الفصل الرابع عشر

أورشليم في العصر الهيلينستي

بعد معركتين رئيستين في آسيا الصغرى؛ هما معركة سيرانيكوس عام ٣٣٤ق.م.، ومعركة إيسوس عام ٣٣٣ق.م.، انفتحت بوابة المشرق أمام الإسكندر المقدوني، وتراجع الفرس إلى ما وراء الفرات، فتابعت جيوشه مسيرتها جنوبًا، وغنمت بلاد الشام، ووصلت إلى مصر عام ٣٣١ق.م. بعد أن استقرت له الأمور في مصر، عاد الإسكندر إلى سورية، فاجتاز الفرات وغنم كامل بلاد الرافدين، ثم طارد الفرس إلى عقر دارهم، وتابع مسيرته شرقًا حتى وصل الهند عام ٣٢٦ق.م.، وهناك اضطر للتوقف تحت ضغط قواده وعامة جيشه.

لم يطُل العمر بالإسكندر ليشهد تحقيق حلمه في بناء إمبراطورية شرقية مطبوعة بالطابع الهيليني. وبعد فترة من الصراع بين قادته الرئيسيين، تم تقسيم الإمبراطورية الفارسية السابقة بين بطليموس وسلوقس، حيث استقل بطليموس بمصر وسورية الجنوبية، واستقل سلوقس بسورية الشمالية ووادي الرافدين وكاملِ ما وراء دجلة شرقًا. غير أن خلفاء سلوقس لم يتمكنوا من الاحتفاظ بفارس مدة طويلة، ففي عام ٢٨٠ق.م. قامت في منطقة بارثيا ثورة على الحكم السلوقي بقيادة زعيم يُدعى أرشق، ثم قام خلفاء أرشق باسترجاع كاملِ مناطق بلاد الرافدين إلى الحكم الفارسي، ودفعوا بالقوات السلوقية إلى ما وراء نهر الفرات.

من الوسائل الرئيسية التي اتبعها الإسكندر لنشر الثقافة الإغريقية في الشرق، بناء مدن جديدة على النمط الإغريقي، وتحويل بعض المدن الكبرى إلى مدن إغريقية الطابع. فإضافة إلى مدينة الإسكندرية التي بناها على شاطئ المتوسط المصري، فقد عمد الإسكندر إلى بناء عدد قليل آخر من المدن مثل جرش في شرقي الأردن قرب عمان، وحوَّل مدنًا أخرى إلى مدن إغريقية، مثل السامرة التي أطلق عليها اسم سيباسطة، وأسكن فيها جالية يونانية، ثم جاء خليفته أنتيغونوس، فبنى مدينة أنتيغونا على حوض العاصي الشمالي، وأسكن فيها جالية مقدونية وجالية يونانية؛ تمهيدًا لجعلها عاصمة له. ولكن حركة بناء المدن اليونانية لم تنشط على نطاق واسع إلا في عهد سلوقس الأول (نيكاتور).

بنى سلوقس نيكاتور أربع مدن رئيسية في المناطق الشمالية من سورية المجوفة والساحلية؛ هي أنطاكية وسلوقية وأفامية واللاذقية، وعددًا من المدن الأصغر التابعة لها. كما بنى عددًا آخر من المدن الأقل أهمية، مثل سلوقية على الفرات، وأوروبس قرب كركميش (جرابلس الحالية)، إضافة إلى عشر مدن باسم أنطاكية، وتسعًا باسم سلوقية، وثلاثًا باسم أفامية. وكانت كل مدينة من هذه المدن المتشابهة الاسم تُميَّز باسم منطقتها، فيقال مثلًا لاذقية فينيقيا، أو أنطاكية تحت لبنان؛ وما إلى ذلك. وإلى جانب بنائه للمدن الجديدة، فقد أعاد نيكاتور بناء العديد من المدن السورية القديمة على النمط الإغريقي، وأطلق عليها أسماء إغريقية جديدة، مثل بامبيقة، التي صار اسمها هيرابوليس (منبج الحالية)، وقنسرين التي صار اسمها خلقيس (قنسرين الحالية). وقد قسم السلوقيون سورية إلى عدد من الولايات ذات الاستقلال الذاتي، ولكل ولاية حكومة محلية تتخذ مركزها في أكبر مدن الولاية. وفيما عدا ذلك، فإن ندرة النصوص السلوقية المعاصرة لهذه الفترة تمنعنا من تكوين صورة واضحة عن نظام الإدارة السلوقي، وعلاقة هذه الولايات بالإدارة المركزية، والاستقلالية التي كانت تتمتع بها كل حكومة محلية.

على عكس السلوقيين، فإن البطالمة لم يحققوا إلا قليلًا من الإعمار في القسم التابع لهم في سورية؛ لأن قلب مملكتهم كان في مصر، وإليها وجهوا جُلَّ اهتمامهم، والمدينة الوحيدة التي بنوها كانت هيليوبوليس في بعلبك. ولكنهم قد أضفوا الطابع اليوناني على عدد من المدن وأطلقوا عليها أسماء جديدة، مثل مدينة ربة عمون التي دعيت فيلادلفيا (عمان الحالية)، وإيلات التي دعيت برنيقة، وبيت شان التي دعيت سيقثوبوليس. ولكن التغييرات التي أحدثها البطالمة في التنظيم الإداري كانت أعمق بكثير مما فعله السلوقيون، فقد ألغوا الملكيات الوراثية القديمة، خصوصًا في دويلات المدن الفينيقية، واستبدلوا بها جمهوريات ديمقراطية على غرار النظام القديم لمدينة قرطاجة. فقد جرى تنحية آخِر ملك لمدينة صور، وأنشئت الجمهورية الصورية عام ٢٧٤ق.م.، وتبعتها جبيل بعد وقت قصير ثم أرواد. وقد صاحب عزل الأسر الحاكمة الفينيقية تقطيع المدن التابعة لها وجعْلها جمهوريات مستقلة، وهذا ما حصل لأرواد التي تم تنظيمها في أربع جمهوريات، هي جمهورية أرواد نفسها، وجمهوريات مراثس (عمريت) وسيميرا، وقرنا. وترافقت عملية إلغاء الملكيات مع تقييد متزايد للاستقلال الذاتي في المدن، وطبق عليها النظام الإداري المعمول به في مصر، فدعيت كل منطقة إدارية طبارخية Toparchies. واستمدت كل طبارخية اسمها الخاص من مركزها الإداري أو من الإقليم ككل، فالسامرة مثلًا دُعيت بالمقاطعة أو الطبارخية السامرية، وعمون بالعمونية، وأورشليم باليهودية، وحوران بالحورانية، واللجاة باللجاوية. أما عن مدى استقلالية هذه المقاطعات عن الحكم المركزي فلم يكن ثابتًا، ويخضع في كثير من الأحيان إلى قوة الحكومة المحلية وعلاقتها بالبلاط البطلمي.١
على عكس الحكام الفرس السابقين، فقد كان الحكام الإغريق مهتمين بنشر ثقافتهم الخاصة وأساليب حياتهم، جريًا على سُنة الإسكندر الأكبر، وهذا ما تقبلته المناطق المحكومة عن طيب خاطر، بل وسعت إليه حثيثًا؛ لما يوفر لها من مزايا عند الحاكم. وكان من أنجع وسائل نشر الثقافة الهيلينية هو نظام المدينة اليونانية: بوليس Polic. فقد قام الحاكم الإغريقي بإنشاء مدن جديدة، وأعاد تنظيم وتعمير مدن قديمة على النمط الإغريقي، وجميعها أُعطي لقب بوليس، سواء دخل هذا اللقب في اسمها الجديد أم لم يدخل.
ولقب بوليس لا يتوقف عند التسمية السطحية فقط، بل إنه ينطوي على مضامين سياسية واجتماعية ودينية عميقة الأثر في حياة المجتمع المدني، فالمدينة التي تكتسب لقب بوليس تحكم إداريًّا وسياسيًّا على نمط دولة المدينة الإغريقية، بمجالسها الشعبية وبقية مؤسساتها السياسية، وتُشاد فيها معابد للآلهة اليونانية بعد مطابقتها مع الآلهة المحلية القديمة. أما الثقافة الإغريقية فكانت تُنشر في المجتمع من خلال عدد من المؤسسات المدنية مثل:
  • (١)
    الجمنازيوم Gymnasium. وهو بناء مخصص للتدريب على الألعاب الرياضية، يقصده الشباب منذ بلوغهم سن المراهقة. وكانت السنوات التي يقضونها فيه بمثابة مقدمة للخدمة العسكرية.
  • (٢)
    الستاديوم Stadium. وهو ملعب مفتوح يحتوي على مدرجات لمشاهدة السباقات والألعاب الرياضية.
  • (٣)
    الأوديوم Odium. وهو بناء في الهواء الطلق مسقوف من الأعلى ومفتوح الجوانب، يُستخدم للاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة العروض المسرحية الخفيفة.
  • (٤)
    المسرح المدرج Theatre. وتُقدَّم فيه العروض المسرحية الضخمة.
  • (٥)
    الليكيوم Leceum. وهو قاعة مخصصة للاجتماعات العامة والمناظرات والمناقشات والمحاضرات.
  • (٦)
    الآجورا Agora. وهو عبارة عن رواق للاجتماعات السياسية للمواطنين، يحف بإحدى الساحات الرئيسية للمدينة.

كانت فينيقيا أولى المناطق السورية تقبُّلًا لنظام المدينة اليونانية، الذي انتشر في مدنها بسرعة أكثر من غيرها. ويرجع ذلك بصورة رئيسية إلى عالمية الثقافة الفينيقية وانفتاحها على الثقافات الأخرى عن طريق التجارة البحرية، وخصوصًا الثقافة اليونانية. وقبل فتوح الإسكندر، كان التبادل التجاري والثقافي بين حواضر فينيقيا والمدن اليونانية قد بلغ ذروته منذ مطلع القرن الرابع قبل الميلاد، وأخذ بعض أمراء الأُسر الملكية الفينيقية يتخذون ألقابًا يونانية إلى جانب أسمائهم الأصلية. كما تدل الاكتشافات الأثرية على مدى ولوع ملوك فينقيا بالفنون اليدوية الإغريقية واقتنائهم لها. ويذكر الكاتب اليوناني ديودور الصقلي أن ملوك فينيقيا كانوا محبين للفنون اليونانية في الرقص والموسيقى، وكان الراقصون والموسيقيون والمغنون اليونان يُستقدَمون لأداء فنونهم في القصور الملكية الفينيقية. وقبل فتوح الإسكندر وانتشار نظام المدينة اليونانية، بدأ الفينيقيون يطابقون بين آلهتهم المحلية وآلهة اليونان، وصارت الآلهة: شَمش وتانيت وعشتارت، تعرف بأسماء إغريقية هي هيليوس وأرتميس وأفردويت.

بعد مناطق الساحل السوري، أخذت الأفكار اليونانية تتغلغل في المناطق الداخلية، وصارت المدن الكبرى تصبو إلى نظام المدينة الإغريقية؛ لِما يتمتع به من جاذبية شكلية ومضمون سياسي. فقد كان هذا النظام يعطي هامشًا كبيرًا من الحرية للمواطنين، ويتيح للحكومات المحلية اكتساب رموز السلطة والاستقلالية، مثل حق صك النقود. وعندما آلت سورية الجنوبية إلى السلوقيين حوالي عام ٢٠٠ق.م.، بعد نزاع طويل مع البطالمة، صارت أكثر المناطق تخلفًا ومحافظة ترنو إلى هذا الحد أو ذاك من الهَلْيَنة، بما في ذلك مقاطعة أورشليم التي دُعيت بمقاطعة اليهودية.

رغم أن التنظيمات الإدارية البطلمية قد أنقصت مساحة مقاطعة اليهودية عما كانت عليه مقاطعة يهود في العصر الفارسي (انظر الخريطة في الشكل رقم ١٤-١ أدناه)، إلا أن هذه المقاطعة التي كانت تعيش على أطراف الإمبراطورية الفارسية بعيدًا عن مركز الإدارة والحكم، قد غدت الآن في قلب الأحداث. وخلال قرن كامل من الصراع بين السلوقيين والبطالمة، كانت جيوش هؤلاء أو أولئك تعبُرها وتضع فيها الحاميات العسكرية، وهذا ما أخرج أورشليم من عزلتها وجعلها عُرضةً للتأثيرات الهيلينية أكثر فأكثر.٢ وعندما آلت اليهودية إلى السلوقيين مع بقية سورية الجنوبية، لم يعد أهل أورشليم قادرين على تجاهل الحد الثقافي الهيلينستي.
عندما دخل الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث أورشليم عام ١٩٨ق.م.، أعطى المدينة امتيازات خاصة، وثبَّت فيها النظام السياسي الديني القائم، والذي يحكم المقاطعة بموجَبه الكاهنُ الأعلى للهيكل وبطانته. ومنذ ذلك الوقت ابتدأ الاتجاه الهيليني في المجتمع يعلن عن نفسه، فأخذ أبناء الطبقة الأرستقراطية يتخذون أسماءً يونانية إلى جانب أسمائهم المحلية، بما فيهم كهنة الهيكل، وراحت الأفكار السياسية والاجتماعية اليونانية تنتشر بين أفراد الشرائح المتعلمة، حتى إن فريقًا من هؤلاء قد رفع الْتماسًا للملك السلوقي لكي يأذن له بإقامة جمنازيوم في أورشليم، وأن يُسجل أهل المدينة تحت اسم «الأنطاكيون في القدس». ومعنى ذلك أن تنال المدينة مكانة البوليس اليونانية تحت لقب أنطاكية. ورغم أن الملك السلوقي قد استجاب بترحاب لمطلبهم، إلا أن العملية لم تتم بسبب معارضة الفريق المحافظ.٣

كان التيار الإصلاحي بقيادة النخبة المتعلمة في أورشليم راغبًا في تحويل النظام السياسي الديني المتخلف إلى نظام حديث يتفق وروح العصر. ورغم أن الدوافع وراء هذا التوجه كانت اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى، إلا أن بعض الإصلاحيين كان يتوق إلى أبعد من ذلك، وكانت النوايا تتجه إلى إصلاح الدين اليهودي والمزاوجة بين اليهودية والهيلينية، فلقد رأوا أن التوحيد اليهودي ينطوي على أفكار شمولية عالمية، ولكن التفسير الحرفي الأصولي قد كبتها من خلال فهمه الضيق لفكرة الإله الواحد الذي يختص بشعب واحد من دون بقية الشعوب. كما رأوا أن هذه الأفكار الشمولية المكبوتة تتفق مع فكرة الثقافة العالمية الواحدة التي آمن بها الإسكندر وعمل على تطبيقها.

fig26
شكل ١٤-١: حدود مقاطعة اليهودية في العصر الهيلينستي.
لقد أعاد الإصلاحيون قراءة النصوص المقدسة بعين جديدة، وحاولوا تأويلها وفَهْمها من خلال منظور عالمي شمولي، ورأوا بأن المعتقد والشريعة هما من حيث الجوهر والأصول موجَّهان لجميع الأمم، لا لبني إسرائيل وحدهم، ولكن الأجيال التي تناقلت النصوص المقدسة قد غللتها بالخرافة، وأضافت على الشريعة الكثير من المطالب والتحريمات المستحيلة. من هنا يتوجب على الأجيال الجديدة، في اعتقادهم، إعادة فَهْم وتأويل الشريعة بما يتلاءم ومستجدات الحياة الحديثة. وأفضل طريقة لذلك هي المواءمة بين فكرة الإله اليهودي ومفهوم المدينة اليونانية، بما ينطوي عليه من ثقافة شمولية لا تقف عند حدود العرق والدين. لم تصلنا أفكار هؤلاء الإصلاحيين عبر نصوص مباشرة، بل عبر كتابات نقادهم اللاحقين الذين اتهموهم بالهرطقة ومحاولة تقويض أصول الدين. كما أن ملاحظات فيلو اليهودي بخصوصهم مليئة بالإشارات المفيدة إلى حقيقة فكرهم.٤

لا نملك الكثير من المعلومات المستقاة من المصادر السلوقية المباشرة بخصوص مقاطعة اليهودية، لما تبقى من الفترة الهيلينستية، من هنا، لا بد لنا من الاعتماد على مرجعين يهوديَّين؛ هما كتابات المؤرخ يوسيفوس في مؤلَّفَيه «الحروب اليهودية» و«تاريخ اليهود»، وأسفار المكابيين في الترجمة اليونانية للتوراة، وهي من الأسفار غير القانونية في التوراة العبرية، وكُتبت أصلًا باللغة اليونانية. وهنا لا بد لنا من قراءة هذه المراجع، التي تتصف بالتحيز وأحادية الرؤية الأيديولوجية، بعين المؤرخ العصري التي تميز بين الواقع والخيال، وبين الحدث وتفسيره الأيديولوجي.

في عام ١٧٥ق.م.، ورث العرش السلوقي أنطوخيوس الرابع (أبيفانوس)، الذي وجدت فيه الحركة الإصلاحية نصيرًا قويًّا. فقد عمد هذا الملك، الذي كان تواقًا إلى نشر الهيلينية، إلى دعم الإصلاحيين عن طريق إزاحة الكاهن الأعلى المحافظ أونياس، واستبداله بواحد من الكهنة الذين يميل إليهم الإصلاحيون، واسمه ياسون. وهنا يقول لنا محرر سفر المكابيين بأن ياسون قد اشترى منصبه بمبلغ من المال دفعه للملك السلوقي. ولكننا لا نملك أية وسيلة للتحقق من هذه المعلومة، ونميل إلى استبعادها نظرًا لما يكنُّه محرر المكابيين من تحيز واضح ضد الاتجاه الإصلاحي. بدأ ياسون بإسباغ مظاهر المدينة اليونانية على أورشليم، فبنى جمنازيوم قرب جدار الهيكل، وقام بتحويل المداخيل الهائلة للهيكل؛ من الإنفاق على القرابين الباهظة التكاليف، إلى الفعاليات والنشاطات والمرافق ذات النفع العام، كما أنفق على المباريات والألعاب بسخاء، حتى إن كهنة الهيكل قد انشغلوا بتتبع النشاطات الرياضية عن ذبائح وقرابين الهيكل وغيرها من النشاطات الدينية الروتينية. وقد عبر العاهل السلوقي عن رضاه بزيارته لأورشليم عام ١٧٣ق.م.، حيث استُقبل بحفاوة بالغة من قِبل المواطنين الذين ساروا بمواكب المشاعل وحيَّوه بالهتافات العالية. وفي السنة نفسها شاركت أورشليم بالألعاب الرياضية السنوية التي كانت مدينة صور تقيمها على غرار الألعاب الأولمبية.

ولكن أنطوخيوس أبيفانوس عمد في عام ١٧٢ق.م. إلى استبدال ياسون بشخص أكثر قربًا إلى الإغريق، هو مينلاوس. ويبدو أن هذه الخطوة لم تكن مدروسة بما فيه الكفاية؛ لأن المجتمع الأورشليمي قد انقسم حتى تحول إلى نزاع فإلى صدامات مسلحة بين الطرفين، تدخَّل أنطوخيوس لحسمها، فدخل أورشليم بجيشه وأعاد إليها الاستقرار بقوة السلاح، ثم بنى قلعة الأكرا على الهضبة الغربية المقابلة لأورشليم، ووضع فيها حامية سلوقية دائمة لحفظ الأمن.٥ بعد عام على هذه الأحداث أصدر أبيفانوس مرسومًا استبدل به الشريعة الموسوية الحاكمة للعلاقات المدنية بالقانون المدني السلوكي، وحوَّل هيكل أورشليم من مركز ديني محلي إلى مركز ديني عالمي، وذلك بالمطابقة بين يهوه اليهودي وزيوس الأوليمبي، وتبع ذلك نصبُ تمثال لزيوس يهوه في هيكل أورشليم.

لقد فسر المؤرخون هذه الخطوة على أنها حملة اضطهاد ديني موجهة ضد المعتقدات اليهودية، وذلك بتأثير أسفار المكابيين وكتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس، جاعلين من أبيفانوس أول مُعادٍ للسامية وأول من ابتدأ الاضطهاد الديني لليهود. ولكن الحقيقة هي أن السلوقيين لم يمارسوا قط سياسةَ التمييز الديني ضد أية طائفة، ناهيك عن الاضطهاد وتدنيس المحرمات، لأن التمييز الديني كان بعيدًا عن طبع الإغريق عامة، وعن الحاكم السلوقي الذي اعتبر نفسه وريث الإسكندر والقيم على مبادئه الإنسانية الشمولية. من هنا، فإن الإجراءات السلوقية في أورشليم يجب أن تُفهَم في السياق العام لسياسة الهَلْيَنة التي كانت مدن بلاد الشام تسعى إليها راضية. ففي جميع المدن التي نالت مرتبة بوليس وامتيازاتها، جرت مطابقة الآلهة المحلية مع الآلهة الإغريقية، وتقبَّل المواطنون القانون المدني السلوقي الذي يوحد وينمِّط القوانين والأعراف المحلية، من أجل دمج المجتمعات الصغيرة في المجتمع الموحد للدولة. يضاف إلى ذلك أن أنطوخيوس أبيفانوس الذي تلقى تعليمه وَفق أفضل التقاليد الهيلينية، كان بعيدًا عن نموذج الحاكم الطاغية الذي رسمته له أسفار المكابيين ومؤلفات يوسيفوس، وأكثر قربًا إلى نموذج الحاكم الإغريقي المنفتح العقل والتفكير. من هنا، فإننا نرجح أن يكون أبيفانوس قد اتخذ إجراءاته تلك بتشجيعٍ من الكاهن الأعلى منيلاوس والاتجاه الإصلاحي في المدينة، وذلك في خطوة حاسمة منهم نحو هَلْينة أورشليم، إلا أن نتائج هذه الإجراءات السابقة لأوانها بالنسبة إلى مقاطعة متخلفة كمقاطعة اليهودية، قد فاقت كل توقعات أبيفانوس وحلفائه الإصلاحيين، وكان لها أثر لا يُمحى على مسار التاريخ اللاحق لأورشليم.

(١) المكابيون وقيام الدولة اليهودية

لو أن ما حصل في أورشليم قد حصل في أية مدينة سورية تطمح إلى مرتبة المدينة اليونانية، لكان أمرًا طبيعيًّا بل ومرغوبًا من قِبل الجميع، ولكن المجتمع اليهودي الذي بقي محافظًا في غالبيته لم يكن جاهزًا بعدُ للانفتاح، ولم تجد عامة المتدينين الأصوليين في عبادة يهوه-زيوس سوى شكل من أشكال عبادة الأبعال السورية التي نددت بها أسفار الأنبياء. وما لبث التململ حتى تحول إلى تمرد اتخذ شكل حرب العصابات، وذلك بقيادة رجل يدعى متَّى حشمون، وهو سليل أسرة كهنوتية يقيم في بلدة مورين على بُعد عشرة كيلومترات من أورشليم. وكان لمتَّى هذا خمسة أولاد مشوا معه، هم يوحنا الملقب كديس، وسمعان المسمى طسي، ويهوذا الملقب بالمكابي، واليعازر الملقب أوران، ويوناثان الملقب أفوس.

بعد عامين من حرب العصابات ضد السلوقيين ومناصريهم في الداخل، استطاع الإخوة الخمسة، بقيادة يهوذا الملقب بالمكاني، طرد الحامية السلوقية خارج منطقة أورشليم عام ١٦٤ق.م.، وطهروا المعبد من كل رموز الإصلاح الديني. ولكن يهوذا المكابي قُتل فيما تلا ذلك من مواجهات عنيفة بين الطرفين، وتولى القيادة بعده أخوه يوناثان، الذي اضطر للانسحاب من أورشليم مع مقاتليه والاحتماء ببيت لحم. في ذلك الوقت توفي أبيفانوس، وكان ابنه صغيرًا على تولي مقاليد الحكم، فنَشِب صراع طويل على عرش سلوقيا، الأمر الذي أتاح الفرصة ليوناثان للعودة إلى أورشليم، حيث تصرف كحاكم مستقل عن السلطة المركزية. بعد تصفية باقي المطالبين بالعرش، تركَّز الصراع في أنطاكية بين أميرين سلوقيين، هما ألكسندر بالاس وديمتريوس، فراح كلٌّ منهما يخطب ودَّ حكام المقاطعات السورية لكسب تأييدها ضد خصمه. وهنا وقف يوناثان إلى جانب ديمتريوس الذي كانت حظوظه في طريق الصعود،٦ وكان قرار يوناثان المدروس هذا صائبًا؛ لأن ديمتريوس ما لبث طويلًا حتى تغلب على خصمه وتولى عرش سلوقيا، وكافأ كلَّ مَن ساعده، ومن بينهم يوناثان، الذي تم تثنيته كاهنًا أعلى، وسُمح له بالاحتفاظ بقوات عسكرية خاصة به، وخُففت عنه الضرائب، كما أُعطي الإذن بتوسيع مقاطعته حتى عادت إلى ما كانت عليه أمام الفرس تقريبًا.
في عام ١٤٣ق.م. توفي يوناثان وخلفه أخوه سمعان، آخر الإخوة المكابيين من أبناء متَّى حشمون،٧ وهو المؤسس الحقيقي لدولة أورشليم المستقلة، وفي عهده تمت النقلة الحاسمة نحو استقلال مقاطعة اليهودية. فقد حاصر سمعان قلعة الأكرا السلوقية وافتتحها ثم هدمها حجرًا حجرًا وسوَّاها بالتراب. وهنا يقول يوسيفو بأن سمعان عندما لاحظ أن قمة الهضبة الغربية التي بُنيت عليها القلعة هي أعلى من الهضبة الشرقية للمعبد، عمد إلى تسوية قمَّتها ليخفض مستواها عن مستوى المعبد. وعندما أعلن رسميًّا الاستقلال الكامل عن سلوقيا، لم يكن وضع البلاط السلوقي في حالة تسمح له بالتحرك، فخضع للأمر الواقع، وتم إعلان اليهودية دولة مستقلة عام ١٤٢ق.م.
كانت الدولة التي أسسها سمعان المكابي دولة دينية يرأسها الكاهن الأكبر الذي تركزت بين يديه جميع السلطات الدينية والدنيوية في آن معًا. فإلى جانب لقب الكاهن الأكبر، اتخذ سمعان لقبين آخرين، هما إثنارك Ethnarch أي رئيس الشعب، وستراتيجوس Strategos أي القائد العسكري الأعلى. وقد ابتدأ بخطة شاملة لمحو كل آثار الهيلينية والعودة إلى التقاليد الدينية القديمة، فألغى المؤسسات التربوية والثقافية الهيلينستية، وأحل محلها نظامًا قوميًّا للتعليم، قوامه شبكة من المدارس التي تعلِّم أسفار التوراة، ويقصدها كل الشبان، بدل الجمنازيوم والملاعب والمسارح اليونانية. وساعده في حملته الثقافية الرجعية هذه طائفةُ الصدوقيين التي كانت آخذةً بالتشكل في تلك الآونة، وهي طائفة متزمتة تلتزم التفسير الحرفي اللاهوتي للتوراة، وترفض كل شكل من أشكال التفكير الحر. حكم سمعان من ١٤٢ق.م. إلى ١٣٤ق.م.، وعمل خلال هذه الفترة على توسيع مناطق نفوذه باتجاه الغرب والشمال الغربي، فضم يافا إليه، وحصل بذلك على ميناء على البحر المتوسط.

لم يأت تشكيل الدولة المكابية نتيجة للقوة العسكرية للمكابيين، ولا لبطولات وتضحيات أولاد متَّى حشمون الذين رفعهم الخيال الشعبي في أسفار المكابيين إلى مَصافِّ الأبطال الخرافيين. فمقاطعة اليهودية بعد كل شيء لم تكن سوى مقاطعة فقيرة ومتخلفة في كل مجال، ولم يكن بمقدورها تحقيق الاستقلال لولا التفكك السياسي للدولة السلوقية، وصعود نجم روما بعد سلسلة الحروب البونية التي قضت خلالها على مُنافِستها قرطاجة، وانفتح أمامها الطريق للسيطرة على الشرق، فراحت تضغط على الدولة السلوقية وتفرض عليها الإتاوات الباهظة. وفي الحقيقة، فإن استقلال مقاطعة اليهودية الذي تُصوره المراجع اليهودية على أنه حدث فذٌّ وفريد، قد أتى ضمن سلسلة من العمليات الانفصالية عن الإدارة المركزية، وقيام العديد من الجمهوريات والولايات السلوقية بإعلان استقلالها، مستفيدة من الخلافات المستمرة بين أفراد الأسرة المالكة السلوقية، فبعد مقاطعة اليهودية استقلت جمهورية صور الفينيقية، ثم تبعتها صيدون فطرابلس فأشقلون فاللاذقية وبيروت.

وقد ساعد غياب السلطة المركزية في المملكة على صعود نجم إمارتين عربيتين، هما إمارة الأنباط وإمارة اليطوريين. فأما الأنباط فهم قبائل عربية متجولة أخذت تدريجيًّا تُساكن الإدوميين في مناطقهم جنوبي البحر الميت منذ القرن السادس قبل الميلاد، ثم ذابت العناصر الإدومية تدريجيًّا وطغت عليها العناصر النبطية. ومنذ أواسط القرن الثاني، صار أمراء الأنباط يتلقبون بالملوك، واستغلوا فرصة ضعف الدولة السلوقية ليمدوا نفوذهم شمالًا باتجاه شرقي الأردن، وهذا ما وضعهم في منافسة مع حكام الدولة اليهودية الناشئة.٨ وأما اليطوريون فكانوا شعبًا عربيًّا أقام منذ أيام الإسكندر المقدوني في المنطقة الواقعة بين جبل الحرمون وحوض الأردن الشمالي، وكانوا يقطعون طرق القوافل التجارية ويفرضون عليها الإتاوات. وتقول أخبار الإسكندر إنه ترك حصار صور وتوجَّه إليهم في حملة تأديبية. وقد اختفت أخبارهم بعد ذلك حتى مطلع القرن الثاني، حيث ظهروا في منطقة البقاع، واتخذوا من مدينة بعليك عاصمة لهم. تهَلْيَن أمراء اليطوريين بعد استقرارهم واتخذوا لأنفسهم أسماء يونانية، وقاموا بفتوحات واسعة ضمت، إلى الشرق من لبنان الشرقي، شقةً كبيرة من الأرض اشتملت على كامل منطقة القلمون، كما ضمت، إلى الجنوب والجنوب الشرقي، منطقةَ الطراخونية والحورانية، وبذلك أحاطوا بدمشق وخنقوا تجارتها، وكادوا يستولون عليها لولا حماية حارثة ملك الأنباط لها.٩

توفي سمعان المكابي عام ١٣٤ق.م.، وخلَفه ابنه المدعو جون هيركانوس. كان هيركانوس تلميذًا نجيبًا للتوراة، وقد اعتقد أن الحكمة الإلهية قد اختارته لإعادة فتح كنعان على طريقة يشوع، فبدأ بتجهيز جيش مدرب معظمه من المرتزقة الذين أنفق عليهم بسخاء. وعندما أحس بقوته كانت السامرة هدفه الأول، فبعد حصار دام عامًا كاملًا سقطت السامرة (أو سيباسطة كما صارت تُدعى)، فأحرقها ودمرها. وبعد أن ألحق كامل مقاطعة السامرة بأملاكه وذبح عشرات الآلاف من سكانها، خصوصًا في بيت شان (أو سقيثوبوليس) وغيرها من مراكز الثقافة الهيلينية، توجه جنوبًا نحو إدوميا وضمها أيضًا إلى ممتلكاته، وكان على أهل إدوم إما اعتناق اليهودية أو مواجهة الموت، كما وسَّع الرقعة التي كان سلفه قد استولى عليها حول يافا على ساحل المتوسط. حكم جون هيركانوس قرابة الثلاثين عامًا، وكان نموذجًا لليهودي المتعصب الذي لا يرى في البشر إلا نوعين؛ هما اليهودي وغير اليهودي. ورغم أنه لم يتخذ لقب الملك مكتفيًا بألقاب أبيه الثلاثة، إلا أن مقاطعة اليهودية قد تحولت في عهده إلى مملكة كبيرة تم اكتسابها بحد السيف.

توفي هيركانوس عام ١٠٤ق.م.، وخلَفه ابنه أرسطوبولس الأول الذي اتخذ لقب الملك. استطاع أرسطوبولس خلال سنة واحدة من حكمه ضمَّ منطقة الجليل، ثم توفي فجأة، وخلَفه أخوه ألكسندر ينايوس. كان ينايوس آخر الشخصيات المهمة في الأسرة المكابية، وهو الذي وسَّع حدود الدولة المكابية إلى أقصى مدًى لها، وذلك باستيلائه على معظم مناطق شرقي الأردن، إضافة إلى ما تبقى من الساحل الفلسطيني، بينما كان السلوقيون يقفون موقف المتفرج في انتظار الضربة الأخيرة لروما، والتي لم تتأخر كثيرًا. كان ينايوس أشرس حكام المكابيين، فقد تابع سياسة التهويد تحت قوة السلاح وطبَّقها على أوسع نطاق، كما مارس القمع والإرهاب والقتل الجماعي في كل مكان، ولم ينجُ من طغيانه سكانُ اليهودية الذين قتل منهم الآلاف. وهذا ما أحدث تململًا شعبيًّا واسعًا في أورشليم والمقاطعة اليهودية، ما لبث أن تحول إلى تمرد بقيادة الطائفة الفريسية.

نشأ الفريسيون من قلب الطبقات الشعبية، وقد ورثوا قسمًا لا بأس به من أفكار الإصلاحيين القدماء، الذين كانوا حول ياسون ومنيلاوس قبل ظهور المكابيين. إلا أن هؤلاء الإصلاحيين الجدد تميزوا بالاعتدال وبقوا ضمن الإطار العام للعقدية التقليدية، ولكنهم قالوا بأن يهوه عندما أنزل الشريعة المكتوبة على موسى، قد أنزل معها في الوقت نفسه شريعةً شفوية تم تداولها عبر أجيال الحكماء، وأن هؤلاء الحكماء يستطيعون بواسطة الشريعة الشفوية تفسيرَ وتكميل الشريعة المكتوبة بما يتلاءم والظروفَ المستجدة.١٠ وفي المقابل، فقد رفضت الطائفة الصدوقية هذه الأفكار وأصرَّت على عدم وجود شريعة غير مكتوبة، وأدانت كل التفسيرات المرنة والعصرية الناجمة عن إعمال المنطق الفريسي في النصوص المقدسة.١١ وقد التقت هذه الأصولية الفكرية للصدوقيين بالأصولية العرقية للمكابيين، وكان بينهم منذ البداية حلف مكين، خصوصًا وأن الصدوقيين كانوا يسيطرون على الهيكل وكهنته وعلى مدارس التعليم الديني في كل مكان. في عهد ألكسندر ينايوس، وجد الفريسيون أن الأسرة المكابية قد آلت إلى التحلل والفساد، وأن الفتوحات الخارجية لم تكن تهدف إلى نشر الدين بقدر ما كانت تهدف إلى تحقيق الأمجاد الشخصية للملوك. وقد وقفت الطبقات الشعبية إلى جانب الفريسيين، بينما وقفت الأرستقراطية والكهنوت إلى جانب الصدوقيين والحكام، وتحول التوتر إلى تمرد فإلى حرب أهلية غلب عليها الطابع الطبقي. دامت الحرب الأهلية ست سنوات، وعندما بدأ ألكسندر ينايوس يحقق انتصاراته على المعارضة وافتْه المنية في عام ٧٦ق.م.، ووضع موته حدًّا للأزمة.
خلال عهد ألكسندر ينايوس وأبيه جون هيركانوس، تحولت مقاطعة اليهودية إلى مملكة غنية، وازداد عدد السكان بشكل ملحوظ؛ نتيجة لازدهار التجارة والزراعة وتدفُّق الأموال على خزينة الدولة من المقاطعات المفتوحة. ويمكن ملاحظة هذا التطور في أوضاع أورشليم، فلقد بقيت أورشليم محصورة ضمن أسوار نحميا على ذروة هضبة أوفيل خلال كامل العصر الفارسي ومعظم العصر الهيلينستي، ولم يتجاوز عدد سكانها الخمسة آلاف في أفضل الأحوال، ولكنها انتقلت خلال عصر المكابيين؛ من وضع المدينة الهامشية إلى وضع العاصمة الكبرى، وخصوصًا خلال عهد جون هيركانوس وألكسندر ينايوس، حيث امتد العمران حتى شمِل الهضبة الغربية للقدس، وبلغ عدد السكان قرابة الثلاثين ألفًا. وهذا يعني أن المدينة قد عادت إلى وضعها السابق خلال القرن الأخير لمملكة يهوذا. ونلاحظ من المخطط الذي رسمته كاثلين كينيون لأورشليم المكابية، أن المدينة صارت مؤلفة من قسمين مسورين؛ الأول على هضبة أوفيل داخل سور نحميا، والثاني امتد عبر وادي تبيريون (الوادي المركزي) حتى صعِد القمة المقابلة على التلة الغربية. والقسمان لا يتصلان إلا عند مساحة ضيقة قرب الجدار الجنوبي للمعبد، وهذا ما يجعلهما شبه منعزلين عن بعضهما، ويعرقل الاتصال بينهما خصوصًا في زمن الحصار والحرب (انظر المخطط في الشكل رقم ٢-١ أدناه).

هذا وتُظهر اللُّقى الأثرية من الفترة المكابية، أن هؤلاء المكابيين الذين أنشئوا دولتهم على أسس أصولية منافحة عن الثقافة التوراتية، ما لبثوا حتى تحولوا إلى هيلينيين معتدلين. فالقطع النقدية التي صكها ملوك المكابيين باللغتين المحلية واليونانية تحمل رموزًا تشكيلية يونانية معروفة، مثل النجمة داخل دائرة، وغصن النخلة، والمرساة، وقرون الماعز المزينة بالثمار. وفي قصر مكابي تم اكتشافه حديثًا في أريحا، تظهر العمارة اليونانية بكامل أناقتها وأبَّهتها، مثلما يظهر أسلوب حياة الملوك المتأثر بنمط الحياة اليونانية.

بعد موت ينايوس عام ٧٦ق.م. خلَفتْه زوجته سالومي التي حكمت تسع سنوات (٧٦–٦٧ق.م.). تقربت سالومي خلال عهدها من الفريسيين، وأوكلت إليهم مراكزَ حساسة في الدولة، فكانت سنوات حكمها عهد استقرار ومصالحة بين شرائح المجتمع المتناقضة. وبعد وفاتها تنازع ابناها أرسطوبولس الثاني وهيركانوس الثاني على السلطة. وكان القائد الروماني بومبي قد صفَّى المملكة السلوقية، ودخل قائد جيوشه إلى دمشق آخر معاقل السلوقيين، حيث استقبل بترحاب كبير عام ٦٥ق.م.، فقصده الأخوان المتنازعان، وكلٌّ منهما يسعى إلى تثبيته حاكمًا إقليميًّا على اليهودية وممتلكاتها. ولكن وزير هيركانوس المدعو أنتيبار، وهو إدومي متهود، قد لعب دورًا دبلوماسيًّا مهمًّا، حيث قصد دمشق واتفق مع القائد الروماني على فتح أبواب أورشليم أمام الرومان، مقابل الاعتراف بسيده هيركانوس ملكاً على أورشليم. وكان عندما وصل الرومان أن أنصار أرسطوبولس تحصنوا في المدينة ورفضوا فتح الأبواب، فحاصرهم الرومان ثلاثة أشهر، ثم فتحوا المدينة عام ٦٣ق.م. وعلى الإثر ثبَّت بومبي هيركانوس في منصبه، ولكن لا كملك، بل ككاهن أعلى يتمتع بصلاحيات الحكم والإدارة، كما ثبَّت أنتيبار الإدومي في منصب الوزير الأول. وبذلك عادت اليهودية مقاطعة تحت حكم الرومان، وانتهت أول وآخر دولة مستقلة لليهود في فلسطين، والتي دامت قرابة ثمانين عامًا (١٤٢–٦٣ق.م.).

fig27
شكل ١٤-٢: أورشليم في العصر المكابي.

يعزو المؤرخ اليهودي يوسيفوس خراب المملكة اليهودية إلى النزاع بين أولاد سالومي على السلطة، وهو يعتقد بأنه لو اتحد الأخوان واستطاعا معًا التفاوض مع الرومان لنجحا في تجنيب المملكة مصيرهما، وهذا الرأي الساذج يدل على ما يتمتع به يوسيفوس من قِصر نظر وبُعد عن المنطق التاريخي السليم. ذلك أن الظروف التي أتاحت لهذه المملكة المصطنعة التشكُّل والتوسع قد تغيرت تمامًا؛ فلقد ظهر الإخوة المكابيون، ومن ورائهم العناصر اليهودية الأصولية، في ظل تراخي السلطة المركزية السلوقية وتفكك أجزائها، ولم يكن توسعهم داخل فلسطين وخارجها إلا على شكل مد استعماري لمناطق تم حكمها بالحديد والنار والقمع والإرهاب، ولم يكن لمثل هذا الحكم أن يستمر طويلًا حتى وإن لم تظهر روما على مسرح الأحداث. وبعد انتهاء فترة الإخوة المكابيين الذين قاتلوا عن عقيدة وإيمان، مستمدين حق السلطة من عامة اليهود المتدينين، تحول ملوك الأسرة الحشمونية إلى طغاة يستمدون حق الملك من قوة السلاح وحدها، وانفض عنهم عامة المتدينين بسبب فسقهم وفجورهم وتسلطهم، وراحت المقاطعات المحكومة تتحين الفرص للانفصال والاستقلال. ولم يكن دخول بومبي إلى أورشليم إلا من قبيل إطلاق رصاصة الرحمة على مملكة في طور الاحتضار، فجردها من جميع ممتلكاتها وأعادها إلى وضعها الطبيعي كمقاطعة فلسطينية صغيرة تابعة للولاية السورية الكبرى التي يحكمها قنصل روماني من دمشق. وهذه الخطوة كانت حتمية، إن لم يكن بسبب السياسة الإمبراطورية الرومانية، فبسبب بُعد النظام الديني المتعصب في هذه الدويلة عن الذائقة الرومانية وعن فلسفة الحكم الروماني.

١  المعلومات التي سقتها حتى الآن بخصوص الأوضاع الإدارية في بلاد الشام تستند بشكل رئيسي إلى كتاب أ. ﻫ.. م. جونز: مدن بلاد الشام عندما كانت ولاية رومانية، ترجمة إحسان عباس، دار الشروق، عمان، ١٩٨٧م، إضافة إلى مراجع متفرقة أخرى.
٢  على عكس السامرة التي تهلينت بسرعة منذ أيام الإسكندر المقدوني، وصارت مركزًا من مراكز الإشعاع الثقافي الهيلينستي، فقد عاشت أورشليم بعيدًا عن التأثيرات الجديدة قرابة قرن ونصف القرن تقريبًا. وهذا ما تدل عليه المكتشفات الأثرية في كلتا المنطقتين، فقد أفاضت المواقع السامرية بالفخاريات والصناعات اليدوية ذات الطابع الإغريقي، بينما حافظت المواقع اليهودية على طابعها القديم، ولم تظهر فيها أية تأثيرات إغريقية حتى مطلع القرن الثاني قبل الميلاد (كينيون ١٩٧٤م، ص١٨٩).
٣  Lee Levine, The Age of Hellenism, In: H. Shanks, Ancient Israel, p. 181.
أ. ﻫ.. م. جونز، مدن بلاد الشام عندما كانت ولاية رومانية، ص٥٢.
٤  Paul Johnson, A History of the Jews, pp. 100-101 .
٥  يتهم محرر سفر المكابيين الأول أنطوخيوس أبيفانوس بنهب كنوز معبد أورشليم في حملته تلك، إلا أن ما نعرفه من ثراء المملكة السلوقية في عهد هذا الملك، وأعماله العمرانية التي لم يبزَّه بها أحد من ملوك السلوقيين إلا سلوقس نيكاتور، والترف الفاحش الذي كانت تعيشه العاصمة أنطاكية وبقية المدن الكبرى في المملكة؛ يجعل قيام أبيفانوس بنهب الهيكل أمرًا مستبعدًا جدًّا، إن لم يكن مستحيلًا.
٦  يقول بوسيفيوس في كتابه «تاريخ اليهود» إن يوناثان قد أنجد ديمتريوس بكتيبة عسكرية قوامها ثلاث آلاف جندي، عندما كان ديمتريوس محاصَرًا في قصره بأنطاكية، فنفذ هؤلاء إلى القصر وراحوا يرشقون الشعب بالقذائف الملتهبة، وأشعلوا النيران في المنازل المجاورة، وعندما أخذ أبناء المدينة يتراجعون أمام النار تعقَّبهم اليهود وأعملوا فيهم مذبحة، ونهبوا ما استطاعوا الوصول إليه.
٧  تُدعى هذه الأسرة التي تسلسلت من متَّى حشمون بالأسرة المكابية أو الأسرة الحشمونية.
٨  د. إحسان عباس، تاريخ دولة الأنباط، دار الشروق، عمان، ١٩٨٧م.
٩  أ. ﻫ.. م. جونز، مدن بلاد الشام حين كانت ولاية رومانية، ترجمة إحسان عباس، دار الشروق، عمان، ١٩٨٧م.
١٠  التقط المعلمون الربانيون هذه الفكرة فيما بعد، وعملوا بواسطتها على إحداث انقلاب عميق الأثر في الدين اليهودي بعد دمار الهيكل وزوال الدولة اليهودية.
١١  يذكرنا هذا الخلاف بين الصدوقيين والفريسيين، بالخلاف بين فرقة الأشاعرة وفرقة المعتزلة عند المسلمين خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤