الفصل الرابع

ظروف العائلة أم اختيارٌ مقصود؟

تظل ردود الفعل على كتاب هيكل مصدرًا مفيدًا غاية الفائدة؛ لتحليل أساليب التفكير المشوَّهة، التي أصبحت سائدة في عالمنا العربي بعد سنواتٍ طويلة من القمع، وتتعمق دلالة هذا التشويه حين ندرك أن الكاتب الذي أثار ردود الفعل هذه، لم يسلم هو ذاته، في كثيرٍ من الأحيان، من الوقوع في أخطاء نقَّاده نفسها، بحيث يشعر المرء بأن المسألة في حقيقتها لا ينبغي أن تناقش على مستوى أطراف النزاع، ولا ينبغي أن تنحصر في البحث عن المصيب والمخطئ بين هذه الأطراف، وإنما المشكلة الحقيقية تكمن في ذلك الجو الفكري المزيَّف الذي طغى تأثيره على الجميع ولم يسلم منه أي طرف.

كان هيكل، بغير شك، مبالغًا في حديثه عن العوامل الفردية والعائلية التي تحكَّمت في نشأة أنور السادات، وصبغت شخصيته فيما بعدُ بصبغتها المميزة، صحيح أنه، حين يكون الحكم فرديًّا مطلقًا، تلعب شخصية الحاكم وأهواؤه، وربما نزواته، دورًا لا يُستهان به، يمكن أن ينعكس حتى على قراراته المصيرية، ولكن المشكلة هي أن العوامل الشخصية تقبل أشد التفسيرات تنوعًا: فالابن الذي يضطهده أبوه أو يسيء معاملته، مثلًا، يمكن أن يتحوَّل إلى إنسانٍ منحرف يضطهد الآخرين عندما يكبر، ويكون انحرافه هذا رد فعل على نشأته الأولى، ولكنه يمكن أيضًا أن يكون إنسانًا حنونًا عطوفًا على الآخرين، لا يريد لهم نفس المحنة التي مرَّ هو ذاته بها، ويكون هذا أيضًا رد فعل على نشأته الأولى. وهكذا فإن الحديث عن العُقد النفسية للطفولة، وتأثيرها في الإنسان البالغ، هو دائمًا حديثٌ محفوف بالمخاطر، يقبل أشد التأويلات تناقضًا.

خذ مثلًا فكرة الأصل المتواضع، والحياة الصعبة التي كانت تحياها أسرة السادات، هذا شيء يقبل تفسيراتٍ شديدة التنوع، فكم من زعيمٍ أسدى لشعبه أعظم الخدمات، وكان أصله المتواضع هو الحافز له على أن يُفني حياته من أجل الشعب الذي يشعر دائمًا بانتمائه إليه! وإذا كان السادات قد أغرق نفسه في البذخ، بصورةٍ مبتذَلة، في حياته المتأخرة، فإن هذا اختيارٌ واعٍ من جانبه، وانتماء وانحياز منه إلى طبقةٍ محددة، وليس مجرد عُقدةٍ نفسية عبرت عن نفسها بصورةٍ عكسية، فلماذا لم تؤدِّ عقدة الفقر بهوشي منه أو لومومبا مثلًا إلى اختيار حياة القصور والاستراحات؟ ألم يكن جمال عبد الناصر نفسه فقيرًا؟١ بل إن مثل هذا التفسير يمكن أن يُستخدم ضد هيكل نفسه، وقد أشار موسى صبري بوضوحٍ مُقزِّز إلى أصول هيكل العائلية ولمح إلى ما يسميه: خوفه من إظهار أبيه في الأماكن العامة، بل إن كاتبًا قدَّم عملًا روائيًّا ومسرحيًّا مشهورًا، تضمن إشاراتٍ مماثلةً تتعلق بشخصيةٍ من شخصيات الرواية، رأى كثير من النقاد أنها ربما كانت تعبيرًا عن شخصية هيكل نفسه.٢

هذه أمثلة لا أذكرها إلى لكي أنقدها، وأُبيِّن أنها مبنية على فهمٍ باطل من أساسه، لعملية تفسير مسلك رجل الدولة، ومع ذلك فقد تورَّط هيكل فيها، خلال فصوله الأولى، أكثر مما ينبغي، ولا شك أن نوعية الجمهور الذي وَجَّه إليه الكتاب أصلًا، وهو الجمهور الأمريكي، كانت مسئولة إلى حدٍّ بعيد عن هذا التورط، فالأمريكيون مُصابون بهوس العقد النفسية والتفسيرات السيكولوجية الرخيصة، وهم ينفقون على العلاج النفسي ما يغطي ميزانيات عدة دول من العالم الثالث، دون أن يجنوا من ذلك إلا مزيدًا من السلوك غير السوي. وهكذا خاطب هيكل جمهوره الأمريكي باللغة التي تروق له، ولكنها للأسف لغة لا تفسِّر شيئًا، بل تزيد الأمور تعقيدًا.

خذ مثلًا مشكلة اللون، لقد كان هيكل — للإنصاف — واضحًا في هذه المسألة، فأكد أن السادات كان مُعقدًا من لونه «بلا داعٍ»، وفي كل مرة كان يُكرِّر أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى هذا التعقيد اللوني، ولكن مجرد الإشارة إلى اللون كانت كفيلة بإثارة ردود فعل غاضبة لدى كثير من الناس، وكان من أطرف ردود الفعل هذه، ما كتبه مستشارٌ سوداني احتج بشدة على ما ذكره هيكل عن عقدة اللون عند السادات، الذي يحبه المصريون ويفخرون به، وذاهبًا إلى أن هذه إساءة إلى الشعب السوداني تُعرقِل مسيرة التكامل بين البلدين «في ظل قيادة الرئيس نميري»، ورأى المستشار فيما قاله هيكل تفرقةً عنصرية، ومؤامرةً مشتركة مع القذافي لعرقلة التكامل بين الشعبَين، ولم ينسَ المستشار أن يشير إلى أسماء عدد من الشخصيات المصرية المشهورة التي كانت من أبٍ سوداني أو أم سودانية، كمحمد نجيب، وعبد الله النجومي، وعلي عبد اللطيف، ولم يمنعهم ذلك من دخول التاريخ،٣ هذا رد فعل مبالغ فيه بغير شك، وربما كان طائشًا، نتج عن فهمٍ قاصر لإشارة هيكل إلى لون السادات، ولكن الموضوع بأكمله ما كان ينبغي أن يُثار؛ لأن أخطاء الحكام، وخاصة حين تكون فادحة، أعقد من أن تُفسَّر بمثل هذه العوامل.

ولكن لنتوقف وقفةً أطول عند صفةٍ أخرى أكدها هيكل بإلحاح، وأثارت ضده موجة من ردود الفعل العنيفة، وأعني بها نشأة السادات الفقيرة، التي أدت — وفقًا لتفسيرات هيكل النفسية — إلى رد فعل في الاتجاه العكسي لدى السادات عندما أتيحت له فرص الإثراء، ولما كان هدفنا الدائم هو التوصل إلى أنماط الفكر التي أصبحت سائدة في أيامنا هذه، والتي تشهد على الانهيار العقلي المميز لعهود القهر والكبت، فسوف نبدأ بضرب أمثلة لردود الفعل التي لا يكاد يتصورها العقل، على ما قاله هيكل عن فقر السادات في حداثته: فالكاتب الذي اقتبسنا عنه من قبلُ، والذي تحدث بلسان السادات، ردًّا على هيكل، دون أن يذكر اسمه، يقول: «صدقوا فيما يقولون، نشأتي عقدتني، ذقت الفقر وقسوته فحاولتُ أن أُجنِّب غيري تذوُّق مرارته، تملَّكتني عقدة الرخاء، وكانت أغلى أمانيَّ أن يوفقني الله إلى حمايةٍ من عنده لكل مصري ومصرية من مواجهةٍ لا ترحم مع شيخوخة أو عجز أو عوز، وأن يقدِّرني على طلب الطعام من الصحاري لكل فم، وحق العلاج والدواء لكل عليل، وتوفير البيت لكل عروس، ويشهد الله والشعب الوفي الذي لا ينسى، أنني سعيت وحاولت قدر طاقتي.»

ويستنكر زعيمٌ يمنيٌّ سابق على هيكل أنه يعير السادات بفقره، فيُذكِّر القراء بأن الله قد اختار أنبياءه من الفقراء، وقال لرسوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، ثم يُعلق الزعيم السابق المشهور قائلًا: «ولم نسمع أن السادات قهر يتيمًا، ولا نهر سائلًا، وكان بنعمة ربه يُحدِّث.»٤
والنموذج الثالث شهادة سريعة لموسى صبري، يُكرِّر فيها قصة عن السادات الذي أصرَّ على أن يقرأ بنفسه شكوى رجلٍ فقير بعد أن حاول سكرتيره الخاص أن يعالج الموضوع دون تدخل من الرئيس، ثم قال السادات لهذا السكرتير: «أنت يا فوزي لم تُعانِ الفقر كما عانيتُه.»٥

هذه الأمثلة تكفي للدلالة على التدهور الخلقي والفكري، الذي يمكن أن يصل إليه الإعلام في ظل القمع، فكاتب العبارة الأولى، على سبيل المثال، لا يخجل من الحديث عن رحمة الرئيس بالفقراء، ويتوهَّم أن الوعي لدى الجماهير قد انعدم إلى حد نسيان مجموعة المليونيرات التي أحاطت بالرئيس السابق وصاهرته، وتلك التي أُعطيت لها كل الفرص لنهب أموال الشعب في ظل الانفتاح، ولا يتورع الكاتب عن الحديث عن شقة لكل عروس، في الوقت الذي تشهد به تجربة الناس اليومية، أن أسعار المساكن الخيالية، وصلت إلى أرقامٍ، لم تعد تقدر عليها إلا عروسٌ واحدة بين كل ألف عروس، وهو لا يستحي من الحديث عن الطعام لكل فم وسط الغلاء الطاحن، ولا عن الدواء لكل مريض وسط الإهمال الكاسح لعلاج الشعب، والارتفاع الصاروخي لأسعار العلاج الخاص! فماذا يمكن أن يقول العقل والمنطق، حين تصل الصفاقة بالإعلام إلى هذا الحد؟

إن من العبث أن يسترسل المرء في مناقشة هذه الشهادات الفجَّة، التي لا ترتكز إلا على مغالطاتٍ مفضوحة، وما استشهدنا بها ها هنا، إلا لكي نقدِّم نماذج للمستوى، الذي أصبحت تناقش به أمور المجتمع المصيرية في الوقت الراهن، ولكن الأهم من ذلك هو أن نتساءل: هل يكفي التعليل الذي قدَّمه هيكل، والذي يرتكز على فكرة عقدة الفقر؛ لكي يفسر البذخ المفرط الذي تميَّزت به حياة السادات، وحياة المحيطين به من أقارب وأصحاب؟ إن عقدة الفقر، كما قلنا، يمكن أن تتجه اتجاهًا عكسيًّا، فتولد لدى الحاكم تعاطفًا حقيقيًّا مع الفقراء، وسعيًا جادًّا إلى استئصال الأسباب المؤدية إليه، فلماذا إذن كان الاتجاه، في حالة السادات، إلى التمتع المفرط بنعم الحياة، والاندماج التام بأكبر أثرياء المجتمع؟

في رأيي أن المسألة اختيار واعٍ ومقصود لنمطٍ معين من أنماط الحياة، ولفئةٍ معينة في المجتمع هي الأقدر على إشباع احتياجات نمط الحياة المطلوب، فالتفسير هنا اجتماعي واقتصادي قبل أن يكون نفسيًّا.

والدليل على صحة الرأي الذي نقدمه هو أن السادات حارب فكرة الفقر ذاتها، بطريقةٍ متعمَّدة، أملًا في إلغائها من القاموس، وبذل جهودًا واعية لإقامة «فلسفة» خاصة به، لا مكان فيها لمفهوم الفقر، وبذلك تكتمل عملية تغييب الوعي لدى الجماهير التي تشعر بوطأة الفقر في حياتها اليومية حتى لو لم تفهم الأسباب الحقيقية المؤدية إليه، ففي معظم خطب السادات وأحاديثه كانت هناك دعوةٌ متكررة إلى إلغاء الحقد، والاستعاضة عنه بالحب والتآلف والانسجام في ظل مجمع «الأسرة الواحدة»، الذي يرعاه ويسهر عليه «كبير العائلة». والحقد هنا ليس إلا تطلع الفقراء إلى نمط حياة الأغنياء، وإلغاء الإحساس بالفوارق الصارخة بين الطبقات، بدلًا من أن تقوم على إلغاء هذه الفوارق ذاتها، ولا جدال في أن الإلحاح على الناس ليل نهار؛ كي يتخلوا عن الحقد ويحبوا بعضهم بعضًا، في إطار مجتمع يسوده كل هذا القدر من التفاوت في الثروات وفي كافة فرص الحياة، إنما هو محاولة واعية لتزييف عقول الناس، بحيث تنسى واقعها الأليم ذاته، وليس على الإطلاق مجرد رد فعلٍ نفسي من جانب الحاكم على نشأته الفقيرة.

ولعل الدليل الأوضح من هذا كله هو موقف السادات من أحداث يناير ١٩٧٧م، فهذه الأحداث «ثورة فقراء» بمعنى الكلمة، والأمر اللافت للنظر حتمًا، في موقف السادات إزاءها، ليس أسلوب القمع العنيف الذي اتبعه لإخمادها، فهذا هو المسلك المنتظر من أي حاكم في مثل موقفه، ولكن ما ينفرد به السادات هو أنه حاول أن يُلغي طبيعة الحدث ذاته، ويحذف منه عنصره الأساسي؛ عنصر الفقر، حذفًا كاملًا، وهكذا ظل السادات شهورًا طويلة، بعد يناير، يوجِّه إلى كل من يناقشه أو يحاوره سؤالًا لا يتغير: انتفاضة شعبية أم انتفاضة حرامية؟ وتبعًا للإجابة عن هذا السؤال يتحدد موقف كل شخص، إن كان مع السلطة أو ضدها، من أنصار الانفتاح أو خصومه، من الطبقة العليا الجديدة أم من الطبقات الدنيا، كان إطلاق اسم «الحرامية» على تلك الملايين التي خرجت في مظاهراتٍ تلقائيةٍ عارمة ضد رفع الأسعار، هو في ذاته اختيارًا طبقيًّا لا تخطئه أي عين، وبغضِّ النظر عن أن وجود كل هذا العدد الهائل من «الحرامية» (لو صحَّت التسمية) هو في ذاته دليل على أن هناك خللًا أساسيًّا في المجتمع، فإن الشيء الذي ينطوي على دلالةٍ عميقة هو أن الاختلاف حول الاسم كان يعكس محاولة من الحاكم لإنكار وجود الفقر في المجتمع أصلًا، فالمتظاهرون لم يخرجوا لأنهم فقراء، بل لأنهم «حرامية». هذه قمة التوحد مع الطبقة الثرية التي أصبحت تحكم مصر وتنهب مواردها، ذلك التوحد الذي يصل إلى حد إلغاء كلمة الفقر من القاموس، وكأن حذف لفظٍ معين وإحلال لفظٍ آخر محله سوف يستأصل الظاهرة نفسها من جذورها!

كانت تلك، بطبيعة الحال، واحدة من الحالات التي يقوم فيها اختيار لكلمة مخفَّفة بالتغطية على حقيقةٍ أليمةٍ مريرة، تلك الحالات التي تكتشف فيها أجهزة الإعلام سحر «الكلمة»، فتتلاعب بها وهي واثقة من أن الكلمة المزيَّفة، إذا ما تكرر استخدامها إلى الحد الكافي، تستطيع أن تُغيِّر طبيعة الظاهرة التي نتحدث عنها وتُشكِّلها بالطريقة التي تحقق أهداف الحاكم — ويدخل في هذا الإطار استخدام أجهزة الإعلام المتكرر للفظ «النكسة» بدلًا من الهزيمة الثقيلة في يونيو ١٩٦٧م، وحديثها الدائم عن «سيادة القانون»، بمعنى وضع قوانين مزيفة توافق عليها الأغلبية الآلية في المجالس النيابية ثم ضمان «السيادة» لها، واستخدامها تعبير «تحريك الأسعار» بدلًا من الغلاء الفاحش، وهلمَّ جرًّا.

على أن الأمر اللافت للنظر هو ذلك الافتقار العجيب إلى سياسةٍ محدَّدة المعالم، قابلة للتنفيذ، لمواجهة ظاهرة الفقر في مصر، فبدلًا من التصدي للظاهرة بأساليبَ مخططة ومدروسة، كان الحاكم يتحدث في كل مناسبة، عن أمنيته الغالية، وهي أن يكون لكل مصري «فيلا وسيارة» خاصة به، ومثل هذا الحديث ليس مجرد تخدير لحواس الناس وعقولهم فحسب، بل هو أيضًا دليل على أن فكرة المواجهة العلمية للمشكلات غير موجودة في ذهنه أصلًا؛ ذلك لأن بلدًا كمصر لا يحتمل ببساطة، أن يكون لكل مواطن فيه «فيلا وسيارة»، حتى لو كان نظام الحكم فيه وطنيًّا مُخلصًا بلا أي شائبة، والنظرة العلمية إلى مشكلةٍ كهذه، هي التي تحدد الأهداف وفقًا للإمكانات الموجودة، وتكتفي بالحد الأدنى للمعيشة الآدمية، بدلًا من أن تُغرِق الناس في أوهام يستحيل تحقيقها، ومن المؤكد أن المفارقة لا بد أن تكون قاسية بين حلم «الفيلا والسيارة»، حين يشيعه بين الناس أكبر مسئول في الدولة، وبين الأسعار الفلكية للمساكن الجديدة، ووسائل المواصلات اللاإنسانية التي لا تملك الأغلبية الصامتة غيرها، وفي مثل هذه الحالات، يكون التقدير الواقعي للأهداف أقدر بكثيرٍ على تهدئة مشاعر الناس، وبعث الأمل في نفوسهم من أي تعبيرٍ تخديريٍّ حالم.

المهم في الأمر أن المحاولات الواعية المتعمدة للتغطية على حقيقة الفقر الصارخة، ولتعليل الناس بآمالٍ زائفة، لا يمكن أن تكون مجرد تعبير عن «عقدة فقر» متأصلة منذ النشأة الأولى، وإنما هي تعبير عن اختيارٍ وانحيازٍ إلى جانب القلة المستغلة، ضد الأكثرية المطحونة من وطأة الاستغلال، إنها فلسفةٌ متكاملة، دُبِّرت وخُطِّطت بعناية وبخططٍ مرسومة، وليست مجرد رد فعلٍ سيكولوجي على ظروف الفقر التي سادت خلال فترة النشأة الأولى، ومن هنا يبدو أن الخطأ الذي ارتكبه هيكل في هذا الجزء، لا يقل فداحةً عن ذلك الذي ارتكبه خصومه ممن تحمسوا للدفاع عن السادات، سواء منهم ذلك الذي أكد أن فقر السادات جعله يسعى حثيثًا لاستئصال كل مظاهر الفقر في بلاده، أو ذلك الذي ذرف دموع التماسيح وهو يتحدث عن معاناة رئيسه من الفقر في حداثته، أو ذلك الذي شهد — بكل أمانة وإخلاص — بأن السادات لم يقهر يتيمًا، ولم ينهر سائلًا، وكان بنعمة ربه يُحدِّث!

إن الاهتمام الزائد بعوامل التنشئة والتربية والبيئة الأولى، في حياة السياسيين، يمكن أن يؤدي إلى عكس الهدف المقصود منه، ففي حالة السادات كان من الممكن — كما قلنا من قبلُ — أن تُفسَّر نشأته المتواضعة على نحوٍ يؤكد تعاطفه مع الفقراء، كما فعلت أجهزة الإعلام المؤيدة له بالفعل، ولو قيل إن النشأة المتواضعة، وليس الاختيار الأصيل، هي التي أدت به إلى ارتكاب أخطائه، فإن مثل هذا التعليل يعني الْتماس شيء من العذر للحاكم؛ لأنه سيكون عندئذٍ «ضحية» ظروفه العائلية القاسية، وربما اقتنع البعض بأنه لم يكن يملك أن يفعل إلا ما فعل، وهذا كله هروب من المسئولية الحقيقية؛ مسئولية الاختيار الواعي، المخطَّط، المرسوم، الذي تخلى فيه السادات عن طبقته الأصلية، وانحاز بكل قوة إلى صف أصحاب الملايين الجدد.

ومع ذلك فإن هيكل يبرز هذا العامل إلى حد تصوير المسألة، كما لو كانت مسألة إنسانٍ مصاب بمجموعةٍ من العقد النفسية، التي لم يكن يستطيع التخلص من تأثيرها طوال حياته، وإذا قال البعض، دفاعًا عن هيكل، إنه لم يفعل ذلك إلا في الفصول الأولى، بينما خصص الفصول التالية للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الموضوعية، فإن هيكل نفسه يعود فيؤكد التهمة الموجَّهة إليه حين يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه، بعد أن عرض ملحمته الطويلة عن السادات، وأراد أن يلخِّص في النهاية ما انتهى إليه من نتائج: «يمكن الآن بأثرٍ رجعي أن يُقال إن غلطة السادات الكبرى، تمثلت في تضحيته بالأهداف الاستراتيجية لمصر، من أجل مناوراتٍ تكتيكية كان مشكوكًا منذ البداية في قيمتها، ويمكن أن يُقال — وبحق — إن حرب أكتوبر كانت فرصته الكبرى، بل كانت فرصة لم تُتح لحاكمٍ مصري قبله في تاريخ مصر الحديث، بما في ذلك محمد علي وجمال عبد الناصر، ولكنه ألقى بكل شيءٍ في الهواء، وربما كانت المسئولية تقع على نوع الحياة التي عاشها، أو ربما كانت تقع على نقص حصيلته من التعليم والعلم، وكلها عوامل تجعل من الظلم إصدار حكم قاطع عليه.»

هنا، وفي نهاية الكتاب، يعمد هيكل إلى استخدام التعليلات الشخصية، مثل نوع الحياة التي عاشها الحاكم، أو نقص تعليمه؛ لكي يفسر بها أخطر الأحداث، وكأن السادات لو كان أكثر علمًا لتغيرت سياساته جميعًا، أما المصالح والانتماءات والارتباطات، فلا مكان لها في تعليلات هيكل، فظروف الحاكم، من حيث هو فردٌ معين نشأ في أوضاعٍ معينة، هي التي تفسِّر كل شيء، وإن المرء ليعجب كيف يقبل مفكر ومُحللٌ كبير، كان أقرب المقربين إلى حكام أكبر بلدٍ عربي خلال ربع قرن من الزمان على الأقل، أن يقدم مثل هذا التعليل الجزئي الضيق لأحداثٍ سياسيةٍ كبرى، ويتجاهل عواملَ سياسية مثل اختيار الحاكم أن ينتمي إلى الشريحة العليا للمجتمع ويربط مصيره بها، ومثل اتباعه أسلوبًا للحكم غير مستند إلى إرادةٍ شعبية تعبر عن نفسها تعبيرًا حرًّا سليمًا، فهل يكون من المستغرب بعد ذلك، أن تكون النتيجة التي يصل إليها تحليله، هي أن «من الظلم إصدار حكم قاطع عليه»؟

وكل ما أستطيع أن أقوله من تفسير لهذا القصور الشديد في التحليل، هو أن من اعتادوا الاقتراب الشديد من حكامٍ أفرادٍ بعيدين عن الديمقراطية، ومن ألفوا رؤية أخطر القرارات تصدر بإرادةٍ فرديةٍ مطلقة، لن يستطيعوا أن يخرجوا في تعليلاتهم وتفسيراتهم عن إطار الظروف الشخصية لأصحاب السلطان.

•••

إن المناقشة الطويلة التي قمنا بها، على مدى هذا الفصل والفصول السابقة، لردود الفعل على ما كتبه هيكل، إنما كانت تستهدف قبل كل شيء، إظهار عناصر الضعف والتفكك في الجو الفكري الذي عاش في ظله هيكل وخصومه معًا، فالجميع يقعون في أخطاءٍ متشابهة، وإن كانت هذه الأخطاء مكشوفةً مفضوحة في بعض الحالات، وغير ظاهرة للعيان في حالاتٍ أخرى.

وأبرز هذه الأخطاء هو الخلط بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية في تحليل الظواهر السياسية، وإصدار الأحكام على تصرفات رجال الدولة، هذا الخطأ واضح كالشمس في استنكار الساداتيين لعدم الوفاء وانتهاك الحرمات ونبش القبور، ولكنه ظاهر أيضًا في تأكيدات هيكل، في مواضعَ كثيرة من كتاباته، بأن نقد الحكام بعد موتهم ليس من الشجاعة في شيء، إن المنهج الفكري واحد، وإن كان يطبق في حالة هيكل — كما يحدث دائمًا — بطريقةٍ أكثر ذكاء وخفاء.

ومن شأن اتِّباع هذا المنهج أن يبدو الصراع حول المسائل السياسية الكبرى، كما لو كان ثأرًا بين أشخاص، وهكذا يقول البعض، تأييدًا لموقف هيكل ضد مهاجميه: أين كنتم عندما كان عبد الناصر يُشتم؟ فيرد البعض الآخر ممن ينقد حملة هيكل على السادات: ولماذا هاجمت دكتاتورية السادات وسكت عن دكتاتورية عبد الناصر؟ ويظل كل من الطرفين حريصًا، قبل كل شيء، على ألا يوجه اللوم إلى الرئيس الذي يدافع عنه ويترك الآخر، أما القضية الأصلية، وهي أن حق النقد ينبغي أن يكون مباحًا للجميع، وفي عهود كل الحكام، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، فلم يدافع عنها أحد.

وحين تثور العواصف ضد هيكل من صحفيين كانوا زملاء له، ثم اندمجوا في العهد الساداتي، يعلق على ذلك بأسف قائلًا: «ليس بينهم من لم أقف معه في أحلك الظروف ولم أفعل كل ما في وسعي لمساعدته، ولولا أنني لا أريد أن أمنَّ على أحدٍ، لذكرتهم لك واحدًا واحدًا وبالاسم، ورويت ما قدمته لهم.»٦

إنه هنا يُلخص الموقف كله: فهو يتصور أنه بمثل هذه الإشارات إلى الخدمات الشخصية التي أسداها يردُّ على نقَّاده، وينسى أن القضايا المثارة أخطر بكثيرٍ من منطق الخدمات والمساعدات الفردية، ويثبت أنه لا يختلف عن مهاجميه ممن خضعوا لمنطق الحكم المطلق، وعجزوا عن تفسير الظواهر العامة إلا من خلال سلوك الأفراد.

١  يلاحظ أن بعض ضحايا التأميمات، في عهد عبد الناصر، قد فسروا إجراءات التأميم والمصادرة تفسيرًا يوازي تفسير هِيكَل لسلوك السادات، فذكروا أنها تعبير عن حقد عبد الناصر على طبقة الأغنياء وحسده لها بسبب أصوله الفقيرة. وهكذا يؤدي السبب الواحد إلى نتيجتين متناقضتين.
٢  انظر «الرجل الذي فقد ظله»، لفتحي غانم.
٣  المستشار أحمد الشريف (سوداني)، مقال بعنوان «متى كانت الجنسية السودانية سُبَّة؟» (الأخبار في ٢٦ / ٤ / ١٩٨٣م).
٤  انظر مقال الدكتور عبد الرحمن البيضاني، في الأهرام ٢٤ / ٤ / ١٩٨٣م.
٥  مقالة موسى صبري، في الأخبار ١٩ / ٤ / ١٩٨٣م.
٦  حديث مع صلاح عيسى في «الأهالي» بتاريخ ٢٧ / ٤ / ١٩٨٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤