سادسًا: الإمامة في التاريخ، انهيار أم نهضة؟

كان موضوع جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل مقدمة لموضوعٍ أعظم، وهو أن الإمامة في التاريخ تبدأ في الانهيار من الأفضل إلى المفضول، ومن المفضول إلى الأقل فضلًا، حتى ينتهي الفضل تدريجيًّا، ثم تتحول الإمامة إلى خلافة، والخلافة إلى مُلكٍ عضود. ولا ينطبق الأمر على الأئمة وحدهم، بل ينسحب أيضًا على طبقات العلماء وعلى الأجيال وعلى العصر؛ فالتاريخ في انهيارٍ مستمر، ولن يستطيع الحاضر اللحاق بالماضي، ولن يستطيع المستقبل أن يكون مثله. يقلُّ الفضل، ويخفُّ الصفاء، وتنحسر الطهارة، ويزداد الطمع والتكالب على الدنيا. ومهما حاول أحدٌ فِعل شيء فإنه لا يستطيع إلا أن يحبو أثر الماضي؛ فالسلف خير من الخلف، فالخلف قد أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. وما دامت الإمامة ليست من مصالح الدين، بل من مصالح الدنيا، فلا يُراعى فيها الأعلم والأتقى والأزهد بقدر ما يُراعى فيها الأقدر والأقوى؛ دفاعًا عن البيضة، وسدًّا للثغور، وحماية للأمة. وإذا كثر الهرج والمرج، وعظمت الفتنة بسبب التشبث بإمامة الفاضل، فإن الصالح يقتضي تجنُّبه واتقاءها بتنصيب المفضول؛ وبالتالي يكون للواقع أولوية على المبدأ، وللقوة الأولوية على الحق. وقد يكون في ذلك بقاء للدولة، ولكنه في الوقت نفسه بداية الانهيار.١

(١) ماذا يعني التفضيل بين الأئمة؟

إذا جازت إمامة المفضول مع وجود الأفضل لأنه أصلح في الدنيا للإمامة، في حين أن الأفضل أكرم عند الله في الآخرة، فإن التفضيل لا يعني الأفضلية في الثواب عند الله، بل اختيار الأصلح في الدنيا في حالة الصراع على السلطة. التفضيل في الظاهر في الثواب عند الله، وفي الحقيقة الأقدر على حسم الصراع على السلطة لصالحه. وليس مقياس التفضيل القرابة من النبي بنسب أو مصاهرة؛ فالنبوة ليست في العصب والدم، وإلا لما كانت الإمامة عقدًا واختيارًا، وإلا تحوَّلت النبوة إلى ملكيةٍ وراثية، وهو ما يصدقه العقل والوحي والتاريخ،٢ بل إن الأفضل عند الله لا يكون بغير اختصاص أو عمل، وإلا كان ذلك أقرب إلى الأخلاق اليهودية القائمة على الاصطفاء بلا مُبرر أو سبب من فضيلة أو عمل صالح. الأفضل عنده بناءً على عمل واستحقاق؛٣ لذلك كان التفضيل للبشر المكلَّفين وليس للملائكة أو الحيوانات أو الجماد؛ فالملائكة غير مكلَّفين، والحيوان والجماد ينقصهما شرطا التكليف، العقل وحرية الاختيار، بل إن الأنبياء أيضًا لا يتفاضلون؛ لأن فضل كل نبي على آخر لا يرجع إليه، بل يرجع إلى رسالته ودرجته في تطور الوحي. ومراحل الوحي لا تتفاضل فيما بينها، بل تتكامل، فتُمهد المرحلة السابقة للمرحلة اللاحقة، كما تتكامل أعمار الإنسان في مراحل نضجه المختلفة. ولماذا يُفضل الملائكة على غيرهم منذ ابتداء الخلق؟ ولماذا يُفضل الأنبياء على الجن منذ ابتداء الخلق أيضًا وقبل الاستحقاق؟ ولماذا فُضل إبراهيم على سائر الأطفال وهو غير مكلَّف ولم يستحقَّ عملًا؟ ولماذا فُضلت ناقة صالح على سائر النوق؟ وهل تختلف ناقة عن ناقة في الفضل إذا كان الفضل عن استحقاق؟ ولماذا تكون ناقة صالح أفضل من الناقة التي دخل عليها النبي المدينة، أو أفضل من البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها، أو أفضل من حوت يونس؟ ولماذا ذبيحة إبراهيم أفضل من كل الكباش؟ وهل يُعقَل أن الكبش الذي نزل من السماء فضله على سائر كباش الأرض؟ وهل هناك تفضيل في الأماكن مثل فضل مكة على سائر البلاد وفضل المدينة على مكة؟ ولماذا تفضل مكة وبها الكعبة على المدينة التي بها قبر الرسول؟ أليس هذا شبهًا بأقوال اليهود عن تفضيل القدس على سائر المدن، والمسلمون أولى بها؟ ولماذا تكون الحجارة أفضل من بعضها؟ وما فضل الحجر الأسود على غيره من الحجارة؟ لو كان تقليدًا من القدماء فالتقليد ليس أصلًا من أصول الدين، ولو كان حمل الرسول له بيده فما أكثر ما حمل الرسول من تراب ومعاول في حفر الخندق، وما أكثر ما أمسك به من عِصي. ولماذا تفضل الأوقات بعضها على البعض الآخر، الشهور الحُرم على باقي شهور السنة، وشهر رمضان على باقي الشهور، وليالي القدر وأيام عاشوراء والجُمع وعرفة على سائر الأيام؟ وهل اللحظات المتميزة وأوقات التقوى يمكن تحديدها مسبقًا بحركة الأفلاك والأهلَّة، أم أنها أوقاتٌ حرة تأتي بناءً على قدرة الإنسان على الخلق والإبداع، وتختلف من فرد إلى فرد، ومن حالة إلى حالة؟ وهل يفضل أحد الأوقات في النهار أو في الليل الأوقات الأخرى فيهما، أم أن لكل وقت فعله الذي يتم فيه؛ وبالتالي لا فضل لصلاة الصبح على العصر أو للعشاء على المغرب؟ ولا تفضل صلاة الفرض على النافلة إلا لأن الأولى واجبة والثانية مندوبة، وبين الواجب والمندوب لا فضل لأن كليهما اقتضاء فعل، بل يفضل المندوب الواجب لأنه أتى تطوعًا واختيارًا، وليس فرضًا أو إجبارًا. وما فضل السجود على الركوع إلا أن الأول يدل على مزيد من الاحترام والتواضع، الجبهة في الأرض، وكلاهما رمزان، وإلا كان فضل الركوع على الوقوف. ولما كان الإنسان مطالبًا بمزيد من الفضل لوجب الصلاة دائمًا سجودًا دون ركوع أو وقوف.٤ إن التفضيل بهذا المعنى هو حكمٌ قيمي خالص، إسقاط من النفس على الواقع وعلى الأشياء. إنما الفضل يأتي بالاستحقاق بناءً على عمل تكليف يتوافر فيه شرطاه؛ العقل والحرية. ويكون التفضيل في الأفعال بناءً على عدة أوجه؛ فالتفضيل في ماهية العمل أن يكون العمل هو ماهية استكمال للفروض والنوافل، وألا يكون العمل هو غيره أو عملًا بلا ماهية. ويكون فضل العمل بمقدار طهارة قصده وصدق نيته، خالصًا لوجه الله دونما كسبٍ خاص أو طلب مديح من الناس. ولا يتعارض صدق النية مع تحقيق المصالح العامة؛ لأن مقاصد الشرع ابتداءً، والتي من أجلها وُضع، تقوم على الحفاظ على الضروريات الخمس؛ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ويفضل العمل كيفًا؛ أي استيفاؤه جميع حقوقه، ونقاؤه وعدم خلطه بأية شوائب، من صغائر أو كبائر. كما يفضل العمل كمًّا ومقدارًا، سواء كان فرضًا أم نافلة، واجبًا أم ندبًا. وقد يفضل في الزمان مثل إتيان الصلوات في أوقاتها، فورًا لا تراخيًا، اقتضاءً لا قضاءً، في أول الوقت وليس في آخره خشية النسيان. وقد يعني ذلك الفضل في الأسبقية في الإسلام وفي الجهاد وفي التطوع وفي الصدقة، فالسابقون السابقون. ويفضل الفعل في المكان لا بمعنى الشيء، ولكن بمعنى الصحبة، كما تفضل الصلاة مع الفضلاء وأهل العلم نظرًا لما يتبع ذلك من زيادة في العلم قبل الصلاة وبعدها دون أن يكون من بينهم نبي؛ نظرًا لانتهاء النبوة واكتمال الوحي. أما فضل صلاة نبي على صلاة غير نبي فلا تعني إلا التركيز؛ وبالتالي ترجع إلى الفضل كيفًا.٥

(٢) التفضيل بداية الانهيار

فإذا كانت هناك مقاييس للتفضيل، فعلى من يتم تطبيقها في الأفراد أو في الجماعات أم الأمم؟ فإذا جاز تطبيقها في الأفراد، فمن هم؟ هل يدخل فيهم نساء النبي وبناته، أم يقتصر الأمر على خلفائه وصحبه؟ وإذا كان الفضل في الجماعات، فهل يكون الفضل للصحابة على التابعين، وللتابعين على تابعي التابعين؟ وإذا كان الفضل للقرون، فهل يكون للقرن الأول فالثاني فالثالث حتى نصل إلى قرننا فيكون أقل القرون فضلًا؟ وإذا كان الفضل للعلماء وحدهم، فأي علماء، وفي أي علم؟ وإذا كان العلماء حراس الأمة فلا فرق بينهم وبين حراس الثغور، رفقة الفكر والسلاح.

(٢-١) هل هناك تفضيل في نساء النبي وبناته؟

إذا كانت القرابة للرسول نسبًا ومصاهرةً ليست مقياسًا للتفضيل، فإن نساء النبي وبناته باعتبارهن من أقربائه أو من صلبه لا تنطبق عليهما مقاييس التفضيل، إنما يمكن اعتبارهن صحابة من أقربائه مثل باقي صحابة الرسول، أعملن علمه، ونقلن عنه، وشهدن الانتشار الأول للإسلام. القرابة ليست مقياسًا للتفضيل، فهناك أقرباء للرسول لم يؤمنوا به ونافقوه وعادوه. هل إبراهيم صبيًّا أفضل من باقي الصحابة؟ وهل أمومة نساء النبي وبناته للمسلمين تقتضي لهن فضلًا أكثر مما لسائر الأمهات بكون الجنة تحت أقدامهن بفعل الحمل والتربية والرعاية؟ وإذا لازمته نساء النبي وبناته النبي في حياته الخاصة والعامة، فإن الصحابة لازموه في حياته العامة، ولم يكن يُخفي عنهم شيئًا من حياته الخاصة. وإن الحياة العامة للرسول لأكثر أهمية للأمة من حياته الخاصة، مع أنها قدوة في السلوك. ولا تزيد نساء النبي وبناته في معرفة الشريعة عن الصحابة شيئًا؛ فالكل لازمه وصاحبه واستمع إليه. والوحي تم تبليغه للعامة والخاصة، وهو الأساس. ليس لآل البيت فضل على الصحابة، وليس للرسول كرامة أو شفاعة بفعل قرابته لأحد أو قرابة أحد إليه. كل إنسان بعمله استحقاقًا بما في ذلك الرسول نفسه. وكيف يكون لإبراهيم الفضل وهو الصبي الصغير الذي لم يبلغ الحلم على بنات النبي ونسائه لو كان للقربى فضل؟٦ وقد يتعارض هذا التفضيل مع بعض الأخبار الأخرى التي تجعل من الرجال البالغين كل الفضل دون الصِّبية الصغار؛ وبالتالي قد يرجع تفضيل الصِّبية على الذكور إلى وضعهم المُتميز عند الأعراب على مستوى العواطف والمتعة. قد يكون سبب ذلك بعض التوجهات المعتمَّدة على بعض الأخبار والروايات التي تجعل للرجال على النساء درجة، أو التي تصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين، أو عدم فلاح القوم الذين يُولون عليهم امرأة، ولكن أليست هذه الدرجة وهذا النقص وهذه القيادة في الدنيا لا في الآخرة لتدبير أمور المعاش، وليس لفضل في الثواب؟ وحتى لو صحَّت هذه التوجهات النقلية، هل يعني ذلك أن للصبي الذي لم يبلغ الحُلم الفضل على النساء البالغات العاقلات اللاتي منهن حمَلة العلم، واللائي هن أفضل نساء العالمين؟ وإن لم تصحَّ هذه التوجهات النقلية، فربما نشأ هذا الوضع في تفضيل النساء من رد فِعل على وضعهن في الجاهلية. وإذا استمرَّت الجاهلية في بعض جوانبها، فقد يكون ذلك رد فعل على كبت وحرمان، سواء كان في الجاهلية أو ما بعدها في مجتمع الذكور. وقد يدل ذلك على تخلفٍ عام في اعتبار النساء جنسًا في مقابل الرجال كجنسٍ آخر، وتتناوب المقابلة في التفضيل بين الأعلى والأدنى.
وكما دخلت الملائكة في تفضيل الأنبياء كذلك تدخل الحُور العِين مع تفضيل النساء والبنات، وكأن التفضيل ليس بين بشر، بل بين بشر وملائكة، وهو ما يخرج عن طاقة البشر. وإذا كانت وظيفة الحور العين متعة أهل الجنة، فهل يدخلن في التفضيل على المستوى نفسه مع نساء النبي وبناته؟ وكما أن الحور العين لَسْن حمَلة علم، وليس لهن فضل جهاد، فإن نساء النبي وبناته لَسْن لهن جمال الحور العين ولا حسنهن، ولا يُشاركن في وظائفهن.٧ وعلى فرض إمكانية التفضيل بين الإناث، فأيهن أكثر فضلًا، نساء النبي أم بناته؟ اللائي رافَقْنه في حياته وأصبحن جزءًا منه روحًا وبدنًا، أم اللائي مِن صلبه وتربيته واللائي لهن حظ من صحبته ورفقته؟ وهل هناك مثل من حنَّت عليه لحظة نزول الوحي، والتي ظل يذكُرها حتى آخر لحظة من العمر؟ وهل هناك مثل من أعطته حب الحياة، والتي أعادت إليه شبابه وعشقه؟ وهل هناك مثل من شغفته حبًّا بجمالها ونصاعتها وأنوثتها؟ ولكن هناك أيضًا مِن صلبه من كان لها فضل العلم وزوجة الإمام الرابع، ومِن صلبها خرج الأئمة أصحاب العلم والفضل. ولكن فضل الأئمة من صلبها لا يرجع إلى الأم وحدها، ابنة النبي، بقدر ما يرجع أيضًا إلى الأب صهره وابن عمومته. وهل الفضل يكون للمجموعات والأصناف، نساء النبي أم بناته، أم للأفراد؟ فإذا كان للأفراد، فهل يكون للأفراد داخل كل مجموعة وصنف؛ ففي مجموعة النساء، هل الفضل للتي راعته وحنَّت عليه وقوَّته وشجَّعته وقت نزول الوحي، وأعطته عمرها ونضجها بعده، والتي كانت أم بناته، والتي لم يختلف معها يومًا واحدًا، وكان أمينًا على أموالها وتجارتها؟ هل الفضل يرجع لمنافستها لصغر سنها وطفولتها وبراءتها، والتي أعطت حب الحياة، والتي عشقها، والتي أدخلت عليه السرور والفرح وهو في أواخر العمر بالرغم من نزول حديث الإفك بمناسبتها، ودخولها حربًا ضد الصحابة، ومُعاداتها للخليفتين الأول والثاني، ومُحاربتها الخليفة الرابع؟ هل الفضل يرجع إلى من كانت بمثابة الأنثى والتي أعطته متعة الحياة ومباهجها؟ ولماذا من البنات لم تبرز إلا واحدة، وهي زوجة الخليفة الرابع، دون غيرها؟ هل يرجع الفضل في ذلك إلى زوجها لأنها كانت أقرب بناته إليه؟ وهل بين البنات من هو أقرب إلى قلب الأب؟ إن العواطف لا تنقسم حسابيًّا وتُوزَّع رياضيًّا بالتساوي، سواء من الأبناء أم مع الزوجات. أما التوجيهات النقلية فما أكثرها في كل زوجة وفي كل ابنة، سواء صحَّت روايتها أم ضعفت، كما هو الحال في الصحابة والأخبار المرويَّة في فضلهم. وماذا عن نصوص الوحي التي تجعل «مريم» أفضل نساء العالمين؟ وماذا عن باقي نساء الأنبياء مثل امرأة لوط، أو حتى عن باقي نساء العالمين اللاتي شهد لهن الوحي بالفضل والعواطف الإنسانية مثل امرأة فرعون؟ وماذا عن أمهات الأنبياء اللائي شهد الوحي لبعضهن بالفضل مثل أم موسى؟ ألم يذكر آخر الأنبياء أيضًا أمه والتي لا يتذكرها بالمدح والثناء؟ إن دخول ذلك كله في العقائد المتأخرة يجعل الموضوع كله تعبيرًا عن تخلف الأمة، وأنها جعلت من اللاعقائد أساسًا للعقائد، وتركت التوحيد للتفضيل بين نساء النبي وبناته! وقد تدخل نساء الصحابة في التفضيل مع نساء الأنبياء ونساء النبي وبناته، وكأن الأمر مسابقةٌ جماعية في الفضل بين النسوة!٨

(٢-٢) هل هناك تفضيل بين الخلفاء الأربعة؟

إذا كان الرسول هو أفضل الأمة بفعل الرسالة والتبليغ، ولأنه قدوة في السلوك، فإن أول خيط التفضيل من بعده يتمثل في الخلفاء الأربعة، الخلفاء الراشدين الذين يتدرَّجون في الفضل من الخليفة الأول حتى الخليفة الرابع، فينهار التاريخ شيئًا فشيئًا، ولكن يظل، وبرغم قتل ثلاثة منهم غيلةً، وبالرغم من الفتنة في أيام الخليفة الرابع، يظل الانهيار محصورًا دون هبوط شديد أو انكسار حاد. يبدأ السقوط إذن من ترتيب الإمامة في التاريخ على هذا النحو المُتدرج طبقًا لمراتب الفضل. ولكل إمام لقب؛ فالأول الصِّديق لأنه صدَّق الرسول، والثاني الفاروق لأنه عدلٌ يُفرق بين الحق والباطل، والثالث ذو النورين، نور القرابة ونور الخلافة، والرابع المرتضى الذي رضي الله عنه. وإذا كانت الإمامة بها صلاح الدنيا، ويجوز تولية المفضول دون الأفضل، يكون التفضيل إذن لا معنى له؛ لأن مقياس الإمامة ليس الفضل الفردي، بل رعاية مصالح الناس وتدبير الشئون العملية التي قد ينجح فيها من هو أقل فضلًا. ما يتطلبه الإمام العدل والتدبير حتى وإن لم يكن أعلم القوم؛ نظرًا لاعتماده على أهل العلم في الاجتهاد والفتيا.٩
وإن معظم الحجج التي تؤيد هذا الترتيب هي حججٌ نقلية، مع أن نزول بعض الآيات في أحد لا تجعله أفضل من غيره؛ لأن أسباب النزول مجرد وقائع نموذجية تتكرر فيما بعد في وقائع أخرى مُشابهة، ولا تقلُّ الواقعة الثانية عن الأولى أهمية، وقد نزلت بعض الآيات في المنافقين والمشركين وهم ليسوا بأفضل الناس، كما أن الوحي لا يتحدث عن أشخاص بعينهم، بل يصف مواقف ولا يهمُّ الأشخاص فيها، وما أكثر ما قيل في فضائل الخلفاء؛ وبالتالي تتكافأ الأدلة النقلية.١٠ ومع ذلك قد يحدث بعض الاضطراب في التعيين، فيهتزُّ هذا الترتيب في انهيار التاريخ تدريجيًّا من الأفضل إلى المفضول. والاهتزاز الأكبر يأتي في الخلاف حول الخليفتين الثالث والرابع، وبالتالي تبادل موقعيهما، فيُقدَّم الرابع على الثالث نظرًا لأنه أكثر فضلًا منه. وبالرغم من تبادل المواقع يظل سُلَّم التفضيل لا يتغير، من الأفضل إلى المفضول، بصرف النظر عن تعيين الأشخاص.١١ وتظهر الأهواء والمواقف السياسية في تفضيل كل منهما على الآخر، ونادرًا ما يحدث اضطراب في التفضيل بين الخليفتين الأول والرابع أو بين الرابع والثاني، والكل مشهود له بالفضل والجدارة.١٢ وما أكثر الحجج التي قيلت في تفضيل الخليفة الرابع على الثالث، وهي تُعادل في كثرتها الحجج التي تُثبت أفضلية الخليفة الأول على الإطلاق، بعضها نصية قد يكون الخليفة الرابع سبب نزولها. وأسباب النزول لا تتعلق بالأعيان والأشخاص في ذاتها، بل هي مجرد وقائع نمطية أولى يتعدى حكمها إلى غيرها، وللوقائع الأخرى المُشابهة نفس الصدق التي للواقعة الأولى. كما أن الكثير منها عموم وليس خصوصًا؛ لأنها تضع تشريعًا عامًّا لا قانونًا خاصًّا. وإذا كان البعض منها يُشير إلى القرابة، فالقرابة ليست شرطًا في الخلافة ولا في الفضل، والبعض منها آحادًا يُعتمد عليها في إثباته كخليفة أول لا يُصدقها الواقع ولا التاريخ، وتصديق بعض الأخبار المستقبَلة عليه مثل تصديق البعض الآخر على غيره، وإن كل هذه الحجج النقلية إنما ظهرت بعد تجربة الإمامة المستبعَدة والخلافة المؤجَّلة في واقعٍ سياسي معيَّن جعله يبحث عن شرعية، فوجدها في الحجج النقلية في مجتمعٍ النصُّ فيه حجة سلطة. فالواقع هو الذي يخلق النص ويختاره ويُوجهه من اللاحق إلى السابق، ومن الحاضر إلى الماضي، وليس النص هو الذي يُعين الواقع ويُرشد إليه من السابق إلى اللاحق، ومن الماضي إلى الحاضر. الواقع يقرأ نفسه في النص فيُوجده ويُحييه، وليس النص الذي يخلق الواقع ويتحقق فيه. ولما كثُرت النصوص في كل شيء كان من السهل إيجاد الحجج النصية على شرعية كل المواقف السياسية والبراهين على صحة الزعامات بما في ذلك القاهر والمقهور، الظالم والمظلوم، السلطة وجميع فئات المعارضة.١٣ أما بالنسبة للصفات الشخصية فما أكثرها أيضًا، ولكنها في مجموعها لا تخصُّ شخصًا بعينه، بل كانت عامة وشائعة على درجاتٍ مُتفاوتة بين جميع الرفاق. فالعلم كان صفة القوم نظرًا لأن الوحي علم يتلقَّونه بالخبر والرواية، ويشمل العلم التشريع لأن الوحي عقيدة وشريعة، تصور ونظام، أصول دين وأصول فقه. والزهد كان سلوكًا عامًّا مُميزًا لكل الأصحاب، والكرم كان شيمةً عامة يتنافس فيها المؤمنون، والشجاعة صفة غالبة في مجتمع المُحاربين، والقوة العضلية ميزةٌ خلقية لا تفاضل فيها، وحسن الخلق وحلاوة الدعابة ميزتان توجدان في أكثر من شخص غير معيَّنتين في شخصٍ واحد بعينه. أما القرابة من الرسول ونسبه له فليست ميزةً شخصية ولا فضلًا، كما أن أولاده من صلبه بالرغم من إمامتهم، فإن فضلهم يرجع إلى استحقاقهم وليس إلى نسبهم.١٤
وكما يحدث اختلاف في الترتيب بين الثالث والرابع، أو بين الأول والرابع، أو بين الثاني والرابع، وكأن الرابع لا يزاحم الثالث فقط في الفضل، بل يُزاحم أيضًا الأول والثاني أيضًا، يؤخذ الأول على الإطلاق بصرف النظر عما يليه في الفضل، سواء من داخل الخلفاء الثلاثة أو من خارجهم من باب الرفاق. فقد يكون الأول على الإطلاق هو الثاني أفضل الخلفاء الأربعة جميعًا. وأي فضل أفضل من العدل وأي أفضل من الفاروق؟ وقد يأتي في البداية أحد من أهل العلم والرواية يتبع في علمه الفاروق، وقد يأتي أحد المُناصرين له، أول من آواه في بيته أو نصره بسيفه.١٥ وقد يأتي الترتيب في الفضل ثنائيًّا أو ثلاثيًّا طبقًا لمقاييس العلم والشجاعة، والنظر والعمل.١٦ وكلها في الحقيقة اختياراتٌ سياسية لقياداتٍ هي تُعطي شرعية للفِرقة السياسية التي تنتسب لهذا الصاحب أو لذاك كزعيمٍ سياسي؛ فالموضوع إنما نشأ أصلًا تبريرًا للتاريخ، وتعبيرًا نظريًّا عن الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة، كلٌّ منها تُحاول أن تجد شرعية لها في التاريخ، سواء في الأمر الواقع أو فيما ينبغي أن يكون. وما الأمر الواقع إلا مؤامرة تمَّت منذ البداية، والواقع لا يكون مبدأً، والمستقبل الحاصل للشرعية والحق المهضوم الذي لا يضيع، بل لا بد أن يكون أقوى من الحاضر الذي فيه الاستسلام للأمر الواقع وحكم الظلم. وإن ترتيب الخلفاء الأربعة لهو ترتيبٌ زماني صرف طبقًا لحوادث تاريخية صرفة، وليس ترتيبًا أصلًا في الفضل النظري.
إذا كان الخليفة الأول قد مات طبيعيًّا فإن الخلفاء الثاني والثالث والرابع قد ماتوا غيلة؛ أي بتدخل عوامل خارجية. وكان يمكن للرابع أن يموت اغتيالًا قبل الأول، وكان يمكن للثاني أن يعيش قبل الرابع. ويتساوى الأربعة في مشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل لو كان التفضيل يعني هذه العموميات ومدح الرفاق والثناء على خصائصهم، ولو كان يعني الفضل عند الله والسبق في الدين.١٧ وهو ما لا يعرفه أحد إلا بالنص القاطع دون إمكانية الحكم فيه بالعقل أو بالواقع؛ وبالتالي تغيب عنه الأدلة العقلية والتاريخية، ويصبح خارج علم أصول الدين الذي يقوم على العقل والنقل، والذي يكون فيه العقل أساس النقل؛ لأن الظن لا يُغْني عن الحق شيئًا طبقًا لنظرية العلم في المقدمات الأولى. وهي مسألة لا يمكن الحصول فيها على يقين نظرًا لصعوبة إيجاد مقاييس للتفضيل إلا العمل والاستحقاق، والحكم فيها بالفضل ليس للناس؛ لأن الاستحقاق في المعاد وليس في الدنيا. وقد وضعها القدماء ورأوا فيها جزءًا من العلم كملحق للإمامة عن طريق التقليد، والتقليد ليس أصلًا من أصول العلم، فهي فرع للفرع. ونظرًا لأن الإمامة فرعٌ فقد وُضعت أيضًا في بنية العلم عن طريق جريان العادة. وقد كان للموضوع أهميته في الماضي، فقد سالت لأجله الدماء، ولكنه لم يعد بذي أهميةٍ الآن إلا كحادثةٍ تاريخية صرفة يجد فيها كل نظام سياسي حجةً شرعية له في الانتساب لأحد الأطراف كما هو الحال في شرط القرابة. قد يتجاوز الأمر دافع الحسد والتعصب لصعوبة تفسير حوادث التاريخ بالعوامل الفردية والانفعالات النفسية وحدها، ولكن الأهم هو أنها حوادث تاريخية لا تهمُّ إلا بقدر ما يقرأ الحاضر نفسه في الماضي، ويبدو الأمر وكأنه اختلاف في تفسير التاريخ.١٨ كذلك لعدم نفعه، بل لاحتمال الضرر منه كتعمية الواقع وتغليفه بالماضي، ونسيان الصراع الحالي تحت غطاء الصراع الماضي يمكن التوقف فيه، أو التفويض فيه لله، وهو أيضًا نوع من التوقيف، إلغاءً للمسألة. ولا يعني ذلك تصويب القاعدين إلا لأنه لم يتبين لهم الحق في الأمر فتوقَّفوا فيه، ولكن لا يجوز القعود فيه إذا ما تبيَّن الحق فيه، فالإمامة واجبة، والتوقف امتناع أساسًا عن تكفير الصحابة والطعن فيهم، وإيثار الفضل للكل. قد يصل حد التوقف إلى إنكار الوقائع التاريخية كلها؛ فالفتنة لم تقع، والحروب بين المسلمين لم تحدث.١٩
وإذا كانت دعوة العصمة من بعض الرفاق، والطعن والتكفير من البعض الآخر في الرفاق أنفسهم، وكلاهما رد فعل على الآخر، فمن الأفضل الإمساك عن هذا وذاك، عن التعظيم والتحقير، إما عن طريق الشك في الروايات والأخبار، أو عن طريق تأويلها من أجل الحفاظ على سيرة الخلفاء في التاريخ واستمرارهم قدوةً في السلوك. ولقد فعل الجميع بناءً على اجتهاد، وللمُخطئ أجر، وللمُصيب أجران.٢٠ وأصبحت كل فرقة تُدافع عن نفسها ضد تهمة التفضيل التي تعني الثناء على بعض الرفاق والطعن في البعض الآخر؛٢١ لذلك كان من الأوفق عدم إدخال هذه المسألة في علم أصول الدين كليةً، لا للعوام ولا للخواص؛ فالعوام لهم حاضرهم وعقائدهم لمواجهة مشاكل عصرهم، والخواص لديهم العلم النافع لإرشاد العوام؛ فلا تدخل هذه المسألة ضمن التعليم أو تُدرَج في المصنَّفات والآثار؛ لأن التعليم لا يكون إلا بما ينفع، وبما يمسُّ مصالح الأمة في كل عصر.٢٢

(٢-٣) هل هناك تفضيل بين الصحابة؟

وقد لا يكون التفضيل بين الأفراد، بل يكون بين المجموعات والأصناف، أو بلغة القدماء بين الطبقات، فهناك مراتب للرفاق، كل مجموعة سابقة في مرتبةٍ أعلى من المجموعة اللاحقة، فالأولون الأولون، والسابقون السابقون. وتتفاوت مراتب الفضل في الزمان ابتداءً من عصر النبوة إلى عصر الخلافة. وهناك خمس مراتب: الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشَّرون بالجنة (منهم الخلفاء الأربعة، أي الستة الباقون)، والبدريون الذين شاهدوا أُحدًا، وأهل بيعة الرضوان بالحديبية. وقد لا تعني المشاهدة الحضور الفعلي، بل يمكن الحضور أجرًا؛ أي من له فضل المشاركة بالمال أو بالتأييد بالنية ولكن منعته الظروف من الحضور. وقد تتداخل المراتب ويكون الإنسان في الوقت نفسه خليفة ومن العشرة المبشرين بالجنة وبدريًّا وأُحديًّا ومن أهل بيعة الرضوان، وذلك مثل الخلفاء الأربعة. وإذا كان فضل الأربعة الأوائل قربهم من الرسول، فإنما كان ذلك عارضًا تاريخيًّا محضًا عن طريق بيعة الأمة وعقدها على واحد منهم تباعًا، وكان يمكن لعارضٍ تاريخي آخر، كالاغتيال أو الموت أو الاستشهاد، أن يُغير نظام الأسبقية في الزمان. أما العشرة المبشَّرون بالجنة، فإن ذلك يدل على مجرد التعبير عن الاستحقاق؛ لأن الحساب لم يتعدَّ بعد، وإلا كان مصادرة على المطلوب، مصادرة على حق الله، حتى ولو تم ذلك من الرسول. والتبشير في الدنيا مثل الشفاعة في الآخرة مضادٌّ لقانون الاستحقاق. وفضل أهل بدر هو بداية القتال بين الثورة الجديدة وبين النظام القديم، والتحول من الدعوة السلمية إلى الكفاح المسلَّح. أما فضل أهل أُحد فهو الثبات في القتال واستئنافه بمزيد من الطهارة الثورية دونما نظر لمصلحة أو كسب دنيوي. أما أهل بيعة الرضوان فهو الثبات حتى في أضعف لحظاتها، والقدرة على مواصلتها بوسائل أخرى. ولكن ماذا عن الشهداء في كل عصر؟ ولماذا يكون شهيد الحق نصير ثورات المحرومين والمظلومين أقل فضلًا من الثوار الأوائل في معارك الثورة الأولى؟ وهل الإنسان مسئول عن وقت قدومه إلى الدنيا والعصر الذي عاش فيه، أم أن مسئوليته في تقبُّله لها في أي عصر وُجد وفي أية معركة فُرضت عليه؟ وإن الاختلاف على هذا الترتيب، وإدخال من صلَّوا إلى القبلتين في مراتب الفضل الأولى، يدل على أن الموضوع كله حكم قيمة لا سند له من الوحي أو العقل أو الواقع.٢٣ ومما يدل على أن التفضيل حكم قيمة أو موقف نفسي خالص أن أهل بدر ليسوا فقط من الإنس، بل أيضًا من الجن ومن الملائكة، يُحاربون مع المسلمين. وقد تدخل الملائكة الذين شهدوا بدرًا في التفضيل، ليس فقط مع باقي الصحابة في هذا التصور التدرجي المُقل للفضل، ولكن أيضًا مع باقي الملائكة التي لم تشاهد بدرًا. وكأن مشاهدة الملائكة لبدر قرارٌ حر تستحق عليه الثواب، وأن بلاءهم بناء على جهد وفيه مخاطرة واستشهاد يستحقون عليه الخلود. وإذا كانت الملائكة قد تدخَّلت في نصر بدر، فما فضل أهل بدر؟ وإذا كان الله أنزل على الأعداء النعاس والمطر والرعب في قلوبهم، فالمعركة غير متكافئة، فلا المنتصر قد انتصر، ولا المهزوم قد هُزم. وإذا كان عدد الإنس في بدرٍ ثلاثمائة وسبعة عشر رجلًا، وعدد الجن والملائكة ثلاثة آلاف، فالنصر يرجع للملائكة وليس لأهل بدر، وقد بلغت الملائكة حدًّا من القوة تجعلها قادرة على إتمام النصر بأنفسها دونما حاجة إلى بشرٍ يقطفون ثماره، فالملك الواحد يقلع الأرض! ويبدو الخيال الشعبي في تصورهم عددًا وعدة وركبًا ولباسًا وألوانًا، فتمثَّلوا برجالٍ بيض على خيلٍ بلقٍ عمائمهم بيضٌ مرخيَّة على ظهورهم، أو سود أو صفر أو حمر أو خضر، وكأنهم على أنواعٍ مختلفة الألوان، صوف أبيض على نواصي الخيل وأذنابها كدليل على عظمة الركب، ثم جاء جبريل على فرس أحمر، وعليه درعه، ومعه رمحه، كقائدٍ مُبارِز مُبرِّز. رمى أحد الأعداء بحجر فكسر رباعيته، فلم يولد من نسله إلا أهتم أبجر، وكأن العيب الخلقي متوارث، الأهتم يلد أهتم! ثم دخلت في وجنته حلقتان أخرجهما أحد المؤمنين بأسنانه فسقطت، فكان أحسن الناس هتمًا. وكأن جبريل وهو بهذه القوة في حاجة إلى من يُخرج الحلقتين من وجنته من بشر فانٍ! وهل يُصاب جبريل أصلًا؟ وإنه ليُصاب بحلقتين وهما أكرم من الحجارة، وأكثر زينة للوجنتين. وهل هناك فرق بين هتم من حجارة قبيح وهتم حسن من نزع الأسنان للحلقتين من وجنة جبريل؟ ويدخل الرسول مع الملائكة لإجراء المعجزات مع أنه ليس إلا بشرًا، معجزته إعجاز القرآن. وإذا كان الرسول قد تنبَّأ بمواقع الشهداء على الأرض ومصارعهم، فلماذا لم تحفظهم الملائكة إذا كانت قادرة على الحرب؟ وإذا كان الرسول قد أخذ من الحصى كفًّا فرمى به المشركين فأصاب أعينهم فانهزموا، فما الحاجة إلى الملائكة أو الجن أو الإنس؟ وإذا كان الرسول قادرًا على أن يقلب العرجون سيفًا، ورد الشق إلى الوجه، ورد العين المفقودة، فالأولى كان حمايتها منذ البداية.
وذلك كله صورٌ فنية تدل على الإيمان بالنصر لتقوية العزيمة ورفع الروح المعنوية، مثل تثبيت رمل الأرض كصورة للثبات تحت الأقدام، وأن اطلاعه على المستقبل ليُعطي ثقة لجنده، ويُساعدهم على الثبات في النزال والشدة في القتال والإيمان بالنصر في الحرب. وإذا كان ذلك حقيقة، فلماذا لم يأتِ للمسلمين في معاركهم وهزائمهم الأخيرة مدد من السماء كما أتى للأوائل؟ وأين كانت الملائكة في أُحد؟ إن الأمر كله رغبة وتمنٍّ وثقة بالنصر. ومما يؤيد ذلك أيضًا ظهور بعض المصطلحات الصوفية، مثل مقام الخوف الذي كان فيه النبي، ومقام الرجاء الذي كان فيه الصِّديق، نظرًا لسيادة التصوف على العقائد الأشعرية المتأخرة.٢٤ وقد يحدث اختزال لهذه الدرجات الخمس للفضل من الأربعة إلى العشرة إلى البدريين إلى الأحديين إلى الرضوانيين إلى درجتين فقط، المهاجرين والأنصار، أو الأولين من المهاجرين والأولين من الأنصار دون حكم فردي على إنسان بأنه أفضل من إنسان آخر في طبقته، وكلاهما مشهود له بالإيمان دون الكفر، سواء قاتل في الفتنة مع هذا الفريق أو ذاك أم قعد عنها ولم يُشارك فيها واعتزل الناس. وقد يزداد تفضيل المراتب ليس فقط إلى درجتين، بل إلى سبع عشرة درجة طبقًا للسبق إلى الإسلام بالإضافة إلى الجهاد فيه. ويظهر فضل الأفراد من خلال فضل الطبقات. ويُصنَّف الأفراد طبقًا للذكورة أو الأنوثة، للبلوغ أو للقرابة أو للقرشية أو القبلية. ولما صعب تحديد ذلك تاريخيًّا على وجه الدقة فقد وقع الاختلاف فيه. وبالنسبة للجهاد في الإسلام يُصنَّف المُجاهدون في القتال مثل أول من قتل كافرًا. وكل سابق إلى الإسلام أسلم على يدَيه آخرون يأتون في الطبقة الثانية ويأتي أبناؤهم في درجةٍ ثالثة. ثم يأتي الأنصار في مجموعات، وعلى فترات؛ الهجرة الأولى مع الرسول، والثانية حتى الوقعة الأولى، والثالثة حتى الخندق والحديبية، والرابعة حتى فتح مكة. وتزيد المعارك من اثنتين، بدر وأحد، إلى ثلاثة بإضافة الخندق. ثم يأتي المسلمون الذين دخلوا في يوم الفتح، ثم الذين دخلوا أفواجًا والباب مفتوح على مِصراعَيه. ثم يأتي الصِّبية الذين أدركوا الرسول، ثم الصِّبية الذين حُملوا إليه في حجة الوداع.٢٥ والحقيقة أن مقياس الأسبقية إلى الإسلام يحكمه عارضٌ تاريخي بقدر ما تحكمه الإرادة الحرة. ويشمل العارض التاريخي الميلاد والوجود في الزمان والمكان والقبيلة والصدفة التي لا دخل للإرادة الحرة فيها. كما أن الأسبقية قد تتعارض أحيانًا مع الاستحقاق؛ فقد يكون لأخوين السبق نفسه، ولكن يُبايع أحدهما الإمام الجائر بينما يستشهد الآخر في قتاله.٢٦

(٢-٤) هل هناك تفضيل بين القرون؟

ويبدأ السقوط التدريجي في الانهيار نحو مزيد من الانحدار، وذلك بالانتقال من الصحابة الذين شاهدوا الرسول إلى التابعين الذين شاهدوا الصحابة، إلى تابعي التابعين الذين شاهدوا التابعين. وهي ثلاثة أجيال مُتتابعة. الجيل الأول، وهو جيل الصحابة، يتلوه جيلان آخران، جيل التابعين وجيل تابعي التابعين. وعندما تسقط الإمامة من العقائد المتأخرة، يدخل الموضوع كملحق للنبوة. وقد يُمثل اعتبار الصحابة بهذا المعنى ورثة النبوة بالرغم من الانحدار التدريجي بعد الغرور باعتبارهم ورثة الأنبياء، خاصةً وأن لا أحد منهم يُكفر نفسه أو يُخطئها. ويُمثل كل جيل قرنًا، فيكون خير القرون قرن الرسول، ثم القرن الذي يليه. وإذا كان القرن مائة عام، فإن الصحابة والتابعين في القرن الأول، وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ابتداءً من القرن الثاني. فكل قرن يضمُّ جيلين لو كان نضج الإنسان يتم وهو فيما بين الأربعين والخمسين. وسُمي القرن قرنًا لأنه يقرن أمة بأمة، ويُواصل جيلًا بجيل؛ فتتابع القرون إنما يعني تتابع الأجيال وتواصلها بالرغم من علاقة التدهور والانحدار ومسار السقوط جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن. ولا يُشترَط تساوي الأجيال في الزمان؛ فإذا كان طول الصحبة شرط الصحابي مع النبي، فإنه لا يكون بالضرورة شرط التابعي مع الصحابي؛ لذلك اختلفت القرون في الطول، أطولها قرن الصحابي الذي يزيد على مائة عام، وأوسطها قرن التابعي الذي يبلغ السبعين عامًا، وأقصرها قرن التابعي الذي يبلغ الخمسين عامًا. وكلما توالت القرون قلَّت المدة لرسوخ العلم واحتواء الرواية وسهولة جمعها وتدوينها جيلًا بعد جيل وقرنًا بعد قرن. وبلغة العصر، كلما توالت الأجيال كلما ازدادت سرعة الاتصال ونقل المعلومات، وقلَّت المدة وانتشر الخبر.٢٧ وقد تُذكَر مراتب التابعين بالأسماء وزيادة في التفضيل أو بالنسب، مع أن القرابة ليست مقياسًا في التفضيل. وقد ترتبط مراتب التابعين في آخرها بمراتب العلماء لما كانوا حمَلة العلم، كما ترتبط في أولها بمن أدرك العشرة المبشَّرين بالجنة، كلهم أو بعضهم. وقد تكون الغاية من التفضيل عدم الخلط في الروايات، خاصةً في الإسناد الذي يتطلب معرفة عصور الرواة وأزمانهم.٢٨ وقد يتحول الحساب التفصيلي إلى حسابٍ إجمالي، وتصبح الخلافة استمرارًا للنبوة بعدها يسقط التاريخ مباشرةً في خطٍّ مُنكسر دونما تدرُّج، فإما خلافة وإما ملك عضود. فالخلافة نيابة عن النبوة في عموم مصالح المسلمين، وتوقف بنهاية الخليفة الرابع، وبعدها تتحول إلى ملكٍ عضود؛ لذلك كان للخلفاء الأربعة الفضل على باقي الصحابة لرعايتهم مصالح المسلمين وتدبير شئونهم؛ فالملوك والأمراء يضرُّون بالرعية ولا يرعون إلا مصالحهم الخاصة، لم يأتوا ببيعة من الأمة، بل وراثةً وملكًا.٢٩ وإذا ما تم حساب الواقع بالسنين، مدة الخلفاء الأربعة لقاربت على الثلاثين سنة بالشهر وباليوم، سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام، والثاني: عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، والثالث: إحدى عشرة سنة وعشرة شهور وتسعة أيام، والرابع: أربع سنوات وتسعة أشهر وسبعة أيام. فيكون المجموعة تسعة وعشرين عامًا وخمسة أشهر وأربعة أيام.٣٠ ولما لم تكتمل المدة ثلاثين سنة تمامًا، كان لزامًا إضافة أحد الأئمة من أولاد الخليفة الرابع الذي انتهى ببيعة الإمام الجائر، أو أحد الخلفاء الآخرين المشهود له بالحق والعدل، وبأنه أعاد سيرة الخلفاء الراشدين! والإشكال الأعظم في إدانة التاريخ مما يُسبب حرجًا لمُبرِّري الأنظمة السياسية الذين يريدون إلحاقها بالنبوة والخليفة انتسابًا إلى الرسول، أو استمرارًا للخلفاء الراشدين؛ فيُخفف القطع إلى الاحتمال، أو يُخفف كمال الخلافة بخلافةٍ ناقصة، ولكنها ليست الملك العضود! وبهذا التبرير يستطيع ملوك اليوم وأمراؤهم إيجاد نسب لهم بالنبي أو صلة لهم بالخلفاء الراشدين. إن الأمر كله لا يعدو مجرد تعويض نفسي عن هزائم العصر ومقارنتها بانتصارات الماضي. ولما كانت إمكانيات العمل في الحاضر مُستغلقةً تم الانفتاح على الماضي، وظهر هذا التصور المُنهار للتاريخ المُتساقط المُتهاوي المغمور تدريجًا أو انكسارًا. والحقيقة أن لكل عصر روحًا، ولكل نظام سياسي أُسسًا، ولا توجد روح لكل العصور ولا نظام لكل الأزمان. لو كان المقياس في التفضيل هو الصحبة، فإنه يمكن للمُعاصر اليوم أن يكون من رفاق الرسول وصحبه شعوريًّا بتمثُّل قيمته وأخذ سلوكه قدوةً. وقد يكون التابعي أفضل من الصحابي، وقد يكون تابع التابعي أفضل من التابعي، وقد يكون إيمان مسلم اليوم أقوى وأعمق من إيمان مسلم الأمس. وهل يقلُّ الشهيد في الأرض المغتصَبة اليوم الذي يُفجر نفسه مع المُتفجرات في حصون العدو عن إيمان المسلمين الأوائل؟ وماذا عن جندي اليوم الذي يقف أمام الإمام الجائر ببندقيةٍ يُنهي بها حكم الخيانة ونظام العمالة والتبعية، ويحمي شرف أمة، ويُزيح عار جيل بأكمله؟ وما ذنب الأواخر أنهم لم يُولَدوا في زمن الأوائل، والميلاد عرضٌ تاريخي لا يدخل في نطاق حرية الإرادة، وبالتالي يكون خارج الاستحقاق؟ تقوم الإمامة في التاريخ إذن على نظرية في التدهور. في البداية كان الكمال والوحدة والفضيلة، وفي النهاية كان النقص والتجزئة والرذيلة. وإذا كانت رؤية النبوة هكذا، فهل هي نبوة أم معرفة بقوانين التاريخ والتطور؟ إذا كان النبي مجرد مُبلغ للوحي وليس مُنبئًا بالمستقبل، فإن تحول الخلافة إلى ملكٍ عضود يكون أقرب إلى استقراء الحوادث وسبر التاريخ ومعرفة قوانينه. فكل ثورة تتحول إلى ثورةٍ مضادَّة، وكل نظام جديد ينتهي وينكسر بمخلفات النظام القديم. إن التفضيل على هذا النحو المنهار إنما يقضي على تعددية النماذج؛ فكل صحابي نموذج في السلوك ورؤية في العمل لا فضل لإحداها على الأخرى. قد يوجد نموذج يعطي الأولوية للمثال على الواقع، وللمبدأ على الحالة الخاصة، وهو نموذجٌ صالح في بعض الأوقات والظروف التاريخية. وقد يوجد نموذجٌ آخر عكسي يعطي الأولوية للواقع على المثال، وللحالة الخاصة على المبدأ، ويكون صالحًا أيضًا في ظروفٍ تاريخية أخرى؛ فكلاهما صحيح نظرًا، وكلاهما يُطبَّقان عمليًّا في لحظتين تاريخيتين مختلفتين. أما التفضيل بمعنى المراتب واختلافهما بين الأعلى والأدنى أو بين السابق واللاحق، بين السلف والخلف، فإنما يقوم على التصور الهرمي للعالم الذي نتج عن الإشراق، والذي صبَّت فيه الأشعرية المزدوجة بالتصوف وعلوم الحكمة. إن الأفضلية لا تكون بين فرد وفرد أو أمير وأمير، بل بين نظام ونظام بمقدار ما يُحققه كل نظام من رعاية لمصالح الناس وحفاظ على وحدة الأمة؛ لذلك ظهرت تصوراتٌ أخرى للتاريخ تضع الأفراد على المستوى نفسه إبقاءً على التعددية، أو تصور آخر عكسي يجعل الخلف أفضل من السلف، والقرن المتأخر أفضل من القرن المتقدم؛ فوراءهم تراثٌ طويل وتجارب سابقة، وأمامهم رصيدٌ ضخم من التجارب البشرية وخبرات الأجيال.٣١ ولكن هذه التصورات البديلة المُتعددة النماذج أو الارتقائية الاتجاه لم تستقر في وعينا القومي لأنها لم تكن التصور الغالب في الذات؛ لأنه كان تصور المعارضة في حين كان التراث تراث سلطة. ولم يستقر هذا التصور الارتقائي إلا في أحد جوانب الوعي في الأمم المُجاورة على نحوٍ أسطوري عن طريق انتظار الإمام الغائب الذي سيكون بيده سبيل الخلاص.

(٢-٥) هل هناك تفضيل بين العلماء؟

وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء، كما أن الخلفاء نيابة عنهم في مصالح الأمة، وقع تفضيل أيضًا بين العلماء. فهل يأتي العلماء بعد الرسل باعتبار أنهم ورثة الأنبياء، أم بعد الخلفاء الأربعة، أم بعد المبشرين بالجنة، أم بعد أهل بدر أو أحد أو بيعة الرضوان؟ وأي علماء أفضل، علماء الأول أم الثاني أم الثالث أم علماء الأمة إلى يوم الدين؟ وأي علماء وفي أي علم؛ العلوم النقلية أم العلوم العقلية أم العلوم النقلية العقلية؟ وهل أفضل في درجة العلم أم في فضائل أخرى تزخر بها مصنَّفات العلم والعلماء؟ وما هو موقفهم؛ التقليد أم التجديد، التبعية أم الاستقلال، الترديد أم إعادة البناء، التكرار أم الخلق والإبداع؟٣٢ وهل يمكن رصد كل العلماء حتى يوم الدين حتى يكون الحكم بالفضل جامعًا مانعًا شاملًا صادقًا، وإلا كان مُبتسرًا على علماء قرن أو قرنين؟ في كل الأحوال تنتهي الإمامة بأحكام العلماء والأئمة؛ أي في الإمامة العلمية لا السياسية. قد يغلب أحيانًا أئمة الفقه، تصنيف دقيق للعلم والعلماء، ولكن يكشف عن ازدواج الأشعرية بالتصوف، وارتباط الفقه بالحديث، وظهور علوم النحو والبلاغة؛ وبالتالي مزج العلوم النقلية مثل الفقه والحديث بالعلوم النقلية العقلية مثل الكلام والتصوف، وظهور بعض العلوم الإنسانية كالنحو والبلاغة. لا تُذكَر علوم القرآن والتفسير والسيرة ضمن العلوم النقلية، ولا تُذكَر أيضًا علوم الجغرافيا والتاريخ ضمن العلوم الإنسانية. أما العلوم العقلية الخالصة الرياضية والطبية فتختفي تمامًا؛ ربما لأن بعض هذه العلوم لم يكن قد ظهر أو انتظم بعد، وربما لأن العلوم المذكورة أقرب إلى العلوم النقلية في مجموعها من العلوم العقلية. ويُذكَر ترتيب السلطة، ويختفي علماء الفرقة الضالة، أي تراث المعارضة، ويُضرَب حوله مؤامرة الضعف والنسيان.٣٣ وفي عرض كل عام تظهر غايتان؛ الأولى: تاريخية؛ أي ترتيب العلماء طبقًا للطبقات والعصور، فهذا أولهم من المتكلمين، وهذا أولهم من الفقهاء وأئمة الحديث. وهو تاريخ مذاهب؛ أي من وجهة نظر الفرقة الناجية وحدها فرقة السلطة في مقابل الفرقة الضالة، وهي فِرق المعارضة بكل صنوفها، العلنية منها والسرية، الداخلية منها والخارجية. وتُذكَر أسماء العلماء وعناوين مصنَّفاتهم. والغاية الثانية: مذهبية عقائدية لنقد عقائد الفِرق المخالفة وتفنيد مذاهبها، وكلها أحكام قيمة من وجهة نظر السلطة القائمة التي تعتبر نفسها الفرقة الناجية؛ فيُستعمل سلاح الألقاب، فالمعارضة إما قدرية تُنكر القدر، أو خارجية تخرج على الإمام، أو غلاة روافض تتطرف وترفض. وتُذكَر أقوالها بلفظ «زعم» أو «ادَّعى»، في حين أن الفرقة الناجية أهل السنة والاستقامة أو أهل الحق أو أصحاب الحديث أو الجمهور؛ أي الغالبية في مقابل الأقلية. كما تُذكَر أسماء المصنَّفات في الرد على الفِرق المخالفة، والفتاوى من فقهاء السلطان بتحليل دمائهم! ويُنتزَع منها أية شرعية في العقائد، ويُنكَر عليها انتسابها إلى الإمام الرابع أو إلى الصحابة حتى تبدو خارجية أو هامشية أو دخيلة أو مُنحرفة. والغاية من هذا التاريخ كله هو تشويه الخصوم السياسيين حتى يسهل بعد ذلك عزلهم عن الناس، والتخفيف من آثارهم على الحياة العامة باستعمال سلاح التكفير والتضليل. والاعتماد على آراء الفقهاء وأئمة الحديث وسلطتهم في نقد الخصوم من المتكلمين يهدف أساسًا إلى العامة الذين في تصوُّرهم أن الفقهاء على حق والمتكلمين على باطل؛ فإذا ما تصدَّى الفقهاء المتكلمون من الفرقة الناجية إلى مُتكلمي الفِرق الضالة فإن الحق يتصدى للباطل! كما يُضَم إلى الفقهاء بعض الصوفية والأدباء والشعراء لما لهم من ثقة عند الناس؛ وبالتالي يشتدُّ الحصار حول الخصوم العقلانيين العنيدين صعبي الفهم والكلام. وإن حُددت المناظرات في مجلس السلطان لتدلَّ على استعمال السلطة لفقهائها ضد الخصوم، وأن السلطة السياسية هي الحكم الفصل في خصومات المتكلمين؛ فالعقائد تدور في اللعبة السياسية، والخلاف بين المذاهب إنما يدور حول كرسي الحكم، ويحرسه عسكر السلطان. ويبرز فقيه السلطان الأول ومؤسِّس مذهب السلطة وزعيم الفرقة الناجية على أنه هو الحق والسلطة والدين، وأن الأمة كلها تابعة له، وأن كل من دونه خارج عليه. وتلاميذه هم القضاة الذين يفصلون بين الحق والباطل، ويحكمون في منازعات الخصوم. وما داموا قد حكموا بتضليل الفِرق المخالفة، فإنهم لا يُخطئون. وإذا كانوا يحكمون في المناطق النائية حتى الحدود والثغور، فالأولى أن تؤخذ أحكامهم في المناطق القريبة وفي المدائن في قلب البلاد. وإذا كان من تلاميذه كبار المفسرين والمؤرخين، فالأولى بالتتلمذ عليه والسماع إليه عامة الناس.٣٤ ومن ترتيب أئمة الفقه يظهر مجموع الفقهاء على عقائد الفرقة الناجية، فرقة السلطة، ابتداءً من العشرة المبشرين بالجنة والفقهاء الأربعة الذين أجمعوا جميعًا على رأي السلطة؛ فالعشرة لهم الآخرة، والأربعة لهم الحكم في الدنيا؛ وبالتالي تكون عقائد السلطة قد فازت بالدنيا والآخرة في آنٍ واحد. وإذا حدث خلاف بين الأربعة اختلفت الأمة، وإذا حدث اتفاق بينهم اتفقت الأمة. وما دامت الأمة قد أجمعت على عقائد الفرقة الناجية وتكفير الفِرق الضالة، فعلى هذا النحو تكون الأمة. فإذا ما حدث خلاف بين الفقهاء فإنه لا يكون في أصول الكلام، بل في فروع الفقه؛ وبالتالي لا يحدث خرق للإجماع على عقائد الفرقة الناجية. فإذا ما حدث خلاف في أصول العقائد، فإنه لا يحدث في العقليات، بل في السمعيات، مثل الإيمان هل هو مجرد إقرار ومعرفة أم يصحبه تصديق وعمل، أو في موضوع من العقليات يتم التفويض فيه والتسليم بعجز العقل عن معرفة كنه الأشياء. وقد انتصر الفقهاء لعقيدة الفرقة الناجية، وأبطلوا قول الخصوم في الاستطاعة وخلق الأفعال حتى يتم استسلام الناس لقُوًى خارجية عنهم يصعب بعد ذلك معرفة أيها من الله وأيها من السلطان. وأكبر الخصوم مِراسًا هي المعارضة العقلية العلنية الداخلية التي تتطلب المواجهة بالحجة علنًا وأمام الناس؛ فالإجماع مع الفرقة الناجية، والتفرق والخروج والاختلاف مع الفِرق الضالة. وإن حكم أئمة الفقه، وهم الأصحاب، في أهل الأهواء هو عدم جواز الصلاة خلفهم ورد شهادتهم لأنهم زنادقة!٣٥ وفي ترتيب أئمة الحديث والإسناد يظهر علماء الفرقة الناجية على أنهم حمَلة العلم ونقَلة الرواية، فيُوثَق بهم على أساس أنهم ورثة الأنبياء. وهم أصحاب التصانيف والتآليف في الرد على أهل الأهواء، وهم أهل الجرح والتعديل والثقات العدول؛ وبالتالي تُقبَل شهادتهم، ويتم التسليم بأحكامهم ضد المُدلسين الضعفاء، أهل الأهواء.٣٦ أما ترتيب أئمة التصوف والإشارة، فهم في مجملهم ما يزيد على الألف، وليس من بينهم أهل الأهواء إلا ثلاثة؛ حلولي واتحادي، وهو ما لا تقبله العامة، ومعتزلي طرده الصوفية من بينهم كما يطرد الطيب الخبث! ولما كان الصوفية أئمة العامة والمُسيطرين عليهم في الطرقات والزوايا، فإن كلامهم مسموع ورأيهم صائب. وهم أهل التصوف والإشارة الذين يفهمون ما لا يفهمه غيرهم؛ وبالتالي كانت الثقة بهم أعظم لعلومهم الدينية التي لا يجوز الاعتراض عليها.٣٧ أما ترتيب أئمة النحو واللغة، فهم أولًا جميعًا من الفرقة الناجية، ولا أحد منهم من الفِرق الضالة، وكل تصانيفهم في الهجوم على المعارضة العقلية العلنية الداخلية. وإن كل من يُجالسها أو يُخالطها أو يُصادقها أو يتأثر بها فهو مذمومٌ مكروه مثلها، تهمة يجب الدفاع عنها. وأهل اللغة والأدب مثل الصوفية قريبون من العامة؛ فأذواق العامة في اللغة والأدب لا تقلُّ عن أذواقها الصوفية؛ وبالتالي يُمثل علماء اللغة والنحو سلطةً أدبية يمكن بعدها الثقة بهم، وتصديق أحكامهم على أهل الأهواء.٣٨ وبالإضافة إلى هذا كله فإن كل أهل الثغور، أي حدود الأمة وأطرافها حيث تجب الحماية للداخل والصد للأعداء في الخارج، كلهم من عقائد الفرقة الناجية، وليس فيها من عقائد أهل الأهواء شيء؛ فحماية الأمة إذن تأتي من الفرقة الناجية، وخرابها يأتي من أهل الأهواء؛ وبالتالي كان جهاد أهل الثغور بالحجة والاستدلال ضد أهل الأهواء، وفي مقدمتهم القدرية، جزءًا من الجهاد ضد الأعداء حماية للأمن وتحصينًا لثغورها. الفرقة الناجية هم أهل الفكر والسلاح، والفِرق الضالة هم أهل الهوى والخنوع! وهكذا يُكتَب التاريخ، ويُفاضل بين العلماء، دفاعًا عن السلطة ضد خصومها بعد أن لبست ثوب الفرقة الناجية، وألبست خصومها ثوب الفِرق الهالكة.٣٩

(٢-٦) هل هناك تفضيل بين الأمم؟

وتنتهي مراتب التفضيل بالتفضيل بين الأمم واعتبار أمتنا أفضل الأمم،٤٠ ولكن السؤال: هل هي أفضل الأمم على الإطلاق، أم أنها كذلك مشروطة بشرط أو بشروط؟ فهي أفضل أمة لأن فيها تم اختتام الوحي وإنهاء مراحله المُتتالية منذ خلق البشرية حتى الآن، فهي الأمة التي اكتملت فيها التجربة، ولديها رصيد الأمم الأخرى وتجاربها، هي نهاية تطور الوحي وخاتم النبوة؛ وبالتالي تُمثل الوعي الإنساني المستقل القادر بعقله وبإرادته على أن يعتمد على نفسه دونما حاجة إلى عونٍ خارجي في فهم الطبيعة أو في التأثير عليها؛ فهي أمة بلا وصاية ولا تبعية. هذا هو الشرط الأول. وهي خير أمة أُخرجت للناس، ليس على الإطلاق، ولكن لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ أي إنها أمةٌ قادرة على الرقابة، رقابة الشعب على الحكام، ورقابة المؤسسات الدستورية على الأجهزة التنفيذية، وتُعلن عن ذلك على الملأ وفوق رءوس الأشهاد؛ فهي أمةٌ حرة في التعبير عن الرأي والقول والعمل، لا تخشى في الله لومة لائم، لا تسكت عن الحق ولا ترضى بالظلم. وهذا هو الشرط الثاني. لم يُفصل القدماء هذه المرتبة في التفضيل؛ لأن الأمم الأخرى كانت مُنضوية تحت الأمة الحضارية الجديدة، فلم تشعر بأهمية التفضيل قدر شعورها بالتفضيل مع الخصوم السياسيين. ومع ذلك يظل السؤال: إلى أي حد تستوفي الأمة حاليًّا هذين الشرطين، أم أنها الآن مغلوبة على أمرها تابعة وتحت الوصاية، وأن أممًا أخرى غيرها استحقَّت هذه الشروط، وبالتالي تكون أفضل منها؟

(٣) التوحيد بداية النهضة

إذا كان التفضيل بداية الانهيار، فإن التوحيد بداية النهضة؛ فبقدر ما توجد شواهد نقلية على سقوط الإمامة وانهيار الخلافة في التاريخ، توجد شواهد أخرى نقلية وعقلية وواقعية على تقدُّم التاريخ ونهضة الشعوب والاتجاه نحو المستقبل. وإن هذه الرؤية الأولى، الانهيار المستمر للتاريخ، إنما تولَّدت من شعور بالحزن والأسى على ما وقع في الأمة من فتنة وشقاق وتحوُّل الخلافة إلى ملك، والإمامة إلى وراثة، وركون الناس إلى الدنيا، فكان من الطبيعي أن يخرج هذا التصور للتاريخ على أنه انهيارٌ مستمر. وما أسهل بعد ذلك من وجود نصوص دينية بهذا المعنى حتى يحدث تطابق بين التجربة النفسية والنص الديني. ومع بدايات النهضة الحالية منذ حركات الإصلاح الديني الأخيرة، وحركات التحرر الوطني، ومحاولات التفكير في شروط النهضة، يبرز التوحيد من جديد مُرتبطًا بالنهضة كرؤية للتاريخ مُخالفة للرؤية الأولى، التاريخ كتقدم واتجاه نحو المستقبل، وأنه في الإمكان أبدع مما كان، وأن هناك مجالًا للسبق، فالسابقون السابقون، لمن شاء منا أن يتقدم أو يتأخَّر.

(٣-١) الإنسان والتاريخ

كشفت محاولة إعادة بناء علم أصول الدين عن وجود بُعدين رئيسيين فيه، هما الإنسان والتاريخ، وهما البعدان الناقصان أيضًا في وجداننا المعاصر. وقد يكون تغليفهما في علم التوحيد القديم هو السبب في اختفائهما من وجداننا المعاصر.٤١ فإذا انقسم العلم إلى قسمين رئيسيين، العقليات والسمعيات، أو الإلهيات والنبوات، فإن القسم الأول هو في الحقيقة مبحث الإنسان؛ فالله هو الوعي الخالص، الذات، أي شعور الإنسان بوجوده، ليس له بداية في الزمان، ينشأ في الشعور ويبقى فيه طالما كان الشعور يقظًا. لا يوجد في محل؛ فالشعور زمان لا مكان، ولا يُشبهه شيء لأنه وعيٌ خالص، وواجد تعبير عن وحدة الشعور. فإذا ما تعيَّن هذا الوعي الخالص فإنه يتَّسم بصفات الوعي النظرية والعملية، النظرية مثل العلم الذي يأتي من السمع والبصر ويُعبر عن نفسه بالكلام، والعملية مثل الإرادة والقدرة. وهذه الصفات النظرية والعملية إنما هي تعبير عن الحياة اليقظة. والوعي الخالص والوعي المُتعين كلاهما يُعبران عن الإنسان الكامل، الإنسان المثالي، ما يجب أن يكون عليه الإنسان، سواء كوعي خالص كذات أو كوعي مُتعين بالصفات. فإذا ما تحوَّل الإنسان الكامل إلى الإنسان المُتعين فإنه يظهر كحرية وعقل، والحرية سابقة على العقل لأنه بها يثبت وجوده ويستقلُّ عن الإنسان الكامل، ثم يظهر العقل كأساس للحرية؛ إذ إن الحرية عاقلة. وتبدو حرية الإنسان المُتعين في خلق الأفعال؛ أي إنه يكون صاحب أفعاله مسئولًا عنها، سواءٌ أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الشعور الخارجية، أو أفعال البدن في الطبيعة أو أفعال الإنسان في المجتمع؛ فأفعال الشعور الداخلية من إدراك وعلم أفعالٍ حرة، وأفعال الشعور الخارجية تقوم على الاستطاعة، وأفعال البدن في الطبيعة تجعل فعل الإنسان ممتدًّا ومنتشرًا في العالم ومحدِّثًا لمساره، ويصب خلق الأفعال في النهاية في أفعال الإنسان في المجتمع والتاريخ، حيث يكون مسئولًا عن وضع أمة في لحظةٍ معيَّنة وعن مصيرها في التاريخ. ولما كانت الحرية عاقلةً برز العقل أساسًا للنقل، وأصبح العقل قادرًا على إدراك حسن الأفعال وقبحها، وعلى إدراك الصلاح والأصلح وفهم الغائية في التاريخ. ولكن بسبب هذه الرؤية المُنهارة للتاريخ لم يظهر الإنسان فيه، وتحوَّل الإنسان الكامل إلى مجرد رمز وأمل ومِشجب يتعلق به الإنسان المُتهور بلا إرادةٍ مستقلة وبلا عقلٍ قادر. ولم يبقَ أمام الإنسان المقهور إلا التصوف والإشراق حتى يحدث التطابق بينه وبين نفسه هروبًا من العالم، وتعويضًا عن اغترابه فيه.

وقد كشفت السمعيات أو النبوات عن البعد الثاني وهو التاريخ، سواءٌ التاريخ العام المُمتد منذ البداية في النبوة وحتى النهاية في المعاد، أو التاريخ المُتعين بفعل الإنسان الفردي أو بفعل الدولة كنظامٍ سياسي؛ فالإنسان يصبُّ في التاريخ، وكما أن الإنسان كامل ومُتعين، فكذلك التاريخ عام ومتعين. والتاريخ العام هو تاريخ الوحي أو تاريخ الفكر، وتاريخ الفكر هو تاريخ الوعي أو الوعي التاريخي، تجارب البشر السابقة، حياة الشعوب، ونهضات الأمم وسقوطها. ويصعبُّ الوعي التاريخي في الوعي الفردي، فيصبح الوعي الفردي وعيًا تاريخيًّا، ويصبح الوعي الفردي مسئولًا عن التاريخ ودافعًا إياه نحو غايته ونهايته في المعاد. وطبقًا لفعل الإنسان في التاريخ، وعيه بالماضي والتزامه بالحاضر، يتحدد مسار التاريخ في المستقبل. وطبقًا لهذا التحدد يحدث المعاد كنهاية للفعل وإمكانيات التحقق. كما يتحدد مصير الإنسان فيه بالفناء أو البقاء، طبقًا لفعله ووجوده في الحاضر بالعدم أو الوجود. يتعين التاريخ إذن بفعل الفرد الذي يقوم على النظر، والذي يتحول فيه النظر إلى تصديق بالوجدان. ويكون الفعل بالكلمة والإعلان كتعبير عن النظر والصدق، ويكون أيضًا بأفعال الجوارح. ولما كان الفرد لا يعيش بمفرده، بل يعيش في جماعة، ظهر النظام السياسي كاكتمال لفعل الفرد، وأصبحت الدولة استمرارًا لوجوده وتحقيقًا لاختياره؛ فالفرد والدولة تعيُّنان للتاريخ العام، أي إن العمل والسياسة تعيُّنان للنبوة والمعاد. يكشف إذن علم التوحيد عن حضور الإنسان والتاريخ في شِقَّيه العقليات والسمعيات أو الإلهيات والنبوات؛ وبالتالي تأخذ الأصول الخمسة معنًى جديدًا؛ فالتوحيد والعدل هما الوعي الخالص والوعي المُتعين؛ أي الإنسان. والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي السمعيات؛ أي النبوة والإيمان والعمل والإمامة. والأصول الثلاثة تُشير إلى التاريخ. وإذا كانت الأصول الخمسة هي أفضل الصياغات القديمة لعلم التوحيد، فإن الإنسان والتاريخ هما الأصلان المُعاصران له، وهما في الوقت نفسه البُعدان الناقصان في وجداننا المعاصر نتيجةً للاغتراب القديم؛ وبالتالي يكون التحدي للعلماء وللساسة هو إيجاد الصلة بين هذين البعدين في علم التوحيد وفي وجداننا المعاصر حتى يعود العلم حيًّا في القلوب فيملؤها، كما يقضي على الفراغ النظري في الممارسة السياسية المعاصرة، وينتهي هذا الفصام القديم بين التوحيد والواقع، ويقضي في نفس الوقت على الاغتراب الديني لجيلنا بإيجاد الصلة بين التوحيد والثورة.

(٣-٢) التوحيد والثورة

إذا كان الإنسان والتاريخ هما مِحورا علم أصول الدين، وكان الإنسان قابعًا وراء الإلهيات (العقليات)، والتاريخ وراء النبوات (السمعيات)، كان «الله» و«الإمام» هما عصبا العلم. وإذا كان الله هو ركيزة الدين، والإمام هو ركيزة السياسة، أصبح الدين والسياسة هما مِحورا العلم كما تجلَّى ذلك في موضوعه الأول، الذات، وموضوعه الأخيرة، الإمامة، الله والسلطان، الدين والدولة، أو التوحيد والثورة، وهما الموضوعان الرئيسيان في العلم. قد يختلطان معًا عند القدماء وعند المعاصرون، في الوعي التاريخي القديم وفي الوجدان الشعبي المعاصر، فيصبح الإله سلطانًا، والسلطان إلهًا؛ ويسهل على السلطان التأله، كما يسهل على العامي اعتقاد الإله سلطانًا؛ لذلك كان من الظواهر الإيجابية في علم التوحيد الالتزام السياسي؛ فقد ظهر العلم مُوجهًا للواقع ومُتحدًا به. وكما تظهر العلاقة بين التوحيد والإمامة من خلال الله والسلطان، تظهر أيضًا من خلال الله والمعارضة؛ فليس إقرار النظام بأكثر اعتمادًا على التوحيد من زعزعة النظم والثورة عليها. كان الدين هو أيديولوجية القدماء، وما زال يكون الرافد الأساسي في أيديولوجية الناس. وكما كانت الدعوة إلى الطاعة تتمُّ باسم السلطان، كذلك كانت الثورة عليه تقوم باسم الله، بل إن الثورات المضادَّة كانت أيضًا تقع باسم الله، وكذلك كانت المطامع الشخصية وحب القيادة والرغبة في السلطة كل ذلك تصفية للخصوم. وكانت الثورة سياسية واقتصادية واجتماعية في آنٍ واحد، وما الثورة على السلطان إلا الشكل الخارجي لها.٤٢
فإذا كان التوحيد لا يتحقق إلا بالثورة، ولا يجد غايته إلا فيها، فإن تحقُّق الوعي الخالص في التاريخ لا يتم إلا بالفعل، بجهد الإنسان وعمل الجماعة، وكأن الفعل هو المُحرك الأول لهذه العملية. وما ظنَّه القدماء أنه المُحرك الأول هو في حقيقة الأمر فعل الإنسان في عملية تحقُّق الوعي الخالص في التاريخ، وما ظنَّه القدماء على أنه وجود يمكن إثباته في البداية بالبراهين العقلية هو في حقيقة الأمر عملية الإيجاد ذاتها من البداية إلى النهاية؛ فالوجود صيرورة أو عملية إيجاد، أو كما قال القدماء حال ينتقل فيه الوجود إلى عدم أو العدم إلى وجود. الفعل شرط الوجود عن طريق عملية الإيجاد التي لا تتم إلا من خلال الفعل. فإذا كان الله هو الوعي الخالص، فإنه لا يوجد إلا من خلال عملية الإيجاد من خلال الفعل وبنشاط الذات؛ فقد يوجد وقد لا يوجد طبقًا لنشاط الذات، وبناءً على القيام بعملية الإيجاد أو النكوص عنها. هو إذن أقرب إلى الإمكان منه إلى الوجوب أو الامتناع. وما دامت عملية الإيجاد مرتبطة بنشاط الذات، فإمكانية الوجود تكون فرديةً خالصة، توجد بالنسبة لمن يقوم بعملية الإيجاد ولا توجد بالنسبة إلى آخر لا يشارك في الإيجاد. الوجود إذن فردي محض بالنسبة للفرد وبالنسبة للوعي الخالص. الوجود إحالة مُتبادلة بينهما، بقدر ما يوجد الفرد يوجد الوعي الخالص، وبقدر ما يوجد الوعي الخالص في الفرد يزداد وجود الفرد ووعيه بعملية الإيجاد. وقد تستغرق عملية الإيجاد حياة الفرد كلها؛ إذ إن الوعي الخالص مشروع الفرد. الله إذن مشروع شخصي، وحياة الفرد تحقيق لهذا المشروع، ويتحقق المشروع بتحقيق الفرد لرسالته في العالم. ولما كان نشاط الفرد مُمتدًّا إلى نشاط الجماعة ويصبُّ فيه، فإن عملية الإيجاد تكون جماعية بقدر ما هي فردية. ولما كانت الجماعات تتوالى ويتراكم جهدها، كان مشروع الفرد والجماعة هو ذاته مشروع الإنسانية. باكتمال الوحي تكتمل الإنسانية، ويصبح مشروعها تحقيق الوحي كنظامٍ مثالي للعالم، أو تحويل الأيديولوجية وهي الوحي إلى بناء للواقع. فإذا ما تم ذلك على مستوى النظر والإدراك تحوَّل الوعي الخالص إلى تاريخ على مستوى العمل والسلوك. هذا التحقق في العالم ليس خروجًا عنه كما هو الحال في علوم التصوف، بل هو داخل فيه، وقائم على التزام الإنسان بقضايا العالم وليس بتخلِّيه عنها إنقاذًا لذاته، وهو يظنُّ أنه قد أنقذ العالم معه؛ ومن ثَم هناك خلافٌ جذري بين عملية التوحيد كإيجاد وحدة الوجود الصوفية بالرغم من أن كليهما حوَّل التوحيد إلى عملية. فوحدة الوجود وحدةٌ نظرية خالصة وليست وحدة عملية؛ إذ لا يتحقق الوحي فيها كنظامٍ مثالي للعالم، ولا يتغير الواقع، بل يظل كما هو عليه. لا تعني وحدة نظرية هنا أنها وحدة عقلية، بل تعني أنها وحدة بلا عالم، وحدة صورية بلا مضمون، مجرد افتراض نظري دون أن تتحقق بالفعل. هي وحدة خالية من أي مضمون اجتماعي، وحدة ميتافيزيقية خالصة، وكأن التوحيد بين الله والعالم هدف في ذاته، في حين أن عملية الإيجاد وحدةٌ عملية تتم بالفعل بين الوحي والعالم، لها مضمونٌ اجتماعي أساسًا، وسيلة لتحقيق غاية هي تغيير نظام العالم إلى كمال له، وتحقيق مثال الوحي فيه. وحدة الوجود عمليةٌ وهمية من صنع الخيال، وليست عمليةً واعية تقوم على تحليل الواقع وعلى تنظير القضايا. وحدة الوجود لا تتم إلا في نفس الصوفي، ولا تُنقذ إلا إياه، وكأنها وحدة تقوم على أنانيةٍ خالصة، يُنقذ الصوفي نفسه ويترك العالم، في حين أن عملية التوحيد هي أساسًا غيريةٌ تقوم على التضحية بالذات في سبيل خلاص العالم. وحدة الوجود تنتهي بالقضاء على الفردية وإلغاء الشخصية، والغوص في عالمٍ واحد يفقد فيه الإنسان ذاتيته، في حين أن عملية الاتحاد قائمة في البداية على إثبات الذاتية في البداية دون التخلي عنها في النهاية؛ فالشهادة أقوى إثبات لها بتحويل الموت إلى خلود. وحدة الوجود وحدةٌ فردية خالصة لا تتم إلا في نفس الصوفي دون الجماعة أو الحزب أو الجماهير أو التاريخ. والحلقة الصوفية أو الطريقة جماعةٌ محدودة مهمَّتها عملية محضة في بداية الطريق، ولكن في النهاية تظل فردية خالصة، في حين أن عملية الإيجاد وحدة فردية وجماعية تتم في الفرد وفي الجماعة، في الإنسان وفي الأمة. وحدة الوجود لو تمَّت كعملية فإنها تتم في الماضي وفي تاريخ النبوة، وتتحقق بالفعل بانتهاء النبوة، ولا تترك للمستقبل شيئًا، في حين أن عملية الإيجاد تهدف أساسًا إلى المستقبل، وتتحقق إلى الأمام في العالم. تتم وحدة الوجود بتدخل إرادة خارجية تفعل وتنفذ، تختار وتشاء. وشرط ذلك إسقاط التدبير وإلغاء الفرد لحريته وإرادته، في حين أن عملية الإيجاد عملية حرة خالصة، يخلق الإنسان بها ذاته، ويُحقق بها مشروعه بفعله الحر. وإذا بدت وحدة الوجود وكأنها عملية تتم لصالح الله وليس لصالح البشر؛ لأنه أحق بالوحدة والاتحاد معه من غيره، فإن عملية الإيجاد تتم لصالح البشر، فهو أحوج إلى الوحدة والتوحيد من غيره.٤٣

(٣-٣) الحزب الثوري

إذا كان الوحي كنظامٍ مثالي للعالم يتم من خلال الفرد، وكان العمل الفردي ينفتح على العمل الجماعي ويتَّحد به، فإن تنظيم العمل الجماعي الأمثل يتم في الحزب. ولما كان التوحيد ثوريًّا، فإن التوحيد لا يتحقق إلا بالحزب الثوري. الحزب هو الصورة المثلى لتحقيق المشروع والتعبير عن النشاط، والانتساب إلى حزب هو أول خطوة لتحويل النظر إلى عمل. الحزب هو التعبير عن الحياة في أعلى صورها، وهو النشاط المحقَّق للمشروع. الحزب هو لب مسألة التوحيد، والحل لانفصام التوحيد عن العدل، والإنسان عن التاريخ. هو الذي يُحقق الكلمة على الأرض، ويُثبت وجودها بالفعل، لا بالبراهين العقلية والأدلة النظرية. الحزب هو الذي يُحول الوحي إلى نظامٍ مثالي للعالم، هو المُحقق للمُطلَق في التاريخ. والحزب هو عصب الدولة، وعماد النظام السياسي. الحزب خليفة شعب الله المختار الذي أدَّى دوره من قبل في إتمام الوحي في صورته النهائية، وفي تربية الشعور الإنساني حتى أصبح شعورًا فرديًّا مستقلًّا عن الجماعة، يتمتع بحريةٍ كاملة في النظر والعمل. لا يتحقق التوحيد كنظامٍ مثالي في العالم عن طريق إنشاء حكم إلهي في دولةٍ وضعية، بل بإعلاء نظام العالم تدريجيًّا حتى يتَّحد مع نظام الوحي؛ أي بتطوير الدولة القائمة وجعلها أكثر قربًا من نظام الوحي. يظل الوحي من جانب المعارضة والرقابة في الدولة في مواجهة السلطة الفعلية. وإقامة الدولة الإسلامية لا تأتي مرةً واحدة، بل تقوى أقرب الدول إليها دون القضاء على الكل من أجل إقامة المثل الأعلى من البداية إلى النهاية طبقًا لجدل الكل أو لا شيء.٤٤
والحزب هو اتفاق الجماعة واجتماعها على هدفٍ مشترك، وليس مجرد ائتلاف لجماعاتٍ مُتضاربة الأهداف مُختلفة المشارب مُتنافرة الغايات، يُمثل مصلحة الناس لا مصلحة طبقة أو فئة، ويلتحم الحزب بجماهيره لأنه ليس طبقةً تعلو عليها أو تتكسب على حسابها، بل هو المُعبر عن إرادتها، والمُوجه لعملها السياسي، والمُحقق لأغراضها، والقائد لنضالها، والمُوحد لجهودها، والمُنظر لسلوكها. مهمة الحزب التوجيه والمعارضة أكثر من التنفيذ والتبعية؛ لأنه سلطةٌ معنوية لا سلطةٌ تنفيذية. ويقوم بدور التوعية للجماهير قبل أن يبدأ الممارسة الفعلية بعملية التغيير حتى يمكنه أن يكسبها في صفوفه. وتعني التوعية تغيير البناء النفسي للجماهير، وهو شرط لثورتها على الواقع. ويعتمد الحزب أساسًا على الشباب الذي يُضفي عليه جدته وخلقه وإبداعه وحركته ونماءه. فكثيرًا ما يثقل الفكر والممارسة بطول العمر. ويقوم تربية الأفراد تربية للكوادر التي تتم من خلال الممارسة داخل الجماعة، الحزب. لا تعارض إذن بين البداية بتربية الفرد أو تربية الجماعة. تربية الأفراد تربية للكوادر التي تتم من خلال الممارسة داخل الجماعة، وتغيير الجماعة لا يتم إلا بعمل الكوادر من خلالها. ودور الحزب الأساسي بعد التكوين قيادة الكفاح المسلَّح؛ فالكفاح المسلَّح ليس فقط جزءًا من البناء الأيديولوجي، بل هو واقع العصر، عصر التحرر من الاستعمار والإقطاع.٤٥
ولفظ «الحزب» وإن كان غريبًا على روحنا المعاصرة بعد أن شوَّهته الأحزاب التقليدية والحديثة، أو بعد أن غاب تمامًا من وجداننا المعاصر نظرًا لقيام السلطة بدوره، فإنه تصورٌ إيجابي عن احتياج الجماهير. وهو لفظٌ مألوف في تراثنا القديم بمعنى فِرقة، وهو مذكور في الوحي مرة بالجمع مما يوحي بتعدد الأحزاب، ومرةً مثنًّى مما يوحي بنظام الحزبين، ومرةً مفردًا مما يوحي بنظام الحزب الواحد؛٤٦ فتعدُّد الأحزاب الذي يقوم على التشتت والاختلاف والتضارب يؤدي بالجماعة إلى التفتت والانهيار، وإلى التناحر والشقاق؛ مما يؤدي إلى الانهيار التام للجماعة وضياع وحدتها وقوتها.٤٧ وينتهي تعدد الأحزاب إلى تفتُّتها إلى عدة أحزاب، كلٌّ منها قائم بذاته، لا يجمعها جامع.٤٨ ولا يعني تعدد الأحزاب بالضرورة اختلافاتٍ فكريةً وتعددًا في المناهج وتباينًا في الأُطر النظرية، بل قد تكون مُتعددة وكلها مُجتمعة على الباطل، وكلها يبغي الاستغلال والسيطرة، ويكون الخلاف فقط في قسمة الغنائم والصراع على السلطة. ونظام الحزبين بالضرورة يجعل أحدها ناصرًا للحق أكثر من الآخر؛ لأن الحق لا يختلف عليه اثنان.٤٩ وأما الحزب الواحد فهو الحزب الحق المُعبر عن الفكر، والمُدافع عن مصلحة الجماهير، والحريص عليها، في مقابل حزب مُضاد لا يُمثل مصلحة الجماهير ولا يُعبر عنها.٥٠
يصبُّ التوحيد إذن في مُعترَك السياسة، وتنتهي الوحدة الأولى إلى التفرُّق والتحزب، ويظهر التوحيد في الصراع السياسي بين الشرعية واللاشرعية. وهنا تبدأ مرحلةٌ أخرى لكتابة التاريخ، تاريخ الانتقال من الوحدة إلى الفرقة، ومن الفرقة الناجية إلى الفِرق الضالة. وهو في حقيقة الأمر الصراع بين السلطة والمعارضة، بين الدولة والخصوم، بين السلطان والخارجين عليه. ولما كان السلطان بعد انهيار التاريخ قد اغتصب البيعة، قامت المعارضة لإعادتها عقدًا واختيارًا. كانت المعارضة الأولى إذن مجرد محاولة لاسترداد الشرعية، ولولا تفتُّتها وانقسامها وتشرذمها وصراعها فيما بينها على السلطة لأمكن توحيدها والقضاء على السلطة الباغية. ومحاولةً للسلطة للدفاع عن نفسها شهرت سلاح التكفير ضد الخصوم، وتوحَّدت بالفرقة الناجية، واتَّهمت خصومها بالكفر والضلال.٥١
١  جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل. عند كثير النوي من أصحاب الحديث، وقوم من المعتزلة منهم جعفر بن مبشر، جعفر بن حرب، الإمامة ليست من مصالح الدين، ليس يُحتاج إليها لمعرفة الله وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل، لكن يُحتاج إليها لإقامة الحدود والقضاء بين المُتحاكمين وولاية اليتامى وحفظ البيضة وإعلاء الكلمة ونصب القتال مع أعداء الدين، وحتى يكون للمسلمين جماعة ولا يكون الأمر فوضى بين العامة، فلا يُشترط فيها أن يكون الإمام أفضل إمامية علمًا وأمثلهم عهدًا وأسدهم رأيًا وحكمة؛ إذ الحاجة تنسدُّ بقيام المفضول مع وجود الفاضل. ومالت جماعة من المسلمين إلى ذلك حتى جوَّزوا أن يكون الإمام غير مجتهد ولا خبير بمواقع الاجتهاد، ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد فيُراجع الأحكام، ويستقي منه في الحلال والحرام، ويجب أن يكون في الجملة ذا رأي مقين، وزجر في الحوادث نافذ (المِلل، ج٢، ص٩٠-٩١). ما يدل على جواز العقد للمفضول وترك الأفضل خوف الفتنة والتهارج، فالإمام إنما يُنصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل وإقامة الحدود واستخراج الحقوق. فإذا أُضيف بإقامة أفضلهم، فالهرج والفساد والتغالب وترك الطاعة واختلاف السيوف وتعطيل الأحكام والحقوق وطمع عدو المسلمين في احتقارهم وتوهين أمرهم، عُدَّ ذلك عذرًا واضحًا في العدول عن الفاضل إلى المفضول (التمهيد، ص١٨٤).
٢  معنى الأفضلية أكثر ثوابًا عند الله، لا أنه أعلم وأشرف نسبًا (العضدية، ج٢، ص٢٨٤-٢٨٥؛ الشرح، ص٧١٦). إيجاب الله للفاضل درجة في الجنة أعلى من درجة المفضول (الفصل، ج٤، ص١٣٢-١٣٣). أهل الأنبياء كانوا كفارًا، استواء بني هاشم في القرابة واختلافهم في الفضل، لا ينتفع أحد بقرابة من رسول الله ولا من نبي، ولو كان ابنه أو أباه أو أمه (الفصل، ج٤، ص١٦٣–١٦٥).
٣  إيجاب الله تعظيم الفاضل في الدنيا على المفضول، كل فاضل يعمل أو بلا عمل من عرض أو جماد أو حي ناطق أو غير ناطق (المطيعي، ص٧٣-٧٤؛ عبد السلام، ص١٢٠).
٤  اصطفاء الأنبياء للإيمان وليس للقرابة (الفصل، ج٤، ص١٦٣–١٦٥). الفضل ينقسم قسمين: (أ) فضل اختصاص الله بلا عمل، ويشترك فيه جميع المخلوقين من الحيوان الناطق وغير الناطق، والجمادات، وكذلك كفضل الملائكة في ابتداء الخلق، وكفضل الأنبياء في ابتداء الخلق على الجن، وكفضل إبراهيم ابن النبي على سائر الأطفال، وكفضل ناقة صالح على سائر النوق، وكفضل ذبيحة إبراهيم على سائر الذبائح، وكفضل مكة على سائر البلاد، وكفضل المدينة على مكة، وكفضل المساجد على سائر البقاع، وكفضل الحجر الأسود على سائر الحجارة، وكفضل شهر رمضان ويوم الجمعة ويوم عرفة ويوم عاشوراء وليلة القدر على سائر الأيام، وكفضل صلاة الفرض على النافلة، وكفضل صلاة العصر والصبح، وكفضل السجود على القعود، وكفضل بعض الذكر على بعض … (ب) فضل مجازاة من الله بعمل، ولا يكون إلا للحي الناطق من الملائكة والإنس والجن فقط، وهو ما تنازع الناس فيه (الفصل، ج٤، ص١٢٨-١٢٩). انظر أيضًا الفصل التاسع: تطور الوحي (النبوة)، الشخص أم الرسالة؟ النبوة كشخص، تفضيل الأنبياء.
٥  فضل المجازاة بالعمل. العامل يفضل في عمله بسبعة أوجه: (أ) الماهية، وهي عين العمل ذاته، استكمال الفروض والنوافل. (ب) الكمية، وهي القصد في العمل لوجه الله أم لغيره. (ﺟ) الكيفية، وهي استيفاء العمل جميع حقوقه أو عدم استيفائه، أو خلطه ببعض الصغائر أو الكبائر. (د) الكم، وهو الاختلاف في النوافل. (ﻫ) الزمان، في الجهاد في الإسلام، الأسبقية في الإسلام، في الحج والصدقة، ضد جواز أن يوازي عمل الإنسان عمل الأنبياء (الجبائي)، أو أن يكون أفضل من الرسول (الباقلاني)، تفضيل النفس على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة (الخوارج والشيعة). (و) المكان، مثل الصلاة في المسجد الحرام أو في مسجد المدينة أفضل من الصلاة فيما عداهما، والصيام في بلد العدو أو في الجهاد على صيام. (ز) الإضافة، مثل ركعة مع نبي أو من نبي (الفصل، ج٤، ص١٢٩–١٣٢).
٦  نُقر بفضل آل بيت الرسول، نعترف بفضل أزواجه، وأنهن أمهات المؤمنين (الإنصاف، ص٦٧–٦٩). عند الأصحاب، أفضل الناس بعد الأنبياء نساء الرسول، ثم أبو بكر (الفصل، ج٤، ص١٢٨-١٢٩). وذلك لوجوه: (أ) أوجب الله لهن الأمومة على كل مسلم. (ب) حق الصحبة على الرسول بالإضافة إلى الاختصاص بالملازمة والقرب والخطوبة. (ﺟ) لا عمل من صلاة وصدقة وصيام وجهاد إلا وكان لهن فيه دور. هل إبراهيم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان لكونه مع أبيه في الجنة وليس له عمل؟ وهل قال الرسول «لن يدخل أحد الجنة بعمله» لأنه لا يجب عل الله شيء؟ (الفصل، ج٤، ص١٣٣–١٣٦). قال العلقمي: سيدتنا فاطمة وأخوها سيدنا إبراهيم أفضل من الصحابة على الإطلاق، وفيهم الخلفاء الأربعة. وكان سيدنا مالك يقول: لا أُفضل على بضعة رسول الله أحدًا. وهذا هو الذي يجب اعتقاده ونلقى الله عليه (الكفاية، ص٧١-٧٢). هناك رواياتٌ عدة تُفيد بأنه قد قال لأسامة إن أباه كان أحب الناس إليه. ويرد الخبر في آخرين. كما أن الرسول قد أحبَّ عمه وهو كافر.
٧  الفصل، ج٤، ص١٣٦–١٤٩.
٨  تظهر مسألة التفضيل في العقائد المتأخرة، ومنها تبرئة عائشة، خير نسائها فاطمة، نساؤها ليس كالنساء، فاطمة سيدة نساء الجنة، فضل عائشة على النساء كفضل الثَّريد على سائر الطعام. وقد قيل شعرًا:
اجزم بمعراج النبي كما روَوا
وبرِّئن لعائشة مما رمَوا
الجوهرة، ج٢، ص٤٣-٤٤
والقصة كلها في البيجوري، ج٢، ص٤٤؛ عبد السلام، ص١١٩. أفضل النساء عائشة وخديجة، وهناك خلاف حول الزوجات وأفضلهن: (أ) خديجة وعائشة، وفي أفضلهن خلاف، عائشة من حيث العلم، وخديجة من حيث التقدم والإعانة. (ب) خديجة وفاطمة، فتكون فاطمة أفضل من عائشة. (ﺟ) فاطمة ثم أمها ثم عائشة، فاطمة من حيث القرابة. (د) مريم وخديجة، مريم أفضل من خديجة، مريم من حيث الاختلاف في ثبوتها. (ﻫ) آسية امرأة فرعون. (و) زينب بنت جحش أم عائشة؟ (ز) مفاضلة بين الذكور والإناث (عبد السلام، ص١٢٦-١٢٧). هل امرأة أبي بكر أفضل من علي ومعه في الجنة؟ هل نساء الصحابة يُشاركن في عملهن؟ هل تفاضل الأنبياء تفاضل في نسائهن أيضًا؟ (الفصل، ج٤، ص١٤٩–١٦٠). في تفضيل مراتب النساء. في الحديث أن سيدة نساء العالمين أربع، وأنهن أفضل نساء العالمين وخيرهن، وهن: آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت الرسول. واختلفوا في فضل عائشة وفاطمة، فكان الشيخ أبو سهل محمد بن سليمان الصعلوكي وابنه سهل بن محمد يُفضلان فاطمة على عائشة، وهذا أشبه بمذهب الأشعري، وبه قال الشافعي، وللحسين بن الفضل رسالة في ذلك. وعند البكرية، عائشة أفضل من فاطمة. والقول الأول هو الصحيح للخبر الوارد في أفضل النساء وخيرهن أربع. وأفضل النساء بعد فاطمة وخديجة وعائشة أم سلمة، ثم حفصة، ثم الله أعلم بالأفضل منهن بعد ذلك. وقد قيل إن كل بنات النبي أفضل من زوجاته. في فضل عائشة وفاطمة. واختلفوا في فضل عائشة وفاطمة (الأصول، ص٣٠٦).
٩  وهم مرتَّبون في الفضل ترتيبهم في الإمامة (المِلل، ج١، ص١٥٧-١٥٨). والإمام بعد النبي أبو بكر الصديق، تثبت إمامته بالإجماع، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى. والأفضلية بهذا الترتيب (العضدية، ج٢، ص٢٨٣-٢٨٤). وأفضل الصحابة أبو بكر فعمر فعثمان فعلي، هذا الترتيب (الكفاية، ص٧١-٧٢؛ البيجوري، ص١٤؛ الجوهرة، ص١٢). أفضل الناس بعد النبيين أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب الفاروق، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب المرتضى (الفقه، ص٥٩–٦٣). أفضلية الصديق (شرح الفقه، ص٦١؛ المحصل، ص١٧٦-١٧٧). الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي (التنبيه، ص١٥، ص١٧؛ النسفية، ص١٤١؛ التفتازاني، ص١٤١؛ شرح الفقه، ص٦١-٦٢؛ الشرح، ص٧٦٦-٧٦٧؛ البيجوري، ج٢، ص٤٥-٤٦).
١٠  أبو بكر أفضل الأمم عند قدماء المعتزلة والأصحاب لعدة أسباب: (١) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، نزلت في أبي بكر، فهو أكرم لقوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ …، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ …، وتُصرَف عن علي إذ عنده نعمة التربية، وهي نعمة تُجزى. (٢) «اقتدوا باللذين من بعدي …» أمرٌ عام يدخل فيه علي، إذ لا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء. (٣) «والله ما اطلعت على شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على رجلٍ أفضل من أبي بكر.» (٤) «سيد كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين.» (٥) «وما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره.» (٦) تقديمه في الصلاة أفضل العبادات، وقول الرسول: «يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر». (٧) «خير أمتي أبو بكر وعمر.» (٨) «لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن هو شريكي في ديني، وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار، وخليفتي في أمتي.» (٩) «وأنَّى مثل أبي بكر؟ كذَّبتني الناس وصدَّقني، وآمن بي وزوَّجني ابنته، جهَّزني بماله، وواسى مني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف.» (١٠) قول علي: «خير الناس بعد النبيين أبو بكر، ثم عمر، والله أعلم.» وقوله إذا قيل له «أما تُوصي»: «ما أوصى رسول الله حتى أُوصي، ولكن إن أراد الله بالناس خيرًا أجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم» (المواقف، ص٤٠٧–٤٠٩؛ شرح الفقه، ص٦٢-٦٣؛ المحصل، ص١٧٦–١٧٨؛ الفصل، ج٤، ص١٤٩–١٦٠).
١١  لم يتخلفوا في تقديم أبي بكر وعمر على سائر الصحابة، ولا تفضيل أبي بكر على عمر، وإنما الخلاف في علي وعثمان. ذهب الحسين بن الفضل وابن خزيمة إلى تفضيل علي، وقال القلانسي في بعض كتبه: لا أدري أيهما أفضل (الأصول، ص٣٩٢-٣٩٣). وعند سليمان بن جرير الزيدي، إمامة عثمان ست سنين مع كون علي أفضل. دليل قول من أجاز إمامة المفضول مع قيام الأفضل مبني على صحة إمامة أبي بكر وعمر، فإذا صحَّت إمامة عمر فقد قال في أهل الشورى: «لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيًّا لولَّيته عليكم.» مع علمه بأن عليًّا أفضل منه (الأصول، ص٢٩٣-٢٩٤). ثم تختلف الظنون في عثمان وعلي (الإرشاد، ص٤٣٠-٤٣١). (أ) التوقف في أمرهما. (ب) رفضهما معًا. (ﺟ) قلب الترتيب بين علي وعثمان (الخيالي، ص١٤٠-١٤١). اختلف الأصحاب في تفضيل علي وعثمان. قدَّم الأشعري عثمان على أصله في منع إمامة المفضول (الأصول، ص٣٠٤). وقد توقَّف مالك بين عثمان وعلي. وقال إمام الحرمين: الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل من عمر، ثم عمر من عثمان، ثم تتعارض الظنون في علي. أبو بكر بن أبي خديجة، تفضيل علي على عثمان (الدواني، ج٢، ص٢٨٤). اختلف الناس أيهما أفضل؛ عثمان أم علي؟ عثمان أفضل لأنه أقرأ، وعلي أكثر فتيا وروايةً. لعليٍّ مقاماتٌ عظيمة في الجهاد مثل عثمان، بايع الرسول ليساره المقدسة عن يمين عثمان في بيعة الرضوان. له هجرتان وسابقة قديمة، وصِهر مكرَّم لم يلحق بدرًا. وفي عهد عثمان كثرت فتوحات الإسلام، ولم يتسبب بسفك دم (الفصل، ج٤، ص١٦٠–١٦٢). ويُفضل واصل بن عطاء عليًّا على عثمان؛ لذلك سُمِّي شيعيًّا. أما أبو علي وأبو هاشم فيتوقَّفان. كل الخصال موجودة في الأربعة (الشرح، ص٧٦٦-٧٦٧). أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نتوقف. الشيعة وأهل الكوفة وبعض أهل السنة وجمهور المعتزلة وقول مالك الأول بتقديم علي على عثمان (عبد السلام، ص١٢٠؛ الإسفراييني، ص١٤٠-١٤١).
١٢  هو الخلاف بين علي وأبي بكر. لا ندري أبو بكر أفضل أم علي. إن كان أبو بكر أفضل فيجوز أن يكون عمر أفضل من علي، ويجوز أن يكون علي أفضل من عمر. وإن أكان أبو بكر أفضل، فيجوز أن يكون عمر أفضل من علي، ويجوز أن يكون علي أفضل من عمر. وإن كان علي أفضل من عمر فهو أفضل من عثمان، وإن كان عمر أفضل من علي فيجوز أن يكون علي أفضل من عثمان، وعثمان أفضل من علي (الجبائي) (مقالات، ج٢، ص١٣١-١٣٢). زيد بن علي يُفضل عليًّا على سائر الصحابة، ويتولى أبا بكر وعمر، وربما اعتبار علي أحق بالخلافة (مقالات، ج١، ص١٢٩-١٣٠). وعند أبي عبيد الله البصري، الأفضل بعد الرسول علي ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان؛ لذلك كان يُلقَّب بالفضل، وله كتاب في التفضيل طويل. وكان قاضي القضاة يتوقف إلى أن شرح هذا الكتب، فقطع على أن عليًّا الأفضل ثم الحسن ثم الحسين (الشرح، ص٧٦٦-٧٦٧).
١٣  عند الشيعة وأكثر متأخري المعتزلة، هناك مسلكان لتفضيل علي إجمالًا؛ الأول: الحجج النقلية. والثاني: الفضائل الشخصية. فبالنسبة للحجج النقلية هناك مثلًا: (١) آية المباهلة: … وَأَنْفُسَنَا … وهي نفس علي، وليس نفس النبي، مع أن الآية تجمع كل الأقرباء وليس عليًّا وحده. (٢) خبر الغدير: «اللهم ائتِني بأحبِّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير.» فأتى علي. والمحبة من الله كثرة الثواب والتعظيم. (٣) «بقتله (ذي الثدية) خير الخلق»، وقد قتله علي. (٤) «أخي ووزيري وخير من أتركه من بعدي، يقضي ديني، ويُنجز وعدي.» وهو علي. وقد يعني ذلك أنه قاضٍ فقط. (٥) قوله لفاطمة: «أمَا ترضَين أني زوَّجتك من خير أمتي.» وقد يعني هذا خيرهم. (٦) «خير من أتركه بعدي.» وهو علي. (٧) «أنا سيد العالمين، وعلي سيد العرب.» والسيادة قد تعني الارتفاع وليس الأفضلية. (٨) قوله لفاطمة: «إن الله اطَّلع على أهل الأرض واختار منهم أباك فاتخذه نبيًّا، واختار منهم بعلك.» (٩) لما آخى بين الصحابة أعزَّه أخًا لنفسه.» وقد يعني ذلك الشفقة والقرابة والألفة والخدمة، لا الأفضلية. (١٠) قوله بعدما بعث أبا بكر وعمر إلى خيبر فرجعا مُنهزمين: «لأُعطينَّ الراية اليوم رجلًا يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، كرَّارًا غير فرَّار.» فأعطاها عليًّا، وهي صفة واحدة قد توجد في غيره، وليست كل الصفات. (١١) قوله في حق النبي: فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وهو علي، وهو مُعارَض بآيةٍ أخرى أو تفسير آخر يصدق على أبي بكر أو عمر. (١٢) «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، ونوح في تقواه، وإبراهيم في حِلمه، وموسى في هيبته، وعيسى في عبادته، فلينظر إلى ابن أبي طالب.» فقد ساواه بالأنبياء وهم أفضل من سائر الصحابة إجماعًا. وهذا تشبيه وليس مساواة. وهناك إجماع على أن الأنبياء أفضل من الأولياء (المواقف، ص٤٠٩–٤١١).
١٤  المسلك الثاني في تفضيل علي هو ذكر خصاله تفضيلًا، فإن فضيلة المرء على غيره بما له من الكمالات اجتمعت في علي، مثل: (١) العلم. فقد تعلَّم من الرسول في صغره، وقال فيه: «أقضاكم علي»، وهو ما يحتاج إلى العلم دون أن يُعارضه «أقرضكم زيد»، أو «أقرؤكم أُبي». ونزلت فيه: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ. نهى عمر عن رجم من ولدت لستة أشهر وعن رجم الحاملة، وقال فيه عمر: «لولا علي لهلك عمر.» وقال علي: «لو كُسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم. والله ما من آيةٍ نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي شيء نزلت.» وقد ذكر علي في خطبةٍ أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء ما لم يذكره مثله. جميع الفِرق ينتسبون إليه في الأصول والفروع، وكذا المتصوفة في علم تصفية الباطن، وابن عباس رئيس المفسرين تلميذه. كان في الفقه والفصاحة الدرجة القصوى، والنحو أمر الأسود بتدوينه، وكذا علم الشجاعة وممارسة الأسلحة وعلم الفتوة والأخلاق. (٢) الزهد. بالرغم من اتساع الدنيا، علي قال لها: «طلقتك ثلاثًا.» (٣) الكرم. تصدَّق في الصلاة بخاتمه، وفي صيامه بفطوره، ونزل فيهما قرآن: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. (٤) الشجاعة والحرب وقتل الجاهليين. وفي الأثر: «ضربة علي خير من عبادة الثقلين.» وانتزع باب خيبر بيده. (٥) حسن خلقه وحلو دعابته. (٦) مزيد قوَّته وهيئته. (٧) نسبه وقربه من الرسول. (٨) اختصاصه بصاحبته كفاطمة، وولدين كالحسن والحسين سيدَي شباب أهل الجنة، ثم أولاده، حتى أبو يزيد وجعفر الصادق ومعروف الكرخي بوَّاب علي دار علي بن موسى الرضا. وكل ذلك يدل على الفضيلة وليس الأفضلية (المواقف، ص٤١٠–٤١٢؛ المحصل، ص١٧٦–١٧٨؛ الفصل، ج٤، ص١٤٩–١٦٠).
١٥  تُقدم الخطابية عمر، والراوندية العباس، والبعض عبد الله بن مسعود، وفريقٌ رابع أبا سلمة (صاحب أول بيت هاجر فيه الرسول) (الفصل، ج٤، ص١٢٨).
١٦  الكلام في بعض وجود المفاضلة بين الصحابة. التفضيل الثنائي مثل جعفر بن أبي طالب ثم حمزة، علي بن أبي طالب، عمر بن الخطاب ثم أبو بكر. والتفضيل الثلاثي مثل سعد بن معاذ ثم أسيد بن حصين ثم عباد بن مبشر (الفصل، ج٤، ص١٢٨).
١٧  الدليل على إثبات إمامة الخلفاء الأربعة على الترتيب أن الصحابة أعلام الدين، شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، مصابيح أهل اليقين. وارتباط الترتيب الزماني بالأفضلية (الإنصاف، ص٦٦-٦٧؛ اللمع، ص١١٥-١١٦). الخلفاء الراشدون ترتيبهم في الفضل مثل ترتيبهم في الإمامة. والفضل معناه المحل الأرفع في الآخرة، وهو غيب لا يطَّلع عليه إلا الله، ولا يعرفه أحد إلا بالسمع والنصوص القاطعة (الانتصار، ص١٢٢–١٢٤).
١٨  واعلم أن مسألة الأفضلية لا مَطمع فيها في الجزم واليقين، وليست مسألةً يتعلق بها محل، فيُكتفى فيها بالظن. والنصوص المذكورة من الطرفين بعد تعارضها لا تفيد القطع على ما لا يخفى على مُنصف، لكننا وجدنا السلف قالوا بأن الأفاضل أبو بكر ثم عمر ثم علي. وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه. فوجب علينا اتِّباعهم في ذلك، وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله (المواقف، ص٤١٢). ومستنَد ذلك ليس إلا الظن، وما دار في ذلك من الآثار والأخبار الآحاد والميل في الأمة إلى ذلك بطريق الاجتهاد (الغاية، ص٣٩١).
١٩  نُقل عن كثيرٍ عدم المفاضلة بين الصحابة (عبد السلام، ص١٢). وقد قيل في القصائد المتأخرة شعرًا:
وأما التشاجر الذي ورد
إن خُضت واجتنبْ داء الحسد
الجوهرة، ج٢، ص٥٠-٥١
وقد توقَّف القلانسي في تفضيل علي (الأصول، ص٣٠٤). وتُنكر الهاشمية الوقائع كلها، وتعدُّها تناقض التواتر (المواقف، ص٤١٣).
٢٠  هنا شرٌّ مطلق مثل يزيد والحجاج أيضًا لا يجوز لعنهم؛ إذ نهى النبي عن لعن الملعون ممن كان من أهل القِبلة، والبعض أطلق اللعن على يزيد لكفره حين أمر بقتل الحسين (التفتازاني، ص١٤٦-١٤٧). ويرد عمر وابن عبيد وواصل بن عطاء شهادة الفريقين؛ الأول يرى فسق الجميع، والثاني يُفسق لا أحدًا بعينه. وعند أهل السلف، المُخطئ قتَلة عثمان ومُحاربو علي لأنهما إمامان، وتُحرم القتل والمخالفة (المواقف، ص٤١٣). في الطعن على الصحابة. كثرت المطاعن، وعظم الافتراء. والذي يجب على المعتقد أن يلتزمه أن يعلم أنهم كانوا من الرسول بالمحل المضبوط والمكان الأحوط، شهد الكتاب بعدالتهم والرضا عليهم ببيعة الرضوان، والشواهد تدل على الثناء على المهاجرين والأنصار. استصحابهم واجب، والتدبر في النقل؛ فإن ضعف ردَّه، وإن كان آحادًا لم يقدح في التواتر أو تأويله (الإرشاد، ص٤٣٢-٤٣٣). الطرف الثالث من الإمامة، في شرح عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين. اعلم أن للناس في الصحابة والخلفاء إسرافًا في إطراف؛ فمن مُبالغ في الثناء حتى يدَّعي العصمة للأئمة، ومنهم مُتهجم على الطعن يُطلق اللسان بذم الصحابة، فلا تكونَّن من الفريقين، واسلك طريق الاقتصاد في الاعتقاد، واعلم أن كتاب الله مشتمل على الثناء على المهاجرين والأنصار، ومُتواتر الأخبار، فلا يجب إساءة الظن أو التعصب، لا بد من تأويل ما ثبت نقله. قصدهم للخير ما لم يئول، وجواز الخطأ والسهو اجتهادًا. كانت عائشة تطلب إخماد الفتنة، ولكن خرجت الأمور عن يدها، فأوائلها غير أواخرها. والإمساك عن الطعن عن خطأٍ خير من الطعن عن صواب (الاقتصاد، ص١٢٢–١٢٤؛ الغاية، ص٣٩٠-٣٩١؛ التفتازاني، ص١٤٦-١٤٧؛ النسفية، ص١٤٦؛ الخيالي، ص١٤٧؛ الإسفراييني، ص١٤٧؛ المطالع، ص٢٣٥–٢٣٩؛ الطوالع، ص٢٣٨؛ الفصل، ج٤، ص١٦٩–١٧١). ما جرى بين أصحاب النبي من مشاجرةٍ نكفُّ عنهم، ونترحم على الجميع، ونُثني عليهم، ونسأل الله لهم الرضوان والأمان، والفوز والجنان. أصاب علي فيما فعل وله أجران. صدر عن الصحابة ما كان باجتهاد فلهم الأجر. ولا يُفسَّقون ولا يُبدَّعون. فإذا كان الحاكم له أجران على الاجتهاد، فالأولى الصحابة. نقول في الجميع خيرًا، ونُبدع ونُضلل ونُفسق من طعن فيهم أو في واحد في فهمه لنصوص الكتاب، في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم. يجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم والسكوت عنه. تلك دماء طهَّر الله يدي منها، أفلا أُطهر منها لساني؟ مثل أصحاب الرسول مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها (الإنصاف، ص٦٧–٦٩). في أنه يجب تعظيم الصحابة والكف عن سبهم والطعن فيهم. كل من طعن في حق الصحابة مبتدع (المسائل، ص٣٨٥). ذكر الناس المطاعن في الأئمة الثلاثة، والدلائل الظاهرة دلَّت على إمامتهم وتعظيمهم. المطاعن محتملة، والمحتمل لا يُعارض المعلوم قطعًا بعد الثناء على الصحابة (المحصل، ص١٧٨-١٧٩). دلائل الجانبين متعارضة، ومسألة لا يتعلق بها شيء من الأعمال، التوقف فيها لا يُخل بشيء من الواجبات. توقَّف السلف في تفضيل عثمان وعلي. من علامات السنة تفضيل الشيخين. إذا كانت الأفضلية كثيرة الثواب فلا توقف، وإن كانت مقدار الفضائل فالتوقف (التفتازاني، ص١٤١). عند أصحاب الحديث والسنة، الإمساك عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، يُقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًّا. ويُقرون أنهم الخلفاء الراشدون، ويرون أفضل الناس بعد النبي (مقالات، ج١، ص٣٢٣). هؤلاء الأئمة الأربعة مُجمَع على عدلهم وفضلهم. الفِرق ثلاث: (أ) اجتهدت مقاتلةً مع علي. (ب) اجتهدت فقالت مع معاوية. (ﺟ) التوقف، وللمُصيب أجران، وللمُخطئ أجر (الإبانة، ص٦٩).
٢١  دفاع الخياط عن المعتزلة في مواقفهم من الصحابة ضد روايات وافتراءات ابن الراوندي. مثلًا الزعم بأن النظَّام قال: ليس في جملة أصحاب الرسول إلا وقد أخطأ في الفتيا، وقال في الدين برأيه، فأحلَّ الحرام وحرَّم الحلال، مثل أبي بكر. وهذا خطأ؛ فالرأي ليس ضلالًا، بل اجتهاد لتحقيق الصلاح (الانتصار، ص٩٨-٩٩). دفاع الخياط عن معتزلة بغداد واتهام ابن الراوندي أنهم يتوقَّفون في أمر الحسين، أو تفسق عبد الله بن جعفر لأخذه أموال معاوية ويزيد وإنفاقها في الصلاح (الانتصار، ص١٠١-١٠٢). رواية كاذبة. دفاع الخياط عن تهمة ابن الراوندي بطعن المعتزلة على الصحابة وتكفيرهم إياهم (الانتصار، ص١٠٤). التكفير للصحابة من الشيعة وليس من المعتزلة (الانتصار، ص١٣٧–١٣٩). قول المرجئة وأهل السنة والمعتزلة واحد من قضية الصحابة، الولاية لهم، إنما الخلاف في التفضيل. ولكن المعتزلة تُخالف من تولِّي النابتة الفئة الباغية من أهل الشام (الانتصار، ص١٣٩). اتهام ابن الراوندي للجاحظ أنه يتولى الخوارج ويطعن على السلف ودفاع الخياط (الانتصار، ص١٣٣–١٤٣). دفاع الخياط عن أهل السنة ضد اتهامهم بالطعن على أصحاب النبي وسلِّهم السيف على أهل قول لا إله إلا الله (الانتصار، ص١٦١).
٢٢  إن خُضْت فيجب التأويل، والشخص ليس مأمورًا بالخوض فيه، فإنه ليس من العقائد الدينية ولا من القواعد الكلامية، وليس ما ينتفع به في الدين، بل ربما ضر في الدين؛ فلا يُباح الخوض فيه إلا للرد على المُتعصبين، أو للتعليم كتدريس الكتب التي تشتمل على الآثار المتعلقة بذلك. وأما العوام فلا يجوز لهم الخوض فيه لشدة جهلهم وعدم معرفتهم بالتأويل … (البيجوري، ج٢، ص٥٠-٥١؛ عبد السلام، ص١٢٧؛ الوسيلة، ص٧٠-٧١؛ المطيعي، ص٧٠-٧١).
٢٣  التفضيل تارةً باعتبار الأفراد مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وتارةً باعتبار الأصناف مثل تفضيل الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقية من العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان. وربما دخل بعضها في بعض؛ فقد يكون سابقًا خليفة بدريًّا أحديًّا رضوانيًّا كالمشايخ الأربعة، وعثمان بدري أحدي لا حضورًا (البيجوري، ج٢، ص٥٠؛ عبد السلام، ص١٢٦). الأربعة أفضل من العشرة، والعشرة أفضل ممن عداهم من أهل عصرهم، وإن أهل ذلك العصر أفضل ممن بعدهم، وكذلك من بعدهم أفضل ممن يليهم (الغاية، ص٣٩١). وبعدهم الستة الباقون إلى تمام العشرة: طلحة، الزبير، سعد، سعيد بن زيد بن عمر بن ثقيل، عبد الرحمن بن عوف، أبو عبيدة. ثم البدريون، ثم أصحاب أُحد، ثم أصحاب بيعة الرضوان بالحديبية. تفاوت بعضهم على بعض في الأفضلية، ولا نقول به لعدم التوفيق. المبشرون بالجنة، أكثر منهم الحسن والحسين وفاطمة (البيجوري، ج٢، ص٤٦). وعند أبي موسى الأشعري، الأفضل الذين صلَّوا إلى القبلتين، وهو الأصح والأكثر. وعند محمد بن كعب القرشي، جماعة من أهل بدر. عند الشعبي، أهل بيعة الرضوان. خير الأمة أصحاب رسول الله، أفضل الصحابة العشرة، ومنهم الخلفاء الراشدون (الإنصاف، ص٩٧–٩٩). وقد قيل في العقائد المتأخرة شعرًا:
تليهم قومٌ كرام بررة
عدتهم ستٌّ تمام العشرة
الجوهرة، ج٢، ص٤٦
والسابقون فضلهم نصًّا عُرِف
هذا وفي يقينهم قد اختُلف
الجوهرة، ج٢، ص٥٠
فالأفضل الصِّديق فالفاروق
يليه عثمان علي مسبوق
فأُحد فبيعة الرضوان
فالسابقون فوز والإحسان
وبعدهم ستٌّ تساوَوا فضلا
فأهل بدر بعدنا حفظ نُقلا
الوسيلة، ص٧٣؛ المطيعي، ص٧٣-٧٤
فأهل بدر العظيم الشان
فأهل أحد فبيعة الرضوان
الجوهرة، ج٢، ص٤٧–٤٩
٢٤  كان أهل بدر من الإنس، وقيل ربما من الجن، ٣٠٠٠ من الملائكة. والملائكة الذين شهدوا بدرًا أفضل (عبد السلام، ص١٢١–١٢٦). «أنزل عليهم النعاس أمَنةً ومطرًا، ذهبوا به إلى الجبانة، ثبت لهم رمل الأرض، يشير بيده هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان إن شاء الله، فما تعدَّى أحد منهم موضع إشارته.» «ألقى الله في قلوبهم الرعب.» كان الرسول في مقام الخوف، وأبو بكر في مقام الرجاء، حضرة تسعى حضرة، أخذ من الحصى كفًّا فرمى بها المشركين فأصاب أعينهم فانهزموا. أخذ عرجونًا وقال: قاتلْ بهذا يا عكاشة. فهزَّه فانقلب سيفًا جيِّدًا، وضُرب خبيب بن عدي فمال شِقه، فتفل فيه الرسول وردَّه فالْتأم، وسالت عين قتادة فردَّها، وكذلك عين فاتحة أنباؤه مما أخفاه الناس. الملك الواحد يقلع الأرض، لكنه أريد إبقاء المزيَّة لقتال المسلمين ظاهرًا، فتمثَّلوا برجالٍ بيض على خيلٍ بلقٍ عمائهم بيض قد أرخوها على ظهورهم، وقيل سود، وقيل صفر، وقيل حمر، وقيل خضر، فكأنهم أنواع، سيماهم الصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها. وجاء جبريل بعد القتال على فرس أحمر وعليه درعه ومعه رمحه. رمى عتبة بن أبي وقاص بحجرٍ كسر رباعيته، فلم يولد من نسله إلا أهتم أبجر. ودخلت في وجنته حلقتان أخرجهما أبو عبيدة بأسنانه فسقطت ثنيَّتاه، فكان أحسن الناس هتمًا (الأمير، ص١٢١–١٢٦). في بيان الأفضل من الصحابة، أصحابنا مُجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة، ثم الباقون بعدهم إلى تمام العشرة (الأصول، ص٣٠٤).
٢٥  عند داود الفقيه، أصحاب الرسل وأفضلهم الأولون الأنصار، ثم من بعدهم دون أن نقطع على إنسان منهم بعينه أنه أفضل من آخر من طبقته (الفصل، ج٤، ص١٢٨). وأجمع أهل السنة على إيمان المهاجرين والأنصار من الصحابة خلاف من قال من الرافضة إنها كفرت بترك بيعة علي، وقول الكاملية بتكفير علي بتركه قتالهم (الفرق، ص٣٥٩). في معرفة مراتب الصحابة. الصحابة على مراتب: (١) أعلاهم رتبةً السابقون منهم إلى الإسلام. وأول من سبق منهم من الرجال أبو بكر، ومن أهل البيت علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن الحبشة بلال، ومن الفُرس سلمان. واختلفوا في علي وأبي بكر، فأكثر أصحاب التواريخ على أن عليًّا أسلم قبل أبي بكر، وإنما اختلفوا في سنه وبلوغه عند إسلامه. أول من أسلم من تميم واقد، وهو أول مسلم قتل كافرًا في دولة الإسلام. قال محمد بن إسحاق: أول ذكر آمن بالرسول علي ثم زيد ثم أبو بكر، ثم أسلم على يد أبي بكر عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، ثم دخلت الناس أرسالًا في الإسلام. وإن أول من أسلمت من النساء خديجة قبل علي وأبي بكر، ثم عاتكة بنت الخطاب وأسماء بنت أبي بكر وعائشة وأسماء بنت عميس. (٢) الذين أسلموا عند إسلام عمر عندما حمل الرسول إلى دار الندوة، وهم أصحاب دار الندوة. (٣) أصحاب الهجرة الأولى للحبشة، عثمان مع امرأته رقية، وأبو حذيفة والزبير وحمزة، وجعفر مع امرأته أسماء وولدت عبد الله، ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف هربا من المشركين، ووُلد لهم ٨٢ رجلًا. (٤) أصحاب العقبة الأولى، بايعه جماعة يُقال فيهم فلانٌ عقبي، ١٢ رجلًا من الأنصار، وبعث الرسول لهم مصعبًا ليُصلي بالمدينة ويقرأ القرآن. (٥) أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار، ٧٠ رجلًا ومعهم امرأتان، ذهب إليه الرسول وهو مع عمه العباس على دين قومه، وأخذ عليهم الميثاق. (٦) المهاجرون مع الرسول إلى المدينة ومن أدركهم بقباء قبل الدخول. (٧) المهاجرون بين دخول الرسول المدينة وبين بدر. (٨) البدريون، ٣١٣ رجلًا كعدد الرسل من الأنبياء، وكعدد من ثبت مع جالوت في حربه، وقد ورد فيهم: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.» (٩) المهاجرون بين الخندق والحديبية. (١٢) أصحاب بيعة الرضوان بالحديبية عند الشجرة. (١٣) المهاجرون بين الحديبية وبين فتح مكة، منهم أبو هريرة وخالد وعمرو وطلحة والعباس: «يا عم، خُتمت بك الهجرة كما فُتحت لي النبوة.» (١٤) الذين أسلموا يوم فتح مكة، ومنهم أبو سيفان. (١٥) الذين دخلوا في دين الله أفواجًا. (١٦) صِبيان أدركوا الرسول، الحسن أو الحسين وعبد الله بن الزبير، ولهم رواياتٌ قليلة. (١٧) صِبيان حُملوا إليه عام حجة الوداع، محمد بن أبي بكر، وقوم رأوا الرسول فحسب، والمخضرمون الذين لم يروا الرسول (الأصول، ص٢٩٨–٣٠٣).
٢٦  وذلك مثل الحسن الذي بايع معاوية، والحسين الشهيد الذي قتله يزيد.
٢٧  مما يجب اعتقاده أن الصحابة أفضل القرون، ثم التابعون لهم، ثم أتباع التابعين (الكفاية، ص٧١-٧٢؛ البيجوري، ص١٤؛ الجوهرة، ص١٢). رتبة التابعين تلي رتبة الصحابة. التابعي من اجتمع بالصحابي دون اشتراط طول الاجتماع كما في الصحابي مع النبي. رتبة أتباع التابعين تلي رتبة التابعين من غير تراخٍ كبير. وسُمي القرن قرنًا لأنه يقرن أمة بأمة وعالمًا بعالم، ثم جُعل اسمًا للوقت أو لأهله. قرن الرسول: ١–١٢٠ سنة، وقرن التابعين: ١٠٠–١٢٠ سنة، وأتباع التابعين: من ١٧٠–٢٢٠ سنة (عبد السلام، ص١٢٠). وأصحابه أفضل القرون المتأخرة والمتقدمة ما عدا الأنبياء والرسل. ترجيح رتبة من لازمه وقاتل معه، مما يجب اعتقاده أن أصحابه أفضل القرون ثم التابعون لهم ثم أتباع التابعين (الكفاية، ص٧١-٧٢). مما يجب اعتقاده أيضًا أن قرنه أفضل القرون، ثم القرن الذي بعده، ثم القرن الذي بعده (البيجوري، ص١٤). «خير القرون قرني …» (الإنصاف، ص٦٦-٦٧؛ الإمامة، ص٣٢٢–٣٢٧). وقد قيل شعرًا:
وصحبه خير القرون فاستمع
فتابعي فتابع لمن اتبع
الوسيلة، ص٧٣؛ المطيعي، ص٧٣-٧٤
يليهم بقية الصحابة
وبعدهم تابعون في الهداية
فتابعهم بعد يا فطين
فهذه الثلاثة قرون
الجوهرة، ج٢، ص٤٤-٤٥
٢٨  أفضل التابعين أولو القربى، وأفضل التابعيات حفصة بنت سيرين (البيجوري، ص٤٥). في بيان مراتب التابعين. وفائدة هذه المسألة أن من لم يعرف مراتب التابعين ربما التبس عليه أمر بعضهم فظنَّه صحابيًّا، جعل مرسله مسندًا، وربما ظنَّه من أتباع التابعين فبخس حظه. وهم على خمس عشرة طبقة، أعلاهم طبقة من أدرك العشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة أو أدرك أكثرهم … وآخرهم في الطبقة من لقي أنس بن مالك من أهل البصرة، أو عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة، أو السائب بن يزيد من أهل المدينة، أو عبد الله بن الحارث من أهل الحجاز، أو أبا أمامة الباهلي من أهل الشام. ومن المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يُرزَقوا لقاء النبي … وقد عد في التابعين قومٌ وُلدوا في زمان النبي ولم يسمعوا عنه … وطبقة بعدهم قوم التابعين، ولم يصح سماع أحد منهم عن أحد من الصحابة … وطبقة بعدهم قوم من أتباع التابعين وقد لقوا بعض الصحابة … (الأصول، ص٣٠٤–٣٠٦).
٢٩  مدة الخلافة ثلاثون سنة، يكون الزمان بعدها خاليًا من الإمام بعد الخلفاء الراشدين، فتفقد الأمة، وتموت ميتةً جاهلية (التفتازاني، ص١٤٣). عند أهل السنة والاستقامة كان أبو بكر بعد النبي ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأن الخلافة بعد النبوة ثلاثون سنة (مقالات، ج٢، ص١٢٨-١٢٩). الخلافة وهي النيابة عن الرسول في عموم مصالح المسلمين من إقامة الدين وصيانة المسلمين، القدرة مدتها «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، وهذا صريحٌ أن الأئمة الأربعة أفضل من الصاحبة؛ لأن هذه المدة كانت دور ولايتهم. إلى هذا التفضيل ذهب الجمهور (عبد السلام، ص١٢٠). الخلافة ثلاثون سنة ثم بعدُ ملك وإمارة (النسفية، ص١٤٢). الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك. خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ثلاثون سنة (الإبانة، ٦٩). أفضل الصحابة النفر الذي ولي الخلافة العظمى، وهي النيابة عن النبي في عموم مصالح المسلمين، وقدرها ثلاثون سنة «الخلافة بعدي …»؛ لأن الملوك يضرُّون بالرعية (البيجوري، ج٢، ص٢٥–٤٦). وقد قيل شعرًا في العقائد المتأخرة:
وخيرهم من ولي الخلافة
وأمرهم في الفضل كالخلافة
الجوهرة، ج٢، ص٤٥-٤٦
٣٠  الخلفاء الأربعة: أبو بكر سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام، وعمر عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وعثمان إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا وتسعة أيام، وعلي أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام. فيكون المجموعة تسعًا وعشرين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام. فلم تكتمل المدة إلا بأيام الحسن بن علي؛ ولهذا قال معاوية: أنا أول الملوك (البيجوري، ج٢، ص٤٥-٤٦). الأول الذي بايع إمام البغي الحسن بن علي، والثاني الذي أرجع سيرة الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز. وهذا مُشكِل؛ لأن أهل الحل والعقد من الأمة كانوا مُتفقين على خلافة الخلفاء العباسيين وبعض المروانية كعمر بن عبد العزيز. ولعل المراد أن الخلافة الكاملة التي لا يشوبها شيء من المخالفة وميل عن المتابعة تكون ثلاثين سنة. وبعدها قد يكون وقد لا يكون (التفتازاني، ص١٤٢). إن حصر الخلافة الكاملة في ثلاثين لا يقتضي أن يكون بعدها ملك وإمارة، بل خلافة غير كاملة؛ فالأظهر أن حكم أهل الحل والعقد بالخلافة مسامحة لشبه الملك بالخلافة لقربه منها، وضبط أمر المعاش ضبطًا شبيهًا بزمان الخلافة (الإسفراييني، ص١٤٢).
٣١  ما بعد القرون الثلاثة سواء في الفضيلة. ذهب آخرون إلى تفاوت بقية القرن بالسبقية، فكل قرن أفضل من الذي بعده إلى يوم القيامة، القرون المتأخرة وأكثرهم ثوابًا (البيجوري، ص٤٥). وقد قيل في هذا المعنى أيضًا شعرًا:
هذا وقومٌ فضَّلوا وفاضلوا
وبعضه كل بعضه قد يفضل
الجوهرة، ص١٢
٣٢  في بيان أحكام العلماء والأئمة (الأصول، ص٢٩٤–٣١٧). وقد قيل شعرًا:
مالك وسائر الأئمة
كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حرمتهم
كذا حكى القوم بلفظ فيهم
الجوهرة، ج٢، ص٥١–٥٣
فمن هو أبو القاسم؟ قيل عالم قبل الشافعي، ابن عباد، أبو حنيفة (علماء فارس)، وبعد الأئمة الأربعة مالك، الشافعي، أبو حنيفة، ابن حنبل، الليث، داود، سفيان الثوري، إسحاق بن راهويه، الطبري، سفيان بن عيينة، الأوزاعي، الأشعري، الماتريدي، الجُنيد سيد الصوفية، وكان على مذهب أبي نور صاحب الشافعي. مالك من هذه الأمة في الفروع، والأشعري في الأصول، والجنيد في التصوف. ومن لم يستطع الاجتهاد عليه التقليد. هل يجوز تقليد واحد بعينه؟ (البيجوري، ج٢، ص٥١–٥٣؛ عبد السلام، ص١٢٧-١٢٨).
٣٣  يذكر البغدادي أئمة الدين في علم الكلام وأئمة الفقه من أهل السنة والجماعة وأئمة الحديث والإسناد، وأئمة التصوف والإشارة، وأئمة النحو واللغة، ولا يذكر إلا ترتيب أهل السنة (الأصول، ص٣٠٩–٣١٧).
٣٤  في ترتيب أئمة الدين في علم الكلام. أول مُتكلمي أهل السنة من الصحابة علي لمناظرته الخوارج في مسائل الوعد والوعيد، ومناظرته القدرية في القدر والقضاء والمشيئة والاستطاعة، ثم عبد الله بن عمر في كلامه على القدرية وبراءته منهم ومن زعيمهم المعروف بمعبد الجهني. وادَّعت القدرية أن عليًّا كان منهم، وزعموا أن زعيمهم واصل بن عطاء الغزال أخذ مذهبه من محمد وعبد الله بن علي. وهذا من بهتهم. ومن العجائب أن يكون ابنا علي قد علَّما واصلًا رد شهادة علي وطلحة، والشك في عدالة علي، افتراءً، وهما علَّماه إبطال شفاعة علي وشفاعة صهر المصطفى. وأول مُتكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز، وله رسالةٌ بليغة في الرد على القدرية؛ ثم زيد بن علي، وله كتاب في الرد على القدرية من القرآن؛ ثم الحسن البصري، وقد ادَّعته القدرية، فكيف يصحُّ لها هذا مع رسالته إلى عمر بن عبد العزيز في ذم القدرية، ومع طرده واصلًا عن مجلسه عند إظهار بدعته؟ ثم الشعبي، وكان أشد على القدرية؛ ثم الزهري، وهو الذي أفتى عبد الملك بن مروان بدماء القدرية. ومن بعد هذه الطبقة جعفر بن محمد الصادق، وله كتاب في الرد على القدرية، وكتاب في الرد على الخوارج، ورسالة في الرد على الغلاة من الروافض، وهو الذي قال: أرادت المعتزلة أن توحِّد ربَّها فألحدت، وأرادت التعديل فنسبت البخل إلى ربها. وأول مُتكلميهم من الفقهاء وأرباب المذاهب أبو حنيفة والشافعي؛ فإن أبا حنيفة له كتاب في الرد على القدرية سمَّاه كتاب «الفقه الأكبر»، وله رسالةٌ أملاها في نصرة قول أهل السنة إن الاستطاعة مع الفعل، ولكنه قال إنها تصلح للضدين، وعلى هذا قوم من أصحابنا، وقال صاحبه أبو يوسف في المعتزلة إنهم زنادقة. وللشافعي كتابان في اللام؛ أحدهما في تصحيح النبوة والرد على البراهمة، والثاني في الرد على أهل الأهواء. وذكر طرفًا من هذا النوع في كتاب القياس، وأشار فيه إلى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وأهل الأهواء. فأما المريسي من أصحاب أبي حنيفة فإنما وافق المعتزلة في خلق القرآن، وأكفرهم في خلق الأفعال. ثم من بعد الشافعي تلامذته الجامعون بين علم الفقه والكلام كالحارث بن أسد المحاسبي وأبي علي الكرابيسي وحرملة البويطي وداود الأصبهاني. وعلى كتاب المريسي في المقالات مِعول المتكلمين في معرفة مذاهب الخوارج وسائر أهل الأهواء، وعلى كتبه في الشروط وفي عِلل الحديث والجرح والتعديل مِعول الفقهاء وحُفاظ الحديث، وعلى كتب الحارث بن أسد في الكلام والفقه والحديث مِعول مُتكلمي أصحابنا وفقهائهم وصوفيتهم. ولداود صاحب الظاهر كتبٌ كثيرة في أصول الدين مع كثرة كتبه في الفقه (ابنه أبو بكر جامع بين الفقه والكلام والأصول والأدب والشعر). وكان أبو العباس بن شريح أنزع الجماعة في هذه العلوم، وله نقض كتاب الجاروف على القائلين بتكافؤ الأدلة، وهو أشبع من نقض ابن الراوندي عليهم. فأما تصانيفه في الفقه فالله يُحصيها. ومن مُتكلمي أهل السنة أيام المأمون عبد الله بن سعيد التميمي الذي دمَّر على المعتزلة في مجلس المأمون، وفضحهم ببيانه، وآثار بيانه في كتبه، وهو أخو يحيى بن سعيد القطَّان وارث علم الحديث وصاحب الجرح والتعديل. ومن تلاميذه عبد الله بن سعيد بن عبد العزيز المكي الكتاني، الذي فضح المعتزلة في مجلس المأمون، وتلميذه الحسين بن الفضل العجلي صاحب الكلام والأصول، وصاحب التفسير والتأويل، وعلى نكته في القرآن مِعول المفسرين، وهو الذي استصحبه عبد الله بن طاهر والي خراسان، ومن تلاميذه عبد الله بن سعيد أيضًا الجنيد شيخ الصوفية وإمام المُوحدين، وله في التوحيد رسالة على شرط المتكلمين وعبارة الصوفية؛ ثم بعدهم شيخ النظر وإمام الآفاق في الجدل والتحقيق أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، الذي صار شجًى في حلق القدرية والتجارية والجهمية والجسمية والروافض والخوارج، وقد ملأت الدنيا كتبه، وما رُزق أحد من المتكلمين من التبع ما قد رُزق؛ لأن جميع أهل الحديث وكل منهم لم يتمعزل من أهل الرأي على مذهبه. ومن تلامذته المشهورين أبو الحسن الباهلي، وأبو عبد الله بن مجاهد، أثمرا تلامذةً هم إلى اليوم شموس الزمان وأئمة العصر، كأبي بكر محمد بن الطيب قاضي قضاة العراق والجزيرة وفارس وكرمان وسائر حدود هذه النواحي، وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك، وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد المهراني … وقبلهم أبو الحسن بن مهدي الطبري صاحب الفقه والكلام والأصول والأدب والنحو الحديث. ومن آثاره تلميذٌ مثل أبي عبد الله الحسين بن محمد البزازي، صاحب الجدل والتصانيف في كل باب من الكلام. وقبل هذه الطبقة شيخ العلوم على الخصوص والعموم أبو علي الثقفي، وفي زمانه كان إمام أهل السنة أبو العباس القلانسي الذي زادت تصانيفه في علم الكلام على مائة وخمسين كتابًا. وتصانيف الثقفي ونقوضه على أهل الأهواء زائدة على مائة كتاب، وقد أدركنا منهم في عصرنا أبا عبد الله بن مجاهد ومحمد بن الطيب قاضي القضاة ومحمد بن الحسين بن فورك وإبراهيم بن محمد المهراني والحسين بن محمد البزازي، وعلى مِنوال هؤلاء الذين ذكرناهم شيخنا، وهو لإحياء الحق كَل، وعلى أعدائه غل (الأصول، ص٣٠٧–٣١٠).
٣٥  في ترتيب أئمة الفقه من أهل السنة والجماعة. نص فقهاء الصحابة على مذهب أهل السنة والجماعة والعشرة الذين شهد لهم النبي بالجنة كانوا فقهاء. وأربعة من الصحابة تكلَّموا في جميع أبواب الفقه، وهم علي وزيد وابن عباس وابن مسعود، وهؤلاء الأربعة متى أجمعوا في مسألة على قول فالأمة فيها مُجمعة على قولهم غير مبتدع، لا يُعتبر خلافه في الفقه، وكل مسألة اختلف فيها هؤلاء الأربعة فالأمة فيها مختلفة. وكل مسألة انفرد فيها علي بقول عن سائر الصحابة تبعه فيها ابن أبي ليلى والشعبي وعبيدة السلماني. وكل مسألة انفرد فيها زيد بقولٍ اتبعه مالك والشافعي في أكثر، وتبعه خارجة بن زيد لا محالة. وكل مسألة انفرد فيها ابن عباس بقولٍ تبعه فيها عكرمة وطاوس، سعيد بن جبير. وكل مسألة انفرد فيها ابن مسعود بقولٍ تبعه فيها علقمة والأسود وأبو ثور، ثم من بعض الصحابة الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهم … وقد قال مالكٌ قول هؤلاء السبعة إجماعًا إذا اجتمعوا على قولٍ واحد. ومن بعدهم أئمة الأئمة في الفقه، مثل الأوزاعي ومالك والثور والشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود صاحب الظاهر، وتلامذة هؤلاء في الفقه على سمت الحديث. فأما الذين وافقوا في أصول الكلام وخالفوهم في فروع الأحكام، فأبو حنيفة وابن أبي ليلى ومن في طبقتهما من أهل الرأي. وأصل أبي حنيفة في الكلام كأصول أصحاب الحديث إلا في مسألتين؛ أحدهما أنه قال في الإيمان إنه إقرار ومعرفة، والثانية قوله بأن لله ماهيةً لا يعرفها إلا هو كما ذهب إليه ضرار. وقد دمَّر أبو حنيفة في كتابه الذي سمَّاه «الفقه الأكبر» على المعتزلة، ونصر فيه قولة أهل السنة في خلق الأفعال، وفي أن الاستطاعة مع الفعل إلا أنه يصلح للضدين. وهذا قول أصحابنا. وقال أبو يوسف في المعتزلة إنهم زنادقة. وقال محمد بن الحسن مَن صلَّى خلف القدري القائل بخلق القرآن يُعيد صلاته. ورد مالك شهادة أهل الأهواء كلهم. وقد أشار الشافعي إلى ذلك في كتاب القياس (الأصول، ص٣١١-٣١٢).
٣٦  في ترتيب أئمة الحديث والإسناد. هؤلاء على طبقات؛ فطبقة التابعين منهم أربعة، وهم … وعُدَّ فيهم … وكان قد أدرك أنس … والفقهاء السبعة من التابعين في هذه الجملة؛ فإنهم كانوا مع فقههم أئمة في الحديث، ومن طبقة أتباع التابعين منهم … وفي الطبقة التي بعدهم الشافعي وابن حنبل … وهؤلاء أئمة الجرح والتعديل. وقد ذكر الشافعي أهل هذا العلم في كتاب «الرسالة»، وصنَّفه لعبد الرحمن المهدي. وعلي بن المدين هو الذي أكثر تصانيفه في هذا الباب؛ فمنها كتاب الأسامي والكُنى، كتاب الضعفاء، كتاب المُدلسين، كتاب الطبقات، كتاب عِلل المسند، كتاب الوهم والخطأ، كتاب قبائل العرب، كتاب التاريخ، كتاب الثقات، كتاب اختلاف الحديث، كتاب الأسامي الشاذة، كتاب تفسير غريب الحديث، كتاب مذاهب المحدِّثين. وعلى كتب يحيى معول أهل الحديث في الجرح والتعديل، وإسحاق بن راهويه أملى مسنده الكبير … البخاري أصحاب المسند والتاريخ وكتاب الضعفاء … مسلم صاحب المسند والكتب العشرة والطبقات والأقران والعلل والأسماء والكنى والتواريخ. المروزي صاحب اختلاف العلماء … محمد بن إسحاق بن خزيمة مع ما كان فيه من مكابدة المتكلمين، ثم رجع إلى موافقة منه لهم … وكل من ذكرناهم وخبرناهم مُكفرين من أهل القدر وسائر الأهواء والبدع (الأصول، ص٣١٢–٣١٥).
٣٧  في ترتيب أئمة التصوف والإشارة … المستحيل في كتاب تاريخ الصوفية للسلمي على زهاء ألف شيخ من الصوفية ما فيهم أحد من أهل الأهواء، بل كلهم من أهل السنة إلا ثلاثة: (أ) أبو حلمان الدمشقي، فإنه تستَّر بالصوفية أو كان من الحلولية. (ب) الحلَّاج، وشأنه مُشكِل، وقد رضيه ابن عطاء وابن خنيق وابن القاسم النصراباذي. (ﺟ) القناد، اتَّهمته الصوفية بالاعتزال فطردوه؛ لأن الطيب لا يقبل الخبيث (الأصول، ص٣١٥-٣١٦).
٣٨  ترتيب أئمة النحو واللغة من أهل السنة. هؤلاء فريقان في المذهب؛ بصرية وكوفية، والكوفية منهم … وكلهم من أهل السنة، ولإبراهيم الحرثي كتب في الرد على القدرية وأهل الأهواء، وللفراء كتاب في ذم القدرية. والبصريون منهم أولهم أبو السود الدؤلي، وله رسالة في ذم القدرية، مع انتسابه إلى الشيعة. وبعده يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر الثقفي وعبد الله الحضرمي، وكانا يذمَّان القدرية، وذمَّا في شكه في شهادة علي وطلحة. ولأبي عمرو ابن العلاء كلامٌ كثير في ذم القدرية وذم عمرو بن عبيد، وبعدها الأصمعي، وهو الذي طرد الجاحظ عن مجلسه، وقنَّعه بنعله، وقال: نِعم قناع القدري النعل … والزجَّاج سننه ومعانيه في القرآن أعلى مذهب أهل السنة … كان على مذهب الشافعي، والسجستاني شيخ أهل السنة شديد على القدرية. وإنما نُسب المبرد إلى الاعتزال لمجالسته الجاحظ، وليس في كتبه شيء يدل على الاعتزال. وفي هذا دليل على أن جميع أئمة الدين في جميع العلوم من أهل السنة (الأصول، ص٣١٦-٣١٧).
٣٩  في تحقيق أهل السنة لأهل الثغور. بيان هذا واضح من ثغور الروم والجزيرة وثغور الشام وثغور أذربيجان وباب الأبواب كلهم على مذهب أهل الحديث من أهل السنة، وكذلك ثغور إفريقية والأندلس، وكل ثغر وراء بحر المغرب أصله أصحاب الحديث، وكذلك ثغور اليمن على ساحل الزنج. وأما ثغور أهل ما وراء النهر في وجوه الترك والصين فهم فريقان؛ إما شافعية وإما من أصحاب أبي حنيفة، وكلهم يلعنون القدرية وأهل الأهواء. وقد قال الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، والجهاد بالحجة والاستدلال من أهل السنة ظاهر على مُخالفيهم من أهل الأهواء والجهاد مع الكفرة في الثغور منهم، وليس لأهل الأهواء كفر، فصحَّ أن أهل السنة هم المهتدون (الأصول، ص٣١٧).
٤٠  ولا خلاف في أن أمة محمد أفضل الأمم (الفصل، ج٤، ص١٢٨-١٢٩).
٤١  انظر بحثنا: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟ لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟ دراسات إسلامية، ص٣٩٣–٤٥٦.
٤٢  استولى المختار على أموال أهل الكوفة وعبيدهم، فثاروا عليه (الفرق، ص٥٠). من مخاريف المختار أنه كان عنده كرسي قديم قد غشَّاه بالديباج، وزيَّنه بأنواع الزينة، وقال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي، وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل. فكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف ويقول قائل: لكم الظفرة والزهرة، وهذا الكرسي محله فيكم محل التابوت في بني إسرائيل، ومنه السكينة والبقية والملائكة من خلفكم يُنازلون عدوًّا لكم. وحديث الحمامات البيض التي ظهرت في الهواء، وقد أخبرهم قبل ذلك أن الملائكة تنزل على صورة الحمامات البيض. وواضحٌ أثر البيئة الدينية المُجاورة والرصيد الحضاري اليهودي المسيحي في إعطاء النماذج (المِلل، ج٢، ص٧٢-٧٣).
٤٣  هذا هو موضوع الجزء الثالث «من الفناء إلى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف».
٤٤  انظر تحليلنا لذلك في «الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١»، الجزء الخامس «الحركات الإسلامية المعاصرة»، دار ثابت، القاهرة، ١٩٨٨م.
٤٥  هذا وصف لنشر الدعوة الإسلامية في الجيل الأول في عصر التوحيد، وتحوُّله إلى جماعة وتنظيم الجماعة بقدر ما هو وصف لأحوال العصر، عصر حركات التحرر.
٤٦  ورد لفظ «حزب» في أصل الوحي عشرين مرة في أربع صيغ مختلفة: (أ) صيغة الفرد «حزب» سبع مرات. (ب) مضافة إلى ضمير الغائب «حزبه» مرةً واحدة. (ﺟ) مثنًّى مجرد «حزبين» مرةً واحدة. (د) جمع «الأحزاب» إحدى عشرة مرة.
٤٧  فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ (١٩ : ٣٧)، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٤٣ : ٦٥)، وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ (١٣ : ٣٦)، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ (٤٠ : ٥)، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (٣٨ : ١٣)، جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (٣٨ : ١١)، يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا (٢٣ : ٢٠)، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ (١١ : ١٧)، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ (٣٣ : ٢٠)، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ (٢٣ : ٢٢)، وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٤٠ : ٣٠).
٤٨  فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٢٣ : ٥٣)، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٠ : ٣٢).
٤٩  ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٨ : ١٢).
٥٠  وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥ : ٥٦)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ (٥٨ : ٢٢)، أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥٨ : ٢٢)، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ (٥٨ : ١٩)، أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٥٨ : ١٩)، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (٣٥ : ٦).
٥١  يمثل الخوارج والروافض جناحَي الثورة، كلٌّ منهما على طريقته؛ فبينما الخوارج تُمثل الثورة العلنية في الخارج، فإن الروافض تُمثل الثورة السرية في الداخل؛ في حين تُمثل المعتزلة الثورة العلنية في الداخل؛ لذلك كانت الأخطر، والتي أدَّت إلى آثارٍ حضارية أبقى من الآثار السياسية. ولولا انقسام الثورة لما دام الحكم الأموي؛ فمن خرج من الروافض ضد الحكم الأموي مع من خرج من الخوارج ضد علي كان يمكن أن يُسهل القضاء على الحكم الأموي. انظر خروج الأئمة على الأمويين (مقالات، ج١، ص١٤١–١٥٥)، وخروج الخوارج على علي (مقالات، ج١، ص١٩٢–١٩٦). وقد خرج الضدان الرافضة والخوارج على الحكم الأموي ولم يُقدَّر لهما النجاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤