الفصل الأول

أهمية ريادة الأعمال

يبدو أننا نعيش في العصر الذهبي لريادة الأعمال. ففي عام ٢٠١١، قدَّر استبيانٌ صادر عن «المرصد العالمي لريادة الأعمال»، استطلع آراءَ أكثر من ١٤٠ ألف شخص بالغ (من الفئة العمرية ١٨ إلى ٦٤ عامًا) في اقتصادات أربع وخمسين دولة، أن ٣٨٨ مليون رائد أعمال شاركوا بفعالية في تأسيسِ شركاتٍ جديدة وإدارتها. وربما يكون روَّاد الأعمال عناصرَ فاعلة لإحداث تغيير مبتكَر؛ إذ تُسفِر أنشطتهم عن تأسيسِ شركاتٍ جديدة. وبإمكانهم أيضًا تغييرُ مسار الشركات القائمة بالفعل لاستغلال الفرص الاقتصادية والفرص التي تعود بالنفع على المجتمع. في وسائل الإعلام الجماهيرية، كثيرًا ما يُقدَّم روَّادُ الأعمال باعتبارهم عناصرَ فاعلة تلعب دورًا أساسيًّا في تعزيز التنمية الاقتصادية. في الواقع، كشفت دراسات «المرصد العالمي لريادة الأعمال» عن وجودِ صلة مهمة بين معدَّل أنشطة ريادة الأعمال في دولةٍ ما وبين معدَّل نمو الناتج المحلي الإجمالي في تلك الدولة، رغم أن الصلة لا تكون مُتماثِلة في جميع الدول. ويستطيع رُواد الأعمال وشركاتهم أن يحقِّقوا الثروة ويوفِّروا فرص العمل، التي في مقدورها أن تحُدَّ من التفاوت الاجتماعي والإقليمي. ويستطيع روَّادُ الأعمال أن ينخرطوا في هذا المجال بدافع الرغبة في استغلال الفرص التِّجارية المتصوَّرة، أو أن يُضطروا إلى خوض غِماره بحكم الضرورة لأنه ليس لديهم أيُّ خياراتِ عملٍ أخرى. وفي كلتا الحالتَين، يُنظَر إليهم على نحوٍ متزايد باعتبارهم التِّرياقَ الشافي لمشكلات التنمية الوطنية والمحلية.

إنَّ التطلُّع إلى أن يتمكَّن روَّادُ الأعمال من تقديم الترياق الشافي لجميع الأمراض الاقتصادية ربما يكون غير واقعي بالمرة. ولذا، حذَّر عالِمُ الاقتصاد جوزيف شومبيتر من أن مشروعات ريادة الأعمال «تستحدث» بالفعل مصادرَ جديدة للميزة التنافسية ومنتجات وخِدمات وشركات وصناعات وفرص عمل وثروات، إلا أنها في الوقت نفسه «تدمِّر» أيضًا الشركات وفرص العمل في مجالات حالية عفا عليها الزمن. ووفقًا للاتجاه الرائج، كثيرًا ما يُصوَّر روَّادُ الأعمال باعتبارهم أبطالًا ولكن متمرِّدين، يلاحقون الفرصة على نحوٍ فردي من غير مساعدة وبلا هوادة؛ ومن ثَم يعيشون أنماطًا حياتية غريبة. وتعود الصورةُ الرائجة السائدة عن رائد الأعمال إلى شخصية رجل بطولي أبيض البشَرة غربي النشأة تبدو عليه مظاهرُ العدوانية والحزم لاستحداث فرص الأعمال أو استكشافها. ولكن عندما تُغلَق الشركات، ويفقد الناسُ وظائفَهم إثر ذلك، وتنكشف الأنشطة المشينة، يُوصَم حينها روَّاد الأعمال أنفسهم بالأشرار (أمثال كونراد بلاك، وروبرت ماكسويل، وأصيل نادر). وعليه، قد يكون روَّاد الأعمال إما أبطالًا وإما أشرارًا، وأحيانًا يكونون مزيجًا من الأبطال والأشرار في آنٍ واحد بناءً على وجهة نظرك أنت. فعلى سبيل المثال، قدَّمَتْ كتبٌ أُلِّفَت عن ريتشارد برانسون صورًا شخصية متضارِبة عنه تتنوَّع ما بين رائد أعمال عالمي مغامر، ومُضارِب ماكر عديم الرحمة واسع الحيلة لتقويض مُنافسيه.

ونظرًا إلى الاعتقاد الواسع الانتشار بخصوص إسهام روَّاد الأعمال في تحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، تشجِّع الوكالات الدولية والحكومات من مختلف أنحاء العالَم سياسات ريادة الأعمال. وتعمل شركات رأس المال المُغامِر على تمويل روَّاد الأعمال من منطلق الاعتقاد في أن بإمكانهم تحقيق عوائد مالية مرتفعة. ولقد حرصت الهيئات البحثية القومية والجامعات ومراكز الأبحاث المتخصصة، وكذلك المؤسسات البحثية، على دعم الأبحاث القائمة على افتراض أن هذا من شأنه أن يساعد في تعزيز دور ريادة الأعمال في تحفيز التقدُّم المُحرَز على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي.

سُلِّط الضوءُ على روَّاد الأعمال من جانب وسائل الإعلام الأوسع انتشارًا بسبب أنشطتهم الواضحة للإعلام، والتي ساعدت في تغيير قواعد اللعبة تغييرًا جذريًّا داخل الأسواق. على سبيل المثال، غيَّر ستيليوس حاجي-إيانو وشركته «إيزي جيت» للطيران الاقتصادي قواعدَ صناعة الطيران في أوروبا، وغيَّرت مِكنسة جيمس دايسون الكهربائية التي لا تحتوي على كيس قماشي داخلي سوقَ المكانس الكهربائية، كما غيَّرت شركةُ «مايكروسوفت» لمالكها بيل جيتس وشركةُ «آبل» لمالكها ستيف جوبز، على اختلاف طرائقهما، ملامحَ أسواق أجهزة الكمبيوتر الشخصية ووسائل الاتصال والتسلية والترفيه.

ساعدت البرامج التليفزيونية المُذاعة في أوقات الذروة، والتي تصوِّر روَّادَ الأعمال والمخترعين وهم يروِّجون أفكارهم لجذب انتباه المستثمِرين الأثرياء، في إشهار روَّاد الأعمال والترويج لهم أمام قاعدة جماهيرية عريضة. وأثبت هذا المفهوم، الذي استُحدث لأول مرة في اليابان، أنه في حدِّ ذاته مفهومٌ ريادي للغاية. تُعرَض البرامج ذات الصلة بريادة الأعمال في مختلف أنحاء العالم تحت مسمَّياتٍ مختلفة، مثل برنامج «شارك تانك» في الولايات المتحدة، وبرنامج «دراجونز دين» في المملكة المتحدة، وبرنامج «فكر وتلاشَ» في أفغانستان. ولكن لا يبدو أن هذا ما حدث في فرنسا، وفقًا لتصريحٍ ملفَّق (بل غير صحيح) للرئيس جورج دبليو بوش بأن الفرنسيين ليس لديهم مُرادِف لفظي لمصطلح رائد الأعمال.

زادَ عدد الأساتذة الباحثين في مجال ريادة الأعمال زيادةً سريعة. وزادت أعداد عضوية أكاديمية الإدارة وشعبة ريادة الأعمال بما يقارب مرتَين ونصفًا، لتصل إلى ما يزيد عن ٢٧٥٠ خلال العَقد الذي امتدَّ من عام ٢٠٠١ إلى عام ٢٠١١. وسجَّلت كلياتُ إدارة الأعمال زيادةً في دراسة مقرَّرات ريادة الأعمال على مستويَي الدراسة الجامعية الأساسية والدراسات العليا. ووفَّرت أقسامُ العلوم والتكنولوجيا والهندسة والطب داخل الجامعات مقرَّراتِ ريادة الأعمال للطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين يريدون تأسيسَ مشروعاتٍ تِجارية تستغل المبتكَرات التي يتوصلون إليها داخل المختبرات. وتُدرِّس المدارسُ الثانوية والابتدائية الآن ريادةَ الأعمال أيضًا. وتناقش هذه المقررات الدراسية المشكلات التطبيقية المتعلِّقة بإقامة المشروعات الخاصة والمجتمعية المتزايدة، وكذلك المتعلِّقة بدراسة كيف يتسنَّى تحويلُ المؤسسات العائلية الكبرى الموجودة بالفعل إلى مؤسساتٍ رائدة. بالإضافة إلى هذا كله، توضِّح هذه المقرَّرات الدراسية المشكلاتِ النظرية والمشكلات المتعلقة بالسياسات.

حقَّق بعض الطلاب ثروةً طائلة من مشروعاتهم المغامِرة الجديدة. إذ أنشأ أليكس تيو موقعَ «صفحة بمليون دولار» لجمع الأموال من أجل تغطية نفقات دراسته الجامعية. كانت الصفحة الرئيسية لهذا الموقع تحتوي على مليون بكسل مرتَّبة في مصفوفة من ١٠٠٠ × ١٠٠٠ بكسل. بيعت الروابط المتصلة بالصور بمبلغ دولار واحد لكل بكسل في كتلٍ تبلُغ مساحتها ١٠ × ١٠. عرَضَ مُشترو كُتَل البكسلات هذه صورًا بالغةَ الصِّغر تظهر فوقها، ومتصلة بروابطَ تؤدي إلى مواقعَ أخرى، ويظهر شعارٌ عند توقُّف المؤشر على رابط الصورة. كان الهدف من هذا الموقع هو بيع جميع البكسلات في الصورة. وعند طرح الألف بكسل الأخيرة في مزادٍ علني على موقع «إيباي»، قُدِّر إجمالي المبلغ النهائي الذي حُصِّل من هذا المشروع بمليون وسبعة وثلاثين ألفًا ومائة دولار.

تسرَّب طلاب آخرون من التعليم سعيًا وراء تنفيذ أفكارٍ كبرى في ريادة الأعمال راوَدتهم أثناء الدراسة الجامعية. إذ اشتُهر مارك زوكربيرج بتسرُّبه من الدراسة في عامه الثاني بجامعة هارفارد ليستكمل مشروع موقع «فيسبوك»، الذي دشَّنه آنذاك من غرفته بالسكن الجامعي.

على الرغم من تزايد الاهتمام بظاهرة ريادة الأعمال والأنشطة المرتبطة بها، أحاطَ قدرٌ كبير من الجدال والنقاش بروَّاد الأعمال وريادة الأعمال. فكلاهما يمثِّل ظواهرَ معقَّدة ومبهَمة. وهدفنا، في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، هو تأمُّل هذا التعقيدِ والإبهام، وكذلك شقُّ طريقٍ واضح المعالم عبْر النقاش وتوضيح بعض المسائل إلى القارئ.

نقدِّم إطارًا توجيهيًّا للفعاليات والعمليات والمخرَجات الريادية في السياقات التي تحدُث بداخلها. وسنستكشف الإجابةَ عن الأسئلة التالية: ما ريادة الأعمال، ولماذا تتمتَّع بالأهمية؟ ما الذي يفعله روَّادُ الأعمال؟ من أين يأتي روَّادُ الأعمال؟ هل تقدِّم نوعيةٌ معينة من روَّاد الأعمال قدرًا أكبرَ من الإسهامات؟ ما الذي يميِّز روَّادَ الأعمال؟ كيف يفكِّر روَّادُ الأعمال وكيف يتعلمون من تجاربهم؟ ما مجموعة الأنماط المؤسسية التي تحدُث فيها ريادة الأعمال؟

ريادة الأعمال

يدور مفهوم ريادة الأعمال حول ما يقوم به روَّادُ الأعمال. فكلمة Entrepreneur هي كلمة فرنسية ظهرت لأول مرة عام ١٤٣٧ في «قاموس اللغة الفرنسية». وأُدرجَت تحت هذه الكلمة ثلاثة تعريفات في القاموس، ذاكرةً المعنى الأكثر شيوعًا، يشير إلى «شخصٍ نشطٍ يحقِّق إنجازًا ما». والفعل المشتَق منها هو Entreprendre، ويعني «الاضطلاع بشيءٍ ما». وفي بداية القرن السابع عشر، كان رائدُ الأعمال في فرنسا يُعتبر «شخصًا مُقدِمًا على المخاطر»، ولكن ليس جميعُ الأشخاص الذين يُقدِمون على المخاطر يُعتبرون روَّادَ أعمال. وخلال القرن الثامن عشر، كان الشخص الذي يُتعاقَد معه لأداء مهمة كبيرة محدَّدة، لصالح الدولة عمومًا، مقابل تكلفة ثابتة، يُعتبر رائد أعمال.

حتى القرن الثامن عشر، لم يكن هناك مُرادِف إنجليزي للكلمة الفرنسية. ويذكر صمويل جونسون في كتابه «قاموسٌ للُّغة الإنجليزية» طبعة عام ١٧٥٥ التعريفَ الآتي: «شخص مغامر، يسعى وراء المخاطر، ويترك نفسه للمصادفة». ومع مرور الوقت، صار لمفهوم رائد الأعمال في اللغة الإنجليزية تعريفاتٌ أشمل وأوسع نطاقًا، وذات صلة ﺑ «مواقف يدخل فيها المرء في مشروعاتٍ تنطوي على مخاطرَ ويكون الربح فيها غير مؤكَّد». وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، حلَّ مفهوم صاحب رأس المال محلَّ مفهوم رجل الأعمال.

وحتى يومنا هذا لا يوجد تعريفٌ مُتفَق عليه لروَّاد الأعمال أو لريادة الأعمال. إذ تعتمد منظمةُ التعاون الاقتصادي والتنمية تعريفًا فضفاضًا، حيث تتجلى ريادةُ الأعمال في بعض الشركات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، وفي بعض الشركات الجديدة والشركات العائلية العريقة، وفي الشركات الخاصة التي تركِّز على الربح والمؤسسات الاجتماعية الساعية نحو توليد مزايا اجتماعية وفوائد بيئية أوسع نطاقًا، وفي الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، وفي الأنشطة القانونية وغير القانونية، والقضايا المستحدَثة والأكثر تقليدية، وفي جميع النطاقات والقطاعات الاقتصادية الفرعية.

أدوار روَّاد الأعمال

استعنَّا هنا بمناهجَ قائمة على علم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، والشخصية أو سِماتها، والمناهج الديناميكية النفسية والمعرفية، لشرحِ ما يقوم به روَّادُ الأعمال. وسنستعرض هذه المناهجَ في موضعٍ لاحقٍ من هذا الكتاب، إلا أن هذا التنوُّع والافتقار إلى توافُق الآراء يتضح من خلال الأدوار التالية المحدَّدة بناءً على أبحاثٍ امتدت على مدار قرنَين ونصف قرن. ذلك حيث يُعرَّف رائد الأعمال بأنه:
  • (١)

    شخصٌ يتحمَّل المخاطرَ المرتبطة بعدم اليقين،

  • (٢)

    شخصٌ يوفِّر رأسَ مالٍ نقدي،

  • (٣)

    شخصٌ يخلُق الفرص ويبتكرها،

  • (٤)

    صانعُ قرار،

  • (٥)

    قائدٌ في القطاعات الصناعية،

  • (٦)

    مديرٌ تنفيذي أو مشرِف عام،

  • (٧)

    منظِّمٌ ومنسِّقٌ للموارد الاقتصادية،

  • (٨)

    صاحِبُ مشروع تجاري،

  • (٩)

    موظفٌ معنيٌّ بعوامل الإنتاج،

  • (١٠)

    مقاولٌ،

  • (١١)

    مضارِبٌ،

  • (١٢)

    موزِّعٌ يجد للموارد استخداماتٍ بديلة،

  • (١٣)

    قناةٌ لنشر المعرفة من مؤسسةٍ معرفية عبْر شركة جديدة لاستغلال هذه المعرفة،

  • (١٤)

    مستكشِفٌ واعٍ أو باحِثٌ نشطٌ عن الفرص.

المناهج المتبَعة لوصف رائد الأعمال

انبثقت أدوارُ روَّاد الأعمال بالأساس من تركيز عِلم الاقتصاد على وظائف رائد الأعمال في السوق. ومؤخرًا، ركَّزت المناهجُ ذات التوجُّه السلوكي بقدرٍ أكبر على سِمات الأفراد الذين يضطلعون بهذه الأدوار، لا سيما «ماهية رائد الأعمال ودوره». يلخِّص جدول ١-١ تنوُّع المناهج المتَّبعة لوصف رائد الأعمال كفرد، حيث يمكننا التفريقُ بين منهج مدرسة الشخص العظيم، ومدرسة الخصائص النفسية، والمدرسة الكلاسيكية، ومدرسة الإدارة، ومدرسة القيادة، ومدرسة ريادة الأعمال المؤسسية.
جدول ١-١: ملخَّص المناهج المتبَعة لوصف رائد الأعمال كفرد*
النموذج الريادي التركيز الأساسي أو الهدف الافتراض المهارات والسلوكيات الحالة
مدرسة الشخص العظيم شخص لديه قدراتٌ بديهية وفطرية تجعل البديهة «الفطرية» من رائد الأعمال شخصًا مختلفًا البديهة، النشاط، الطاقة، المثابرة، الاعتداد بالذات مستجِد
مدرسة السِّمات النفسية شخص تحرِّكه قيمٌ وتوجُّهات واحتياجات متفردة تشكِّل القيمُ السلوكيات بما يشبِع الاحتياجات قيمٌ شخصية، تحمُّل المخاطر، الحاجة إلى الإنجاز … إلخ. مستجِد
المدرسة الكلاسيكية شخصٌ يركِّز على الابتكار عمليةٌ قائمة على التنفيذ بدلًا من التملك الابتكار والإبداع والاكتشاف مستجِد وفي فترات التطوُّر الأولى
مدرسة الإدارة شخصٌ منظَّم يتحمَّل مسئولية المخاطرة، ويدير المخاطرَ ويخوضها يمكنه التطويرُ والتدريب تخطيط الإنتاج، تنظيم الأفراد، التمويل، وضع الميزانية في فترات التطوُّر والنضج الأولى
مدرسة القيادة قادة يعدِّلون أساليبَهم لتتوافق مع احتياجات الناس لا يمكنهم تحقيقُ هدفٍ من تلقاء أنفسهم التحفيز والتوجيه والقيادة في فترات التطوُّر والنضج الأولى
مدرسة ريادة الأعمال المؤسسية مهاراتٌ ريادية تُستغل في المؤسسات المعقَّدة التأقلم وبناء المؤسسة الانتباه إلى الفرص وتعظيم القرارات النضج وبدء التغيير
المصدر: منقول بتصرُّف من كننجهام وليشيرون (طبعة عام ١٩٩١: صفحة ٤٧)

عملية الريادة

تمثِّل عمليةُ الريادة جوهرَ الجدل الدائر حول ريادة الأعمال. ذلك أنها معنية بما يجب القيامُ به حتى تُنفَّذ ريادة الأعمال على أكمل وجه. الافتقار إلى إجماع الآراء بشأنِ «ما يفعله روَّاد الأعمال»، و«مَن هم روَّاد الأعمال»، شجَّع ظهورَ عدة مناهج لفهم روَّاد الأعمال وعملية الريادة. وبوجهٍ عام، تشتمل عملية الريادة على جميع الوظائف والأنشطة المرتبطة بإدراك الفرص والسعي وراءها. وتركِّز نظرةٌ ضيِّقة على فكرة إنشاء مؤسسات جديدة، بينما تركِّز نظرةٌ أوسع على بزوغ الفرص بغضِّ النظر عما إذا كان هذا يحدُث في شركة جديدة أم في شركة قائمة بالفعل. العنصر الأساسي هو إمكانية الوصول إلى الموارد. هناك فريقٌ يرى ريادةَ الأعمال باعتبارها العمليةَ التي يسعى الأفراد من خلالها وراء الفرص ويستغلونها بصرف النظر عن الموارد التي يسيطرون عليها حاليًّا. وفريقٌ آخر يركِّز على الكيفية التي يمكن بها لروَّاد الأعمال استغلالُ الموارد المتاحة في متناول أيديهم، في حين أن فريقًا ثالثًا يتفحَّص العملية التي يصل من خلالها روَّادُ الأعمال إلى موارده وينسِّقون استغلالها.

الإطار التنظيمي

يتألَّف إطارُ بيل جارتنر لوصف ظاهرة إقامة المشروعات الجديدة من أربعة منظوراتٍ كبرى في ريادة الأعمال. وفيه، ميَّز جارتنر بين خصائص الفرد (الأفراد) الذي يبدأ المشروع الجديد، والشركة التي يؤسِّسها، والبيئة المحيطة بالمشروع الجديد، والعملية التي يتأسَّس من خلالها المشروع الجديد. واستنادًا إلى هذه الرؤى الثاقبة، يوضِّح شكل ١-١ ستة محاور داخل الدراسات التي أُجريت على مجال ريادة الأعمال.
fig1
شكل ١-١: المحاور المعروضة في دراسات ريادة الأعمال

يتعلَّق المحور الأول ﺑ «النظرية». تبحث عدةُ نظريات عمليةَ ريادة الأعمال وسلوك وأداء روَّاد الأعمال ومؤسساتهم. وتعكس هذه النظرياتُ الطبيعةَ المتنوِّعة لريادة الأعمال وروَّاد الأعمال.

يتعلق المحور الثاني ﺑ «البيئة الخارجية لريادة الأعمال». وفي سبيل تحقيق الفوائد الاقتصادية وغير الاقتصادية، وضعت الحكوماتُ في الدول المتقدِّمة والنامية سياساتٍ من أجل التعامُل مع معوِّقات البيئة الخارجية المعرقِلة لتأسيس الشركات وتطويرها. تؤثِّر هذه البيئات في مدى توافُر الموارد وفي الإجراءات التي يتخذها روَّادُ الأعمال وفي أداء مشروعاتهم؛ الأمر الذي يوضِّحه المحورُ الرابع أيضًا.

ريادة الأعمال هي عمليةٌ تتطوَّر بمرور الوقت. ويتعلق المحور الثالث ﺑ «عملية ريادة الأعمال»، ويركِّز على ما يقوم به روَّادُ الأعمال فيما يخص خلْق الفرص وإدراكها، وكذلك جمْع الموارد وحشْدها لاستغلال الفرص (أي فريق الريادة، والبيئة المؤسسية، والبيئة الخارجية).

يتعلق المحور الرابع ﺑ «أنواع روَّاد الأعمال». إذ توجد أنواعٌ مختلِفة من روَّاد الأعمال، ويمكن أن تتشكَّل هذه الأنواعُ وفقًا إلى بيئاتهم الخارجية. قد يشكِّل السياقُ الاجتماعي، مثل المكان الذي ينحدر منه روَّادُ الأعمال، الطموحاتِ والتوقعاتِ وإمكانيةَ الوصول إلى مواردَ محدَّدة فيما يتعلق برأس المال البشري والبراعة الصناعية والبراعة الإدارية وإمكانات الريادة. والاختلافات بين هذه الأنواع تتعلق أيضًا بطريقة تفكير روَّاد الأعمال وكيفية تعلُّمهم (أي شخصية رائد الأعمال وعقليته المعرفية).

يتعلق المحور الخامس ﺑ «أنواع المؤسسات». نعتمد هنا وجهةَ نظر شاملة لريادة الأعمال. فبالإضافة إلى تأسيس شركات جديدة مستقلة، قد تتجلَّى ريادةُ الأعمال في الشركات العائلية، والمشاريع الاستثمارية المؤسسية، وشركات الاستحواذ الداخلي والخارجي، والشركات المنبثِقة الأكاديمية المنشأ، والمؤسسات الاجتماعية.

وأخيرًا، نصل إلى المحور السادس المتعلق ﺑ «نتائج مساعي الريادة». تتعلَّق النتائج الاقتصادية وغير الاقتصادية لمساعي الريادة برائد الأعمال والشركة.

مزايا شركات ريادة الأعمال

يوضِّح جدول ١-٢ أنه عِلاوةً على توليد الثروة الشخصية، يستطيع روَّادُ الأعمال أن يولِّدوا فوائدَ أوسعَ نطاقًا. فشركات الريادة تلعب دورًا في عملية التنمية الاقتصادية. وهي تضطلع بدورٍ من أجل الحَدِّ من البطالة والفقر، بما يتضمَّنه ذلك من كونها جهاتٍ رئيسية توفِّر فرصَ عمل جديدة عندما تقرِّر الشركات الكبرى خفْض عِمالتها. وتولِّد شركات ريادة الأعمال ثروةً للأفراد والموظفين، والتي يمكن بدورها أن تولِّد إيراداتٍ ضريبية. وهي أيضًا البذرة التي تنبثق عنها المؤسسات الكبرى الناجحة (مثل مايكروسوفت، وسيسكو سيستمز، وذا بودي شوب).
جدول ١-٢: شركات الريادة: الإسهامات الاقتصادية وغير الاقتصادية الإيجابية والعوائق أمام المشروعات
الإسهامات الإيجابية العوائق
الإسهامات الاقتصادية

التنمية الاقتصادية

الحَدُّ من البطالة والفقر

توليد فرص عمل عندما تقرِّر الشركات الكبرى خفض العمالة

تحقيق الثروة وفرض الضرائب لدعم السياسات الحكومية

عوائق الاقتصاد الكلي

فرض الضرائب، والإنفاق الحكومي فيما يخصُّ أسعار الفائدة وسعر الصرف، وسياسة التضخم وإطار العمل التنظيمي

«بذرة» الشركات الصغيرة تنمو لتصير شركاتٍ كبيرة «راسخة»

توفير المنافسة والابتكار والإنتاجية ومزايا سلسلة التوريد

ميزة التدويل وميزان المدفوعات

عوائق ثقافية وقاعدة تعليمية محدودة

توفير الخدمات الأساسية لتعزيز جودة الحياة

بيئة عمل متناغمة

مزايا الشركات الكبرى

تربة خصبة لتغذية المشروعات المستقبلية

حماية وتعزيز المجتمعات المحلية ومنظوماتها المعرفية التنموية، وتحقيق فائض لدى الشركات القائمة على التكنولوجيا، وعامل المضاعفة، وفرص العمل والثراء، والمزايا التنافسية

التصويت لصالح واضعي السياسات الداعمين للمشروع

عوائق تتعلَّق بالاتجاهات السلوكية

التردُّد في اتباع مسارٍ مهني داخل مؤسسةٍ ما، وفي التركيز على نمو الشركات والاستعانة بالتمويل الخارجي والخبرات الخارجية

الإسهامات غير الاقتصادية

الحدُّ من عدم المساواة الاجتماعية والإقليمية

تعزيز التنوُّع وتشجيع الفئات الممثَّلة تمثيلًا غير كافٍ، مثل النساء، لكي يَصِرن رائدات أعمال

تشجيع الاختيارات وتطوير الذات والتمكين الشخصي

عوائق متعلقة بالموارد

المعلومات، التمويل، مقارُّ العمل، العمالة الماهرة، الآلات، المعدَّات … إلخ.

عوائق تشغيلية

الخيال والإبداع والابتكار، والاستعانة بالإدارة المناسبة والنُّظم الإنتاجية

عوائق استراتيجية

العجز عن تحقيق التنوُّع المناسب

فشلٌ حكومي

تدعم الحكومة الشركات والمشروعات الخطأ التي لا تحتاج إلى المساعدة

قد تتَّسم شركاتُ ريادة الأعمال بأنها مرنةٌ ولديها القدرة على التكيُّف؛ مما يتيح لها اغتنام فرصٍ جديدة. وربما تشجِّع المنافسة، وتروِّج لخفض الأسعار، وتزيد الخيارات أمام المستهلِك، وتشجِّع على استحداث وانتشار منتجات/خِدمات جديدة ومبتكَرة و/أو منتجات وخِدمات أعلى جودة. تشجِّع هذه المنافسةُ على استغلال الموارد على نحوٍ أكثرَ فعالية، وإحلال المشروعات غير العَمَلية والعديمة الفعالية. ترتبط المشروعات العملية، التي تستغل المواردَ بمزيد من الفعالية، بمستوياتٍ عالية من الإنتاجية قد تمكِّنها من الحفاظ على الميزة التنافسية في الأسواق المحلية والعالمية. وتستطيع شركاتُ ريادة الأعمال الفعَّالة التي يمكنها الانتشارُ عالميًّا أن تخلُق فرص عمل، وتحقِّق ثروة، وتلعب دورًا في الحَدِّ من عجز ميزان المدفوعات (أو زيادة الفائض)؛ ومن ثَمَّ تضمن تحقيقَ توازُن سليم بين واردات البلد وصادراتها. وتلعب الشركات المبتكِرة «الساعية نحو العالمية» دورًا في الحَدِّ من عجز ميزان المدفوعات منذ اللحظة الأولى لتأسيسها.

يشارك عددٌ قليل من الشركات في الأنشطة المبتكَرة حقًّا. ومعظم الشركات الجديدة والصغيرة قائمة على التقليد والمحاكاة، أو شركات تقدِّم ابتكاراتٍ إضافية للحفاظ على ميزتها التنافسية. ومجموعة صغيرة للغاية من روَّاد الأعمال، ذوي المعرفة العلمية أو التكنولوجية الاستثنائية، يقدِّمون ابتكاراتٍ جذريةً تقود إلى فتحِ مجالاتٍ جديدة تعزِّز التنمية الاقتصادية المرتبِطة بتقويض بعض المجالات القديمة.

تشارك معظمُ شركات الريادة في خدمة مستهلِكي القطاع الخاص (مثل المطاعم وأسواق بيع التجزئة) أو غيرها من المشروعات. وقد تتنوَّع العلاقة الخِدمية بين شركة ريادة الأعمال وعملائها بدءًا من التعاون وصولًا إلى التبعية والاستغلال. ولن تتمكَّن كثيرٌ من الشركات الكبرى من الحفاظ على تحقيق الأرباح لولا الخِدمات التي تقدِّمها الشركات الجديدة والصغيرة الموجودة في سلسلة توريداتها.

تستطيع شركاتُ ريادة الأعمال، لا سيَّما الشركات الصغيرة، أن توفِّر بيئةَ عمل متناغمة. ويسفِر هذا عن انخفاض عدد نزاعات العمل وانخفاض نسبة الغياب. وربما توفِّر بيئةً تعليمية ونموذجًا يُحتذى به في رعاية روَّاد الأعمال المحتمَلين.

تعزِّز شركات الريادة التنميةَ المحلية وإنعاش المجتمعات الريفية والحضرية المحرومة؛ نظرًا لأنها كثيرًا ما تخدُم الأسواق المحلية. وربما يعيش رائد الأعمال (أو روَّاد الأعمال) بالقرب من المنطقة التي توجد فيها الشركة ويشعر بالولاء نحوها. وتعيِّن هذه الشركاتُ بوجه عام أشخاصًا ومورِّدين من نطاقات قريبة يسهُل الوصول إليها. إن تأسيس ونمو شركات جديدة يمكن أن يولِّد آثارًا محلية مُضاعَفة، تزيد الطلب على تأسيس شركات جديدة أخرى، وهو ما يمكن أن يعزِّز تصاعُد وتيرة تكوين الثروات وخلْق فرص عمل للحدِّ من البطالة والفقر على الصعيد المحلي.

تستطيع شركات الريادة أن تولِّد عدةَ فوائد اجتماعية. إنَّ تزايد أسهُم شركات ريادة الأعمال ربما يضع حدًّا لثقافة التبعية في الدولة ككلٍّ وفي الشركات الكبرى، ويضع حدًّا أيضًا لسلطة الشركات الكبرى والنقابات العمالية. وتوفِّر شركات الريادة بيئاتٍ عملية وتعليمية تشجِّع الاختيار وتعزِّز الفرصة وتتيح التمكين والفردية والاعتماد على الذات، لا سيَّما أمام الفئات المحرومة اقتصاديًّا داخل المجتمع مثل النساء والشباب والأقليات العِرقية. يُعَدُّ تعزيز ريادة الأعمال جزءًا من معادلةٍ تسعى إلى المواءمة بين النجاح الاقتصادي والتماسك الاجتماعي.

العوائق

ثَمة أنواعٌ مختلفة من شركات ريادة الأعمال ومن روَّاد الأعمال، ومعظم الشركات الجديدة لا ترغب في تحقيقِ زيادة كبيرة في معدَّل نمو العمالة أو لا تسجِّلها. فنسبة ٤٪ فقط من الشركات تخلُق ٥٠٪ من فرص العمل التي توفِّرها الشركات على مدارِ أكثر من عَقد. تُولَد أغلبُ الشركات الجديدة لتموت في مهدِها؛ نظرًا لأن معظمها يتوقَّف عن العمل في غضون ثلاث سنوات من تأسيسها. وأغلب الشركات التي تنجح في الاستمرار، تُولَد صغيرة وتظل صغيرة كما هي. تهتم كثير من الشركات الصغيرة بالحفاظ على مستوى أرباحها الحالي أكثرَ من اهتمامها بالتوسُّع. ويتمثَّل أحدُ الأسباب وراء رغبة شركة في أن تظل صغيرة في أن المِلكية والإدارة تكونان منوطتَين بنفس الشخص أو الأشخاص؛ ومن ثَم، فأهداف الشركة المستقبلية لا تتحدَّد وفقًا لاعتباراتٍ تجارية فقط، وإنما وفقًا لأنماط الحياة الشخصية، وبعوامل أُسرية متعلِّقة بالأفراد أو الفِرق الذين يمتلكون هذه الشركات ويديرونها. وقد يُقوِّض روَّادُ الأعمال تطوير شركاتهم بدافع الحفاظ على ملكية شركاتهم والسيطرة عليها، وكذا مَن لا يزيدون حجم مشاريعهم عن إطار منطقة الراحة الخاصة بالإدارة الداخلية فقط، والتي تتيح لمالكيها أن يحافظوا على السيطرة والمِلكية. ولكن يبدو أن نسبة الشركات الصغيرة التي تريد تحقيقَ النمو أكبرُ من العدد الذي يحقِّق النمو فعلًا.

يلخِّص جدول ١-٢ عدةَ أنواع رئيسية للعوائق. يجب أن يؤمن الناس أن في إمكانهم أن يصيروا روَّادَ أعمال، وأن تكون لديهم نية تحقيق النمو. يمكن أن تلعب الحكومة دورًا في التعامل مع العوائق السلوكية المعرقِلة للمشروع. ويجب أن يرفع الناسُ توقعاتهم ويزيدوا من إحساسهم بالفردية والاعتماد على الذات، وعليهم أن يؤمنوا أن في إمكانهم أن يكونوا روَّاد أعمال ناجحين. بالإضافة إلى هذا، يواجه بعض الأشخاص عوائقَ متعلقةً بالموارد وعوائقَ تشغيليةً واستراتيجيةً من شأنها أن تُعرقِل تأسيس الشركات وتطويرها. يسجِّل الأفراد عمومًا العوائق الخاصة بموارد السوق (مثل إتاحة المعلومات، والتمويل، وأماكن العمل، والتدريب والمهارات، وتكاليف الامتثال المرتبطة بالإدارة القانونية والتنظيمية … إلخ).

تحظى شركاتُ ريادة الأعمال عمومًا بسِجلات متابعة محدودة. وقد تُعاني هذه الشركات نقصًا في حجم ونوع الموارد التي تستطيع تعبئتها. ومع غيابِ القدرِ الكافي من المصداقية وقنوات التواصل مع الشركاء، ربما لا تتمتع بالخبرة الضرورية اللازمة لاستغلال مجموعة مواردها المحدودة بكفاءة. وقد تفتقر الشركات الجديدة إلى المهارات اللازمة لمواءمة عرْض منتجاتها مع ما تبحث عنه السوق حقًّا، والمهارات اللازمة لتكون قادرة على اكتساب الشرعية لدى المساهمين الخارجيين ومتعهِّدي الموارد.

تشمل هذه المشكلات مسئوليةَ التجديد وتتكوَّن من أربعة محاور. أولًا، الشركات الجديدة بحاجة إلى إيجاد الموارد والوقت اللازمَين لخلق أدوارٍ ومهامَّ مؤسسيةٍ جديدة واكتساب معرفة وخبرة تعليمية. ثانيًا، عملية ابتكار أدوار جديدة وتعلُّمها هي عملية باهظة التكلفة؛ لأنها تتطلب التفاوض مع الآخرين داخل المؤسسة للاتفاق على الأدوار والمسئوليات والعلاقات الجديدة. ثالثًا، يُسفِر التعويل على العلاقات مع الغرباء عن انخفاض الثقة بين الأشخاص واحتمالية تكوين علاقات وقتية بين زملاء العمل. رابعًا، تُواجِه المؤسسات الجديدة صعوبات في تكوين علاقات خارجية مع المؤسسات الأخرى؛ لأنها لم تبنِ علاقاتٍ مستقرة بمرور الوقت مع العملاء والمورِّدين مثلًا. بالإضافة إلى ذلك، تُواجِه الشركاتُ الجديدة، التي تشارك في خلق المعرفة الحديثة واستغلالها، مسئولية الابتكار.

يمكن لروَّاد الأعمال أن يتبنَّوا سلوكياتٍ واستراتيجياتٍ للتخفيف من حِدَّة آثار هذه المسئوليات. فعلى سبيل المثال، تستطيع الشركات المبتكرة الجديدة أن تدخل في تحالفاتٍ مع الشركات الكبرى الحاضنة. فهذه العلاقات تمكِّنها من الوصول إلى الموارد اللازمة لتطوير التكنولوجيا على نحوٍ أكبر، بالإضافة إلى اكتساب القدرة على الوصول إلى المراحل الأخيرة من التعامل مع المستهلكين النهائيين في الوقت الذي تنقصها فيه مهاراتُ البيع والتسويق اللازمة للقيام بذلك. وربما تكون هذه التحالفات بادرةً تجعل رائد الأعمال قادرًا على بيع المشروع لجَنْي ربح رأس المال. وعلى الجانب السلبي، يستطيع الشريك الأكبر والأقوى أن يفرض الشروطَ ويصادر بعضَ المكاسب المحتمَلة التي يحقِّقها رائد الأعمال.

ورغم ذلك، يمكن أن تؤدي الحداثةُ إلى استحداث أصول. ويمكن أن تجلِب مزايا المرونة والقدرة على التكيُّف مع أوضاع السوق المتغيِّرة. وتوضِّح ظاهرة تدويل المشروعات الجديدة، أو «الشركات الساعية نحو العالمية»، كما ذكرنا آنفًا، كيف أن بعض شركات التكنولوجيا الفائقة المبتكرة تستغل الفرصَ المتاحة في الأسواق العالمية من البداية.

مبادَرات على صعيد السياسات

تريد الحكومات المهتمة بتحقيق الفوائد الاقتصادية الموضَّحة في جدول ١-٢ على وجه الخصوص زيادةَ عدد المشروعات السريعة النمو القائمة على التكنولوجيا والمعرفة. كما تستطيع تلك الحكوماتُ المهتمة بالحدِّ من عدم المساواة الاجتماعية والإقليمية في بلدانها تشجيعَ الأفراد المنتمين إلى الفئات المحرومة أو/والفئات غير الممثَّلة تمثيلًا جيدًا داخل المؤسسات ليصيروا روَّادَ أعمال (مثل النساء، والشباب، والأقليات العِرقية … إلخ). صُمِّمَت التدخُّلات على صعيد السياسات لتقليل العوائق التي تُواجِه هؤلاء الأشخاص الساعين لتأسيس مشروعات ريادة أعمال وتنميتها.
يمكن تقديم مجموعة من المساعدات المادية مثل المِنح والمعدَّات ومقارِّ العمل؛ والمساعدات غير المادية مثل التعليم والتدريب والمعلومات وتقديم المشورة والتوجيه. ويلخِّص جدول ١-٣ أنواع التدخُّلات اللازمة لدعمِ تأسيس الشركات الجديدة وتطويرها.
جدول ١-٣: أنواع الدعم الحكومي المُقدَّم لتأسيس الشركات الجديدة وتطويرها*
سياسات كلية

- أسعار الفائدة

- فرض الضرائب

- الإنفاق الحكومي

- التضخم

رفع القيود وتبسيط الإجراءات

- تقليل الإجراءات البيروقراطية

- الإعفاء من الإجراءات التشريعية

- الشكل القانوني

سياساتٌ خاصة بالقطاعات وسياساتٌ موجَّهة لحل المشكلات

- شركات التكنولوجيا الفائقة

- المشاريع الريفية

- المشاريع المجتمعية/المشاريع الاجتماعية

- الجمعيات التعاونية

- المشروعات العِرقية

المساعدات المالية

- خطة لتوسيع المشروع/خطة للاستثمارات المؤسسية

- خطة لضمان القروض

- خطة لمخصَّصات إعانة المشروعات الجديدة/خطة لتأسيس الشركات الناشئة

- المِنَح

المساعدات غير المباشرة

- تقديم المعلومات والنصائح

- التدريب على تنمية المشروعات/التدريبات الرسمية الأخرى

- برامج التسريع

- مبادرات استشارية

العلاقات

- شركة صغيرة منبثِقة من قسم داخل الشركة الأصلية

- جماعة ضغط/صياغة السياسات

المصدر: منقول بتصرُّف من كتاب ديفيد ستوري (عام ١٩٩٤، صفحة ٢٦٩)
يشير بول رينولدز وزملاؤه إلى أن الحكومات يمكنها قمعُ جهود مَن يحاولون تأسيس شركات جديدة من خلال الشروط البيروقراطية المُرهِقة أو اللوائح المعقَّدة أو فقط من خلال الاستجابة البطيئة في اتخاذ القرارات الضرورية لتأسيس شركة جديدة. توجد تفاوتاتٌ كبيرة ومُدهِشة بين الدول فيما يخص العوائق التي يتعيَّن على روَّاد الأعمال التفاوض بشأنها من أجل تأسيس شركة جديدة. تصنِّف «مؤسسة التمويل الدولية»، عضو مجموعة البنك الدولي، المراكزَ الثلاثة الأولى في العالم فيما يخصُّ تسهيل إقامة المشروعات الجديدة لتكون من نصيب نيوزيلندا وأستراليا وكندا على التوالي. تأتي الولايات المتحدة في المركز الثالث عشر، متأخرةً عن المملكة العربية السعودية التي تأتي في المركز العاشر، ولكنها متقدِّمة على المملكة المتحدة التي تأتي في المركز التاسع عشر، وفرنسا في المركز الخامس والعشرين، وألمانيا في المركز الثامن والتسعين، وإسبانيا في المركز المائة والثالث والثلاثين، واليونان في المركز المائة والخامس والثلاثين، والصين في المركز المائة والحادي والخمسين (http://www.doingbusiness.org/rankings).

من الممكن أن تمثِّل التدخلاتُ الرامية إلى تشجيع ريادة الأعمال على التعامل مع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الإقليمية إشكاليةً. وقد تنحاز السياسات المطبَّقة على الصعيد الوطني إلى زيادة القدرة على تأسيس الشركات الجديدة في جميع المناطق انحيازًا غير مباشر نحو المناطق الأكثر ثراءً والوافرة بالثروات على الصعيدَين الاجتماعي والاقتصادي. وقد تعزِّز السياسات غير الانتقائية والمشجِّعة على تأسيس الشركات الجديدة والنمو، دون استهداف منطقةٍ بعينها، الاختلافات الإقليمية من خلال إحداث تأثيراتٍ محدودة نسبيًّا في المناطق التي تُعاني نقصَ الموارد القائمة.

ربما لا تكون التدابير العامة، الرامية إلى توفير بيئة داعمة لكافة أشكال المشروعات على نحوٍ استباقي، فعَّالة من حيث التكلفة. ومن أجل تشجيع تأسيس الشركات الجديدة وتطويرها، لا سيَّما في البيئات المُعادية، تستطيع الحكومات على نحوٍ مباشر (أو غير مباشر) دعمَ المبادرات على الصعيد المحلي، التي تبدِّد شكوك روَّاد الأعمال، و/أو التي توفِّر الموارد اللازمة لمساعدة المزيد من الأشخاص في تخطِّي العوائق السلوكية والتشغيلية والاستراتيجية والمتعلقة بالموارد التي تُعرقِل تأسيس الشركات الجديدة وتطويرها.

ليس هناك بالطبعِ ما يضمن نجاح التدخلات في تشجيع النشاط الريادي الذي يقود إلى تحسين الأداء الاقتصادي. ويمكن اعتبار التدخلات سديدة في وقت إجرائها، ولكنها قد تولِّد بعضَ النتائج غير المرغوبة مستقبلًا. وربما تكون لهذه التدخلات أهداف أخرى — أبرزها زيادة عدد الأصوات المؤيِّدة وفرص إعادة انتخاب الحكومة أو الحزب التابع لها في منطقةٍ ما.

التدخل مرتبطٌ بالتكاليف. ولقد حذَّر ديفيد ستوري من أن سياسات التدخُّل الخاصة بإقامة المشروعات لا يمكن تبريرها، إلا في اقتصاد سوق يمكن في نطاقه إثباتُ أن تأثير التدخل الحكومي سيقود إلى إحداث تحسين ملموس وشامل على مستوى الرفاهية في الاقتصاد ككلٍّ. وإذا أسفر التدخل على صعيد هذه السياسات عن زيادة عدد الشركات الأصغر حجمًا، بل عن تراجع مكافئ، أو أكثر من مجرد كونه مكافئًا، في نسبة العمالة في الشركات الكبرى، فمن الصعب حينئذٍ تبريرُ هذه السياسات على أسس الرفاهية. ومن ثَم، يجب على الحكومات أن تدرس تكاليفَ التدخُّل ومزاياه بالنسبة إلى المستفيدين، وكذلك بالنسبة إلى المجتمع على نطاقٍ أوسع. بعبارة أخرى، يجب أن يشمل التدخُّل مبادراتٍ تشجِّع الإجراءات التي ما كانت لتُتخَذ في ظروفٍ مُغايِرة (أي الإسهام على مستوى مدخلات الإنتاج)، أو المساهمة في تحقيقِ نتائجَ أفضلَ ما كانت لتتحقق في ظروف مُغايِرة (أي الإسهام على مستوى المخرجات)، أو تغيير السلوك في الاتجاه المنشود (أي الإسهام على مستوى السلوك). وربما لا تنفرد الحكومة بإجراء التدخلات على مستوى السياسات. إذ تستطيع المؤسسات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية التي سنتناولها في الفصل السادس أن تسُدَّ بعض الثغرات. على سبيل المثال، يقدِّم برنامج المشروعات الذي تقدِّمه مؤسسة «ذا برنس تراست» الخيرية في المملكة المتحدة الدعمَ إلى الشباب العاطلين الذين تقع أعمارهم بين ١٨ و٣٠ عامًا. ويشجِّع هذا البرنامج توليد الأفكار التجارية. كما يوفِّر فرص التدريب على مهارات العمل، والمساعدة القانونية، ودعم تخطيط الأعمال لضمان أن الأفكار قابلة للتطبيق.

ثَمَّة خلافٌ حول ما إذا كان يتعيَّن على دعم السياسات أن يركِّز على تشجيع أعداد أكبر من الشركات الجديدة أم دعمِ عددٍ أقل من الشركات ذات الجودة الأفضل. قد يحقِّق دعم المشروعات، الذي يركِّز على زيادة عدد الشركات بغضِّ النظر عن احتياجات روَّاد الأعمال أو إمكاناتهم أو طموحاتهم للنمو، فوائدَ اقتصادية محدودة. وقد يكون من الأفضل استهداف دعم عدد أقل من الشركات «الرابحة»؛ أي الشركات التي تتمتَّع بقدرة كبيرة على تكوين الثروة. على سبيل المثال، قد تستهدف السياسات حَثَّ القطاعات، التي لديها قدرةٌ لتصير قائدة عالميًّا، على استغلال إمكاناتها لتحقيق النجاح. تدرك الحكومات المهتمة بالحدِّ من عدم المساواة على المستويَين الاجتماعي والإقليمي الحاجةَ إلى توجيه المساعدة لفئاتٍ معينة من روَّاد الأعمال، مثل المرأة والأشخاص المنتمين إلى الأقليات العِرقية.

يُقدَّم الدعم بالأساس إلى روَّاد الأعمال الأفراد أثناء عملية تأسيس الشركات الجديدة. وبعد تَخطِّي صعوبات تأسيس الشركة، وبعد أن تبدأ الشركة عملها، يتركَّز الدعم الخارجي للمشروعات بقدرٍ أكبر على احتياجات الشركات باختلاف أنواعها (أي الشركات العائلية، وشركات التكنولوجيا الفائقة، وشركات التصدير … إلخ). وربما يستلزم الأمر التركيزَ على رائد الأعمال نفسه، بدلًا من التركيز على الشركة وحدَها، عبْر جميع مراحل عملية ريادة الأعمال.

كما سنرى في الفصل الرابع، لا يتشابه روَّادُ الأعمال في مواصفات رأس المال البشري، ولا في الدوافع، والموارد، والسلوكيات، والخبرات الريادية السابقة، ومستويات الأداء. قد يتطلب روَّادُ الأعمال على اختلاف أنواعهم مساعدةً مصمَّمة خصوصًا لهم. يُسهِم إدراك هذا التنوُّع الريادي في تطوير السياسات المصمَّمة خصوصًا لِتُناسب روَّاد الأعمال على اختلاف أنواعهم، بدلًا من تقديم غطاء سياساتٍ شامل لجميع أنواع روَّاد الأعمال، بغضِّ النظر عن احتياجاتهم أو إمكاناتهم. وهذا يعني التحوُّل من الدعم الموجَّه نحو زيادة عدد الشركات الناشئة الجديدة وحسب، والتي تُخفِق أعداد كبيرة منها على نحوٍ مفاجئ بعد تأسيسها بوقت قصير، إلى الدعم المخصَّص حسب الحاجة، والذي يعكس سجل المتابعة القائم على تجارب سابقة لملكية المشروعات التجارية. يمكن تخصيص الدعم لروَّاد الأعمال الذين يستهدفون تحقيقَ النمو لضمان تحقيق استغلال كامل الإمكانات الاقتصادية والمجتمعية لجميع الشركات التي يمتلكونها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤