الفصل السابع

عودة إلى الوراء

(٢) عصر الحديد والبحث عن العبرانيين

بلغ الجفاف الميسيني ذروته فيما بين ١٢٥٠ق.م. و١٢٠٠ق.م. ثم بدأ المناخ يميل ببطء نحو البرودة والرطوبة، وبعد أن طويت صفحة ثقافة عصر البرونز، وأخذت ملامح خارطة بشرية وحضارية بالتشكل في المنطقة مع تقدمنا في عصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.). فقد استقرت القبائل الآرامية التي ظهرت خلال الفترة الانتقالية، وأخذت ببناء القرى الزراعية في مناطق الجزيرة وحوضي الفرات والخابور، وعلى طول السهول الشمالية وصولًا إلى سهل العمق، وتعاونت مع الشرائح الاجتماعية المدينية القديمة على إعادة سكن وترميم المدن، كما بنت لنفسها مدنًا جديدة لم تكن موجودة في عصر البرونز الأخير، ولم ينتهِ القرن الحادي عشر، حتى كان الآراميون قد أسسوا ممالك قوية، ومنظمة على النمط السوري المعروف، في مناطق الشمال أولًا ثم هبوطًا نحو حماة فدمشق. وفي مقابل الضغط العسكري الآشوري الذي جاء من وادي الرافدين الشمالي، فقد مارس الآراميون ضغطًا سلميًّا على وادي الرافدين الجنوبي، حتى استطاع الفرع الكلداني من القبائل الآرامية السيطرة تمامًا على منطقة لارسا وبابل، وأسس المدعو نابو بولاصر (٦٢٥–٦٠٥ق.م.) لأول سلالة كلدانية في بابل.

دعيت الممالك الآرامية الشمالية، المتوضعة على طول خط الحدود الفاصل اليوم بين سورية وتركيا، بالممالك الحثية الجديدة، وذلك مثل جوزانا (تل حلف)، وحداتو (أرسلان طاش)، وأرفاد، وشمأل (تل زنجرلي). إن تسمية هذه الممالك بالحثية الجديدة لها ملابسات تاريخية وأخرى تتعلق بزمن وطبيعة الاكتشافات الأركيولوجية الأولى في سورية، فقد استمر الآشوريون يدعون هذه المنطقة حاتي بعد زوال المملكة الحثية في الأناضول بزمن طويل. وعندما قام المنقب الألماني فون أوبنهايم باكتشاف أول عاصمة آرامية في موقع تل حلف (جوزانا) حوالي عام ١٨٩٩م، حافظ على التسمية الآشورية المضللة ودعا الثقافة التي تكشفت له في الموقع بالثقافة الحثية الجديدة، تفريقًا لها عن ثقافة حاتي القديمة. ونظرًا لقلة المواقع السورية القديمة المكتشفة في ذلك الوقت المبكر، فقد تمت مقارنة آيات النحت العظيم التي أفاض بها موقع تل حلف مع الفن الحثي والفن الآشوري، ولم يتم الانتباه إلى طبيعته الخاصة كفنٍّ آرامي أصيل، ولكنه متأثر بالفن الحثي والفن الآشوري. وهكذا ساد مصطلح الفن الحثي الجديد والممالك الحثية الجديدة واستمر دون مساءلة. ولكن الدارسين المحدثين للفن السوري الشمالي خلال القرن الأول للألف الأول قبل الميلاد، أخذوا يكتشفون فيه عناصر سورية محلية، رغم تأثره بالفن الحثي بسبب الجاليات الحثية الكبيرة التي وفدت إلى هذه المناطق عقب انهيار المملكة في الأناضول واختلطت بالآراميين. يقول باولو ماتييه، المؤرخ وعالم الآثار الإيطالي المعروف حول هذا الموضوع الكلمة المعبرة التالية: «إن مصطلح الحثي الجديد هو من أكثر المصطلحات التي نحتها الباحثون المبكرون دوغمائية وخطًّا، وهو يحرم الفن السوري من كل أصالة وإبداع.»١

وبخصوص أصل الآراميين، فقد جعلهم البحث التاريخي التقليدي قبائل نزحت من شبه الجزيرة العربية لترسخ أقدامها في بلاد الشام، مستفيدة من فترة الفراغ وحالة الفوضى السياسية والاجتماعية التي ميزت الفترة الانتقالية من عصر البرونز إلى عصر الحديد. كما رأى بعض الباحثين المحدثين أن الآراميين هم قبائل رعوية كانت متواجدة منذ زمن طويل في البادية السورية وعلى أطراف المناطق الزراعية، ثم ساعدتها ظروف الفترة الانتقالية على إيجاد موطئ قدَمٍ لها في الخارطة السياسية والاجتماعية الجديدة لبلاد الشام.

ولكني أتقدم هنا برأي حول أصل الآراميين يستند إلى ما وجدناه في العصور السابقة من حركة طاردة تدفع السكان المستقرين إلى النزوح والتحول إلى حياة الرعي، إبان فترة الجفاف، وحركة أخرى جاذبة تدفعهم إلى التجمع من جديد والعودة إلى نمط حياتهم السابق، سواء في أراضيهم نفسها أم في أراضٍ مناسبة أخرى. فالآراميون، والحالة هذه، ليسوا جماعات قدمت إلى بلاد الشام من خارجها، بل هم جماعات رعوية تشكلت من أشتات المزارعين وسكان المدن المهجورة، خلال فترة الجدب الطويلة التي تُوجت بكارثة الجفاف الميسيني. وقد تجمع هؤلاء في كيانات سياسية قبلية متماسكة، وتبنوا استراتيجيات جديدة في تحصيل المعاش. وعندما عاد المناخ البارد والرطب إلى المنطقة أخذت بعض القبائل الآرامية بالاستقرار في مناطق تجوالها السابقة، بينما شقت قبائل أخرى طريقها نحو المدن التي بدأت بالانتعاش، فساهمت في إحيائها واستلمت زمام الحكم فيها. إن اللغة المدعوة بالآرامية، التي بدأت نقوشها بالظهور في المستويات الآثارية العائدة لعصر الحديد الثاني مستخدمة القلم الأبجدي الفينيقي، ما هي إلا لغة سامية غربية قريبة من كنعانية الساحل ومن أمورية الداخل، وإلى درجة تبدو كأنها لهجة ثالثة من لهجات هذه اللغة. وإني لأرجح بأنها ذات الكنعانية الساحلية-الفلسطينية، بعد أن طرأ عليها التبدل الطبيعي خلال أكثر من قرنين، وما جرى فيهما من تغيير البيئة وأنماط تحصيل المعاش.

في فلسطين، التي شهدت أوسع عمليات النزوح الجماعي والهجرة خلال فترة الجفاف الميسيني، تتكرر خلال فترة الانتقال من عصر البرونز إلى عصر الحديد، دورة الاقتلاع والعودة التي ميزت الفترة الانتقالية من البرونز المبكر إلى البرونز الوسيط. ففي سياق القرن الثاني عشر، كانت تجري في منطقة فلسطين الكبرى عملية استيطان للأراضي الزراعية المهجورة. وقد ابتدأت هذه العملية أولًا في المناطق الساحلية، ثم انتقلت إلى المناطق الهضبية بأقسامها الثلاثة؛ أي مرتفعات الجليل، والهضاب المركزية، ومرتفعات يهوذا. وسوف نركز فيما يلي على مجريات الأحداث في الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا، نظرًا للصلة المعقودة بين ما جرى هنا خلال عصر الحديد الأول، والظهور المفترض للقبائل العبرانية واستيطانها في هذه المنطقة، وما تلا ذلك من تشكيل المملكة الموحدة.

خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز إلى عصر الحديد الأول، كانت منطقة الهضاب المركزية شبه خالية من السكان، والمدن القليلة فيها إما خاوية ومهدمة، مثل مدينة شكيم التي انقطع الاستيطان فيها حتى القرن العاشر، وإما مسكونة بشكل جزئي وضمن بنًى معمارية على غاية من التخلف والبؤس، مثل مدينة بيت إيل. وفي المناطق الزراعية شبه المهجورة خلال الفترة الانتقالية، بيَّن المسح الأركيولوجي الشامل الذي أجراه عالِما الآثار الإسرائيليان آدم زرتال وموشى كوشافي خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، أن المنطقة قد شهدت تزايدًا تدريجيًّا في عدد القرى الصغيرة، حتى بلغت حوالي ٢٠٠ قرية في أواخر القرن الحادي عشر، وأسكنت ما لا يزيد عن بضعة آلاف نسمة. ويظهر من المخلفات المادية لأولئك المزارعين أنهم قد قدموا من مناطق فلسطين الكبرى لا من خارجها، وأنهم من أصول فلاحية لا رعوية بدوية. غير أن عملية الاستيطان لم تصل ذروتها إلا في سياق عصر الحديد الثاني (١٠٠٠–٧٠٠ق.م.) ومع مطلع القرن التاسع تقريبًا، عندما بُنيت مدينة السامرة كعاصمة لدولة السامرة المعروفة تاريخيًّا بدولة إسرائيل، والتي تحولت في سياق عصر الحديد الثاني إلى إحدى الممالك المهمة في فلسطين.

أما في مرتفعات يهوذا، فإن عملية إعادة الاستيطان قد سارت بشكل غير متوازٍ مع عودة الاستيطان إلى منطقة الهضاب المركزية (إسرائيل-السامرة)، سواء من حيث الجدول الزمني لهذا الاستيطان، أم من حيث أصول المستوطنين الجدد، والبنية السياسية التي جمعت القرى الجديدة في النهاية ضمن هيكلية دولة. فخلال الفترة الانتقالية، كانت مرتفعات يهوذا، فيما بين أورشليم شمالًا وحبرون جنوبًا، خالية من السكان عدا موقعين هما خربة رابوض وبيت زور. وفي عصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.) ظهرت قرًى قليلة مبعثرة إلى جانب هذين الموقعين، توضعت قرب مصادر المياه الدائمة. وتُظهر الفخاريات التي تم العثور عليها في هذه القرى الجديدة صلةً عضوية بثقافة عصر البرونز الأخير؛ الأمر الذي يدل على وفود أهل هذه القرى من مناطق فلسطين الكبرى لا من خارجها. أما أورشليم وحبرون، وهما المدينتان الرئيسيتان في مرتفعات يهوذا، فمن المرجح أنهما لم تكونا مسكونتَين خلال الفترة الانتقالية، ويبدو أن أورشليم قد بقيت مدينة مهجورة خلال كامل عصر الحديد الأول.

مع التقدم في عصر الحديد الثاني (١٠٠٠–٧٠٠ق.م.)، يأخذ عدد القرى الزراعية الجديدة بالتزايد، ويبلغ منحى الاستيطان أعلى نقطة له خلال القرن الثامن قبل الميلاد. وتدل المخلفات المادية التي تم العثور عليها في هذه القرى على انتماء أهلها إلى ثقافة عصر الحديد الأول وثقافة عصر البرونز الأخير؛ الأمر الذي يدل مرة أخرى على الأصل المحلي لهؤلاء. فمن جهة أولى هناك التزايد السريع لسكان عصر الحديد الأول، بسبب الأحوال المناخية المواتية وانتعاش الزراعة، ومن جهة ثانية فقد استمرت المنطقة تتلقى أعدادًا متزايدة من السكان الزراعيين المقتلعين من أراضيهم في مناطق فلسطين الكبرى، وكانت شرائح واسعة من هؤلاء قد تحولت إلى حياة الرعي المتنقل، إلا أن هذه القرى الزراعية لم تتجه نحو المركزية الإدارية والسياسية، على غرار ما حدث في منطقة الهضاب المركزية، إلا خلال القسم الثاني من عصر الحديد الثاني، وفيما بين القرن الثامن والقرن السابع تحديدًا.٢

(١) عصر الحديد الأول وأصول إسرائيل

خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، نجح النقد النصي والأركيولوجي والتاريخي للمرويات التوراتية، في إخراج ثلاث حلقات حساسة من حلقات القصة التوراتية، من مجال التاريخ إلى مجال القصص الديني اللاهوتي. وهذه الحلقات هي:
  • (١)

    قصص الآباء في سفر التكوين، ابتداءً من الأب الأول إبراهيم وانتهاءً بيوسف بن يعقوب، الذي جعل المحرر التوراتي قصته من مصر صِلةَ وصل بين قصص الآباء وقصة العبرانيين في مصر وخروجه منها.

  • (٢)

    قصة خروج بني إسرائيل من مصر بقيادة موسى وتجوالهم في الصحراء أربعين سنة، قبل استيلائهم على مناطق شرقي الأردن.

  • (٣)

    قصة اقتحام القبائل الإسرائيلية أرض كنعان في عدة حملات عسكرية صاعقة وتدميرهم لمعظم مدنها الرئيسية، وقيام يشوع بن نون، خليفة موسى، بتوزيع الأراضي المكتسبة حربًا على القبائل الاثنتي عشرة.

وبما أنني قد تطرقت بالتفصيل إلى حلقات الرواية التوراتية هذه، وسُقْت الدلائل الكافية على عدم اتفاقها مع الوقائع التاريخية والأركيولوجية؛ وذلك في كتابي «آرام دمشق وإسرائيل»، فإنني سأكتفي هنا بإيراد آراء أهم الباحثين الأركيولوجيين والتاريخيين بهذا الخصوص.

يقول الباحث G. Van Seter بعد دراسته لعصر الآباء في كتابه المميز Abraham in History and Tradition: «بأن قصص الآباء لم تكن في أصلها مرويات شفهية من عصر البرونز الوسيط تواترت إلى محرري التوراة، ولا مدونات وصلت إليهم عن طريق النسخ، بل هي قصص مكتوبة ومصاغة لأول مرة خلال فترة السبي البابلي وما بعده. وإنها في خطوطها العامة، وما تتضمنه من تفاصيل وعادات وأسماء أعلام وعلاقات اجتماعية، لتعكس الأوضاع السائدة في عصر تدوينها حوالي منتصف الألف الأول قبل الميلاد.»٣
ويقول الباحث N. M. Sarna في دراسته لقصة خروج بني إسرائيل من مصر، وذلك في بحث له منشور ضمن كتاب حديث ساهم في تحريره نخبة من الباحثين في تاريخ إسرائيل القديم، ما يلي: «إن خلاصة البحث الأكاديمي حول مسألة تاريخيةِ قصة الخروج، تشير إلى أن الرواية التوراتية تقف وحيدة دون سند من شاهد خارجي. كما أنها مليئة بالتعقيدات الداخلية التي يصعب حلها. كل هذا لا يساعدنا على وضع أحداث قصة الخروج ضمن إطار تاريخي. يضاف إلى ذلك أن النص التوراتي يحتوي مُحدِّدات داخلية ذاتية ناشئة عن مقاصد وأهداف المؤلفين التوراتيين. فهؤلاء لم يكونوا يكتبون تاريخًا، وإنما يعملون على إيراد تفسيرات لاهوتية لحوادث تاريخية منتقاة. وقد تمت صياغة الروايات التوراتية بشكل يتلاءم مع هذه المقاصد والأهداف. من هنا فإننا يجب أن نقرأها ونستخدمها تبعًا لذلك. إننا نفتقد إلى المصادر الخارجية التي تذكر عن تجربة الإسرائيليين في مصر أو تشير إليها بشكل مباشر، والشواهد الموضوعية الواضحة على تاريخية النص التوراتي مفقودة تمامًا، بما في ذلك نتائج التنقيب الأثري.»٤
ويقول الآثاري جوزيف كالووي J. Calleway في دراسة جديدة له حول قصة اقتحام القبائل الإسرائيلية لكنعان ما يلي: «بعد استعراض جميع الوثائق الأركيولوجية من المواقع الفلسطينية التي أوردها سفر يشوع، لا أعتقد بأننا نستطيع القول بأن الغزاة الإسرائيليين قد استولوا على المناطق الهضبية والجليل بعد معارك عسكرية خاطفة، على ما يرويه لنا سفر يشوع. إن الشواهد الأركيولوجية غير مقنعة وتتعارض في معظمها مع الرواية التوراتية، إلى درجة لا يستطيع معها أنصار نظرية الفتح العسكري إقناعنا بها إلا بواسطة الإيمان الأعمى … إن النص التوراتي عن الفتح العسكري قد اتخذ شكله الأدبي الذي وصل إلينا، بعد فترة طويلة من استقرار الإسرائيليين في الأرض، وهذا الشكل الأدبي يمكن وصفه بالتاريخ الوعظي أو التبشيري، مما يلائم القائمين على الصياغة خلال عصر مملكة يهوذا. ولتحقيق هذه الغاية، فقد عمد المحررون إلى اختيار مقتطفات متفرقة من مصادر وصلت إليهم، وصاغوا منها قصة عن بدايات إسرائيل من وجهة نظر لاهوتية.»٥
ويقول وليم ديفر، الأركيولوجي الأمريكي الذي يتزعم الآن جناح الآثاريين المحافظين، في ندوةٍ جمعته مع اثنين من الباحثين الراديكاليين، وهما تومبسون وليمكه، عام ١٩٩٧م، بأننا لا نستطيع اليوم أن نبحث عن التاريخ في روايات الآباء والخروج ويشوع. وبصورة خاصة، فإن إثبات الفتح العسكري لأرض كنعان قد غدا مجهودًا لا طائل من ورائه، بعد أن جاءت كل الشواهد الأركيولوجية مناقضة له. ولكنه بالمقابل يؤكد على أن عصر القضاة هو الفترة التي يتوجب علينا أن نبحث فيها عن أصول إسرائيل في كنعان؛ لأن ما يسرده سفر القضاة في التوراة يتوافق إلى حد بعيد مع الوقائع الأركيولوجية.٦

وهكذا، وبعد أن تم التخلي عن كل النظريات التي تأتي بالعبرانيين من خارج فلسطين، صار لا بد من البحث عن أصول إسرائيل في كنعان نفسها لا في خارجها. وقد وجد أصحاب هذا الاتجاه (وهم القسم الأعظم من البحاثة في تاريخ إسرائيل اليوم) في سفر القضاة ضالتهم؛ لأن هذا السفر يقدم روايته الخاصة عن دخول العبرانيين أرض كنعان، مختلفة عن رواية الفتح العسكري، وتقوم على التسلل السلمي للعبرانيين وتشاطرهم أماكن السكن مع الكنعانيين أو مجاورتهم لهم. وبما أن سفر القضاة يشغل كامل الفترة المعروفة بعصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.)، فقد صار هذا العصر بؤرة البحث التاريخي فيما يتعلق بأصول إسرائيل. أما ما سبقه من عصور الرواية التوراتية فقد تحول إلى «ما قبل تاريخ»، وتوقف البحث الأكاديمي الجدي عن التعامل معه من موقف علمي.

وفي الحقيقة، فإن جذور هذه النظرة الجديدة تعود إلى العقود الأولى من القرن العشرين، عندما نشر الباحث الألماني ألبريخت آلت بحثًا قصيرًا ومكثفًا (عام ١٩٢٥م) بعنوان «توطن الإسرائيليين في فلسطين»، وذلك ضمن كتاب موسوعي أشرف على تحريره، وساهم فيه، نخبة من الباحثين في تاريخ وديانة العهد القديم.٧ ولقد بسط آلت في ذلك البحث نظرية في أصول إسرائيل تتناقض مع الرواية التوراتية، وكان لها تأثير على توجهات البحث التاريخي والأركيولوجي.

(٢) نظريات الأصل المحلي للإسرائيليين

(٢-١) نظرية آلت في التسرب السلمي

يبتدئ آلت دراسته لأصول إسرائيل اعتبارًا من عصر القضاة؛ لأن ما قبل ذلك في رأيه ليس إلا من قبيل الأدب الخيالي الذي صاغه محررو التوراة إبان الفترات المتأخرة؛ من أجل ابتكار جذور لإسرائيل وديانتها في الماضي البعيد. ولقد وجد آلت من دراسته المدققة لسفر القضاة أن أسماء المواقع، التي تعزو الرواية التوراتية سُكناها للإسرائيليين، تقع في المناطق الهضبية البعيدة عن المدن الكنعانية المهمة في الجليل ووادي يزرعيل وسهل شفلح وفلستيا. كما لاحظ هذا الباحث الثاقب البصيرة، من مقارنته للعديد من المعلومات النصية، وخصوصًا معلومات رسائل تل العمارنة، أن المناطق الهضبية من فلسطين، وخصوصًا الهضاب المركزية، كانت شبه خالية من السكان منذ عصر تل العمارنة، ولم تحتوِ إلا على عدد قليل جدًّا من القرى الصغيرة والمتباعدة، وكانت مدينة شكيم في شمال الهضاب المركزية هي المدينة الوحيدة المهمة فيما بين وادي يزرعيل شمالًا وأورشليم جنوبًا. وهذه المعلومات لم تتأكد لدينا ميدانيًّا إلا خلال العقدين الماضيين.

ويرى آلت بأن هذا الوضع قد بقي على حاله في الهضاب المركزية، حتى عام ١٢٥٠ق.م.، عندما بدأ مسرح الحدث التوراتي بالتوضح في هذه المنطقة. فقد بدأت عشائر رعوية بالتسلل التدريجي تسوق قطعانها الصغيرة عبر نهر الأردن باحثة عن مَراعٍ جديدة في كنعان، وشيئًا فشيئًا وجد بعض العشائر أماكن مناسبة لإقامتهم في المناطق الخالية الفاصلة بين دويلات المدن الكنعانية، والبعيدة عن نفوذ المراكز السياسية الهامة وعن النفوذ المصري في وادي يزرعيل، فأخذت بالتوطن والاستقرار وزراعة الأرض دون أن تسبِّب تهديدًا أو مخاوف لأحد. ثم أخذت هذه العشائر بالتقارب بعد فترة من الاستقرار، والإحساس بنوع من الرابطة بينها. ومن المرجح أن عبادة واحدة قد نشأت بينها تدريجيًّا، وتركزت طقوسها حول مقام مقدس أو مذبح مشترك؛ الأمر الذي زاد من ترابطها وإحساسها بالتمايز عما حولها، ثم تنادت هذه الجماعات بعد أن أحست بوحدة مصالحها إلى إقامة المملكة الموحدة التي ابتدأت بحكم الملك شاؤل.

يلجأ آلت إلى إبراز أصول إسرائيل من خلال تضادها وتناقضها مع محيطها؛ وذلك بتركيزه على ثنائية إسرائيل-كنعان. فهو يستخدم مصطلح كنعان وصفة كنعاني للدلالة على ما يدعوه بدويلات المدن الفلسطينية خلال عصر البرونز الأخير، وهي التي نعرفها من رسائل تل العمارنة وبقية وثائق الإمبراطورية المصرية من عصر البرونز الأخير. وهو يصف هذه الدويلات بأنها دويلات زراعية يحكمها ملوك متسلطون، مرتبطة ثقافيًّا بالعالم السوري-المسماري، وتَدين بالديانات السورية التقليدية. كما يستخدم آلت مصطلح إسرائيل وصفة إسرائيلي اعتمادًا على نفي كلِّ ما هو كنعاني. فالمصطلح، والحالة هذه، يدل على ثقافة قبلية رعوية، ومعتقَد ديني توحيدي، ونظام حكم بدائي شبه ديمقراطي. وثنائية كنعان-إسرائيل عند آلت ليست فقط ثنائية تضاد ثقافي، وإنما تتضمن أيضًا التتابع الزمني؛ فعصر البرونز الأخير هو عصر كنعاني، أما عصر الحديد فإسرائيلي. وقد صار هذا التمييز سُنَّة متبعة في البحث التاريخي بعد آلت، وصار همُّ الباحثين البحثَ عن أصول إسرائيل في الفترة الانتقالية من عصر البرونز إلى عصر الحديد، كما صارت نظريته في التسرب السلمي أساسًا للنظرية اللاحقة في الأصل المحلي للإسرائيليين، خصوصًا وأن علم الآثار يؤكد باستمرار الاستمرارية الثقافية بين عصر البرونز وعصر الحديد؛ الأمر الذي ينفي دخول جماعات جديدة إلى فلسطين حاملة معها ثقافتها الخاصة المتميزة عن الثقافة المحلية. وعلى حد قول السيدة كاثلين كينيون، فإنه لا يوجد وقت فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد، نستطيع أن نلاحظ فيه تغييرًا حضاريًّا يشير إلى حلول أقوام جديدة في فلسطين؛ سواءٌ في المناطق الهضبية أم في غيرها.٨

(٢-٢) نظرية الانتفاضة الداخلية

إذا لم يكن الإسرائيليون قد وفَدوا من خارج كنعان، فلا بد أنهم شريحة محلية ميزتها ظروف معينة عن المجتمع الكنعاني الأوسع، وهذا ما تقول به نظرية ظهرت في الستينيات من القرن العشرين، على يد الباحث ماندنهول Mendenhall٩ وطورها بعده الباحث غوتوالد Gottwald.١٠

يرى ماندنهول أن الجماعات التي تسربت إلى المناطق الهضبية خلال الفترة الانتقالية؛ لم تكن من أصل رعوي، وإنما هي شرائح فلاحية كنعانية لجأت إلى الثورة في وجه حكام المدن الطغاة. وكانت خميرة هذه الحركة جماعة آبقة من العبودية في مصر، جاءت معها بعبادة يهوه التي تبنَّتها الشرائح الثائرة كرمز لاستقلالها وانفصالها عن النظام الفاسد لدويلات المدن الكنعانية المتسلطة على الفلاحين. من هنا، فإن إسرائيل في نشأتها كانت تلاحمًا دينيًّا لجماعات محلية من حيث أصلها، وإن القرى الزراعية الكنعانية قد صارت إسرائيلية بتبنِّيها لديانة يهوه، ورفضها للنظام السياسي الكنعاني في المدن الكبرى، وعبادة الأبعال السورية.

وقد تبنَّى الباحث غوتوالد نظرية ماندنهول هذه، ولكنه أعطى الانتفاضة الداخلية طابعًا طبقيًّا بالمعنى السياسي الحديث للكلمة. فالجماعات الإسرائيلية الأولى (أو بالمعنى الأدق، التي صارت إسرائيل فيما بعد) كانت شرائح مضطهدة من الفلاحين والمزارعين والرعاة، ومن الجماعات الهامشية التي تقع خارج الإطار الاجتماعي والسياسي لدويلات المدن الكنعانية. وقد ثار هؤلاء ضد النظم الإقطاعية التي تديرها ارستقراطية نبيلة تعمل على استغلال وقمع الشرائح المحرومة، ثم قرروا العيش بحُرية على طريقتهم في المناطق الهضبية.

(٢-٣) نظرية بوتقة الانصهار

بعد استقصاء دقيق للوثائق الكتابية الخارجية، ودراسة مدققة لسِفر القضاة، لاحظ الباحث ماكسويل ميلر Maxwell Miller من جامعة١١   Emory بالولايات المتحدة، مثلما لاحظ آلت من قبله، أن أحداث سِفر القضاة قد جرت في مناطق الهضاب المركزية تحديدًا، وهي المناطق التي كانت الموطن الأساسي للقبائل الإسرائيلية حتى تشكيل المملكة الموحدة (انظر موضع منطقة الهضاب المركزية ضمن التكوين العام للمناطق الهضبية في الخريطة الطبيعية الموضح في الشكل رقم ٧-١). ويعتقد ميلر بأن إسرائيل قد تشكلت في البداية من تجمع ثلاث قبائل كنعانية هي أفرايم ومنسي وبنيامين (وهي من الأسباط المذكورة في التوراة)، ثم انضمت إليهم قبيلة جلعاد في عبر الأردن، وتدريجيًّا أخذت هذه النواة بالتوسع حتى اشتملت على عشر قبائل، هي القبائل التي يدعوها النص التوراتي على الدوام إسرائيل، في مقابل يهوذا التي كانت مستقرة في الجنوب، والتي لم تصبح عضوًا في الاتحاد الشمالي إلا بعد انتقال السلطة إلى الملك داود، الذي وسع الاتحاد ليشتمل على اثنتي عشرة قبيلةً جمعتها المملكة الموحدة لجميع إسرائيل.

أما عن أصول هذه القبائل، فيرى ميلر بأنها جاءت من مصادر داخلية متنوعة، وكان لكلٍّ منها في البداية عبادة دينية خاصة به، وقد استغرقت عملية تحويلها إلى مجموعات متماثلة إثنيًّا ودينيًّا مدةً طويلة من الزمن، تحت قيادة سلسلة من الزعماء الديناميين عُرفوا باسم القضاة. وقد لعب الضغط الذي مارسه الفلستيون على القبائل الإسرائيلية دورًا مهمًّا في توحيدها واندماجها. وبذلك خرجت إسرائيل، كمفهوم إثني وسياسي وديني، من بوتقة انصهار، وكناتج لعملية أكثر تعقيدًا بكثير مما تعرضه الرواية التوراتية البسيطة. وقد ابتدأت هذه العملية قبل الفترة الانتقالية بكثير. وبذلك يخالف ميلر معظم الباحثين الذين يركزون على تحولات الفترة الانتقالية ويبحثون فيها عن أصول إسرائيل.

fig16
شكل ٧-١: خريطة فلسطين الطبيعية.

(٢-٤) نظرية التطور الديني المحلي

لقد طور كاتب هذه السطور منذ عقدين من الزمن، نظريةً في الأصل المحلي لإسرائيل، تتفق مع ماندنهول وغوتوالد من حيث تركيزها على التمايز الديني السكان المناطق الهضبية عن الوسط الكنعاني (وما أدى إليه من تمايز اجتماعي وثقافي لاحق، قاد في النهاية إلى تكوين الإثنية المستقلة)، ولكنها تختلف معها بإسقاطها عنصر الانتفاضة الداخلية. بدأت ملامح النظرية بالتوضح خلال سنوات انكبابي على كتابة مؤلفي: لغز عشتار (فيما بين عامي ١٩٨٠م و١٩٨٤م)،١٢ حيث شرحت، في الفصل المعنون بين إيل وبعل-نشوء الديانة اليهودية، كيفيةَ استقلال المعتقَد التوراتي عن المعتقد الكنعاني. ثم عمدت إلى بلورة النظرية في دراسة موسعة نشرتها في مجلة الفكر الديمقراطي التي كانت تصدر في قبرص.١٣ ولعل المقطع الآتي، الذي اقتبسته من الخلاصات الأخيرة للدراسة، يعبر عن جوهر نظريتي القديمة التي أدخلت عليها فيما بعدُ تعديلاتٍ أساسية أوضحتها في ثنايا هذا الكتاب، وفي مؤلَّفي الأسبق: «آرام دمشق وإسرائيل»:

«لقد أوصلتنا دراسة المخلفات المادية للثقافة الإسرائيلية، إلى القول بأن أرض فلسطين لم تعرف شعبًا متميزًا اسمه الشعب الإسرائيلي، ولا ثقافةً خاصة يمكن وصفُها بالثقافة الإسرائيلية. ذلك أن كل ما كشف عنه علم الآثار يدل على ثقافة سورية كنعانية في تطورها الذاتي الطبيعي. ثم جاءت دراستنا للتراث اللغوي والأدبي والديني لما يُدعى بالثقافة الإسرائيلية، لتدعم نتائجنا المبدئية. فاللغة التي نطق بها الإسرائيليون كانت كنعانية، والخط الذي كتبوا به كان كنعانيًّا، وآدابهم تجد جذورها في الأدب الكنعاني؛ على ما تدل عليه المقارنة مع الأدب الأوغاريتي، ومعتقَدهم التوراتي الذي وجدوا فيه مصدر تميزهم قد نشأ وتطور نتيجةً لجدليات المؤسسة الدينية الكنعانية. ولا ينجم عن ذلك كله إلا القول بأن الشعب الذي أنتج ما يُدعى بالثقافة الإسرائيلية؛ هو فئة كنعانية لم تغادر فلسطين قط، مع بقاء الاحتمال قائمًا في أنها ربما استقبلت فئة قليلة من النازحين من مصر. وعندما بدأ كهنة يهوذا في المنفى بتحرير أسفار التوراة، كتبوا تاريخ بني إسرائيل من وجهة نظرهم، فجعلوا منهم فئة متميزة منذ البداية؛ سعيًا وراء ترسيخ الصيغة الأخيرة للدين اليهودي الذي صار مصدر تماسكهم وأملهم في الوقوف في وجه الفناء. لقد ميَّز كهنة يهوه أنفسهم وبقية سبي يهوذا عن كنعان تمييزًا مطلقًا، وجعلوا من الفارق الديني الذي يَفصِلهم عن بقية الكنعانيين فارقًا في كل شيء.»

(٢-٥) النظرية الأركيولوجية الحديثة

وُلدت هذه النظرية حديثًا، وهي تفسر نتائج المسح الأركيولوجي الشامل الذي قام به الأركيولوجيون الإسرائيليون المحدثون في منطقة الهضاب المركزية، وتعتبر بمثابة الصياغة العملية لنظرية التسرب السلمي ونظرية بوتقة الانصهار. ففيما بين ١٩٨٠م و١٩٩٠م، قام المنقِّب الإسرائيلي آدم زرتال، مستعينًا بفريق عمل موسع من الاختصاصيين في العلوم المساعدة لعلم الآثار، بعملية مسح شاملة لمنطقة منسي التوراتية في الهضاب المركزية، والتي تبلغ مساحتها حوالي ٢٠٠٠كم٢، وتؤلف مع منطقة أفرايم ٨٠٪. من مساحة الهضاب المركزية. وقد طال المسح، الذي جرى سيرًا على الأقدام، كلَّ متر مربع تقريبًا من المنطقة، وتم خلاله جمعُ عدد هائل من المعلومات الأركيولوجية، والمعلومات الأخرى التي تساعد على تفسيرها، وذلك مثل ارتفاع الموقع المكتشف عن سطح البحر وعن المنطقة المحيطة به، والوضع الطبوغرافي والجيولوجي للموقع، ونوعية التربة، والمحاصيل التي تُزرع حوله الآن، وقرب الموقع من مصادر المياه ومن الطرق العامة، وإطلالة الموقع على بقية المواقع المجاورة … إلخ. ثم جرى الاستعانة بالحاسوب من أجل تحليل هذه الكمية الهائلة من المعلومات.
لقد عثر فريق زرتال على ١١٦ قرية تعود إلى النصف الثاني من عصر البرونز الوسيط، وعلى ٣٩ قرية تعود إلى عصر البرونز الأخير، وعلى ١٣٦ قرية تعود إلى عصر الحديد الأول. وهذا يعني أنه بعد الهبوط الحاد في منحنى الاستيطان خلال عصر البرونز الأخير بسبب الجفاف العام، عاد المنحنى إلى الصعود خلال عصر الحديد الأول بعد عودة المناخ الرطب والمطير إلى المنطقة. وقد لاحظ زرتال أن أولى المواقع التي ظهرت خلال عصر الحديد قد توضعت في وادي الأردن والمنحدرات الشرقية للهضاب، ومع التقدم زمنيًّا أخذت المواقع بالزحف تدريجيًّا باتجاه الغرب، معتمدة في زراعتها على القمح والشعير، وفي آخر مراحل الاستيطان، بدأ القرويون باستصلاح المنحدرات وتسوية المدرجات التي تصلح للزراعات المتوسطية كالكرمة والزيتون. وبما أن زرتال يفترض مسبقًا بأن القرى الجديدة هي قرًى إسرائيلية، فإنه يفسر ظهور القرى أولا على المنحدرات الشرقية للهضاب ثم زحْفها التدريجي نحو الأعلى، بأن القادمين الجدد قد جاءوا من المناطق الرعوية في شرقي الأردن، وأنهم يمثلون طلائع الإسرائيليين الذين دخلوا أرض كنعان مع بدايات عصر الحديد الأول.١٤

وقد قام زميل آدم زرتال المنقِّبُ كوشافي، من ناحيته، بمسحٍ شامل على طريقة زرتال، لمنطقة أفرايم التوراتية في الهضاب المركزية، واكتشف حوالي ١٢٠ قرية جديدة ظهرت تباعًا في عصر الحديد الأول. وبذلك يصل عدد القرى التي قامت في الهضاب المركزية بين ١٢٠٠ و١٠٠٠ق.م. إلى حوالي ٢٥٦ قرية، بعد فترة الفراغ السكاني السابقة. ويتفق كوشافي مع زرتال في الخطوط العامة للتفسير، معتبرًا أن القرى الجديدة هي قرًى إسرائيلية، وأن الجماعات التي شكلتها هي جماعات رعوية وفَدت إليها من المناطق الشرقية.

(٣) من هم؟ نقد نظريات الأصل المحلي

إن ثنائية كنعان-إسرائيل التي رسختها نظرية آلت؛ لم تنشأ عند صاحب النظرية (وعند من تبنَّى هذه الثنائية بعده) نتيجة لوصف مباشر لمجموعتين إثنيتين متعاصرتين ومعروفتين تاريخيًّا هما الإسرائيليون والكنعانيون، بل جاءت نتيجة وصف تخيلي يعتمد التوفيق بين الرواية التوراتية والمصادر التاريخية، فصورة الكنعانيين عند آلت مستمَدة من تفسير النصوص المصرية لعصر البرونز، وتدعيمها بالصورة العرقية الشوفينية التي رسمتها لهم الرواية التوراتية المتأخرة، والتي لا تعكس أحوال الكنعانيين القديمة، وإنما صورةَ جماعة السبي البابلي عند نفسها وأصولها. وفي الحقيقة، فإننا لا نستطيع التمييز بين ما هو كنعاني وما هو إسرائيلي اعتمادًا على المكتشفات الأثرية في كل مواقع وقرى المناطق الهضبية، لا خلال عصر الحديد الأول ولا بعده، فجميع المخلفات المادية التي ظهرت في مواقع القرى الجديدة؛ تُظهر صلة عضوية مع ثقافة عصر البرونز واستمرارًا لها. وهذا ما يجعل من ثنائية كنعان-إسرائيل مجرد تهويم تاريخي لا يقوم على وقائع مادية ملموسة. يقول عالم الآثار الإسرائيلي A. Mazar، المعروف باتجاهه المحافظ، حول هذه المسألة: «إن تمييز الثقافة الإسرائيلية — في عصر الحديد — تمييزًا واضحًا هو مسألة على غاية من الصعوبة. من هنا، فإن نقطة انطلاقنا لمثل هذا التمييز؛ ينبغي أن تكون من المواقع التي نعرف من النص التوراتي أنها كانت إسرائيلية خلال عصر القضاة، مثل شلوة والمصفاة، ودان، وبئر السبع. وإذا ظهرت في مواقع قريبة من هذه مخلفاتٌ مادية مشابهة يمكننا أيضًا اعتبارها إسرائيلية.»١٥ أي إن مازار هنا لا يملك سوى الاعتراف بعدم وجود آثار مادية تدل على الإسرائيليين التوراتيين، ولكنه في الوقت نفسه يتخلص من المأزق بأن يحيلنا إلى كتاب التوراة.

فإذا جئنا إلى نظرية الانتفاضة الداخلية، وجدنا أنها تقوم على تجريدات ذهنية لا أساس لها في الواقع الاجتماعي والسياسي لفلسطين عصر الحديد الأول. إن مفهوم دولة المدينة في فلسطين، باعتبارها قوةً كبرى يديرها مِن بلاطه الواسع ملكٌ مستبد، يجمع حوله حاشية وأمراء ونبلاء وبيروقراطيين، ويتحكم بجيش عرمرم؛ هو مفهوم مغلوط تشَكَّل انطلاقًا من سوء فهم لرسائل تل العمارنة، ومن المطابقة بين إمارات فلسطين الصغيرة والممالك السورية ذات البنية السياسية القوية والقاعدة السكانية العريضة، وهذه مطابقة عشوائية لا تأخذ بعين الاعتبار كل ما صرنا نعرفه عن المدن الفلسطينية في عصر البرونز، مما أشرنا إليه في حينه سابقًا. ومن ناحية أخرى، فإن أوضاع هذه المدن في عصر الحديد كانت أسوأ بكثير من وضعها خلال عصر تل العمارنة، وذلك بسبب تناقص السكان الناجم عن الجفاف الميسيني، وتعطُّل التجارة الدولية، والانهيار الاقتصادي العام، والفوضى الاجتماعية. من هنا، فإن صورة الملك الكنعاني، باعتباره طاغية يتحكم مع طبقة النبلاء في ثروة البلاد، ويمارس الظلم والاضطهاد على طبقة الفلاحين، هي صورة لا تتوافق مع واقع الحال في المنطقة وظروفها التاريخية.

أما عن العنصر الديني الذي كان السبب في نشوء إسرائيل التوراتية وتميزها عن الوسط الكنعاني، مما تقول به نظرية ماندنهول، ونظرية فراس السواح، رغم الخلاف الجذري بينهما (يرى ماندنهول بأن الشرائح المضطهدة قد تحولت إلى ديانة يهوه التي جاءت ناجزة من الخارج، بينما يرى السواح بأن ديانة يهوه التوراتية قد تطورت ضمن المؤسسة الدينية الكنعانية)، فإن علم الآثار، لسوء الحظ، لا يوافقهما الرأي. ذلك أن البحث الأثري لم يستطع متابعة نشوء الديانة التوراتية في فلسطين، ولا يوجد ما يدل عليها فيما بين عصر الحديد الأول وبداية العصر الفارسي في أواخر القرن السادس قبل الميلاد. وإذا كان السواح قد أفسح مدة زمنية طويلة لانسلاخ المعتقد التوراتي عن المعتقدات الكنعانية، ولم يجعل التمايز التام بينهما واضحًا إلا خلال السبي البابلي وما بعده، متفاديًا بذلك (بالصدفة) التناقضَ مع معطيات علم الآثار، فإن نظرية ماندنهول، التي جاءت بعبادة يهوه التوراتي ناجزة من الخارج خلال الفترة الانتقالية وعصر الحديد الأول، تقع لفورها في مأزق أركيولوجي؛ لأن المخلفات المادية لمواقع عصر الحديد الأول في الهضاب المركزية، تُظهر بوضوح أن أهلها كانوا على الديانة الكنعانية التقليدية، وأن معابدهم، المتواضعة التي تم اكتشافها، كانت مكرسة للآلهة الكنعانية، وما من أثر يدل بشكل مباشر أو غير مباشر على وجود بذور للمعتقد التوراتي ولو بشكله الجنيني. من هذه المعابد ما اكتشف A. Mazar في منطقة منسي التوراتية، وما اكتشفه Adam Zertal في جبل عيبال، وما اكتشفه I. Finkelstein في منطقة شلوة العاصمة الأولى للمملكة الموحدة (انظر بعض تمثيلات الآلهة الفلسطينية في الصورة رقم ٨ القسم المصور).
ويمكن للقارئ المتخصص الاطلاع على نتائج التنقيبات في هذه المواقع وغيرها من مواقع الهضاب المركزية، وصلتها بمعتقدات سكانها ممن يُفترض أنهم عبرانيون موسويون، في دراسة شاملة نشرها الآثاري الإسرائيلي B. A. Nakhai عام ١٩٩٤م.١٦
نأتي الآن إلى النظرية الأركيولوجية الحديثة، ونقول بأن عودة الاستيطان إلى المناطق الهضبية الفلسطينية، ابتداءً من الهضاب المركزية، هو واقعة أركيولوجية لا جدال فيها. ولكن لماذا يجب أن تكون هذه المواقع إسرائيلية، رغم أن المنقبين الإسرائيليين وغيرهم يقولون لنا بأن التعرف على مظاهر الحضارة المادية للإسرائيليين هو أمر على غاية من الصعوبة، إن لم يكن مستحيلًا؟ للإجابة على هذا السؤال المهم والمشروع، سوف أعرض للقارئ رأيين؛ الأول للأركيولوجي الأمريكي وليم ديفر Dever W. الذي يترأس الاتجاه المحافظ في علم آثار فلسطين، والثاني للأركيولوجي الإسرائيلي إ. فنكلشتاين الذي يقود الآن الاتجاه الراديكالي في علم آثار فلسطين المتحرر من سلطة التوراة في تفسير اللُّقى الأثرية.
يقول وليم ديفر في حوار له مع رئيس تحرير مجلة علم الآثار التوراتي (أيلول ١٩٩٦م): «إنني أفضِّل استخدام تعبير أشباه الإسرائيليين في الإشارة إلى سكان المناطق الهضبية خلال عصر الحديد الأول؛ لأن تعبير إسرائيل وإسرائيلي لا يحمل الكثير من المعنى قبل ولادة الدولة الموحدة في القرن العاشر قبل الميلاد. فمع تشكيل الدولة فقط، نستطيع أن نعرف ما الذي تعنيه الكلمة بالنسبة للموصوفين بها في التوراة، إنها تعني كونهم مواطنين في هذه الدولة. أما في القرن الحادي عشر والثاني عشر قبل الميلاد، فإن من المرجح أن وصف الإسرائيلي لم يكن واضحًا في ذهن أحد؛ لأن إسرائيل كانت عندها أخلاطًا من الجماعات لا تربطها وحدة سياسية. من هنا، فإن تعبير أشباه الإسرائيليين، عندي، هو من قَبيل القول بأن مستوطني عصر الحديد الأول هم أسلاف المستوطنين الإسرائيليين الحقيقيين في القرن العاشر (مطلع عصر الحديد الثاني) وما بعده. إن مسألة الإثنية، برمتها، في السجلات الأركيولوجية، هي موضع جدل قوي لدى علماء الآثار اليوم، والعديد منهم ينظر بعين الشك إلى أي مصطلح إثني.»١٧
أما إ. فنكلشتاين I. Finkelsteine، فيقول في مقدمات كتابه المشهور «أركيولوجيا المواقع الإسرائيلية» الصادر عام ١٩٨٨م، بأن الفروق بين الجماعية الإثنية في المناطق الهضبية خلال عصر الحديد الأول كانت فروقًا غامضة، ومن المشكوك به أن يكون أهل المواقع التي نعرف من التوراة كونها إسرائيلية، قد أدركوا أنفسهم كإسرائيليين، فالإسرائيليون هم تلك الجماعات التي كانت في سياق عملية الاستقرار في الأراضي التي قامت عليها مملكة شاؤل. من هنا، فإن تعبير إسرائيل وإسرائيلي (بالنسبة إليه) هو مجرد مصطلح فني للدلالة على سكان المناطق الهضبية خلال عصر الحديد الأول. إلا أن فنكلشتاين يسير بعد ذلك خطوة أكثر راديكاليةً في التعامل مع مصطلح إسرائيل وصِفة إسرائيلي، عندما يقول في بحث له منشور عام ١٩٩١م، بأنه قد تخلى عن المصطلح ذاته، ويفضل الآن استخدام مصطلح «سكان المناطق الهضبية»، في الإشارة إلى مزارعي عصر الحديد الأول قبل قيام مملكة شاؤل.»١٨

ثم يفاجئنا فنكلشتاين عام ١٩٩٨م بتخليه عن مملكة شاؤل وداود وسليمان، وذلك في مداخلة طويلة له أمام ندوة علمية عقدت في جامعة بن غوريون. يقول فنكلشتاين في مداخلته التي شغلت ٢٨ صفحة من وقائع الندوة المطبوعة، بأن المصدر التوراتي الذي تحكَّم بماضي البحث في أصول إسرائيل؛ قد تراجعت أهميته إلى حد بعيد في الوقت الحاضر، ولم يعُدْ من المصادر الرئيسية المباشرة، فأسفار التوراة قد دوِّنت في القرن السابع على أبكر تقدير، وفي الوقت نفسه، فإنها تحمل طابعًا لاهوتيًّا أيديولوجيًّا يجعلها منحازة. من هنا، فإن البحث عن بذور تاريخية في روايتها لأصول إسرائيل؛ هو عملية سيزيفية (نسبة إلى سيزيف الإغريقي) مرهقة، هذا إذا كانت ممكنة من حيث الأساس. من هنا، يرى فنكلشتاين ضرورة استبعاد النص التوراتي قبل استقراء الوقائع الأركيولوجية بشكل موضوعي وحر. وهذا الاستقراء قد قاده إلى نتيجة بخصوص أصول إسرائيل في عصر الحديد، وهي أننا لا نستطيع التحدث عن إسرائيل قبل قيام دولة السامرة (إسرائيل التاريخية لا التوراتية) في القرن التاسع قبل الميلاد، ودولة يهوذا في القرن الثامن قبل الميلاد.

وبعد تقديمه معلوماتٍ موثقةً عن منحى الاستيطان في منطقة الهضاب المركزية، بين أعلى ذروة له في عصر البرونز الوسيط، وأعلى ذروة له في سياق عصر الحديد بعد الهبوط فيما بينهما، يقول لنا بأن عودة الاستيطان إلى الهضاب المركزية لا علاقة له بالقصة التوراتية عن دخول القبائل العبرانية، وأن هذه الظاهرة، كما راقبناها عبر تاريخ المنطقة، هي ظاهرة دورية ومتكررة منذ العصر النحاسي، وليست ظاهرة فريدة تواجهنا لأول مرة في عصر الحديد الأول؛ لأنها نتاج للدورات المناخية التي صرنا نعرف اليوم عنها أكثر من أي وقت مضى. أما عن بعض المؤشرات الآثارية التي اعتُبرت أحيانًا من خصائص المواقع الإسرائيلية خلال عصر الحديد، مثل الجرار ذات الطوق، والبيت ذي الغرف الأربع، وغيرها، فقد درسها واحدة إثر أخرى، وخرج من ذلك بنتيجة مفادها أنها جميعًا ليست وقفًا على مواقع عصر الحديد الأول في الهضاب المركزية، وإنما وُجِدت في مواقع أخرى بفلسطين الكبرى قبل عصر الحديد الأول وبعده.١٩

خلاصة

إن كل ما سقناه آنفًا يوصلنا إلى نتيجة واحدة، وهي أن الفترة الانتقالية وعصر الحديد الأول، لم تشهد وصول جماعات معروفة بالعبرانية أو الإسرائيلية إلى المناطق الهضبية، ولم تشهد تشكُّل مجموعة إثنية وعَتْ نفسها كأمة في نهاية عصر الحديد الأول، وعملت على تكوين مملكة موحدة لها في مطلع عصر الحديد الثاني (القرن العاشر قبل الميلاد). فكل ما حدث خلال هذه الفترة، هو أن جماعات متفرقة من السكان المقتلعين من مواطنهم خلال فترة الجفاف الميسيني، كانت تعود إلى حياة الزراعة والاستقرار؛ سواء في المناطق الهضبية أم في بقية مناطق فلسطين الكبرى التي طالتها الكارثة المناخية. من هنا، فما من سبب يدعونا إلى إطلاق صفة الإسرائيليين، بالمعنى الإثني للكلمة، على سكان الهضاب المركزية، وصفةِ الكنعانيين على بقية مناطق فلسطين الكبرى. وبما أن الاستيطان لم يبلغ ذروته في الهضاب المركزية إلا في نهاية عصر الحديد الأول ومطلع عصر الحديد الثاني، وفي الوقت الذي كانت فيه مرتفعات يهوذا خالية تقريبًا من السكان، فإن القاعدة السكانية اللازمة لقيام مملكة داود وسليمان لم تكن متوفرة، وقيام تلك المملكة لم يكن مستبعدًا فقط، بل كان مستحيلًا.

أما بخصوص أورشليم عصر الحديد الأول، فإن الوثائق النصية بخصوصها معدومة تمامًا، والوثائق الأركيولوجية قليلة وغامضة، إلى درجةٍ دعت فريقًا من العلماء إلى القول بأنها لم تكن مدينة مسكونة خلال كامل عصر الحديد الأول، ومطلع عصر الحديد الثاني؛ أي فترة المملكة الموحدة. وهذا ما سنعالجه ببعض التفصيل في الفصل القادم، الذي يعود بنا إلى القرن العاشر الذي ابتدأنا به البحث في الفصول الأولى من هذا الكتاب.

١  Paolo Matthiae, Ebla, Hodder, London 1980, p. 19.
٢  من أجل معالجة أكثر تفصيلًا لمجريات الفترة الانتقالية وعصر الحديد الأول، راجع توماس ل. تومبسون في مؤلفه: التاريخ المبكر للإسرائيليين.
٣  Cited in: Th. L. Thompson, The Early History of the Israelite People, pp. 92-93.
٤  N. M. Sarna, Israel in Egyp, In: Hershel Shank, edt., Ancient Israel, p. 91.
٥  Joseph Callaway, The Settlement in Canaan, In: H. Shanks, ibid., pp. 64-65.
٦  انظر وقائع هذه الندوة في:
Biblical Archaeology Review, July-August, 1997.
ويمكن الاطلاع على ما اقتبسته عن ديفر في الصفحة ٢٩ من المرجع أعلاه.
٧  هناك طبعة إنكليزية أحدث لكتاب آلت:
Albrecht Alt, Essays on Old Testament History and Religion, New York 1968, pp. 195–221.
٨  K. Kenyon, Archaeology in the Holy Land, p. 200.
٩  G. A. Mendenhall, The Hebrw Conquest, Biblical Archaeologist, 25, 1962, pp. 66–68.
١٠  N. K. Gottwald, The Tribes of Yahwe, Orbis Books, N. Y. 1979.
١١  J. M. Meller and D. H. Hayes, History of Ancient Israel, Philadelphia, Westminster, 1986.
١٢  فراس السواح، لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دار سومر، نيقوسيا ١٩٨٥م.
١٣  فراس السواح، أركيولوجيا فلسطين والتوراة السورية، مجلة الفكر الديمقراطي، العدد الأول، نيقوسيا ١٩٨٨م.
١٤  Adam Zertal, Israel Inters Canaan, Biblical Archaeology Review, September-October, 1991.
١٥  A. Mazar, Archaelology of the Land of the Bible, Doubleday, London 1990, p. 353.
١٦  B. Nakhai, What Is Bamah? In: Biblical Archaeology Review, May-June, 1994.
١٧  Biblical Archaeology Review, Sep-Nov, 1996.
١٨  Cited in: Keith Whitelam, The Invention of Ancient Israel, pp. 197-198.
١٩  I. Finkelstien, The Rise of Early Israel, In: S. Ahinuv and E. D. Oren, eds., The Origin of Early Israel, Ben Gurion University 1998.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤