الفصل الخامس

البحث عن موطن نيمو

الأنف، على سبيل المثال، الذي لم يسبق أن تحدَّث عنه أيُّ فيلسوف بقدرٍ من التبجيل أو الامتنان، يُعَد، حتى الآن، أدقَّ الأدوات التي نمتلِكها. إنه أداةٌ قادرة على تسجيل أقلِّ التغييرات التي تتفلَّت حتى من عمليات الرصد الطيفية.

فريدريش نيتشه، «أفول الأصنام»، ١٨٨٩

يبدو أنها تُوصِّل لنا رسالةً مُعينة من واقع مادي.

جاستون باشلار، «تكوين العقل العلمي، مساهمة في التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية»، ١٩٣٨

بين أذرُع أحدِ حيوانات شقائق النعمان البحرية المُميتة، المغروزةِ في إحدى الشِّعاب المَرْجانية قُبالةَ ساحل جزيرة فيردي بالفلبين؛ يقبع زوجان من أسماكٍ صغيرة مُخططة باللونَين الأبيض والبرتقالي، تُعرف باسم أسماك المهرج الشائعة، أو أسماك شقائق النعمان، أو أمفيبيريون أوسيلاريس. عاش أحدُ هذين الزوجَين، ألا وهو الأنثى، حياةً مثيرة للاهتمام أكثرَ من معظم الفقاريات؛ لأنها لم تكن أنثى طَوال الوقت. فمثل كلِّ أنواع أسماك المهرج، تبدأ الأنثى حياتَها ذكرًا أصغرَ حجمًا يكون تابعًا للأنثى الوحيدة في جماعة الأسماك التي تسكن داخلَ حيوان شقائق النعمان هذا تحديدًا. تتمتَّع أسماك المهرج ببناءٍ اجتماعي قوي، وقد تنافَس هذا الذكرُ مع غيره من الذكور حتى أصبح المهيمنَ في النهاية ويتمتع بشرف التزاوُج مع الأنثى الوحيدة. ولكن عندما يمرُّ أحد أسماك الأنقليس ويلتهمُ الأنثى، ينضج المبيضان اللذان كانا خامِلَين في جسده عدةَ سنوات وتتوقَّف الخصيتان عن العمل، ويتحول ذكَر السمك المهرج إلى الأنثى المَلكة المستعدَّة للتزاوج مع الذكَر التالي في ترتيب السيادة الهرمي.

معروفٌ أن أسماك المهرج تعيش في الشِّعاب المَرجانية التي تمتدُّ من المحيط الهندي وحتى غرب المحيط الهادئ، وتتغذَّى على النباتات والطحالب والعوالق والحيوانات مثل الرخويات والقشريات الصغيرة. ولأن حجمها صغيرٌ وألوانها برَّاقة ولا يُوجَد في تكوينها عمودٌ فقري أو زعانفُ أو بروزات أو أشواك حادَّة، فإنها تكون فريسةً سهلة لأسماك الأنقليس والقرش والمفترسات الأخرى التي تجوب الشِّعابَ المَرجانية. عندما تتعرَّض للتهديد، فإن وسيلتها الأساسية في الدفاع هي الاندفاعُ بين مِجسَّات مُضيفها من حيواناتِ شقائق النعمان؛ إذ تنعم من خلال لسعته السامَّة بطبقةٍ سميكة من المخاط تُغطي قشورَها وتَحميها من عدوِّها. وفي المقابل، تستفيد حيواناتُ شقائق النعمان من نُزلائها الملوَّنين حيث إنها تُطارد المتسلِّلين غير المرحَّب بهم مثل أسماك الفراشة التي تتغذَّى عليها.

كان هذا هو الإطار الذي تعرَّفنا فيه على سمكة المهرج في فيلم الرسوم المتحركة «البحث عن نيمو».١ كان التحدِّي أمام مارلين، والد نيمو، هو العثورَ على ولده الذي اختُطف من موطنه في الحاجز المرجانيِّ العظيم وحُمل إلى سيدني. لكن التحدِّي الذي يُعكر صفو سمكة المهرج الحقيقية هو العثورُ على طريق العودة إلى الوطن.

كلُّ حيوان من حيوانات شقائق النعمان قد يستضيف جماعةً كاملة من أسماك المهرج تتضمَّن ذكرًا وأنثى يُهيمنان معًا على العديد من الذكور الصغار التي تتنافسُ بعضها مع بعض على دورِ زوج الملكة. إن قدرة ذكَر سمك المهرج غير العادية على تغييرِ جنسه عند موت السمكة الملكة وهي قدرةٌ تُسمى الخنوثة المُبكِّرة الذكورة، ربما تكون وسيلةً للتكيُّف مع الحياة في الشِّعاب المرجانية الخطيرة، حيث إنها تُتيح للجماعة أن تبقى على قيد الحياة بعد موت الأنثى الوحيدة القادرةِ على التكاثر من دون الاضطرار إلى تركِ حماية حيوانِ شقائق النعمان المُضيف. وعلى الرغم من احتماليةِ عيش جماعةٍ كاملة من أسماك المهرج عند أحد حيوانات شقائقِ النعمان لسنواتٍ عديدة، فإنه لا مَناص من أن ترحل ذريةُ تلك الأسماك عن موطنِها الآمن. وفي النهاية، ستُضطرُّ إلى البحث عن طريق العودة.

البدر يُعدُّ إشارةً على تفريخ معظم أسماك الشعاب المَرجانية.٢ وبمجرد أن يبدأ القمرُ في التضاؤل فوق المحيط، تَشغل الأنثى نفسها بوضع مجموعةٍ من البيض كي يُخصِّبها الذكرُ المهيمن. وهنا تنتهي مهمتُها، وتَئول مهمةُ حراسة البَيض وطرد أسماك الشعاب المرجانية المفترسة إلى الذكر. وبعد نحوِ أسبوع من الرعاية، يفقس البيضُ وتنطلق مئات اليرقات في تيَّارات المياه.

إن طول سمكة المهرج في طَور اليرقة لا يتجاوز بِضعةَ ملليمترات وتكاد تكون شفافةً بالكامل. ولمدةِ أسبوع تقريبًا، تنجرف في تيارات المحيط تتغذَّى على العوالق الحيوانية. وكما يعلم كلُّ مَن غاص قبالة الشعاب المرجانية، فإن الانجرافَ في تيارات المحيط سرعان ما سيُبعدك عن النقطة التي انطلقتَ منها، ومن ثم يُمكن أن تُحمل يرقات أسماك المهرج عدةَ كيلومترات بعيدًا عن الشعبة المرجانية التي وُلِدَت فيها. تؤكَل معظم هذه اليرقات، ولكن يبقى بعضُها على قيد الحياة، وتسبح تلك اليرقاتُ القليلة المحظوظة بعد أسبوع تقريبًا إلى قاع المحيط، وتتحوَّل في غضون يوم (مثل الضفدع المذكور في الفصل الثالث) إلى شكلها اليافع، وهو نسخةٌ مصغَّرة من السمكة البالغة. وبالافتقار إلى الحماية التي توفِّرها حيواناتُ شقائق النعمان السامة، تُصبح الأسماك الصغيرة ذاتُ الألوان البراقة فريسةً سهلة جدًّا للمفترسات التي تجوب أعماقَ المحيط. وإذا كانت تودُّ البقاء على قيد الحياة، فيجب أن تعثر سريعًا على إحدى الشعاب المرجانية كي تحتمي بها.

كان يُعتقد أن يرقات أسماك الشعاب المرجانية انجرفَت مع تيارات المحيط، وأنها اعتمدَت على الصدفة كي تُلقى على مقربةٍ من الشعبة المرجانية المناسبة. ولكن هذا التفسير في واقع الأمر ليس منطقيًّا تمامًا؛ إذ كان من المعروف أن معظم اليرقات تُجيد السباحة، ولا جَدْوى من السباحة إذا لم تكن تعلم أين تذهب. ثم في عام ٢٠٠٦، حصَلَت جابرييل جيرلاك الباحثةُ من المختبر البيولوجي البحري الشهير بوودز هول بولاية ماساتشوستس؛ على البصمات الجينيَّة للأسماك التي تعيش على الشعاب المرجانية التي تفصل بينها مسافةٌ تتراوح بين ٣ إلى ٢٣ كيلومترًا داخل المجمع الذي يُشكل الحاجزَ المرجاني العظيم في أستراليا. اكتشفَت أن الأسماك التي تسكن الشعبة المرجانية نفسها أقربُ إلى بعضِها من تلك التي تسكن شعابًا مَرجانية أخرى على مسافةٍ أبعد. وبما أن كلَّ يرقات أسماك الشعاب المرجانية تتفرَّق عبر مسافات كبيرة، فإن النتيجة التي توصَّلَت إليها لن تكون منطقيةً إلا إذا عادت الأسماكُ البالِغة إلى الشعبة المرجانية التي وُلدت فيها. وبطريقةٍ ما، يَجب وسْمُ كلِّ يرقةٍ من يرقات أسماك الشعاب المرجانية ببصمةٍ تُحدِّد المنطقة التي فقسَت فيها.

لكن كيف لأسماك المهرج اليرقية أو اليافعة التي انجرفَت بعيدًا جدًّا عن موطنها أن تعرف الاتجاه الذي ينبغي أن تسبح فيه؟ لا يتوفر في قاع المحيط أيُّ إشاراتٍ بصرية مفيدة. وتنعدمُ فيه النقاط المرجعية ومن ثم يبدو متشابهًا في جميع الاتجاهات؛ إذ يكون أشبهَ بصحراء رملية مُزيَّنة بالحصى المتناثر والصخور والمفصليَّات التي تتجوَّل من آنٍ لآخَر. كذلك لا يُحتمل أن تُرسل الشعبة المرجانية البعيدة أيَّ إشاراتٍ سمعية يُمكن أن تسافر عدةَ كيلومترات. التيارات في ذاتها مشكلةٌ أخرى؛ حيث إن اتجاه التدفق يختلف حسَب العمق، وقد يصعب جدًّا تحديدُ هل المسطح المائي جارٍ أم راكد. لا يُوجَد دليلٌ على أن أسماك المهرج تمتلك نوعَ البوصلة المغناطيسية الذي ساعد أنثى طائر أبي الحناء التي عرَضْنا لها على تحديد وِجهتها في هجرتها الشتوية. إذن، كيف تجد طريقها؟

تمتلك الأسماكُ حاسَّةَ شمٍّ قوية. من المعروف أن أسماك القرش التي يُخصَّص ثُلثا أدمغتها لحاسة الشمِّ تستطيع شمَّ نقطةِ دمٍ من مسافةٍ تَزيد على كيلومتر. هل يُحتمَل أن تتلمَّس أسماكُ الشعاب المرجانية طريقَ عودتها عبر حاسة الشم؟ لاختبار تلك النظرية؛ صمَّمَت جابرييل جيرلاك في عام ٢٠٠٧ «اختبارًا لاختيار أحدِ مَجْريَين عبر حاسَّة الشم»، وفيه وُضِعَت يرقاتُ أسماكِ شعابٍ مرجانية باتجاه التيار في مجرَيين مُمتلئَين بمياه البحر: أُخذ أحدُهما من مياه الشعبة المرجانية التي فقسَت عليها والآخَر من مياه شعبةٍ مرجانية بعيدة. ثم قامت بقياسِ أيِّ مَجرًى مائيٍّ ستُفضله اليرقات: هل ستُفضل موطنها أم المكان البعيد؟

دائمًا ما كانت اليرقات تتَّجه نحو المجرى المملوءِ بالمياه المأخوذة من الشعبة المرجانية التي فقسَت فيها. من الواضح أنه يمكنها التمييزُ بين مياه الشعاب المرجانية الغريبة والشعبة المرجانية التي ظهرَت فيها، ويُعتقد أنها تُميز بينهما من خلال رائحتهما المختلفة. استخدم مايكل إريفلاند — الباحث من جامعة جميس كوك في كوينزلاند بأستراليا — إعدادًا تجريبيًّا مشابهًا لإثباتِ أن أسماك المهرج يُمكن أن تشمَّ رائحةَ نوع حيواناتِ شقائق النعمان الذي يستضيفها وتُميزها عن الأنواع الأخرى التي لا تسكنها. والأدهى من ذلك، وجَدَت دانيلا ديكسون، من جامعة جيمس كوك أيضًا، أن أسماك المهرج يُمكنها التمييزُ بين المياه التي جُمِعَت من موطنها المفضَّل في الشعاب المرجانية التي تقع تحت الجزُر النباتية والموطن الأقلِّ تفضيلًا في مياه الشعاب المرجانية البعيدة عن الشاطئ. يبدو حقًّا أن نيمو وغيرَه من أسماك الشعاب المرجانية تشمُّ طريقها إلى موطنها.

إن قدرة الحيوانات على المِلاحة للعودة إلى مواطنها باستخدام حاسةِ الشم لديها معروفةٌ للجميع. ففي كل عام، تتجمَّع ملايينُ أسماك السلمون بطول سواحل المحيطات في جميع أنحاء العالم في أسرابٍ كبيرة عند مصبَّات الأنهار قبل أن تدخل في معركةٍ مع تدفُّق التيارات ومُنحدرات الأنهار والشلالات والضفاف الرملية كي تصلَ إلى مناطقِ تكاثُرِها. وكما هو الحال مع أسماك المهرج، كان يُعتقَد أن اختيار أسماك السلمون للنهر المناسب نابعٌ من محض الصدفة. لكن في عام ١٩٣٩، وسَمَ العالِم الكندي ويلبرت إيه كليمنز ٤٦٩٣٢٦ سمكةَ سلمون صغيرةً اصطادها في رافدٍ مُعيَّن من روافد نهر فريزر. بعد سنوات، وجد أن ١٠٩٥٨ منها قد عادت إلى الرافد نفسِه. لم يجد أيَّ سمكة من التي وسَمها في أي رافدٍ آخَر من النهر. ولم تضلَّ أيُّ سمكة طريقَها في رحلتها من المحيط إلى موطنها. وظلت الكيفيةُ التي تتمكَّن بها تلك الأسماكُ من الإبحار عبر المحيطات والمجاري المائية إلى مواطنها؛ لغزًا لسنواتٍ عديدة. اقترح البروفسير آرثر هاسلر من جامعة ويسكونسن-ماديسون أن أسماك السلمون الصغيرة تتبع أثرَ رائحةٍ ما، واختبر نظريتَه عام ١٩٥٤ عن طريق اصطياد عدة مئات من الأسماك العائدة عكس التيار عند مُلتقى مَجْريَين في نهر إسكاوا بالقُرب من سياتل، ثم نقلها باتجاه التيار بعيدًا عن المُلتقى. دائمًا ما كانت أسماك السلمون تعود إلى فرع المُلتقى الذي اصطِيدَت منه. لكن عندما سدَّ فتحات أنوفها بسداداتٍ قُطنية قبل أن يُطلقها، سبَحَت حتى وصلَت إلى مُلتقى المجريَين في النهر وظلَّت تتردَّد بين المجْريَين ولم تستطع أن تُحدد هل تسير جهة اليمين أم جهة اليسار.

ربما تكون حاسةُ الشم حتى أقوى على الأرض لأن حجم الغلاف الجويِّ الذي تُخفَّف فيه الموادُّ ذاتُ الروائح؛ أوسعُ من ذلك الخاصِّ بالمحيط. الغلاف الجوي الأرضي أيضًا عُرضةٌ إلى درجةِ اضطرابٍ أعلى بسبب الطقس، ومن ثم فدرجة تشتُّت جزيئات المواد ذاتِ الروائح في الهواء أسرعُ منها في المياه. ومع ذلك، فإن حاسة الشم ضروريةٌ لبقاء معظم الحيوانات البرِّية، ولا تُستخدَم فقط للعثور على طريق عودتها إلى مواطنها، بل أيضًا لاصطياد الفرائس والهروب من الحيوانات المفترسة والعثور على وليفٍ للتزاوج وإصدارِ إشاراتِ إنذار وتحديد نطاق السيطرة وإطلاق التغييرات الفسيولوجية والتواصل. هذا النطاق الكامل من استخدام حاسَّة الشمِّ يكون أقلَّ وضوحًا لدى البشر، الذين عادةً ما يستعينون بحواسِّ الشمِّ الأقوى لدى الحيوانات المرافقة لهم لاكتشاف تلك الإشارات والعلامات. بالطبع تشتهر الكلاب بقوة حاسة الشم، والكلاب البوليسية التي ظهارة الشم (التي سنتحدث عنها أكثرَ لاحقًا) لديها أكبرُ من تلك الخاصة بالإنسان بأربعين مرة، تشتهر عن جدارةٍ بقدرتها على تتبُّع أثرِ رائحة فردٍ بعينه. شاهدنا جميعًا الأفلامَ التي تعرض كلبًا متتبِّعًا للأثر لا يحتاج إلا إلى أن يشَمَّ لحظاتٍ قميصًا خلَّفَه المُدان الهارب حتى يستطيع تتبُّعَ هذا الشخص عبر الأراضي السبخة والغابات والجداول. وعلى الرغم من أن قصص الأفلام قد تكون خيالية، فإن تلك القدرة لدى الكلب البوليسي حقيقيةٌ تمامًا. فبإمكان الكلابِ أن تعرف المسار الذي كان يمشي فيه الشخصُ أو الحيوان وتتتبَّع أثرَ الرائحة التي مرَّ عليها عدة أيام.

يمكن تقديرُ حاسَّة الشم المذهلة لدى الحيوانات إذا فكَّرنا في الأشياء الفذَّة التي تقوم بها الكلابُ البوليسية أو أسماكُ المهرج على نحوٍ روتيني. لننظر أولًا إلى الكلاب البوليسية؛ إن حاسة الشم لديها مُصمَّمةٌ لتكتشفَ الكمياتِ الضئيلةَ من المواد الكيميائية العضوية مثل حمض البيوتيريك التي يُفرزها البشرُ والحيوانات، كما أن حساسية أنفِها غيرُ عادية. فإذا سُمح لجرامٍ واحد فقط من حمض البيوتيريك أن يتبخَّر في الغرفة، فسيكون الإنسانُ قادرًا حينها فقط على اكتشاف رائحته الزنخة، والحُلوة في الوقت نفسِه. لكن الكلب قادرٌ على أن يكتشفَ هذا الجرام نفسَه من تلك المادة الكيميائية إذا خُفِّفَت أبخِرتُه لتملأ الهواءَ فوق مدينةٍ بأكملها على ارتفاع ١٠٠ متر. فكر مرةً أخرى في أسماك المهرج أو السلمون التي تكتشف رائحةَ موطنها، الذي يبعد عنها عدةَ كيلومترات، والتي تُخفَّف وسط مياه المحيط.

لكن حاسة الشمِّ لدى الحيوانات ليست مميزةً لحساسيتها فحسب. إذ تتمتَّع أيضًا بقدرةٍ عالية التطور على التمييز بين الروائح. عادةً ما يستخدم ضباطُ الجمارك الكلابَ للكشف عن مجموعةٍ كبيرة من الموادِّ ذات الروائح، بدايةً من المخدِّرات مثل الماريجوانا والكوكايين وحتى المواد الكيميائية المستخدَمة في المتفجرات مثل مادة سي-٤، التي غالبًا ما تكون مندسَّةً داخل حقائبِ سفر وطبقاتِ تغليفٍ كثيفة. تستطيع الكلابُ أيضًا أن تُميز بين روائح الأفراد، حتى التوائم المتماثلة. السؤال هو: كيف تفعل ذلك؟ أليس حمض البيوتريك الذي يُفرزه أحدنا هو نفسه حمضَ البيوتريك الذي يُفرزه أيُّ شخص؟ بالطبع حمض البيوتريك واحد؛ لكن بالإضافة إلى هذا الحمض، كلٌّ منا يُفرز مزيجًا دقيقًا ومعقدًا من مئات الجزيئات العضوية التي تُوفر بصمةً تدلُّ على وجود كلِّ فردٍ منا على نحوٍ يُشبه بصمات الأصابع. بإمكان الكلاب أن «ترى» بصمةَ الأصابع الشمية الخاصة بنا بسهولةٍ مثلما بإمكاننا أن نرى ألوانَ قميص أحدنا. وبالمثل، لا بد أن أسماك المهرج والسلمون تعرف رائحةَ موطنها، تمامًا مثلما نعرف الشارع الذي نسكنُه أو لون الباب الأمامي لمنزلنا.

ولكن الكلاب أو أسماك السلمون أو أسماك المهرج ليست أقوى الحيوانات في حاسةِ الشم. تتفوَّق حساسيةُ حاسةِ الشمِّ لدى الدبِّ بسبعة أضعاف على تلك الخاصةِ بحاسة الشم لدى الكلب البوليسي، ويُمكنها أن تشمَّ رائحةَ الجيفة على مسافة ٢٠ كيلومترًا. العثَّة يُمكنها أن تكتشفَ رفيقها من مسافة ١٠ كيلومترات تقريبًا، وتشم الفئران على نحوٍ منفصل بكلٍّ من فتحتَي أنفها، وتشم الثعابين بألسنتها. كل هذه المهارات في الشمِّ ضروريةٌ من أجل الحيوانات التي يجب أن تبحث عن الطعام، و/أو تبحث عن الرفيق، و/أو تتحاشى الحيوانات المفترِسة؛ لقد طوَّرَت حساسيةً تجاه الإشارات المفاجئة التي تُنبئ عن اقترابِ تلك الموارد أو المخاطر، سواءٌ في الهواء أو في الماء. حاسة الشم بالغةُ الأهمية لبقاء الحيوان؛ حيث يبدو أن الاستجاباتِ السلوكيةَ تجاه الروائح مُتوارَثةٌ في عددٍ من الأنواع. أثبتَت التجارِبُ على فئرانِ جزيرة أوركني أنها تجنَّبَت الفِخاخ المطعَّمة بإفرازات القواقم المفترسة، على الرغم من أن القواقم كانت غائبةً عن الجزيرة منذ خمسة آلاف عام!

يُقال إن حاسةَ الشم لدى الإنسان أضعفُ بكثيرٍ من تلك الخاصة بأسلافنا من البشر. فعندما ارتفع الجزءُ العُلوي من الإنسان المنتصِب (الهومو إريكتوس) عن أرضية الغابة كي يَمشيَ مُستقيمًا وذلك منذ عدةِ ملايينَ من السنين، ارتفعَ أنفُه أيضًا عن الأرض وابتعد عن مصدره الغنيِّ بالروائح. ومنذ ذلك الحين، أصبحَت حاسَّتا البصر والسمع، اللتان كانتا أكثرَ كفاءةً نظرًا إلى موقعِهما العاليَين، مَصدرَيه الأساسيَّين للمعلومات. لذا أصبح الأنف البشري أقصرَ وفتحتا أنفه أضيقَ وتراكمَت الطفراتُ في ألفٍ أو نحو ذلك من جينات أسلاف الثدييَّات التي تُشفر المُستقبِلات الشَّمية (وهو ما سنتحدَّث عنه بمزيدٍ من التفصيل فيما بعد). وفقدنا، وهو شيء ربما يكون مؤسفًا، حاسةَ شمٍّ إضافيةً موجودةً في الحيوانات الأخرى والتي يُوفِّرها العضو الميكعي الأنفي — أو عضو جاكوبسون — الذي تتمثَّل وظيفتُه في اكتشاف الفيرومونات الجنسية.

لكن على الرغم من ذخيرتنا الوراثية التي تضاءلت إلى نحو ثلاثمائة فقط من جينات المستقبِلات الشمِّية وتشريحنا الذي تغيَّر، فقد احتفظنا بحاسةِ شم جيدة بنحوٍ مُدهش. قد لا نستطيع أن نشَمَّ رائحة أزواجنا أو طعام العشاء من مسافةِ عدة أميال، ولكن يُمكننا التمييزُ بين ما يقرب من عشَرةِ آلاف رائحةٍ مختلفة، ويمكن لحاسَّة الشم لدينا — كما قال نيتشه — أن تتفوَّق على «عمليات الرصد الطيفية» للموادِّ الكيميائية ذاتِ الرائحة النفَّاذة. كانت قدرتُنا على التمييز بين الروائح مصدرًا لإلهام بعضٍ من أعظم الأشعار («الوَرد وإن تغير اسمُه لا يتغيَّر عبيره») كما أنه لها دورٌ حيوي في إحساسنا بالسعادة والرضا.

كان لحاسة الشم لدَينا أيضًا دورٌ فعال على نحوٍ مدهش في تاريخ الإنسان. تُسجل النصوص القديمة تقديسًا للروائح الطيبة واشمئزازًا من الروائح الكريهة. وكثيرًا ما كانت أماكنُ العبادة والتأمُّل تعطَّر بالعطور والأطياب. في الكتاب المقدَّس العبري، يأمر اللهُ موسى أن يَبنيَ مكانًا للعبادة ويقول له: «خذ لك أعطارًا: ميعة وأظفارًا وقِنِّينة عطرة ولبانًا نقيًّا، تكون أجزاء متساوية، فتصنعها بَخورًا عطرًا صنعة العطار مُملحًا نقيًّا مقدسًا.»1 حتى إن المصريين القدماء كان لديهم إلهٌ للعطور وهو الإله نفرتوم، وقد كان إلهًا للشفاء أيضًا؛ إذ كان يُعالج باستخدام الروائح.

الارتباط بين الصحة والروائح الطيبة، وبالعكس، بين المرض والموت والروائح الكريهة، دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن اتجاه العلاقة السببية يسير من الرائحة إلى الصحة أو المرض وليس العكس. على سبيل المثال، من تعاليم الطبيب الروماني العظيم جالينوس أن الملاءات والمراتبَ والأغطية ذاتَ الرائحة الكريهة يمكن أن تُسرع تلوُّثَ سوائل الجسم. وقد اعتُبرت الروائحُ المثيرة للغثيان (الأجواء الموبوءة) القادمة من المجاري وأقبية رُفات الموتى والمستنقعات؛ مصادرَ للعديد من الأمراض المُميتة. وعلى النقيض من ذلك، كان يُعتقد أن الروائح الطيبة تطرد المرض؛ ولذا كان الأطباء في أوروبا في العصور الوسطى يُصرون قبل أن يدخلوا منزلَ مريضٍ بالطاعون على تهويته جيدًا وتعطيرِه بإشعال نيران مُعطَّرة برائحةِ البخور والمرِّ والورود والقَرنفُل والأعشاب العطرية الأخرى. في الحقيقة، كانت مهنة تصنيع العطور مخصصةً في الأساس لتطهير المنازل وليس من أجل التزيُّن الشخصي.

بالطبع لا تقتصر أهميةُ حاسَّة الشمِّ على اكتشاف الموادِّ ذاتِ الروائح التي تشمُّها فتحاتُ أنوفنا. فمن اللافت للنظر أن حاسة «التذوق» لدينا بوجهٍ عام يُعتبر أنها تُمثل نحو ٩٠ بالمائة من حاسة الشم. فعندما نتذوَّق الطعام، تكتشف مُستقبِلاتُ التذوق في اللسان والحنَكِ الموادَّ الكيميائيةَ المتحللة في اللُّعاب، ولكن تلك المستقبلات موجودةٌ في خمسة أشكال، ولا تتمكَّن من تحديدِ أكثرَ من خمسة أنواع أساسية من المذاق وهي الحلو والحامض والمالح والمر والأومامي (وهي كلمة يابانية تعني «المذاق اللاذع اللطيف»). لكن المواد ذات الروائح المتطايرة المتبخِّرة من الطعام والشراب تدخل إلى تجويف الأنف من مؤخرة الحلق لتُنشِّط مجموعاتٍ من مئات مستقبلات الشمِّ المختلفة. ومقارنة بحاسة التذوق، توفر لنا تلك المستقبلاتُ قدرةً أكبر بكثيرٍ على التمييز بين آلاف الروائح المختلفة والاستمتاع بالنكهات (التي تكون روائحَ في أغلبها) الغنيةِ للنبيذ الفاخر، أو الأطعمة ذات الروائح النفَّاذة أو التوابل أو الأعشاب أو القهوة. وعلى الرغم من أننا فقدْنا حاسةَ الشم التي يوفرها عضوُ الإحساس الميكعي الأنفي التي تتمتَّع بها معظمُ الثدييات، فإن ضخامة صنعة العطور دليلٌ على أن الروائح لا يزال لها دورٌ في المُغازَلة والعلاقة الجنسية لدى البشر. حتى إن فرويد رأى أن هناك علاقةً بين الكبت الجنسي وتَسامي حاسة الشمِّ لدى مُعظمنا، ولكنه زعم «أن هناك — حتى في أوروبا٣ — أقوامًا يُقدِّرون كثيرًا الرائحةَ القوية للأعضاء التناسلية.»2

إذن، كيف يكتشف البشر أو الكلاب أو الدِّبَبة أو الثعابين أو حشرات العثة أو أسماك القرش أو الفئران أو أسماك المهرج تلك الرسائل التي تُبعث «من واقعٍ مادي»؟ كيف نُميز بين هذا التنوُّع الكبير من المواد ذات الروائح؟

الحقيقة الفعلية للروائح

على خلاف حاستَي البصر والسمع لدَينا اللتَين تلتقطان المعلوماتِ بطريقةٍ غير مباشرة عبر الموجات الكهرومغناطيسية أو الموجات الصوتية التي تُحمل إلينا من الأجسام، فإن حاستَي التذوُّق والشم تتلقَّيان المعلومات مباشرةً بالاحتكاك بالجسم المُكتشَف (الجزيء) وتوصل رسائل «من واقع مادي». يبدو أن كِلتَيهما تعملان عبر مبادئَ متشابهةٍ إلى حدٍّ ما. فالجزيئات التي تكتشفها إما أنها مُتحللةٌ في اللعاب أو طافية في الهواء، وتلتقطها بعد ذلك المستقبلاتُ التي في اللسان (في حالة حاسَّة التذوق) أو التي في ظهارة الشم في سقف تجويف الأنف (في حالة حاسَّة الشم). تلك الحاجة إلى التطاير تعني أن معظم الموادِّ ذاتِ الروائح عبارةٌ عن جزيئات صغيرة نسبيًّا.

fig16
شكل ٥-١: تشريح حاسَّة الشم.
الأنف ليس له دورٌ مباشر في عملية الشم، غير تمرير الهواء تجاه الظهارة الشمية الموجودة في نهاية الأنف (انظر الشكل ٥-١). هذا النسيج صغيرٌ للغاية إذ لا يَزيد طوله عن ٣ سنتيمترات مربعة (أي: بحجم طابع البريد تقريبًا) في البشر، ولكنه مُبطَّن بغُددٍ مفرزة للمُخاط وملايين «الخلايا العصبية الشمية». هذه الخلايا هي نوعٌ من الخلايا العصبية يلعب الدور نفسَه في الأنف الذي تلعبه نبابيتُ الشبكية ومخاريطها في العين. يُشبه الجزء الأمامي للخلية العصبية الشمية قليلًا المكنسة؛ حيث إن له رأسًا متعددَ السنون، حيث يجري طيُّ غشاء الخلية في «أهداب» كثيرة تُشبه الشعر. هذه المكنسة ذاتُ فرشاة الأهداب تبرز من طبقة الخلية حيث يُمكنها التقاطُ جزيئات الروائح المارَّة. أما الجزء الخلفي لتلك الخلية، فيُشبه يدَ المكنسة إذ يُشكِّل محورَ الخلية العصبي، أو العصب الذي يمتدُّ عبر عظمةٍ صغيرة في نهاية تجويف الأنف حتى يدخل الدماغ، حيث يتَّصل بمنطقةٍ تُسمى «البصلة الشمية».
يُفضل أن تقرأ ما تبقَّى من هذا الفصل وأمامك برتقالة، ومن الأفضل أن تُقطعها إلى شرائحَ بحيث تتطاير منها الروائحُ المنعشة، وتدخل إلى أنفك لتصل إلى ظهارة الأنف. يُمكنك أيضًا أن تُلقيَ شريحةً منها في فمك، بحيث تُتيح لموادها ذاتِ الرائحة المتطايرة أن تجد طريقها عبر الجزء الخلفي من الأنف إلى ذلك النسيج نفسِه. ومثل كل الروائح الطبيعية، فرائحة البرتقال معقَّدةٌ للغاية، وتتركَّب من مئات المركَّبات المتطايرة، والتي من أقواها رائحة مركبٌ يُسمى الليمونين،٤ والذي سنتتبَّع مساره الآن بدايةً من مرحلة الجزيء وحتى تحوُّلِه إلى رائحةٍ لاذعة.

يتوفر الليمونين بكثرة — كما يوحي اسمُه — في الفواكه الحمضية مثل البرتقال والليمون وهو المسئول بصورةٍ كبيرة عن نكهتها ورائحتها اللاذعة. تنتمي تلك المادةُ الكيميائية إلى فئة مُركَّباتٍ تُعرف باسم «التربينات»، وهي المكونات المسئولة عن الرائحة في الزيوت الأساسية للعديد من النباتات والزهور، ما يُولِّد الروائحَ الغنية لأشجار الصَّنَوبر والزهور والعنب ونباتات الجُنْجُل. لذا، يمكنك تبديل البرتقالة بكأسٍ من الجِعَة أو النبيذ إذا أحببت. تُفرَز هذه المادةُ الكيميائية في العديد من أجزاء النبات الحمضي، بما في ذلك أوراقه، ولكنها تتوفَّر بكثرةٍ في قشرةِ ثمرته، التي يمكن عصرُها لاستخراج ليمونين نقي تقريبًا منها.

الليمونين سائلٌ متطاير يتبخَّر تدريجيًّا في درجة حرارة الغرفة، ومن ثم ستُطلق البرتقالة ملايينَ الجزيئات من الليمونين في هواء المكان. ستتطاير معظمُ تلك الجزيئات في الغرفة وستخرج من الباب والنوافذ، ولكن ستحمل تياراتِ الهواء القليل منها بالقرب من أنفك. في عملية الشهيق التالية، ستستنشق عدةَ لتراتٍ من هذا الهواء المحمَّل بجزيئات المواد ذاتِ الرائحة، التي ستمرُّ من فتحتَي الأنف إلى ظهارة الأنف المبطَّنة بما يُقارب عشَرةَ ملايينِ خليةٍ عصبية شمية.

عندما تمرُّ جزيئات الليمونين على فُرش الظهارة الشمِّية، يقع بعضها في شرَكِ الخلايا العصبية الشمية. إن التقاط جزيء ليمونين واحد كفيل بأن يُحفز فتح قناةٍ صغيرة في غشاء الخلية العصبية؛ مما يُتيح تدفُّق أيونات الكالسيوم الموجبة الشحنة إلى داخل الخلية. عند التقاطِ ما يقرب من خمسةٍ وثلاثين جُزيئًا من الليمونين، فإن التدفُّق اللاحِق للأيونات إلى الخلية يتحول إلى تيارٍ كهربي طفيف، بقوة نحو بيكوأمبير٥ واحد إجمالًا. يكون هذا المستوى من التيار بمنزلة مِفتاحٍ لإطلاق إشارة كهربية تُسمى جهد الفعل (سنتطرق إلى هذه الإشارات بمزيدٍ من التفصيل في الفصل الثامن) في يدِ الخلية الشبيهة بالفرشاة، أي: محورها العصبي. تتحرك تلك الإشارة حتى تصل إلى البصلة الشمِّية في الدماغ. بعد المزيد من المعالجة العصبية، تصل إليك تلك الرسالة التي «من واقعٍ مادي» في صورةِ رائحة البرتقال اللاذعة.

بالطبع الحدث الرئيسي في تلك العملية برمَّتها هو التقاطُ جزيء الرائحة من خلال الخلية العصبية الشمية. إذن، كيف يجري ذلك؟ بالقياس مع حاسة البصر وخلايا المخاريط والنبابيت الحساسة تجاه الضوء الخاصة بالعين (التي تعد أيضًا أنواعًا من الخلايا العصبية)، كان من المتوقع أن تعمل حاسة الشم بالمثل من خلال نوعٍ من المستقبلات الشمية الموجودة على السطح. ولكن في سبعينيَّات القرن العشرين، لم تكن طبيعة المستقبلات الشمية وهُويتها معروفة تمامًا.

وُلد ريتشارد أكسل في بروكلين بنيويورك عام ١٩٤٨، وهو أول طفل لأبوين مهاجرَين فرَّا من بولندا قبل الغزو النازي. كانت طفولته عادية تُشبه طفولة أبناء منطقته السكنية؛ إذ كان يؤدي مَهامَّ لوالده الخياطِ بين مباريات كرة العصا (وهو نوع من البيسبول الذي يُلعَب في الشارع حيث تكون أغطيةُ غرف التفتيش بمنزلة القواعد، وعصا المكنسة بمنزلة المَضرِب) أو كرة السلة في طرقات الحي وساحاته. كانت أول وظيفة يعمل بها، لما بلغ الحادية عشرة من عمره، ساعيًا يوصل الأسنانَ الاصطناعية إلى أطباء الأسنان، وفي عمر الثانية عشرة، عمل في فَرْش السجَّاد، وفي عمر الثالثة عشرة، عمل في تقديم اللحم البقري المحفوظ والبسطرمة في متجرٍ مَحلي. كان الطاهي في المتجر روسيًّا، وكان يترنَّم بأعمال شكسبير وهو يقطع رءوس الكرنب، ومن ثَم قدَّم لريتشارد الشابِّ أولَ معرفة حقيقية بعالم الثقافة، بعيدًا عن ساحات أماكن تقديم الوجبات الجاهزة، ولعب كرة السلة، وكان مصدرَ إلهام لحبٍّ حقيقي ودائمٍ للأدب العظيم. مواهب أكسل الفكرية اكتشفها مُدرس ثانوي في منطقته، وشجعه للتقدم من أجل الحصول على منحةٍ بجامعة كولومبيا بنيويورك لدراسة الأدب، وهو الأمر الذي نجح فيه.

لما كان أكسل في السنة الأولى من الجامعة، ألقى بنفسه في الدوَّامة الفكرية للحياة الجامعية في ستينيَّات القرن العشرين. ولكن كي يدعم أسلوبَ حياته الصاخب، عمل في غَسْل الأواني في مُختبر لعلم الوراثة الجزيئي. وهناك، أصبح مفتونًا بهذا العلم الناشئ، لكنه ظلَّ غيرَ متمكِّن من إجادة غسل الأواني؛ لذلك فُصل من هذه الوظيفة وأعيد تعيينه مساعدَ باحث. ورغم أنه كان ممزقًا ما بين عالَمَي الأدب والعلم، فقد قرَّر في النهاية أن يُسجِّل في دورةٍ عن علم الوراثة، خاصةٍ بطلبة الدراسات العليا، لكنه تحوَّل إلى دراسة الطب كي يهرب من التجنيد في فيتنام. كان واضحًا فشلُه في الطب كما فشل في غسل الأواني. إذ لم يسمع خفقاتِ أيِّ قلب ولم يرَ أيَّ شبَكيةِ عينٍ مطلقًا؛ وسقطَت نظارته مرةً في شقٍّ في بطنِ مريض، وقد خاط حتى إصبعَ جراح في مريضه. في النهاية، لم يُسمح له بالتخرُّج إلا بشرطٍ واحد؛ وهو أن يقطع وعدًا بعدم ممارسة الطب على المرضى الأحياء. عاد إلى جامعة كولومبيا لدراسة علم الأمراض، ولكن بعد عامٍ من الدراسة أصرَّ رئيسُ القسم على أنه لا ينبغي له أن يُمارس الطب على الأموات أيضًا.

لمَّا أدرك أكسل أن الطبَّ يفوق قدراته، عاد في النهاية إلى البحث في جامعة كولومبيا. بعد ذلك، أحرز تقدمًا سريعًا حتى إنه اخترع تقنيةً جديدة لغرس حمضٍ نووي غريب داخل خلايا الثدييات، التي أصبحَت عمادَ ثورة الهندسة الوراثية/التكنولوجيا الحيوية في أواخر القرن العشرين، وأكسبَت جامعةَ كولومبيا دخلًا بمئات الملايين من الدولارات من اتفاقيَّات الترخيص؛ مما يُعد عائدًا كبيرًا على الاستثمار في المنحة التي قدَّمَتها له.

بحلول ثمانينيَّات القرن العشرين، كان يتساءل أكسل هل علمُ الأحياء الجزيئي بإمكانه أن يحلَّ أكبرَ لغز، وهو المتمثل في «طريقة عمل الدماغ» أم لا. فتحوَّل من دراسة سلوك الجينات إلى دراسة الجينات للتعرف على السلوك، ووضع هدفًا طويلَ المدى وهو «معرفة الطريقة التي تُدرك بها مراكزُ الدماغ العليا، على سبيل المثال، رائحةَ زهرةِ الليلك أو القهوة أو حيوان الظَّرِبان …».3 كانت أولى خطواته في علم الأعصاب هي دراسةَ سلوك وضع البَيض لدى الحلزون البحري. وفي غضونِ هذا الوقت تقريبًا، انضمَّت باحثةٌ موهوبة جدًّا، تُدعى ليندا باك، إلى مُختبره. كانت باك اختصاصيةَ مناعةٍ بجامعة دالاس قبل أن تنبهر بالمجال الناشئ لعلم الأعصاب الجزيئي، وتنتقل إلى مختبر أكسل لتكون في طليعة الباحثين في هذا المجال. ابتكر كلٌّ من أكسل وباك سلسلةَ تجارِبَ بارعة لاستكشاف الأساس الجزيئي لحاسة الشم. كان السؤالُ الأول الذي ناقَشاه هو هُوية جزيئات المستقبلات التي يُفترض أنها تُوجَد على سطح الخلايا العصبية الشمِّية وتلتقط جزيئات المواد ذات الرائحة المختلفة وتُميز بينها. واستنباطًا مما كان معروفًا عن الخلايا الحسِّية الأخرى؛ فقد خمَّنا أن المستقبِلات عبارةٌ عن نوعٍ من البروتينات يبرز من غشاء الخلية حيث يُمكنها ربطُ جزيئات الرائحة المارة، ولكن حينذاك، لم يكن أحدٌ قد عزل أيًّا من مستقبلات الرائحة هذه؛ لذا لم يكن لدى أحدٍ أدنى فكرةٍ عن شكلها أو كيف تعمل. كلُّ ما كان على الفريق أن يُتابعه هو فكرةُ أن المستقبلات المراوغة قد تنتمي إلى عائلةٍ من البروتينات تُسمى «المستقبلات المقترنة بالبروتين جي»، والتي كان يُعرف عنها أنها تُشارك في اكتشافِ أنواع أخرى من الإشارات الكيميائية، مثل الهرمونات.
تمكَّنَت ليندا باك من تحديدِ عائلة جديدة تمامًا من الجينات، تُشفر هذا النوع من المستقبلات، والمُعبَّر٦ عنها فقط في الخلايا العصبية للمستقبِلات الشمية. واصلَت عملها حتى أثبتَت أن هذه الجينات بالفعل تُشفر المستقبلات المراوغة التي تلتقط الرائحة. وبمزيدٍ من التحليل، تبيَّن أن جينوم الفأر يُشفر ما يقرب من ألفِ مستقبل من تلك المستقبلات المكتشَفة حديثًا، والتي يختلف كلٌّ منها اختلافًا طفيفًا عن الآخر، ويُفترض أن كلًّا منها مُعَدٌّ لاكتشاف مادةٍ واحدة ذاتِ رائحة. يمتلك البشر عددًا مماثلًا من جينات المستقبلات الشمية، ولكن وُجد أن ثُلثَيها تُعَد ما يُسمى ﺑ «الجينات الزائفة»، وهي نوعٌ من الأحافير الجينية التي راكمَت العديد من الطفرات، لدرجة أنها لم تعُد تعمل.

ولكن سواءٌ كان هناك ثلاثمائة أو ألف جينٍ مُستقبل، فهذا بعيدٌ جدًّا عن رقم عشَرة آلاف رائحة مختلفة التي يمكن للبشر التعرفُ عليها. من الواضح أنه لم يكن هناك تخطيطٌ فردي بين أنواعِ مستقبلات الرائحة وأنواع الروائح؛ لذا فإن كيفية تحويل الإشارات التي تتلقَّاها المستقبلات الشمِّية إلى روائحَ ظلَّت لغزًا. كما أنه لم يكن واضحًا كيف جرى تقاسمُ مهمة اكتشاف كلِّ أنواع جزيئات الرائحة المتنوعة بين الخلايا المختلفة. يحتوي جينوم كلِّ خلية على المجموعة الكاملة من جينات المستقبلات الشمية؛ ومن ثَم ربما يمكنه اكتشافُ كل أنواع الروائح. أم هل هناك نوعٌ من تقسيم العمل؟ للإجابة على هذا السؤال، اخترع فريقُ جامعة كولومبيا تجرِبةً مبتكَرة أكثر. عدَّلوا الفئران وراثيًّا بحيث أصبحَت جميعُ الخلايا العصبية الشمية التي تُعبِّر عن مستقبِلِ رائحةٍ معيَّنٍ مصبوغةً باللون الأزرق. إذا كانت كلُّ الخلايا مصبوغةً بالأزرق، فهذا سيُشير إلى أنها جميعًا تُعبر عن هذا المستقبِل. اتضحَت الإجابة عندما فحص الفريقُ الخلايا الشميةَ لدى الفئران المعدَّلة وراثيًّا: نحو واحدة من كلِّ ألف خلية كانت مصبوغةً باللون الأزرق. بدا أن كل خلية عصبية شمية لم تكن خليةً عامة، بل كانت خليةً متخصِّصة.

لم يمرَّ وقتٌ طويل حتى انتقلَت ليندا باك من جامعة كولومبيا كي تُجهز مختبَرها في جامعة هارفارد، واستمرَّت المجموعتان في العمل بالتوازي إحداهما مع الأخرى؛ لدراسة العديد مما تبقَّى من أسرار عملية الشم. وسرعان ما ابتكَرتا تقنياتٍ لعزل الخلايا العصبية الشمية الفردية والاستكشاف المباشر لحساسيتها تجاه موادَّ معينةٍ ذاتِ روائح؛ مثل ليمونين البرتقال. واكتشَفتا أن كلَّ مادة كيميائية ذات رائحة لم تُنشط خليةً عصبية واحدة، بل عدةَ خلايا عصبية، واكتشفتا أيضًا أن هذه الخلايا العصبية الفردية تستجيب لعدة موادَّ ذات رائحة مختلفة. بدا أن هذه النتائج تحلُّ اللغز الخاص بكيف لثلاثِمائة مستقبِلٍ شميٍّ فقط أن تتعرف على عشَرة آلاف رائحة مختلفة. ومثلما يمكن كتابةُ عددٍ لا حصر له من الكلمات باستخدام الحروف المتاحة في أي لغة، فإنه يمكن تنشيطُ بعض المستقبلات الشمية التي يصل عددُها إلى بِضع مئاتٍ بعدد لا حصر له من التوافيق المختلفة؛ مما يجعلها تُميز بين مجموعةٍ كبيرة من الروائح.

حصل ريتشارد أكسل وليندا باك على جائزة نوبل عام ٢٠٠٤ على اكتشافاتهما المبتكَرة عن «مستقبلات المواد ذات الرائحة وتنظيم جهاز الشم».

محاولات حلِّ اللغز الرئيسي لعملية الشَّم

أصبح معروفًا الآن أن أولَ حدثٍ في اكتشاف رائحةٍ ما، مثل رائحة البرتقالة أو الشعبة المرجانية أو الوليف أو الحيوان المفترِس أو الفريسة، هو الربط بين جُزيءٍ واحد من المادة ذات الرائحة ومستقبِل شمِّي واحد على سطح نهاية الفرشاة لإحدى الخلايا العصبية الشمية التي تُشبه المكنسة. لكن كيف يتعرف كلُّ مستقبِلٍ على مجموعةِ جزيئات الموادِّ ذات الرائحة المنوطة به، مثل الليمونين، ولا يلتقط أيَّ جزيئات أخرى من هذا الكم الهائل من المواد الكيميائية ذات الروائح المحتملة الأخرى التي قد تمرُّ بالظهارة الشمية ويربطها بأحد المستقبِلات؟

هذا هو اللغز المركزي في عملية الشم.

يعتمد التفسير التقليدي على ما يُعرف بآليَّة القُفل والمفتاح. يُعتقد أن جزيئات الروائح تتناسبُ مع مُستقبلات الشمِّ وكأنها مِفتاحٌ في فتحة قُفل. على سبيل المثال، يُعتقد أن جزيء الليمونين يرتبط بأريحيةٍ بمستقبِلٍ شمي متخصص خاصٍّ باستقباله. وبطريقةٍ ما، وبعملية لا تزال غيرَ واضحة، كان يُعتقد أن حدث الربط هذا يفتح قُفل المستقبل، ويُنشط إطلاقَ بروتين يُسمى بروتين جي، وهو عادةً ما يعْلَق بالسطح الداخلي للمستقبِل وكأنه قذيفةٌ مغروزة في جسم سفينة. وبمجرد أن يُطلَق البروتينُ إلى الخلية، فإنه يشقُّ طريقه إلى غشاء الخلية حيث يفتح قناةً تسمح للجزيئات المشحونة كهربيًّا أن تتدفَّق إلى داخل الخلية. هذا التيار الكهربي المُتدفِّق من الغشاء يُحفز تنشيط الخلية العصبية (وهو أمرٌ سنعرض المزيدَ من التفاصيل عنه في الفصل التاسع) ويرسل إشارةً عصبية تتحرك من الظهارة الشمية إلى الدماغ.

تقترح آليةُ القفل والمفتاح أن جزيئات المستقبِلات تتشابه في الشكل مع جزيئات الروائح التي ترتبط بها. لنضرب مثالًا بسيطًا بأحاجي تَطابق الأشكال التي يستمتع بها الأطفالُ الصغار، التي ينبغي فيها أن يتطابق كلُّ مكعبٍ يتخذ شكلًا معيَّنًا (ولنقُلْ دائرةً أو مربعًا أو مثلثًا) داخل لوح خشبي مع الشكل المكمِّل المقابِل له. يمكن أن ننظر إلى كل جزيء رائحة باعتباره أحدَ هذه المُكعبات — بحيث يمكن أن تتَّخِذ إحدى المواد التي لها رائحةُ البرتقال مثل الليمونين شكلَ الدائرة، والأخرى التي لها رائحة التفاح شكلَ المربع، والثالثة التي لها رائحة الموز شكلَ المثلث. عندئذٍ، يُمكننا أن نتخيَّل كلَّ مستقبِلٍ شمي وكأنه يمتلك «جيبًا لربط المادة ذات الرائحة» مُقولَبًا بالشكل المثاليِّ بحيث يتناسب داخلَه جزيءُ تلك المادةِ تناسبًا متقنًا.

بالطبع نادرًا ما تكون الجزيئات الحقيقية بتلك الأشكال المتقَنة، ومن ثم يُفترض أن بروتينات المستقبلات الحقيقية لها جيوبُ ربطٍ أكثرُ تعقيدًا بكثيرٍ، تتناسَبُ مع الأشكال الأعقد لجزيئات الموادِّ ذات الروائح الحقيقية. ربما يتَّخِذ معظمُها أشكالًا بالغةَ التعقيد تُشبه المواقع النشطة للإنزيمات التي — كما تتذكَّر من الفصل الثالث — تربط بين جزيئات الركائز. في الحقيقة، يُعتقَد أن جزيئات الموادِّ ذات الروائح تتفاعل مع جيوب الربط بطريقةٍ تُشبهُ الطريقةَ التي تُثبَّت بها ركائز الإنزيمات في المواقع النشطة للإنزيمات (ارجع للشكل ٣-٤)، أو حتى بالطريقة التي تتفاعل بها العقاقيرُ مع الإنزيمات. في الحقيقة، يُقال إن فهم الدور الذي تلعبه ميكانيكا الكم في التفاعُل بين الموادِّ ذات الروائح ومستقبلاتها يمكن أن يؤدِّيَ في النهاية إلى ابتكارِ عقاقيرَ ذاتِ فاعليةٍ أكبر.

وعلى أي حال، فالتوقُّع الواضح الخاص بنظرية الشكل هو أنه لا بد من وجود نوعٍ من التناسُب بين الشكل الجزيئي للمادة ذات الرائحة ورائحتها؛ بمعنى أن جزيئات الموادِّ المتماثِلة الشكل ينبغي أن تتشابهَ في رائحتها، وأن الجزيئات المختلفةَ الشكلِ للغاية من المُرجَّح أن تكون لها رائحةٌ مختلفة تمامًا.

من الروائح المُخيفة في تاريخ البشرية رائحةُ الخردل أو القش المتعفِّن في الخنادق في الحرب العالمية الأولى. كانت الغازاتُ الخفيَّة تتسرَّب عبر الأراضي المحرَّمة، وأقل نفحة من الخردل (غاز الخردل) أو القش المتعفِّن (غاز الفوسجين) قد تكفي كي تُعطي الجنديَّ بضع ثوانٍ ثمينة يرتدي فيها قناعَه قبل أن تمتلئَ رِئتاه بالمادة المُميتة. نجا الكيميائيُّ مالكولم دايسون من هجمة غاز خردل، وربما جعلتْه تلك الهجمة يُدرك أهمية امتلاك أنفٍ حساسٍ في البقاء على قيد الحياة؛ مما قاده إلى التفكُّر في طبيعة الروائح، حيث إنه استمرَّ بعد الحرب في تصنيع العديد من المُركَّبات الصناعية واستخدام أنفِه لشمِّ المواد الناتجة عن تفاعُلاته التخليقية. ولكن شعر دايسون بالحيرة إذ كان واضحًا أنه لا تُوجَد علاقةٌ واضحة بين شكل الجزيء ورائحته. على سبيل المثال، لا تختلف رائحةُ العديد من الجزيئات التي لها أشكالٌ مختلفة مثل المُركبات التي في الشكل ٥-٢ من «أ» إلى «د»، والتي لها جميعًا رائحةُ المسك.٧ وعلى النقيض من ذلك، المركَّبات التي لها بِنْياتٌ متماثلة جدًّا (مثل المركَّب «ﻫ» والمركب «و» في الشكل) غالبًا ما تكون لها روائحُ مختلفة تمامًا؛ فالمركب «و» له رائحةٌ تُشبه رائحة البول في حين أن المركَّب «ﻫ» ليست له رائحةٌ على الإطلاق.4
fig17
شكل ٥-٢: الجزيئات من «أ» إلى «د» لها أشكالٌ مختلفة جدًّا ولكن رائحتها متشابهةٌ إلى حدٍّ كبير. أما الجزيئان «ﻫ» و«و» فلهما شكلان مُتطابقان تقريبًا ولكن لهما رائحة مختلفة تمامًا.
هذا البُعد عن العلاقة المباشرة بين شكل الجزيء ورائحته كان — ولا يزال — مشكلةً كبرى لجهات تصنيع العطور والنكهات والروائح. فبدلًا من أن يتمكن صانعو العطور من تصميم العطر بالطريقةِ التي قد يُصمِّمون بها شكل زجاجة العطر، فإنهم يُضطرُّون إلى الاعتماد على التخليق الكيميائي عن طريق اختبارات الشمِّ بالقوة الغاشمة، والتجرِبة والخطأ التي يُجريها علماءُ الكيمياء من أمثال دايسون. لكن لاحظ دايسون أن مجموعات الروائح (أي: المواد الكيميائية التي لها الرائحة نفسُها) غالبًا ما تتكون من مركبات تتضمن المجموعاتِ الكيميائيةَ نفسَها؛ على سبيل المثال: ذرَّة الأكسجين المرتبطة بذرةِ كربون عن طريق رابطة مزدوجة في المواد الكيميائية التي لها رائحةُ المسك في الشكل ٥-٢. هذه المجموعات الكيميائية هي الأجزاء التي يتكوَّن منها أيُّ جزيءٍ كبير وتُحدد العديد من خصائصه، التي من الواضح أنها تتضمَّن رائحته، كما لاحظ دايسون. هناك مجموعةٌ أخرى من المركَّبات ذات الرائحة المتماثلة وهي التي تتكوَّن من عددٍ كبير من المواد الكيميائية ذات الأشكال الجزيئية المتنوِّعة والتي تحتوي على مجموعة «كبريتيد هيدروجين» ، وفيها ترتبط ذرة هيدروجين مع ذرةِ كبريت، والتي لها رائحةٌ تُشبه رائحة البيض المتعفِّن. اقترح دايسون أن ما يكتشفه الأنفُ ليس شكلَ الجزيء بالكامل وإنما هي سِمةٌ فيزيائية مختلفة، وهي التردُّد الذي تهتزُّ به الروابط الجزيئية بين ذراته.

في عشرينيَّات القرن العشرين وقتَ أنْ طرح دايسون هذا الزعم لأول مرة، لم يكن لدى أحدٍ أيُّ فكرة عن طريقة اكتشاف الاهتزازات الجزيئية. لكن في رحلةٍ إلى أوروبا في أوائل عشرينيَّات القرن العشرين، انبهر عالمُ الفيزياء الهنديُّ تشاندراشيخارا فينكاتا رامان ﺑ «البريق الأزرق الرائع للبحر الأبيض المتوسط»، وتكهَّن بأن «الظاهرة في أصلها تعود إلى تشتُّت الضوء بفعل جزيئات المياه». غالبًا، عندما يرتدُّ الضوء عن ذرة أو جزيء، فعادةً ما يرتدُّ عنها «بطريقةٍ مَرنة»؛ أي: من دون أن يفقد أيَّ طاقة، مثلما ترتدُّ الكرة المطاطية عندما ترتطم بسطح صُلب. يقترح رامان أنه في حالاتٍ نادرة يمكن أن يتشتَّت الضوء «بطريقة غير مرنة»، وكأنه كرة صلبة ارتطمَت بمضربٍ خشبي ونقلَت قدرًا من طاقتها إلى المضرب وإلى ضارب الكرة (تخيَّل الأرنب باجز باني وهو يضرب كرة بيسبول سريعةً بقوة، لدرجة أن يهتزَّ هو والمضرب). في التشتت غير المرن، تفقد الفوتونات طاقتَها بالطريقة نفسِها لصالح الروابط الجزيئية التي ترتطم بها مما يُسبب اهتزازَها، وعندئذٍ يظهر الضوء المُشتَّت بطاقةٍ أقل. يؤدي انخفاضُ طاقة الضوء إلى انخفاض تردُّده ويُحول لونه تجاه الطرف الأزرق من الطيف، ما جعل رامان يستمتع ﺑ «البريق الأزرق الرائع».

يستخدم علماء الكيمياء هذا المبدأ لفحص البِنْية الجزيئية. على نحوٍ أساسي، يُسلَّط الضوء على عينةٍ كيميائية والاختلاف في اللون أو التردُّد (ومن ثم الطاقة) بين الضوء الداخل والضوء الخارج يُسجَّل باعتباره «طيف رامان» لمادة كيميائية معيَّنة، مما يوفر نوعًا من البصمة لروابطها الكيميائية. يحمل الأسلوب اسمَ مخترعه — تحليل رامان الطيفي — وقد حاز جائزة نوبل لاختراعه إيَّاه. وعندما سمع دايسون عن عمل رامان، رأى أن هذا العمل يمكن أن يُوفِّر آليةً يمكن أن يستخدمها الأنفُ لاختبار الاهتزازات الجزيئية لجزيئات الرائحة. اقترح أن الأنف «يمكن أن يكون أداةَ تحليل طيفي» قادرةً على اكتشاف التردُّدات التي تهتزُّ عندها الروابطُ الكيميائية المختلفة. حتى إنه حدَّد التردُّدات الشائعة في أطياف رامان للمركبات التي ترتبط بروائحها. على سبيل المثال، كل «مركَّبات المرْكَبْتان» (وهي مركبات تحتوي على رابطةٍ طرَفية من الكبريت والهيدروجين) تتشاركُ ذروةً محددة من أطياف رامان يتراوح تردُّدها بين ٢٥٦٧ و٢٥٨٠. وكلها رائحتها كرائحة البيض المتعفِّن.

على الأقل فسَّرَت نظريةُ دايسون الطبيعةَ التحليلية للروائح، ولكن ليس لدى أحدٍ أدنى فكرة عن كيف يمكن للأنف أن يستخدِم شيئًا مثلَ تحليل رامان الطيفي كي يشمَّ الروائح. ففي النهاية، لن يَلزم تجميعُ الضوء المشتَّت وتحليلُه باستخدام أداة تحليل طيفي بيولوجي فحسب، بل سيلزم أن يكون هناك مصدرُ ضوءٍ في المقام الأول.

fig18
شكل ٥-٣: الليمونين (أ) والدايبنتين (ب) جزيئان متطابقان، ولكن لهما رائحةٌ مختلفة. لا يختلف الجزيئان إلا في اتجاه المجموعة الكيميائية السُّفلى التي يُمثلها السهمُ الذي يشير إلى أسفل الصفحة (الرابطة التي تُشير إلى الأسفل) في الليمونين، والسهم الذي يُشير إلى أعلى الصفحة (الرابطة التي تُشير إلى الأعلى) في الدايبنتين. بالطبع يمكن قلبُ جزيء الدايبنتين بحيث تُشير مجموعته الكيميائية إلى أسفل الصفحة مثل الليمونين، ولكن حينَها ستلتفُّ رابطتُه المزدوجة إلى جهة اليسار بدلًا من جهة اليمين، ومن ثم ستظلُّ رائحته مختلفة. الجزيئان يُشبهان فردتي القفاز اليمنى واليسرى.
هناك عيبٌ آخر أخطرُ في نظرية دايسون، وقد ظهر عندما اكتُشف أن الأنف يسهل عليه التمييزُ بين الجزيئات التي لها البِنْية الكيميائية نفسُها وأطياف رامان متطابقة، ولكنها صورٌ معكوسٌ بعضها من بعض. على سبيل المثال، يمكن وصف جُزيء الليمونين المسئول بدرجةٍ كبيرة عن رائحة البرتقال بأنه جزيءٌ يميني. لكن يُوجد جزيء يكاد يكون مطابقًا يُسمى الدايبنتين وهو الجزيء «اليساري» الذي يُعدُّ صورةً معكوسة منه (انظر الشكل ٥-٣؛ حيث إن المنطقة المدبَّبة المظللة في أسفل كلِّ جزء تُمثل رابطةَ ذرة كربون بذرة كربونٍ تُشير إما إلى الأسفل (أ) أو الأعلى (ب) من الصفحة). الدايبنتين له الروابطُ الجزيئية نفسُها مثل الليمونين، ومن ثم يُعطي طيفَ رامان متطابقًا، ولكن رائحته مختلفة تمامًا؛ فرائحته تُشبه التربنتين. الجزيئات التي تأتي بالشكلَين اليميني واليساري توصف بأنها جزيئاتٌ «عديمة التناظر المرآتي»،٨ وغالبًا ما تكون لها روائحُ مختلفة تمامًا. مركَّب آخرُ عديم التناظر المرآتي هو الكارفون، ويُوجَد في بذورٍ مثل الشبَت والكراوية، وهو مسئولٌ عن رائحة الكراوية، ولكن الجزيء الذي يُعد صورةً معكوسة منه رائحته تُشبه النَّعناع البستاني. لن يتمكَّن الاختصاصي في تحليل رامان الطيفي من التمييز بين هذه المركَّبات باستخدام أداة تحليل طيفي، لكن مجرد الشمِّ الخفيف يستطيع التمييزَ بينها بسهولة. من الواضح أن الشمَّ لا يمكن أن يعتمد على اكتشاف الاهتزازات الجزيئية، أو على الأقل ليس عليها وحدها.
أدَّت هذه العيوبُ التي تبدو قاتلةً في نظرية الاهتزازات الخاصة بالشم إلى الإطاحة بها من جانب نظرية القُفل والمفتاح؛ وذلك على مدار مدةٍ طويلة من النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلَها قلةٌ من المتحمِّسين للاهتزاز الجزيئي، مثل الكيميائي الكَندي روبرت إتش رايت، الذي قدَّم حلًّا محتملًا لمشكلة الجزيئات اليمينية واليسارية التي تمتلك الروابط نفسَها ولكن لها روائح مختلفة. فقد أشار إلى أن المستقبلات الشمِّية نفسها من المُحتمَل أن تكون عديمة التناظر المرآتي (أي: تأتي بالشكلَين اليساري أو اليميني)، ومن ثَم تثبت جزيء المادة ذاتِ الرائحة بطريقةٍ يمينية أو يسارية، وعندئذٍ تقدم روابطه إلى جهاز كشف الاهتزازات بطريقةٍ مختلفة. لنضرب مثالًا من عالم الموسيقى؛ كان الموسيقيُّ الأعسر جيمي هيندريكس (الذي يُمثل المُستقبِل الشَّمي) عادةً ما يُمسك الجيتار (جزيء المادة ذات الرائحة عديم التناظر المرآتي) ورقبته تُشير جهة اليمين، في حين كان إريك كلابتون أيمنَ وكان يُمسك الجيتار (الذي يُمثل الجزيءَ الذي يُعد الصورةَ المعكوسة) ورقبتُه تشير إلى جهة اليسار.٩ عازفا الجيتار كلاهما يستطيعان عزفَ المقطوعة القصيرة المتكررةِ نفسِها (بحيث تتولَّد الاهتزازاتُ نفسُها) على الجيتارين اللذين يُعد كلٌّ منهما صورةً معكوسة من الآخَر، ولكن الصوت الذي يلتقطه الميكروفون المثبَّت (الذي يُمثل جزء جهاز كشف الاهتزازات في المستقبِل الشمِّي)، لنقُل، جهةَ اليسار من كل عازف؛ سيكون مختلفًا تمامًا لأن الأوتار (الروابط الجزيئية) في مواقعَ مختلفةٍ بالنسبة إلى الميكروفون. اقترح رايت أن المستقبِلات الشمية عديمةَ التناظر المرآتي تكتشف تردُّدات الاهتزازات للروابط الكيميائية، فقط إذا كانت الروابط في الموضع الصحيح؛ إذ زعم أن المستقبِلات إما أن تكون يمينيةً أو يسارية، مثل عازفَي الجيتار تمامًا. لكن ما زلنا لا نعرف الطريقة التي يعمل بها جهاز كشف الاهتزازات البيولوجي في الحقيقة؛ ومِن ثَمَّ بقِيَت نظريةُ الاهتزازات على الهامش في علم الشم.
لكن نظرية الشكل أيضًا بها مشاكل. فكما قُلنا من قبل، هي لا تستطيع تفسيرَ جزيئات الموادِّ ذات الرائحة التي لها أشكالٌ مختلفة للغاية ولكن لها الرائحة نفسها، والعكس صحيح. ولحلِّ هذه المشاكل؛ توصَّل جوردون شيبرد وكينساكو موري إلى ما يُطلَق عليه في بعض الأحيان نظرية «الشكل الضعيف» أو الأودوتوب عام ١٩٩٤.5 الفرق الأساسي بين هذه النظرية ونظرية الشكل الكلاسيكية يَكمُن في أن شيبرد وموري اقترَحا أن المُستقبِلات الشميَّة لا تحتاج سوى إلى التعرف على شكل المجموعات الكيميائية المكونة بدلًا من شكل الجزيء بالكامل. على سبيل المثال، وكما أشرنا من قبل، كل المُركبات التي لها رائحةُ المسك في الشكل ٥-٢ تحتوي على ذرةِ أكسجين ترتبط بذرةِ كربون برابطةٍ مزدوجة. تقول نظرية الشكل الضعيف إن شكل البِنيات الكيميائية الفرعية هذه هو الذي تتعرَّف عليه المستقبلات الشمية وليس شكل الجزيء بالكامل. هذه النظرية توضِّح على نحوٍ أفضل الطبيعة التحليليَّة للرائحة، ولكن تتخلَّلها العديدُ من المشكلات نفسها التي تتخلَّل نظريةَ الاهتزاز عند التعامُل مع الجزيئات التي تحتوي على المجموعات الكيميائية نفسها، ولكن لها ترتيب مختلف. ومن ثم لا تستطيع نظريةُ الشكل الضعيف ولا نظريةُ الاهتزاز أن تشرح كيف لأزواجٍ من المواد الكيميائية أن تكون لها روائحُ مختلفة على الرغم من أنها تمتلك المجموعاتِ الكيميائيةَ نفسَها، ولكن بتنظيمٍ مختلف على السقَّالة الجزيئية نفسِها. على سبيل المثال، يتكون كلٌّ من الفانيلين (الذي يُعد المُكوِّنَ الأساسي في الفانيلا الطبيعية) والأيزوفانيلين من حلقةٍ ذات ستِّ ذرات كربون، وترتبط بها ثلاثُ مجموعات كيميائية متطابقة في مواضعَ مختلفة (انظر الشكل ٥-٤). ستتنبَّأ نظرية الشكل الضعيف بأن المجموعات الكيميائية المتطابقة ينبغي أن تكون لها الرائحةُ نفسها. ولكن الفانيلين له رائحةُ الفانيلا، أما الأيزوفانيلين فله رائحةٌ فينولية كريهة (وهي رائحة دوائية حُلوة).
fig19
شكل ٥-٤: الجزيئات المُكونة من الأجزاء الكيميائية الأساسية نفسها — مثل الفانيلين والأيزوفانيلين المذكورتَين هنا — يمكن أن تكون لها، مع ذلك، روائحُ مختلفة للغاية.
للتعامُل مع هذه المشكلات؛ اقترَح أصحابُ نظرية الشكل بوجهٍ عام المزجَ بين نظرية الشكل الضعيف وآليةٍ ما للتعرُّف على الشكل عديم التناظر المرآتي الإجمالي. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال ذلك المزجُ غيرَ قادر على تفسير الحالة الشائعة بالقدْر نفسِه الخاصة بالجزيئات التي تُعد صورةً معكوسة بعضها من بعض، التي لها في واقع الأمر الرائحةُ نفسُها.١٠ يشير هذا المزجُ إلى التعرُّف على تلك الجزيئات بالمستقبِل نفسه، وهو ما يُعَدُّ المقابلَ الجزيئي لامتلاكِ يدٍ يمكن أن تدخل في الفردتَين اليُسرى واليمنى لأحد القفازات. لذا، لا يبدو أن الأمر منطقيٌّ تمامًا.

الشم بأنفٍ كمي

إن عملية التعرُّف على الشكل سهلةُ الفهم بنحوٍ بديهي؛ فكثيرًا ما نتعامل مع تكامليةِ الشكل في كل مرةٍ نرتدي فيها قُفازًا أو نلفُّ مِفتاحًا في قُفل، أو نستخدِم مِفتاحًا لربطِ صامولة. الإنزيمات (التي تناوَلْناها في الفصل الثالث) والأجسام المضادَّة ومستقبلات الهرمونات وغيرها من الجزيئات الحيوية معروف أيضًا أنها تتفاعل على نحوٍ أساسي عبر الترتيب الهندسي لذرَّاتها وجزيئاتها؛ إذن لا عجَب في أن تَلقى نظريةُ الشكل الخاصة بعملية الشم دعمًا كبيرًا من الكثير من علماء الأحياء، بما في ذلك العالمان الحاصلان على جائزة نوبل عن مُستقبلات الشمِّ ريتشارد أكسل وليندا باك.

الاتصال عبر الاهتزازات مألوفٌ بدرجةٍ أقلَّ بكثيرٍ لدى الإنسان، على الرغم من حقيقة أنه أساسيٌّ في حاستَين على الأقل وهما البصر والسمع. لكن في حين أن الجانب الفيزيائي للطريقة التي تكتشِف بها العينُ تردُّد الاهتزازات الخاص بالضوء وتُسجل بها الأذن تردُّدَ الاهتزازات الخاص بالهواء مفهومة تمامًا، فلم يكن لدى أحدٍ أيُّ فكرة — حتى وقت قريب — عن الطريقة التي يمكن أن يستخدمها الأنفُ لاكتشاف ترددِ أي اهتزازٍ جزيئي.

وُلد لوكا تورين في لبنان عام ١٩٥٣ ودرَس علم وظائف الأعضاء في كلية لندن الجامعية. بعد التخرُّج، انتقل إلى فرنسا للعمل في المركز الوطني للبحث العلمي، وفي مدينة نيس، خابر لحظة إلهام متعلقة بالشم وهو في زيارةٍ إلى المجمع التِّجاري جاليري لافاييت. ففي وسط المنطقة المخصصة للعطور كان هناك مكانٌ خاص بشركة شيسايدو اليابانية تَعرِض فيه عطرها الجديد نومبر نوار، والذي وصفه تورين قائلًا: «كان يجمع ما بين رائحة الورد والبنفسَج، ولكن من دون أيِّ أثر لحلاوة أيٍّ منهما، بل إنه يمكن مقارنتُه بروائحَ بسيطةٍ وعبقة لأشجار الأرز الإسبانية التي تُستخدَم في صُنع علب السيجار. في الوقت نفسه، لم يكن كثيفًا، وبدا متلألئًا بنضارةٍ سائلة جعلَت ألوانه العميقة تتوهَّج كنافذةٍ ذات زجاج معشَّق.»6 كانت تجرِبةُ تورين مع العطر الياباني مصدرَ إلهامٍ له جعله يدخل في مسعًى طويلِ الأمد لاكتشاف السرِّ الخاص بالكيفية التي تستطيع بها الجزيئات المتدفِّقة داخل الأنف أن تخلق مثلَ هذه التجارِب المثيرة.
وكما جرى مع دايسون من قبل، اقتنع تورين بأن الارتباطات بين الأطياف الاهتزازية والرائحة لا يمكن أن تكون محضَ صدفة. اقتنع بحُجة دايسون القائلة بأن المستقبلات الشمية لا بد أنها تكتشف اهتزازاتٍ جزيئية بنحوٍ أو بآخَر. ولكن على خلاف دايسون، اقترح تورين آليةً جزيئية، تخمينية ولكنها معقولة، يمكن من خلالها أن تكتشف الجزيئات الحيوية اهتزازات الروابط الكيميائية عبر النفق الكمي للإلكترونات.7

لعلك تتذكَّر من الفصل الأول أنَّ النفق الكميَّ هو الخاصية الميكانيكية الكمية الغريبة التي تنشأ عن قدرة الجسيمات مثل الإلكترونات أو البروتونات على التصرف مثل موجات احتمال قادرة على التسرُّب عبر الحواجز التي لا يمكن اختراقُها عبر أي مسارٍ تقليدي. واكتشفْنا في الفصل الثالث كيف أن لها دورًا بالغَ الأهمية في العديد من التفاعلات الخاصة بالإنزيمات. وبينما كان تورين حائرًا بشأن سرِّ الرائحة، وقَعَت يدُه على ورقةٍ بحثية تصف تقنيةً كيميائية تحليلية جديدة تُسمَّى «التحليل الطيفي لنفَق الإلكترونات غير المرن». في هذه التقنية، يوضع لوحان معدِنيَّان على مسافةٍ قريبة بشدةٍ أحدهما من الآخَر، وتفصل بينهما فجوةٌ صغيرة. إذا وُصل جهدٌ كهربي بين اللوحَين، فستتجمَّع الإلكترونات على أحد اللوحَين، ومن ثم تُصبح شحنته سالبة (المانح) وسيُصادف قوةً جاذبة من اللوح الآخَر ذي الشحنة الموجبة (المستقبِل). عند النظر في الأمر على نحوٍ كلاسيكي، نجد أن الإلكترونات تفتقر إلى الطاقة كي تقفز وتعبُر الفجوة العازلة بين اللوحَين؛ ولكن الإلكترونات أجسامٌ كمية وإذا كانت الفجوة صغيرة بالدرجة الكافية، فيُمكنها عملُ نفقٍ كمي والعبور من اللوح المانح إلى اللوح المستقبِل. تُسمَّى هذه العملية بالنفق المرن؛ لأن الإلكترونات لا تكتسب أو تفقد طاقةً في أثنائها.

لكنَّ هناك شرطًا إضافيًّا بالغَ الأهمية وهو أن الإلكترون لا يستطيع أن يشقَّ نفقًا بطريقةٍ مرنةٍ مِن الموقع المانح إلى موقع المستقبِل إلا إذا كانت هناك فتحةٌ فارغة متوفرة له بالطاقة نفسِها بالضبط. فإذا كانت أقربُ فتحة متاحةٍ في الموقع المستقبِل ذاتَ طاقةٍ أقل، فلا بد للإلكترون أن يفقد قدرًا من طاقته للقفز. تُسمَّى هذه العملية النفَقَ غيرَ المرن. لكن ينبغي أن تنتقل الطاقةُ المفقودة إلى مكانٍ ما، وإلا فلن يتمكَّن الإلكترون من شقِّ النفق. إذا وُضعت مادة كيميائية في الفجوة بين اللوحَين، فبإمكان الإلكترون أن يشقَّ النفق طالما أن بإمكانه منْحَ طاقته الزائدة للمادة الكيميائية هذه، وهو الأمر الذي بإمكانه فِعله ما دامت الجزيئاتُ في الفجوة تحتوي على روابطَ قادرةٍ على الاهتزاز بالتردُّد المناسب، المُناظِر لذلك الخاص بالطاقة المفقودة. بمجرَّد تمرير الطاقة الزائدة بتلك الطريقة، تصلُ الإلكترونات المنتقلة عبر النفق «غير المَرِن» إلى اللوح المستقبل بطاقةٍ أقلَّ قليلًا، وبتحليلِ فروق الطاقة بين الإلكترونات التي غادرَت الموقع المانح والإلكترونات التي وصلتْ إلى الموقع المستقبِل، تستكشف تقنيةُ التحليل الطيفي لنفق الإلكترونات غير المرن طبيعةَ الروابط الجزيئية لأيِّ مادة كيميائية.

وبالعودة إلى مثالنا الموسيقيِّ، إذا كنتَ قد جرَّبتَ في حياتك من قبلُ أن تعزف على آلةٍ موسيقية ذاتِ أوتار، فستعلم أنه يمكن الحصول على نغمةٍ من أحد الأوتار من دون حتى لمسِه؛ وذلك عن طريق الرنين. في الحقيقة، يمكن استخدام تلك الخدعة لضبط الجيتار. إذا طويتَ قصاصةً صغيرة من ورقٍ خفيف للغاية فوق أحد الأوتار، ثم ضربتَ النغمة التي تُريدها على وترٍ مجاور له، فربما تتسبَّب في إسقاط قصاصة الورق من دون حتى أن تلمس الوتر على الإطلاق. السبب في ذلك أنه بمجرد القيام بالضبط على النحو الصحيح، فإن الوتر المضروبَ يهزُّ الهواء، والهواء المُهتز يُمرر الاهتزاز إلى الوتر غير المضروب، ما يجعله يهتزُّ على نحوٍ يتوافق مع اهتزاز الوتر المضروب. في تقنية التحليل الطيفي لنفق الإلكترونات غير المرن، لا يندفع الإلكترون من الموقع المانح إلا إذا كانت المادة الكيميائية بين اللوحَين لها رابطةٌ مضبوطة على نحوٍ مُماثل على التردُّد الصحيح بحيث يُمكنه القيام بعملية القفز. وفعليًّا، يفقد الإلكترون الذي يقطع النفقَ بعضَ طاقته عن طريقِ فقدِ رابطةٍ جزيئية في رحلته الكمية عبر اللوحين.

اقترح تورين أن المُستقبِلات الشمِّية تعمل بطريقةٍ مماثلة، ولكن مع استبدال جزيءٍ واحد، ألا وهو المستقبِل الشمي، بلوحَي التقنية والفجوة. لقد تصوَّر إلكترونًا يُوجَد أولًا في «موقعٍ مانح» في الجزيء المستقبِل. وكما يحدُث في تقنية التحليل الطيفي لنفق الإلكترونات غيرِ المرن، يستطيع الإلكترونُ أن يشقَّ نفقًا إلى موقعٍ مُستقبِل في الجزيء نفسِه، ولكنه يرى أنه يُمنع من ذلك بسبب اختلاف الطاقة بين الموقعَين. لكن إذا التقَط المستقبِلُ جزيءَ مادةٍ ذات رائحة يحتوي على رابطةٍ مضبوطة على التردُّد الاهتزازي المناسب، فعندئذٍ يُمكن للإلكترون أن يقفزَ من الموقع المانح إلى الموقع المُستقبل عبر نفق، وفي الوقت نفسِه لا يُنقل سوى القدرِ الكافي من الطاقة إلى المادة ذات الرائحة، فعليًّا عن طريق فقد إحدى روابطه الجزيئية. اقترح تورين أن الإلكترون، الذي شقَّ النفق الذي يقبع الآن في الموقع المستقبل، تسبَّب في إطلاق القذيفة الجزيئية المثبتة المتمثلة في بروتين جي، مما يؤدي إلى تنشيط الخلية العصبية الشمِّية وجعلها تُرسل إشارة إلى الدماغ؛ مما يُتيح لنا أن نَشَمَّ رائحة البرتقال.

تمكَّن تورين من تجميع قِدرٍ كبير من الأدلة الظرفية لنظريته الاهتزازية الكَمية. على سبيل المثال، وكما ذكرنا، عادةً ما يكون لمُركَّبات الكبريت والهيدروجين رائحةٌ قوية تُشبه رائحةَ البيض المُتعفِّن، وتحتوي جميعُها على رابطةٍ جزيئية من الكبريت والهيدروجين تهتزُّ عند تردُّدٍ يصِل إلى ٧٦ تيرا هرتز (أي: ٧٦ تريليون ذبذبةٍ في الثانية). تطرح نظريتُه توقعًا قويًّا وهو أن أيَّ مركبٍ آخَر له رابطةٌ بترددٍ اهتزازي يُساوي ٧٦ تيرا هرتز ينبغي أيضًا أن تكون له رائحةُ البَيض المتعفِّن، بغضِّ النظر عن شكله. لكن للأسف، قلةٌ قليلة من المركبات الأخرى لها نطاق التردُّد هذا في أطيافها. بحَث تورين في المؤلفات التي تتحدَّث عن التحليل الطيفي عن جزيءٍ له الترددُ نفسه. وفي النهاية، اكتشف أن روابط الهيدروجين والبورون الطرفية في المواد الكيميائية التي تُسمَّى البورانات لها اهتزازاتٌ تتمركز عند ٧٨ تيرا هرتز، وهي شديدةُ القرب من اهتزازات مركَّبات الكبريت والهيدروجين التي يبلغ ترددُها ٧٦ تيرا هرتز. لكن كيف تبدو رائحةُ البورانات؟ لم تتوفَّر تلك المعلومة في المؤلَّفات الخاصة بالتحليل الطيفي، وكانت الموادُّ الكيميائية تلك غريبةً للغاية، لدرجة أنَّ تورين لم يتمكَّن من الحصول على أيٍّ منها كي يَشمَّه. لكنه عثَر على ورقةٍ بحثية قديمة تصفُ رائحتَها بأنها مُنفِّرة، وكثيرًا ما يُستخدَم هذا المصطلح لوصفِ رائحة الكبريت. في الحقيقة، تبيَّن أن البورانات هي الجزيئات «غير» الكبريتية الوحيدة التي لها رائحةُ البيض المتعفِّن نفسُها مثل كبريتيد الهيدروجين؛ ومن الأمثلة على ذلك مركَّب الديكابوران الذي يتكوَّن من ذرَّات بورون وهيدروجين فقط (وصيغته الكيميائية هي ).

إن هذا الاكتشاف، المتمثلَ في أنَّهُ من بينِ آلاف الموادِّ الكيميائية التي شُمَّت رائحتها، فإن المادة الوحيدة التي تنبعثُ منها الرائحة الكريهة التي لكبريتيد الهيدروجين عبارةٌ عن جُزيءٍ له التردُّد الاهتزازي نفسُه، وفَّر دعمًا قويًّا لنظرية الاهتزاز الخاصة بالرائحة. تذكَّر أن صانعي العطور كانوا يُحاولون منذ عقودٍ التعرفَ على الجانب الجزيئي للرائحة. استطاع تورين فِعلَ ما لم يقدر عليه الكيميائيُّون الخاصون بهم؛ لقد توقَّع الرائحةَ من النظرية فقط. لقد كان هذا المكافئُ الكيميائي لتوقُّع عبق العطر من شكلِ زجاجته. كذلك قدَّمَت نظرية تورين آلية كمية معقولة بيولوجيًّا تسمح للجزيء الحيويِّ باكتشاف الاهتزاز الجزيئي. لكن وجود «آلية معقولة» ليس كافيًا. فهل كانت صحيحة؟

معركة الأنوف

حقَّقَت نظريةُ الاهتزاز بعض النجاحات المشجِّعة، كما في حالة مُركَّب الديكابوران، ولكن كانت لا تزال تَشوبها بعضُ المشكلات المُماثلة للمشكلات الموجودة في نظرية الشكل، مثل الجزيئات التي تُعدُّ صورةً معكوسة من بعضها البعض (مثل الليمونين والدايبنتين)، والتي لها روائحُ مختلفةٌ للغاية على الرغم من تطابُق أطيافها الاهتزازية. قرَّر تورين أن يختبرَ توقُّعًا آخرَ لنظريته. لعلك تتذكَّر أن نظرية شقِّ الأنفاق فيما يتعلق بعمل الإنزيمات (ارجع للفصل الثالث) خضعَت للاختبار بتغيير الشكل الأشيع للهيدروجين بحيث يحلُّ محلَّه أحدُ نظائره الأثقل مثل الديوتيريوم؛ للاستفادة من تأثيرِ النظائر الحركية. جرَّب تورين خدعةً مُماثلة باستخدام مادةٍ ذات رائحة تُسمَّى «الأسيتوفينون» وتوصف بأنَّ لها «رائحة حُلوة لاذعة … تُشبه تلك التي لزهرةِ البرتقال الخشنة أو الزعرور البرِّي». اشترى كميةً غالية الثمن للغاية من تلك المادة، التي استُبدل فيها الديوتيريوم بكلِّ ذرةٍ من ذرات الهيدروجين الثَّماني في روابط الكربون والهيدروجين الخاصة بها. الذرَّات الأثقل، مثل أوتار الجيتار الأكثر سُمكًا، ستهتزُّ بتردداتٍ أقل؛ إن رابطة الكربون والهيدروجين العادية تهتزُّ بترددٍ عالٍ يتراوح ما بين ٨٥ إلى ٩٣ تيرا هرتز، ولكن إذا حلَّ الديوتيريوم محل الهيدروجين فسينخفض ترددُ اهتزاز رابطة الكربون والديوتيريوم إلى نحو ٦٦ تيرا هرتز. عندئذٍ، سيكون لتلك المادة الكيميائية التي تحتوي على الديوتيريوم طيفٌ اهتزازيٌّ مختلف تمامًا عن ذلك الخاصِّ بالمادة التي تحتوي على الهيدروجين. لكن هل يُوجَد أيُّ اختلافٍ في الرائحة؟ أغلق تورين بابَ مُختبره قبل أن يشمَّ المُركبَين بحذرٍ شديد. اقتنع بأن «الرائحتَين مختلفتان، حيث إن المُركَّب المشتمل على الديوتيريوم تقلُّ فيه الرائحة الحلوة، ويُشبه المذيبَ أكثر».8 حتى بعد أن نقَّى كل مركب بعناية، اقتنع بأن رائحة المركب المشتمل على الهيدروجين تختلف تمامًا عن رائحة المركب المشتمل على الديوتيريوم. عندئذٍ زعم أن نظريتَه قد أُثبِتَت.
أبحاث تورين جذبَت انتباه المُستثمرين إليه، ومن ثَم قدَّموا الدعم الماليَّ اللازمَ لإنشاء شركةٍ جديدة باسم «فليكسيترال» والتي كرسَت نشاطها للاستفادة من أفكاره عن الاهتزاز الكمِّي؛ من أجل تصنيع عطورٍ جديدة. وقد كتَب المؤلف تشانلدر بور كتابًا يصف فيه مَسعى تورين فيما يتعلَّق بالآليات الجزيئية المعنيَّة بالروائح،9 وقد سجَّلَت هيئة الإذاعة البريطانية فيلمًا وثائقيًّا عن عمله.
لكن كان الكثيرون لا يزالون غيرَ مقتنعين، لا سيما المتحمسين لنظرية الشكل. كرَّرَت كلٌّ من ليزلي فوسول وأندرياس كيلر من جامعة روكفلر اختباراتِ الشم باستخدام الأسيتوفينون العادي، وذلك الذي يحتوي على الديوتيريوم، لكن بدلًا من الاعتماد على أنف تورين الخبير، فقد طلَبتا من أربعة وعشرين شخصًا ليست لهم خبرةٌ في العطور تحديدَ ما إن كان بإمكانهم التمييزُ بين المُركَّبَين أم لا. كانت النتائج قطعية: لا يُوجَد فرقٌ بين الرائحتَين. نُشرت ورقتهما البحثيةُ في مجلة «نيتشر نيوروساينس» عام ٢٠٠٤،10 وقد صحِبَتها مقالةٌ افتتاحية تصفُ نظريةَ الاهتزاز الخاصةَ بالرائحة بأنها «ليست لها مصداقيةٌ في الأوساط العلمية».

لكن، وكما سيقول لك أيُّ باحثٍ طبي، التجارِب في البشر يمكن أن تتشوَّش بكل أنواع التعقيدات؛ مثل توقُّعات المبحوثين وخبراتهم السابقة على التجرِبة. لتجنُّب هذه المشكلات؛ قرَّر فريقٌ بقيادة إفثيميوس سكولاكيس من معهد ألكسندر فليمنج باليونان، الذي يتضمَّن باحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، من بينهم لوكا تورين، التحوُّلَ إلى نوعٍ ذي سلوكٍ أفضل بكثير وهو ذباب الفاكهة المُولَّد في المختبر. ابتكر الفريقُ المكافئ الخاص بذباب الفاكهة لتجرِبة اختيار المجرى التي ابتكرَتها جابرييل جيرلاك المعنيَّة بأسماك الشعاب المرجانية والمذكورةُ سابقًا في هذا الفصل. أطلقوا على التجرِبة اسم «المتاهة تي» الخاصة بالذباب. أُدخل الذباب إلى متاهةٍ على شكل حرف تي من خلال الجذع وحُفِّز كي يطيرَ إلى مُفترَقِ طريق حيثُ يكون عليه أن يختار هل يتَّجه نحو اليمين أو اليسار. ضُخ هواءً معطرًا في كل ذراع، وعن طريق عدِّ عدد الذباب الذي ذهب في كل اتجاه، بإمكان الباحثين أن يعرفوا هل الذباب يستطيع التمييزَ بين الموادِّ ذات الرائحة التي ضُخَّت إلى المجْريَين الهوائيَّين الأيسرِ والأيمن على التوالي.

درسَت المجموعةُ أولًا هل الذباب بإمكانه أن يشَمَّ الأسيتوفينون أم لا. إنه كان يستطيع ذلك بالفعل؛ فمجرد قدرٍ ضئيل جدًّا من المادة الكيميائية في نهاية الذراع اليُمنى للمتاهة كان كافيًا لحثِّ جميع الذباب تقريبًا على التحليق باتجاه رائحته التي تُشبه رائحةَ الفواكه. عندئذٍ، استبدَلَت المجموعةُ بذرات الهيدروجين ذراتِ الديوتيريوم في الأسيتوفينون؛ ولكن اتَّبع أفرادُها طريقةً جديدة حيث كانت تستبدلُ إما ثلاثَ ذرات أو خمسَ ذرات أو الذرَّاتِ الثمانيةَ جميعَها من الهيدروجين بذراتٍ من الديوتيريوم، واختبَروا كلَّ نسخةٍ من المادة الكيميائية على حِدَةٍ، ولكن كان المركبُ الخالي من الديوتيريوم في الذراع الأخرى من المتاهة دومًا. كانت النتائجُ لافتةً للانتباه. في حالة المادة التي بها ثلاثُ ذرات ديوتيريوم فقط، فقدَ الذبابُ تفضيلَهُ للاتجاه نحوَ يمين المفترق، وأصبح يتَّجه عشوائيًّا جهةَ اليمين أو جهة اليسار. ولكن عندما ضخَّ الباحثون في الذراع اليُمنى المادةَ الكيميائية التي استُبدل فيها بخمس ذراتٍ أو ثَمانٍ من الهيدروجين ما يُقابلها من ذراتِ الديوتيريوم، اتَّجه الذباب بعزمٍ إلى جهة اليسار بعيدًا عن المادة التي تحتوي على الديوتيريوم. بدا أن الذباب يستطيع التمييزَ بين الأسيتوفينون ذي نسبةِ الديوتيريوم العادية والثقيلة، ومن ثمَّ لم يُفضل رائحتَهما. اختبر الفريقُ مادَّتَين ذواتَيْ رائحتَين أُخرَيَين ووجد أنَّ الذباب يسهُل عليه التمييزُ بين شكل الأوكتانول المحتوي على ذرات الهيدروجين، وذلك المحتوي على ذرَّات الديوتيريوم، ولكن لا يستطيع التمييزَ بين الشكلَين المقابلَين لهما في البنزالدهيد. ولإثبات أن الذباب كان يستخدِم حاسةَ الشمِّ لتمييز روابط الديوتيريوم؛ اختبر الباحثون أيضًا سُلالةً مُتحوِّرة من الذباب تفتقر إلى المستقبِلات الشميَّة الوظيفية. وكما هو متوقَّع، لم تستطع هذه السُّلالات المتحوِّرة «الفاقدة لحاسة الشم»١١ التمييز على الإطلاق بين الموادِّ ذات الروائح المحتوية على ذرَّات هيدروجين وتلك المحتوية على ذرات ديوتيريوم.
باستخدام إعدادٍ يعتمدُ على نظرية الاشتراط لبافلوف؛ تمكَّن الباحثون حتى من تدريب الذباب على ربطِ أشكالٍ مُعيَّنة من الموادِّ الكيميائية بالعقاب، والذي يتمثَّل في صدمةٍ كهربية خفيفة في أقدامه. حينها تمكَّن الفريق من إجراء اختبارٍ لافتٍ للانتباه أكثرَ لنظرية الاهتزاز. في البداية، درَّب الذبابَ على تجنُّب المركبات التي تحتوي على رابطة الكربون والديوتيريوم، والتي يصل تردُّد اهتزازاتها إلى ٦٦ تيرا هرتز. وأرادوا بعد ذلك اكتشافَ هل هذا التجنُّب يُمكن تعميمُه على كل المركبات المختلفة للغاية التي تَصادف امتلاكُها لاهتزازات روابط بالتردُّد نفسِه أم لا. وبالفعل كان هذا التعميم مُمكنًا. اكتشف الفريق أنَّ الذباب المدرَّب على تجنُّب المركبات التي تحتوي على رابطة الكربون والديوتيريوم تجنَّب أيضًا المركبات التي تُسمَّى النتريلات التي اهتزازُ رابطة الكربون والنيتروجين فيها له الترددُ نفسُه، على الرغم من أنها مختلفةٌ كيميائيًّا بشدة. قدمَت الدراسة دعمًا قويًّا لدور الاهتزاز في عملية الشم، عند الذباب على الأقل، وقد نُشرت عام ٢٠١١ في مجلةٍ علمية مرموقة وهي «بروسيدنجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينس».11

في العام التالي، تعاون سكولاكيس وتورين مع باحثين من كلية لندن الجامعية؛ للإجابة على السؤال المُهم المتمثِّل فيما إذا كان الإنسانُ أيضًا بإمكانه الشمُّ عن طريق الاهتزازات أم لا. وبدلًا من الاعتماد فقط على حاسة الشم المُرهَفة عند تورين، استعان الفريقُ بأحدَ عشَر مبحوثًا لهم حاسةُ شمٍّ مرهفة. لقد أكَّدوا أولًا النتيجةَ التي توصَّلَت إليها فوسول وكيلر؛ فلم يتمكَّن المشاركون في الاختبار من تمييزِ روابط الكربون والديوتيرون في الأسيتوفينون. ولكن قدَّر الفريقُ أنه فقط في حالة وجود ثماني روابط من الكربون والهيدروجين قد تكون الإشارةُ من شكل المادة الكيميائية الذي يحتوي على الديوتيريوم ضعيفةً لدرجة ألَّا يتمكن أنفُ الإنسان من تمييزها؛ ولذا قرَّروا أن يدرُسوا جُزيئاتٍ أكثرَ تعقيدًا لها رائحةُ المسك (مثل الجزيئات المعروضة في الشكل ٥-٢) التي تحتوي على ما يصلُ إلى ثمانٍ وعشرين ذرَّةَ هيدروجين، والتي يمكن في كلٍّ منها أن تحلَّ محلها ذرةُ ديوتيريوم. في هذه المرة وعلى خلاف تجرِبة الأسيتوفينون، استطاع المشاركون الأحدَ عشَر أن يُميزوا بسهولةٍ بين رائحة المسك العادية وتلك التي تحتوي بالكامل على الديوتيريوم. على كل حال، ربما يستطيع الإنسانُ في واقع الأمر أن يُميز الجزيئات التي لها تردُّداتٌ مختلفة.

دور علماء الفيزياء في التعرُّف على عملية الشم

من الانتقادات التي وُجِّهَت إلى نظرية الاهتزاز الكميِّ الغموضُ الشديد الذي يكتنف أساسَها النظري. هذا الانتقاد عالجَه الآن فريقٌ من علماء الفيزياء من كلية لندن الجامعية عام ٢٠٠٧؛ حيث قام بالعمليات الحسابية الكمية المعقَّدة التي تقف وراء نظرية النفق الكمي، وتوصل إلى أنها كانت «متَّسقةً مع كلٍّ من القواعد الفيزيائية ذات الصِّلة والسمات المرصودة لعملية الشم، لكن بشرط أن يكون للمُستقبِل خصائصُ عامةٌ معينة».12 وقد ذهب أحدُ أعضاء الفريق وهي جيني بروكس حتى إلى حدِّ اقتراح حلٍّ لتلك المشكلة المُزعجة الخاصة بالجزيئات التي تُعَد صورةً معكوسة من بعضها البعض مثل الليمونين والدايبنتين (ارجع للشكل ٥-٣) والتي لها الاهتزازات نفسُها ولكن رائحتها مختلفة.

في الحقيقة، كان مُشْرف جيني ومُعلِّمها البروفيسور الراحل مارشال ستونهام أولَ مَن توصَّل إلى ما يُطلق عليه في بعض الأحيان نموذج البطاقة المُمغنطة. كان ستونهام من روَّاد علماء الفيزياء بالمملكة المتَّحدة في جيله وقد تراوحَت اهتماماتُه من السلامة النووية وحتى الحوسبة الكمية وعلم الأحياء وكذلك الموسيقى، وذاك الاهتمام الأخير هو ما يُهمنا في هذا الفصل؛ فقد كان يعزف على البوق الفرنسي. النظرية التي توصَّل إليها فريقُ بروكس عبارةٌ عن شرحٍ ميكانيكي كمِّي لفكرة روبرت إتش رايت بأن كلًّا من شكل المستقبِل الشمي واهتزازات الروابط في جُزيء المادة ذات الرائحة له دورٌ في عملية الشم. اقترحا أن جيب الربطِ الخاصَّ بالمستقبِل الشمِّي يُعد بمنزلة ماكينة قراءة بطاقاتٍ مُمغنَطة. تحتوي البطاقات المُمغنطة على شريحةٍ مغناطيسية تُقرأ لتوليد تيارٍ كهربي في ماكينة قراءة البطاقات الممغنطة. لكن لا تتناسَب كلُّ البطاقات المُمغنطة مع تلك الماكينة؛ إذ يجب أن تكون البطاقة بالشكل والسُّمك المناسبَين وتكون الشريحة المغناطيسية في المكان المناسب، قبل حتى أنْ يكون بإمكانك استخدامُها والتحقُّق إن كانت الماكينة ستتعرَّف عليها أم لا. اقترحَت بروكس وزملاؤها أن المستقبِلات الشميةَ تعمل بالطريقة نفسِها. افترض الفريق أن جُزيء المادة ذاتِ الرائحة لا بد أن يتناسب أولًا مع جيب الربط عديم التناظُر المِرآتي اليميني أو اليساري، مثلما تتناسبُ البطاقة الائتمانية داخلَ ماكينة قراءة البطاقة. ومن ثم فالموادُّ ذات الروائح التي لها الروابط نفسُها ولكن لها أشكال مختلفة، مثل الشكل اليميني والشكل اليساري من الجزيء نفسِه، ستلتقطها مُستقبِلاتٌ مختلفة. وفقط بعد أن تتناسبَ المادة مع مستقبِلها المُكمل، تكون لديها القدرةُ على تحفيز حدَث النفَق الإلكتروني القائم على الاهتزاز من أجل تنشيط الخلية العصبية للمستقبل؛ ولكن لأن الجزيءَ اليساري سينشط المستقبل اليساري، فستختلف رائحتُه عن الجزيء اليميني الذي يُنشط المستقبِلَ اليميني.

إذا رجعنا إلى مثال الموسيقى مرةً أخرى أخيرة، حيث اعتبرنا الجيتار بمثابة جُزيء المادة ذاتِ الرائحة وأوتاره بمنزلة الروابط الجزيئية التي يجب أن تُفقَد؛ فسنجد أن المُستقبِلات إما مُمثَّلة في حالة إريك كلابتون، أو حالةِ جيمي هيندريكس. بإمكان كِليهما عزف النغمات الجزيئية نفسَها، ولكن الجزيئات اليمينة أو اليسارية ينبغي أن تلتقطها المستقبلات اليمينية أو اليسارية، تمامًا مثلما ينبغي أن يُعزَف على الجيتار اليمينيِّ بيدِ عازف أيمن. ومن ثَم فعلى الرغم من أن الليمونين والدايبنتين اهتزازاتهما واحدة، فينبغي أن تلتقطَهما مستقبلاتٌ شمِّية يمينية أو يسارية. ستتَّصل المستقبلات المختلفة بمناطقَ مختلفةٍ في الدماغ، ومن ثم ستولِّد روائحَ مختلفة. هذا الجمع بين الشكل وتمييز الاهتزاز الكميِّ يوفِّر في النهاية نموذجًا يكاد يتناسَب مع كلِّ البيانات التجريبية.

بالطبع حقيقة أنَّ هذا النموذج يتلاءمُ مع البيانات لا تُثبت بذاتِها أن هناك أساسًا كميًّا لعملية الشم. تُقدم البياناتُ التجريبية دليلًا قويًّا على أي نظريةٍ خاصة بالشم تتضمَّن كلًّا من الشكل والاهتزاز. لم تدرس حتى الآن على نحوٍ مباشر أيُّ تجرِبةٍ ما إذا كان النفقُ الكمِّي له دورٌ في عملية الشمِّ أم لا. لكن حتى الآن على الأقل، فالنفق الكمي غير المرن للإلكترونات هو الآلية الوحيدة المعروف أنها تُقدِّم تفسيرًا مقبولًا للطريقة التي يمكن أن تَكتشف بها البروتيناتُ الاهتزازاتِ في جزيئات الرائحة.

الجزء الحيويُّ المفقود حتى الآن في أُحجية عملية الشم هو بِنْية المستقبلات الشمية. إن معرفة ذلك يُسهل العثور على إجابات الأسئلة الأساسية مثل كيف تتلاءم جيوبُ الربط بأريحية مع كلِّ جزيءٍ خاص بمادة ذاتِ رائحة، وهل الجزيئات التي تُعد صورةً معكوسة بعضها من بعض تُربَط بالمُستقبِلات نفسِها، وهل جزيئات المستقبِلات تمتلك مواقعَ مانحةً ومستقبِلةً خاصة بالإلكترونات موضوعة على نحوٍ ملائم لتحفيز عملية النفَق غير المرِن الخاصة بالإلكترونات. لكن على الرغم من الجهود الهائلة التي بُذِلَت على مدى سنواتٍ عديدة من قِبَل بعضٍ من المجموعات المرموقة في علم الأحياء البِنيوي حول العالم؛ لم يتمكَّن أحدٌ حتى الآن من عزل جزيئات المستقبلات الشمِّية التي يمكن دراستها بالطريقة نفسِها التي أتاحت إثباتَ دور آليات ميكانيكا الكم في الإنزيمات (ارجع إلى الفصل الثالث)، أو في بروتينات الصبغة الخاصة بعملية البناء الضوئي (ارجع إلى الفصل الرابع). تكمُن المشكلة في أن المستقبل الشميَّ في الحالة الطبيعية مُدمجٌ في غِشاء الخلية، على نحوٍ يُشبه إلى حدٍّ ما قنديلَ بحرٍ يطفو على سطح الماء. إن استخلاص بروتين المستقبِل من الغشاء يُشبِهُ إخراج قنديلِ بحرٍ من ماء المحيط؛ فهو لن يحتفظ بشكله في هذه الحالة. لم يتوصَّل أحدٌ حتى الآن إلى طريقةٍ لتحديد بِنْية البروتينات وهي لا تزال مدمجةً داخل أغشية الخلايا.

وهكذا، وعلى الرغم من وجودِ جدلٍ كبير حول الأمر، فإن النظرية الوحيدة التي تُقدِّم تفسيرًا للطريقة التي يمكن أن يُميز بها الذبابُ والبشرُ بين روائح المُركبات العادية وتلك التي تحتوي على الديوتيريوم؛ قائمةٌ على آليةِ ميكانيكا الكم التي تُسمَّى نفَق الإلكترونات غير المَرِن. ومؤخرًا، أوضحَت التجارِبُ أنه إلى جانب الذباب والإنسان هناك حشراتٌ أخرى وحتى أسماك قادرة على تَبيُّن الفروق بين روابط الهيدروجين والديوتيريوم. وإذا وُجد الشمُّ الكمي في مِثل هذا النطاق من المخلوقات، فمن المرجَّح أنه شائعٌ بدرجة كبيرة. من المُرجَّح أن البشر وذباب الفاكهة وأسماك المهرج ومجموعةً كبيرة من الحيوانات الأُخرى يُسخِّرون قدرة الإلكترون على الاختفاء من نقطةٍ ما في الفراغ والتجسُّد على الفور في نقطةٍ أخرى؛ حتى يتمكَّنوا من التقاط هذه الرسالة التي «من واقع مادي» والعثور على الطعام أو الوليف، أو طريقهم إلى موطنهم.

هوامش

  • (١)

    للأسف، أدَّت تلك الشهرة إلى تهديد هذا الحيوان في موطنه؛ حيث أصبح مفضَّلًا لدى الصيادين الذين يُفرِّطون في صيدِه من أجل الوفاء بالتزاماتِ سوق أسماك المهرج الآخذِ في الازدهار. لذا، لا تحتفِظْ بسمكة نيمو في منزلك؛ لأن موطنها هو الشعاب المرجانية الحقيقية!

  • (٢)

    يُعتقد أن قوة المدِّ والجزر حينئذٍ هي العاملُ المساعد على الانتشار.

  • (٣)

    لاحظ العنصرية المضمَّنة هنا.

  • (٤)

    ١-ميثيل-٤-(١-ميثيل الإيثينيل)-سيكلوهيكسين.

  • (٥)
    وحدة البيكوأمبير تُساوي واحدًا على تريليون (١٠ −١٢) من الأمبير.
  • (٦)

    في هذا السياق، عبارة «المعبَّر عنها» تعني الجينَ النشط؛ بمعنى أن معلوماته تكون منسوخةً في الحمض النووي الريبوزي، وعندئذٍ يُغذي آلية تخليق البروتين لإفراز البروتين الذي يُشفِّره ذلك الجين، مثل أحد الإنزيمات أو مُستقبِل مُعين من المستقبلات الشمِّية.

  • (٧)

    تقليديًّا، كان يتمُّ الحصول على المسك من بعض المصادر الطبيعية، ومنها الغُدد الجنسية لدى غزال المسك، وغُدد الوجه لدى ثَور المسك، وروث حيوان خز الصَّنوبر وبول غرير الصخر. لكن اليوم تقريبًا كل المسك العطري صناعي.

  • (٨)

    الجزيء عديمُ التناظر المرآتي له صورةٌ معكوسة غير قابلة للتراكب.

  • (٩)

    في الحقيقة، كان يعزف هيندريكس في العموم على جيتاره اليمينيِّ وهو في وضعٍ معكوس، لكن كان يعكس الأوتار بحيث يُصبح الوتر الأقلُّ سُمكًا في الموضع نفسِه، كما لو كان يعزف على جيتارٍ يساري.

  • (١٠)
    على سبيل المثال، جزيء الجيوسمين (4S,4aS,8aR)-(K) والجزيء الذي يُعد صورةً معكوسة منه (4R,4aR,8aS)-(C) اللذان لهما رائحةٌ واحدة وهي «ترابية، عفنة».
  • (١١)

    فقدان حاسَّة الشم أو عدم القدرة على اكتشاف الروائح هي حالةٌ عادةً ما ترتبط، لدى البشر، بحدوثِ إصابة في ظهارة الأنف، على الرغم من أن الأشكال الوراثية النادرة معروفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤