الفصل الخامس عشر

العصر الروماني ونهاية أورشليم

(١) هيرود العربي

عندما دخل بومبي سورية، أعاد تشكيلها سياسيًّا في وحدات إدارية جديدة يتلاءم حجمها مع الظروف الخاصة والمحلية، فلقد أبقى على بعض الممالك والإمارات القديمة؛ مثل مملكة الأنباط، وإمارة اليطوريين، وإمارة حمص التي تم تثبيت أسرة شمسي غرام الحاكمة فيها، وترك على الساحل السوري نظام دويلات المدن بعد إعادة تشكيلها. كما عمد إلى تكوين ولايات موسعة تضم عددًا من المدن السلوقية السابقة، مثل ولاية اتحاد المدن العشر التي ضمت عددًا من المدن والبلدات على ضفتي الأردن؛ مثل بيت شان، وفيلادلفيا (عمان)، وجرش، وقناتا (القنوات) التابعة للحورانية. أما مملكة اليهودية فقد أعيدت إلى نواتها الريفية القديمة، وتم تجريدها من كل المناطق التي استولى عليها المكابيون.

لم يحصل خلال السنوات العشرين الأولى تغيير يُذكر على النظام الإداري الذي وضعه بومبي؛ لأن روما كانت تشهد خلال هذه الفترة أحداثًا جسامًا قادت إلى نهاية الجمهورية وصعود القيصرية، بعد نزاع على السلطة بين بومبي ويوليوس قيصر انتهى بانتصار قيصر عام ٤٨ق.م. وقد عمد الوزير الداهية أنتيبار الإدومي إلى الاستفادة من هذا الصراع، فأرسل إلى قيصر معونة في وقت حاسم من الصراع، وقبع في انتظار الفوائد التي لم تتأخر. فعقِبَ انتصاره على بومبي في فرسالوس، قضى قيصر شتاء عام ٤٨-٤٧ق.م. في الإسكندرية، ثم صعد في الربيع للقضاء على فتنة في آسيا الصغرى. وفي طريقه عبر سورية، توقف عند مدن ناصرته على بومبي ووزع عليها المكافآت، وبينها أورشليم التي أعطاها العديد من المزايا، بينها تثبيت هيركانوس الثاني في منصبه لا ككاهن أعلى فحسب، وإنما كإثنارك، وهو لقب يوناني يعني «حاكم». وكان الحكام المكابيون قد اتخذوا هذا اللقب لأنفسهم قبل أن يغدوا ملوكًا. كما تم تثبيت أنتيبار في منصبه تحت لقب بروكيوريتور Procurator.١ بعد بضع سنوات قامت مجموعة من الأصوليين اليهود باغتيال أنتيبار، فأُعطي المنصب إلى ابنه هيرود، الذي لُقب عبر حياته بهيرود الكبير، كما لقبه بعض المؤرخين المحدثين بهيرود العربي.

كان هيرود إدوميًّا من جهة الأبوين، وهذا سبب تلقيبه بالعربي، لأن الإدوميين ينتمون إلى الذخيرة السكانية لشبه الجزيرة العربية. وفي القرن الأول ق.م. كانوا قد ذابوا تمامًا واختلطوا بالأنباط العرب، رغم بقاء اسم إدوم يطلق على مناطقهم التقليدية. أما عن ديانة هيرود فكانت نوعًا من اليهودية السياسية التي ورثها عن أبيه أنتيبار، الذي لم يولد من أسرة يهودية ولكنه تهود خلال خدمته في القصر الملكي وترقيته فيه. من هنا، فإن اليهود لم يعتبِروا هيرود يهوديًّا قط، مثلما لم يعتبر نفسه هو كذلك، ولسوف تثبت سياسته الميكافيلية حقيقة موقفه من اليهود واليهودية.

ابتدأ هيرود حياته السياسية خلال حياة أبيه الذي كان يكلفه بمهامَّ عسكرية حساسة. ومنذ ذلك الوقت ابتدأ طبعه الدموي بالظهور، وكذلك ضرْبه عرضَ الحائط بالتقاليد والشرائع اليهودية. وقد قطع دابر إحدى حركات التمرد التي قامت بها جماعة أصولية يهودية، ثم أعدم قائدها دون إخضاعه لمحاكمة وفق أصول الشريعة، كما قبض على قاتل أبيه وأعدمه بالطريقة نفسها؛ الأمر الذي عُدَّ جريمة دينية من الدرجة الأولى.

حوالي عام ٤٠ق.م. دفعت الأصولية اليهودية إلى واجهة الأحداث واحدًا من أفراد الأسرة المكابية يدعي أنتيغونس (وهو ابن أخٍ لهيركانوس الثاني). وقد تآمر أنتيغونس لقلب الحكم، وتراسل مع البلاط الفارسي لمعاونته في مشروعه، فأمده الفرس بجيش ساعده على دخول أورشليم، فقبض على عمه هيركانوس وقطع أذنيه ثم أودعه في السجن، أما هيرود فقد استطاع الهرب ولجأ إلى روما.

كانت الأوضاع في روما شديدة التعقيد عقب مقتل يوليوس قيصر، وكانت السلطة بيد مجلس الشيوخ الذي يدير الأمور من خلال حكومة ثلاثية مؤلفة من أنطونيو، ولبيدو، وأوكتافيان. فمَثَل هيرود أمام مجلس الشيوخ وأقنعهم بأنه الوحيد القادر على استعادة أورشليم إلى روما، فعيَّنه المجلس ملكًا على اليهودية مطلق الصلاحية، وذلك بعد أن ألقى أنطونيو بكل ثقله إلى جانبه وعمل على تزويده بجيش روماني قوامه ٣٠٠٠٠ جندي. عاد هيرود على رأس هذا الجيش العرِم فهزم الفرس ودخل أورشليم عام ٣٧ق.م.، فحكمها مدة تزيد على الثلاثين سنة، بدعم قوي ومتزايد من روما التي لم تجد أفضل منه لتثبيت دعائم الاستقرار في فلسطين وسورية الجنوبية.

عندما نَشِب الصراع على السلطة في روما بين أنطونيو وأوكتافيان، وقف هيرود إلى جانب ولي نعمته أنطونيو. ولكن عندما بدأت حظوظ أنطونيو بالهبوط عقب معركة أوكتيوم الشهيرة بين الطرفين، تحرك هيرود بسرعة لحماية مملكته وغيَّر ولاءه إلى أوكتافيان. وكان قراره المستبصر هذا في محله؛ لأن أوكتافيان ما لبث أن حقق انتصاره الشامل على أنطونيو الذي لقي حتفه منتحرًا في الإسكندرية. وقد كافأ أوكتافيان هيرود على دعمه له بعد أن صار قيصرًا تحت لقب أغسطس، فسمح له بتوسيع ممتلكاته، ثم تابع دعمه له وإعطاءه المزيد من المقاطعات، حتى اشتملت مملكته على جميع المناطق السابقة للمكابيين في عهد ألكسندر ينايوس، وزادت عليها شمالًا باتجاه الحورانية والجولانية. فقد أثبت هيرود أنه الوحيد القادر على تدعيم سلطة روما في هذه المناطق، وكان أكثر الحكام السوريين ولاءً لها ودعمًا لجيوشها في مواجهة الفرس. يضاف إلى ذلك، أنه قد أثبت للرومان أن الدولة اليهودية لن تعود إلى سابق عهدها كدولة دينية، وذلك بفصله لمنصب الحاكم عن منصب الكاهن الأعلى، وإحلاله القوانين الرومانية محل الشريعة التوراتية من أجل الفصل في العلاقات المدنية.

عندما حاول السنهدرين، وهو المحفل اليهودي الذي يساعد الكاهن الأعلى في مهامه، التدخلَ من أجل منع تطبيق القوانين الرومانية على اليهود، عمد هيرود إلى إعدام ٤٦ عضوًا من أعضائه البارزين، ثم راح يعين ويعزل الكاهن الأعلى على هواه، معتمدًا على اليهود البابليين أو المصريين الأقل تزمتًا والأكثر انفتاحًا. وبذلك تم تحويل منصب الكاهن الأعلى إلى وظيفة رسمية، وجرَّده من سلطاته وهيبته السابقة. وقد جر البطش هيرود إلى مزيد من البطش، ونظرًا لشكه في جميع من حوله، فقد قتل زوجته الأميرة المكابية وقتل معها أباها وأخاها وعمتها، وذلك بتهمة التآمر ضده، وبعد مدة قتل ولديه من زوجته المكابية بالتهمة نفسها.

حكم هيرود مملكته بقبضة حديدية لم تضعف قط، حتى إن آخر مجازره التي أمر بها تمت وهو على فراش الموت. وكأي طاغية عصري، فقد منع الاجتماعات العامة، وبث جواسيسه في كل مكان، يرفعون إليه التقارير بخصوص أي معارضة أو حتى أي انتقاد لسلوكه العام والخاص. وكان المقبوض عليهم بتهمة النقد والتجريح بشخصه يساقون إلى قلعة هركانيا، حصنه الخاص، ثم لا يُسمع عنهم شيء بعد ذلك. ويروي يوسيفوس عنه خبرًا ربما كان متخيلًا، وهو أنه في أواخر أيامه خاف أن تكون جنازته مبعثًا للفرح والاحتفال العام بين اليهود، فأصدر أمرًا بأن يُعدم فور موته عدد من وجهاء اليهود في كل مكان، لكي يرتفع صوت البكاء والنحيب في جميع أرجاء المملكة، ولا يجد أحد الفرصة للفرح بموت هيرود.

ولكن بالمقابل، فقد كان عصر هيرود عصر ثراء وازدهار في جميع المجالات. لقد أحب هيرود جمع المال، ولكنه أحب إنفاقه بسخاء أيضًا، فعمل على تنشيط التجارة والإفادة من مُكوسها، وجعل طرقها آمنة، والتزم تحصيل الضرائب في مملكته الواسعة وشارك روما في عائداتها، وعرف كيف يستفيد من صداقاته في روما، سواء مع القيصر أم مع كبار الموظفين والعسكريين، لما فيه مصالح الطرفين؛ من ذلك مثلًا حصوله على حق استغلال مناجم النحاس في جزيرة قبرص لقاءَ حصوله منها على نصف الإنتاج الإجمالي، ثم إنه أنفق موارده هذه على المرافق والمشاريع العمرانية. وبما أنه كان هيلينيًّا محبًّا للفكر الهيليني ولطرائق الحياة الإغريقية، فقد عمل على تزويد أورشليم بكل مظاهر ومرافق المدينة الرومانية-اليونانية، فبنى فيها مؤسسات ثقافية هيلينية كالمسرح والملعب الرياضي، وكان هو نفسه رياضيًّا من الطراز الأول مُجليًا في الفروسية ورمْي الرمح والقوس والمطرقة، كما بنى عند الطرف الشمالي الغربي للهيكل قلعة ضخمة دعاها أنطونيا، وسلسلةً من القلاع المتفرقة الأخرى خارج أورشليم، وأهمها قلعة مسعدة الشهيرة والباقية إلى اليوم بأطلالها المَهيبة.

وبما أنه لم ينظر إلى نفسه أبدًا كحاكم يهودي، بل كحاكم لجميع الشعوب المنضوية تحت لواء هذه المملكة الرومانية، فقد زاد اهتمامه بالمناطق الأخرى عن اهتمامه باليهودية، فبنى، أو أعاد بناء، مدن وثنية عديدة، وأشاد فيها المعابد للآلهة المحلية؛ من ذلك مثلًا إعادة بنائه لمدينة السامرة التي كان هيركانوس المكابي قد دمرها، فوضع لها مخطط مدينة يونانية، وعندما أنهاها أسكن فيها جاليات وثنية جديدة، وبنى لهم معابد وثنية، وسمح للمدينة بإصدار عُملة تحمل شعارات الديانة المحلية واليونانية. وبسبب عداء السامرة لليهود، فقد سمح هيرود لها بتشكيل قوة عسكرية خاصة، كان يستعين بها على قمع الحركات الأصولية اليهودية. كما بنى مدينة قيصرية (قيسارية) على الساحل في موقع قلعة استراتو القديمة، وبكل فخامة وأبهة المدن اليونانية الرومانية، فأسكن فيها جاليات وثنية، وبنى لهم المعابد، وملعبًا رياضيًّا ضخمًا كانت تقام فيه الألعاب الرياضية السنوية المعادلة للألعاب الأولمبية مرةً كلَّ أربع سنوات. وعند ذلك الملعب نصب تمثالًا لقيصر، بلغ من الضخامة ما لتمثال زيوس أوليمبوس الذائع الصيت في العالم القديم. وفيما بعد، عندما رفعت الجالية اليهودية القليلة العدد في قيصرية التماسًا للإمبراطور نيرون تطلب فيه أن يكون لها مندوبون في حكومة المدينة، رفض نيرون الالتماس على أساس أن هيرود لو أراد لهذه المدينة أن تكون يهودية لَمَا بنى فيها المعابد الوثنية.

وبعيدًا عن المناطق التابعة لمملكته، فقد طالت عطايا هيرود، الموجهة نحو المظاهر الثقافية الهيلينية، جميعَ مدن بلاد الشام وتجاوزتْها إلى أرض اليونان، فقد أنفق على بناء فوروم Forum٢ في بيبلوس الفينيقية، وأعاد بناء سورها. وبنى فوروم أيضًا لكلٍّ من صور وبيروت، وزود اللاذقية بقناة لجر مياه الشرب، وبنى مسرحًا في صيدون وآخر في دمشق، وجمنازيوم في طرابلس، ونوافير وحمامات في أشقلون. وفي أنطاكية رصف الشارع الرئيسي بطول ثلاثة كيلومترات، ورفع الأعمدة على جانبيه. وفي أثينا نفسها تبرع لإنقاذ الألعاب الأوليمبية من الاضمحلال بسبب نقص التمويل، وعمل على انتظام مواعيدها. وفي إسبارطة تبرع للإنفاق على النشاطات المدنية والثقافية المتنوعة، وتبرع أيضًا لمدن ليكيا وبيرغامون، وأعاد بناء معبد أبولُّو المهدم في جزيرة رودس. لقد كان هيرود أكثر من هيليني متحمسًا كما وصفه المؤرخون، كان مواطنًا عالميًّا يؤمن بوحدة الأديان والثقافات، وبانفتاح الحضارات على بعضها وتعاونها على بناء دولة عالمية شمولية، لا فضل فيها لدين على دين، ولا لعرق على عرق، ولا لفلسفة على فلسفة؛ إلا بمقدار العطاء والمساهمة والتبادل الثنائي الاتجاه، وهو لم يكره شيئًا قدر كراهيته للتعصب العرقي والديني والانغلاق الثقافي والمذهبي. من هنا جاءت كراهيته لليهود، وجاءت كراهية اليهود له. ومع ذلك فقد بنى في أورشليم هيكل يهوه الذي ذاع صيته في المنطقة، وكان درة نشاطات هيرود المعمارية.

جاء بناء هيرود لهيكل أورشليم في سياق نشاطاته العمرانية العامة، فلم يكن يُعقل أن يبني المعابد في كل مكان؛ ويتركَ عاصمته تخجل أمام بقية المدن بهيكل زربابل المتواضع الذي يرجع بناؤه إلى خمسة قرون خلت. وبصرف النظر عن موقفه من اليهودية واليهود، فقد كان أهل المقاطعة من رعاياه، وكان عليه أن يصنع لأجلهم شيئًا يذكرونه به عبر الأجيال. وعلى كل حال، فقد كان بناء معبد ضخم في جميع الحضارات هو شأن متصل بأبَّهة الملوكية وعظمتها، وكان على كل ملك أن يبني قصرًا عظيمًا ومعبدًا سامقًا.

يقول يوسيفوس بأن هيرود قد وسَّع هيكل زربابل وزاد عليه بمقدار الضعف. ولا شك أن هذا التوسيع قد طال المصطبة القديمة مثلما طال المعبد المبني فوقها. فلقد عمد هيرود إلى بناء مصطبة عملاقة استندت قواعدها على السفحين الشرقي والغربي لهضبة أوفيل، واستوعبت داخلها من الجنوب والشمال والغرب مصطبة زربابل القديمة (انظر الشكل رقم ١-٢ الفصل الأول). أما سقف المصطبة الذي يشكِّل الباحة الخارجية الواسعة للمعبد، فقد أحاطها على طول الأضلع الأربعة بأروقة ذات أعمدة. وفي الوسط رفع المعبد الذي ركز على مظهره الخارجي أكثر من تركيزه على ديكوراته الداخلية، فكان لَمَعان جدرانه المبنية بالحجر الأبيض والمطعم بالذهب والفضة يبهر أنظار القادمين من مسافة بعيدة، فطبقت شهرته الآفاق وصار محجة لليهود من داخل المنطقة ومن خارجها، ممن صار لديهم الآن حافز إضافي لأداء فريضة زيارة المعبد مرةً في كل سنة (انظر المخطط الشكل رقم ١٥-١ أدناء). وبما أنه كان يتوجب على كل حاج أن يدفع نصف «شيكل مقدس»٣ لخزانة الهيكل، وأن يدفع بالعملة نفسها قيمة القرابين التي يقدمها على المذبح، فإننا نستطيع تصور المبالغ الطائلة التي كانت تصب في خزائن الهيكل من ذلك الحشد الكبير من الزائرين كل سنة. يضاف إلى تلك التبرعات التي كان يتلقاها المعبد من أثرياء اليهود، والهبات التي جاءته من الشخصيات العالمية عقب انتهائه؛ ومنها هبة جاءت من القيصر أوغسطس نفسه، ومن الملك الفارسي أرتازكسيس، حتى تحول هيكل هيرود إلى واحد من أغنى البيوتات المالية في الإمبراطورية الرومانية. ويبدو أن هذه النتيجة كانت في حسبان هيرود عندما أقدم على مشروعه هذا، وأنه قد خطط لذلك بدقة من خلال حسه العالي في تقصي مصادر تحصيل الأموال.
fig28
شكل ١٥-١: مخطط هيكل هيرود الكبير.

نظرًا لنفوره من محدودية وضيق أفق أهل مقاطعة اليهودية، اعتمد هيرود في إدارته على يهود المناطق الأجنبية، وخصوصًا يهود بابل ومصر. فمثل هؤلاء كانوا يصلحون لتحديث أورشليم، وإضفاء الطابع الكوزموبوليتاني عليها. كما عين منهم في الوظائف الدينية في الهيكل؛ لإعطاء العبادة في هذا المركز الديني الكبير طابعًا شموليًّا، وإظهار إله الهيكل بمظهر الإله العالمي. وهذا ما زاد في كراهية اليهود لهيرود الذي نظروا إليه دومًا كحاكم أجنبي، ولم يشفع له كلُّ ما فعله من أجلهم، ولا الازدهار الاقتصادي الذي جلبه حكمه على اليهودية، وكل الغنى والثروة التي تدفقت على عاصمتهم ومدنهم. ويروي يوسيفوس قصة تُظهر مدى العداء المستحكم بين هيرود واليهود، فقد تضمن آخر مشاريعه لتزيين بوابات الهيكل رفْع تمثال لنسر باسط الجناح فوق البوابة الرئيسية، ولكن الجماعات الأصولية احتجت على هذا الإجراء وطلبت إيقافه، دون أن تَلقى أذنًا صاغية من هيرود. وعندما تم تثبيت النسر في مكانه قامت جماعة الدارسين في المدارس التوراتية بارتقاء البوابة وأنزلت التمثال وحطمته. كان هيرود على فراش المرض يصارع الموت في قصره بمدينة أريحا، ولكن ذلك لم يمنعه من التصرف وفق تكوينه الشخصي وقناعاته الراسخة، فأمر بعزل الكاهن الأعلى وإحضار المتهمين إليه مقيدين بالسلاسل، حيث تمت محاكمتهم في المسرح الروماني هناك، وأمر بإحراقهم أحياء، وما لبث حتى توفي بعد ذلك بأسابيع قليلة، وكانت وفاته في العام الرابع قبل الميلاد.

تنفس اليهود الصُّعَداء لسماعهم خبر موت هيرود، أما بقية رعايا المملكة فقد كانت مشاعرهم متناقضة حيال ذلك، فلقد تخلصوا من طاغية كان يُحصي عليهم أنفاسهم، ولكنهم خسروا في الوقت نفسه حاكمًا قويًّا استطاع نشر الأمن والطمأنينة في أرجاء المملكة لأكثر من ثلاثين سنةً خلت، وأعطى كل الجماعات حقوقًا وواجبات متساوية. وكما هو متوقع دومًا لدى انهيار أي حكم مركزي صارم، فقد عمت الفوضى جميع أرجاء المملكة، وراحت العصابات المسلحة وقطاع الطرق يعيثون فسادًا في كل مكان، فانقطع حبل الأمن وسادت الفوضى والإضرابات. ولكن الإدارة الرومانية تحركت بسرعة وعمدت إلى تقسيم مملكة هيرود السابقة بين أولاده الثلاثة، فأعطت اليهودية والسامرة والإدومية إلى أرخيلاوس، والجليل إلى أنتيباس، ومناطق شرقي الأردن الشمالية والجولانية إلى فيلبس. ولكن رعايا أرخيلاوس ما لبثوا أن اشتكوا إلى السلطة الرومانية من سوء إدارته، فأزاحه الرومان وعينوا ناظرًا رومانيًّا لحكم مقاطعة اليهودية، وكذلك فعلوا بالسامرية والإدومية، وأُلحقت المقاطعات الثلاث بالولاية السورية.

إن خلاصة الأمر فيما يتعلق بمملكة هيرود، هي أنها كانت كيانًا سياسيًّا مصطنعًا استحدثه الرومان لسببين؛ الأول هو رغبتهم في ضبط أكبر مساحة ممكنة في سورية الجنوبية تحت إدارة واحدة كفُؤة، والثاني قوة شخصية هيرود وكفاءته السياسية والدبلوماسية العالية. ولا أدل على الصفة المصطنعة لهذه المملكة أن أيًّا من المؤرخين لم يطلق عليها اسمًا معينًا، فقد كانت بكل بساطة مملكة هيرود، وكيانًا سياسيًّا مفصلًا على مقاسه. وقد تحولت أورشليم في عهده إلى إحدى المدن الكبرى في المنطقة، حيث زاد على مساحتها من جهة الشمال حيًّا جديدًا كبيرًا امتد على طول الجدار الغربي للهيكل، وزحف إلى أسفل وادي تبيريون المركزي (انظر المخطط في الشكل رقم ١٥-١).
fig29
شكل ١٥-٢: أورشليم في عهد هيرود الكبير.

لم تكن مملكة هيرود يهودية، بل على العكس، فلقد عمل هيرود طيلة حياته على قمع روح العصبية اليهودية، وأتاح لكل الشعوب حياة دينية حرة، وشجَّعها على ممارسة طقوسها، وساعدها على بناء معابدها الخاصة، وهذا ما حفز غالبية من تهوَّد تحت قوة السلاح على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين آبائه. وإذا كان هيرود قد بنى هيكلًا في أورشليم، فإنه لم يرَ قط في هذا الهيكل سوى رمز لعبادة إله شمولي واحد للإمبراطورية الرومانية التي كان واحدًا من أكثر المؤمنين بها وبرسالتها الحضارية. ومن ناحيتهم، فقد بادل اليهود هيرود المشاعر، ولم يروا فيه إلا حاكمًا رومانيًّا ممثلًا للسلطة الأجنبية في مقاطعتهم.

القرن الأول الميلادي والدمار الأخير لأورشليم

حكم أرخيلاوس بن هيرود في أورشليم فيما بين ٤ق.م. و٦ ميلاديًّا، ثم تمت إزاحته لتصبح أورشليم مقاطعة رومانية تُحكَم مباشرة من قِبل ناظر روماني procurator يتبع مباشرةً القنصلَ الروماني الذي يدير ولاية سورية. ومنذ ذلك الوقت بقيت مقاطعة اليهودية ضمن حدودها التي وضعها لها بومبي، وتُحكَم من قِبل نُظَّار رومانيين، بلغ عددهم حتى دمار أورشليم عام ٧٠ ميلاديًّا أربعة عشر ناظرًا. وفيما عدا بونتوس بيلاطس، الذي ارتبط اسمه بمحاكة يسوع وصلبه، فإننا لا نعرف عن هؤلاء النُّظار سوى أسمائهم. خلال حكم النظار كانت هنالك فترة قصيرة معترضة أعيدت خلالها الملكية إلى أورشليم، وذلك فيما بين ٤١م و٤٤م، عندما سُمي هيرود أغريبا، وهو حفيد هيرود الكبير، ملكًا على مقاطعة اليهودية من قِبل الإمبراطور كلاوديوس. ولكن موت أغريبا المفاجئ كان مدعاة لإعادة أورشليم إلى حكم النُّظار مرة أخرى.
تمتع أغريبا بالكثير من الصفات الإيجابية لجده هيرود الكبير، فقد كان سياسيًّا محنكًا وإداريًّا متمكنًا، ومثقفًا هيلينيًّا، ولكنه إلى جانب الحزم وقوة الشخصية، كان ليِّن العريكة، رحيمًا في معاملة رعاياه، وحريصًا على مشاعر اليهود، ميالًا إلى المشاركة في جميع الطقوس الدينية. وفي علاقته مع روما استطاع تحقيق درجة لا بأس بها من الاستقلالية وحرية القرار. وسَّع أغريبا حدود مدينة أورشليم بإنشائه لحي سكني جديد يقع وراء السور الشمالي للهيكل، كما بنى سورًا جنوبيًّا يجمع المدينة القديمة على هضبة أوفيل إلى المدينة الجديدة على السلسلة الغربية. وبذلك امتدت المدينة على السلسلتين الشرقية والغريبة لهضاب القدس عبر الوادي المركزي، وبلغت حدًّا في الاتساع لم تبلغه وريثتها القدس حتى النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي (انظر المخطط في الشكل رقم ١٥-٣ أدناه، والصورة رقم ٥-٢ في القسم المصور).

كان النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد فترة ازدهار وثراء لمقاطعة اليهودية، ولكن هذا الازدهار قد ترافق مع سوء توزيع في الثروة، وفساد في النظام الضريبي المجحف، الذي لم يكن يميز بين الفقراء والأغنياء ولا بين المالكين والمعدِمين. فإضافة إلى الضرائب المدنية، كان على المزارعين أن يدفعوا للهيكل ضريبة أخرى تُدعى ضريبة الخُمس، وتبلغ خُمس قيمة محصولهم السنوي، وكان كهنة الهيكل يُجبون بواسطة عبيد مكلفين بالتحصيل، ومخوَّلين باستخدام كافة الوسائل، بما فيها استخدام العنف.

fig30
شكل ١٥-٣: أورشليم في عهد هيرود أغريبا الأول.

لقد كان الهيكل بمثابة دولة داخل دولة، ومؤسسة ضخمة تضم آلاف الكهنة من شتى الوظائف والمراتب. وفي بعض المناسبات الدينية الرئيسية كان هذا العدد الضخم من الكهنة يُدعم بعدد آخر من الكهنة المتطوعين من خارج الهيكل لا يقل عددهم عن عدد الكهنة الرسميين. أما الطقوس الدينية ومناسباتها التي لا تحصى، فكانت تلتهم آلاف الذبائح ومئات الوزنات من البخور المستورد الغالي الثمن. من هنا، فقد كان على إدارة الهيكل أن تعمل على سد نفقاتها من خلال تحصيلها للضرائب التي صارت مع الأيام تفيض عن احتياجاتها. ومع ازدياد ثروة الهيكل التي كانت تساهم بها أيضًا التبرعات والهبات ورسوم زيارة الموقع المفروضة على كل الحجاج، فقد تحول إلى مؤسسة مالية ومصرفية ضخمة تجمع في خزانتها معظم ثروة البلاد، وكان القيِّمون على هذه الثروة يشكلون جزءًا من أرستقراطية المجتمع التي تعمل ما بوسعها على الاحتفاظ بمكاسبها على حساب بقية شرائح المجتمع التي ازدادت فقرًا على فقر.

عقب وفاة هيرود أغريبا، فرضت الإدارة الرومانية ضريبة جديدة، هي ضريبة العقارات، وبدأت تلوح في الأفق نُذُر ثورة اجتماعية عارمة، عندما التقى إحساس المعوزين باليأس الكامل مع الأفكار الدينية التي بدأت تنتشر وتبشر بنهاية العالم القريبة، وحلول اليوم الأخير الذي يفتح ملكوت الرب على الأرض. وبما أن الطبقة الأرستقراطية في أورشليم كانت حليفة للرومان، فقد امتزجت عواطف الكره للأغنياء بعواطف الكره للرومان، وراح المتطرفون الأصوليون يحمِّلون الحكم الروماني مسئولية البلايا التي حلت بالقطاعات الوسطى والفقيرة من الناس. في خريف عام ٦٦م، لم يكن أحد من سكان أورشليم يظن أن الثورة وشيكة رغم كل مقدماتها الواضحة؛ لأن الغالبية العظمى من السكان كانت تقاوم فكرة التمرد على السلطة الرومانية، وترى في الأرستقراطية اليهودية عدوها الأول.

ولكن الشرارة اندلعت فجأة عندما قام ناظر المقاطعة المدعو فلوريوس بخطوة رعناء وغير مدروسة، عندما قام باغتصاب سبع عشرة وزنةً من الذهب من خزينة الهيكل؛ سدادًا لضرائب متراكمة غير مدفوعة. وقد أدى هذا العمل الأحمق إلى اضطرابات عنيفة في المدينة، حاول فلوريوس قمعها بالقوة ولكنه فشل، وما لبث أن وجد نفسه غير قادر على حماية نفسه وجنده؛ ففر من المدينة. وهنا اغتنم الفرصة عددٌ من الجماعات الثورية المسلحة، فدخلت أورشليم التي صارت بلا حكومة ولا قانون.٤ لم تكن هذه الجماعات منتظمة تحت قيادة واحدة ولا تتمتع بفكر استراتيجي واضح. وكان من أبرزها جماعة تُدعى السيكاري، يقودها ثوري صعب المراس يُدعى مناحيم. وقد عملت هذه الجماعة على مهاجمةِ من تبقى من الحاميات الرومانية في المدينة وما حولها، كما راحت تهاجم ممتلكات وبيوت الأسر الأرستقراطية وتقتل العديد من رجالاتها البارزين، وكان من بين الضحايا الكاهن الأكبر المدعو حنانيا. ولكن بقية الكهنة تحصنوا في الهيكل الذي لا تقل أسواره منعةً عن أسوار المدينة، وراحوا يدافعون عن أنفسهم، وما لبثوا أن شنوا هجومًا مضادًّا قُتل على إثره مناحيم قائد السيخاري، وتفرقت جماعته. وعلى الإثر دخلت أورشليم مجموعاتٌ ثورية أخرى، وصارت المدينة مقسمة بين عدد من جنرالات الحرب.

حاول جنرالات الحرب نشر الثورة في البقاع الأخرى ضمن اليهودية وخارجها، فأرسلوا ممثلين عنهم لتنظيم اليهود في مناطق تجمعاتهم الرئيسية. وفي هذا السياق، تم إرسال يوسيفوس إلى منطقة الجليل التي كان قِسمٌ من أهلها قد تهوَّد خلال حكم هيركانوس وينايوس المكابيين. ولكن يوسيفوس فشل في مهمته العسكرية، ولم يكن قادرًا إلا على تجهيز فصيل ثوري قليل العدد ما لبث أن استسلم للجيش الروماني الذي كان في طريقه إلى أورشليم، وذلك في صيف ٦٧م، وتم اقتياد يوسيفوس إلى فيسبازيان قائد القطعات السورية، والمكلف من قِبل نيرون بالقضاء على التمرد في أورشليم. ولما مثَل يوسيفوس أمام فيسبازيان استطاع تخليص نفسه من المأزق بأن تنبأ لفيسبازيان بأنه سوف يغدو قريبًا إمبراطورًا في روما وحاكمًا على جهات الأرض الأربع. سُرَّ القائد الروماني للنبوءة وعفا عن يوسيفوس، بل وضمه إلى حاشيته الخاصة، وكلفه فيما بعدُ بالتفاوض مع الثوار ومتحدثًا باسم الرومان. وعندما صدقت نبوءة يوسيفوس عقب موت نيرون وتعيين فيسبازيان قيصرًا، أخذه معه إلى روما، وتسمى باسم يوسيفوس فلافيوس؛ نسبةً إلى الأسرة الفلافية التي ينتسب إليها فيسبازيان. وهناك عكف على كتابة مؤلفَيه الشهيرين في تاريخ وحروب اليهود.

بعد تطهيره للمناطق الريفية من عصابات الثوار، استراح فيسبازيان أشهُر الشتاء، ثم توجه في ربيع عام ٦٨م نحو أورشليم التي صارت معزولة وجاهزة للسقوط في يده، ولكن الأخبار وردته عن موت نيرون، فأوقف عملياته العسكرية؛ لأنه من الناحية النظرية لم يعُد قائدًا على القوات السورية، وعليه انتظار التعليمات الجديدة للإمبراطور الجديد. ثم وصله الخبر السار في صيف عام ٦٩م، وتوجه إلى روما لتولي مقاليد السلطة، وهناك انشغل عن أورشليم ومشكلاتها حتى ربيع عام ٧٠م عندما شعر أن الوقت قد حان لتصفية الأمور هناك. وهذا يعني أن الثوار في أورشليم كان لديهم سنتان من الهدوء النسبي ليعملوا خلالها على تنظيم صفوفهم وتوحيد قياداتهم. ولكن ما حصل كان العكس تمامًا، فقد استمر أمراء الحرب هناك في التنازع فيما بينهم، وزاد الطينَ بلةً دخولُ فريق جديد من المتمردين المهووسين هم جماعة الغيارى؛ أي الغيورين على الشريعة، فتابع هؤلاء اضطهاد الشرائح الأرستقراطية وقتل الكثير من أفرادها. ثم نافس الغيارى فريقٌ آخر يقوده سمعان بن غوريا المدعوم من العبيد المحررين الذين شكلوا نواة قواته، وكان يبشر بمشروعه الثوري الجديد لإعادة تنظيم المجتمع على أسس العدل والمساواة. فاستمرت الحرب الأهلية على أشدها، حتى سمع المتحاربون بوصول الجيش الروماني إلى أبواب أورشليم.

كانت الأمور قد استتبت لفيسبازيان في روما بعد فترة من الفوضى، فأراد أن يُظهر بطريقة استعراضية مقدرتَه على فرض النظام في الخارج مثلما فرضه في الداخل، وابتدأ يمهد لحملة أورشليم إعلاميًّا عن طريق تضخيم خطر التمرد ومدى قدرة المتمردين على النيل من سمعة روما، ليكون النصر عليهم بمثابة توكيد على مقدرة الإمبراطور الجديد على إحلال الأمن والسلم في أصقاع الإمبراطورية. أما حقيقة الوضع العسكري والمعنوي في أورشليم فكانت شيئًا مختلفًا تمامًا. فسكان المدينة كانوا مغلوبين على أمرهم، وجلُّهم لا يرغب في مواجهة غير متكافئة مع الرومان، ولكن ضغط أمراء الحرب كان يشلُّ كل مقدرة على المقاومة أو إبداء الرأي. ويقول يوسيفوس بأن حكماء المدينة قد توجهوا إلى قادة العصابات ورجوهم الإقلاعَ عن فكرة المقاومة وتجنيب المدينة نتائج حرب لن يستطيعوا ربحها، ولكن عناد هؤلاء، الذي يصفهم يوسيفوس بالقتلة وشِذاد الآفاق والغاصبين والمخادعين، قد قاد المدينة إلى حتفها. عيَّن فيسبازيان ابنه تيتوس قائدًا على الحملة المتجهة إلى أورشليم، فوصل تيتوس بقواته في ربيع عام ٧٠م، فحاصر المدينة ومنع عنها المواد وسدَّ مخارج النجاة. وفي منتصف صيف ٧٠م شن هجومًا على أسوار المدينة فنقبها من ثلاث جهات، وصارت قواته في كل مكان عدا الهيكل الذي لجأ إليه الثوار وصمموا على التحصن به حتى الموت. وهنا عقد تيتوس اجتماعًا لقادته للبحث فيما يتوجب عمله؛ لأن الرومان كانوا يحترمون المعابد، ولم يُعرف عنهم قط تدميرُهم لمعبدٍ ما، ولكن هيكل أورشليم كان أقرب إلى القلعة المحصنة منه إلى معبد عادي، فهل يتم اختراقه أم لا؟ انقسم رأي القادة حول هذه المسألة، ففضَّل تيتوس التفاوض مع المحاصرين أولًا، وعرض عليهم الخروج بأمان والانسحاب إلى مكان آخر لمعاودة القتال؛ لأنه كان معنيًّا بسلامة المعبد (والكلام على ذمة يوسيفوس) وغير راغب في التعرض لهذا المركز الديني، ولكن جهوده باءت بالفشل. وكان في اليوم الثاني أن أحد الجنود الرومان ألقى شعلة نارية على المعبد، وامتدت النيران إلى الحرم وخرجت عن السيطرة، فاغتنم تيتوس الفرصة وانطلق بجنوده إلى الداخل يطاردون المدافعين في كل مكان، ويحاولون في الوقت نفسه مكافحة النيران دون جدوى، فتُرك الهيكل لمصيره، وأكمل تيتوس تمشيط المدينة من المتمردين الذين حاولوا الاختباء في البيوت، وهذا ما أدى إلى حدوث مجزرة واسعة ذهب ضحيتها عشراتُ الآلاف من سكان المدينة، وإلى تدمير وإحراق أقسام واسعة منها.

بعد استتباب الأمور لتينوس لم يلجأ إلى إجراءات انتقامية لاحقة، ولكنه فرض على اليهود داخل المقاطعة وخارجها أن يدفعوا إلى معبد جوبيتر في روما الضريبةَ التي كانوا يدفعونها إلى هيكل أورشليم، كما لجأ إلى اقتطاع العديد من الأراضي الزراعية ووزَّعها على جنوده أو على من تعاون معه من اليهود. ثم توجه إلى روما حيث دخلها في موكب نصر يجر خلفه قادة المتمردين في أغلالهم، وكانت كنوز المعبد التي غنمها محمولة على الأكتاف ومعروضة على أهالي روما. وبعد ذلك أشاد قوسي نصر لتخليد انتصاره على أورشليم، تهدَّم أحدهما في القرن الخامس عشر وبقي الثاني قائمًا حتى الآن، وعلى قاعدته نحْتٌ بارز يصور موكب النصر.

لم يبقَ من هيكل هيرود حجر واحد قائم، وأسواره تهدمت حتى قواعدها عدا مقطع قصير من السور الغربي دُعي فيما بعد حائط المبكى. ولكن الحياة لم تتوقف تمامًا في المدينة التي تهدَّم معظم بيوتها، فقد بقى قسم من السكان يعيش فيها، ولكن بدون معبد ولا ذبائح ولا طقوس. أما في بقية مناطق المقاطعة، فقد تناقص عدد السكان نتيجة الحرب والنزوح، وأقفرت الأراضي الزراعية، وتدهورت الحياة الاقتصادية. وهنا تتوقف مصادرنا الكتابية؛ لأن رواية يوسيفوس تتوقف عند تدمير أورشليم عام ٧٠م، أما المصادر الرومانية فلم تعُد مَعنيةً بمتابعة ما كان يجري في هذه المقاطعة بعد استتباب الأمن فيها.

ولكن أمرًا آخر كان يجري بعيدًا عن الأحداث السياسية الصاخبة، لم يكن يعني روما ولا غيرها في شيء. فلقد أدى تدمير الهيكل وزوال مركزية العبادة في أورشليم، إلى حدوث تغييرات عميقة في بنية الطقوس والمعتقدات اليهودية (ومصدرنا هنا هو الكتابات الربانية التي بدأت بالظهور منذ مطلع القرن الثاني الميلادي)، فقد زالت الفِرق اليهودية التي نشطت في القرن الأول الميلادي من صدوقية وفريسية وأسينية وغيارى، وغيرها، واستلم قيادة الحياة الروحية جماعةٌ من الحكماء يُدعَون بالربانيين؛ نسبة إلى ربان، أو رابي، أي الحكيم أو المعلم. وقد شكل هؤلاء أول محفِل لهم في بلدة يبنة (يمنيا) الساحلية، مهمته إحياء التعاليم التوراتية وتدريس النصوص المقدسة. ولكنهم سلكوا مسلك الفريسيين في موقفهم من النص، ورأوا ضرورة تفسيره بما يتلاءم والظروف المستجدة، وبذلك تم إحياء ما يُدعى بالشريعة الشفوية غير المكتوبة، ووُلدت اليهودية التلمودية التي نعرفها الآن. وكان من أهم منجزات مجمع يبنة استبعاد سبعة أسفار موجودة في الترجمة اليونانية للتوراة المدعوة بالسبعينية، وليس لها أصل عبري؛ لأنها دُوِّنت أصلًا باللغة اليونانية. دُعيت هذه الأسفار بالأبوكريفا، أي المتحولة، وهي: يهوديت، وطوبيا، والمكابيون الأول والثاني، ويشوع بن سيراخ، والحكمة، وباروك.

ولكن القصة لم تنتهِ بعدُ، فلكأن في التاريخ شيئًا من القدر، ولقد حُمَّ القضاء على أورشليم، وحل يومها الأخير.

بين عامي ١٣٠م و١٣١م، قام الإمبراطور هادريان بزيارة عدد من المناطق الشرقية للإمبراطورية، وأرسى القواعد لبناء عدد من المدن الرومانية فيها. وهنا يخبرنا المؤرخ الروماني ديوكاسيوس٥ بأن هادريان قد أعلن خلال هذه الزيارة عن عزمه على بناء مدينة رومانية في موقع أورشليم. وهذا ما أشعل نار الثورة اليهودية الثانية بقيادة رجل يدعى سمعان باركوخبا (ابن كوخبا)، الذي استولى على أورشليم وأعلن اليهودية مقاطعة مستقلة. وتدلنا بعض اللُّقى الأثرية، ومنها قطع العملة التي أصدرها باركوخبا والمؤرخة بالسنة الأولى والثانية للاستقلال، وبعض لفافات البردي التي تحمل أوامر وتعليمات منه، بأن هذه الثورة الثانية كانت تحت قيادة مركزية واحدة منضبطة، على عكس الثورة الأولى التي تنازع قيادتَها عددٌ من أمراء الحرب غير المنضبطين.

أعلن أحد رجالات محفل يبنة بأن سمعان باركوخبا هو المسيح المنتظر، ولكن معظم أعضاء المحفل ورجالات الدين امتنعوا عن التورط في هذه الحركة، وأعلنوا عن رفضهم لأية مقاومة عسكرية ضد الحكم الروماني. وفيما بعد، وصفت الكتابات الربانية اللاحقة باركوخبا بأنه باركوذبا، أي ابن الأكذوبة، وانتقدت نشاطاته التي قادت إلى الدمار الأخير لأورشليم. ولكن الأصولية اليهودية التي انتعشت آمالها بالاستقلال وإعادة بناء الهيكل، قد ساندت الثورة بكل وسيلة، وقامت خلاياها بتنظيم المقاطعة تنظيمًا مدنيًّا وعسكريًّا جديدًا استعدادا للمواجهة المقبلة مع الرومان.

جاء رد فعل روما هادئًا، وقامت استراتيجية هادريان على التمشيط البطيء لمناطق اليهودية التي سقطت تدريجيًّا قبل الاستعداد لشن الهجوم الأخير على أورشليم. ويقول ديوكاسيوس٦ إن الرومان قد استولوا على خمسين بلدةً وذبحوا الثوار فيها، كما مشطوا المناطق الريفية وهدموا ٩٨٥ قرية، حتى بلغ عدد القتلى ٥٨٠٠٠٠ نسمة. بعد ذلك جرى الهجوم الأخير على أورشليم التي سقطت بسرعة عام ١٣٥م، وتم القبض على باركوخبا وجميع أفراد بطانته ومساعديه. أما من بقي حيًّا من سكان المدينة، فقد تم بيعه في أسواق النخاسة، حتى إن سعر العبد اليهودي كان أقل من سعر الحمار. ثم عمد هادريان إلى هدم أورشليم وتسويتها بالتراب، وأقام في موضعها مدينة رومانية تحت اسم إيليا كابيتولينا. والمقطع الأول من هذا الاسم مشتق من الاسم الأول لهادريان، وهو إيليوس، أما المقطع الثاني فمن اسم معبد جوبيتر كابيتولينوس، وقد منع هادريان أيَّ يهودي من دخول المدينة الجديدة تحت طائلة الموت، رغم أن قلة من اليهود كانت جاهزة لزيارة الموقع في ذلك الوقت؛ لأن المذابح الرومانية والهجرة التي تلت تدمير أورشليم ومعظم مناطقها؛ لم تترك إلا شراذمَ متفرقة من اليهود في المنطقة. وعندما تحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية في مطلع القرن الرابع الميلادي، سمح لمن يشاء من اليهود زيارة حائط المبكى لينوحوا عنده كلَّ سنة في ذكرى تدمير أورشليم.
قام مهندسو هادريان بوضع مخطط للمدينة الجديدة، بحيث تشغل الجزء الأوسط والشمالي من أورشليم هيرود أغريبا، مع تفادي مصطبة هيكل هيرود الضخمة؛ لصعوبة تفكيكها، وبذلك اتخذت المدينة شكل مربع تقريبي (انظر المخطط في الشكل رقم ١٥-٤ أدناه، وقارِنْه بمخطط مدينة هيرود أغريبا ص٢٧٩). وكما هو الحال في معظم المخططات التنظيمية للمدن الرومانية من ذلك العصر، فقد اخترق المدينةَ من شمالها إلى جنوبها شارعٌ عريض محفوف بالأعمدة، إضافة إلى شوارع ثانوية موازية له وأخرى عرضانية متقاطعة معه تتجه من الشرق إلى الغرب. هذا، وتُظهر خريطة فسيفسائية لإيليا كابيتولينا من القرن السادس الميلادي، عُثر عليها بموقع مأدبا في شرقي الأردن، هذا المخطط، ونرى فيه بوضوحٍ الشارع الرئيسي ذا العمد، وهو يبتدئ من بوابة دمشق عند ساحة واسعة أمام مدخل المدينة، ينتصب فيها عمود ضخم يشبه عمود تراجان في روما، ويذكرنا بما نراه اليوم في ساحة الطرف الأغر بلندن أو ساحة الفاندوم بباريس (انظر الصورة رقم ٦-١ في القسم المصور).

بقي سور هادريان قائمًا، وكانت تجري عليه الإصلاحات المتوالية، منذ العصر البيزنطي فالعربيِّ وحتى العصور الحديثة. ورغم أن المدينة كانت تمتد أحيانًا خارج الأسوار وخاصة باتجاه الجنوب، إلا أن السور القديم الحالي يتطابق تقريبًا مع سور إيليا كابيتولينا، وكذلك الشوارع الرئيسية التي ما زالت تعكس إلى حد كبيرٍ التنظيمَ الأصلي لمدينة هادريان.

بقيت إيليا كابيتولينا تعيش على هامش الأحداث حتى عصر الإمبراطور قسطنطين، ففي عام ٣١٣م، اعتنق قسطنطين المسيحية وأعلنها ديانة رسمية للدولة، ثم نقل عاصمته إلى مدينة بيزانطيوم الواقعة على خليج البوسفور، وأطلق عليها اسمه، فصارت تدعى كونستانتين بوليس، أي مدينة قسطنطين (القسطنطينية). وقد انعكس هذا الوضع الجديد إيجابًا على إيليا كابيتولينا؛ خصوصًا بعد أن بنت أم الإمبراطور، المعروفة بالقديسة هيلينا، كنيسةً في الموضع الذي تواترت الأخبار عن صَلْب يسوع فيه ودفْنِه بجواره، فتحولت إيليا إلى مدينة مقدسة ومحجَّةً لجميع المسيحيين من شتى أنحاء الإمبراطورية.

fig31
شكل ١٥-٤: مخطط مدينة إيليا كابيتولينا في العصر الروماني والبيزنطي.

بعد معركة اليرموك الفاصلة بين العرب والبيزنطيين، استسلمت إيليا كابيتولينا دون قتال عام ٦٣٨م، وجاء الخليفة عمر بن الخطاب ليستلم مفاتيح المدينة من أهلها الذين استقبلوه بمودة، كما تروي المصادر العربية. وعقب دخوله أدى الصلاة في مكانٍ قربَ الزاوية الجنوبية الغربية من مصطبة هيرود، ثم بنى مسجدًا متواضعًا في ذلك الموضع. في عام ٦٩١م قام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ببناء قبة الصخرة فوق الصخرة التي يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عرج منها إلى السماء، وقام بترميم أرضيات المصطبة القديمة وأعاد بناء أسوارها (هو أو ابنه الوليد). هذه الصخرة التي بنيت فوقها القبة لم تكن أثرًا باقيًا من هيكل هيرود، وإنما هي جزء من القمة الصخرية لهضبة القدس الشرقية أبرزته عوامل التعرية الطبيعية، وهذا يعني برأي المنقبة كاثلين كينيون أن أرضيات المسجد الحرام، التي تقوم مباشرةً فوق أرضيات مصطبة هيرود، إنما تستند مباشرةً على الذروة الصخرية للتل؛ الأمر الذي ينفي أي احتمال لوجود بنية معمارية تحتها، ويجعل البحث عن هيكل هيرود مجهودًا لا طائل من ورائه، ناهيك عن هيكل زربابل أو هيكل سليمان. دعا العرب إيليا كابيتولينا باسم القدس، بعد أن عرفوها دومًا باسم إيليا. بقيت القدس مدينة إسلامية مسيحية منذ ذلك الوقت، أما من عاد للسكن فيها من اليهود، فقد عاشوا كأقلية دينية تتمتع بالمواطنة وبالحرية الدينية الكاملة.

١  وهو لقب إداري روماني يحمله كبار المسئولين الرومانيين في المقاطعات الأجنبية الخاضعة لروما. وقد ترجمته في الصفحات الآتية بكلمة ناظر.
٢  وهو ساحة محاطة بالأعمدة تنتظم تحت أروقتها المحال التجارية، وتنعقد فيها الاجتماعات العامة.
٣  الشيكل المقدس هو عملة يصكها المعبد ولا تصلح للتداول التجاري خارجه. والفكرة من ورائه هي أن العملة الرومانية، وكل عملة نُقشت عليها رموز الوثنية أو السلطة الزمنية، هي نقود دنسة لا يجوز دفعها للهيكل أو شراء حيوانات الأضاحي بها. من هنا، كان جماعة من الصرافين يضعون منصاتهم في ساحة الهيكل لمبادلة النقود المدنسة بنقود الهيكل المقدسة.
٤  مرجعنا الأساسي حول هذه الأحداث وما تلاها هو المؤرخ اليهودي يوسيفوس، إضافة إلى أخبار رومانية متفرقة.
٥  مؤرخ روماني عاش بين أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الميلادي، له كتاب في تاريخ روما.
٦  هذه المقتبسات عن ديوكاسيوس بخصوص الثورة الثانية، نسوقها عن: Paul Johnson, A History of the Jews, pp. 140 ff. إضافة إلى مراجع متفرقة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤