الفصل التاسع

الدراسة النقدية للغة والتحرر الاجتماعي: تعليم اللغة في المدارس

أنظرُ في هذا الفصل في المسألة التالية: كيف يمكن للدراسة النقدية للغة أن تُسهم في تحرير الخاضعين للهيمنة والقهر في مجتمعنا. وبعد مناقشة عامة موجزة لإمكان إسهام الدراسة النقدية للغة في التحرر الاجتماعي، يركز الفصل على مجال معين يمكن تنمية هذه الإمكانية فيه، وهو تدريس اللغة في المدارس. وتقول حجتي: إنالوعي النقدي باللغة، المبني على الدراسة النقدية للغة، يجب أن يكون من الأهداف المهمة لتعليم اللغة، وأُقدِّم بعض الاقتراحات حول أساليب تنميته. وأما السبب الرئيسي لاختياري التركيز على هذه القضية فهو اتصالها بالأحوال الراهنة، ونظرًا للتغييرات الكبرى في السياسات والممارسات التعليمية التي يجري تنفيذُها أو يُعتزَم تنفيذُها، ونظرًا بصفة أخص إلى التقرير الذي قدَّمَته لجنة كينجمان، ومداولات لجنة كوكس عن تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس (والإحالة في ذلك كلِّه إلى الفترة التي كتبت فيها الطبعة الأولى للكتاب. ولم نشهد إحرازَ أيِّ تقدم كبير منذ ذلك الوقت في السياسة الرسمية من حيث الوعي النقدي باللغة)، قلت في الفصل الافتتاحي في هذا الكتاب: إن أحد أغراضي من وراء كتابته أن أساعد على رفع الوعي بأساليب إسهام اللغة في تمكين بعض الناس من الهيمنة على البعض الآخر؛ لأن الوعيَ يمثِّل الخطوة الأولى على طريق التحرير. وكون الوعي باللغة — بصفة خاصة — عنصرًا مهمًّا من عناصر تلك «الخطوة الأولى»، نتيجة مترتبة على أساليب عمل الهيمنة في المجتمع الحديث؛ فالهيمنة تعمل، كما دأبتُ على تأكيد ذلك، بطرائق تزداد شدَّتُها، من خلال «الرضا» لا «القسر»، ومن خلال الأيديولوجيا، ومن خلال اللغة، ولكن ازدياد الشدة المطرد لا يعني الاقتصار عليها، فلا يجوز اختزال أسلوب الهيمنة في توليد الرضا، واستعمال أوعية الأيديولوجيا واللغة، مثلما لا يجوز اختزال التحرر في «إماطة اللثام»، والتغيير وممارسات الخطاب. بل إننا، حتى ونحن نركز على اللغة والخطاب، علينا أن نذكِّر أنفسنا بأن التحرر الاجتماعي يدور في المقام الأول حول مسائل عملية محسوسة؛ مثل البطالة، والإسكان، وإمكان الالتحاق بالتعليم، وتوزيع الثروة، وتخليص النظام الاقتصادي من عوادي المصلحة الشخصية والربح ونزواتهما.

وإذا كان للدراسة النقدية للغة أو لأيِّ أسلوب آخر للتحليل النقدي للمجتمع أن يُسهم في التحرر الاجتماعي من خلال رفع مستوى الوعي، فلا بد من تلبية شروط معينة أولًا. ولنا أن نميِّز ما بين الشروط «الموضوعية» والشروط «الذاتية». وربما يكون الشرط الموضوعي الرئيسي واضحًا، ولكنه جدير بإعادة ذكره، أي أن تكون الأوضاع الاجتماعية العامة في حالة تسمح بإمكان التقدم نحو التحرر الاجتماعي. ومعنى هذا أن الطاقة التحررية للدراسة النقدية للغة في ظل دكتاتورية فاشية، أو حتى في ظل نظام ديموقراطي تتمتع الكتلة المهيمنة فيه بموقع حصين، طاقة محدودة إلى حدٍّ بعيد! وأما الشروط الذاتية فتضم أولًا فئات الشعب الخاضعة للهيمنة، فيجب أن تتمتع بالقدرة على الانتقاد ورفع مستوى وَعْيِها، وهو ما يتوقف على خبرتها بالكفاح الاجتماعي. فالمقهورون لن يتبيَّنوا قهرهم لمجرد أن أحدًا من الناس كلَّف نفسَه عناءَ تنبيههم إليه، بل لن يتبيَّنوه فعلًا إلا من خلال خبرتهم الخاصة بالقهر، وأنشطتهم في الكفاح ضده. وهكذا فإن الكفاح ورفع الوعي يرتبطان بعلاقة جدلية، بمعنى أن الكفاح يُهيِّئ الناس لزيادة الوعي، وهو ما يمنحهم القوة على القيام بالكفاح. أضف إلى ذلك الشروط الذاتية المتعلقة بمن يقومون بدور العامل المساعد في رفع مستوى الوعي، أي إنه لا بد من وجود أفراد يتمتعون بالخلفية النظرية القادرة على تمكينهم من سلوك هذا المسلك، والمشاركة فيما يتعرض له المقهورون مشاركةً تكفي لضمان تقبُّلهم باعتبارهم عوامل مساعدة. وكثيرًا ما يكون هؤلاء معلمين بصورة رسمية أو غير رسمية، وإن لم يكن ذاك هو الواقع بالضرورة. وقد يتمثل جانب من «معداتهم»، وهو جانب واحد فحسب، في إحاطتهم بالدراسة النقدية للغة، والقدرة على الاستعانة بوسائط من كتب مثل هذا الكتاب للتواصل مع مَن لا يتمتعون بالخلفية اللازمة لقراءتها.

إن في مجتمعنا سياقاتٍ اجتماعيةً كثيرة يمكن للدراسة النقدية للغة أن تنهض فيها بدور في ضروب الكفاح من أجل التحرر الاجتماعي. وبعض هذه السياقات تعليمية (كالمدارس والكليات وسياقات التدريب «أثناء العمل» أو «أثناء الخدمة» … إلخ) أو من غيرها مثل أنشطة فروع النقابات، والمنظمات السياسية، والجمعيات النسوية، وجمعيات الحفاظ على البيئة، واتحادات المستأجرين والعديد من أنماط اللقاءات في أماكن العمل، أو المنازل، أو الحانات، أو المقاهي أو الشوارع. فلأعلق بإيجاز شديد على ثلاثة من أمثال هذه السياقات قبل التركيز على تدريس اللغة في المدارس.

من السياقات التي يعمل فيها معلمون محترفون تدريسُ اللغة الإنجليزية باعتبارها لغةً ثانية. ويتعامل هؤلاء المعلمون مع بعض القطاعات الاجتماعية التي تُعاني أشد الحرمان من المزايا التي يتمتع بها غيرها، وإحساسُ أفرادها بالخضوع للسيطرة والنزعة العنصرية إحساسٌ بالغ الحدة. ويرى بعض هؤلاء المعلمين أن دورهم يتضمن أصلًا تمكين هؤلاء الطلاب — بتعبير أحد الممارسين — من «التعامل مع المواقف التواصلية خارج قاعة الدرس، حيث كفة السلطة المؤسسية راجحة ضدهم، وإعدادهم لإظهار التحدي والمعارضة والإثبات في الحالات التي تقتضي ديناميات السلطة منهم الموافقة، والرضوخ والصمت». ويجب أن تقوم هذه العملية التعليمية «على أساس الحوار حول معنى السلطة وتشفيرها في اللغة» وهو ما يشير إلى وجود دور للدراسة النقدية للغة. وهكذا فإن تعليم الإنجليزية باعتبارها لغة ثانية حالة يعتبر فيها إنماء الوعي النقدي بالخطاب أساسًا لنموذج من الصراع الأيديولوجي الخطابي، وهي مثال سبق ترسيخُ جذوره إلى حدٍّ ما.

ولدينا مثالٌ آخر يفتقر، في حدود ما أعلم، إلى مثل هذه التقاليد الراسخة، وإن تكن إمكانياته تبدو، برغم هذا، كبيرة، ألا وهو تدريب العاملين في المرافق العامة الذين يتصلون اتصالًا مباشرًا بالفئات الاجتماعية الخاضعة للسلطة، كالعاملين بالتمريض على سبيل المثال. فالواقع أن عددًا كبيرًا من أمثال هؤلاء العاملين يتعرضون لضغوط هائلة لتكييف ممارساتهم حتى تتفق مع معايير نفعية محضة مثل «الكفاءة» و«فعالية التكاليف». ويعني هذا، لكثير منهم، توقُّع قيام عدد أقل من هؤلاء العاملين «بالتعامل» مع أعداد أكبر من الناس. ومن ثَم، ففي حدود ظهور الخطاب أو «التواصل» في التدريب، تظهر هذه السمات في شكل «التواصل» و«المهارات الاجتماعية» التي يتمثل دافعُها الأول في تحقيق الكفاءة في التعامل مع الأشخاص. ولا شك أنك تذكر مناقشة «المهارات» في الفصل الثامن. أي إن الدراسة النقدية للغة يمكن أن تكون موردًا مهمًّا لمن يشغلهم أمر هذه التطورات.

وتوجد حالة أخرى خارج المجال الرسمي للتعليم أو التدريب، وهي إمكانية البناء على أسس البحث النقدي في أجهزة الإعلام، وتوفرها حركة النقابات العمالية في بريطانيا؛ إذ يرى كثيرٌ من النقابيِّين أن الممارسات الإعلامية تضرُّ بمصالح النقابات خصوصًا وبأفراد الطبقة العاملة عمومًا. ويقوم جانب من هذا الموقف السلبي على الخبرة الجماعية المريرة للأسلوب الذي استخدمته وتستخدمه أجهزة الإعلام في وصفها لأنشطة النقابات وممارساتها، مثل أشكال الاقتراع والانتخابات والإضرابات. ولكن الباب يكاد يكون مغلقًا في وجه الانتفاع العام بأساليب التحليل القادرة على تمكين النقابيِّين من إجراء رصد تفصيلي لإنتاج أجهزة الإعلام، على الرغم من أن مثل هذا الرصد يمكنه تدعيم حملاتهم الرامية إلى السيطرة الديموقراطية على أجهزة الإعلام، وعلى إتاحة «حق الرد» للذين تُصورهم هذه الأجهزة وهلمَّ جرًّا. وأعتقد أن الدراسة النقدية للغة من الموارد التي يمكنها المساعدة في هذا الصدد، وعلاقتها بالقضية واضحة في أعين الكثير من النقابيِّين.

(١) تعليم اللغة في المدارس

(١-١) الوعي النقدي باللغة

ذكرت عاليه لجنة كينجمان باعتبارها أحدَ أسباب تركيزي على تعليم اللغة في المدارس. وكانت عدة عوامل قد أسهمت — فيما يبدو — في اتخاذ القرار بإنشاء هذه اللجنة، وكان من بينها الخلاف الذي نشب في أعقاب المحاولة التي قام بها مفتشو تعليم اللغة الإنجليزية لوضع أهداف لتعليم اللغة الإنجليزية، والخطوات التي اتخذت على طريق إنشاء منهج دراسي قومي في عدد من المواد الدراسية «الأساسية». وكان من العوامل الكبرى ما تردَّد من شكاوى بشأن المستويات، وخصوصًا مستوى إجادة القراءة والكتابة، وكثيرًا ما كانت هذه الشكاوى من أصحاب العمل أو من السياسيِّين الذين يرجعون أصداءهم. وفيما يلي — على سبيل المثال — التبرير الذي قدَّمه كينيث بيكر، وزير التعليم آنذاك، في نوفمبر ١٩٨٦م، لإنشاء اللجنة المذكورة: «كثيرًا ما أسمع أصحاب العمل يشكون من أن عددًا كبيرًا ممن انتهوا من المرحلة الدراسية وتقدَّموا بطلبات الحصول على أعمال أو وظائف، أي بعد أن قضَوا إحدى عشرة سنة في التعليم الإلزامي، لا يستطيعون الكتابة البسيطة الواضحة ومن دون ارتكاب أخطاء واضحة.»

لا بد أن القلق يساورنا جميعًا إزاء انخفاض القدرات اللغوية للكثير من الأطفال عند تركهم التعليم، ولكن الواضح أن الشكاوى من تدنِّي المستويات كثيرًا ما تتخذ صورًا نفعية ضيقة النطاق، كأنما لم تكن القدرات اللغوية إلا مهاراتٍ أو أدواتٍ (وهما من الكلمات التي يشيع استخدامها) لإنجاز مهام معينة (بأسلوب «بسيط» و«واضح» ودون أخطاء وهلمَّ جرًّا)، وكأنما لم يكن تعليم اللغة إلا تدريبًا على اكتساب هذه المهارات. ونحن نجد مثل هذه التعبيرات النفعية في الخطاب الذي ألقاه بيكر في يناير ١٩٨٧م، وحدَّد فيه أعضاء اللجة واختصاصاتها:

… راعني وجودُ فجوة معينة. فالتلاميذ يحتاجون إلى الإحاطة بأسرار اللغة الإنجليزية حتى يتمكنوا من استخدامها استخدامًا فعالًا. ولم تَعُد معظم المدارس تُعلِّم النحو بالأسلوب القديم.

لكنها لم تستعِض عنه بشيء يُذكَر. لم تَعُد لدينا أرضية مشتركة بشأن أبنية اللغة الإنجليزية وطرائق عملها، أو بشأن الأسلوب الذي تستخدمه لنقل المعنى وإحداث آثار أخرى. علينا أن نزود المعلمين بنموذج صحيح للغة للمساعدة على تحسين تدريسهم.

الصورة المرسومة للغة هنا موجهة لتنفيذ المهام وحسب، للاستخدام الفعال للغة، وإحداث آثار معينة؛ مثل نقل المعنى. بل وتتخذ اللغة المستخدمة في الإشارة إلى تدريب المعلمين شكلًا يُوحي بالمعدات اللازمة لتنفيذ العمل (تزويد). ولكن استخدام اللغة — أي الخطاب — لا يقتصر معناه، كما رأينا في هذا الكتاب، على أداء المهام، بل يتضمن أيضًا التعبير عن الهويات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية وتشكيلها وإعادة إنتاجها، ومن بينها أساسًا علاقات السلطة.

وليس لدينا، من منظور التحليل النقدي للغة، ما نعترض عليه في القول بأن تنمية القدرات اللغوية للأطفال يقتضي حصولهم، هم ومَن يُعلِّمهم، على «نموذج» ما للغة، ولكن صورة اللغة والخطاب تختلف اختلافًا جذريًّا عن التصور النفعي الوارد عاليه. وما دامت الدراسة النقدية للغة تنسب إلى اللغة دلالة اجتماعية أشد ثراءً وأثقل وزنًا، فإنها تنظر إلى تعليم اللغة من زاوية أوسع. وما دمت أنا قد أقمت مناقشتي لتعليم اللغة على أساس اختصاصات لجنة كنجمان، فإن للقارئ أن يعتبر أن هذا القسم يمثل إسهامًا في المناظرة من وجهة نظر بالغة الاختلاف عن بعض الأفكار التي دعت إلى إنشاء اللجنة.

وتقضي الاختصاصات بأن تُوصيَ اللجنة بما يلي:
  • تقديم نموذج للغة الإنجليزية، منطوقًا أو مكتوبًا؛ بحيث يمكنه أن:
    • (١)

      يعتبر أساسًا لطرائق تدريب المعلمين على تفهُّم أساليب عمل اللغة الإنجليزية.

    • (٢)

      يعتبر مرجعًا للمناقشات المهنية عن جميع جوانب تعليم اللغة الإنجليزية.

  • وضع المبادئ اللازمة لإرشاد المعلمين إلى مدى وجوب شرح هذا النموذج للتلاميذ وأساليب هذا الشرح، لتوعيتهم بطرائق استخدام اللغة في شتى السياقات.

  • ما يحتاج التلاميذ إلى معرفته عمومًا عن أساليب عمل اللغة الإنجليزية، ومن ثَم ما كان ينبغي أن يتعلموه وما يُتوقَّع أن يفهموه في هذا الصدد في سنِّ السابعة، والحادية عشرة والسادسة عشرة.

وسوف أبدأ بمناقشة النموذج المشار إليه في أولى الاختصاصات، ثم أناقش البند الثاني والثالث معًا تحت عنوان «المبادئ الإرشادية»، وإن لم أقترح أهدافًا محددة للأطفال في سن ٧، و١١و١٦.

(١-٢) النموذج

سبق لي أن حددت خصائص الخطاب في الفصل الثاني، ولخَّصتها في تعريف يبيِّنه الشكل ٢-١، وهو تعريفٌ يقدِّم نموذجًا معينًا للغة، أرى أنه ملائم لتعليم اللغة؛ فعناصره الرئيسية هي النص، والتفاعل، والسياق، وأكدت مسألتين في تلك المناقشة تتصلان بموضوعنا الراهن؛ أولاهما أن الخطاب لا يقتصر على النص، أو على الشكل اللغوي. ويبدو أن نوع النموذج المتصور في «الاختصاصات» المذكورة مجرد نموذج للغة الإنجليزية باعتبارها نظامًا صوريًّا، وهو ما لا يَفِي بالغاية على الإطلاق باعتباره نموذجًا تعليميًّا؛ لأنه لا يُفيدنا بشيء عن التفاعل والسياق. والمسألة الثانية تتعلق بالسياق، أي بأن العلاقات الاجتماعية هي التي تتحكم في الخطاب من خلال اعتماد الخطاب على «الموارد الذاتية» للمشاركين، ومن خلال إسهامات الخطاب في تشكيل هذه العلاقات الاجتماعية. وأنا أرى أن النموذج المناسب لتعليم اللغة عليه أن يُبرز طبيعة الخطاب واللغة التي يُشكلها المجتمع وتُشكل المجتمع.

والواضح أن اختيار النموذج يعتمد على رأي المرء في تعليم اللغة، وفي التعليم بصفة عامة. وأعتقد أن علينا التمييز بين التعليم والتدريب، وأن هذا ينطبق على اللغة مثلما ينطبق على العناصر الأخرى للمنهج الدراسي. فالآراء النفعية في تعليم اللغة المشار إليها آنفًا تبدو لي موجهةً إلى التدريب؛ إذ تركز على نقل المعارف والمهارات، مفترضةً أن مضمونها لا إشكالية فيه، ومتجاهلة أصولها الاجتماعية. ويصادف المرء تصورًا مماثلًا للتعليم الأدبي، عادة ما يدعو إليه هؤلاء الأشخاص أنفسهم، باعتباره نقلًا للقيم الثقافية المهيمنة، وتعليم الأطفال ما تعتبره الحكمة التقليدية «أدبًا عظيمًا». وأنا أقول: إن التعليم على العكس من ذلك ليس مجردَ نقل أو تقديم أشياء (وإن كان يتضمن ذلك إلى حد ما) بل إنه يتمثل في تنمية الوعي النقدي للطفل ببيئته ووعيه الذاتي النقدي وقدرته على الإسهام في تشكيل عالمه الاجتماعي وإعادة تشكيله.

ومن ثَم فليس من التعليم في شيء أن نُقدِّم إلى الأطفال أيَّ عنصر من عناصر بيئتهم الاجتماعية التي صنعها الإنسان وتتعرض للتغيير على أيدي الإنسان كأنما هو عنصر من عناصر البيئة الطبيعية التي لا سلطان لهم عليها. ومع ذلك، فإن هذه الرؤية «التغريبية» للغة على وجه الدقة [أي التي تفصلها عن المجتمع] هي التي دأبت التقاليد على نقلها في المدارس [إلى التلاميذ]. فالذي نفتقده في حالات جد كثيرة هو منظور اللغة بصفتها نتاجًا للمجتمع ومنتجةً له، وهو ما يؤدي إلى تقديم نظم الخطاب التي أُضْفيَت عليها المشروعية والصبغة الطبيعية، كأنما هي مشروعة وطبيعية أصلًا، وإلى اعتبار التخفيض الاجتماعي لقيمة اللهجات المحلية عند معظم الأطفال تعصبًا لا عقلانيًّا لا أثرًا من آثار علاقات السلطة، وإلى الاستهانة بالتشكيل الأيديولوجي للخطاب والخطأ في تصويره في صورة سوء استخدام اللغة «المثقلة» بالدلالات من جانب أفراد لا خلاق لهم. ومن شأن أمثال هذه الأساليب المستخدمة في تصوير اللغة أن تمنع الأطفال من تفهُّم اللغة باعتبارها المادة اللازمة للوعي النقدي، أي أن تمنع تحقيقَ أيِّ توجُّه تعليمي حقيقي للغة.

وتقول حجتي: إن مثل هذا التوجه لا بد أن يقوم على أساس نموذج نقدي للُّغة مثل الدراسة النقدية للغة. ومفهوم تعليم اللغة الذي أقترحه يؤكد تنمية الوعي النقدي بين الأطفال بأنماط الخطاب في مجتمعهم، أو ما سوف أدعوه الوعي النقدي باللغة. وحجتي تُرجع صدى انتشار القبول الذي نشهده حاليًّا لضرورة جعل «الوعي اللغوي» عنصرًا من عناصر المناهج المدرسية، وإن كان مضمون برامج الوعي اللغوي القائمة ليس بصفة عامة نقديًّا!

(١-٣) المبادئ الإرشادية

يرتبط الوعي أو الإدراك بعلاقة جدلية بالممارسة و(بما قلت آنفًا إنه) الكفاح.

وليست الغاية من تعليم اللغة تحقيق الوعي لذاته، بل باعتباره عنصرًا لازمًا لمسايرة نمو قدرات الأطفال على إنتاج الخطاب وتفسيره. ولستُ أشير هنا وحسب إلى تنمية قدرات كلِّ طفل فرد، بل أيضًا إلى تنمية القدرات الجماعية للأطفال المنتمين إلى الفئات المقهورة اجتماعيًّا. وأنا أميل إلى اعتبار هذه المهمة مهمةَ التحرر الأولى لتعليم اللغة؛ إذ إن الوعي النقدي باللغة يُسهِّل بناء «الخطاب التحرري» (انظر أدناه) الذي يطعن في نظم الخطاب المهيمنة، ويخترقها، وقد ينجح أخيرًا في تغيير شكلها، أي باعتباره جانبًا من جوانب كفاح الفئات المقهورة اجتماعيًّا ضد الكتلة المهيمنة.

أي إن «المبادئ التي ينبغي أن تُرشد المعلمين إلى المدى الذي ينبغي الوصول إليه في شرح هذا النموذج للتلاميذ وأساليب هذا الشرح»، ومن ثَم «ما ينبغي أن يتعلمه التلاميذ»، ذوات جذور راسخة في هذا التصور للعلاقة ما بين تنمية القدرات اللغوية والوعي النقدي باللغة. والشكل ٩-١ يمثِّل، منهجيًّا، نموذجًا لتعلُّم اللغة يتفق مع التصور المطروح هنا، ويمكن أن ينطبق إما على تعليم الأطفال الأفراد، أو على التعليم الجماعي للفئات الاجتماعية من الأطفال.
ويقدم هذا النموذج مبدأَين إرشاديَّين رئيسيَّين:
  • (١)

    اقتران الوعي بالممارسة: أي إن تنمية القدرات اللغوية للأطفال يعتمد على الاقتران بين الممارسة الهادفة للخطاب وبين الوعي النقدي باللغة.

  • (٢)

    البناء على أسس الخبرة: أي إن الوعي النقدي باللغة ينبغي أن يُبنى على القدرات اللغوية الموجودة وعلى خبرة الأطفال.

fig28
شكل ٩-١: تعلم اللغة.

وسوف أناقش هذا بالترتيب:

من المفيد عند مناقشة أول هذين المبدأين أن نميِّز بين مستويَين في تنمية الوعي النقدي باللغة:
  • المستوى الأول: الوعي بالموارد الذاتية في الإنتاج والتفسير.
  • المستوى الثاني: الوعي بالعوامل الاجتماعية التي تتحكم في الموارد الذاتية.

ينتمي المستوى الأول إلى مرحلة التفسير في الإجراءات التي قدَّمتُها في الفصلين الخامس والسادس. ويتعلق بمساعدة الناس على الوعي بما لديهم من موارد حافلة منوعة للخطاب، وكيف ينهلون منها عند إنتاج النص وتفسيره. ويتمثل جانب مما يحدث هنا في التفهم الصريح للغة بصفتها نظامًا صوريًّا، وأما التركيز هنا فينصبُّ على إدراك القدرات الكامنة في اللاوعي. وهكذا فإن مبدأ اقتران الوعي بالممارسة يُوحي من ناحية بأن أفضل سبيل إلى تحقيق هذا الوعي هو تنمية الوعي الذاتي لدى الأطفال بالخطاب الهادف الخاص بهم (أي الخطاب الذي يمارسونه بأنفسهم باعتبارهم منتجين له أو مفسرين له لتحقيق أغراض حقيقية، لا ما يمارسونه كتدريب أو ما يمارسه الآخرون)، كما يُوحي من ناحية أخرى بأن نطاق الخطاب الهادف المتاح للأطفال سوف يتسع بنموِّ وعيِهم.

وينتمي المستوى الثاني إلى مرحلة الشرح في الإجراءات المشار إليها. فما إن يزدَدْ وعيُ الأطفال بالوظائف التي تقوم بها مواردهم الذاتية في الخطاب حتى يتسنَّى لهم طرحُ الأسئلة عن أصولها الاجتماعية، وآثارها الأيديولوجية في علاقات السلطة، وكيف يمكن إعادة إنتاج الموارد الذاتية والعلاقات الاجتماعية التي تقوم عليها هذه الموارد في الخطاب. والمستوى الثاني من مستويات الوعي ذو أهمية جوهرية للمدارس التي تريد تنمية القدرات اللغوية للأطفال إلى الحد الذي يسمح لهم بفحص الممارسات والقيود القائمة على المنطق السليم والخاصة بنظم الخطاب المهيمنة حاليًّا، والطعن فيها وتغييرها، بدلًا من تدريب الأطفال وحسب على إجادة الالتزام بالأعراف السائدة. ومبدأ اقتران الوعي بالممارسة يُوحي بأن الوعي بالسيطرة الاجتماعية على الخطاب الهادف للفرد وآثاره يعتبر وسيلةً فعالة؛ لتحقيق الوعي النقدي على هذا المستوى الذي يوسع من حدود الأعراف ويخرقها، في غيار الكفاح الفردي، والكفاح الجماعي بصفة خاصة.
ويعني مبدأ اقتران الوعي بالممارسة تحديد ما ينبغي أن يتعلمه الأطفال عن اللغة، وأما مبدأ البناء على أسس الخبرة (كما سوف نرى) فيبين كيف ينبغي تعليمهم ذلك. ينبغي أن يطلع الأطفال على «نموذج» واضح للغة؛ لأن تنمية القدرات اللغوية تعتمد على الوعي النقدي باللغة، على نحو ما قلته عاليه. والحق أن لنا أن نعتبر أن القدرة على الحديث أو الكتابة النقدية عن اللغة تمثِّل في ذاتها جانبًا مهمًّا من جوانب القدرات اللغوية الكامنة لدى الطفل، وتسهل غيرها من القدرات أيضًا. وهذا يتطلب ميتالغة، أي لغة للحديث عن اللغة، وإن كان لا بد من وضعها بعناية حتى لا تمثِّل للأطفال لغةً غريبة أو رطانة. وإذا ما توافر «النموذج» الذي أقترحه، فعلى هذه الميتالغة أن تُمكن الأطفال من الحديث عن النصوص، والتفاعلات، والسياق الاجتماعي، أو جميع مراحل الإجراءات التي قدمتها في الفصلين الخامس والسادس، وهي الوصف والتفسير والشرح.
ويقول المبدأ الثاني: إن الوعي النقدي باللغة ينبغي أن يُبنى على ما لدى الطفل فعلًا من قدرات وخبرات لغوية. فالأطفال (والناس عمومًا) يتمتعون بفهم قائم على المنطق السليم لأسلوب أداء ما يستطيعون أداءَه لغويًّا وأيضًا لمسائل أخرى كالتمييز بين أنماط الخطاب أو مواقع الذات المتاحة لهم وغير المتاحة، وكيف تتعرض لغتُهم لإعلاء قيمتها الاجتماعية أو تخفيضها بالقياس إلى غيرها وهلمَّ جرًّا. ويزعم مبدأ البناء على أسس الخبرة أن الوعي اللغوي، مثل الوعي الاجتماعي بصفة عامة، يمكن تنميتُه بأقصى قدر من الفعالية إذا تلقَّى الأطفال المساعدة على التعبير لغويًّا عن مثل هذا الفهم وهذه الخبرة، وإذا أصبحت تعبيراتهم المذكورة أساسًا لبناء الوعي.
ويأتي بنا هذا إلى السؤال: كيف ينبغي أن يتعلم الأطفال الأمور المتعلقة باللغة، وأنا أقترح دورةً من ثلاث مراحل:
  • (١)
    تأمل الخبرة: يطلب من الأطفال تأمل خطابهم الخاص وخبرتهم بالقيود الاجتماعية المفروضة عليه، وأن يعبروا عن تأملاتهم لتلاميذ فرقتهم.
  • (٢)
    منهجةُ الخبرة: يبين المعلم للتلاميذ كيف يعبرون عن هذه التأملات بشكل منهجي حتى تكتسب صفة المعرفة.
  • (٣)
    الشرح: تصبح هذه المعرفة مادة للمزيد من التأمل والتحليل من جانب التلاميذ ابتغاء التوصل إلى شروح اجتماعية (انظر المستوى الثاني من الوعي باللغة عاليه).

    ثم إننا نجد عنصرًا رابعًا في الدورة نتعرف عليه داخل المبدأ الأول وهو:

  • (٤)
    تنمية الممارسة: إذ يستخدم الوعي الناشئ من ١–٣ في تنمية قدرة الطفل على ممارسة الخطاب الهادف.

ومن الممكن تكرار الدورة على الدوام: فمع نمو الوعي، يصبح من الممكن زيادة التأمل والفحص باطراد للخبرة الماضية والممارسة المتطورة، ويمكن أن تصبح مساهمة المعلم ذات ثقل أكبر وهلمَّ جرًّا.

وهاكم الآن مثالًا، منهجيًّا بالضرورة، لإيضاح هذه الدورة. قد نختار التركيز على خبرة الأطفال بالكتابة، بهدف توسيع قدرتهم على استخدام اللغة المكتوبة في مجالات تقضي الأعراف باستبعادهم منها، مثل كتابة التاريخ. وليس في هذا الإجراء أي جديد؛ فكثير من معلِّمي اللغة الإنجليزية يلجئون إليه. ولكن الذي لا يفعلونه بصفة عامة هو ربطه منهجيًّا بتنمية الوعي النقدي بالأسلوب الذي أقترحه. وفي حدود الدورة المذكورة، للمعلم أن يطبق الإجراء بالخطوات التالية:
  • (١)

    تأمل الخبرة: اطلب من الأطفال النظر في استخدام الكتابة بدلًا من الكلام ووصف أغراض ذلك، أي ما يرون أن الكتابة ترمي لتحقيقه، وأغراض الكتابة عندما يستخدمها غيرهم، وتصورهم لأنواع الكتابة التي تأتي بأرفع منزلة اجتماعية.

  • (٢)

    منهجة الخبرة: قدِّم عرضًا منهجيًّا للفوارق بين الكلام والكتابة، والمنزلة الاجتماعية لشتى استخدامات الكتابة، وتوزيع إمكانات المشاركة في الاستخدامات ذات الهيبة.

  • (٣)

    الشرح: استخدم (١) و(٢) أساسًا لتأمل التلاميذ للأسباب الاجتماعية التي تفرض القيود على إمكان المشاركة في الاستخدامات ذات الهيبة؛ وليكن التركيز على التاريخ، والقيود المفروضة على مَن يكتب التاريخ، وعلى مادته، وعلى اللغة التي يكتب بها، وهلمَّ جرًّا.

  • (٤)
    تنمية الممارسة: نظم للأطفال مشروعًا لكتابة التاريخ، بحيث يُشجعون على توسيع الأعراف وخرقها في كتابة التاريخ، وقد يكون ذلك «أ» بكتابة تاريخ فئة معينة؛ مثل: النساء أو الأطفال في المجتمع المحلي؛ إذ كثيرًا ما لا يكتب تاريخ هذه الفئات، و«ب» باستخدام لغة في الكتابة لا تستخدم عادةً لأمثال هذه الأغراض، مثل لغة من لغات الأقليات أو مستوى غير معياري من مستويات اللغة الإنجليزية «ج» إذا كانوا مؤرخين جادين، أي إن كانت كتابتهم ترمي إلى تحقيق غرض حقيقي وتتجاوز كونها تدريبًا، فمن الممكن تشجيعهم، قُلْ بإيداع نسخ من كتاباتهم التاريخية في مكتبة محلية.
ويرمي هذا التمرين في المرحلة الرابعة إلى أن يُنتج الأطفال ما أشرت إليه آنفًا بتعبير «الخطاب التحرري» أي الخطاب الذي يخرج عن الأعراف المهيمنة حاليًّا بصورة ما. ونستطيع التمييز بين الخطاب التحرري باعتباره وسيلةَ تمكين، والخطاب التحرري الذي يُسهم في تغيير نظم الخطاب القائمة. فأما التمكين فيعني أن الأشخاص الذين تستبعدهم الأعراف عن أنماط خطاب معينة أو مواقع ذات معينة داخل أنماط الخطاب، يتلقَّون العون على تجاوز الأعراف من دون تغييرها تغييرًا جذريًّا، «بدخولهم» أنماط الخطاب أو مواقع الذات المشار إليها. ويتسم التمكين بقدرة كامنة على إحداث «الصدمة»، ويستطيع مساعدة الناس على التغلب على إحساسهم بالعجز؛ وذلك بأن يبين لهم أن نظم الخطاب القائمة لا تستعصي على التغيير. وأما التحول في نظم الخطاب، فيعني الهدم المنتظم للنظم القائمة وإعادة بناء نظم جديدة، وفق ما عرضه الفصل السابع.

وإذن، فإن ملخص ما ذكرته استنادًا إلى المبدأَين الإرشاديَّين اللذَين قدَّمتُهما آنفًا يقول: إن تنمية القدرات اللغوية للأطفال ينبغي أن تتوسل بالجمع بين قدراتهم وخبراتهم الراهنة، ووعيهم النقدي المتنامي باللغة، وقدرتهم المتنامية على المشاركة في الخطاب الهادف.

المراجع

اعتمدت اعتمادًا كبيرًا في هذا الفصل على البحوث الخاصة بالوعي النقدي باللغة التي أجريتُها مع زملائي في جامعة لانكاستر، وغيرها؛ مثل كلارك وآخرين (١٩٩٠م) وكلارك وآخرين (١٩٩١م)، وفيركلف (1992b). وانظر أيضًا المجلة المتخصصة الوعي اللغوي ٢٠٠٨م، ١٩٩٩م. وفيما يتعلق بالوعي اللغوي انظر هوكنز (١٩٨٤م)، والمنهج القومي لتعليم اللغة الإنجليزية، (١٩٨٥م). كما وجدت أن فرير (١٩٧٢م) وفرير (١٩٨٥م) من الدراسات ذوات القيمة البالغة بسبب نظراتهما الثاقبة في التعليم، بما في ذلك فكرة الاعتماد على الضمير، وهي التي اعتمدت عليها عاليه. انظر أيضًا جيرو (١٩٩٧م). والمقتطفات الخاصة بتعليم الإنجليزية كلغة ثانية مقتطفة من بينهام (١٩٨٦م). وفيما يتعلق بالأهداف الرسمية لتعليم اللغة الإنجليزية، والمنهج القومي الذي وضع مؤخرًا انظر وزارة التعليم والعلوم (١٩٨٤م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤