الفصل السابع

مع السادات على جناحٍ واحد

الانطباع الذي يقدِّمه إلينا هيكل عن علاقته بالسادات هو أنه كان شديد القرب منه في السنوات الأولى من حكمه، ثم اختلف معه بعد عام ١٩٧٤م، في الوسائل أولًا، وبعد ذلك في الغايات والأهداف العامة، وهو لا يدع لنا أي مجال للشك في التوحُّد بينه وبين السادات خلال تلك السنوات الأولى، «كنت شديد التعاطف مع السادات كإنسان …» «في السنوات الأربع الأولى كنت أقرب إليه من أي إنسانٍ آخر …» «كانت هناك فترة في علاقاتنا توحدت فيها مقاصدنا … فكلانا كان يطلب سلامًا قائمًا على العدل في الشرق الأوسط، وكلانا كان يريد أن يرى مصر حرةً ومزدهرة، والعالم العربي موحدًا قويًّا.» «أعتقد أنني لعبت دورًا مؤثرًا … في المداولات والمشاورات السياسية التي أدت إلى اختيار السادات رئيسًا للجمهورية بعد رحيل جمال عبد الناصر.»

هذه الاعترافات ليست في الواقع مقصودة لذاتها، بل إن الهدف منها هو أن يردَّ هيكل، في الصفحات الأولى من كتابه، على ذلك الاعتراض الذي يمكن أن يوجِّهه أكثر الناس سذاجة إلى هيكل حين يقرأ ما كتبه عن السادات في «خريف الغضب»: كيف تهاجم السادات إلى هذا الحد مع أنك كنت من أقوى دعائم حكمه؟ وهكذا قرر هيكل، بذكاءٍ شديد، أن ينزع مخالب القارئ المعترض منذ البداية، ويقول له في الصفحات الأولى: نعم، لقد كنت قريبًا جدًّا منه، ولكن طريقينا قد افترقا فيما بعدُ لأسبابٍ متعلقة بالمبادئ السياسية.

هذا اعتراف يؤدي، إذا ما صدَّقه القارئ، إلى استبعاد أية شبهة للتناقض بين مواقف هيكل القديمة والجديدة، وإلى تجريد سلاح كل من يحاول الإشارة إلى الاندماج والانسجام التام الذي كان قائمًا بين هيكل والسادات في وقتٍ من الأوقات، وإلى إعطاء هيكل كل الحق في هجومه المتأخر على السادات، بعد أن كان من أقوى أنصاره.

ولكن، هل يفلح هذا الدفاع حقًّا في تبرئة هيكل من تهمة التناقض، والتقلب من عهدٍ إلى عهد؟ في رأيي الخاص أنه لا يفلح.

ذلك لأن هيكل قد ارتكب في كتابه خطأً قاتلًا، هو إشاراته الطويلة إلى الجوانب الشديدة السلبية في تاريخ السادات قبل أن يتولى الحكم، هذه الإشارات لو كانت قد صدرت عن كاتبٍ محايد لم يرتبط بالسادات في أي وقتٍ ارتباطًا عضويًّا وثيقًا، لكانت مصدرًا عظيم القيمة للمعلومات عن عادات وممارسات حاكمٍ مثير للكثير من الجدل، ولكن صدورهما عن هيكل بالذات يُلحق به هو ذاته أفدح الأضرار؛ ذلك لأننا لن نجد عندئذٍ عذرًا نُبرِّر به تعاطف هيكل مع السادات «كإنسان» في السنوات الأولى من حكمه، أعني في وقت كانت فيه جميع عيوب السادات السابقة معروفة للجميع، فكيف تعاطف هيكل مع السادات كإنسان في الوقت الذي كان يعرف فيه عنه كميةً هائلة من المعلومات تشينه إلى أبعد حد كإنسان؟ إننا لو شئنا الدقة لقلنا إن ما قاله هيكل، أخيرًا، عن طفولة السادات وشبابه والسنوات التي قضاها «في ظل عبد الناصر» بكل ما اتسمت به من فسادٍ ورشاوى واتصال بجهاتٍ مُريبة وانتفاع من أثرياء العرب، كل ذلك لا يدين هيكل في تعاطفه بعد ذلك مع السادات فحسب، بل يدين عبد الناصر في قبوله شخصًا كهذا ضمن المسئولين في حكمه، ثم وقوع اختياره عليه هو بالذات ليكون خليفةً له، والأهم من ذلك أن هذه المعلومات تدين أسلوب الحكم الذي يسمح لشخص يتسم بكل هذه العيوب بأن يصمد طوال كافة تقلبات العهد، ثم يصعد إلى المرتبة العليا التي لا ينازعه فيها أحد، هذه كلها أمورٌ واضحة، لا تشفع فيها كلمات هيكل التي حاول بها أن يُخفِّف مرارة الحقيقة في الصفحات الأولى من كتابه.

ولكن يبدو أن هيكل لم يكن مرتاحًا كل الارتياح إلى العذر الذي قدَّمه لقرائه، ولم يكن مطمئنًا كل الاطمئنان إلى أنهم سيقتنعون به، وهكذا نراه بعد قليل يقدِّم عذرًا آخر فيقول: «وأظن أيضًا أنني لم أكن غافلًا عن بعض أسباب القصور فيه، لكني تصوَّرت أن أعباء المنصب ووِقْر المسئولية سوف تُقوِّي كل العناصر الإيجابية في شخصيته، وسوف تساعده في التغلب على جوانب الضعف فيها. كان في ذهني باستمرار نموذج الرئيس الأمريكي هاري ترومان، الذي خلف فرانكلين روزفلت في مقعد الرئاسة الأمريكية قرب نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فقد بدا ترومان في ذلك الوقت، وبعد روزفلت، شخصيةً باهتة ومجهولة لا تستطيع أن تقود الصراع الإنساني الكبير في الحرب العالمية الثانية إلى نهايته المطلوبة والمحققة، ولكن ترومان، أمام تحدي التجربة العملية، نما ونضج وأصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين في العصر الحديث، ولقد تصورت أن نفس الشيء يمكن أن يحدث للسادات.»

هنا يواصل هيكل أسلوبه في مخاطبة الناس كما لو كانت عقولهم ملغية، فهو الآن يقول، مبررًا تقلباته: نعم، لقد كنت أعرف أن في الرجل عيوبًا، ولكني تصورت أن الحكم سيُصلحه! ما الذي يرغمك على هذا التصور يا سيد هيكل؟ ألم يخطر ببالك الاحتمال الآخر، والأوضح، وهو أن الحكم والقوة ستزيده فسادًا؟ وهل كانت مجموعة العيوب التي أحصيتها في مختلف مراحل حياته، من النوع الذي يمكن أن ينصلح تحت وطأة مسئوليات الحكم؟ إنك تتحدث عن تقوية العناصر الإيجابية في شخصيته، والتغلب على عناصرها السلبية، ولكنا لم نسمع منك، طوال الفصول التي تحدثتَ فيها عن السادات قبل توليه الحكم، ذكرًا لأي عنصرٍ إيجابي، فعلى أي شيء إذن كنت تعلق آمالك؟

أما قصة روزفلت وترومان، فهي أقبح عذر يمكن تصوُّره لأقبح ذنب؛ ذلك لأن أحدًا لم يقل عن هاري ترومان إنه أصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين في العصر الحديث، فتاريخ ترومان يرتبط في الأذهان بقرارٍ بشع استهل به حكمه، وما زالت الإنسانية تلعنه من أجله حتى اليوم، وهو قرار إلقاء القنبلتين الذريتين في هيروشيما ونجازاكي — وهما القنبلتان الذريتان الوحيدتان اللتان استخدمتا ضد البشر حتى اليوم. فهل هذا ما يقصده هيكل بعبارة «قيادة الصراع الإنساني الكبير في الحرب العالمية الثانية إلى نهايته المطلوبة»؟ أما في أذهاننا نحن العرب، فإن اسم ترومان يرتبط بتاريخٍ أسود ستلعنه من أجله كل أجيالنا التالية: هو القيام بأهم دور في قيام دولة إسرائيل، والاعتراف بها بعد خمس دقائق من إعلان قيامها، والضغط على أكبر عددٍ ممكن من دول العالم من أجل الموافقة على قرار الأمم المتحدة بشأنها. فهل هذه هي الأسباب التي أصبح من أجلها ترومان، في نظر هيكل، واحدًا من أعظم رؤساء أمريكا في العصر الحديث؟ أستطيع، من وجهة نظري الخاصة، أن أعطي هيكل كل الحق في تشبيهه لأنور السادات بترومان، إذا كان المقياس الذي نتبعه هو مقدار الخدمات التي يؤدِّيها الرئيس لدولة إسرائيل!

إنها، إذن، حجج لا تقنع أحدًا، تلك التي ساقها هيكل لتبرير ارتباطه الوثيق بالسادات في السنوات الأولى من حكمه، ولم يكن اختياره أن يستخدم حُججًا متهافتة كهذه إلا حلقةً أخرى في سلسلة التعتيم الفكري الذي يلجأ إليه أولئك الذين نشئوا وازدهروا وترعرعوا في ظل نُظُم حكم متسلطة، لا ديمقراطية، تستخفُّ بعقول الناس وتستهين بذكائهم.

وحقيقة الأمر أن قصة ارتباط هيكل بالسادات أطول وأعقد من ذلك بكثير …

•••

هناك شواهدُ كثيرة وقوية على أن حكم عبد الناصر كان يضم، في سنواته الأخيرة على الأقل، «أجنحة» متنافسة ومتعارضة، كان هناك الجناح العسكري الممسك بقوة الجيش، والملتصق بالمشير عامر (شمس بدران وقادة الأسلحة المختلفة قبل ١٩٦٧م)، وكان هناك الجناح التنفيذي الملتصق بعبد الناصر في عملية الحكم (سامي شرف، شعراوي جمعة، محمد فايق … إلخ) وكان يقود هذا الجناح علي صبري، وكان هناك الجناح الهادئ، المتربص، الذي يحتفظ بعلاقاته بعبد الناصر بحذرٍ شديد، دون التورط في ممارسات تثير المتاعب: أنور السادات، محمود فوزي، سيد مرعي، حافظ بدوي، وأكاد أجزم بأن هيكل كان ينتمي إلى هذا الجناح الأخير؛ فالشواهد قوية على أن هيكل كان من مجموعة أنور السادات قبل أن يتولى هذا الأخير الحكم بوقتٍ غير قصير.

ويكفي، كمثال واحد للتدليل على ذلك، أن أستشهد بما قاله هيكل نفسه في مقاله الذي أشرت إليه في موضوعٍ سابق: «ما أكثر الشجاعة في هذه الأيام على الغائبين!» فهو في هذا المقال يروي قصة اعتقال عبد الناصر لأحد المثقفين المرتبطين بهيكل في جريدة «الأهرام»، وكيف غضب هيكل ولازم بيته أيامًا دون أن يفاتح عبد الناصر في الموضوع. والذي يهمنا في هذا أن أنور السادات كان هو الذي اتصل به قائلًا: «ما هذا الذي تفعله؟ إنك تترك الجو هنا لكل من يريد أن يستثير ويحرض.» ثم قال: «اتصل به (بعبد الناصر) فورًا وتحدث معه بنفسك، ولا تترك المجال مكشوفًا لآخرين.» وبعد يومين عاود السادات الاتصال بهيكل قائلًا: «يظهر أنك جننت، لماذا تترك الأمر بينك وبينه لكل من يريد أن يتبرع بكلمة؟»

هنا يظهر بوضوح أنه كانت هناك مجموعتان، واحدة يمكن أن تُحرِّض عبد الناصر ضد هيكل، وأخرى حريصة على سلامة هيكل ضد المجموعة الأخرى، وفيها أنور السادات، ولا شك أن تطوع السادات بكل هذه النصائح إلى هيكل يدل على أنهما كانا ينتميان إلى معسكرٍ أو جناحٍ واحد.

وربما وصف البعض هاتين المجموعتَين وصفًا أيديولوجيًّا، فقال إن الأولى (علي صبري) يسارية، والثانية (السادات) يمينية، ولكن هذا في رأيي وصف لا يصدق إلا في حدودٍ ضيقة، فقد تعاملت المجموعة الأولى بالفعل مع السوفييت في وقتٍ كانت مصالحهم فيه تقتضي ذلك، وأنا أشك جدًّا في أن يكون هناك أي أساسٍ أيديولوجيٍّ حقيقي لهذا التعامل، أما مجموعة السادات فكان موقفها أوضح، هو الميل الشديد إلى الجانب الأمريكي، وإن كان هيكل، داخل هذه المجموعة، أشد حذرًا وأقل انكشافًا بكثيرٍ من الآخرين.

وعلى أية حال فإن الأحداث التالية أثبتت صحة هذا التقسيم إلى جناحَين حول عبد الناصر: إذ إن الخلافات بين الجناحين خرجت إلى العلن بعد موت عبد الناصر، وكان فرسان المجموعة المحيطة بالسادات هم هيكل ومحمود فوزي (الذي عيَّنه السادات رئيسًا للوزراء)، وبذل هيكل، كما سنرى فيما بعدُ، مجهودًا خارقًا للعادة لكي يفضح المجموعة الأخرى، ويبرر إلقاء السادات بأهم أعضائها في السجون؛ ولكي يُثبت أن طريق السادات هو الطريق الصحيح.

وربما تساءل البعض: ما الذي كان يدعو عبد الناصر إلى أن يتعامل مع مجموعتَين متنافرتَين إلى هذا الحد؟ (لاحظ أن مجموعة عبد الحكيم عامر قد تمت تصفيتها نهائيًّا بعد هزيمة ١٩٦٧م)، وهذا سؤال يصعب الإجابة عليه؛ إذ إن ما يبدو للوهلة الأولى، ولأصحاب النوايا الطيبة، هو أن التعامل مع مجموعتَين متنافرتَين يُعطِّل وضع البرامج وتنفيذ السياسات التي كان يضعها عبد الناصر، وعلى سبيل المثال، فإن الإجراءات الاشتراكية لن تستفيد من وجود أشخاص مثل السادات ومرعي وعثمان أحمد عثمان في قلب النظام، ولا جدال في أن هؤلاء لم يقبلوا تلك الإجراءات إلا خوفًا من عبد الناصر أو مسايرةً له. وهكذا يظل السؤال قائمًا، والرد الوحيد الذي أتصوره هو أن نظام الحكم كان بسبب عدم ديمقراطيته، مرتكزًا على القوة، والقوة تحتاج دائمًا إلى توازنات، ومن المفيد، من أجل استقرار النظام، أن تكون هناك مجموعتان تنشغل كل منهما بالأخرى، ويمكن ضرب إحداهما بالأخرى إذا ما تمادت في ممارسة قوتها … أما تأثير ذلك على مصر، فعلمه عند الله!

•••

ثم جاء السادات إلى الحكم، وأصبحت الفرصة متاحة لجناحه لكي يبسط سلطته ونفوذه، وكان أول ما فعله هيكل هو أنه قام بدورٍ رئيسي في تأكيد أحقية السادات بخلافة عبد الناصر على أساس «الشرعية»، أي لأن عبد الناصر هو الذي اختاره نائبًا، وهكذا يقول في كتابه الأخير: «أدرنا الحملة الانتخابية للسادات في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية (وكان المشرف عليها هو هيكل شخصيًّا) على أساس أنه كان الرجل الذي اختاره جمال عبد الناصر لهذا المنصب بنفسه حين أحسَّ باحتمال خطر على حياته.»

هل ترى الخدعة أيها القارئ العزيز؟ ألا تشعر بأن عقلك قد أُهين عندما تقرأ هذا الكلام؟ لقد أراد هيكل أن يُقنعنا من قبلُ بأن اختيار عبد الناصر للسادات كان مجرد صدفة، ولم يكن مُقدَّرًا له أن يدوم أكثر من أسبوع، وكان يرجع فقط إلى أن السادات «عليه الدور»، وكان في ذهن عبد الناصر أن يُغيِّر قراره ولكنه انشغل، ولم يكن بقاء السادات نائبًا حتى موت عبد الناصر إلا ضربة حظ جعلت الرئيس «ينسى» هذا الموضوع. حسنًا، لنصدق هذا كله، ولكن إذا صح أن هذا هو رأي هيكل في الموضوع، فكيف سمح لنفسه بأن يقود الحملة الانتخابية للسادات بحجةٍ تفترض أن اختيار عبد الناصر له كان اختيارًا سليمًا، وحقيقيًّا، وتعبيرًا عن رغبته الأصيلة والدائمة؟ إن هيكل نفسه — تبعًا لما قال — لم يكن مقتنِعًا بهذا الاختيار العارض، بل يبدو أنه ناقش عبد الناصر فيه، فكيف يدير هيكل حملته على أساس أن الاختيار كان أصيلًا؟ إن المسألة لا تحتمل إلا أحد أمرَين: فإما أن عبد الناصر كان قد اختار السادات؛ لأنه كان مقتنعًا به، وعندئذٍ تكون قصة «الدَّور» و«النسيان» قصةً ملفقة (ويكون عبد الناصر ذاته قد أعطى شعبه أسوأ «هدية» لمستقبل أيامه)، وإما أن عبد الناصر كان قد اختاره بصورةٍ مؤقتة، ولم يكن ينوي أن يحتفظ به إلى النهاية، وفاجأه الموت قبل أن يعدل عن رأيه، وعندئذٍ يكون هيكل قد أدار حملة السادات الانتخابية على أساس علمية غش كبرى موجهة ضد الجماهير البريئة الذاهبة إلى صناديق الاستفتاء.

•••

إذن فقد أصبح السادات، بفضل مؤازرة هيكل وتعاونه معه قلبًا وقالبًا، رئيسًا للجمهورية، ولكن الأمر لم يستتب له على الفور، فقد كان هناك الجناح الآخر، الذي لم يكن مقتنعًا بالسادات إلا بوصفه رئيسًا انتقاليًّا، ولم يسكت عن ترشيحه إلا لكي يتم عبور تلك اللحظات الحرجة التي أعقبت وفاة جمال عبد الناصر بسلام، وهكذا بدأت الاختلافات والمناوشات والانقسامات، وكان الخلاف محتدمًا على أشده بين الجناح الناصري التنفيذي، الذي كان أكثر عددًا وأقوى رسوخًا بكثير، وبين الجناح الساداتي، الذي كان يتمتع بميزةٍ هامة، هي كرسي رئاسة الجمهورية (وهو أمر له أهميته القصوى في نظام حكمٍ غير ديمقراطي)، وكذلك دهاء أقطابه وحنكتهم السياسية، وعلى رأسهم هيكل.

المهم أن الصراع أسفر في النهاية عن انتصارٍ ساحق، وشديد السهولة، للجناح الساداتي على الجناح الآخر الذي كان، رغم سيطرته على أهم مرافق الدولة ومعظم التنظيمات السياسية، يدير دفة الصراع بقصورٍ شديد، وبعد أن حسمت نتيجة الصراع لصالح السادات فيما عرف بحركة التصحيح (وفيما بعدُ: ثورة التصحيح) في ١٥ مايو ١٩٧١م، أي بعد ستة أشهر من اعتلاء السادات الحكم، أصبح الطريق مأمونًا، وكتب هيكل مُسجلًا موقفه من هذا كله «بصراحة»، ومن المهم جدًّا أن نتابع هذا الذي كتبه هيكل في تلك الفترة لعدة أسباب:
  • أولًا: أن هذه الفترة تمثل منعطفًا حاسمًا في السياسة المصرية، تحددت فيه بالتدريج معالم الخط المميز لحكم السادات في السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
  • ثانيًا: أن كتابات هيكل، بما تضمنته من حماسةٍ شديدة للسادات، تكشف عن العلاقة العضوية الوثيقة بين الرجلين، وتؤكد أن هذه العلاقة كانت قائمة منذ عهد عبد الناصر، وخرجت إلى العلن عندما تخلَّص السادات من منافسيه.
  • ثالثًا: أن هذا التمجيد الذي أغدقه هيكل على السادات، حدث في وقتٍ كان يعلم فيه من هو السادات، وكان يعرف تاريخه الذي رواه في «خريف الغضب»، والذي كان يمتد على مدى ثلاثين عامًا، من أوائل الأربعينيات حتى أواخر الستينيات.
  • رابعًا: أن هذه الكتابات تتحدث في كثيرٍ من الأحيان عن وقائعَ رُويت فيما بعدُ في «خريف الغضب»، ولكنا نجد الواقعة الواحدة تصطبغ بلونَين مختلفَين كل الاختلاف: ساطعٍ براق في عامَي ١٩٧١ و١٩٧٢م، وأسودَ قاتمٍ في ١٩٨٣م، الفرق بين الاثنين، بالطبع، يكشف عن مستوى القيم الأخلاقية لدى أنصار مدرسةٍ معينة في الصحافة والسياسة، لا تجد في ارتداء الأقنعة وخلعها، تبعًا للعهود ووفقًا للمصالح، أي عيب أو نقيصة.
  • خامسًا: أن هذه الكتابات تُثير سؤالًا على جانبٍ كبير من الأهمية، هو: إلى أي مدًى كان هيكل ناصريًّا؟
    • يصف هيكل، في أول مقال يكتبه بعد أحداث ١٥ مايو، أيام الأزمة فيقول: «لقد عشت لحظة التفجير، ومن حسن الحظ أن التدمير لم يقع، وتلك شهادةٌ تاريخية لأنور السادات وشجاعته الأدبية والمادية في لحظاتٍ بالغة الصعوبة والخطر.»
    • لقد كنت أول من دعاه الرئيس أنور السادات إلى بيته صباح الأربعاء ١٢ مايو ولم يستدعني بالتليفون، كما تعوَّد أن يفعل، ولكنه بعث إليَّ بكريمته تدق باب بيتي في الصباح الباكر …» (تأمل مدى التعاون والتفاهم بين الرجلين في لحظة التحول).
    • يكتب هيكل على لسان السادات، في حملة الدعاية التي شنها لدعم مركزه بعد الحركة: «إن لديَّ الشجاعة أن أقف أمام الملأ وأقول بأعلى صوت، إنني لا أريد أن أكون رئيسًا لهذا البلد وفق شروط يمليها من يدَّعون أنهم ولاة الأمر عليَّ، إنني أعمل بضميري ولن أعمل بإملاء أحد عليَّ، وأقوى سلاح أملكه في يدي أنني لا أتمسك بأن أظل رئيسًا.»
    • «كان أنور السادات في هذه الساعة الحاسمة من التاريخ هائلًا بأكثر مما يستطيع أن يتصور أو يصف أحد، كانت قراراته لمواجهة التطورات المفاجئة، مزيجًا مدهشًا من الهدوء والحسم.»
    • «كانت لحظة حاسمة في تاريخ مصر … وكانت لحظةً رائعةً نبيلة.»١
    • يتحدث هيكل عن انتصار ذلك الذي قال عنه فيما بعدُ، إنه تولى الحكم بصدفةٍ تاريخية غير مقصودة، فيقول: «عشنا المحنة مرتَين في السنوات الأخيرة، ولولا عناية الله مع جمال عبد الناصر مرة (يقصد أيام تمرد عبد الحكيم عامر بعد الهزيمة)، وعناية الله مع أنور السادات مرةً ثانية؛ لسقطت مصر في أعماق الظلام والخوف.»
    • يصف هيكل الحوار الذي كان يدور بين السادات وخصومه فيقول: «كان أنور السادات صادقًا، ولم يكونوا صادقين.»
    • «كان أنور السادات يتصرف على سجيته؛ سجية مصريٍّ أصيلٍ مفتوح القلب والعقل معًا.»
    • «حدثت المعجزة في المرة الثانية التي استفقنا الآن من هولها؛ بسبب أن مواطنًا تحرك ضميره، فذهب بأشرطته في الليل إلى رئيس الجمهورية يضع الحقيقة تحت تصرفه، ثم كانت بعد ذلك شجاعة رجل في موقع المسئولية الأولى، تصرف بجرأة نادرة في لحظات خطرٍ محيق.»٢
    • «قال الرئيس السادات بلهجته الودودة: محمد … ودار بيننا نقاشٌ طويل كان فيه الرئيس كريمًا وحليمًا كعادته.»٣
    • «هذه المرحلة التي ستجعل من أنور السادات — بإذن الله — قائدًا تاريخيًّا لشعبه وأمته؛ لأن القيادة التاريخية مرتبةٌ أعلى بكثيرٍ من الرئاسة مهما كان وصفها.»٤
    • «لقد أثبت أنور السادات ذلك عمليًّا في معركته ضد مراكز القوى، كان أمامها أعزل من أي سلاح … وكانوا أمامه ومعهم كل أدوات السلطة في مصر، وكنسهم من فوق الأرض كنسًا؛ لأن الجماهير كانت معه.»٥
    • ويصل الأمر بهيكل إلى حد أن يمتدح في السادات نفس المظاهر التي هاجمه من أجلها فيما بعد في «خريف الغضب»، فنشاط السادات السياسي في شبابه، الذي وُصف في «الخريف» بأنه عمالة للقصر، وفقره العائلي الذي وُصف بأنه سبب عقدته النفسية وعلة تكالبه على مظاهر الترف، كان لهما وصفٌ مختلف تمامًا في عام ١٩٧٢م:
      «كان أنور السادات أكثر ما يكون أمانةً حين قال: إنني أفهم ما يعانيه الشباب، وأنا الذي خرجتُ من طين مصر إلى التمرد، وإلى السجن وإلى التشرد، ثم إلى الثورة.» ويواصل هيكل كلامه قائلًا: «يقول أنور السادات نفسه: كنت دائمًا من قاع السلم الاجتماعي في مصر، من قلب الطين، ولقد تعلمت بمعجزة، وعندما أتممت تعليمي وجدت أن العمل الوطني أهم بالنسبة لي من أي وظيفة مع حاجتي الشديدة إلى مرتبي … وجدت نفسي في السجن، متهمًا بالتعاون مع الألمان، وكان ذلك صحيحًا، ولكن تعاوني مع الألمان لم يكن من أجل هتلر وإنما من أجل مصر.»٦
      أما استراحة القناطر، التي صارت فيما بعدُ، مع غيرها من الاستراحات، نموذجًا للترف الذي يتمتع به السادات على حساب الشعب، فقد قال عنها هيكل: «كنت على موعدٍ مع الرئيس السادات في استراحة القناطر التي يفضل الإقامة فيها كلما استطاع؛ لأنها تجعله بقرب الريف الذي يعتبره مصر الأصيلة ومصر الحقيقية.»٧

إن هذه الاقتباسات تُغني عن كل تعليق، وحسبنا أن نقول إن الصفات المعنوية والأخلاقية للشخص الواحد لا يمكن أن تتغير في مرحلةٍ واحدة من حياته، ولكننا عند هيكل نجد أنفسنا إزاء ساداتين لا ساداتٍ واحد: أحدهما كان بطلًا عندما كان هيكل راضيًا عنه وشريكًا له، والآخر كان منحرفًا عندما حل «خريف الغضب»، ويظل السؤال الأهم، بعد هذا كله، هو: إذا كان لدينا «ساداتان»، فكم هيكل هناك؟

في الحديث السابق كله كانت هناك إشاراتٌ كثيرة إلى الصراع بين جناحين في ظل عبد الناصر، والأمر اللافت للنظر هو أن كلا الجناحين كان يؤكد أنه هو الذي يمثل تراث عبد الناصر على حقيقته، ولما كان هيكل قد انتمى، بقلبه وقالبه، إلى الجناح الساداتي في تلك الفترة، فقد كان من المحتَّم أن يؤكد، في كتاباته، أن السادات وريث الناصرية الأصيلة، وأنه هو الذي يعبر عن مبادئها خير تعبير.

فهو يقول عن حركة التصحيح: «إننا لسنا أمام بدايةٍ جديدة، وإنما نحن على طريق الاستمرار، وإلا وجدنا أنفسنا نقع في شركٍ ينصبه أعداء الثورة السياسية والثورة الاجتماعية.»٨ ويكتب هيكل عن حوارٍ دار بينه وبين السادات حول الناصرية فيقول: «قال أنور السادات بالأمانة كلها: إنني لا أرى طريقًا آخر غير طريق عبد الناصر.»٩ ويدافع هيكل عن ناصرية السادات الأصيلة فيقول: «عبد الناصر والناصرية لا يمكن رؤيتهما من خلال ثلاثة أو أربعة أساءوا إليه وإليها وإلى أنفسهم، وإنما يُرى وتُرى من خلال كثيرين أحسنوا، أنور السادات كان هو الذي اختاره واستخلفه من بعده، ومع أنور السادات مئات من المعاونين والمساعدين يقودون العمل المصري في كل الميادين.»١٠ ويدعو شعب عبد الناصر إلى الوقوف وراء السادات فيقول: «إن قيادة أنور السادات، على طريق جمال عبد الناصر، هي الممثل الشرعي لحركة الثورة الوطنية والقومية في المرحلة الراهنة، وظني أن هذه القيادة وتأييدها إلى آخر المدى هو العاصم الحقيقي في هذه الظروف من جاهلية اليمين المتخلف وجهل اليسار المغامر.»١١

ولكن هيكل في الوقت ذاته كان يمهد للتغيير، وعندما كتب في نوفمبر ١٩٧٠م مقالًا بعنوان: «عبد الناصر ليس أسطورة» أثار ضجةً كبرى لدى الفريق الآخر، الذي كان يؤكد تمسُّكه بالناصرية كما وضع معالمها عبد الناصر نفسه، ولقد دار خلافٌ طويل بين الفريقين حول أسباب الصراع بينهما، وهو خلاف لا يعنينا هنا أن ندخل في تفاصيله ونصدر حكمًا على طرفيه، بل إن ما يعنينا هو أن هيكل، الذي أعلن نفسه حاميًا لتراث الناصرية، كان في تلك الفترة يقف من الناصرية موقفًا يدعو إلى التساؤل عن طبيعة انتمائه إليها.

فهو قد حارب الجناح «المتطرف»، إذا جاز هذا التعبير، وساند الجناح المعتدل، إذا جاز التعبير أيضًا، ثم عاد في كتابه الأخير فهاجم الجناح المعتدل أيضًا! وهكذا تظل الناصرية عنده هي ما يرتبط بشخص عبد الناصر فقط، لا بأي تنظيمٍ معين انبثق عنها.

وعندما حارب الجناح المتطرف، هاجمه على أسسٍ متعددة؛ فهو يصف أقطاب هذا الجناح بالجهل الشديد، إلى حد أنه يدون في أحد مقالاته محتويات شريط لجلسات تحضير أرواح حضرها هؤلاء الأقطاب، مع أستاذٍ جامعي اتخذوه وسيطًا، وأخذوا فيها يسألون «الروح» عن أخطر الأمور المتعلقة بتخطيط حركتهم وتوقيتها،١٢ وإذا صحت القصة (وأنا شخصيًّا غير مقتنع بها)، فإنها تلقي ظلالًا من الشك على العهد الناصري كله، الذي كان هؤلاء يشغلون فيه مراكز القوة الحقيقية، وبالطبع لا يرى هيكل، كعادته، أن ما يقوله عن هؤلاء هو قبل كل شيء طعن في عبد الناصر، الذي أسلم مقاليد بلده لأشخاصٍ على هذا المستوى، بل هو طعن في هيكل بدوره، الذي رضيَ بأن يكون فيلسوفًا لعهد يضم في داخله مثل هذه النوعيات.

أما تأييده للجناح المعتدل، فكانت عواقبه وخيمة: إذ إن هذا الجناح هو الذي تولى، في السبعينيات، القضاء على كل المقومات الرئيسية للناصرية، كما حددها هيكل نفسه: أعني الحياد الإيجابي والاستقلال الوطني والتصدي للإمبريالية والصهيونية، والنمو المستقل في ظل اقتصاد مخطَّط، أي أن نفس المجموعة التي اختار هيكل الوقوف في صفها، كانت هي التي تولت تصفية الناصرية، حسب مفهومه لها.

وحين عاد هيكل بذاكرته إلى الناصرية بعد عبد الناصر، وجد التنظيمات الناصرية مفككة وعاجزة عن العمل السري أو العلني، ومفتقرة إلى القيادات القادرة،١٣ ولكن ناصريًّا معروفًا هو «فريد عبد الكريم» يؤكد تماسك الناصرية وثبات مبادئها، وينفي الفكرة القائلة إنها تقوم على شخصية الزعيم، مع اعترافه بالدور الأساسي الذي تلعبه هذه الشخصية، أما «عبد الهادي ناصف»، وهو بدوره ناصريٌّ مخلص، ومن النماذج النقية لهذا الاتجاه، فقد كانت معاركه مع هيكل قديمة العهد، منذ أن نشر هيكل مقال «تحية للرجال» الذي تضمن مبالغةً شديدة في تصوير صعوبة عبور قناة السويس، وردَّ عليه «ناصف» بهجومٍ مضادٍّ عنيف على اتجاهات هيكل التي رأى فيها ابتعادًا عن الناصرية، وما زالت المعركة بين الاثنين قائمة.١٤

المهم في الأمر أن كثيرًا من الناصريين المتمسكين بمبادئهم يتشكَّكون في ناصرية هيكل؛ لأسبابٍ عدة:

فهو قد هاجم أهم رموز الناصرية بمجرد موت عبد الناصر، بحيث يمكن أن يُنظر إلى هجوم هيكل عليهم بوصفه هجومًا على شيء في صميم الناصرية ذاتها. وهو قد أبدى تأييدًا لا شك فيه للتحولات الساداتية في السياسة الداخلية والخارجية، خلال الفترة الحاسمة التي سبقت حرب ١٩٧٣م، وهي التحولات التي سنرى فيما بعدُ أنها تنطوي — من وجهة نظر معينة — على بذرة الاستسلام لإسرائيل وفتح الأبواب لأمريكا، وتخريب الاقتصاد الوطني باسم الانفتاح، والأهم من ذلك أنه كان من الدعائم الكبرى لحكم السادات، في الفترة الحرجة الأولى، على الرغم من كل ما يعرفه عن الاختلاف الهائل بين السادات وعبد الناصر في الشخصية والفكر والاتجاه.

وهكذا يتبرأ كثيرٌ من الناصريين المتمسكين بعقيدتهم من هيكل، بل ويناصبونه العداء، وعندما يستعرض المرء تطور مواقف هيكل، منذ بدء ارتباطه بعبد الناصر حتى اعتقاله القصير الأمد في عهد السادات، لا يملك إلا أن يتساءل: هل كان أي أساسٍ حقيقي لتلك العلاقة التي ارتبط فيها اسم هيكل بالناصرية، باستثناء ولائه لشخص عبد الناصر؛ ذلك الولاء الذي كان في الوقت ذاته المصدر الأول لشهرته ونفوذه؟ سؤال أترك الإجابة عنه للناصريين أنفسهم، أما عن نفسي فإنني كلما صادفت حالةً من تلك الحالات التي تسيء فيها كتابات هيكل إلى عبد الناصر أبلغ الإساءة، دون قصد منه، فإني لا أملك إلا أن أدعو لعبد الناصر بأن يرحمه الله من أصدقائه، أما أعداؤه فقد كان هو ذاته كفيلًا بهم!

١  الاقتباسات السابقة كلها من مقال هِيكَل الأسبوعي «بصراحة»، بعنوان «ماذا أقول؟»، الأهرام ٢١ / ٥ / ١٩٧١م.
٢  مقال: «السؤال الأول والأكبر»، الأهرام ٢٨ / ٥ / ١٩٧١م (وجميع الاقتباسات السابقة من نفس المقال).
٣  «كيسنجر وأنا»، ٢٩ / ١٢ / ١٩٧٢م.
٤  «الخطوة الضرورية»، ٢٦ / ١١ / ١٩٧١م.
٥  «علامات على طريقٍ طويل»، ١١ / ٢ / ١٩٧٢م.
٦  «قضية هذا الجيل»، ٢٨ / ١ / ١٩٧٢م.
٧  «على هامش التطورات الأخيرة»، ٢٨ / ٧ / ١٩٧٢م.
٨  «ماذا أقول؟»، ٢١ / ٥ / ١٩٧١م.
٩  «حديث عن تجربة»، ١٤ / ١ / ١٩٧٢م.
١٠  نفس المقال.
١١  «علامات على طريقٍ طويل»، ١١ / ٢ / ١٩٧٢م.
١٢  «تحضير الأرواح»، ٤ / ٦ / ١٩٧١م.
١٣  انظر فصل «النزول إلى العمل السري» في «خريف الغضب».
١٤  انظر لعبد الهادي ناصف مقال «من التفسير التآمري إلى المحاكمة على الفكر والنية»، جريدة الأهالي ٢٢ / ١٢ / ١٩٨٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤