الفصل التاسع

مملكة السامرة الكنعانية ٨٨٠–٧٢١ق.م.

لقد أوصلَنا القسم الأول من هذه الدراسة إلى أن الحديث عن إسرائيل ككيان سياسي أو إثني، خلال عصر الحديد الأول ومطلع عصر الحديد الثاني في القرن العاشر، قد غدا من ماضي البحث الأكاديمي الرصين، فالاسم إسرائيل لا يمكن إطلاقه على أي إقليم في فلسطين قبل حلول القرن التاسع قبل الميلاد. وحتى هنا، فإن الاسم لا يدل إلا على الدولة الإقليمية المعروفة بمملكة السامرة، والتي أسسها الملك عُمري باني عاصمتها المدعوة بالسامرة حوالي عام ٨٨٠ق.م.، قرب مدينة نابلس الحالية. إلى جانب الاسم السامرة، فقد دُعيت هذه المملكة في النصوص الحربية الآشورية ببلاد عُمري أو أرض عُمري؛ نسبةً إلى المؤسس الأول للمملكة. أما الاسم إسرائيل فلم يرِدْ بتاتًا في النصوص الآشورية، رغم أن أحد ملوكها، وهو آخاب ابن الملك عُمري، قد وُصِف بالإسرائيلي في نص للملك شلمنصر الثالث عام ٨٥٤ق.م. بينما ورد الاسم مرة واحدة في نص عُثر عليه في منطقة مؤاب بشرقي الأردن، يعود بتاريخه إلى القرن التاسع. وقد دون عليه ملك مؤاب، المدعو ميشع، أخبار احتلال عُمري، الذي وصفه بملك إسرائيل، لبلاد مؤاب، وكيف استطاع ميشع أخيرًا تحرير بلاده في عهد ابن عُمري، الذي لا يذكره النص بالاسم.

فالاسم إسرائيل، والحالة هذه، هو على الأغلب اسم لمنطقة جغرافية هي منطقة الهضاب المركزية بالمصطلح التاريخي والجغرافي الحديث، وتشتمل على الأراضي الهضبية الواقعة بين أورشليم ووادي يزرعيل. ومنطقة الهضاب هذه، تنحدر بشكل حادٍّ نحو غور وادي الأردن، بينما تنحدر بشكل تدريجي نحو السهول الساحلية، لتشكِّل سهل شفلح، أو ما يُدعى بمنطقة التلال المنخفضة (انظر الخارطة في الشكل رقم ٧-١). من هنا، فإن الصلة التي تعقدها الرواية التوراتية بين هذه الأرض والأسباط العشرة المدعوة ببني إسرائيل، هو من قبيل الإيتيولوجيا التي لا تقوم على أساس واقعي، وإسرائيل التي نعرفها تاريخيًّا هي مملكة فلسطينية محلية، وسكانها من الذخيرة الكنعانية لفلسطين الكبرى، ولا يوجد أي أساس تاريخي أو أركيولوجي يدفعنا لعقد صلة بين ملوك السامرة، المعروفين لنا جيدًا من النصوص الآشورية والمحلية، والملوك المزعومين للمملكة الموحدة، أو الافتراض، تماشيًا مع الرواية التوراتية، بأن المملكة الموحدة هي السلف المباشر لإسرائيل التاريخية هذه. وفي الحقيقة، فإن العكس هو الصحيح تمامًا؛ ذلك أن مفهوم دولة «كل إسرائيل» الذي اخترعته الرواية التوراتية المتأخرة، قد تمت صياغته انطلاقًا من الوجود التاريخي لإسرائيل-السامرة.

عاشت مملكة السامرة أقل من قرنين من الزمان، ولعبت خلال حياتها دورًا في سياسة العالم السوري خلال فترة المد الآشوري، إلى أن انتهت ككيان إثني وسياسي عندما دمر الآشوريون عاصمتها السامرة عام ٧٢١ق.م. وسبَوْا أهلها إلى آشور، وَفق سياسة التهجير الآشورية التي كانت تمارَس ضد الشعوب الثائرة المغلوبة. وخلال كل تلك الأحداث الجسام التي مرت بها هذه المملكة، لا يتوفر لدينا دليل واحد على أن جارتها الجنوبية يهوذا كانت تتمتع بأي نوع من الوحدة السياسية، أو أن أورشليم قد لعبت دورًا يُذكَر في السياسة الفلسطينية أو السورية، رغم أنها كانت خلال ذلك الوقت تزدهر وتعمل تدريجيًّا على السيطرة على مناطق يهوذا الواقعة إلى جنوبها. ولسوف نقدم فيما يلي من هذا الفصل عرضًا تاريخيًّا مكثفًا لمسار حياة هذه المملكة، التي جعلت من نفسها خلال فترة وجيزة أقوى دويلةٍ فلسطينية قامت خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد. وهي الفترة التي تعتبر من أكثر فترات التاريخ السوري امتلاءً بالأحداث والصراعات وصعود الممالك وزوالها السريع.

عندما تلاشت آخر آثار الجفاف الميسيني حوالي عام ١٠٥٠ق.م.، لم يكن الوضع الديمغرافي يسمح بقيام كيان سياسي ناضج وموحد في الهضاب المركزية، فمدينة شكيم، وهي المدينة الوحيدة الحقيقية في المنطقة (بالمعيار الفلسطيني)، كانت مدمَّرة منذ مطلع عصر الحديد وخالية من السكان (كينيون ١٩٨٥م، ص٣٤٢). أما حفنة البلدات الصغيرة التي كانت قائمة في عصر البرونز الأخير، مثل بيت إيل وجيعة وشيلوة، فلم تكن خلال عصر الحديد الأول إلا مواقع هزيلة إلى أبعد الحدود، ولا يبلغ عدد السكان في كلٍّ منها أكثر من بضع مئات (كينيون ١٩٨٥م، ص١٣٠-١٣١). ورغم أن الاستيطان كان يسير بشكل متسارع، إلا أن المنطقة في أواخر القرن الحادي عشر لم تحتوِ إلا على حوالي ٢٠٠ قرية صغيرة، لم يبلغ عدد سكانها مجتمعةً سوى بضعة آلاف.

إلا أن عودة معدلات الأمطار إلى حالتها الطبيعية في القرن العاشر، قد رفع من وتيرة الاستيطان، مثلما ساعد أيضًا على الزيادة المحلية في عدد السكان. وكان لتوفر الأدوات الحديدية دور في رفع كفاءة وفعاليات هذه التجمعات القروية؛ لأنها مكَّنتها من حفر خزانات لحفظ مياه الأمطار، وحفر آبار تصل إلى مصادر المياه التحتية في أراضٍ كانت المعاول البرونزية عاجزة عن نَقْبها، فازداد الإنتاج الزراعي وتنوَّع تبعًا للبيئة، حيث قامت بعض القرى بزراعة محاصيل الكفاف كالقمح والشعير وغيرها من أنواع الحبوب القابلة للخزن والاستهلاك المحلي، وقام البعض الآخر بالرعي وتربية الماشية، وبعضها باستصلاح المنحدرات الهضبية وتجهيز مصاطب تصلح للزراعات المتوسطية، مثل الكرمة والزيتون واللوزيات والفاكهة.

هذا الاقتصاد المتنوع قد شجع على التبادل التجاري بين البيئات. غير أن الزراعات المتوسطية تتطلب على الدوام سوقًا أوسع فأوسع؛ لأنها بطبيعتها منتجاتُ تبادلٍ نقدي. فمع ازدياد عدد القرى وارتفاع عدد سكانها ونمو محاصيلها، صار مصيرها رهنًا بتنظيم وترشيد تجارتها، وربط هذه التجارة بالأسواق الأبعد والأوسع، لقد غدت البنى السياسية البدائية غير مؤهلة للتصرف في الأوضاع الجديدة، وصارت عملية تصريف المنتجات المحلية بحاجة إلى إدارة مركزية قادرة على ربط شبكة التجارة المحلية المحدودة بشبكة التجارة الدولية، وخصوصًا بعد أن عاد التبادل التجاري الدولي إلى سابق عهده بين أقطار غرب آسيا الرئيسية، وراحت مدن فينيقيا تفتح أسواقًا جديدة عبر البحار (تومبسون ١٩٩٩م، ص١٦٤-١٦٥).

في هذا السياق التاريخي ظهرت إلى الوجود مملكة السامرة. ويبدو أن المقر الإداري للبنية السياسية، التي كانت في طريقها للتحول إلى مملكة، كان في مدينة شكيم التي أعيد بناؤها حوالي عام ١٠٥٠ق.م.، بعد فترة انقطاع سكني دام قرابة قرن ونصف (كينيون ١٩٨٥م، ص٣٤٢). عندما آلت السلطة إلى قائد عسكري يدعى عُمري، وهو مؤسس أول أسرة ملكية في الهضاب المركزية، عمد إلى بناء مدينة السامرة ونقل مقره الملكي إليها، ملبِّيًا بذلك حاجة ذلك الإقليم المتزايدة إلى تنظيم شئونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي دخلت طور النضج. تم اكتشاف مدينة السامرة في الشمال من منطقة الهضاب، تحت تل الفرح الحالي الذي يشرف على المنحدرات الهابطة تدريجيًّا نحو وادي يزرعيل الاستراتيجي. ويبدو أن الملك عُمري قد اختار هذا الموقع لعاصمته بعناية؛ لأنه يؤمِّن له الاتصال عبر وادي يزرعيل بثقافتين راقيتين متجاورتين، هما الثقافة الفينيقية والثقافة الآرامية، كما يؤمِّن له إمكانية سهلة لتصريف منتجاته الزراعية الفائضة. وقد باشر عُمري ببناء عاصمته على النمط الفينيقي السوري الفخم، ولكن ابنه آخاب الذي كان معجبًا بالثقافة السورية الشمالية وبالثقافة الفينيقية المجاورة، والذي تزوج من أميرة فينيقية، هو من أعطى المدينة اللمسات الأخيرة كآية من آيات العمارة والتنظيم في فلسطين (كينيون ١٩٧١م، ص٧٢ وما بعدها).

تبدي قصور السامرة، والأبنية العامة فيها، تأثرًا كبيرًا بفن العمارة الفينيقية، حتى لتبدو وكأنها نتاج فينيقي صِرْف. وهذا ما يدل على البيئة الثقافية التي نشأت فيها مملكة إسرائيل، وعلى روابطها مع العالم الآرامي-الفينيقي الأوسع. ومن أهم ما كشفت عنه التنقيبات في قصور السامرة، مجموعة كبيرة من وحدات النحت البارز العاجية المخصصة لتزيين الجدران وقِطع الأثاث، وهي تنتمي إلى مدرسة فنية سورية في النحت مغرقة في القدم، نجد بوادرها الأولى في منحوتات إيبلا (٢٤٠٠ق.م.)، كما وصلتنا نماذج من هذا الفن النحتي من أوغاريت ومن جبيل (أواخر عصر البرونز الأخير). وهناك مجموعات عاجية شبيهة بمجموعات السامرة، وصلتنا من مواقع الممالك الآرامية في الشمال السوري، في حداتو (أرسلان طاش) وكركميش (جرابلس) وأرفاد وتل حلف وشمال (انظر الصورتين رقم ٢، ٣ في القسم المصور). ويبدو أن الآشوريين قد نهبوا مجموعات من هذه العاجيات خلال حملاتهم على مناطق ما وراء الفرات؛ لأن التنقيبات الأثرية في القصور الآشورية بموقع نمرود قد كشفت عن منحوتات عاجية مصنوعة بالأسلوب نفسه، وعندما تم الكشف عن أساسيات معبد حدد في قلعة حلب عام ١٩٩٧م، ظهرت مجموعات لوحات تحتية جدارية مصنوعة بالأسلوب نفسه، تعتبر من أجمل آثار النحت السوري المكتشَف حتى الآن. ورغم اختلاف تقنية النحت على الحجر عن تقنية حفر العاج، إلا أن صانع تلك المنحوتات بدا كأنه يتعامل مع سطح عاجي، وبالأسلوب السوري المعروف من مطلع الألف الأول قبل الميلاد.١

مع نشوء مملكة السامرة في مطلع القرن التاسع، كانت الفترة نفسها تشهد ازدهارًا كبيرًا للمدن الفلسطينية؛ سواء في وادي يزرعيل (مجدو، بيت شان، تعنك، يزرعيل)، أو في سهل شفلح (لخيش، جرار، بيت شميش)، أو في السهل الفلستي (أشدود، أشقلون، غزة، عقرون، جرار). إلا أن أيًّا من هذه المدن لم يحقق دولة إقليمية تعادل في قوتها ومساحتها دولة السامرة، وإنما بقيت على ما كانت عليه في عصر البرونز، كمدن تحكمها أُسر ملكية متنفذة، تسيطر على مساحة صغيرة تحيط بها. ومن ناحية أخرى، فقد شهدت هذه الفترةُ أيضًا نشوء ممالك صغيرة في شرقي الأردن، مثل عمون ومؤاب وإدوم، أفادت من عودة النشاط التجاري على طريق الملوك الدولي. وإلى الشمال، كانت مملكة دمشق الآرامية (أو آرام دمشق، كما يدعوها النص التوراتي) قد تحولت إلى أقوى قوة في وسط وجنوب سورية، وامتدت سيطرتها شرقًا نحو البقاع اللبناني، وغربًا نحو الفرات، وجنوبًا إلى ما وراء الجولان، وشمالًا حتى حدود مملكة حماة. أما المدن الفينيقية الساحلية، من أرواد شمالًا إلى يافا جنوبًا، فقد تحولت إلى قوًى تجارية مهمة في شرقي المتوسط، وراكمت ثروات طائلة من تجارتها البحرية غربًا. وكانت صور أهم هذه العواصم البحرية، وقد ساعد على دعم مركزها كونُها مقرًّا لملوك صيدون الذين كانوا يحكمون من بلاطهم فيها أهم قوتين بحريتين على شواطئ المتوسط في ذلك الوقت.

يقول لنا محرر سفر الملوك الأول في كتاب التوراة، بأن الملك عمري كان قائدًا للجيش في مدينة ترصة التي انتقل إليها مقر السلطة بعد شكيم، وأنه استولى على الحكم في انقلاب عسكري، ونصب نفسه ملكًا في ترصة مدة سنتين، قبل أن يبني مدينة السامرة وينقل مقره الملكي إليها (الملوك الأول: ١٦). وفي الحقيقة، فإن عُمري هو أول شخصية في قصة بني إسرائيل التوراتية، يتقاطع عندها النص التوراتي مع المصادر النصية الخارجية. وبدءًا من عصر عُمري تبدأ بعض أحداث وشخصيات الرواية التوراتية بالتقاطع مع الأخبار التاريخية. ويعود السبب في ذلك إلى قرب القرن التاسع نسبيًّا من فترة تدوين التوراة، وبقاء بعض الأحداث حية في الذاكرة الشعبية وفي الأدب الفولكلوري. يضاف إلى ذلك أن بيروقراطية البلاط الملكي في السامرة (وبعدها في أورشليم) قد بدأت بتقليد بيروقراطية القصور الملكية في عواصم الشرق الكبرى، وراحت تدوِّن أخبار البلاط في حوليات تشبه ما نعرفه عن حوليات ملوك فينيقيا المذكورة في المصادر التاريخية، وأشهرها حوليات ملوك صور التي ترد في كتابات فيلو الجبيلي وميناندر الإفسوسي من العصر الكلاسيكي المتأخر. ويبدو أن نُتَفًا من حوليات ملوك إسرائيل وحوليات ملوك يهوذا (التي يذكرها المحرر التوراتي تحت عنوان أخبار الأيام لملوك يهوذا، وأخبار الأيام لملوك إسرائيل) قد وصلت إلى محرري التوراة، ولكن ليس بنصها الأصلي، بل من خلال مراجع ثانوية هي أقرب إلى مدونات الأدب الشعبي منها إلى السجلات الدقيقة. يدلنا على ذلك مدى ابتعاد الأخبار التوراتية، التي تغطي فترة مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، عما صرنا نعرفه الآن عن تاريخ تلك الفترة، وامتلائها بالفجوات والأحداث الخيالية التي يفرضها المنظور الأيديولوجي للقائمين على التدوين. فالمحرر التوراتي لم يكن يهدف إلى تقديم مسردٍ تاريخي محقق ومدقق، بقدر ما كان يسعى إلى تقديم قصة لاهوتية عن أصول بقية يهوذا العائدة من السبي البابلي.

إن الصورة التي يقدمها محررو سفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني عن أصول مملكة إسرائيل؛ هي أن هذه المملكة قد نشأت عقب وفاة الملك سليمان،٢ واستقلال عدوه السابق يربعام بالمناطق الشمالية التي سكنتها دائمًا الأسباط المعروفة بأسباط إسرائيل في الرواية التوراتية، كما أن هذه المملكة قد ورثت مناطق نفوذ سليمان في وادي يزرعيل والجليل. إلا أن الصورة التاريخية لما كان يجري في القرن التاسع كانت أكثر تعقيدًا بكثير من ذلك. فقد كانت مرتفعات الجليل منذ القرن العاشر تحت السيطرة غير المباشرة لكلٍّ من مملكتَي صور ودمشق، بحيث بسطت دمشق نفوذها على الجليل الشرقي، وبسطت صور نفوذها على الجليل الغربي. أما بخصوص مدن وادي يزرعيل التي كانت تزداد ازدهارًا مع زيادة الإنتاج الزراعي ونشاط حركة التجارة عبرها، فقد تحكمت صور بمدينة يزرعيل الواقعة عند مدخل الوادي شرقًا، والتي يمر بها الطريق التجاري الساحلي قبل صعوده نحو فينيقيا، وتحكمت دمشق ببقية المدن وصولًا إلى بيت شان عند مخرج الوادي شرقًا. وبذلك بقيت مدن الوادي في حالة تمزق سياسي، ترتبط بمعاهدات حماية مع القوى الكبرى (تومبسون ١٩٩٩م، ص١٨٠). ورغم أنه لا يوجد لدينا ما يشير إلى أن مملكة دمشق قد وسعت حدودها جنوبًا لتشمل عمون ومؤاب، إلا أنه من المنطقي أن دمشق لم تكن لتترك طريق الملوك الدولي الذي ينتهي إليها تحت رحمة ملوك هاتين الدولتين، ولا شك أنها عمدت إلى ربطهما بمعاهدات حماية تضمن لدمشق مصالحها التجارية.

عندما شعر ملوك السامرة بالقوة بدءوا بالتطلع إلى وادي يزرعيل، المنفَذ الوحيد لتجارة السامرة، سواءٌ باتجاه فينيقيا أم باتجاه آرام. ورغم أنه لا يوجد لدينا من الدلائل ما يشير إلى أن وادي يزرعيل قد وقع تحت السيطرة المباشرة لبلاط السامرة، إلا أننا نرجح أن مدنه قد ارتبطت بمعاهدات تبعية مع السامرة منذ عهد الملك عُمري، وكذلك الأمر فيما يتعلق بمدن الجليل. بعد ذلك تطلعت السامرة نحو مناطق شرقي الأردن التي يعبُرها طريق الملوك الدولي، وبدأت بإحكام نفوذها على عمون ومؤاب من خلال معاهدات حماية وتبعية. ولدينا من سفر الملوك الثاني الإصحاح الثالث ما يؤيد ذلك؛ لأن محرر السفر يخبرنا بأن ميشع ملك مؤاب كان يؤدي جزية إلى ملك إسرائيل قوامها آلاف من الماشية كلَّ سنة.

ويبدو أن ملك مؤاب قد تلكأ أو امتنع عن تأدية الجزية، فاتخذ عُمري من ذلك ذريعة لوضع مؤاب تحت السيطرة المباشرة لإسرائيل. وهذا ما يحدثنا عنه نص تاريخي على جانب كبير من الأهمية، وُجد منقوشًا على نصب تذكاري بمنطقة ديبان في شرقي الأردن. نقرأ في السطور الأولى من النص ما يلي: «أنا ميشع ملك مؤاب الديباني. أبي مَلَكَ على مؤاب ثلاثين سنة، وأنا ملكتُ بعد أبي، وبنيت هذا المرتفع للإله كموش؛ لأنه نصرني على كل الملوك، وأعانني على أعدائي، لقد أذل عمري ملك إسرائيل مؤاب أيامًا كثيرة؛ لأن الإله كموش كان غاضبًا على أرض شعبه. ثم خلفه ابنه وقال: سأُذلُّ مؤاب أيضًا في أيامي. ولكن كموش جعلني أراه مهزومًا أمامي، وإسرائيل انمحق، انمحق إلى الأبد. لقد احتل عُمري كلَّ أرض مأدبا، وأقام عليها كل أيامه وأيام ابنه أربعين سنة، ولكن كموش أرجعها في أيامي.»٣

هذه النشاطات التوسعية للملك عُمري، قد وضعته في مواجهة مباشرة مع كلٍّ من مملكة آرام دمشق ومملكة صور، فقد كانت دمشق في مطلع القرن التاسع أقوى دولةٍ سورية في مناطق غربي الفرات، ورغم أنها لم تَسْعَ إلى تكوين إمبراطورية سورية على الطريقة المصرية والرافدينية، إلا أنها استطاعت تشكيل نظام إقليمي في مناطق غربي الفرات، يجمع كلمة الممالك السورية تحت لواء ملك دمشق، الذي كان يرأس الأحلاف العسكرية، ويقاوم المد التوسعي لآشور التي كانت قد بدأت بتكوين إمبراطورتيها في آسيا الغربية. أما صور فكانت أقوى المدن الفينيقية، وعاصمة لإمبراطورية بحرية تزداد توسعًا في جزر البحر المتوسط وعلى شواطئه البعيدة، ولم تكن هاتان القوتان لتسكتا عن طموحات المملكة الجديدة الناشئة في الهضاب الفلسطينية. ولقد تعامل عُمري مع صور بالوسائل الديبلوماسية؛ لأن إرضاءها كان سهلًا بسبب انشغالها بنشاطات ما وراء البحار أكثر من انشغالها بالمسائل الداخلية للعالم السوري، فعمد بلاط السامرة إلى الوسيلة الملكية التقليدية في عالم الدبلوماسية القديمة، وزوَّج ابنه المدعو آخاب من ابنة ملك صور المدعوة إيزابيل (إيزا-بعل). وبذلك ضمِنت صور وجود قوة حليفة تحمي مداخلها التجارية البرية، وضمن عُمري سكوت صور عن توسعاته في وادي يزرعيل ومرتفعات الجليل. ومصدرنا عن هذا الزواج هو الخبر التوراتي في سفر الملوك الأول ١٦: ٣٠-٣١. ولكن المواجهة مع دمشق صارت مؤكدة بعد اجتياز قوات السامرة لنهر الأردن وسيطرتها على مؤاب.

نقرأ في الإصحاحين ٢٠–٢٢ من سفر الملوك الأول عن ثلاثة حروب بين دمشق والسامرة، ابتدأها ملك دمشق الذي يدعوه النص التوراتي ﺑ «بن هدد»، وذلك في عهد آخاب بن عُمري. في المرة الأولى يهاجم ملك دمشق السامرة، يعاونه اثنان وثلاثون ملكًا من أتباعه، ويحاصرها مدة طويلة. وعندما تشتد المجاعة في السامرة، يخرج ملك إسرائيل بقواته في إحدى الليالي من البوابة، ويفاجئ ملك دمشق الذي كان يشرب ويسكَر مع حلفائه في الخيام، فيتشتت شمل القوات المحاصِرة، ويعود بن هدد إلى عاصمته. وبعد مُضي عام يعاود ملك دمشق وحلفاؤه الكَرَّة، ولكنه ينهزم أمام آخاب ويضطر إلى توقيع معاهدة صلح تنصُّ على فتح أسواق دمشق أمام تجار مدينة السامرة. بعد ثلاثة أعوام يتنازع الفريقان على أرض راموت جلعات الواقعة في شمال مناطق شرقي الأردن، وتقع حرب ثالثة تنجلي عن هزيمة جيش السامرة وإصابة آخاب إصابةً بالغة أدت إلى وفاته.

وفي الحقيقة، فإنه رغم أن كل الظروف كانت مهيَّأة لوقوع صدام بين دمشق والسامرة، بعد استيلاء عُمري على مؤاب وتهديده للمصالح الدمشقية في المنطقة، إلا أن المعارك المذكورة في سفر الملوك الأول ٢٠ و٢٢، والتي من المفترض أنها وقعت في عهد الملك آخاب (٨٧٤–٨٥٣ق.م.)، لا تتفق والوضع التاريخي في المنطقة خلال أواسط القرن التاسع قبل الميلاد. فنحن نعرف أن الملك الذي عاصر آخاب لم يكن اسمه بن هدد، بل هدد عدر، وأن آخاب قد حارب تحت إمرة هدد عدر في معركة قرقرة حوالي عام ٨٥٤ق.م.، عندما جمع هدد عدر اثني عشر جيشًا سوريًّا مع ملوكها، وحارب شلمنصر الثالث ملك آشور في موقع قرقرة على نهر العاصي، حيث أجبره على التراجع إلى ما وراء الفرات. وقد قدم آخاب إلى هذه المعركة، على ما يذكره النص الآشوري، ٢٠٠٠ عربة قتالية و١٠٠٠٠ جندي، بينما قدم هدد عدر ١٢٠٠ عربة و١٢٠٠ فارس، وقدَّم إرخوليني ملك حماة ٧٠٠ عربة و٧٠٠ فارس و١٠٠٠٠ جندي، وقد شكلت قوات هذه الممالك الثلاث القوة الضارية الرئيسية في حلف قرقرة.٤
ورغم أنني لست معنيًّا بالتوفيق بين الرواية التوراتية والمصادر التاريخية، إلا أن هذه المسألة تستحق أن نتوقف عندها قليلًا. فقد اقترح بعض الباحثين أن ابن هدد المذكور في الملوك الأول ٢٠ و٢٢، هو ابن هدد بن حزائيل، الخليفة الثاني لهدد عدر على عرش دمشق، وأن الحروب الثلاثة التي توردها القصة التوراتية لم تَجْرِ في عصر آخاب، وإنما في عصر أحد خلفائه المعاصرين لبن هدد بن حزائيل. وبما أن المحرر التوراتي كانت تنقصه المعلومات بخصوص فترة حكم آخاب (بدليل جهله بمعركة قرقرة التي شاركت فيها السامرة إلى جانب دمشق)، فقد وضع هذه الحروب في عصر آخاب.٥ ورغم أنني قد وقفت إلى جانب هذا الرأي في كتابي «آرام دمشق وإسرائيل»، لأنه بدا لي الأكثر منطقيةً بين الآراء المطروحة لحل هذه المشكلة، إلا أني أرى الآن، وبكل وضوح، أن الحروب الثلاث قد وقعت بين دمشق والسامرة خلال فترة حكم الملك عُمري، وأن خصمه الدمشقي كان بن هدد بن طبريمون بن حزيون، الذي نفهم من النص التوراتي أنه كان ملكًا على دمشق خلال الأحداث التي قادت إلى استيلاء عُمري على عرش السامرة.٦ (راجع الملوك الأول ١٥: ١٦–٢٠).

رغم أن آشور قد ابتدأت منذ القرن العاشر قبل الميلاد بوضع الممالك الآرامية في منطقة الجزيرة السورية تحت نفوذها، مع إبقائها على الأسر الحاكمة فيها واكتفائها بتحصيل الجزية والإتاوات، إلا أن المشروع الإمبراطوري الآشوري لم يوضع موضع التنفيذ الفعلي إلا في عهد الملك شلمنصر الثالث (٨٥٨– ٨٢٤ق.م.). فبعد ثلاث حملات واسعة على الممالك الآرامية في حوض الفرات والخابور، استطاع شلمنصر ضم مملكة بيت عديني إلى التاج الآشوري، وهي أقوى ممالك تلك المنطقة، وضمِن ولاء بقية الممالك ودفْعَها المنتظم للجزية. بعد ذلك، وفي السنة السادسة من حكمه، شن أكبر حملة له على مناطق غربي الفرات، افتتحت عصر الصراع السوري الآشوري الذي دام قرابة قرنين من الزمان. فقد عبر شلمنصر الفرات ووصل إلى حلب بعد أن استعرض قوته مجددًا أمام ملوك آرام، وفي حلب جمع الإتاوات من أهل المدينة، وقدم قربانًا إلى الإله حدد في معبده على قمة الأكروبوليس (القلعة الحالية)، ثم توجه شرقًا نحو أراضي إرخوليني ملك حماة، التي كانت تمتد حتى المنعطف الكبير لنهر العاصي في الشمال. ولكن هدد عدر ملك دمشق كان بانتظاره مع اثني عشر ملكًا عند موقع قرقرة عند ضفة العاصي، حيث جرت معركة من أشهر معارك ذلك العصر.

ورغم أن نص المسلة السوداء، التي نقش عليها شلمنصر أخبار حملته على حلف دمشق، يدَّعي انتصاره التام على المتحالفين، إلا أن مسار الأحداث اللاحق يُثبت بطلان هذا الادعاء؛ ذلك أن شلمنصر لم يتابع حملته جنوبًا، وكاتب نص المسلة السوداء لم يذكر شيئًا عن قتل أو أسر أيٍّ من ملوك التحالف، ولم يختتم نصه بالصيغة المعروفة في السجلات الحربية الآشورية: «وجعلتهم يركعون تحت قدمي ويقدمون لي الجزية.» والأهم من هذا كله هو أن الجيوش الآشورية قد غابت عن منطقة غربي الفرات بعد معركة قرقرة مدة خمس سنوات. وعندما عاد شلمنصر بعد ذلك في عام ٨٤٩ق.م.، وجد هدد عدر في انتظاره على رأس التحالف السابق. ترِدُ أخبار هذه الحملة الجديدة لشلمنصر في نص مختصر، يقول بعد وصف سريع لمسار الحملة: «… عند ذلك، هدد عدر ملك دمشق،٧ وإرخوليني ملك حماة، والملوك الاثنى عشر، وضعوا ثقتهم بقواتهم المشتركة، وشنوا الحرب ضدي، فقاتلتهم وانتصرت عليهم وغنمت عرباتهم وخيول فرسانهم ومعداتهم الحربية، فهربوا من وجهي طالبين سلامة أرواحهم.»٨ نلاحظ هنا عدم ذكر السامرة إلى جانب دمشق وحماة. فإما أن خلفاء آخاب الذي توفي بعد عام واحد من معركة قرقرة قد خرجوا من حلف دمشق، وإما أن السامرة لم تقدم على المعركة قوات يُعتدُّ بها، وأن كاتب النص قد أدرجها في عداد الاثنتي عشرة مملكة التي لم يذكر أسماءها. أما عن نتيجة هذه المواجهة السورية الآشورية الثانية، فإنه رغم اللهجة الدعائية المتبجحة للعاهل الآشوري، هنالك دلائل واضحة على هزيمة الآشوريين، فلقد كان على شلمنصر الثالث مواجهة التحالف نفسه بقيادة دمشق في حملاته الثلاث التي تلت، والمؤرخة بأعوام ٨٤٨ق.م. و٨٤٦ق.م. و٨٤٥ق.م. وتدل أخبار هذه الحملات أيضًا على عدم مقدرة الآشوريين تحقيق تقدُّم يُذكر في مناطق غربي الفرات خلال حياة هدد عدر.
توفي هدد عدر بعد الحملة الآشورية إثر مرضٍ عُضال، وذلك في زمنٍ ما خلال الفترة الواقعة بين عام ٨٤٥ق.م.، وهو تاريخ الحملة الآشورية الأخيرة التي يظهر في أخبارها هدد عدر على رأس التحالف السوري، وعامِ ٨٤١ق.م.، وهو تاريخ ظهور اسم خليفته حزائيل في السجلات الآشورية، كان حزائيل قائد جيش هدد عدر، ويبدو أنه استولى على السلطة بعد فترة من الاضطرابات والصراع على السلطة في البلاط الدمشقي؛ مما تلا وفاة هدد عدر. ولقد تابع الملك الجديد سياسة هدد عدر في التصدي لآشور، كما وليه على قيادة جيوش التحالف السوري، رغم أننا لا نعرف من سجلات شلمنصر عدد الممالك المتحالفة ولا نعرف أسماءها. نقرأ في أول نصر آشوري يذكر حزائيل ما يلي: «… هدد عدر مات واغتصب العرش حزائيلُ المجهولُ النسب،٩ فدعا الجيوش العديدة وثار ضدي، فقاتلته وهزمته وغنمت كلَّ مركباته، أما هو فقد هرب طالبًا حياته، فتعقبته حتى دمشق، مقره الملكي، حيث حاصرته وقطعت أشجار بساتينه.»١٠ نستشف من هذا النص أن حزائيل قد بقي سيدًا على مناطق غربي الفرات، وأن الملوك السوريين كانوا على عهدهم القديم مع دمشق، ومستعدين لتلبية ندائها كلما دعت الضرورة. ورغم أن شلمنصر الثالث قد أفلح لأول مرة في مطاردة الجيش الدمشقي إلى عاصمته، إلا أنه ارتد عنها دون تحقيق مكسبٍ ما، ولم يجد وسيلة ينتقم بها من حزائيل سوى قطع أشجار غوطة دمشق المشهورة منذ القِدم.

إلى جانب سياسته في الدعوة إلى الأحلاف المؤقتة، عمل حزائيل على عدم انحياز أيٍّ من الممالك السورية إلى الجانب الآشوري؛ لأن من شأن ذلك إضعاف موقف دمشق التي تحمل على عاتقها الجزء الأكبر من مسئولية التصدي للمد الآشوري. وعندما لم تكن تجدي الوسائل الدبلوماسية في توحيد كلمة الممالك، كان حزائيل يلجأ إلى التدخل العسكري ضد أية دولة تميل إلى مهادنة آشور وتدفع لها الجزية. وقد كانت إسرائيل أول دولة تطالها عقوبة حزائيل، فبعد وفاة هدد عدر مال يهورام (أو يورام) ابن آخاب وخليفته الثاني على عرش السامرة إلى مهادنة آشور، فانطلق حزائيل لمقاتلته وعسكر في راموت جلعاد، وهناك وقعت عدة معارك غير حاسمة بين الطرفين. ومصدرنا هنا هو الرواية التوراتية التي تقول، في سفر الملوك الثاني ٩: ٢٥–٢٩، بأن يهورام قد أصيبَ بجروح بليغة في هذه المعارك، فترك القيادة وانسحب إلى الداخل ليشفى من جروحه. ولكن أحد قادته، المدعو ياهو، تبعه إلى مكان نقاهته وقتله هناك وولي العرش بعده. أما حزائيل فقد وصلته أخبار عن عبور شلمنصر الثالث نهرَ الفرات في طريقه إلى وسط سورية والساحل الفينيني، فانسحب من راموت جلعاد وعاد إلى دمشق.

عمل حزائيل على تحصين دمشق، ثم انطلق لقطع الطريق على الجيش الآشوري عند سفوح جبل الحرمون. وهنا نقرأ في سجلات شلمنصر الثالث عن هذه الحملة المؤرخة في عام ٨٤١ق.م.١١ ما يلي: «في السنة الثامنة عشرة من حكمي، عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة. حزائيل ملك دمشق وضع ثقته بجيشه العرم، وجمع قواته بأعداد كبيرة، جاعلًا من جبل سنيرو المقابل لجبل لبنان قاعدة له. قاتلتُه، وهزمته، وجندلت ستة عشر ألفًا من جنوده الأشداء، وغنمت ١١٢١ عربة و٧٤٠ جوادًا وكلَّ معسكره. أما هو فقد هرب ناجيًا بحياته، فتعقبته إلى دمشق، المقر الملكي، وحاصرته هناك وقطعت أشجار بساتينه، ثم سرت إلى جبل حوران، فهدمت وأحرقت عددًا لا يُحصى من المدن، وأخذت منهم الجزية، ثم سرت إلى جبل بعل راسي (الكرمل) الذي يقع مقابل البحر، حيث أقمت نصبًا تذكاريًّا نقشت عليه صورتي. وهناك تلقيت الجزية من صور، ومِن صيدون، ومن ياهو بن عُمري.»١٢

نلاحظ من قراءة النص الآشوري، أعلاه، عدم ذكر اسم ملك صور أو اسم ملك صيدون، بينما تم ذكر اسم ياهو ملك إسرائيل. ولعل السبب هو أن صور وصيدون قد أرسلتا الجزية إلى الملك الآشوري في معسكره، أما ياهو فقد حضر شخصيًّا للقاء شلمنصر الثالث مؤكدًا له ولاءه المطلق. وهذا ما يؤكده نحت بارز محفور على خلفية المسلة السوداء، ضمن مجموعة صور أخرى، يمثل رجلًا بلباس كنعاني ساجدًا عند قدمي شلمنصر الثالث، وقد كتب تحته: «جزية ياهو بن عمري، تلقيت منه فضة وذهبًا، و… إلخ.»

أما عن تسمية النص الآشوري لياهو بابن عمري رغم عدم انتمائه لسلالة عمري،١٣ فيمكن تفسيره على ثلاثة وجوه: (١) فإما أن البلاط الآشوري لم يكن يعرف نسب الملك الجديد فاعتقد أنه من سلالة الملك عمري. (٢) وإما أن ياهو، الذي يدعوه نص سفر الملوك الثاني بياهو بن نمشي، كان من نسل عمري فعلًا ولكنه لم يكن من نسل آخاب، وأن أباه نمشي كان ابنًا لعمري من زوجة ثانية. (٣) وإما أن تعبير عمري هنا لا يدل على شخص الملك عمري، وإنما على إسرائيل التي تُدعى في النصوص الآشورية بأرض عمري، وبالتالي فإن في قوله «ابن عمري» ما يشبه قولنا بالعربية «ابن دمشق» أو «ابن حماة»، وهذا التفسير الثالث هو الأكثر منطقيةً في رأينا.

لا يذكر لنا محرر سفر الملوك الثاني شيئًا عن العلاقات الإسرائيلية الآشورية، ولا عن قيام عمري بالتوجه إلى مقر شلمنصر الثالث وتأديته الجزيةَ إليه؛ لأنه حتى هذه المرحلة من الرواية التوراتية عن أخبار السامرة، لم يكن قد سمع بقيام مملكة عظمى في وادي الرافدين اسمها آشور، ولم يكن يعرف بكل تلك الأحداث الجسام التي عصفت بالمنطقة السورية خلال القرن التاسع. لم تصله أخبار معركة قرقرة ولا مشاركة آخاب فيها، ولم يسمع بالملك العظيم هدد عدر ولا بكل تلك الأحلاف والحروب، ولا بدخول إسرائيل عالم السياسة الدولية منذ حلف قرقرة. ولكنه في مقابل جهله بكل ما كان يجري على الساحة السورية شمالًا وجنوبًا، فقد كانت في حوزته نُتَف متفرقة من أخبار حروب حزائيل ملك دمشق في فلسطين، وإخضاعه للسامرة أخيرًا، ولقسم واسع من فلسطين الكبرى.

كان حزائيل قد انسحب من راموت جلعاد عام ٨٤١ق.م. لمواجهة شلمنصر عند جبل الحرمون، ثم شغلته المعارك التالية مع آشور حتى عام ٨٣٧ق.م. وعندما تأكد لديه عدم نية الآشوريين شنَّ حملات جديدة على غرب الفرات، بدأ يضغط على مناطق التواجد الإسرائيلي في المناطق الشمالية من شرقي الأردن، حتى دفع بالقوات الإسرائيلية إلى ما وراء نهر الأردن. نقرأ في سفر الملوك الثاني: «ولكن ياهو لم يتحفظ للسلوك في شريعة الرب من كل قلبه. في تلك الأيام ابتدأ الرب يقص إسرائيل، فضربهم حزائيل في جميع تخوم إسرائيل، من الأردن لجهة مشرق الشمس، جميع أراضي جلعاد … إلخ.» (١٠: ٢١–٣٣).

بعد وفاة ياهو انتقل الصراع إلى أراضي إسرائيل ذاتها، فقد عبر حزائيل الأردن وهزم يهوآحاز بن ياهو في عدة معارك، ثم طارده إلى السامرة وأجبره على توقيع معاهدة مذلة. وهذا ما نستنتجه من الأخبار الغامضة في سفر الملوك الثاني، حيث نقرأ: «ثم مَلَكَ يهوآحاز بن ياهو على إسرائيل في السامرة سبع عشرة سنة، وعمل الشر في عيني الرب … فحميَ غضب الرب على إسرائيل فدفعهم ليدِ حزائيل ملك آرام، وليد ابن هدد بن حزائيل كل الأيام … لأنه لم يبق ليهوآحاز شعبًا إلا خمسين فارسًا، وعشر مركبات، وعشرة آلاف فارس؛ لأن ملك آرام أفناهم ووضعهم كالتراب للدوس» (١٣: ١–٢٣). بعد إخضاع إسرائيل بسط حزائيل سلطته الكاملة على وادي يزرعيل، ثم خرج من الوادي نحو السهل الساحلي فأخضع مدنه، وصولًا إلى الساحل الفلستي، حيث حطت قواته في مدينة جت. ثم انقلب نحو الداخل، فأخضع مدن سهل شفلح، صاعدًا التلال المنخفضة نحو أورشليم، التي كانت في هذا الوقت من أواخر القرن التاسع قد بدأت بالازدهار، قبل أن يُلقي حزائيل حصاره على أورشليم، أعلن ملكها يھوآش خضوعه، وأرسل الجزية إلى حزائيل. نقرأ في سفر الملوك الثاني «حينئذ صعد حزائيل ملك آرام وحارب جت وأخذها، ثم حوَّل وجهه ليصعد إلى أورشليم. فأخذ يهوآش ملك يهوذا كل الذهب الموجود في خزائن بيت الرب وبيت الملك، وأرسلها إلى حزائيل ملك آرام، فصعد حزائيل عن أورشليم.» (١٢: ١٧-١٨).

وهكذا نجد أن منطقة وسط وجنوب سورية قد صارت بكاملها ضمن النفوذ الفعلي لمملكة دمشق في عصر حزائيل (انظر الخريطة في الشكل رقم ٩-١). وبما أننا نعرف من نصوص حملات شلمنصر الثالث أن حزائيل كان يستدعي جيوش حلفائه لمواجهة آشور، يمكننا القول بأن نفوذ دمشق كان يشتمل على معظم ممالك آرام في مناطق بلاد الشام الشمالية، تمامًا مثلما كان الأمر في عهد هدد عدر، خصوصًا وأن ابنه من بعده، المدعو ابن هدد بن حزائيل، قد ظهر على رأس تحالف ضمَّ أقوى تلك الممالك الشمالية، على ما نعرفه من نص آرامي تركه لنا ملك حماة ولوعاش، المدعو زاكير، وهذا يعني أن حزائيل كان قد وضع، قبل موته عام ٨٠٠ق.م.، أسس إمبراطورية امتدت من مملكة شمأل في أقصى الشمال السوري إلى حدود الصحراء في الجنوب، ومن الفرات شرقًا إلى سواحل المتوسط غربًا. ولقد ساعدته فترة النزاع على العرش في آشور عقب وفاة شلمنصر عام ٨٢٤ق.م.، وانشغال الجيش الآشوري بإخماد الفتن في المناطق الشرقية للإمبراطورية، على ترتيب أوضاع البيت الداخلي السوري بحرية وأمان لمدة ربع قرن أو تزيد.
fig18
شكل ٩-١: المناطق الواقعة تحت نفوذ حزائيل في سورية الجنوبية وفلسطين.

ارتقى ابن هدد بن حزائيل العرش حوالي عام ٨٠٠ق.م.، في وقت بدأت فيه بوادر عودة الآشوريين تلوح في الأفق. فقد ارتقى حدد نيراري الثالث عرش آشور عام ٨١٠ق.م.، وبعد أن رتب أمور بيته الداخلية أخذ يُعِد العُدة لاستئناف الحملات على غربي الفرات، وكان في غربي الفرات مملكتان على اتصال مع بلاد آشور ومستعدتان لرفض سلطة دمشق ودفع الجزية لآشور؛ هما مملكة حماة ومملكة إسرائيل. فمنذ حملة شلمنصر الثالث، المؤرخة بعام ٨٤٥ق.م.، لم تشارك حماة في حلف دمشق، ومن المرجح أنها فضلت دفع الجزية للآشوريين، في عهد خلفاء إرخوليني، على مواصلة القتال ضد القوة الآشورية الجبارة. أما إسرائيل التي أجبرها حزائيل على نقض العهد الذي قطعه ياهو مع آشور، فقد كانت تتحين الفرص للانتقام من ذل الهزيمة التي ألحقها بها حزائيل، وتفضل دفع الجزية لآشور على المواجهة معها إلى جانب عدو الأمس. من هنا، وسيرًا على سياسية أسلافه في الحيلولة دون انقسام موقف الممالك السورية، فقد عمد ابن هدد إلى قتال يوآش بن يهوآحاز، الذي كان قد وقَّع معاهدةَ تبعيةٍ مع دمشق. ومصدرنا عن هذه الحرب الجديدة هو الخبر التوراتي في سفر الملوك الثاني، الذي يدَّعي أن يوآش قد ضرب ابن هدد ثلاث مرات وانتصر عليه (الملوك الثاني ١٣: ٢٤-٢٥).

وفي الحقيقة، فإن خسارة ابن هدد أمام السامرة في ذلك الوقت، كان أمرًا مستبعدًا جدًّا؛ نظرًا لما نعرفه عن قوة ابن هدد العسكرية، ومدى نفوذه في بلاد الشام. فبعد محاربته لإسرائيل نجده يتجه لقتال زاكير ملك حماة على رأس حلف مؤلف من أقوى الممالك الآرامية، بينها مملكة شمأل، والعمق، وجوشي. ويكفي أن نذكر هنا أن مملكة جوشي التي قاتلت تحت إمرة ملك دمشق، كانت تبسط سيطرتها على كل الأراضي الممتدة من نهر الفرات شرقًا وحتى سهل العمق غربًا. من هنا، فإني أرجح أن الخبر التوراتي عن ربح السامرة لثلاث معارك ضد دمشق، في حال صحته، يشير إلى معارك وقعت بعد عصر ابن هدد، عندما بدأت قوة دمشق تضعُف نتيجةَ الضربات الآشورية المتلاحقة. ولعل مما يؤيد رأينا، هو أن المحرر التوراتي في هذا الخبر يناقض ما كان قد أورده في مطلع الإصحاح نفسه بأن إسرائيل قد وقعت تحت سيطرة دمشق كل أيام حزائيل وابنه ابن هدد.

بعد إخضاعه إسرائيل، صعد ابن هدد على زاكير ملك حماة الذي كان يسيطر على مملكة لوعاش الواقعة إلى شماليه، ويقيم في عاصمتها حاتريكا (تل أفس الحالي). وكان ابن هدد على رأس ستة ممالك سورية تقع جميعها في المنطقة الشمالية بين الفرات وشاطئ المتوسط، فألقى الحصار على زاكير في مدينة حاتريكا. وهنا يخبرنا نص تركه زاكير نفسه باللغة الآرامية عن مجريات هذا الحصار، وعن الجيوش التي شاركت فيه، ويقول في النهاية إن ابن هدد وحلفاءه قد اضطروا إلى فك الحصار عن حاتريكا والتراجع عن أسوارها.١٤
ونحن إذ لا نشكك في خبر نص زاكير بخصوص تراجع ابن هدد وحلفائه عن أسوار حاتريكا، فإننا نعتقد أن انسحاب ابن هدد قد جاء بعد سماعه بخبر اقتراب أولى حملات حدد نيراري الثالث على مناطق غربي الفرات. ومن المرجح أن المتحالفين قد تولوا عن زاكير واصطدموا بالآشوريين بعد عبورهم لنهر الفرات، ولكنهم تراجعوا وعاد كلٌّ إلى عاصمته بعد أن ظهر لهم تفوق الجيش الآشوري. أما بقية القصة فنقرؤها في نص آشوري مختصر وخالٍ من التفاصيل، يقول فيه حدد نيراري إنه قد عبر الفرات وأخضع سورية الشمالية (حاتي) وسورية الوسطى (أمورو)، ثم توجه نحو الساحل، فأخضع صور وصيدون، وأرض عمري، وفلستيا، وإدوم، ثم صعد إلى دمشق وافتتحها، وتلقَّى في قصر ابن هدد جزية دمشق.١٥ وكانت هذه هي المرة الأولى التي تدفع فيها دمشق الجزية لآشور منذ بداية الحملات المنظمة الآشورية على بلاد الشام. وبذلك ابتدأ العد التنازلي لسقوط دمشق، ولسقوط إسرائيل أيضًا التي اعتقدت أنها تستطيع النجاة من مطرقة آشور إذا خذلت دمشق.
يبدو أن ابن هدد قد توفي قبل عام ٧٧٣ق.م.؛ لأننا نعرف من وثيقة آشورية عُثر عليها في موقع كارشلمنصر،١٦ مقر الحاكم الآشوري على مناطق الفرات وبلاد الشام، أن دمشق قد تمردت في عام ٧٧٣ق.م.، وكان على عرشها في ذلك الوقت ملك يُدعى حديانو. وقد قام عامل الآشوريين في كارشلمنصر، المدعو شمسي إيلو، بقمع التمرد. وفي عام ٧٤٢ق.م. يَرِد في السجلات الآشورية ذكرُ ملك اسمه رحيانو. الذي نرجح أنه قد ولي على عرش دمشق حوالي عام ٧٥٠ق.م. وبناءً على ذلك نستطيع كتابة ثبْت بملوك آرام دمشق منذ ابتداء ظهور أخبارها في السجلات الآشورية، وَفق ما يلي:
هدد عدر ٨٦٠–٨٤٢ق.م.
حزائيل ٨٤٤–٨٠٠ق.م.
ابن هدد ٨٠٠–٧٧٣ق.م.
حديانو ٧٧٣–٧٥٠ق.م.
رحيانو ٧٥٠–٧٣٢ق.م.

أما ثبْتُ ملوك إسرائيل فيعطينا لائحة أطول من هذه بكثير، وذلك ابتداءً من الملك عمري الذي عاصر خلال النصف الثاني من فترة حكمه هدد عدر. ويرجع طول لائحة ملوك إسرائيل إلى كثرة الانقلابات السياسية وقِصَر فترات حكم الأسر المتعاقبة. وإليكم ثبْت ملوك إسرائيل وَفق المعلومات المستمدة من سفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني في النص التوراتي:

أسرة عُمري:

عُمري ٨٨٥–٨٧٤ق.م.
آخاب ٨٧٤–٨٥٣ ق.م.
أحزيا ٨٥٣-٨٥٢ق.م.
يورام ٨٥٢–٨٤١ق.م.
ياهو يقتل يورام

أسرة ياهو:

ياهو ٨٤١–٨١٤ق.م.
يهوآحاز ٨١٤–٧٩٨ق.م.
يربعام ٧٩٨–٧٥٣ق.م.
زكريا ٧٥٣-٧٥٢ق.م.
شالوم يقتل زكريا

عهد شالوم:

شالوم ٧٥٢ق.م.
مناحيم يقتل شالوم

أسرة مناحيم:

مناحيم ٧٥٢–٧٤٢ق.م.
فقحيا ٧٤٢–٧٤٠ق.م.
فَقِح يقتل فقحيا

عهد فَقِح:

فَقِح ٧٤٠–٧٣٢ق.م.
هوشع يقتل فَقِح

عهد هوشع:

هوشع ٧٣٢–٧٢١ق.م.
دمار السامرة
ونهاية مملكة إسرائيل

نأتي الآن إلى خاتمة هذه الفترة الحافلة، وهي الخاتمة التي شهدت نهاية كلٍّ من دمشق وإسرائيل، حيث تم إلحاق دمشق بالتاج الآشوري، وتدمير السامرة وسبْي أهلها إلى آشور.

في عام ٧٤٥ق.م. ارتقى عرش آشور الملك تغلات فلاصر الثالث (٧٤٥–٧٢٧ق.م.)، الذي وطد دعائم إمبراطورية مترامية الأطراف دامت بعده قرابة قرن كامل، وامتدت من إيران ضمنًا في الشرق إلى مصر ضمنًا في الغرب، ومن آسيا الصغرى ضمنًا في الشمال إلى أواسط شبه الجزيرة العربية في الجنوب. فبعد أن كانت سياسة ضم الأراضي المقهورة وحكمها بواسطة ولاة آشوريين، تمارَس على نطاق ضيق منذ عهد شلمنصر، فقد جعلها تغلات فلاصر ركيزة من ركائز حكمه وبسط سلطانه. كما أنه أسس لسياسة الترحيل المنظم للشعوب المغلوبة، وإحلال جماعات محلها يتم اختيارها من شعوب مغلوبة أخرى. وبذلك تمكنت آشور أخيرًا من حكم المناطق الثائرة بعد أن أفقدتها تكوينها السياسي وتجانسها الإثني. وقد غيرت سياسة الترحيل الآشورية الخارطة الديمغرافية للشرق القديم بكامله، بعد أن طالت أكثر من ١٠٠ شعب وَفق معلومات السجلات الآشورية ذاتها.

في حملاته الاستعراضية الأولى، أجبر تغلات فلاصر جميع ممالك بلاد الشام الداخلية والساحلية على دفع الجزية لآشور. من ضمن هذه الممالك دمشق وإسرائيل، إضافةً إلى يهوذا التي يرِدُ ذكرها لأول مرة في السجلات الآشورية. نقرأ عن نتائج إحدى هذه الحملات ما يلي: «تلقيت جزية خاشتاشبي ملك قوماجين، وأوريك ملك قوية، وسيبيتي بعل ملك جبيل، وإنليل ملك حماة، وبنامو ملك شمال … ومتان بعل ملك أرواد، وسابينو بعل ملك بيت عمون، وسلمانو ملك مؤاب، وميتيني ملك أشقلون، وآحاز ملك يهوذا، وكوش ماليكو ملك إدوم، وهانو ملك غزة.»١٧ ونقرأ في: نص آخر: «تلقيت الجزية من رحيانو ملك دمشق، ومن مناحيم ملك السامرة، ومن حيرام ملك صور، ومن سيبيتي بعل ملك جبيل، ومن أوريك ملك قوية، ومن بيسيريس ملك كركميش، ومن إنليل ملك حماة، ومن بنامو ملك شمال … ومن زبيبة ملكة العرب.»١٨
بعد هذه الحملات الاستعراضية، يبدأ تغلات فلاصر بتطبيق سياسة ضم الأراضي على نطاق واسع. نقرأ في نص مفصل للعاهل الآشوري ما يلي: «… مدن حاتريكا وكل الأراضي إلى جبل سوا، ومدن جبيل، وسيميرا، وعرقاتا، وأوزنو، وعربا … مدن البحر الأعلى، جميعها بسطت نفوذي عليها ووضعت قوادًا من عندي لحكمها، وكذلك مدن … غالزا، وآبي ليكا، المتاخمة لأراضي عمري، وأرض … الواسعة بكاملها وحَّدتها مع مملكة آشور. أما هانو ملك غزة الذي هرب أمام قواتي والتجأ إلى مصر، فقد قهرت مدينته واستوليت على ممتلكاته وعلى صور آلهته، وأقمت صور آلهتي وصوري في قصره، فأعلنتها آلهة للبلاد، ثم فرضت على أهلها الجزية. وأما مناحيم (ملك السامرة) فقد انقضضت عليه كعاصفة ثلجية، فهرب من أمامي وحيدًا كعصفور، ثم عاد وسجد عند قدمي، فأعدته إلى قصره، وفرضت عليه الجزية فضة وذهبًا وعباءات حريرية مزركشة.»١٩ نلاحظ من هذا النص أن تغلات فلاصر قد أبقى على استقلال كلٍّ من غزة والسامرة، رغم إلحاقه بآشور بقية الممالك المذكورة في النص.

هذا ويتقاطع النص التوراتي هنا مع نصوص تغلات فلاصر الثالث في عدد من النقاط، ويختلف عنها في نقاط أخرى؛ فمناحيم قد استولى على السلطة في السامرة عام ٧٥٢ق.م.، بعد قتله شالوم الذي كان قد قتل زكريا آخر ملوك أسرة ياهو، وحكم مدة شهر واحد فقط، نقرأ في سفر الملوك الثاني ١٥: «… وصعِد مناحيم بن جادي من ترصة، وجاء إلى السامرة، وضرب شلوم بن يابيش، فقتله وملك عوضًا عنه … ملك مناحيم بن جادي على إسرائيل في السامرة عشر سنين، وعمل الشر في عيني الرب، فجاء فول ملك آشور على الأرض، فأعطى مناحيم لفول ألف وزنة من الفضة … فرجع ملك آشور ولم يُقِم في الأرض» (١٥: ١٤–٣٠). نلاحظ من هذا الخبر التوراتي أن المحرر قد أغفل هروب مناحيم ثم عودته، وأنه قد دعا ملك آشور بالاسم فول، وهذا الاسم غير معروف في ثبْت ملوك آشور، لا في هذه المرحلة التاريخية ولا فيما سواها من المراحل السابقة واللاحقة.

بعد ضياع ما يمكن للسامرة ودمشق أن تتنازعا عليه، وتوقُّعهما لحملة جديدة تلحقهما بآشور، قررت دمشق نقض عهد آشور والتوقف عن دفع الجزية، وإحياء سياسة التحالف السوري. ويبدو أن الملك رحيانو، الذي بدأ اسمه يظهر في سفر الملوك الثاني تحت اسم «رصين»٢٠ قد حاول استمالة كلٍّ من السامرة وأورشليم إلى جانبه، فوافقت السامرة، بينما رفضت أورشليم. فقد كانت مملكة يهوذا الناشئة حديثًا في ذلك الوقت تستفيد من الانهيار التام للبُنى السياسية من حولها، وتُثري على حساب الدمار المنتشر في المنطقة. وبما أن نصوص تغلات فلاصر الثالث لم تُشِر إلى أية مواجهة مسلحة مع يهوذا، خلال جميع حملاته على سورية الجنوبية وفلسطين، فإن من المؤكد أن ملوك أورشليم قد التزموا سياسة التبعية والعمالة لآشور على حساب جيرانهم، وهي السياسة التي ستفلح في إبقاء يهوذا مستقلة لأكثر من قرن قادم. من هنا، فقد قرر رحيانو مهاجمة أورشليم بمساعدة إسرائيل؛ من أجل إسقاط ملكها آحاز، وتعيين ملك عليها من المتعاونين معه اسمه ابن طبئيل. وكان ملك إسرائيل في ذلك الوقت هو فقح، الذي قتل فقحيا بن مناحيم، وحكم بدلًا عنه. ولعل مما ساعد رحيانو ملك دمشق على اتخاذ هذه الخطوة انشغالَ تغلات فلاصر عن مشاكل غربي الفرات بحروبه في المناطق الشرقية للإمبراطورية. ومعلوماتنا عن حملة دمشق والسامرة على أورشليم تستند إلى النص التوراتي.

نقرأ في سفر إشعيا ٧: «وحدث في أيام آحاز بن يوثام ملك يهوذا، أن رصين ملك آرام صعد مع فَقِح ملك إسرائيل إلى أورشليم لمحاربتها، فلم يقدر على محاربتها. وأُخبِر بيت داود (أي ملك أورشليم) وقيل له: قد حلت آرام في أفرايم (أي إسرائيل)، فرجف قلبه وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدَّام الريح. فقال الرب لإشعيا: «اخرج لملاقاة آحاز وقل له … لأن آرام تآمرت عليك بشرٍّ مع أفرايم قائلة: نصعد على يهوذا ونقوِّضها ونستفتحها ونُملك في وسطها ملكًا هو ابن طبئيل. هكذا يقول السيد الرب … إلخ» (٧: ١–٧). ونقرأ في سفر الملوك الثاني (١٦): «كان آحاز ابن عشرين سنة حين ملك، وملك ست عشرة سنة في أورشليم، ولم يعمل المستقيم في عيني الرب إلهه، بل سار في طريق ملوك إسرائيل، حتى إنه عبر ابنه في النار حسب أرجاس الأمم، وذبح وأوقد على المرتفعات وتحت كل شجرة خضراء. حينئذ صعد رصين ملك آرام وفَقِح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمحاربة، فحاصروا آحاز ولم يقدروا أن يغلبوه … وأرسل آحاز رسلًا إلى تغلات فلاصر ملك آشور قائلًا: أنا عبدك وابنك، اصعد خلِّصني من يد ملك آرام ومِن يد ملك إسرائيل القائمين عليَّ. فأخذ آحاز الفضة والذهب الموجود في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك، وأرسلها إلى ملك آشور هدية، فسمع له ملك آشور وصعaد إلى دمشق وأخذها وسباها إلى قير، وقتل رصين. وسار الملك آحاز إلى دمشق للقاء تغلت فلاصر ملك آشور» (١٦: ١–١٠).

بصرف النظر عن سذاجة هذه الفقرة من سفر الملوك الثاني، التي تجعل ملك آشور يقبل الرشوة من آحاز ملك يهوذا فيأتي لمساعدته، فإن سجلات تغلات فلاصر تعطينا فكرة تقريبية عن الأحداث التي أدت إلى نهاية دمشق وتحجيم السامرة استعدادًا لإنهائها بعد ذلك بفترة قصيرة. فبعد تمرد دمشق والسامرة وامتناعهما عن دفع الجزية، استعد تغلات فلاصر لشن حملات جديدة على سورية الجنوبية. ولربما ساعده على التبكير في هذه الحملة ما وصله من أخبار عن حصار أورشليم من قِبَل المملكتين المتمردتين، فخشي من انتشار التمرد إذا سقطت أورشليم؛ باعتبارها العميل الرئيسي لآشور في سورية الجنوبية.

عندما طال حصار أورشليم، ووصلت أخبار عبور تغلات فلاصر لنهر الفرات، اضطر المتحالفان إلى فك الحصار والعودة كلٌّ إلى عاصمته للدفاع عنها. وصل تغلات فلاصر إلى المنطقة وتوجَّه نحو السامرة، فاستولى على المناطق الواقعة تحت نفوذها إلى الشمال من شرقي الأردن، والجليل، ووادي يزرعيل، فألحقها بالتاج الآشوري وسبى أهلها. بعد ذلك حاصر السامرة حصارًا شديدًا، وأبلغ أهلها أنه لا ينوي سوى خلع الملك المتمرد فَقِح، فثار أهل المدينة على ملكهم وخلعوه، ثم فتحوا الأبواب لتغلات فلاصر الذي دخل المدينة سلمًا، وعيَّن عليها ملكًا جديدًا اسمه هوشع، هذا هو تفسيري للشذرة الباقية من نص لتغلات فلاصر يقول فيها: «… ومن أرض عمري استوليت على … وسقت سكانها وممتلكاتها إلى آشور، ثم ثاروا على ملكهم بيقحا (فَقِح)، فجعلت عليهم المدعو أوشي (هوشع) ملكًا، وتلقيت منهم جزية مقدارها … إلخ.»٢١ ومن المرجح أن هذه الحملة على إسرائيل قد جاءت في سياق حملة عامة على فلسطين جرت حوالي عام ٧٣٤ق.م. هذا ونقرأ في سفر الملوك الثاني خبرًا مماثلًا: «في أيام فَقِح ملك إسرائيل، جاء تغلات فلاصر وأخذ عيون، وآبل بيت معكة، وينوح، وقادش، وحاصور، وجلعاد، والجليل، وكل أرض نفتالي، وسباهم إلى آشور، وفَتَن هوشع بن إيلة على فقح بن مليا، وضربه فقتله، وملك عوضًا عنه.» (١٥: ٢٩-٣٠).
أما عن فتح دمشق وسبي أهلها، فإن القارئ للفقرة التي اقتبسناها من سفر الملوك الثاني (١٦: ١–١٠)، لَيعتقد بأن تغلات فلاصر قد توجه بعد استسلام السامرة إلى دمشق مباشرة، فافتتحها وقتل ملكها. ولكننا نعرف من شذرات نصوص آشورية أن عامين من القتال قد سبقا استسلام دمشق، فقد شن تغلات فلاصر حملتين على دمشق يمكن تأريخهما في الأعوام ٧٣٣ق.م. و٧٣٢ق.م. ففي حملة عام ٧٣٣ق.م. لم يتمكن تغلات فلاصر من فتح دمشق، وإنما اكتفى يفتح مدينة حدرا القريبة (عدرا الحالية)، والتي يصفها النص بأنها مسقط رأس رحيانو، كما دمر وأحرق عددًا كبيرًا من المدن والبلدات في أراضي مملكة أميريشو الكبرى.٢٢ وفي حملة عام ٧٣٢ق.م. أفلح الآشوريون أخيرًا في القضاء على دمشق وإلحاقها مع جميع أراضي مملكتها بالتاج الآشوري، على ما نفهم من ثلاث شذرات لرقيم مكسور تم ترميمه وقراءته من قِبَل الباحث Tadmor عام ١٩٦٢م.٢٣ وبذلك تم اختتام آخر فصول الصراع بين هاتين القوتين العظميين، بعد حوالي قرن ونصف من المجابهة الدامية بينهما.
لم تتأخر السامرة كثيرًا عن اللحاق بدمشق، ففي عهد شلمنصر الخامس، ابن تغلات فلاصر، الذي حكم فترة قصيرةً فيما بين ٧٢٦ق.م. و٧٢٢ق.م.، امتنعت بعض الممالك السورية عن أداء الجزية لآشور مجددًا؛ الأمر الذي شجع هوشع ملك إسرائيل على اتخاذ الموقف نفسه، خصوصًا وأن مراسلاتٍ كانت تجري بينه وبين ملك مصر، وكان المصريون يحضُّونه فيها على خلع طاعة آشور ويَعِدونه بالمساعدة؛ على ما يورده خبر سفر الملوك الثاني في الإصحاح ١٧: ٤، ولكن صارغون الثاني الذي ولي عرش آشور بعد شلمنصر الخامس، ما لبث أن شن حملة على الممالك السورية المتمردة، وبينها مملكة حماة التي فقدت استقلالها بدورها، وتم سبي قسم كبير من سكانها إلى آشور٢٤ بعد تصفيته لمملكة حماة التي كانت على رأس المتمردين، توجه صارغون إلى السامرة فحاصرها وافتتحها وألحقها بالتاج الآشوري، وذلك في عام ٧٢١ق.م. نقرأ في نص لصارغون عن فتح السامرة ما يلي: «لقد حاصرت السامرة وفتحتها، وسبَيتُ ٢٧٢٩٠ فردًا من سكانها، فجهزت من بينهم فصيلة من خمسين عربة ألحقتها بفيلقي الملكي. أما المدينة، فقد أعدت بناءها فصارت أفضل مما كانت عليه، وأسكنت فيها شعوبًا من المناطق الأخرى التي قهرتها، ثم أقمت عليهم حاكمًا من ضباطي، وفرضت عليهم ضريبة المواطنين الآشوريين.»٢٥
وفي سفر الملوك الثاني ١٧، نقرأ خبرًا مشابهًا عن فتح السامرة، ولكن المحرر يعزو ذلك للملك شلمنصر سلف صارغون: «… ملك هوشع بن إيلة في السامرة على إسرائيل تسع سنين، وعمل الشر في عيني الرب. فصعد عليه شلمنصر ملك آشور، فصار هوشع له عبدًا، ودفع له الجزية. ووجد ملك آشور في هوشع خيانة لأنه أرسل رسلًا إلى سوا ملِك مصر، ولم يؤدِّ الجزية لآشور حسب كل سنة. فقبض عليه ملك آشور وأوثقه في السجن. وصعد ملك آشور على كل الأرض، وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين. في السنة التاسعة لهوشع، أخذ ملك آشور السامرة وسبى أهل إسرائيل إلى آشور، وأسكنهم في حلج وخابور ونهر جوزان وفي مدن مادي» (١٧: ١–٦). إن غياب اسم صارغون عن هذا الخبر التوراتي لَيدل مرة أخرى على أن محور سفر الملوك الثاني لم يكن بين يديه إلا نُتَف وأخبار متفرقة عن تلك الفترة، وغير مترابطة، فهو لم يسمع بصارغون، الذي كان إمبراطورًا على المشرق بكامله، ووصلت غزواته إلى قبرص والجزر اليونانية، ولم يخُصَّه بخبر واحد، لا في هذا الموضع من سفر الملوك الثاني ولا في غيره.٢٦ وفي الحقيقة، فإنه لا يوجد لدينا موجِب لترجيح الخبر التوراتي على الخبر الآشوري بخصوص شخصية فاتح السامرة؛ لأن صارغون يتفاخر في نص آخر بفتحه للسامرة، عندما يقول: «أنا صارغون قاهر السامرة، وجميع بلاد عمري، الذي غنم أشدود … إلخ، الذي قهر مصر في رفح، الذي أسَر هانو ملك غزة … إلخ.»٢٧
إن من يقرأ عن نهاية السامرة في الخبر التوراتي الذي اقتبسناه أعلاه، وفي الأخبار المتفرقة الأخرى، عن سبي أسباط إسرائيل العشرة وضياعها إلى الأبد في مناطق الإمبراطورية الآشورية، لَيَظنُّ بأن منطقة إسرائيل قد أُفرغت من سكانها وحلَّ محلَّهم شراذمُ من شعوب شتى لم تشكل نسيجًا واحدًا، ولم يجمعهم كيان سياسي منظم، إلا أن قراءة نصوص صارغون تحطم الصورة الرومانسية عن أسباط إسرائيل الضالة، فهذه الأسباط لم يكن لها وجود ولم يتم سبْيُها إلى آشور. إن رقم المَسْبيِّين الذي أورده صارغون في نصه الذي اقتبسناه أعلاه، وأعاد توكيده بحرفيته في نص آخر له،٢٨ هو ٢٧٢٩٠ نسمة، هم من سكان السامرة تحديدًا، على ما ورد في النص. وهذا يعني أن بقية سكان إسرائيل قد بقوا في مدنهم وقُراهم ومَزارعهم يتابعون حياتهم العادية، بينما تم إسكان جماعات من الشعوب المغلوبة الأخرى في مدينة السامرة التي أولاها صارغون عناية خاصة، وأعاد بناءها وترميمها، وأعطى أهلها وأهل بقية مناطقها التابعية الآشورية، وأعاد تنظيمها السياسي لتغدو مقاطعة آشورية يحكمها والٍ معين عليها من البلاط الآشوري.

إن خلاصة ما يمكن قوله بخصوص مملكة إسرائيل هو أنها نشأت كمملكة فلسطينية كنعانية في سياق عصر الحديد الثاني، وأن سكانها هم فلسطينيون محليون لا علاقة لهم بالأسباط المدعوة بأسباط بني إسرائيل. أما الأراضي التي شغلتها هذه المملكة فهي منطقة الهضاب المركزية تحديدًا، ولكنها توسعت على شكل مد استعماري نحو الشمال والشرق، كان يزداد أو يتقلص تبعًا لقوة ملوكها وعلاقاتهم مع الممالك المجاورة، وخصوصًا مملكة آرام دمشق التي تنازعت معها النفوذ على مناطق شرقي الأردن ووادي يزرعيل. عاشت هذه المملكة قرابة قرن ونصف القرن، ثم تحولت إلى مقاطعة آشورية، ثم إلى مقاطعة بابلية، ففارسية فهيلينستية، على ما سنراه في الفصول القادمة.

١  في أحد صباحات صيف عام ١٩٩٧م تلقيت مكالمة هاتفية من صديقي حميدو حمادة المنقِّب في مديرية آثار حلب، يبشرني بظهور أساسات بناء ضخم في قلعة حلب، كنت منذ زمن طويل أتوقع العثور على معبد حدد إله حلب، الذي ورد ذكره مرارًا في النصوص القديمة، في مكانٍ ما من القلعة، فهُرِعت إلى المكان وكنت من أوائل من شاهد إفريز الجدار وعليه سلسلة من المنحوتات المذهلة، التقطت لها صورًا سريعة على قدر ما سمح لي خندق السبر بالتحرك، وعدت إلى مكتبي فعكفت على دراستها، كان من الواضح انتماؤها إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وإلى مدرسة النحت السوري المتسلسلة من إيبلا، في الألف الثالث قبل الميلاد، إلى عاجيات أوغاريت والسامرة وأرسلان طاش ونمرود. ولكنها إلى جانب ذلك، كانت تحتوي على تأثيرات حثية ومصرية وآشورية، مما جعلها في نظري نموذجًا نادرًا عن الفن الكوزموبوليتاني السوري في أرقى أشكاله. وعندما جاءت البعثة الألمانية لإكمال الكشف عن الموقع، خرجت بنتيجة مفادها أن البناء هو بالفعل معبد حدد، وأن الإفريز ينتمي إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وإني أهيب بدارسي الفن السوري القديم إيلاء هذا الاكتشاف الهام اهتمامهم، ودراسته الدراسةَ التي يستحقها.
٢  هنالك تأريخان لموت سليمان؛ التاريخ الأول يضعه في عام ٩٣١ق.م.، والثاني عام ٩٢٥ق.م.
٣  انظر ترجمتي الكاملة للنص في مؤلفي: الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، دار علاء الدين، دمشق، الطبعة الرابعة سنة ٢٠٠٠م، الفصل الأخير.
٤  راجع ترجمتي للنص في مؤلفي: آرام دمشق وإسرائيل، ودراستي المفصلة له.
٥  W. T. Pitard, Ancient Damascus, Chapter 4.
٦  انطلاقًا من القبول بالرواية التوراتية على علَّاتها، في سفر الملوك الأول ٢٠–٢٢، يطابق المؤرخون الغربيون بين هدد عدر المعروف لنا جيدًا من النصوص التاريخية، وبين ابن هدد الوارد في القصة التوراتية باعتباره خصم آخاب في الحروب الثلاث إياها. وهذا ما قادهم إلى القول بوجود ثلاثة ملوك حملوا اسم ابن هدد في قائمة ملوك دمشق؛ هم: (١) ابن هدد بن طبريمون بن حزيون، ويدعونه ببن هدد الأول. (٢) ابن هدد معاصر آخاب، وهو هدد عدر النصوص الآشورية، ويدعونه بن هدد الثاني. (٣) ابن هدد بن حزائيل، وهو الخليفة الثاني لهدد عدر، ويدعونه ببن هدد الثالث. وقد نسجت الأبحاث التاريخية العربية على هذا المنوال، وكذلك المناهج الدراسية الجامعية (راجع على سبيل المثال كتاب «الآراميون» للدكتور علي أبو عساف الصفحات ٦٢ و٦٣، وكذلك كتاب «اللغة الآرامية» للدكتور فاروق إسماعيل، ص٣٠، وكتاب «موجز في تاريخ سورية القديم»، للدكتور حرب فرزات، ص١٥٩.
وبما أنني أشكِّك في رواية سفر الملوك الأول ٢٠ و٢٢ (بعد أن تبين لنا الجهل المطبق لمحرر السفر بالأحداث التي كانت تجري في تلك الفترة)، وأقبل بحذرٍ خبر سفر الملوك الأول ١٥: ٦–٢٠، عن وجود ملك دمشق اسمه ابن هدد بن طبريمون، معاصر للملك عُمري، فإني أقول بوجود ملكين حملا اسم ابن هدد، هما ابن هدد بن طبريمون، وابن هدد بن حزائيل، بينما لا يوجد في سلسلة ملوك دمشقَ واحدٌ اسمه ابن هدد معاصر للملك آخاب.
٧  تُذكر دمشق في النصوص الآشورية إما باسم عاصمتها «دمشقي»، أو باسم المملكة «إميريشو».
٨  W. T. Pitard, Ancient Damascus, p. 129.
٩  حرفيًّا: ابن لا أحد.
١٠  LEO Oppenhiem, Babylonian and Assyrian Historical Texts, In: James Pritchard’s, Ancient Near Eastern Texts, p. 280.
١١  وهي نفس الحملة التي نوهت عنها، باختصار، على الأرجح، سجلات شلمنصر في معرض ذكرها لموت هدد عدر واستلام حزائيل السلطة.
١٢  Leo Oppenheim, op. cit., p. 280.
١٣  لقد قتل ياهو يهورام، وهو الابن الثاني لعمري والملك الرابع في السلالة التي أسست مملكة السامرة، ثم أمر بعد ذلك بقتل جميع أبناء آخاب من إخوة يهورام، وعددهم سبعون أميرًا، فأحضرت رءوسهم في سلال إليه. الملوك الثاني ١٠: ١–١١.
١٤  انظر النص ومراجعه في مؤلفي «آرام دمشق وإسرائيل» ص٢٣٢.
١٥  انظر النص وتحليلاته في مؤلفي «آرام دمشق وإسرائيل» ص٢٣٣.
١٦  كارشلمنصر هو الاسم الآشوري لمدينة تل برسيب الآرامية عاصمة بيت عديني. وقد غيَّر اسمها الملك شلمنصر الثالث بعد أن ألحق بيت عديني بآشور.
١٧  Leo Oppenheim, op. cit., p. 282.
١٨  op. cit., p. 283.
١٩  Leo Oppenheim, op. cit., p. 283.
٢٠  من الممكن أن اسم رحيانو الوارد في السجلات الآشورية، هو في الآرامية رحين، وبناءً عليه يمكن أن المحرر التوراتي قد أبدل الحاء صادًا.
٢١  Leo Oppenheim, op. cit., p. 283.
٢٢  راجع النص في مؤلفي «آرام دمشق وإسرائيل» ص٢٤٦.
٢٣  راجع النص في مؤلفي «آرام دمشق وإسرائيل» ص٢٤٧.
٢٤  راجع النص في مؤلفي «آرام دمشق وإسرائيل» ص٢٤٨.
٢٥  Leo Oppenheim, op. cit., p. 284.
٢٦  ورد ذكر صارغون بصورة عابرة في سفر إشعيا ٢٠: ١، حيث نقرأ «في سنة مجيء ترتان إلى أشدود، حين أرسله سرجون ملك آشور، فحارب أشدود وأخذها. في ذلك الوقت تكلم الرب عن يد إشعيا قائلًا … إلخ.»
٢٧  Ibid., p. 284.
٢٨  Leo Oppenheim, op. cit., 285.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤