ وذلك بعون ومباركة آشور التي اعتمدت على ملوكها في تحقيق الاستقرار في فلسطين، كما أنها غدت مركزًا ثقافيًّا ودينيًّا على جانب كبير من الأهمية، يعادل ما كانت عليه السامرة قبل قرنين من الزمان. وفي هذا السياق يمكن لنا أن نتصور قدرة أورشليم على بناء هيكل يشبه الهيكل الموصوف في التوراة والمدعو بهيكل سليمان، رغم أن الدلائل الأركيولوجية لا تفيدنا في هذا المجال. ولعل كلَّ تصورات المحررين التوراتيين عن عظمة أورشليم أيامَ الملك سليمان مستمدةٌ من وضع العاصمة في القرن السابع. هذا، وقد أخذت المدينة بالتوسع في سياق القرن السابع، عبر الوادي المركزي الذي يفصل سلسلتَي هضاب القدس، حتى وصل السكن إلى السلسلة الغربية، حيث تشكَّل هنا حي سكني كبير أخذ بالتوسع حتى صار أوسع من المدينة القائمة على هضبة أوفيل. وقد أحيط هذا التوسع الجديد بالأسوار، وصار لخط السور المحيط بأورشليم الكبرى شكل متعرج وغير منتظم، على ما يبينه مخطط كاثلين كينيون في الشكل رقم ١٠-٢ أدناه. أما خارج أورشليم، فإن كل الدلائل الأركيولوجية من القرن السابع تشير إلى حدوث ازدهار عامٍّ لم تعرفه المنطقة قبل ذلك.
تصمت النصوص الآشورية عن مملكة يهوذا بعد حملة سنحاريب، وأخبار حملات ابنه أسر حادون (٦٨٠–٦٦٩ق.م.) ولا تأتي على ذكر أورشليم لا من قريب ولا من بعيد، رغم أنه قد احتل مصر بكاملها، وكانت جيوشه تعبر فينيقيا وفلسطين في طريقها إلى هناك، وتؤدب المدن العاصية، مثل صيدون التي هُدمت وسُبي أهلها؛ الأمر الذي يدل على بقاء ملوكها على ولائهم لآشور ومتابعتهم لعِبَ الدور المرسوم لهم. ولكن جنون العظمة الذي أصاب أسر حادون بعد أن ضم مصر إلى التاج الآشوري، وصار حاكمًا على أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ قبله، قد بلغ به حدًّا أفقده كل منطق وصواب في تفكيره. وقد قاده هذا الجنون إلى التسلي بإهانة وتعذيب الملوك التابعين له، فكان يأتي بهم مقيدين بالسلاسل، فيجعل منه فريق سخرة يقوم مع العمال العاديين ببناء قصوره في نينوى. وفي هذا السياق تم اعتقال منسي بن حزقيا وخليفته على العرش (٦٩٦–٦٤١ق.م.)، وسيق مع عدد من ملوك بلاد الشام وملوك الجزر والشواطئ المتوسطية البعيدة إلى العاصمة الآشورية. نقرأ في نص لأسر حادون ما يلي:
«دعوت إليَّ ملوك بلاد حاتي١٠ على الجهة الأخرى للنهر؛ وهم: بعلو ملك صور، ومنسي ملك يهوذا، وقوش جبري ملك إدوم، وموسوري ملك مؤاب، وسلبيل ملك غزة، وميتيني ملك أشقلون، وإيكوسو ملك عقرون، وملكيا شبا ملك بيت عمون، وآبي ملكي ملك أشدود … إلخ (يلي ذلك قائمة طويلة بأسماء ملوك الجزر والشواطئ المتوسطية، وبينها قرطاجة وكريت وقبرص)، كل هؤلاء أرسلتهم إلى نينوى مقر مُلكي، حيث جعلتهم ينقلون تحت أقسى الظروف موادَّ بناء لقصري … إلخ.»١١
fig20
شكل ١٠-٢: أورشليم في القرن السابع والسادس قبل الميلاد عصر المملكة.
ويورد محرر سفر الملوك الثاني من ناحيته خبرَ اقتياد منسي من قِبل ضباط آشوريين، ولكنه يجعل وجهته إلى بابل بدل نينوى، ويجعل من ملك آشور أداة عقاب بيد الرب إله منسي: «وعمل منسي الشر في عيني الرب … وكلم الرب منسي وشعبه فلم يُصغوا، فجلب الرب عليهم رؤساء الجند الذين لملك آشور، فأخذوا منسي بخزامة،١٢ وقيدوه بسلاسل نحاس، وذهبوا به إلى بابل. ولما تضايق طلب وجه الرب إلهه وتواضع جدًّا وصلى إليه، فاستجاب له وسمع تضرُّعه ورده إلى أورشليم» (٣٣: ١–١٣). إن خلاصة الأمر في هذه الحادثة بروايتها الآشورية الكاملة، والتوراتية الناقصة والمجتزأة، هي أن القبض على منسي ملك أورشليم لم يكن بسبب عصيانه على آشور. والرواية الآشورية لا تقدم سببًا لأسْر الملوك سوى نزوة مَرَضية في نفس أسر حادون، بينما نفهم من الرواية التوراتية أن منسي قد عاد إلى وطنه وتاب إلى إله إسرائيل الذي عاقبه بالنفي والمذلة.

بعد حادثة اقتياد منسي إلى نينوى، تعود النصوص الآشورية للصمت عن أورشليم، ولا تتعرض لذكر أحدٍ من ملوكها حتى نهاية الإمبراطورية الآشورية في العقد الأخير من القرن السابع قبل الميلاد. من هنا لا يوجد أمامنا سوى الاعتماد على النص التوراتي من أجل تغطية بقية أخبار القرن السابع في يهوذا. فلقد توفي منسي بعد أن حكم قرابة خمسين سنة (٦٩٦–٦٤١ق.م.)، وخلال فترة تعتبر بمثابة العصر الذهبي ليهوذا. ثم خلفه ابنه آمون الذي حكم مدة عامين فقط، ثم تعرض لفتنة في القصر أدت إلى مقتله على يد بعض ضباط الجيش، فخلفه ابنه يوشيا وله من العمر ثماني سنوات فقط. حكم يوشيا فترة طويلة جدًّا (٦٣٩–٦٠٨ق.م.) وعاصر الفترة العاصفة التي شهدت زوال آشور وصعود الأسرة الكلدانية في بابل، وما تلا ذلك من صراع مصري بابلي، شاركت فيه يهوذا بعد أن خرجت من طمأنينتها في حضن آشور؛ الأمر الذي قادها إلى حتفها السريع.

ورث آشور بانيبال (٦٦٨–٦٣٣ق.م.) عن أبيه أسر حادون عالمًا يموج بالفتن والاضطرابات، وظهرت في عهده عوامل تفسُّخ الإمبراطورية الآشورية، وهي العوامل التي كانت نشطة في الخفاء لمدة طويلة مضت. فقد اضطر لإخضاع مصر بعد أن ثارت عقب وفاة أسر حادون، ثم عاد إليها أكثر من مرة لتأديب الأمراء المحليين الذين عيَّنهم في المقاطعات المصرية وعقد معهم اتفاقيات التبعية. ولكن التجربة أقنعت آشور بانيبال بأن احتلال مصر بشكل دائم هو أمر على غاية من الصعوبة من الناحية العسكرية، فغض الطرف في آخر سنوات حكمه عن قيام الأمير نخو بتوحيد مصر وإعلان نفسه ملكًا عليها، وفضَّل التفرغ للإبقاء على ممتلكات آشور التقليدية، بدل هدر طاقته في الاحتفاظ بأراضي مصر البعيدة عن مركز السلطة في نينوى.

بعد وفاة آشور بانيبال عام ٦٣٣ق.م.، أعلن نابو بولاصر الكلداني نفسه ملكًا على بابل، واستقل عن آشور، مؤسسًا بذلك لما يدعوه المؤرخون بالمملكة البابلية الجديدة، ثم عقد ملك بابل حلفًا مع مملكة ميديا الإيرانية، وسارت جيوشهما من الجنوب ومن الشرق، فأوقعت آشور بين فكَّي كماشة، ووجد الآشوريون أنفسهم لأول مرة يدافعون عن عقر دارهم في مدن المثلث الآشوري. وبين عام ٦١٤ق.م. و٦١٢ق.م. سقطت مدينة آشور، ثم تبعتها نمرود فنينوى. وفيما تدعوه الاستراتيجية العسكرية الحديثة بالقتال التراجعي، كان آخر ملوك آشور المدعو آشور أوباليط، ينسحب إلى ما وراء نهر الدجلة، حيث أقام لنفسه مقر قيادة مؤقت في مدينة حران، محاولًا تأخير المذبحة الشاملة للشعب الآشوري. ومن هناك أرسل إلى الفرعون نخو طالبًا عونه، فاستجاب نخو وصعد بجيشه عبر فلسطين عام ٦٠٩ق.م. لنجدة آشور أوباليط، مفضلًا المحافظةَ على مملكة آشورية ضعيفة يتقاسم معها مناطق النفوذ في بلاد الشام.

وهنا يخبرنا نص سفر الملوك الثاني أن يوشيا ملك يهوذا تصدى له عند موقع مجدو، محاولًا ردَّ الحملة المصرية عن أهدافها. وعبثًا حاول نخو إقناع يوشيا بألا يؤخر تقدُّمه وأنه لا ينوي قتاله، فأرسل إليه يقول: «مالي ولك يا ملك يهوذا، لست عليك اليوم، بل على بيت حربي (أي المكان الذي أتوجه اليوم للحرب فيه)، والله أمر بإسراعي. فكُفَّ عن الله الذي معي فلا يهلكك. فلم يحول يوشيا وجهه عنه، بل تنكَّر لمقاتلته (أي غيَّر زيه الملكي) ولم يسمع لكلام نخو من فم الله، بل جاء ليحارب في بقعة مجدو، وأصاب الرماة الملك يوشيا، فنقله عبيده وساروا به إلى أورشليم فمات هناك» (الملوك الثاني ٣٥: ٢٠–٢٤). أما عن دوافع ملك يهوذا للوقوف في وجه الجيش المصري فغير مذكورة في هذا النص التوراتي، وأغلب الظن أن حساباته الخاطئة قد أقنعته أن بإمكانه الحصول على نصيب من تفليسة آشور في مناطق سورية الجنوبية.

لا تفيدنا رواية سفر الملوك الثاني عن مآل حملة نخو، ولكننا نعرف الآن، من بعض شذرات الحوليات البابلية التي اكتُشفت عام ١٩٥٦م، أن نبوخذ نصر الذي ورث عرش بابل قد هزم نخو في معركتين؛ الأولى في كركميش على الفرات والثانية قرب حماة،١٣ تراجع نخو وأقام لنفسه مقر قيادة في بلدة ربلة (غربي مدينة حمص الحالية باتجاه الهرمل)، ومن هناك بدأ يتصرف وكأنه حاكم على مناطق سورية الوسطى والجنوبية، وبدأ يرتب أوضاعها بما يتلاءم ومخططاته المستقبلية في مواجهة بابل. وفي هذا السياق أرسل قوات من عنده إلى أورشليم، فقبضت على ملكها يهوآحاز بن يوشيا القتيل، فساقته أسيرًا إلى ربلة ومنها إلى مصر حيث مات هناك، وعين نخو بدلًا عنه الابن الثاني ليوشيا المدعو يهوياقيم، بعد أن تعهد بالولاء المطلق لمصر، ودفع الجزية لها. نقرأ في سفر الملوك (٢٣): «وكان يهوآحاز ابن ثلاث وعشرين سنة حين مَلَك، ومَلَك ثلاثة أشهر في أورشليم … فعمل الشر في عيني الرب حسب كل ما عمله آباؤه، وأسره الفرعون نخو في ربلة في أرض حماة، وغرم الأرض بمائة وزنة من الفضة ووزنة من الذهب، ومَلَك الفرعون نخو إلياقيم بن يوشيا عوضًا عن يوشيا أبيه، وغيَّر اسمه إلى يهوياقيم، وأخذ يهوآحاز إلى مصر فمات هناك. ودفع يهوياقيم الفضة والذهب لفرعون» (٢٣: ٣١–٣٥). ومنذ ذلك الوقت بقيت يهوذا على ولائها لمصر مدفوعة بحسابات خاطئة لميزان القوى، وهذا ما قادها سريعًا إلى نهايتها.

كانت الأمور قد استقرت لبابل في مناطق الفرات بعد القضاء تمامًا على آشور أوباليط واستسلام قواته بالجملة، فتفرغ نبوخذ نصر (٦٠٥–٥٦٢ق.م.) لوضع حد لطموحات مصر، وشن حملة على نخو أبعدته عن سورية الوسطى، ثم طارده حتى حدود مصر؛ على ما نفهم من الحوليات البابلية. وفي طريقه ابتلع يهوذا بلقمة واحدة وساق ملكها أسيرًا إلى بابل، وعين بدلًا عنه ابنه. نقرأ في سفر أخبار الأيام الثاني: «كان يهوياقيم ابن خمس وعشرين سنة حين مَلَكَ، ومَلَكَ إحدى عشرة سنة في أورشليم، وعمل الشر في عينَي إلهه. فصعد عليه نبوخذ ناصر ملك بابل وقيده بسلاسل نحاس ليذهب به إلى بابل، ومَلك يهوياكين ابنه عوضًا عنه» (٣٦: ٥–٨).

ولكن الملك الجديد كان يتحين الفرص للتمرد على بابل. وقد واتته الفرصة التي ظنها ذهبية عندما شن نبوخذ نصر حملة على أراضي مصر؛ في محاولة نهائية للتخلص من شغب فراعنتها، ولكن حملته لم تُفلح وارتد دون تحقيق أهدافه. وقد قلل هذا التراجع من هيبة بابل وقاد عددًا من الممالك الفلسطينية، ومنها يهوذا، إلى إعلان التمرد. ولكن نبوخذ نصر ما لبث أن عاد إلى المنطقة بعد ثلاث سنوات وعسكر في منطقة ربلة، ومن هناك كان يبعث بقادة جيوشه لتأديب الملوك العصاة. نقرأ في سفر الملوك الثاني: «جاء نبوخذ نصر ملك بابل إلى المدينة، وكان عبيده يحاصرونها، فخرج يهوياكين إلى ملك بابل هو وأمه وعبيده ورؤساء خصيانه، وأخذه ملك بابل في السنة الثامنة من مُلكه، وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وكسر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب، وسبى كلَّ أورشليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة البأس، عشرة آلاف سبي، وجميع الصُّناع والأقيان، ولم يبقَ أحد إلا مساكين شعب الأرض، وسبى يهوياكين إلى بابل وأم الملك ونساء الملك وخصيانه وأقوياء الأرض، سباهم من أورشليم إلى بابل، وملَّك ملك بابل متنيا عمه عوضًا عنه وغيَّر اسمه إلى صدقيا» (٢٤: ١٠–١٧).

لم توجِّه هذه الحملة الضربة الأخيرة لأورشليم، بل أبقت عليها ضعيفة بعد سبي خيرة رجالها، وتعيين ملك جديد عليها، هو صدقيا عم الملك المخلوع. وقد جرت هذه الحملة في العام السابع من حكم نبوخذ نصر، على ما تخبرنا به الحوليات البابلية، أي حوالي عام ٥٩٧ق.م. نقرأ في نص مختصر لنبوخذ نصر ما يلي: «في السنة السابعة، قاد ملك أكاد جيوشه نحو بلاد حاتي، فحاصر مدينة يهوذا وفتحها في اليوم الثاني من شهر آذار، فقبض على الملك وعيَّن عوضًا عنه ملكًا جديدًا اختاره، وأخذ منها جزية كبيرة حملها إلى بابل.»١٤ أما عن الحملة الثانية على أورشليم والتي قادت إلى تدميرها وسبْي قسم آخر من سكانها، وإلى القضاء على يهوذا كمملكة مستقلة، فلم يصلنا بخصوصها نص بابلي.
لم يأخذ صدقيا الملك الجديد عبرة كافية من حملة نبوخذ نصر على أورشليم وما نتج عنها، فما إن غابت جيوش آشور عن المنطقة، حتى راح يبعث الرسل إلى ملوك فينيقيا وشرقي الأردن؛ في محاولة لخلق تحالف عسكري جديد. ويبدو أن ملوك إدوم ومؤاب وعمون وصيدون وصور، أو مندوبين عنهم، قد اجتمعوا في أورشليم بدعوة من الملك صدقيا، على ما نفهم من سفر إرميا (٢٧: ٣). ولعل مثل هذه التحركات والاتصالات كانت تجري بتشجيع مصر؛ لأننا نعرف الآن، من بردية مصرية، أن خليفة نخو الفرعون بسامتيك قد قام بجولة دبلوماسية حوالي عام ٥٩٢ق.م.، زار خلالها عددًا من الممالك الفلسطينية والفينيقية.١٥ ومما لا شك فيه أن هذه الجولة كانت تهدف إلى تأليب ملوك المنطقة على بابل.

انقسم الرأي بين شيوخ أورشليم إلى فريقين؛ فريق يدعو إلى مقاومة بابل بالسيف، وفريق يدعو إلى قَبول عبودية بابل؛ دفعًا للكارثة الأخيرة المقبلة. وكان على رأس الفريق الثاني النبي إرميا، الذي اعتبر نبوخذ نصر منفذًا لمشيئة الرب. نقرأ في سفر إرميا (٢٧): «هكذا قال رب الجنود، إله إسرائيل، هكذا تقولون لسادتكم: إني أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي على وجه الأرض، وأعطيتها لمن حَسُن في عيني. والآن قد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذ ناصر ملك بابل عبدي، فتخدمه كل الشعوب وكذلك ابنه وابن ابنه، حتى يأتي وقت أُسقطه فيه، فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام … أدخِلوا أعناقكم تحت نير ملك بابل واخدموه وشعبه وأحيوا … اخدموا ملك بابل واحيوا، لماذا تصير هذه المدينة خربة؟» (٢٧: ٤–١٧). ولكن كلمات إرميا لم تَلقَ أُذنًا صاغية من الملك صدقيا ومَن حوله مِن الصقور الداعية إلى الحرب.

جاء رد فعل نبوخذ نصر حاسمًا وسريعًا، وراحت الوعود المصرية أدراج الرياح أمام حملة بابلية صاعقة طالت عددًا من الممالك الفلسطينية، بينها يهوذا التي اجتاحها الجيش البابلي وضرب حصارًا حول عاصمتها دام سنتين؛ على ما تقوله الرواية التوراتية في سفر الملوك الثاني (٢٥). وعندما اشتد الجوع ونفَدت المؤن، حاول الملك صدقيا وعائلته الهرب بمعونة فرقة من خيرة جنده، من فتحة سرية أحدثوها في السور، ولكن الكلدانيين قبضوا عليه وساقوه إلى نبوخذ نصر الذي كان مقيمًا في ربلة، فأمر نبوخذ نصر بقتل عائلة صدقيا أمام ناظريه، ثم سمَل عينيه وأرسله أسيرًا إلى بابل. أما أورشليم التي لم تفتح أسوارها بعد هرَبِ ملكها، فقد اقتحمها نبوزردان قائد الجيش البابلي: «في السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذ ناصر ملك بابل، جاء نبوزردان رئيس الشرط عبد ملك بابل إلى أورشليم، وأحرق بيت الرب وبيت الملك، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار، وجميع أسوار أورشليم مستديرًا هدمها. وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل، وبقية الجمهور، سباهم نبوزردان ولكنه أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين.» وبذلك تم تدمير أورشليم وإلغاء يهوذا من الخارطة السياسية الفلسطينية إلى الأبد حوالي عام ٥٨٧ق.م. أما من تبقَّى من سكان يهوذا، فقد أقام عليهم نبوخذ نصر واحدًا من بينهم اسمه جدليا بن أخيقام؛ ليدير شئونهم ويجمع منهم الجزية السنوية للبلاط البابلي.

هذا، ورغم عدم توفر نص بابلي يصف الحملة الأخيرة على أورشليم وتدميرها، إلا أن تنقيبات كاثلين كينيون قد كشفت عن آثار دمار وحرائق في موقع أورشليم ترجع إلى بدايات القرن السادس، وانقطاع في السكن دام قرابة قرن من الزمان، كما كشفت عن آثار دمار في العديد من مواقع يهوذا الأخرى وانقطاع في السكن دام قرابة قرن ونصف. وخلال العقود القليلة التي سبقت انهيار الإمبراطورية البابلية، كانت يهوذا عبارة عن مقاطعة بابلية فقيرة اقتصاديًّا وسكانيًّا، تُحكم من قِبل والٍ محلي أو بابلي يقيم في بلدة المصفاة القريبة من أورشليم المهجورة، وربما ألحقت بمقر إداري آخر قريب بعد ذلك.

إن خلاصة ما تقودنا هذه المعلومات التي سردناها حول تاريخ مملكة يهوذا (وهي كل المعلومات التي يمكن للمؤرخ استخلاصها من المصادر الخارجية، ومن المادة التوراتية المتقاطعة معها) هي أن هذه المملكة قد قامت في المناطق الهضبية الفلسطينية بعد قرن ونصف من قيام مملكة السامرة، عندما بدأت أورشليم تتخذ وضع العاصمة الإقليمية القوية لأول مرة في تاريخها، وتبسط سلطانها على المناطق الزراعية الأخذة بالازدهار إلى جنوبها. أما سكانها فقد أتوا من ثلاثة مصادر محلية، ولا علاقة لهم بسِبط يهوذا التوراتي. المصدر الأول هو الزيادة المتسارعة في عدد السكان بعد انقضاء فترة الجفاف الميسيني، والمصدر الثاني هو سكان المناطق الفلسطينية المقتلعين من مواطنهم خلال الفترة الانتقالية، والمصدر الثالث هو الجماعات الرعوية التي جاءتها من المناطق الجنوبية والشرقية، بسبب وضع يهوذا الجغرافي المنفتح على مناطق البوادي. وقد أخذت هذه الجماعات الرعوية بالاستقرار وزراعة الأرض، أو أنها قد أُجبرت على الاستقرار من قِبل سلطات أورشليم، عندما صارت أورشليم سوقًا رئيسية لمنتجات الكرمة والزيتون والمحاصيل المتوسطية الأخرى، فمملكة يهوذا، في نشأتها ومسار حياتها ونهايتها، هي مملكة فلسطينية، كنعانية اللغة والثقافة والدين والتكوين الإثني. وقد عاشت قرابة قرنين من الزمان، واستطاعت في فترات قوتها بسْطَ سلطانها على مدن سهل شفلح، خصوصًا بعد دمار لخيش عام ٧٠١ق.م.، كما تجاوز نفوذها مناطق بئر السبع جنوبًا باتجاه قادش برنيع ومناطق سيناء الشمالية، ثم جاءت نهايتها عندما فشل ملوكها في لعبة الكبار التي لم يتقنوها.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل كانت مملكتا السامرة ويهوذا يهوديتين؟ وهل دان أهلوهما بالديانة التوراتية؟ هذا ما سنتعرض له في الفصل المقبل.

١  إضافة إلى ما أوردناه سابقًا من معلومات أركيولوجية حديثة حول هذا الموضوع، انظر الورقة التي قدمها الآثاري الإسرائيلي Gunar Lehman، من جامعة ابن غوريون إلى مؤتمر الأدبيات التوراتية في كنساس سيتي عام ١٩٩٩م، والتي يذكر فيها أنه حتى نهاية عصر الحديد الأول لم تحتوِ منطقة يهوذا إلا على ١٨ مستوطنة زراعية. أما مدينة حبرون في الجنوب فكانت مدينة ميتة وشبه مهجورة. للاطلاع على المزيد راجع:
Biblical Archaeology Review, March-April, 1999, p. 41.
٢  I. Flinkestein and N. A. Silberman, The Bible Unearthed, pp. 132 ff.
٣  Leo Oppenheim, Assyrian and Babylonian Historical Texts, In: J. Pritchard, edt., Ancient Near Eastrn Texts, p. 287.
من أجل التفصيلات الكاملة لهذه الحملة، راجع مؤلفي: الحدث التوراتي والشرق الأدنى.
٤  وهذه ليست أسماء، وإنما ألقاب ورتب عسكرية آشورية.
٥  يعد القائد الآشوري هنا أهل أورشليم بالسبي إلى أرض أفضل إذا استسلموا له.
٦  راجع اقتباسنا عن كينيون وتعليقنا عليه في الفصل الرابع، ص٦٨-٦٩.
٧  إ. ولفتتسون تاريخ اللغات السامية، ص٨٣، و:
W. F. Allbright, Palestinian Inscriptions, In: Ancient Near Eastern Texts, p. 321.
٨  H. Shanks, Rewriting Jerusalem History, In: Biblical Archaeology Review, Nov-Dec, 1999, pp. 20–29.
٩  Dan Gill, How They Met? Biblical Archaeology Review, July-August, 1994.
١٠  نلاحظ هنا أن مصطلح حاتي قد بقي يطلق على مناطق غربي الفرات حتى هذا الوقت المتأخر.
١١  Leo Oppenheim, op. cit., p. 291.
١٢  الخِزامة، بكسر الخاء، هي حلقة من شعر توضع في ثقب أنف البعير ليشد بها الزمام. ويقال جعل في أنفه خِزامة؛ أي أذله وأهانه وسخره.
١٣  S. H. Horn, The Divided Monarchy, In: Hershil Shank, edt., Ancient Israel, pp. 143-144.
١٤  Leo Oppenheim, op. cit., p. 564.
١٥  S. H. Horn, op. cit., p. 147.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤