رابعًا: من الوحدة إلى التفرق أو من التفرق إلى الوحدة

إذا كان تاريخ الفِرق قد دخل كمُلحَق للإمامة وتذييل لها في بعض مصنَّفات العقائد، فإنه هو الموضوع الرئيسي في معظم مقدمات مصنَّفات الفِرق.١ تبدأ المقدمات ببيان أوجه الخلاف وكيفية وقوعه، وكيف تحوَّلت الوحدة الأولى إلى كثرة، وكيف تشعَّبت الأمة إلى فِرق، وكيف تحوَّلت موضوعية الدين والعقائد إلى ذاتية الأهواء والمصالح، وكأن علم الكلام الغرض منه هو إعادة الرتق والعودة من التفرق إلى الوحدة، ومن الهوى إلى العقل، ومن المصلحة إلى الفكر، ومن الذاتية إلى الموضوعية.٢
والوحدة الأولى هي وحدة الجماعة التي وحَّدها الوحي لأول مرة؛ فهي إذن ليست فقط وحدة الفكر، بل وحدة الأمة، ووحدة الأمة في وحدة فكرها وهو الوحي. ولما كان الفكر ما هو إلا عملٌ قبل أن يتحقق تعني وحدة الأمة وحدة الفكر والعمل على السواء.٣ ولا يكفي أن تؤمن الأمة بإحدى مراحل الوحي، نبوة بعينها، بل بالوحي الشامل في كافة مراحله حتى ختم النبوة وتحقيقها في التاريخ. ولا تكون وحدة الأمة في وحدة العمل الرمزي الممثَّل في ممارسة الطقوس والشعائر؛ لأن العمل أوسع من ذلك بكثير، عملٌ مباشر، فكرٌ يتحقَّق.٤ وحدة العمل الرمزي تعبير عن وحدة الفكر والعمل في الواقع العريض، وليس العمل المُتقوقع على ذاته المُنفصل عن الواقع. كما أن وحدة الفكر ليست وحدة العقائد المُنفصلة عن الواقع، بل هي وحدة المقاصد والغايات التي تتحقق في الواقع كأنظمةٍ مثالية تُعبر عن طبيعته وكماله.٥
والتفرق ليس هو الخلاف حول المسائل العملية، بل هو التفرق في المسائل النظرية. المسائل العملية الخالصة أدخل في علم الفقه وفي علم أصول الفقه منها في علم أصول الدين. قد تُثير بعض المسائل العملية إشكالات نظرية، وتكون بداية لاتجاهٍ كلامي، كما هو الحال في موضوع الإمامة، والتي أصبحت عنوانًا لفرقة بأكملها، ومثل موضوعات الإيمان والعمل والكفر والطاعة والمعصية، والتي كانت مسائل عملية برزت في الفتنة لتحديد سلوك الناس، ثم نشأت حولها فِرق بأكملها.٦ والفِرق الفقهية التي تدور خلافاتها حول المسائل العملية لا تدخل تحت أية فكرة موجَّهة، سواءٌ تلك التي تُشير إيجابًا أم سلبًا إلى الفِرق أو إلى أحدها بالنجاة أو الهلاك. ففي المسائل العملية كل الحلول صوابٌ ما دام يُبذَل فيها الجهد، أو يكون أحدها صوابًا والآخر خطأً دون تعيين. وإذا عُيِّن الخطأ فلا يعني ذلك الضلال، ويكون الصواب هو النجاة، بل يعني الاجتهاد في كلتا الحالتين، ويظل الأمر ظنيًّا نظريًّا وإن كان يقينيًّا عمليًّا. وقد يتغير ذلك من فرد إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان. فالمسائل العملية قائمة على تعدُّد الحقائق على المستوى النظري. ولا فرق بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه في الجمع بين الفِرق أو المدارس المختلفة. صحيحٌ أن التفرق في أصول الدين أخطر منه في أصول الفقه؛ لأنه تفرقٌ على الأصول النظرية، إلا أن التفرق في أصول الفقه يدل على تفرُّد الواقع وعلى تكيُّف فهم الوحي حسب الزمان والمكان. لا يوجد صوابٌ نظري واحد في علم أصول الفقه، فالكلُّ مُصيب.٧ وقد يرجع التفرق على الأصول النظرية أيضًا إلى مواقف عملية، الموقع من السلطة، أصول السلطان أم أصول المعارضة، ولكنها في كل الأحوال تظلُّ أصولًا نظرية.

(١) أصول التفرق والوحدة

هل التفرقة والوحدة طبيعيان أم أن لهما أصولًا يُردَّان إليها؟ وهل هذه الأصول جغرافيةٌ طبيعية أم قوميةٌ حضارية أم عقائدية مذهبية؟ وماذا تعني ألفاظ الدين والملة والحنيفية والشرعة والمنهاج والسنة والجماعة؟

(١-١) هل التفرق جغرافي طبيعي؟

قد ينقسم الناس جغرافيًّا حسب الأقاليم، وتتحدد طبائعهم وأمزجتهم بل وأفكارهم حسب طبيعة كل إقليم. وفي الجغرافيا القديمة لما كانت الأقاليم سبعة، فالأمم سبعة. وقد ينقسم الناس حسب الاتجاهات الأربعة، ويُحدِّد كل اتجاه سلوكَ الناس وطبائعهم وآراءهم، بل ودياناتهم ونِحلهم.٨ والحقيقة أن هذه القسمة جغرافيةٌ خالصة، لا تبدأ من الوحي ومن تشعُّبه وتحوُّله إلى فِرق بتدخُّل الموقف الإنساني وتكوينه الاجتماعي وصراعاته السياسية. ليس الشعور الإنساني شعورًا طبيعيًّا بمعنى أنه محدَّد بالمكان؛ فمع أن الشعور محمول في المكان إلا أنه مستقلٌّ عنه، ومع أن الشعور موجود في البدن، والبدن يتحرك في العالم، والعالم يتفاوت في المناخ نظرًا لبُعدِ أجزائه عن الشمس أو قربها منها، إلا أن الشعور مستقل، وأن المناخ وإن حدَّد أسلوب الحياة المادي إلا أنه لا يُحدد ماهية الشعور المستقلة.

(١-٢) هل التفرق قومي حضاري؟

فإذا صعدنا درجةً أعلى تحوَّل التقسيم من المستوى الجغرافي الطبيعي إلى المستوى القومي الحضاري؛ فلكل قوم خصائصُ تظهر في حضارته طبقًا للجنس والمزاج والتكوين النفسي. فإذا كانت كبار الأمم أربعة، العرب والعجم والروم والهند، فإنها تنقسم إلى طبيعتين رئيسيتين؛ الأولى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية، كما هو الحال عند العرب والهند. وهي الطبيعة الأقرب إلى المثال الذي يظهر في الماهيات في الطبيعة أم في الروح، في العالم أم في الله، في الفلسفة أو الدين. والثانية تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية، كما هو الحال عند العجم والروم. وهي الطبيعة الأقرب إلى الواقع، والتي يظهر فيها العلم الكمي كما هو الحال في العلم الطبيعي. وهو الاختلاف بين الشرق الفنَّان، والغرب العالم.٩ وعلى فرض صحة هذا التقسيم، فإن هذا الحصر غير جامع لكل الشعوب؛ فأين شعوب الصين واليابان وباقي أمم آسيا؟ وأين شعوب أفريقيا إن كانت الأمم في أمريكا لاتينيةً ما زالت مجهولة في العالم القديم؟ وأين شعوب مصر والشام وما بين النهرَين والعبرانيون القدماء؟ وهل يشتمل الروم اليونان وباقي شعوب الغرب؟ وهل يمكن تصنيف شعوب الأرض كلها لهاتين الطبيعتين، أم أن هناك طبائع أخرى؟ ألا توجد شعوبٌ كاملة تجمع بين الطبيعتين؟ وهل القسمة إلى الطبيعتين حكم واقع أم حكم قيمة؟ هل يفضل العرب والهند العجمَ والروم؟ ألا يوجد تمايز بين العرب والهند أو بين العجم والروم على الرغم من اشتراك كل منها في نفس الطبيعة والمزاج؟ وكيف يُفسَّر انتشار الإسلام بين العجم وهم من طبيعةٍ مُخالفة للعرب، أكثر من انتشاره بين الروم وهم من طبيعةٍ مُشابهة للعجم؟ ولماذا لم ينتشر الإسلام في أرجاء الهند قاطبةً وهي تُشارك العرب في التكوين والمزاج. هل يعني ذلك أن رسالة الإسلام تتَّجه شرقًا؟ والحقيقة أن الشعور الإنساني غير مُرتبط بالجنس أو اللسان أو التاريخ أو الحضارة المشتركة. وإن كان نسبيًّا مرتبطًا بلغته واستعاراته وتشبيهاته ومقولاته ونظرته للعالم، إلا أنه يستطيع أن يُفارقها ويصبح شعورًا فكريًّا عامًّا يتجاوز القوميات ويتعالى على الأجناس. هذا فضلًا عما في الأحكام على الحضارات من مخاطر وعدم دقة وتميز. وخصائص الشعوب تنشأ من سلوكٍ حضاري في لحظةٍ معيَّنة من تطورها في التاريخ دون أن تكون أبديةً تمسُّ جوهر الشعور أو تحكم على ماهيته. ولا يقتصر قوم أو قومان على طبيعةٍ واحدة، بل توجد الطبيعتان معًا عند كل قوم، وينشأ التيَّاران المثالي والواقعي، الروحي والمادي، العقلي والحسي، الصوفي والعلمي. فهذان بُعْدان للشعور الإنساني والشعور الحضاري على السواء، قد يغلب أحدهما على الآخر في فترةٍ زمنية معيَّنة نتيجةً لتطوره في التاريخ، ولكن لا يوجد حكمٌ عام شامل على الحضارة بأنها كذلك، أحادية الطرف إلى الأبد. وقد يتداخل البعدان بطريقةٍ غير سوية، فيتحوَّل العقلي إلى عاطفي وانفعالي وهوائي وذاتي وغيبي وحسي وكمي وجسمي، يُعبر عن ضنك وضيق واختناق ولهث؛ وبالتالي تفسد الطبيعة، وتكون في حاجة إلى وحي يُعيدها إلى ثورتها ويُحقق كمالها.

(١-٣) التفرق العقائدي المذهبي

والحقيقة أن البشر يختلفون فيما بينهم طبقًا للعقائد والمذاهب؛ أي طبقًا للديانات والأهواء. الفكر هو سبب التفرد والتنوع والتخصص والتميز. الشعور إذن ليس هو الشعور القومي، بل هو الشعور الفكري الذي يجمع العقائد والمذاهب، الأديان والفلسفات. تحديد ماهية الشعور من فكرةِ تحديدٍ ماهويٍّ لا مادي، مثالي لا موقفي؛ فالفكر ماهية الشعور. البشر إذن مِلل ونِحل، أهل ديانات وأهل أهواء.١٠ ولكلِّ قسمٍ طبيعة؛ الأول مُستفيدٌ مُطيع، وقد يكون مُقلدًا فتضيع الاستفادة؛ والثاني مُستبد برأيه مُبتدع، وقد يكون مُستنبطًا برأيه فيضيع الاستبداد. الأول يؤمن بالنبوات والشرائع، والثاني لا يؤمن إلا بالعقل وبأحكامه.١١ وهذا التقسيم قائم في الحقيقة على فكرةٍ موجَّهة من النصوص الدينية، الاتِّباع أم الإبداع، التقليد أم التجديد. فالشعور إما آخذ أو مُعطٍ، قابل أو رافض، مُستفيد أو مُفيد، مُتعلم أو مُعلم. فالنبي والفيلسوف صِنوان، والنبوة والفلسفة شقيقتان رضيعتان، والعقل جامع بين الاثنين. وكما لا تنتهي الفلسفة بالضرورة إلى إنكار، كذلك لا ينتهي الدين بالضرورة إلى طاعة. ويمكن للفلسفة أن تكون تقليدًا، ويمكن للدين أن يكون ثورة. لا يتعلق الأمر بالدين والفلسفة كميدانَين، ولكن يتعلق بمنهجين وموقعين يظهران في الدين والفلسفة والعلم والفن والحياة.
ولما كان لكل دين كتاب، وهو مقياس من داخل الحضارة لأنها قامت على كتاب، فقد تنقسم الديانات إلى أربع فِرق؛ الأولى ديانات كتاب منزَّل محقَّق، مثل اليهودية والنصرانية والإسلام؛ لذلك دخل النقد التاريخي للكتب المقدسة جزءًا من علم أصول الدين للتحقق من الصحة التاريخية للكتاب.١٢ والثانية ديانات شبهة كتاب، مثل المجوسية والمانوية؛ مما يدل على اعتبارٍ خاص لهذين الدينَين، واعتبار المجوس مثال أهل الكتاب، وأن الذي يجمع بين الوحي المنزَّل ونبوةٍ أخرى هو الكتاب المقدَّس في ملة؛ فالكتب إذن كثيرة. والثالثة ديانات حدود وأحكام دون كتاب، مثل الصابئين الأوائل. وتنتقل بطريقٍ شفاهي، ويكون التراث الشفاهي مصدر سلطة مثل التراث المدوَّن. والرابعة ديانات ليس لها كتاب ولا شبهة كتاب ولا حدود وأحكام، مثل المذاهب الفلسفية والوثنية وعبادة الكواكب والبرهمانية. وهنا تدخل الفلسفة كقسم في الدين، ولا يُعترَف لها بكتابٍ مقدَّس؛ لأن الفلسفة لا تقديس فيها. والوثنية وعبادة الكواكب دين الطبيعة، والبرهمانية دين العقل، وكلاهما لا يحتاجان إلى كتاب.١٣ ويؤخذ كل دين من مصادره الأولى، أي من الكتاب المقدَّس عند الملة، فهو أوثق المصادر خاصةً إذا كان صحيحًا تاريخيًّا، وأبعدها عن التأويلات والتفريعات والإضافات اللاحقة.١٤
ولما كان التفرق العقائدي المنهجي عامًّا لكل الشعوب، وكان الإسلام أحد الديانات، وله مذاهب وله كتاب، قد تبدأ الفِرق غير الإسلامية أولًا، ثم تأتي الفِرق الإسلامية بعدها تبعًا للتطور الزماني لرؤية تطور الوحي واكتمال الوعي البشري. وقد تبدأ الفِرق الإسلامية أولًا ثم تأتي الفِرق غير الإسلامية على أساس أن البناء يُظهر التطور، والنهاية تُثير البداية. قد يبدأ بالديانات العامة أولًا، ثم يتم إحصاء الفِرق الإسلامية ثانيًا. وقد يبدأ عرض الفِرق الإسلامية أولًا، ثم يأتي إحصاء الديانات الأخرى ثانيًا. الأول ترتيبٌ زماني تاريخي، والثاني ترتيبٌ موضوعي مذهبي. بالطريقة الأولى تُذكَر الفِرق الكلامية في مَعرِض تاريخ الأديان العام، وكأنها فِرق أهل الإسلام قبل أن يبدأ عالم الكلام في عرض مادته حسب الموضوعات؛ فالأديان هي المِلل، والفِرق الإسلامية هي النِّحل. المِلل هي الديانات المختلفة كاليهودية والمسيحية والإسلام، والأهواء كالمذاهب الفلسفية، والنِّحل كالديانات التاريخية الخالصة.١٥ وعندما توضع المادة الكلامية في إطار تاريخ الأديان المقارن، وتظهر الفِرق في إطار تاريخ الأديان العام، يقوم التصنيف على نظرية في الحقيقة، وهي أن الحقيقة موجودة يمكن معرفتها، وهي حقيقةٌ واحدة كاملة في مقابل حقائق مُتعددة ناقصة. ويقوم الإيمان بالوحي من حيث المبدأ على حقيقةٍ واحدة موجودة وكاملة يمكن معرفتها والوصول إليها. وتُعادل نظرية الحقيقة هذه نظرية العلم في مصنَّفات العقائد، فيُشار إلى الموقف السوفسطائي، سواءٌ الشك المُطلَق أو الشك النِّسبي، وتثبت الحقائق والعلوم.١٦
والطريقة الثانية تذكر الفِرق غير الإسلامية كإحدى الفِرق الإسلامية. وهنا يصبح علم أصول الدين هو الأصل، وتاريخ الأديان هو الفرع.١٧ ولا يخلو مصنَّفٌ كلامي من إشارة إلى الديانات الأخرى وفِرقِها، حتى في المصنَّفات المتأخرة التي بُوِّبت حسب موضوعات العلم، والتي تجاوزت تاريخ الفِرق المحض؛ ومن ثَم أصبح موضوع تاريخ الأديان أو تطور الوحي من موضوعات علم الكلام يدخل في التوحيد.١٨ وأحيانًا تدخل فِرقٌ غير كلامية ضِمن الفِرق الكلامية. وهنا يبدو علم الكلام وكأنه تاريخ الفكر الديني داخل الحضارة، وليس فقط تاريخًا للفِرق الكلامية التي تُكون مادة علم الكلام.١٩ وقد يُصنِّف علماء الكلام في مقالات الديانات الأخرى دون ذكر للفِرق الإسلامية. وفي هذه الحالة يكون عالم الكلام عالم تاريخ أديان خالص لحضارات ودياناتٍ أخرى.٢٠
وقد يتعدى تصنيف الفِرق الخارجة على الإسلام إلى إخراج فِرق إسلامية نشأت داخل الحضارة الإسلامية، مثل بعض النظريات الفلسفية في قِدم العالم، وقِدم الزمان والمكان، وأزلية النفس، وتدبير الفلك. فعلم الكلام هنا يشمل كل الفِرق الخارجة عن الإسلام، سواء كانت من حضارةٍ أخرى أو من داخل الحضارة خارج علم الكلام في الفلسفة أو التصوف. فهو تاريخ للفكر الديني بوجهٍ عام، وليس تاريخًا لعلم الكلام بوجهٍ خاص من مِلل وأهواء ونِحل. وفي المقابل قد تدخل فِرقٌ غير إسلامية تُمثل حضاراتٍ وافدةً ضِمن الفِرق الإسلامية؛ لأنها أصبحت مُمثلةً داخل الحضارة الإسلامية ولم تعُد وافدة عليها، إما لأن لها مُمثلين، أو لأن الاتجاه ظهر تلقائيًّا في الحضارة الإسلامية بمساعدة الاتجاه المُماثل في الحضارات الوافدة أو بدون مساعدتها. ومما يُساعد على إدخال هذه الفِرق ضِمن الفِرق الكلامية الرغبة في إكمال عدد الفِرق في التاريخ الموجَّه.٢١ وقد يكون التاريخ المذهبي تاريخًا داخليًّا محضًا للحضارة دون ذكر أية حضارات مُجاورة دخيلة. وفي هذه الحالة يكون التاريخ موجَّهًا بحديث الفرقة الناجية.٢٢

(١-٤) تحديد المصطلحات

إذا كان التفرق عقائديًّا مذهبيًّا، فالأولى تحديد مصطلحات الدين، والملة، والحنيفية، والشرعة، والمنهاج، والسنة، والجماعة، والإسلام.٢٣ فالدين هو الامتثال، والامتثال هو التعبير عن الطبيعة بالفكر. ولا يعني ذلك الطاعة والانقياد، فذلك ما تُعاني منه الأمة حاليًّا في علاقتها بالسلطان، بل هو رفض كل ما يُعارض الطبيعة والحرية والعقل، هذا الرفض الناشئ من الامتثال للفكر وإدراك الهُوَّة بين الطبيعة والمثال. ليس الدين هو الجزاء؛ لأن فِعل الخير، العمل الصالح، مستقلٌّ عن الجزاء والعقاب، ولكن في طبيعة الفعل جزاؤه، وجزاؤه أثره وفاعليته؛ فعلى الخير يُعطي خيرًا، ويحدث في هذا العالم من حياة الفاعل، أو يكون كامنًا فيظهر في الأجيال التالية ويظل مُوجهًا للحضارة. وإذا كان الدين يعني الحساب، فإن الحساب على الفعل يكون ذاتيًّا، بمراجعةٍ داخلية. أما الحساب الخارجي فعادةً ما يكون مصدرًا للخوف والتخفي؛ وبالتالي مصدرًا للإرهاب والنفاق، لا فرق في ذلك بين حساب الله وحساب السلطان. والحساب ليس بالضرورة حساب الآخر للذات، أي حساب الدولة للمُواطنين، بل حساب الذات للآخر، حساب المُواطنين للدولة من خلال الرقابة الشعبية على أجهزة الدولة. وإذا كان الدين يعني التعبُّد، فإن التعبُّد ليس الإتيان بحركاتٍ رمزية تكشف عن الصلة بين الإنسان والله، بل القيام بأفعالٍ مباشرة في العالم تؤثر في الناس وتحدِّد مسار العلاقات الاجتماعية. وإذا كان الدين في النهاية وضعًا يسبق العقول باختيارها إلى ما هو خير لهم بالذات، فإن هذا الوضع يتفق مع الطبيعة البشرية الحرة العاقلة، ويؤكدها، ويُساعدها على الازدهار والكمال.٢٤
ويتحول الدين إلى ملة لأن الامتثال جماعي. الدين هو الذي يُعطي الهُويَّة للجماعة، ويُحولها إلى جماعةٍ فكرية. لا يوجد فكرٌ دون جماعة، ولا يوجد دينٌ بلا أمة، ولا يوجد مذهبٌ فكري دون شعب؛ لأنه لا يوجد وحي بلا تاريخ. وصف الدين هو وصف للأمة، وتحليل الدين هو تحليل لحال الأمة.٢٥ والملة هي ملة إبراهيم، وهي الحنيفية السَّمحة، ويُضادُّها الخروج على طريق العقل والطبيعة. والأمة جماعةٌ مثالية، حقَّقت وحدة الفكر واستقلال الشعور وتُدرك نظام الطبيعة، الأمة فكرٌ نمطي، والفكر جماعةٌ مثالية تمنع من التشتُّت الفكري والحضاري، وتحرص على الوحدة المثالية بين الفكر والجماعة، بين الوحي والتاريخ. وتتوالى المِلل حسب قانون الجمع بين الأضداد وجدل التاريخ، والانتقال من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركَّب الموضوع. عرف آدم الأسماء كلها، وعلم نوحٌ معانيها، ثم تحقَّق إبراهيم من كلَيهما. الأمة المثالية إذن هي التي تجمع بين الأسماء المعاني والواقع، بين الألفاظ والدلالات والأشياء دون تبعثُر للأسماء، وتحوُّلها إلى شقشقاتٍ لفظية وضمور للمعاني، وتحوُّلها إلى ثوابت، وغياب للوقائع والأشياء.٢٦
وإذا تحوَّل الدين إلى ملة، فإن الملة تتحوَّل إلى منهج للجماعة. وباتحاد الفكر بالجماعة يظهر التشريع، وهو تنظيم الفكر للجماعة، وتوجيهه لسلوكها، وتخطيطه لحياتها. وقد تطوَّرت الشرائع كما تطوَّر الفكر وتطوَّرت الجماعة، واكتملت بظهور الجماعة المثالية. فالتشريعات تنبع من الفكر وتقوم عليه، وتُعبر عن واقع دفاعًا عن مصالح الجماعة.٢٧ فإذا تم الاتفاق على المنهاج نشأت الجماعة الفكرية المذهبية. الجماعة هي مُمثلة الفكر في التاريخ، وتُحوله إلى شريعة ونُظُم. ولما كانت الشرعة منزَّلة ففي تطوُّر الوحي في التاريخ جاء التنزيل أولًا، ثم التأويل ثانيًا، ثم الجمع بين التنزيل والتأويل ثالثًا. وهو منهج الأمة المثالية التي جمعت بين الفكر والجماعة. التنزيل بلا تأويلٍ صوريةٌ وفراغ، والتأويل بلا تنزيلٍ مضمونٌ عاطفي بلا صورة وروحٌ طاهرة بلا بدن، والجمع بين التنزيل والتأويل هو إيجاد الوحدة بين الصورة والمضمون، بين الروح والبدن، بين المثال والواقع. ويكون ذلك في التاريخ جمعًا بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر. التنزيل بلا تأويلٍ جمود، والتأويل بلا تنزيلٍ هوًى.٢٨
والأديان كلها مراحل مختلفة لدينٍ واحدٍ اكتمل في آخر مرحلة. كل مرحلة تُثبت المرحلة الأولى وتُكملها. فإذا اكتمل الوحي انتهت النبوة، واستقلَّ العقل، وتحرَّرت الإرادة، واكتملت الفطرة، وثبتت الحقيقة، ووضح المثال. أصبح الوحي تاريخًا، والفكر واقعًا؛ فالواقع دليل الفكر، والفكر دليل الحق. ووقوع الوحي لا يستلزم بالضرورة البحث عن مصدرٍ مُشخص للوحي ولا حتى شخص للنبي؛ فالوحي واقع في التاريخ ويتطور معه أفقيًّا، وليس علاقةً رأسية بين شخصين. والبرهان على صِدقه مُتضمَّن فيه وليس خارجًا عنه، طبيعة الفكر نفسها المطابقة للواقع، للفطرة والطبيعة، والشامل لكل التجارب البشرية النمطية. موضوعية الوحي وشموله مِقياسان لصِدقه. الدليل مُلازم له، لا هو سابق له، ولا لاحق عليه. السابق إرهاص على ضرورة ظهور الفكر، واللاحق تحقيق لمسار الفكر وإثبات لواقعيته. لا تستلزم النبوة في آخر مراحلها إثبات صدقها بآيةٍ خارجة عنها. آياتها الوحيدة من داخلها كفكرٍ مُطابق للواقع، وهذا الواقع هو التجربة الإنسانية الشاملة وماهيَّاتها وقوانين التاريخ. فالتوحيد هو جوهر الدين، وما أتى به الأنبياء منذ آدم حتى محمد. وبمجرد تحقيق غاية الوحي، استقلال الوعي الإنساني، عقلًا وإرادة، يقف تطوُّره وتنتهي النبوة، ويتوقف تطور التاريخ في الأصول، ويبقى تطوُّره في الفروع، والتي يمكن للاجتهاد أن يجد لها تشريعاتها ويستنبط لها أحكامها. ويكون التاريخ حينئذٍ دون مراحل، وكأن التاريخ يخضع نفسه للخلود، ويمَّحي عنه طابع الزمان.٢٩
وإذا كانت الفِرق إسلامية على وجه الخصوص، فماذا يعني الإسلام؟ وهنا تأتي الفكرة الموجَّهة لتحدِّد الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان؛ الأول بداية، والثاني وسط، والثالث كمال. الأول عمل باللسان (قول)، والثاني عمل بالقلب (تصديق)، والثالث عمل بالجوارح (فعل). الأول العبادات، والثاني العقائد، والثالث المعاملات. ولكن أليست العبادة أيضًا بالقلب وبالجوارح، فتشمل العقائد والمعاملات؟ وفي آخر مرحلة من مراحل الوحي يكون الوحي إمكانية تحقيق من خلال طاقة الإنسان. ولما كانت الطاقة قولًا ووجدانًا وعملًا كان القول هو الإعلان عنه، والوجدان تمثُّله، والفعل تحقيقه. ليس الإسلام إذن هو مجرد الخضوع والانقياد بالمعنى الشائع دون تمييز بين الله والسلطان، بل هو تعبير عن الطاقة الإنسانية، بالقول باللسان والعمل بالجوارح، بالكلمة والفعل. الإسلام إذن أقرب إلى الشهادة باللسان وباليد. فإذا كان الخارج قيدًا وقهرًا ورضوخًا للأمر الواقع، فإن الإسلام يكون ثورة وتحررًا وغضبًا ورفضًا وتمردًا. وتبدأ العقائد المتأخرة من الإيمان، وتُعرفه بأنه الاستسلام والانقياد، وتجعل مضمونه إما الغيبيات أو العبادات أو الحدود دون فكر أو فعل، ودون حق أو طلب. ويُفرَّغ الإيمان من أي مضمون اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي يربط المؤمن فردًا وجماعةً بمصالحه وحياته، ويجعله قادرًا على الدفاع عن حقوقه، وليس فقط مطالبته بتحقيق واجباته.٣٠ وبهذا المعنى، الإسلام كاستسلام، يُشار إلى الفرقة الناجية، فرقة السلطان.٣١

(٢) من الوحدة إلى التفرق

تصف الفرقة الناجية تاريخ الفكر البشري، بل وتاريخ الإنسانية ذاتها، كمسار من الوحدة إلى التفرق، من الطاعة إلى العصيان، من الخير إلى الشر؛ وبالتالي تتمُّ إدانة التاريخ والزمان والتطور، وإدانة كل جهد بشري وقضاء على التعددية. ولا سبيل إلى صلاح العالم ونجاة البشرية إلا بالعودة من جديد من التفرق إلى الوحدة، من العصيان إلى الطاعة، ومن الشر إلى الخير. ومرةً يتمُّ هذا الوصف بصورةٍ فنية شعرية رمزية عن طريق رفض الشيطان السجود لآدم قياسًا للنار على الطين، وهو قياسٌ كمي خاطئ يُغفِل الكيف؛ ومرةً أخرى، وهو الهدف من هذا الوصف، عن طريق وصف مسار علم أصول الدين على أنه انتقال من النقل إلى العقل؛ وبالتالي يضلُّ كما ضلَّ الشيطان من قبل. الأمة إذن لها بدايتان؛ الأولى قياس الشيطان، والثاني إعمال العقل! وكلاهما شر؛ الأول أدَّى إلى الطرد من الجنة، والثاني أدَّى إلى الفِرق الضالَّة!

(٢-١) التاريخ الرمزي

يبدأ التاريخ، عند الفرقة الناجية، بصورةٍ فنيةٍ أقرب إلى الشعر منها إلى العلم، وأدنى إلى الخيال منها إلى الواقع، تُوحي بأن التفرق والتشتُّت حدَثَا في البداية لأول مرة منذ الخليقة قبل أن يقع للمرة الثانية في التاريخ الإنساني بعد ظهور الوحي. فالتاريخ له بدايتان؛ الأولى بداية الخليقة، والثانية اكتمال الوحي ووحدة الفكر. البداية الأولى افتراضيةٌ خالصة، تعتمد على التاريخ الشعري أو على التفسير الفني للنصوص الدينية للحصول على دلالةٍ مُشابهة للبداية الثانية، وكأن التاريخ يعود كما بدأ. ولا يقتصر الأمر على الدلالة الشعرية، بل يُفسَّر النص الفني على أنه يحتوي على وقائع حدثت بالفعل. حدث التشتُّت الأول في البداية بإعمال الرأي والقياس، وذلك بمقابلة الرأي بالنص، أو مقابلة الهوى بالأمر، إعمالًا للعقل وإثباتًا للحرية.٣٢ والتاريخ الشعري القائم على الصور الفنية أفضل استعمالًا من التاريخ الأسطوري، إلا إذا فُهمت الأسطورة كصورةٍ فنية. فلفظ الأسطورة يعني في التراث وفي أصل الوحي الخرافةَ بالتعارض مع الواقع، في حين أن لفظ الشعر والتخييل ألفاظٌ تراثية، وكذلك الحال مع لفظ الصورة الشعرية وانتمائها إلى الثقافة الأدبية المعاصرة.٣٣ وتعتمد هذه البداية الشعرية مع الكتب المقدَّسة الأخرى القائمة على عقائد السقوط والطرد والحرمان كوقائع وحوادث تاريخية، وليس فقط كصورٍ شعرية. ونظرًا لاعتماد الفرقة الناجية على التفسير بالمأثور، فقد دخلت كثيرٌ من الإسرائيليات لتأصيل عقائدها، وهي الصورة الشعرية نفسها الموجودة في حضاراتٍ أخرى وتُفسَّر لا على أنها صراع العقل مع النقل، وصراع الموضوعية مع الذاتية، وصراع الحرية مع القدرية، بل على أنها تنقل أخبارًا عن وقائع العِصيان والحِرمان والطرد والخطيئة والسقوط.٣٤
وتضع الصورة الشعرية شبهاتٍ سبعةً٣٥ تُفيد بأن الموقف الإنساني شبهة، وأن السؤال عنها يوقع لا محالة في تناقض، وهي الشبهات نفسها التي يقوم عليها علم الكلام. تُمثل الفِرق الهالكة، وفي مقدمتها المعارضة العلنية من الداخل، اختيار الشيطان نظرًا لاعتمادها على العقل. وتُمثل الفرقة الناجية، فرقة السلطان، اختيار الله نظرًا لاعتمادها على النقل. الشبهة الأولى تُشير إلى تعارُض العلم المُطلَق مع الخلق باعتباره مصيرًا وتاريخًا محدَّدًا في العلم، ومع ذلك مرهون بحرية الإرادة الإنسانية. وإذا كانت الفرقة الناجية تأخذ صف العلم الإلهي وتُضحي بالخلق الإنساني، فإن الفِرق الهالكة خاصةً المعارضة العلنية من الداخل تأخذ جانب الحرية الإنسانية وتُضحي بالعلم المسبق. فإذا كان القياس هو المزايدة في الإيمان أمام العامة وفي أعيُن السلطان، كان الاختيار لعقائد الفرقة الناجية! والحقيقة أن العلم المطلق لا يمنع من تقرير مصير الإنسان لذاته؛ لأن العلم المطلق علمٌ حقيقي، أي أنه مُطابق للواقع، لا بمعنى أنه يفعل مباشرةً، بل بمعنى أنه يفعل من خلال الفعل الإنساني. وهذا لا يعني أن العلم المُطلَق خاملٌ غير مؤثر، بل بمعنى أن الإنسانية لا تتحقق إلا بالفعل في التاريخ. العلم مسار التاريخ، أو فكر العمل، أو نظرية السلوك، إذا ما بعد العلم عن التشخيص الذاتي كصفة لذاتٍ مشخص. والشبهة الثانية تُشير إلى التعارض بين خلق الإنسان على إرادة الله وبين تكليفه على إرادة الإنسان الخاصة. فإذا أخذت الفرقة الناجية الاختيار الأول، فإن الهالكة تأخذ الاختيار الثاني. أليس فضل الله على الإنسان عظيمًا أمام السلطان وفي أعيُن العامة؟ والحقيقة أن التكليف إثبات لغاية الإنسان ودعوته، وأن الحياة الإنسانية أساسًا هي تحقيق الرسالة. ولا يتمُّ هذا التحقيق وفقًا لإرادةٍ مسبقة، فالإرادة المطلقة هي إرادة التاريخ وقوانينه ومساره التي تتحقق بالفعل الإنساني الفردي والجماعي على السواء؛ وبالتالي تبتعد الإرادة المطلقة عن التشخيص الذاتي الخارجي، وتعود إلى أصلها كقانونٍ عام لمسار التاريخ، أو كنمط للتحقيق والتكليف ليس مُضادًّا للحرية، وليس مانعًا لها، بل هو موجِّه لها يُعطيها أساسها النظري ومسارها المختار. والشبهة الثالثة عن أمر الشيطان بالسجود لآدم وعصيان الشيطان لله، بطبيعة الحال تختار فيها فرقة السلطان الطاعة لله وتنفيذ الأوامر، بينما تختار الفِرق الهالكة العصيان ورفض السجود لأحد إلا لله، حتى ولو كان ذلك عصيانًا لأوامر الله. واختيار الفرقة الناجية يرضاه السلطان، ويتملق أذواق العامة إيمانهم الاجتماعي بالله. ومن ذا الذي يرفض أوامر الله وأوامر السلطان؟ والحقيقة أن الإنسان هو القيمة الأولى في الحياة على رأس سُلَّم القيم، وله يخضع كل شيء في الطبيعة، وكل فعل في التاريخ يُقاس بمدى تحقيقه لهذه القيمة؛ فرفض السجود لآدم هو رفض للاعتراف بالإنسان كقيمةٍ مُطلَقة. وإن السجود للإنسان وليس السجود لله لهُو تنفيذ للأمر الإلهي وتحقيق لإرادته. والشبهة الرابعة تحتوي على الحكم بإدانة كل من لا يعترف بالإنسان كقيمةٍ أولى، حتى ولو كان السبب في عدم الاعتراف التشدق بالإيمان والمزايدة فيه بدعوى عدم السجود إلا لله. الإنسان قيمة في أعلى سُلَّم القيم. وقد تتنازل قيمٌ أخرى أعلى منه حتى الفكر المطلق ليُعلن أن الإنسان قيمةٌ أولى. وهو بهذا الإعلان والاعتراف يُثبت إطلاقيته، فلا إطلاقية تُثبَت إلا بإثبات الإنسان كقيمةٍ أولى. والشبهة الخامسة أنه بالرغم من لعن الشيطان وإصدار حكم عليه بالإدانة، فقد دخل الجنة ووسوس للإنسان. ولا يعني ذلك أن كل ما يأتي للإنسان من أفكار فإنها من وسوسة الشيطان كما تقول الفرقة الناجية وكما يريد السلطان، بل تعني أن الاعتراف بالإنسان كقيمةٍ أولى ليس مجرد اعتراف نظري، بل هو جهدٌ عملي يتحقق بالفعل، وكأن الاعتراف النظري يحتاج إلى اعترافٍ آخر عملي بدفاع الإنسان عن وضعه كقيمةٍ أولى، والدخول في صراع مع كل القوى التي تُنكر عليه هذا الحق. فالإنسان ليس إمكانيةً محدودة ذات اتجاه واحد، بل هو إمكانية تحقُّق سلبًا أم إيجابًا. هو إمكانية تحقُّق في مواقف تتخللها عقبات؛ لأن وجود العقبة ضرورة لتحقُّق الإمكانية، وحشد الطاقات النظرية والعملية. وقد تكون الموانع ذاتية مثل الأهواء والانفعالات، وقد تكون موضوعيةً مثل الأوضاع الاجتماعية والسياسية. فالمانع ضرورة لتخطيته، والعقبة شرط لتذليلها. والشبهة السادسة عن وسوسة الشيطان ليس فقط لآدم، بل لأولاده، تتملق أذواق العامة عن براءة الأطفال وعدم مسئوليتهم عن غوايات الآباء. والحقيقة أن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان؛ بناؤه واحد، وشعوره واحد، وموقفه من العالم واحد، لا فرق بين أب وابن، أو بين أسلاف وأحفاد. كل إنسان مسئول عن نفسه من حيث هو إنسان، وليس من حيث هو ابن لأب. والشبهة السابعة والأخيرة عن السبب في الاستمهال والنظِرة، فإنها تقوم أيضًا على المزايدة في الإيمان، وافتراض تدخُّل الله لهزيمة الشيطان دفاعًا عن الإنسان، وحرصًا له من الوقوع في الغواية، وإنكار دور الإنسان والزمان وحركة التاريخ. والحقيقة أن الزمان قد أُعطيَ للإنسان ليفعل فيه، كما أُعطيَ له التاريخ ميدانًا للعمل؛ فلا نهاية بلا بداية، ولا خاتمة بلا مشروع. الإنسان حياته، وحياته تاريخه، وتاريخه سلوكه، وسلوكه تحقيق لغاية، وغايته رسالته، ورسالته مصيره.
وطبقًا لهذا التاريخ المعبَّر عنه بالصورة الفنية تئول الوقائع الحالية حسب الفكر المسبق على ما هو معروف في تاريخ الأديان باسم تنميط الوقائع؛ فأسئلة الفِرق الكلامية كلها لا تخرج عن الأسئلة الأولى التي سألها إبليس، ويكون التاريخ حينئذٍ عودًا على بدء، ومُعيدًا لنفسه.٣٦ والحقيقة أنه إذا كان هذا الوصف يعني الانحدار والسقوط والتشتُّت والتفرُّق، أي إذا كان وصفًا سلبيًّا، كان جحدًا للواقع، وإيقافًا لحركة التاريخ، وإلغاءً لعمل الفكر البشري، وقضاءً على الحضارة. أما إذا كان هذا الوصف يُشير إلى حركةٍ إيجابية تظهر فيها أنماط الفكر في كل زمان ومكان، ودون حركة دورية، ودون إدانة للتاريخ، كان وصفًا واقعيًّا يُثبت الحركة والزمان والتاريخ. فالتقابل بين العقل والهوى، بين الموضوعية والذاتية، بين الخارج والداخل، بين الأمر والتلقائية، بين التسليم والرفض، تقابلٌ يُعبر عن الموقف الإنساني العام في كل زمان ومكان بإضافة بعض النُّضج في التجربة البشرية أثر تراكم التجارب والاستفادة منها، ثم تتحول البداية الزمانية الافتراضية الأولى في الصورة الفنية في أول العالم إلى بدايةٍ زمنية فعلية ساعةَ ظهور الوحي وإعلان النبوة. ويبدو التفسير النمطي للوقائع أيضًا؛ فكلُّ ما وقع من حوادث التاريخ وقعت أنماطه في الجيل الأول. ويصعب تغيير التاريخ دون نمط؛ ولذلك يكون تطوُّر التاريخ في بنائه، ويكون ماضيه في حاضره، وحاضره ماضيه. يتمُّ تفسير الحاضر بالماضي، والماضي بالحاضر؛ فالشعور الإنساني واحد، والموقف من الحياة واحد؛ فلا تاريخ بلا شعور، ولا شعور بلا تاريخ.٣٧
وفي كلتا الحالتين، البداية الأولى والبداية الثانية، يظهر الدرس المستفاد، وهو أن الانتقال من الوحدة إلى التشتُّت عملٌ من أعمال العقل، أو بتعبيرٍ أدقَّ نقص في العقل، وتحكُّم بالهوى، وتأويل للنصوص، وإعمال للجهد. وكأن السؤال عن العلة جريمةٌ تستحقُّ العقاب، وكأن عقل الإنسان قاصر عن فهم الأسباب، بل ولا يجوز للإنسان أن يتساءل وأن يستدرك.٣٨ تعني البداية الأولى أن الإيمان بالتوحيد يقتضي التسليم، وأن أي استفهام بعد الإيمان يدل على عدم صدق الإيمان، مع أن إبراهيم سأل حتى يطمئنَّ قلبه واستُجيب لسؤاله؛ فالسؤال والاستفسار والاستدراك نزوعٌ إنساني لا يُجحَد.٣٩ كما نشأت الشبهات في أول الزمان من إعمال العقل، فإنها نشأت أيضًا في أول ظهور الوحي وإعلان النبوة من إعمال العقل، والسؤال والرغبة في المعرفة، والقياس والبحث عن العلة. فكلُّ إعمال للعقل خروج على النبوة، وكل سؤال انحراف عنها. فالخوارج هم العقلاء، والعقلاء هم الخوارج! إن السؤال ليس شبهة، بل هو خُلقٌ حضاري، وبداية لتحدِّي الواقع وتنظيره بالفكر. والاستدراك ليس هدمًا، بل هو عثور على تصورٍ مُتناسق للعالم حتى يشعر الإنسان بوئامٍ معرفي مع الطبيعة يستطيع بعده من السيطرة على قوانينها وتسخيرها لصالحه. وما دام التفسير خلقًا إنسانيًّا يُعبر عن وجود الإنسان في موقف، فإنه يكون مُعبرًا بالضرورة عن هذا الموقف الذي يتدخل فيه الهوى والانفعال والمصلحة. ويكون السؤال: هل هذا الهوى ذاتي أم موضوعي؟ هل هذه المصلحة فردية أم جماعية؟ وبالإجابة على ذلك يتحوَّل الوحي إلى حضارة، والنبوة إلى تاريخ. وهذا كله ليس سلبًا بل إيجاب، وليس نقصًا بل كمال، وليس سقوطًا بل رفع، وليس طردًا أو حرمانًا بل تكليف وحرية.٤٠ إن تحويل العالم الطبيعي إلى عالمٍ مُدرَك ليس نفيًا للوحي، بل هو تمثُّل للوحي كمعرفةٍ قبل استعماله كموجِّه للسلوك، وتأصيله كبناءٍ نظري مثالي للعالم. فالوحي لا يتحدث بنفسه، بل يُعطيه الإنسان اتِّساقه العقلي، ويكتشف أساسه النظري. والإنسان ليس آلةً تؤمر فتُطيع، بل هو إمكانيات للفهم والتمثل، وقدرات السلوك القائم على البواعث، وإمكانية حركة تلقائية تُعبر عن طبيعته المثالية. أوامر الوحي ليست قواهر وزواجر وموانع وروادع، بل موجِّهات للسلوك، وبواعث للفعل، تثبيت لغاية، وتأسيس لنظر، وازدهار لطبيعة، واكتمال لموقف.
ويُعيد التاريخ نفسه، ويدور الشعور في التاريخ، ويخرج علم الكلام في بدايةٍ ثالثة ناشئَا عن إعمال العقل في النص. ولما كان العقل صورةً للجهد الإنساني، فقد يكون أقرب إلى الهوى أو الرأي أو المصلحة أو سوء النية أو النفاق. ولما كان العقل أعور، أي لا يرى إلا من جانبٍ واحدٍ نشأت الفِرق، كلٌّ منها يُعبر عن جانب، وكلها نتيجة إعمال العقل! فهل هذه صورة العقل؟ ألا يوجد عقلٌ بديهي لا دخل فيه للهوى؟ هل العقل سبب للسقوط والانحدار أم سبب للتطور والازدهار؟ ويقوم حكم العقل على القياس، ويعني القياس بالضرورة التماثل بين شبيهَين، وهو قياس الشَّبه؛ ومن ثَم يؤدي القياس إلى قياس الغائب على الشاهد؛ مما يؤدي بدوره إلى التقصير في حق الغائب، والغلو في حق الشاهد؛ أي إنزال الغائب إلى مستوى الشاهد، ورفع الشاهد إلى مستوى الغائب. فالقياس يُقلل المسافة بين المثالي والواقعي حتى يتم إلغاؤها كليةً في النهاية. وهي حقيقةٌ معرفية تُعبر عن الموقف الإنساني في إدراكه لنفسه وللعالم، فهو يُعبر عن الغائب بالشاهد إن كان يريد الواقع والعمل والتاريخ، ويُعبر عن الشاهد بالغائب إن كان الشاهد مُتأزمًا يريد دفعه إلى المثال ولو التعبير عنه بالتمني. وقياس العلة كقياس الشَّبه محاولةٌ للسيطرة على العالم وإخضاعه بعد فهمه وتنظيره. هو قياسٌ يبحث عن سبب الوجود ومن أجل اكتشاف قوانين الطبيعة حتى يسير الإنسان معها، يستمدُّ منها قوَّته ويُوحدها مع قُواها. قامت المعارضة السرية في الداخل بالحكم على الخالق في الخلق وانتهت إلى الغلو، وقامت المعارضة العلنية في الداخل بالحكم على الخلق في الخالق وانتهت إلى التقصير. الأولى حلولية الصفات، والثانية مُشبهة الأفعال. الأولى تُشبه الخالق بالخلق، والثانية تُشبه الخلق بالخالق.٤١
وتردُّ بعض الحركات الإصلاحية الحديثة الاعتبار لهذا المسار الطبيعي من الوحدة إلى التعدد، باعتبار أنه مِن صنع العقل والتفسير والتأويل لفهم النص وتعقيل العقيدة؛ فانفصام الوحدة وتحوُّلها إلى فِرق وشُعَب ليس ظاهرةً سلبية تدلُّ على عِصيان، بل هي بداية الفكرة ونشأة الحضارة.٤٢ وقد ساهمت في ذلك عوامل عدة، منها عاملٌ حضاري، وهو فِعل الحضارات القديمة الدخيلة، وضرورة الرد عليها. ومنها عامل اجتماعي فقهي؛ أي فِعل الأحداث الجديدة، وضرورة فهمها، واستنباط أحكام لها. ومنها عاملٌ سياسي، أي التعبير عن الصراع بين السلطة والمعارضة. كما يتطلب ذلك معرفة الظروف القديمة التي أدَّت إلى نشأة الحضارة وكيفية نشأتها، ثم معرفة الظروف الحالية التي يمكن أن تُساعد على نشأة حضارة جديدة، ثم مقارنة بين المرحلتين. فإذا تشابهت الظروف تشابهت الحلول والمواقف الحضارية، وإذا اختلفت الظروف اختلفت أيضًا الحلول والمواقف، وتحتَّم إعادة الاختيار من جديد. وهنا تبدأ عملية تنقية التراث ونقد التراث، وإعادة الاختيار بين البدائل.٤٣ وبناءً على ذلك حاولت الحركات الإصلاحية الحديثة إعادة وصف نشأة علم الكلام وتطوُّره لتصفيته من شوائبه التاريخية، والتوقف في مسائله العقائدية التي لا ينتج عنها أثرٌ عملي لتغيير الواقع الحالي، بل والتي قد ينتج عنها أثرٌ مُضاد.٤٤ كما تهدف بعض الحركات الإصلاحية إلى العودة إلى الوحدة الأولى بطريقٍ صحي تقضي على هذا التشتُّت والتفرُّق، وتُعيد الوحدة الوطنية. فإذا كان الغرض من ذلك التوحيد بين المذاهب، فلا يعني ذلك التوحيد بين الجماعات، وتحقيق نوع من المصالحة الوطنية بين عدة قُوى اجتماعية، بل يعني توحيد الفكر ذاته، والرجوع إلى الأصول الأولى وإعادة تفسيرها بناءً على مُتطلبات الواقع، وتخليص المذاهب الفكرية من الوقائع التاريخية القديمة التي سبَّبت نشأتها.٤٥
لذلك لا يُعتبر ظهور الحركات الفكرية داخل الحضارة الإسلامية بدعًا وأهواءً، فذلك حكم قيمة وليس حكم واقع، بل هي حركاتٌ طبيعية عبَّرت عن البيئة الثقافية التي انتشر فيها الدين الجديد بأسلوب هذا الدين، وهي عمليةٌ حضارية طبيعية.٤٦ فقد نشأ علم الكلام كنظرية في العقل، ومحاولة لتنظير الأحداث، وإيجاد الأدلة والبراهين، وهو ما يسمح به الوحي ذاته، بخلاف مراحل الوحي السابقة التي لم يستطع العقل تنظيرها، وكان السبيل إليها العاطفة والقلب والانفعالات، أو الإرادة المطلقة التي لا تبرير لها.٤٧   وقد كان الاعتماد على العقل من طبيعة الوحي وبواعثه، وليس من خارجه من حضارةٍ أخرى أو من ضرورة الحوار معها. ولم تكن الباطنية فرقةً كلامية بقدر ما كانت فرقةً فلسفية أو صوفية أو فقهية كرد فِعل على مسألة العقل والنقل، وإيجاد بُعْد ثالث هو القلب أو الباطن؛ فهي تُشارك العقل ضد النقل في التأويل، ثم تفترق عن العقل في وسيلة التأويل.٤٨ ونظرًا لأهمية القضاء على وحدة الأمة جعلت الحركات الإصلاحية موضوع الفِرق في مقدمة الرسالة، ليس في مؤخرتها كما هو الحال في المصنَّفات التقليدية عندما ضمَّت موضوع الفِرق كمُلحَق للإمامة.

(٢-٢) التاريخ الموجَّه

ويُصاغ مسار التاريخ من الوحدة إلى التفرق لا على نحوٍ شعري، صورة العصيان، بل على نحوٍ تاريخي خالص بناءً على توجيهٍ خاص من حديث الفرقة الناجية الذي يحكم من قبلُ بأن النجاة في الوحدة، والهلاك في التفرق، ويُحدد عدد التشعب والتفرق، ويُحصيها في اثنين وسبعين. وبالرغم من محاولة المؤرخ ضبط كل فرقة وحصرها، وتبنِّي نظرة موضوعية مُحايدة، إلا أن حديث الفرقة الناجية يظلُّ موجِّهًا له. ويختلف مؤرخ عن آخر في نسبة التاريخ الموضوعي إلى التاريخ الموجَّه؛ فقد يَعرِض المؤلف للفِرق أولًا عرضًا موضوعيًّا، ثم يعود فينقدها فاصلًا بين العرض والنقد، وهو يقوم في ذلك على التاريخ الموجَّه.٤٩ وقد يَعرِض المؤلف عرضًا موضوعيًّا للفِرق داخل الحضارة وخارجها دون نقد، ولكنه يقوم أيضًا على التاريخ الموجَّه دون استعماله صراحةً في العد والإحصاء.٥٠ وقد يَعرِض المؤلف عرضًا موضوعيًّا للفِرق داخل الحضارة مبيِّنًا الانتقال من الوحدة إلى التفرق.٥١ وقد يعرض المؤلف منذ البداية للفِرق بالتاريخ الموجَّه.٥٢ وفي كل الحالات ينتقل الشعور من التاريخ الفكري النمطي إلى التاريخ الموجَّه، وتُرَفض الفِرق كلها إلا واحدة.
ويُستعمَل التاريخ الموجَّه إما في تاريخ الفِرق أو في نسق العقائد. ففي تاريخ الفِرق يقوم التاريخ الموجَّه بتتبُّع نشأة الفِرق طبقًا لتوجيهٍ فكري مسبق من النص الديني، فلا يكون البحث التاريخي بحثًا خالصًا، بل تحقيقًا لفكرةٍ مسبقة، والبحث عنها في الوقائع الدالة عليها، بل وتنظيم الوقائع طبقًا لها، واختيار ما دل عليها منها.٥٣   وفي نسق العقائد القائم على التاريخ الموجَّه يُكتفى بذكر العقائد النمطية، لا تلك التي خرجت عليها.٥٤ ومن مصنَّفات العقائد ما يضع التاريخ الموجَّه في البداية وليس في النهاية، فتصير العقائد موجهة وليس التاريخ. وهناك مقدماتٌ أخرى لمصنَّفات العقائد الغرضُ منها بيان اعتقاد الفرقة، وهي في الغالب الفرقة الناجية، وتفنيد آراء الفِرق الأخرى. ومعظمها مقدمات لمصنَّفاتٍ عقائدية خالصة مهمةُ العقل فيها تبريرها، وأصحابها من الفقهاء الأشاعرة، وهي المؤلَّفات التي تُعتبر نواة المصنَّفات العقائدية الكاملة التي تَعرِض لبناء العلم ذاته، والغالب عليها إثبات آراء أهل السنة والجماعة وتفنيد آراء المعتزلة.٥٥ يُستعمل التاريخ الموجه إذن في المؤلَّفات العقائدية كمقدمة لها لتوجيه العقائد دون ذكر للفِرق.٥٦ وهناك بعض المؤلَّفات العقائدية لا يهمُّها إلا أن تعلم اعتقادات الفرقة التي ينتسب إليها المؤلف، وهي أيضًا في الغالب الفرقة الناجية دون أية محاولة للإقناع النظري بها، وهي التي أصبحت فيما بعدُ موضوع الشروح على المتون.٥٧ وبعض المؤلَّفات الكلامية الأخرى موضوعة للعبرة والاستبصار والحفاظ على العقيدة، مهمَّتها تربويةٌ خالصة للمحافظة على العقائد، وإقامتها على أسسٍ راسخة، والتنبيه إلى مَواطن الخطر في الديانات والنِّحل الأخرى؛ فهي أيضًا دفاعٌ تربوي ديني لترسيخ الإيمان، أو دفاعٌ تأسيسي ليس المقصود به الرد على الخصوم، بل تأسيس العقيدة، وإيجاد أصول عقلية في الإيمان حتى يتحول إلى تصديق، أو حتى يطمئن القلب كما حدث ذلك لإبراهيم. ويكون ذلك في مَعرِض تأسيس العقيدة الإسلامية ضِمن تاريخ الأديان.٥٨ وقد يكون الكتاب جدليًّا من أوله إلى آخره ردًّا على كتابٍ آخر، ردًّا من مذهب على مذهب بتفنيد النصوص، والدفاع ضد الهجوم، ودحض الافتراءات والادعاءات، وتصحيح التشويهات والتحريفات.٥٩ وتُعتبر كل كتب الفقهاء الكلامية أيضًا من هذا النوع.٦٠ وفي العقائد المتأخرة قد يكون التاريخ الموجه أيضًا مقدمة للعقائد، وفي هذه الحالة يكون بديلًا عن المقدمات النظرية، ويكون التاريخ التفصيلي العددي الذي يُصدِر حكمًا بهلاك الفِرق كلها وبنجاة فرقة واحدة وتسميتها.٦١ كما يُذكَر حديث الفِرق في الحواشي والشروح المتأخرة؛ أي إن التاريخ الموجه ظلَّ ساريًا في تاريخ العلم كله، يُعاد ويُكرَّر دون توقف، وما زال موجهًا شعوريًّا للحضارة.٦٢ وقد يُذكَر حديث الفِرق في آخر المؤلَّفات الكلامية عندما يتحوَّل التاريخ إلى جزءٍ من بناء العلم.٦٣ حتى علم الكلام المتأخر الذي يسوده الطابع العقلي الخالص لم يَسْلم من الانفعالات، وتكفير الفِرق، والطعن في إيمان الأشخاص.٦٤
ولكن هل يمكن كتابة تاريخ موضوعي للفِرق دون أن يكون موجهًا، خاصةً ولو كانت الفِرق هي فِرق المعارضة؟ هل يمكن كتابة تاريخ لتراث المعارضة من وجهة نظر تراث السلطة؟ إن ذلك يقتضي اتِّباع منهج تاريخي مُحايد يقوم على تقصِّي الحقائق، وعلى ابتغاء الموضوعية المُطلَقة دون تحريف أو تشنيع، أو زيادة أو نقصان، بالتحقق من صِدق الروايات، وقد حاول ذلك بعضُ المؤلفين الذين اتبعوا هذا المنهج بدقةٍ تامة في التحقيق التاريخي لصحة الروايات والمصادر. لا تعارض في هذه الحالة بين التاريخ الموجه والتاريخ الموضوعي، بل إن الموضوعية التاريخية قد لا تُدرَك إلا بالتوجيه الفكري لها؛ فالتوجيه الفكري هو الذي يُحدد رؤية التاريخ. تقتضي الموضوعية عدة أمور، منها: عدم النُّقصان في رواية آراء المُخالفين، التوثُّق من مصادر المعلومات، عدم أخذ العقائد من روايات الخصوم، الفصل بين المصادر الأولى والمصادر الثانية التي قد تشوِّه آراء المنقول، عدم الخلط بين المذاهب، عدم التشويه لها وتعمُّد تحريفها، أخذ أقوال الخصوم بألفاظها وليس فقط بمعانيها، الحياد في النقل٦٥ … إلخ. ومع ذلك يصعب كتابة مثل هذا التاريخ لعدة أمور أيضًا، منها أنه لا يمكن للشعور الموجه مهما كان موضوعيًّا توجيهيًّا أن يكتب تاريخًا موضوعيًّا للفِرق؛ إذ لا يمكن كتابة تاريخ نظري في مواقع صراع عملي، ولا يمكن كتابة تاريخ مُحايد دون نقد، دفاع وهجوم، مهما بلغ المؤرخ من حياد؛ فالمؤرخ جزء من عملية الصراع ذاتها، وطرف فيها بطريقة أو بأخرى، بتعاطف أو ميل أو هوًى؛ لذلك لا يمكن كتابة عرض مُحايد دون تشويه للخصوم، ورسم صورة «كاريكاتيرية» له. لا يمكن كتابة تاريخ المعارضة مع الدقة المُتناهية في الروايات، بل قد يعتمد المؤرخ على روايةٍ ضعيفةٍ ما دام فيها صورةٌ مشوَّهة للمعارضة، أو رأيٌ يسهُل نقده، وموقفٌ يمكن تجريحه، فينقل التراث المشوَّه دون الصحيح مع تلمس الأخطاء. وحتى مع النقل الصحيح لا تَسْلم الرواية من تأويل.
وهذا ما حدث بالفعل في كتابة تاريخ الفِرق؛ فقد حدث خلط بين القيمة والتاريخ؛ إذ توضع الفرقة الناجية أولًا في البداية كنمطٍ تُقاس عليه الفِرق الضالة، وتُعرَض عقائدها كنموذجٍ يُحتذى لعقائد الفِرق الضالة، وكأن عقائد الفرقة الناجية هي الحق، وما سواها انحرافات عنه. والحقيقة أنه تاريخيًّا لم تظهر عقائد الفرقة الناجية إلا في النهاية عندما حدَّدتها الأشعرية في مذهبٍ متَّسق، كرد فِعل على سائر الفِرق الأولى التي كانت تقوم بدَور أهل السنة في الدفاع عن التنزيه ضد التأليه والتجسيم.٦٦ فلما انقلبت الأشعرية عليهم استحوذت على اسم أهل السنة، وتحوَّلت الفرقة الأولى التي كانت تقوم بدور أهل السنة إلى فِرق المعارضة. كانت المعارضة الأولى، معارضة الفِرق قبل انشقاق الأشعرية عليها، عقائديةً فعلية، في حين كانت المعارضة الثانية بعد انشقاق الأشعري تهمةً سياسية. وقد توضع الفرقة الناجية في النهاية كأوصاف، وكأنها جماعة أو حزب أو قوة وليس فقط كعقائد، وتكون بشخصها سلوكًا يُحتذى به. وكما بدأت الأمة بوحدة الوحي الأولى ثم تشعَّبت إلى أهل الأهواء وإلى الفِرق المُنتسبة إلى الإسلام، وهي ليست منه، فإنها ترجع كلها إلى الفرقة الناجية؛ فهي المفسِّرة الصحيحة للوحي الأولى، والمُتحدث الرسمي باسمه.٦٧ بل إن تصنيف الفِرق والفصل بين أهل الأهواء الذين ينتسبون إلى الإسلام، وبين فِرق تنتسب إلى الإسلام وهي ليست منه، حكم قيمة على فِرقٍ تاريخية من الصعب إصداره، بل ولا يحقُّ للمتكلم إصداره لأنه يحتاج إلى مِقياس للحكم، ومِقياس حكمه آراؤه ومذاهبه حتى ولو كانت اعتقادات الفرقة الناجية، خاصةً وأن ما يُطلَق عليه اسم الفِرق الخارجة على الإسلام هي نفسها الفِرق التي أُطلقَ عليها أهل الأهواء، ولكن أكثر غلوًّا وتطرُّفًا.٦٨ وهل يجوز إصدار حكم شرعي مثل الخروج على الأمة من منظورٍ عقائدي؟ أليست الأمة وحدة عمل قبل أن تكون وحدة نظر؟ إن الحكم على باقي الفِرق بالانحراف عن النمط حكمٌ صوري خالص يُغفِل الوظيفة الاجتماعية التي أدَّتها هذه الفِرق كرد فِعل على الأوضاع الاجتماعية، كما هو الحال في رد الفعل الاعتزالي لإثبات التنزيه ضد التأليه والتجسيم، وفي إثبات خلق الأفعال ضد الجبرية، وكرد فِعل الخوارج ضد التوسط بين الحق والباطل، والفصل بين الإيمان والعمل، بل إن رد الفعل هذا هو الذي حفظ لوحدة الفكر مسارها وشواهدها، وإن كانت مُعلَنة من فِرقٍ مختلفة، وهو الذي حفظ التوازن بين تعدُّد المذاهب. هو شاهدٌ تاريخي على استحالة ضياع الوحدة الفكرية للأمة وتوازنها، وعدم إسقاطها على جانبٍ دون جانب حتى لا تكون أمَّةً عوراء.٦٩

إن توجيه الوقائع بأفكارٍ مسبقة مُنافٍ للبحث التاريخي الموضوعي، خاصةً لو كانت أفكارًا خاطئة وليست أولياتٍ بديهيةً أو أفكارًا صحيحة، وهي في هذه الحالة حالة في الشعور يتَّجه بها الشعور نحو موضوعه دون توجيه زائد فكري أو عملي. وحتى لو كان التوجيه الأيديولوجي ممكنًا فإنه يحتاج إلى منطق لضبطه واستعماله، والاطمئنان أولًا إلى أن الأيديولوجية علميةٌ مُطابقة للواقع وليست مُنافية له. والوحي الصحيح تاريخيًّا أيديولوجيةٌ علمية توجِّه الشعور طبقًا لطبيعته؛ فالحياة موقف، والتاريخ رؤية ولو لا شعورية؛ وبالتالي يحمي الوحي الشعور من مَخاطر ثلاث؛ الحياد الأقرب إلى التعايش والتكسب بالعلم والكتب المقرَّرة، وهو ما يُفيد تراث السلطة ما دام الفكر قد تحوَّل إلى كسب، والعمل إلى مصلحة. الحياد الذي يُخفي هوى صاحبه، والذي يكون إما مع تراث السلطة أو تراث المعارضة، الانتصار إما لتراث السلطة أو لتراث المعارضة، وهو ما حدث في تدوين تاريخ الفِرق. لا بد إذن من إثبات أن عقائد الفرقة الناجية أولًا هي مِعيار الفكر ومِثاله، وأنها تمثُّل لوحدة الفكر، وأن فكرها مُطابق للواقع، وأنها أكثر صدقًا من أفكار الفِرق. وما العمل لو ادَّعت كل فرقة أنها الفرقة الناجية، وتنتهي الأمة إلى التشتُّت وإلى التكفير المتبادل، ويُقضى على وحدة الأمة ووحدة فكرها إلى الأبد؟ وقد حدث ذلك بالفعل في تاريخ الفِرق، وترسَّب في وعينا القومي، وكانت له آثارٌ سلبية على وحدة الأمة. وما الضامن لصحة الفكرة الموجَّهة تاريخيًّا؟ ماذا يحدث لو كانت الفكرة الموجهة غير صحيحة تاريخيًّا؟ عندئذٍ يتحول التاريخ كله إلى خطأ؛ لأن البحث يقوم على افتراضٍ خاطئ؛ فالتاريخ الموجَّه قائم أساسًا على افتراضٍ نظري مصدرُه الخبر؛ أي التاريخ. فالتاريخ يحكم نفسه، ويؤرِّخ ذاته. وماذا يحدث لو اختارت كل فرقة مذهبَها كموجِّه للتاريخ، وأصبح لدينا عديد من التواريخ الموجَّهة، فيضيع النمط الفكري المعياري ويحلُّ الهوى؟

والأخطر من ذلك كله في التاريخ الموجه هو إدانة التاريخ والتطور والزمان كميدان خلق وإبداع، واتهام الفكر وزعزعة الثقة بالعقل، واعتبار قُوى الشر في العالم أكثر حسمًا من قُوى الخير؛ ومن ثَم لا يُقاومها إلا الإيمان بالله والإذعان للسلطان، نظرة تشاؤمية تؤدي في النهاية إلى التخدير التام. يقوم التاريخ الموجه على أن هذا المسار من الوحدة إلى الكثرة مسارٌ مرَضي، وليس مسارًا طبيعيًّا؛ وبالتالي لا بد من تصحيحه في أية حركة إصلاحية. فبعد أن وُجدت الجماعة الأولى ممثِّلة لوحدة الفكر ووحدة الفهم، تنشأ ظروفٌ جديدة ومواقف إنسانية مُتعددة تحدُث منها تفسيراتٌ جديدة تُعبر إما عن حق وعلم، أو هوًى وظن، حتى يبعد العهد بالوحدة الأولى، ثم تتفتَّت هذه الوحدة إلى اتجاهاتٍ تنتهي إما إلى العلمانية الخالصة مُمثلةً هذا التعدد الجديد، أو إلى السلفية الخالصة ممثلةً هذه الوحدة الأولى؛ ثم تنشأ دعوتان؛ الأولى تريد الابتعاد عن الوحدة الأولى، وتتكيَّف حسب تطوُّر الزمان والتاريخ؛ وأخرى سلفيةٌ تودُّ العودة إلى الوحدة الأولى مُتفاديةً الكثرة ولاغية للتشعُّب؛ ثم تصبح الجماعة حيرى بين هاتين الحركتين، ماضيها ومستقبلها، روحها وبدنها، تاريخها وحاضرها. وكلاهما مستحيل عملًا وواقعًا؛ لأن الوحدة الأولى في صورتها القديمة أصبحت أقلَّ اتساعًا من تشعُّب الواقع، وأضعف من قُواه المُتضاربة. ومع ذلك تستطيع أن تحويَ تشعُّب الواقع لو استطاعت أن تتجدد، وأن تحتوي على هذا التشعب في باطنها. وإذا تم ذلك باسم التشعب وباسم الجديد على حساب الوحدة الأولى، فإنه سرعان ما يتم حصاره بأخطبوط هذه الوحدة حتى يتم ابتلاعه كليةً داخلها. هذا العصر الأول الذي كانت فيه الوحدة قبل التشتت هو العصر الذهبي، وما تلاه انحراف وسقوط، سقوطٌ تاريخي وليس سقوطًا شخصيًّا. وليس هذا في الحقيقة وصفًا لتعدُّد الفكر، بل هو حكم على التاريخ وإدانة له باسم العصر الذهبي؛ مما يؤدي إلى الخروج على الواقع بعد الحكم عليه بالمروق. وهو يدل على يأس من التقدم إحساسًا بأن الأمة لا يمكنها الوصول إلى ما كانت عليه أولًا.٧٠ وكيف تكون الفِرق كلها هالكةً مُخطئة؟ كيف يمكن إدانة التاريخ كله؟ كيف يكون تاريخ البشرية كله تاريخ ضلال وخطأ وبهتان؟ إن الفِرق كلها عملٌ حضاري، كلٌّ منها تُعبر بموقفها الإنساني عن الوحي في لحظةٍ تاريخية معيَّنة، وفي وضعٍ إنساني خاص، ولمصلحةٍ اجتماعية لطبقة أو سلطة. وكلها اجتهادات، والاجتهاد ليس خطأً. والاجتهاد المؤدِّي إلى خطأ هو أيضًا اجتهادٌ صائب لتوافُر نية البحث عن الصواب. أليس للمُخطئ أجر، وللمُصيب أجران؟ والفرقة الناجية واحدة، هي البداية والنهاية. تضم الفِرق الأخرى وكأنها قوس حضاري فُتح ثم أُغلق إلى غير رجعة. دعواها تكرار النصوص وتقنين العقائد حتى تنتهيَ قصة الضلال، وتعود الإنسانية إلى الهداية، فتلحق بالوحدة الأولى التي فيها بدأت. وهي نظرةٌ صوفية خالصة، العودة إلى عالم الذَّر وإلى الوعي المطلق تجريدًا للنفس وتخليصًا لها. فيتمُّ فكُّ الارتباط بين الإنسان والعالم، ويُقضى على المعارضة من أساسها، ويتم الاستسلام نهائيًّا للسلطان. ومع ذلك فالعودة إلى الوحدة الأولى عمليةٌ مُستحيلةٌ مَيئوس منها، لا يمكن تحقيقها من جديد أو اللحاق بها قديمًا. تبدأ النظرية مُتفائلةً بالدخول إلى الواقع، وتنتهي مُتشائمةً بالخروج على الواقع، وتصبح الأمة كاليهود في عصر الشتات، ويكون ذلك إعلانًا ليوم القيامة، وينتهي حتى تفاؤل الأُخرويات وقتل المسيح ابن مريم المسيحَ الدجَّال.٧١
إذا كان التاريخ إملاءً من الفكر على التاريخ، وثناءً على قمَّته في الوحدة الأولى التي سارت في خطٍّ مُنحدر دون إمكانية الرجوع إليها بعد أن فسدت العقول، وساءت النيَّات، وعم التأويل، وضعف الإيمان، وتشعَّبت المصالح، وسادت الأهواء، وتشتَّت الجمع، وإذا كان أيضًا رفضًا لهذا التشتُّت باعتباره مسارًا طبيعيًّا تنشأ منه الحضارة، وتظهر فيه العلمانية التي هي التطور الطبيعي للظواهر الدينية، حيث يفرض الواقع تشريعاته ويصبح هو المُشرِّع الأول والأخير، إذا كان التاريخ الموجه هو كذلك، فإن الرجوع إلى الوحدة يُعبر عن موقفٍ نفسي يكشف عن بنيةٍ محدَّدة. فهو عاطفة تطهُّر وليس تصورًا علميًّا للتاريخ، يأنف من الموقف الإنساني، ومما قد يُحرك التاريخ من حيلة وخداع وسوء نية ومصلحة وهوًى، ولا يرضى إلا بالعامل الخلقي كمُحركٍ أول وأوحد للتاريخ. كما يكشف عن ثنائيةٍ مُتعارضة بين الكمال والنقص تدل على حربٍ نفسية داخلية تظهر في التعارض بين الطرفين، وما ينتج عن ذلك من تعصب وحَميَّة، أو نفاق وازدواجية. كما يدل هذا التعارض على نقص في الوعي بالموقف، وعلى عجز في تغيير الواقع. وهو إدانة للواقع كله لدرجة سوء المعاملة والسب، واتهام الواقع كله بالعجز والكفر والعصيان والخروج؛ أي إنه حكم بالكلمة وليس تغييرًا بالفعل. وهو ادِّعاء وإعلان عن الذات أكثر منه رغبةً في تغيير الواقع، إعلان الذات عن تمثُّلها للوحدة الأولى الضائعة من أجل سلطة أو صدارة أو تسلط. وهو عجز عن الدخول في الواقع والعيش معه، والتعرف على بنائه على نحوٍ علمي، وتحليله تحليلًا عقليًّا هادئًا. وهو عَودٌ على بدءٍ يصيغ قواعد للعقائد Credo هي نفسها موضوع الخلاف، عود إلى الصفر، إلى نقطة الخلاف الأولى. والخلاف ضروري لا مَهرب منه؛ لأنه عمل العقل في النص. وأخيرًا يؤيِّده فقهاء السلطان باسم الله وبمباركة السلطان، ما دام يجمع الأمة على العودة إلى الماضي تاركين الحاضر لأهله.
ولا يعني نقد التاريخ الموجه أيَّ قضاء على النمطية والمعيارية والأفكار الموجهة، بل يعني توحيد الجهود وإفساح المجال للاجتهاد النظري ضد القطيعة والمذهبية؛ فالاجتهاد الفكري القائم على تحليل الواقع، لا الدفاع عن المصالح الشخصية لأصحاب السلطة، أو لأوضاعٍ طبقية، هو السبيل لتصورِ تاريخٍ مِعياري، وفي الوقت نفسه عريض يجمع الاتجاهات المُتعددة، ويُعيد إليها وحدتها الفكرية الأولى مُستقراةً هذه المرة من واقع الأمة ومن وحدتها الوطنية؛ ومن ثَم تنتهي الوصاية من الفرقة الناجية على الفِرق الضالة، وينتهي تكفير مذهب واحد لباقي المذاهب. فوحدة الفكر لا تعني القضاء على تعدُّده، وتعدُّد الفكر لا يعني القضاء على وحدته. وإذا كان تاريخ الفِرق هو تاريخ الصراع السياسي، فما أسهل تكفير الحزب الحاكم لأحزاب المعارضة، ثم تكفير أحزاب المعارضة بعضها للبعض حتى يتم القضاء نهائيًّا على الوحدة الوطنية. ويزداد الأمر صعوبةً إذا كان التشتُّت النظري والعملي مصدره من الخارج نقلًا من مذاهب وافدة من حضاراتٍ أخرى وبيئاتٍ ثقافية مُجاورة، حينئذٍ تكون العودة إلى الوحدة الأولى حركةً رافضة لهذا التشتت الوافد من أجل بعث تعدُّدية من داخل الوحدة وليس من خارجها. فوحدة الفكر لا تمنع من تعدُّد النظر، وتعدُّد النظر لا يمنع من وحدة العمل. ليس المهم هو صك براءة لنجاة فرقة أو جماعة، أو حتى صدق الفكر الذي تُمثله، والعقائد التي تصوغها، إنما نجاة الواقع وتحقيق مُتطلباته، وفي مقدمتها الاستقلال ضد الاحتلال، والتحرُّر ضد القهر والتسلط، والمساواة ضد الظلم الاجتماعي، والوحدة ضد التجزئة، والتنمية في مُواجهة التخلف، والهُوية في مقابل التغريب، وتجنيد الجماهير في مواجهة السلبية واللامُبالاة. وكيف تُكتَب النجاة لجماعةٍ واقعُها مِثل واقعنا الحالي؟ وماذا تكسب الجماعة لو كُتبت لها النجاة والسلامة وهي مُحتلةٌ مقهورة يأكل فيها الغني أموال الفقير، مجزَّأة مُغتربة مُتخلفة، ويُعيبها الفتور؟ لا تعني الفرقة الناجية جماعةً معيَّنة من الناس دون غيرهم، بل تعني التيَّار الأساسي في الفكر الذي يجمع بين الفكر والواقع، بين الثابت والمُتحول، بين القديم والجديد. ولا يعني ذلك أن الوسط ضد الأطراف، بل يعني أنه هو العملية الأكثر علميةً في النظر إلى الواقع، والجمع بين كل مُكوناته، واستخدام كل طاقاته. ولا تعني الفِرق الضالَّة أنها هالكةٌ خاطئة مُدانة، بل قد تكشف عن الوجه الآخر الذي حاولت الفرقة الناجية تغطيته. وإنَّ فكر المعارضة لَأكثرُ دلالةً من فكر السلطة؛ فثورة الفكر على العقائد والمؤسَّسات لها ما يُبررها في التاريخ، وأكثر إثراءً للفكر وإبقاءً على حيويته وخصوبته؛ إذ إنه فكرٌ مُنتِج خلَّاق مُبدِع، حتى ولو كان بخلق المقابل والضد. لا توجد فرقةٌ ناجية وأخرى هالكة، بل كل فرقة إنما تُعبر عن موقفٍ سياسي، وتتسلح بسلاح العقيدة وتصوغها طبقًا لأهدافها. التكفير خروج على الدين والعلم معًا. كلُّ نظريةٍ اجتهاد، وكلُّ اجتهادٍ شرعي، وكل فهم مقبولٌ ما دام مؤيَّدًا بالدليل، ومن قال لأخيه «أنت كفر» فقد باء بها.٧٢ وإذا كان من الهجوم والدفاع بدٌّ فلم تعُد المادة الكلامية القديمة وحدها مصدر الخطر إلا بقدر ما ترسَّب منها في الوعي القومي، ولكن أصبحت أيضًا المادة الكلامية الجديدة الواردة من الحضارة الغربية وتترسب في أذهان المثقَّفين؛ لذلك يقوم علم الكلام في الحركات الإصلاحية الحديثة بمهمتين؛ الأولى تصفية القديم، والثانية الرد على الشبهات الجديدة الواردة من الحضارات المعاصرة.٧٣

(٢-٣) الإحصاء العددي

هل يمكن الاعتماد على التاريخ الموجه لإحصاء الفِرق؟ وإلى أي حد يتَّفق هذا الإحصاء الموجه مع الموضوعية التاريخية؟ تتَّسم الفكرة الموجهة أحيانًا بعدم الاطراد؛ فهي مرةً تُعدد الفِرق وتُحدد الفرقة الناجية على وجه العموم؛ مما يُتيح لكل فرقة اعتبارَ نفسها الفرقة الناجية، وتصنيف الفِرق المعارضة على أنها الفِرق الضالة.٧٤ ومرةً أخرى تُحدد الفكرة الموجهة الفرقة الناجية وتُبين أوصافها، بل وتُعين طريقها، وتذكُر اسمها؛ مما يُوحي بأن الفكرة الموجهة على هذا النحو هي مِن وضع الفرقة الناجية. فإذا صعُب ضبط العدد والإحصاء تاريخيًّا فإنه يُلجأ إلى العقل الخالص؛ فالعقل هو وسيلة وضع الحقائق وإثباتها. وإجماع العقول على قوانين ثابتة مثل مبادئ الهُوية وعدم التناقض والثالث المرفوع، مبادئ عقلية خالصة أقرَّ بها السمع! والفكر الموجه هو الفكر النمطي الذي لا يمكن تصالُحه أو تواطؤه مع أي فكر آخر، وهو في الوقت نفسه المِقياس والمِعيار والمحك.٧٥ تتحدد الفرقة الناجية إذن ويتعين الصواب عقلًا؛ وبالتالي ترجع الفرقة إلى وحدةٍ يُصدقها العقل. فإذا كانت الوحدة الأولى التي قدَّمها الوحي قد تشعَّبت بفعل المواقف الإنسانية المُتشعبة والاتجاهات المُتعارضة، فإن ذلك كله يرجع إلى وحدةٍ ثانية يصنعها العقل.
فإذا كان علم الكلام هو تاريخًا للفِرق من أول الخلق حتى الآن، فكيف يمكن حسابها وإحصاؤها وعدُّها؟٧٦ هنا يتدخل رمز العدد كما تدخَّل من قبلُ رمز العصيان في تصنيف المادة الكلامية، سواء من حيث الفِرق أو الموضوعات. وغالبًا ما يكون العدد سبعة، وهو العدد الرمزي المعروف في الديانات الشرقية القديمة؛ فالنظرية الرياضية تحكم المادة الكلامية وتضبطها، وتُعطيها نوعًا من العقلانية والإدراك، والحصر الحسابي طريق للحصر الكلامي، وفلسفة الحساب قادرة على أن تكون أساس فلسفة الإحصاء؛ وبالتالي يجتمع العقل والخيال لضبط مسار التاريخ.٧٧ وباللجوء إلى الحساب، وهو الأمر الصوري الخالص، يأمن الكاتب ظهور أجنبيَّته وأعجميَّته في العلوم الدينية العقلية. كما أن ميزته ضبط الأفكار وعدُّها، وعدم الوقوع في الحشو والاستطراد، وترك الحواشي على الرسم المعهود، وهو تاريخ وتوجيه، يُعطي القسمة ويُحدد مسار الفكر. وقد يجتمع علم الحساب وعلم الكتابة في وضع خطة البحث.٧٨ وتكون النظرية العقلية مُنتجةً إذا استطاعت إيجاد الدلالة لمضمونها، وهي المادة الكلامية. أما إذا كانت مجرد تحصيل حاصل تجعل من صورتها مضمونها، فإنها لا تُنتج شيئًا. حينئذٍ يُحال إلى علم العدد كعلمٍ مستقل. وأحيانًا يتدخل العدد للتحديد الكمي للأبواب والفصول.٧٩
والفكرة الموجهة ليست مضبوطةً دائمًا؛ فقد تُشير إلى فِرق الديانات الأخرى. المجوس ستفترق إلى سبعين، واليهود إلى إحدى وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، والمسلمون إلى ثلاث وسبعين، حتى تكتمل صورة الوحي في كل مراحله. وقد تُشير إلى المسلمين فقط اكتفاءً بالوحي في آخر مرحلة. فإذا أشارت إلى الديانات السابقة، فهل هذا العدد واقع بالفعل أم أنه مجرد افتراض عقلي أو محض خيال؟ إن إظهار الترتيب على هذا النحو التصاعدي يُوحي بالارتقاء والتطور والزيادة المفتعَلة حسابيًّا.٨٠ وهي في الحقيقة ليست زيادة؛ لأن الفرقة الزائدة هي الدين الجديد. فاليهود هم المجوس السبعون بالإضافة إلى اليهود، والنصارى هم المجوس السبعون بالإضافة إلى اليهود والنصارى، والمسلمون هم المجوس السبعون بالإضافة إلى اليهود والنصارى والمسلمين. فالأساس هو العدد سبعون، ولماذا يكون الارتقاء بزيادة فرقة واحدة؟ وهل الفترة الزمانية بين المجوس واليهود أو بين اليهود والنصارى أو بين النصارى والمسلمين لا تسمح إلا بزيادة فرقة واحدة، وهي في النهاية الجديد، أي لا زيادة بالمرة؟ وهل خلاف المسلمين مثل خلاف الأمم السابقة، المجوس واليهود والنصارى، وقد أتى الإسلام لحسم الخلاف بين المِلل، والتركيز على وحدة الأمة الشبيهة بوحدانية الله؟ أليس المسلمون أولى بقلة الخلاف؟ وكيف يوضع المجوس مع ديانات إبراهيم الثلاث، خاصةً وأنها لا تعيش في الوجدان القومي مثل اليهودية والنصرانية؟ هل يكون ذلك أُسوةً بالفقه، وبأنهم مثل أهل الكتاب؟ وإذا كانت هناك صِيغٌ بها المسلمون وحدهم، فإن إدخال المقارنة مع الأمم السابقة على هذا النحو التصاعدي الذي يُوحي بالتقدم، وإن كان في الخلاف، يُلهب الخيال، ويجعل الحديث أكثر إغراءً من حيث التنبؤ والترتيب والإيقاع والموسيقى. وهناك أحاديث نمطية أخرى تضع المراحل السابقة للنبوة في رؤيةٍ واحدة؛ اليهود إلى منتصف النهار، والنصارى حتى العصر، والمسلمون حتى العشاء.
وتزداد الصعوبة عندما يتمُّ الانتقال من مستوى الخيال العددي إلى مستوى الواقع الإحصائي. هل حدث إحصاءٌ تاريخي، وانتهى إلى هذه الأعداد الدقيقة، سبعون، وواحد وسبعون، واثنان وسبعون، وثلاثة وسبعون، كأفضل ما يكون عليه القانون الطبيعي من حيث الدقة والرتابة والانتظام، أم أنه مجرد تحقيق الخيال العددي في الواقع عن طريق الانتقاء والاختيار؟ وبلغةِ المنطق، هل الإحصاء استقرائي أم استنباطي؟ هل هو إحصاء للفِرق الماضية أم الحاضرة أم المستقبلة؟ وكيف يكون الاستقراء لفترةٍ معيَّنة في التاريخ؟ ومن الذي قام به، واحد أم مجموعة للأمم الأربعة في كل العصور؟ وماذا عن تاريخ الفِرق اللاحق على الفكرة الموجهة؟ هل هو استقراءٌ علمي للماضي أو الحاضر أم نبوءة للمستقبل؟ صحيحٌ أنه يمكن القول بأن الفِرق السابقة على الفكرة الموجهة أنماطٌ مثالية تتكرر في كل عصر، وأن العدد المُعطى حوى هذه الأنماط كلها سابقًا ولاحقًا. ولكن هذا القول يقتضي أولًا حصر هذه الأنماط وجعلها ميسورة؛ فالأنماط التي تبلغ السبعين لا يمكن وعيها، كما تقتضي ثانيًا إرجاع كل الفِرق اللاحقة إلى الأنماط السابقة. وهذه خطورةٌ كبرى؛ فقد لا يحدث اتفاق بين الفِرق اللاحقة ونمطها السابق، وقد يُغفَل أحد أوجه الاختلاف ويُظَن أنه تشابه.٨١ وكيف يظل العدد كما هو لا يزيد ولا ينقص في كل زمان؟ وكيف يمكن توجيه التاريخ في المستقبل بأفكارٍ موجهة أخرى تُشير إلى المستقبل وتُحدد مساره، كما هو الحال في أحاديث المهدي المنتظر وفي حديث المُجددين؟ والأفكار الخاصة بالمهدي تظهر عادةً في المجتمع المضطهَد، كما هو الحال في المجتمع الشيعي، تُساعد على ظهوره خاصةً إذا عيَّنت الفكرة المهديَّ بالوصف أو بالرسم أو بالاسم.٨٢ وشتَّان ما بين الرؤيتين؛ الفكرة الموجهة تشاؤميةٌ تقول بحتمية الاختلاف والشقاق، بينما الفكرة المهدويَّة تفاؤليةٌ تقول بحتمية الخلاص والنجاة.٨٣ وهربًا من عدم تطابق العدد المحدَّد نظريًّا مع الإحصاء التاريخي، يكون التمييز بين الأصول الثابتة التي تُطابق العدد والفروع المُتغيرة التي لا حصر لها، وهي قسمة من أصول الفقه في التمييز في الاجتهاد بين الأصول والفروع. ولكن حتى في هذه الحال، هل تظلُّ الأصول كما هي؟ ألا تتغير بتغيُّر التاريخ؟ هل يظلُّ عدد الفِرق كما هو ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا؟ قد يستطيع الفكر في زمنٍ معيَّنٍ أن يصل إلى كل الأنماط المُمكنة، وكل الاختيارات البشرية، وكل ما يأتي بعد ذلك يدخل تحت هذه الأنماط؛ وبالتالي لن يأتي التاريخ بنمطٍ جديد، وكل ما سيقع في المستقبل سيجد له نمطًا في الماضي؛ فالتطور يدخل في البناء، والواقع يحكمه الفكر. ومع ذلك يمكن الرجوع إلى وحدة الفكر دون إدانة للتعدُّد وتكفير للفِرق، وهي قُوًى اجتماعية وتيَّاراتٌ سياسية لا يمكن ضربها والقضاء عليها بإخراجها من الجماعة. وماذا عن الحضارات المُجاورة التي دخلت الحضارة الأصلية وأصبحت جزءًا منها؟ هل تدخل ضِمن الفِرق المُحصاة؟ إن معظم المذاهب الوافدة كان لها مُمثلوها داخل الحضارة الجديدة باعتبارها وارثة للحضارات السابقة. وأحيانًا يتمُّ إحصاء الفِرق ليس فقط عند البشر، بل أيضًا عند الجن؛ أي عند أمم أخرى؛ أي في مظاهر حياة في كواكب أخرى؛ فالإنس شامل للجن! وإذا استحال حصر فِرق الأنس، فالأولى استحالة حصر كل تفرُّق وتشتُّت في الكائنات الحية. وهل يوجد مكلَّفون عاقلون خارج الإنس؟ ولماذا لم تُحصَ فِرق المجوس واليهود والنصارى؟ قد يكون الدافع إلى ذلك عدم وجود صراع على السلطة في هذه الفِرق بعكس المسلمين؛ مما يوحي بأن إحصاء الفِرق والحكم بهلاكها إلا واحدة إنما هو في جوهره صراعٌ سياسي بين السلطة والمعارضة. أما إحصاء الفِرق في سبعين، فهو أحد مشتقَّات العدد سبعة، وهو عددٌ رمزي في تاريخ أديان الشرق، سبعون شيخًا ترجموا التوراة السبعينية، سبعون تلميذًا للمسيح، السبع فواتح في كتاب الإعلان في العهد الجديد، سبعون مرة للاستغفار، الحروف السبع للقرآن، الأئمة السبعة. بل يُشير العدد أيضًا إلى ظواهر طبيعية تتفق مع الظواهر الروحية، مثل الأيام السبعة والسموات السبع والأرضين السبعة … إلخ. وقد لا يعني العدد الضبط الإحصائي بقدر ما يعني التعدد.٨٤ وفي النهاية يرفض بعض المُتكلمين الأفكار الموجهة لحوادث التاريخ، وآثروا القيام بتاريخٍ فكري خالص دون التنكر لوحدة الفكر كوحدةٍ نمطية يتمُّ الانحراف عنها والتشتت فيها.٨٥
وبالرغم من التعسف النظري في اختيار عدد الفِرق، فقد جاءت كل المحاولات لإحصائها تتفق مع هذا العدد السبعيني بطريقة أو بأخرى. وحتى يكتمل العدد تدخل الفِرق غير الإسلامية أحيانًا مع الفِرق الإسلامية، أو للتمويه على أن إحصاء الفِرق أمرٌ تاريخي خالص، وليس لتكفير المعارضة باسم فرقة السلطان.٨٦  وأحيانًا توضع فِرقٌ أخرى غير كلامية مثل الحكماء والصوفية، إما مع الفِرق غير الإسلامية أو مع الفِرق الإسلامية. وكيف يمكن لعلم أصول الدين أن يرصد جميع المذاهب والفِرق خارج الحضارة الإسلامية، وأن يقوم بمهمة تاريخ علم للأديان؟ يمكن ذلك بالاقتصار على الأصول دون الفروع، وعلى أمهات المذاهب لا المقالات، وتصنيف الفِرق غير الإسلامية حسب الأهمية دون مُراعاة لترتيبٍ زماني أو موضوعي.٨٧
ولما استحال عرض ثلاث وسبعين فرقة، فكان لا بد من تجميعها في فِرقٍ كبرى وفِرقٍ صغرى، أو أمهات الفِرق وصغار الفِرق، أو أصول الفِرق ثم فروع الفِرق. ويقلُّ التجميع والتصنيف ابتداءً من عشر فِرق؛ العشرة فالثمانية فالسبعة فالخمسة فالأربعة، وهو الحد الأدنى لتصنيف أمهات الفِرق أو الفِرق الكبرى أو أصول الفِرق. والحقيقة أنه يمكن رد الفِرق كلها ابتداءً من الثلاث وسبعين فرقة حتى الأربع الكبرى إلى أربع فِرق رئيسية؛ ثلاثة منها تُمثل المعارضة؛ المعارضة السرية في الداخل (الشيعة)، والمعارضة العلنية في الخارج (الخوارج)، والمعارضة العلنية في الداخل (المعتزلة)، والرابعة هي فرقة السلطان. تضمُّ فِرق المعارضة الثلاث إذن الاثنتين وسبعين فرقةً الهالكة، بينما تضم فرقة السلطان فرقةً واحدة هي الفرقة الناجية.٨٨ فهل يُعقَل أن تكون فِرق المعارضة بمثل هذه الكثرة وكلها هالكة، وتكون فرقة السلطان بهذه القلة وهي الوحيدة الناجية؟ وأين الصراع على السلطة داخل فرقة السلطان؟ وأين الخلاف في الرأي بين الفِرق الصغرى في الفرقة الناجية؟ وأين الاتفاق في الرأي بين الفِرق الضالة؟ ومعروفٌ أن المعارضة العلنية في الداخل (المعتزلة) هي التي وضعت الأصول العامة في التوحيد والعدل، والتي اعتمدت عليها باقي فِرق المعارضة الأخرى؛ السرية في الداخل (الشيعة)، والعلنية في الخارج (الخوارج). فِرق الأمة إذن أربعٌ على المستوى نفسه دون هلاك أو نجاة.٨٩ وهي أمهات الفِرق التي تنتظم بعد ذلك الفِرق الثلاث وسبعين جمعًا وطرحًا وضربًا وقسمة.٩٠ والحقيقة أن كل هذه الفِرق الصغيرة لا تهمُّ تاريخيًّا بقدر ما تهمُّ لإكمال العدد. حتى ولو وُجدت تاريخيًّا، فما الفائدة من ذكر فِرق انقضى عهدها وانقرض أنصارها؟ وكلها أسماء أعلام أكثر منها موضوعات؛ مما يدل على ربط الفِرق بأشخاص أصحابها، وكأنها خلافاتٌ شخصية. ولا يمكن حفظها أو استرجاعها أو حتى استعمالها. وهل القصد تشويه وحدة الأمة وبيان خلافاتها حتى يهرع الناس إلى الفرقة الناجية طلبًا للوحدة والأمان؟ والعقائد مجرد سلاح في يد الخصوم تكشف عما تحتها، وهو الصراع السياسي بين القوى السياسية المختلفة بين المعارضة والسلطة. معركة الصراع في الحقيقة هي معركةٌ اجتماعية سياسية، خصومات أهواء وصراع مصالح. للعقائد ظهر وبطن؛ ظهرها الدين، وباطنها السياسة؛ ظاهرها الله، وباطنها العالم.٩١

(٣) من التفرق إلى الوحدة

إذا كان المسار الأول للتاريخ الفكري من الوحدة إلى التفرق عند القدماء، فإن المسار الثاني له يمكن أن يكون من التفرق إلى الوحدة عند جيلنا. فالفِرق الثلاث وسبعون يمكن ردُّها إلى ما هو أقل منها إلى فِرقٍ كبرى أربع هي فِرق المعارضة الثلاث وفرقة السلطان؛ أي الصراع بين المعارضة والسلطة في مجتمعٍ واحد. فالوحدة قائمة، وحدة الصراع بين القُوى الاجتماعية، يرتكز كلٌّ منها على أصولٍ عقائدية يمكن أن تكون بؤرة توحيد جديدة تختلف عليها الفِرق. فبدلًا من أن تكون الوحدة علةً فاعلة في البداية، والتفرق علةً غائية في النهاية كما هو الحال عند القدماء، يكون التفرق هو العلة الفاعلة، والوحدة هي العلة الغائية في عصرنا.

(٣-١) الشعور البنائي (المذهبي)

تكشف الفِرق الأربع، ثلاث للمعارضة وواحدة للسلطة، عن وجود موضوعات للخلاف أو عقائد يتم عليها التفرق، كل فرقة حسب موقفها السياسي. فالمعارضة السرية في الداخل تقول بالحلول، ويتم تكفيرها دينيًّا كستار للإبعاد السياسي. والمعارضة العلنية في الخارج يصعب تكفيرها دينيًّا لقولها بأصلَي التوحيد والعدل، وهما اليقين في الإلهيات، فلا مَفرَّ من تكفيرها سياسيًّا بدعوى الخروج على السلطان. والمعارضة العلنية في الداخل يصعب تكفيرها دينيًّا لقولها بالأصول الخمسة كفكر للمعارضة؛ لذلك يتم تكفيرها دينيًّا وسياسيًّا، ويظل التكفير السياسي أقوى. وتظل المعارضة العلنية في الخارج والداخل عن طريق أصلَي التوحيد والعدل أقوى من المعارضة السرية في الداخل عن طريق الإمامة. وفرقة السلطان أيضًا يسهُل تكفيرها من الفقهاء لفصلها الإيمان عن العمل.٩٢
وكثير من فِرق المعارضة الفرعية تقرب من فرقة السلطان؛ مما يدل على أن جذور الفرقة الناجية عند الفِرق الضالة، وأن جذور الفرقة الضالة في الفرقة الناجية. إذا هلكت المعارضة هلكت السلطة معها، وإن نجت السلطة نجت المعارضة معها.٩٣ فكل فرقة تُمثل عقيدة ومذهبًا وفكرًا، سواءٌ كانت المعارضة سرية، أم علنية في الداخل أم في الخارج، أو كانت للسلطة. وتُمثل الفِرق بصرف النظر عن كونها فِرقًا تاريخية خالصة، تياراتٍ فكريةً واتجاهاتٍ نظريةً يمكن تحديد أصولها وتحويلها إلى تصوراتٍ مختلفة للعالم، أو مناهج حياة، أو نُظُم اجتماعية وسياسية. كل فرقة حوَّلت الوحي إلى مذهبٍ نتيجةً لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية.

فالفرقتان الكبيرتان اليوم، السنة والشيعة، كلٌّ منهما يُمثل اتجاهًا فكريًّا من التوحيد حتى الإمامة، في الله وفي الطبيعة، في الإنسان وفي المجتمع. فبينما تقول الشيعة في التوحيد بالتأليه أو التجسيم، تقول السنة بالتشبيه أو التنزيه. وبينما تقول الشيعة بالفيض، وبأن الفَرق بين الروح والمادة هو فرق في الدرجة لا في النوع، تقول أهل السنة بالخلق، وأن الفَرق بين الروح والمادة فرق في النوع لا فرق في الدرجة. وفي الإنسان بينما تقول الشيعة بوجود حقائق الوحي في القلب، ويمكن العثور عليها بالتأويل، فإن استعصى التأويل فتقليد الإمام، يُثبت السنة بديهيات العقول، ووضوح النصوص، واجتهادًا في فهمها. وبينما ترى الشيعة أن نموذج السلوك الأمثل هو الطاعة والانقياد وتنفيذ تعاليم الإمام، ترى السنة أن نموذج السلوك الأمثل هو الفعل الحر والعمل المسئول. وبينما ترى الشيعة أن الإيمان مُكتفٍ بذاته، وأنه إيمان بحب آل البيت، ترى السنة أن الإيمان قول وعمل، وأن لا وجود للإيمان إلا بالعمل. وبينما تقول الشيعة بوحدة الأديان، ولا ترى ضيرًا في الاستعانة بمراحل الوحي السابقة، أو الإلهام اللاحق الذي يكشف عنه الأئمة، يقول السنة باكتمال الوحي وانتهائه بانقطاع الرسل. وبينما تقول الشيعة بتعيين الإمام، تقول السنة بالشورى وبالبيعة العامة. وبصرف النظر عن الفروق في الدرجة في هذا التقابل عند كل فريق، وعلى فرض صحة هذا التقابل كاختيارٍ فكري، فإنه نظرًا لتغيُّر الظروف الاجتماعية لكلٍّ منهما عبر التاريخ، فقد انقلب الاختيار. فقد لا يقلُّ السنة تجسيمًا وتشبيهًا بل وتأليهًا من الشيعة، ولا يقلُّ الشيعة تنزيهًا عن السنة. وقد لا يقلُّ أهل السنة تأويلًا من الشيعة، ولا يقلُّ الشيعة حرفيةً من السنة. وليس السنة أقل طاعة من الشيعة، في حين أن الشيعة قادرون على المعارضة والثورة. كما أصبح الإيمان عند السنة مُكتفيًا بذاته، في حين أصبح عند الشيعة عملًا تاريخيًّا. وقد وقع السنة في الروحانية، وضاع لديها الفصل بين الروح والمادة، وأصبح الشيعة أكثر فصلًا بينهما من السنة. كما أصبحت السنة أكثر مُوالاةً للنصارى واليهود من الشيعة، يقومون بتعيين الإمام وراثةً من العسكر، بينما تثور الشيعة على ملك الملوك. فالشعور المذهبي هو اختيارٌ عقائدي يكشف عن موقفٍ سياسي مُتغير من عصر إلى عصر؛ وبالتالي يكون أحد أبعاد الشعور التاريخي.

وفي داخل السنة هناك اختياران آخران؛ المعتزلة والأشاعرة، على طرفَي نقيض، المعارضة العقلية المُستنيرة والسلطة النصية القاهرة. وكل فرقة تُمثل مذهبًا مُتكاملًا، ابتداءً من التوحيد والخلق والبعث ونهاية العالم.٩٤ ففي التوحيد تُنكر المعتزلة الصفات حرصًا على التنزيه، وتُنكر كل صور التشبيه والتجسيم حتى ولو اضطرَّت إلى تأويل النصوص لإثبات معانيها العقلية. ولما أنكرت الصفات أثبتت حرية الإنسان؛ فالإنسان خالق أفعاله، ومسئول عن الخير والشر في العالم، وقادر على الأعمال. وفي النهاية يكون له ما قدَّم من خير أو شرٍّ دون وساطة أو شفاعة، ويكون الحكم بعد البعث وهو على وعي به وليس قبله. وكما رُفض التجسيم في البداية يُرفض في النهاية؛ فالثواب والعقاب خلقيان أكثر منهما ماديين؛ فالرضا عن الذات أفرح للنفس من الجزاء المادي، وتأنيب الضمير أوقع على النفس من العذاب الجسماني. أما الأشاعرة فتُمثل المذهب المُقابل؛ تثبت الصفات ولا ترى حرجًا في القول بالتشبيه، بل وبالتجسيم، حرصًا على حرفية النصوص. وما دامت الصفات مثبَتة فهي أيضًا فاعلة في العالم؛ فهي مسئولة عن كل ما يقع من الإنسان ومن الطبيعة من خير أو شر. وفي النهاية يبدأ الحساب الجسماني، والحكم على أفعال الإنسان، وتوقيع الجزاء المادي عليه ثوابًا أم عقابًا.
ونظرًا لغلبة المذهب على الفرقة، والموضوع على التاريخ، فقد عُرفت كل فرقة بالموضوع الذي اشتهرت به، وأصبحت الموضوعات عناوين لفِرق؛ فغلاة الشيعة يقولون جميعًا بالتأليه وبالتجسيم وبالتشبيه، وهو أحد الحلول لموضوع التوحيد، فإذا ذُكر التأليه أو التجسيم ذُكر غلاة الشيعة. وتقول المعتزلة بالتنزيه المطلق ونفي الصفات، فإذا قيل التنزيه أو نفي الصفات ذُكر المعتزلة. ويغلب على الخوارج والمرجئة موضوع الإيمان والعمل، فإذا ذُكر الموضوعان ذُكرت الفرقتان.٩٥ ويغلب على كل فرقة موضوعٌ أو أكثر؛ فمثلًا يغلب على الخوارج موضوعَا الإمامة والإيمان والعمل؛ مما يدل على الطابع العملي لفكر الفرقة، وليس الطابع النظري كما هو الحال في الذات والصفات أو الجبر والاختيار؛ لذلك أسَّست الفرقة فقهًا ونظَّمت تشريعًا. والأهم من ذلك كله هو انتظام الفِرق كلها في أصول بصرف النظر عن عددها. فإذا كانت الأصول أربعة؛ التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والإيمان والعمل؛ وكانت أمهات الفِرق أربعًا؛ الشيعة والخوارج والمعتزلة ومرجئة (أشاعرة)، ثلاثة للمعارضة وواحدة للسلطة؛ اختلفت الشيعة والمعتزلة في التوحيد، والمرجئة والخوارج في الإيمان والعمل، والمرجئة والمعتزلة في الوعد والوعيد، والشيعة والخوارج في الإمامة.٩٦ كل حل لمشكلة ليس قائمًا بذاته، بل يؤدي إلى حل المشكلة الأخرى بالطريقة نفسها؛ فإنكار الصفات يؤدي بالضرورة إلى ترك العالم مفتوحًا إلى فعل الإنسان وحرية اختياره، كما يؤدي بالضرورة إلى إعمال العقل وإثبات قوانين مطردة للطبيعة. أما إثبات الصفات فإنه يؤدي إلى إثبات فاعليتها في الطبيعة، ومزاحمة الفعل الإنساني ومشاركته، وإلى تصور الطبيعة ميدانًا للصفات المطلقة، والعقل واقفًا وراء النقل؛ أي نافيًا لاستقلال العقل والطبيعة.

(٣-٢) الشعور الجدلي (التاريخي)

يكشف الشعور المذهبي البنائي على أن الفِرق موضوعات، وأن الموضوعات أصول، وأن أمهات الفِرق تدخل في جدل بينها حول هذه الأصول؛ فالمعتزلة والشيعة على طرفَي نقيض في التوحيد، والشيعة والخوارج على طرفَي نقيض في الإمامة، والخوارج والمرجئة على طرفَي نقيض في الإيمان والعمل، والمعتزلة والمرجئة على طرفَي نقيض في الوعد والوعيد. ويستطيع الشعور الجدلي أن يصف التاريخ، وفي الوقت نفسه يُدرك دلالة المذهب، ويُبرز النسق العقائدي للفرقة، وذلك من خلال نشأة الفِرق وتوالدها بعضها عن البعض الآخر طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل؛ أي طبقًا للمنهج الجدلي القائم على التعارض والأضداد.٩٧ ولا يوجد منهجٌ مُحكَم في معظم المصنَّفات الكلامية لعرض تاريخ الفِرق. ويتأرجح معظمها بين تتبُّع النشأة الزمانية وبين عرض الموضوعات العقائدية، وإن كانت أقرب إلى المنهج الثاني؛ أي عرض الفِرق من خلال الموضوعات. ويختلف الترتيب الزماني والموضوعي حسب الموضوع؛ ففي الإمامة مثلًا تظهر الرافضة أولًا ثم يُناقضهم فيها الخوارج، في حين أنه في التوحيد تقول الرافضة أولًا بالتأليه أو التجسيم ثم يظهر المعتزلة ويقولون بالتنزيه.٩٨ وقد ينشأ رد الفعل على الفور إذا كانت عمليةً خالصة مِثل الإمامة، أو متأخرة إذا كانت نظريةً تحتاج إلى تفكير وتدبر مثل التوحيد. فبعد أن ظهر التأليه مُبكرًا للغاية في حياة علي لم يظهر توحيد المعتزلة ونفي الصفات إلا متأخرًا. وقد ظهرت الروافض بدعوى التأليه، فظهورهم هنا سابق على الخوارج فيما يتعلق بالتأليه، وقد حدث ذلك في حياة علي.٩٩ وفي هذا الجو العام من التوتر النفسي وجهل العرب، وشدة انتسابهم إلى الدعوات في عصر الدعوات، يمكن أن يكون عبد الله بن سبأ مُنشئ التأليه من خلفيَّاته الدينية القديمة. لم يكن العرب يعرفونه؛ إذ كانت الوثنية لديهم سطحية، بالإضافة إلى أنه يقوم على الإعجاب بالبطل في عصر البطولة وبين الأبطال. فالخوارج والشيعة نقيضان، وإن لم يخرج النقيض من النقيض زمانيًّا. نشأ الخوارج أولًا برفضهم إمامة علي، ثم نشأ الشيعة ثانيًا بعد مقتل علي وبنيه. فمن حيث موقعهم من علي هما نقيضان، وإن تولَّد أحدهما عن الآخر زمانيًّا.١٠٠
وينطبق قانون الفعل ورد الفعل أو قانون الجدل من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركَّب الموضوع، ليس فقط على تاريخ الفِرق وتوالُد بعضها من البعض الآخر، بل أيضًا على موضوعات العلم الرئيسية؛ إذ تُحلُّ المشكلة أولًا باختيار أحد النقيضين، ثم يأتي الحل الثاني بالنقيض، وأخيرًا يأتي الحل الثالث يُحاول الجمع بين النقيضين في وسطٍ مُتناسب مُتفاديًا الغلو والتطرف. يأتي الحل الأول في ظروفٍ نفسية واجتماعية معيَّنة، ثم يأتي نقيضه لإعادة التوازن، وإبراز ما خفي، إذ لا يقف أمام التطرف إلا تطرفٌ مُضاد، ثم يأتي الحل الثالث لإلغاء الطرفين ومحاولة استعادة التوازن الفكري. فمثلًا في نظرية الوجود (الطبيعيات) يقضي فريق على استقلال الطبيعة وعلى فعلها، ويجعل حركتها ومسارها من خارجها؛ فينشأ رد فِعل عند أصحاب الطبائع القائلين بالطباع، وأن فعل الطبيعة وحركتها من داخلها بفعل طبائع الأشياء؛ ثم يأتي فريقٌ ثالث يجمع بين النقيضين ويقول بالطبائع، ولكنه يجعلها مخلوقة.١٠١ وفي التوحيد يُعرَض التأليه أو التجسيم أو التشبيه من الشيعة، فينشأ رد الفعل من المعتزلة فيقترحون التنزيه لدرجة نفي الصفات، فالتعطيل أكبر رد فعل على التجسيم والتشبيه، ثم يأتي الحل الثالث الذي اقترحه الأشاعرة لإعادة التوازن الفكري، ويقترحون إثبات الصفات بلا تشبيه ولا تعطيل تفاديًا لتطرُّف النقيضين.١٠٢ وفي خلق الأفعال (الجبر والاختيار) يُعرَض الجبر المُطلَق أولًا، وتُثبَت الإرادة الإلهية المطلَقة، وتُنكَر حرية الاختيار؛ ثم ينشأ رد الفعل ويوضع النقيض، فتتأكَّد حرية الاختيار ومسئولية الإنسان المطلَقة عن أفعاله؛ ثم يأتي الحل الثالث للجمع بين النقيضين، ويُقال بالكسب وبخلق القدرة في زمان الاستطاعة.١٠٣ وأحيانًا تظهر القدرية وكأنها إثبات لدعوى نفي القدر وإثبات الاستطاعة.١٠٤ وقد تُضَم المسألتان، مرتكب الكبيرة والاختيار، في مسألةٍ واحدة هي الفعل أو السلوك. فإذا كانت المسألة هي الاختيار يكون إثبات الاختيار رد فعل على الجبر لا العكس.١٠٥ وفي العقل والنقل يُقال أولًا إن النقل مُكتفٍ بذاته ولا يحتاج إلى عملٍ عقلي يُخرج النص من مكانه، وتُقدم الحشوية الاقتراح؛ فينشأ رد الفعل ليجعل العقل أساس النقل، فإذا تعارض النقل مع العقل أُوِّل النقل لحساب العقل، ويُقدم المعتزلة هذا الرأي؛ ثم يأتي حلٌّ ثالث يجمع بين العقل والنقل، ويعرض اتفاق صحيح المنقول مع صريح المعقول ابتداءً.١٠٦ وفي الحسن والقبح العقليَّين يقول فريق بأن حسن الأشياء وقبحها من خارج الأشياء، وأن الأشياء لا تحتوي على صفاتٍ موضوعية كالحسن والقبح؛ ثم ينشأ رد الفعل بقول فريق آخر بأن حسن الأشياء أو قبحها من داخل الأشياء، وصفات موضوعية يُدركها العقل؛ ثم يأتي فريقٌ ثالث ليُحاول الجمع بين النقيضين، فيجعل حسن الأشياء وقبحها في الأشياء إلا الشرائع التي يكون حسنها أو قبحها من خارجها.١٠٧ وفي الوعد والوعيد يُثبت المعتزلة وجوب الثواب والعقاب طبقًا للأعمال، وينفي أهل السنة هذا الوجوب، ويجعلون كل شيء مرهونًا بمشيئة الإرادة المطلَقة، ويأتي فريقٌ ثالث ليقول بالوجوب الشرعي.١٠٨ وفي الإيمان والعمل يبدأ الخوارج والمرجئة على طرفَي نقيض. يُثبت الأولون العمل كمُعبِّرٍ وحيد عن الإيمان، وإلا فلا إيمان ويكون الكفر. ويُثبت الآخرون الإيمان مُكتفيًا بذاته دون عمل، ويكون الإيمان في غياب العمل. ثم تقترح المعتزلة المنزلة بين المنزلتين للجمع بين الحلَّين المُتعارضين، والإبقاء على جزء من الإيمان وجزء من العمل.١٠٩ نشأت المرجئة بدعوى الإرجاء في الإيمان؛ أي تأخير العمل على الإيمان كرد فِعل على الأحكام القاطعة التي صدرت وقت الفتنة على الناس بالإيمان والكفر والفسق، حيث تقطَّعت الرقاب من جرَّاء الحكم على أعمال الناس وجعل العمل مِقياس الإيمان والمُعبر عنه. فإذا كان الخوارج يُثبتون صلة الإيمان بالعمل، فإن المرجئة يُثبتون الإيمان دون العمل، ويجعلونه نظرًا ومعرفة. وإذا كانت الخوارج تحكُم على الناس بالكفر والإيمان، فإن المرجئة تُرجئ الحكم. وإذا كانت الخوارج ترى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فإن المرجئة ترى أن الإيمان يزيد وينقص. وإذا كانت الخوارج ترى أن الدار دار كفر وحرب، فإن المرجئة ترى أن الدار دار إيمان وسلام.١١٠ كما تظهر المعتزلة إثباتًا لدعوى المنزلة بين المنزلتين كدعوى مُناقضة للكفر أو للإيمان؛ ومن ثَم تُشارك الخوارج في الصلة بين الإيمان والعمل.١١١ وفي الإمامة يقول فريق بالتعيين وهم الشيعة، ثم يظهر رد الفعل عند فريق آخر في القول بالاختيار المطلَق وهم المعتزلة والخوارج، ثم يأتي فريقٌ ثالث يجمع بين التعيين والاختيار، ويجعل الأئمة من قريش، وهم أهل السنة والأشاعرة.
وكثيرًا ما يكون الجمع بين النقيضين أقرب إلى طرف منه إلى الطرف الآخر؛ فالطبائع المخلوقة أقرب إلى إنكار الطبائع منه إلى إثباتها، وإثبات الصفات أقرب إلى التشبيه منه إلى التنزيه، والكسب أقرب إلى الجبر منه إلى الاختيار، واتفاق النقل مع العقل أقرب إلى القول بأولوية النقل على العقل، والمنزلة بين المنزلتين أقرب إلى إيمان الأشاعرة منه إلى إيمان الخوارج، وجعل الأئمة من قريش أقرب إلى التعيين منه إلى الاختيار. وقد لا يبدو الوسط على الإطلاق نظرًا لأنه لا يُمثل شيئًا، وأن التعارض الفعلي هو بين الموضوع ونقيضه، فهما طرفَا الفكر، وهما الاتجاهان ولا ثالث لهما، ولا يُذكر الوسط على الإطلاق، وهما في الغالب المعتزلة والأشاعرة؛ ففي التوحيد هناك إثبات الصفات وإنكارها … إلخ.١١٢ ويظهر التعارض بين النقيضين دون وجود حل ثالث بينهما خاصةً في المسائل الصغرى؛ فالتعارض بين الطرفين أقوى من الجمع بينهما في طرفٍ ثالث، فتغيب المقولة الثالثة بتاتًا. ففي الحسن والقبح يظهر الطرفان المتناقضان: الحسن والقبح صفتان من خارج الأشياء، فالأشياء ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة. والحسن والقبح صفتان من داخل الأشياء، صفتان موضوعيتان في الأشياء يُدركها العقل. ولكن الطرف الثالث، وهو أن الحسن والقبح بناءان اجتماعيان، غائب تمامًا. وفي العقل والنقل أيضًا يبدو الطرفان المُتقابلان على أنهما النقل أساس العقل أو العقل أساس النقل، وإذا تم التوحيد بينهما فإنه يتم عن طريق التخصيص والاستثناء وإخراج ميدان الشرائع من العقليات. أما المقولة الثالثة، وهي الواقع، فهي غائبة بتاتًا. فالواقع هو أساس النقل والعقل على السواء؛ أي التطابق مع الواقع. وقد تظهر الحلول الثلاثة، النقيضان والجمع بينهما في لا زمان، تظهر جميعًا في وقتٍ واحد؛ مما يدل على أن الحلول الثلاثة نماذج دائمة للفكر، وأنه لا يعني ظهورها بالضرورة ظهور فرقة تاريخية مُتزامنة أو مُتتالية في الزمان لتمثيلها والتعبير عنها؛ فالقول بأن الإنسان بدن فقط أو روح فقط أو بدن وروح يظهر في الوقت نفسه وعند كل فرقة. وقد يظهر قانون الجدل داخل الفرقة الواحدة بين الغلاة والمعتدلين؛ مما يجعل الحد بين الفِرق صعبًا؛ فمُعتدلو الروافض مثلًا الزيدية مثلًا لا يبتعدون عن المعتزلة، وغلاة أهل السنة لا يبتعدون عن التجسيم والتشبيه عند الروافض.١١٣

ولا يكون فريق بعينه باستمرارٍ هو الممثِّل للفعل أو لرد الفعل أو للجمع بينهما، قد يكون فريقٌ هو صاحب الفعل مرة، وهو القائم برد الفعل مرةً ثانية، وهو الذي يجمع بين النقيضين مرةً ثالثة. ففي التوحيد الشيعةُ هم أصحاب الفعل بقولهم بالتأليه والتجسيم، وأصحاب الفعل أيضًا في الإمامة في قولهم بالتعيين، ولكنهم في العقل والنقل أصحاب رد الفعل في ممارستهم للتأويل كرد فِعل على الالتزام الحرفي بالنصوص، وفي كشفهم لميدان الشعور والعواطف والانفعالات ضد عالم العقل المجرد، وفي تركيزهم على الحلول كرد فِعل على المفارقة. والمعتزلة باستمرارٍ هم أصحاب رد الفعل؛ فهم القائلون بالتنزيه ضد التشبيه، والمُثبتون للحرية ضد الجبر، والمُثبتون للعقل ضد الحشوية، والقائلون بالشورى ضد التعيين، والقائلون بالطبائع ضد أهل السنة. ولكنهم يُحاولون أيضًا الجمع بين النقيضين في المنزلة بين المنزلتين. ولكن الغالب بأن الأشاعرة هم القائلون باستمرار بالجمع بين النقيضين؛ فهم يُمثلون أهل الوسط والاتزان. ففي الطبيعة يقولون بطبائع مخلوقة، وفي التوحيد يُثبتون الصفات بلا تشبيه ولا تعطيل، وفي الحرية يُثبتون الكسب وسطًا بين الجبر والاختيار، وفي العقل والنقل يوفِّقون بينهما دون إعطاء الأولوية لأحدهما على الآخر، وفي الإيمان والعمل يُحاولون الجمع بينهما دون الحكم بأحدهما على الآخر. وفي الإمامة يُحاولون الجمع بين التعيين بالنص والبيعة بالشورى بجعل الإمامة في قريش.

وبالرغم مما يُقال عن مُميزات الجمع بين النقيضين من فضائل الاتزان والاعتدال، والتعبير عن الأصول وعدم الانحراف عنها، واتِّباع الحق دون الهوى، والتعبير عن مصلحة الجماعة العامة دون ترجيح حق فئة على أخرى، فإن العيوب والمثالب أوضح وأكثر خطورةً وأشد ضررًا؛ فكثيرًا ما يتحدد الجمع بين النقيضين عن طريق النفي، مثل إثبات الصفات بلا تشبيه أو تعطيل، أو إثباتها بلا كيف. وهذا مُستحيل؛ لأن إثبات الصفات يقتضي وصف هذا الشيء المثبَت، والقول بأن الصفة لا توصف تهرُّب من الإشكال الأول. الاكتفاء بتحديد الفكر عن طريق النفي اتجاهٌ سلبي خالص وهروب من أخذ المواقف. وفي هذه الحالة يكون التوقف عن الحكم وإلغاء المشكلة أفضل وأكثر صراحة. فإذا حاول التوفيق بين النقيضين قول شيء إيجابي فإنه لا يتجاوز تحصيل الحاصل، مثل صفة بلا وصف، أو شيء لا ككل الأشياء؛ فمثل هذه الأحكام لا تتجاوز «محلك سر»، خطوة إلى الإمام وخطوة إلى الخلف. فإذا حاول الجمع بين النقيضين قول شيء أكثر إيجابية، فإنه في العادة يمكن نقضه بالعقل؛ لأنه لا يقوم أساسًا على نظرية في العقل، بل يلحق العقل بالنقل، ويجعل عمله الفهم والتفسير، وليس الوضع والتأصيل وتأسيس بداهات العقول. وفي الغالب يكون تنظيم العقل على هذا النحو غامضًا صعبًا على الجمهور، كما يمكن للعقلاء نقضه. وقد كان هذا الموقف هو العدو الألدَّ لموقف الفلاسفة، خاصةً آخر الحكماء الذين شنُّوا باسم العقل أشنع هجوم على الجمع بين النقيضين والمواقف المُتوسطة باسم العقل. وأخيرًا فإن التوسط بين الطرفين نهاية للحضارة وقضاء على الفكر؛ فهو يُعبر عن نقص في الشجاعة وعدم التزام بالمواقف، ومحاولة تجاوز المتناقضات لا عن طريق صراعها، بل بالتعالي عنها وتفادي حركتها المُتناقضة. وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد انتهى الفكر، وتوقَّفت الحضارة، وهدأ الانفعال، ورجع الناس إلى العقائد الأولى دون أي عمل عقلي أو حضاري، ثم أصبحت العقائد المذهب الرسمي للدولة، فأصبح المُتوسط هو فكر السلطة، واستحال بعد ذلك قول شيء أو تأسيس دعوى كفعل أو كرد فِعل.

وأصحاب ردود الأفعال هم في الغالب أصحاب المواقف الجذرية، أي المعارضة بأنواعها الثلاثة، وعلى رأسهم الشيعة والخوارج والمعتزلة. فالتأليه والتنزيه موقفان جذريان لا وسط بينهما، الجبر والاختيار، التعيين والبيعة، النقل والعقل، الإيمان والعمل، الطبيعة والخلق؛ كل ذلك مواقف جذرية لا تقبل الوسط أو التوسط. ويمتاز الفعل كموقفٍ جذري، بأنه دعوةٌ تقول شيئًا، وتضع موضوعًا وتُقيم مذهبًا، وتؤسس فكرًا، وتبدأ تيَّارًا. كما أن الفعل موقفٌ جذري، العامل المُحرك للفكر، وهو المُثير الذهني، شوكة في البدن، مهمته ضرب المائدة بقبضة اليد، وإثارة المشاعر، وتفتيح الأذهان. ويُعبر عن ظروف العصر وبنائه النفسي والاجتماعي. هو المُحول للوحي إلى موقف، والمُعبر عن الدوام في الزمان. وباختصار إن هذا المُثير هو البادئ للحضارة؛ إذ تؤرَّخ الحضارات ببداية الدعاوى الفكرية الأولى التي أثارت الانتباه. والدعوات الأصيلة تظلُّ باعثًا على ردود الأفعال باستمرار مع توالي العصور وتعاقب الأجيال.

وقد يُعاب على الفعل كموقفٍ جذري التطرفُ والمُغالاة، وإيقاف الوحي على ساقٍ واحدة، ورؤية الحقيقة بعينٍ واحدة، وإحالتها إلى جانبٍ واحد. وهذا العيب هو طبيعة تكوين الحضارة، فما دام الوحي قد تحوَّل إلى وضع، وتمثَّلته جماعة في ظروفٍ نفسية واجتماعية معيَّنة، يبدو الوحي في هذا السياق مُعبرًا عن الطرف الآخر من الواقع. فإذا كان الواقع اضطهادًا خرج الوحي تحررًا، وإذا كان الواقع استئصالًا خرج الوحي في صورة دعوة سرية، وإذا كانت الأغلبية مُنحازة خرج الوحي دعوة إلى أخذ الحق من النص غير المُنحاز. وقد يُعاب على الفعل كموقفٍ جذري أنه عاطفي انفعالي خالص. والحقيقة أن الحضارة كلها موقفٌ انفعالي، وأن الأفكار في نشأتها تجارب حية عند الجماعة، وأن الفكر ذاته انفعالٌ وصل إلى حد التنظير في موقفٍ نفسي واجتماعي مُتَّزن. وإذا كان الواقع مُنحازًا فلا يمكن التعبير عنه فعلًا أو كرد فِعل إلا انفعالًا. لا يظهر العقل إلا في المرحلة الثالثة، وهي الجمع بين النقيضين، ولكن الفعل ورد الفعل هما مرحلتان انفعاليتان. وقد يُعاب على الفعل ثالثًا أنه يُعبر عن هوًى أو مصلحة، ولا يُعبر عن حقيقةٍ مستقلة أو عن مصلحة الجماعة. ولكن هذا العيب أيضًا يُعبر عن طبيعة الجماعة ومسارها في التاريخ، وتفرُّقها إلى جماعاتٍ أصغر كلٌّ منها تُحاول تمثيل الجماعة الكبرى، وتجعل تصوُّرها تصوُّر الوحي. وما دام الوحي قد أعلن عن الجماعة، وما دام التفسير قد بدأ، فإنه من الصعب التمييز بين الحقيقة والمصلحة، أو بين الوحي والهوى. كل جماعة تُثبت ذاتها من خلال الوحي، ويحدث الصراع. وتبقى أبعد الجماعات عن الهوى وأقربها للوحي إذا ما ضمَّت الجماهير إليها وجذبتهم لها. وقد يُعاب على الفعل رابعًا أنه يتحول في نهاية الأمر إلى مذهبٍ مُغلَق، وإلى عقيدةٍ مُحكَمة تكون مُماثلة للوحي أو بديلًا عنه، وأحيانًا مُناوئة له. وهذا أيضًا طبيعي؛ فإذا ما تقدَّمت الجماعة في العمل خرج نُظارها إلى عرض الاتجاه عرضًا عقليًّا خالصًا، فيتحوَّل الموقف النفسي الاجتماعي تدريجيًّا إلى مذهب. وبتعاقب الأجيال يتكاثر العمل العقلي المذهبي، وتتحدد جوانب المذهب، ويتَّضح اتساقه العقلي إلى أن يُقضى عليه بفعل الزمان، أو تظهر دعواتٌ جديدة أكثر شبابًا وحيويةً تكون بداية مذهب جديد. وقد تُحاول الأجيال الشابَّة للمذهب القديم تجديد حياته بالرجوع إلى الأصول الأولى ومحاولة إيجاد الاعتدال، خاصةً بعد تغيُّر الموقف النفسي الاجتماعي الأول.

أما ردود الأفعال فإنها تتميز أيضًا بأنها هي المُمارسة للفكر والمُلتزمة به، والقائمة على المحافظة على الطرف الآخر الذي غاب في الفعل. رد الفعل هو الجانب الآخر، الطرف المقابل. ومن التوتُّر بين الفعل ورد الفعل تنشأ الحياة الفكرية، وتظهر الأفكار الثانوية حتى بداية محاولات الجمع بينهما. ردود الفعل هي التي تُبين حدود الفعل، وتُعطي البديل، وتُعبر عن التكامل الفكري أكثر مما تُعبر عن الظروف النفسية والاجتماعية. يوضع العقل في مقابل الانفعال، والحق في مقابل الهوى. رد الفعل هو التحدِّي المستمر للفعل، المُحدد لسلطته، والواقف له بالمِرصاد، والمُعبر عن حق المعارضة الفكرية وعن حرية الفكر. ومع ذلك قد ينتاب ردَّ الفعل بعضُ العيوب، وفي مقدمتها تمثُّل السلطة والاعتماد عليها، وتحويلها إلى فكرٍ رسمي للدولة، فتصبح بعد ذلك مقياسًا للحق، وما عداها كفر وضلال. تنقلب حرية الفكر إلى قهر، ويضيع حق المعارضة الذي نشأ رد الفعل تعبيرًا عنه.

وسواءٌ عُرضت المادة الكلامية كموضوعات أو كفِرق، كشعورٍ بنائي أو كشعورٍ جدلي، فكلا الطريقين يؤدِّيان إلى الفكر وإلى الموضوعات الفكرية؛ فالفِرق الكلامية اتجاهاتٌ فكرية، والتاريخ ليس تاريخ حوادث خالصة أو وقائع مادية، بل هو ميدان لتحقُّق الأفكار وظهور الأينية الفكرية للوحي. فقد تطوَّر موضوع التوحيد مثلًا في مراحل ثلاث؛ التأليه والتجسيم عند الشيعة، غُلاتها ومُعتدليها، والتنزيه وإنكار الصفات عند المعتزلة، ثم التشبيه وإثبات الصفات عند الأشاعرة. هذا التطور التاريخي نفسه هو بناء الموضوع الفكري؛ فالتأليه والتجسيم هما الموضوع، والتنزيه بإنكار الصفات هو نقيض الموضوع، والتشبيه بإثبات الصفات هو مركَّب الموضوع. المراحل التاريخية هي نفسها الجوانب المختلفة للموضوع، لا فَرق بين تطور الشيء وظهوره في التاريخ وبين بنائه وتحليله في الشعور. وما يُقال عن التوحيد يُقال أيضًا في خلق الأفعال، وفي العقل والنقل، وفي الإيمان والعمل، وفي الإمامة، ويُقال أيضًا في الطبيعيات، وفي الوحي، وفي الإنسان.١١٤

وهنا تبرُز أسئلة ثلاثة؛ الأول: إذا كانت الفِرق الكلامية اتجاهاتٍ فكرية، وكانت الاتجاهات الفكرية أنماطًا مثالية للفكر البشري، وكانت هذه الأنماط تُكون جوانب مختلفة للموضوع، فالسؤال هو: هل أعطى التاريخ كل هذه الأنماط؟ هل كشفت الحضارة جوانب الموضوع؟ هل باستطاعة الباحث اكتشاف أنماط جديدة وكشف جوانب أخرى للموضوع؟ فمثلًا في التوحيد ظهر التأليه والتجسيم والتشبيه كفِرق واتجاهات وأنماط وجوانب للموضوع، ولم يظهر بعدُ التوحيد كوظيفة. وفي خلق الأفعال ظهر الجبر والكسب وحرية الاختيار، ولكن لم يظهر بعدُ التحرر. وفي العقل والنقل ظهرت أولوية العقل كما ظهرت أولوية النقل، ولكن لم تظهر بعدُ أولوية الواقع … إلخ. والسؤال الثاني: إذا كانت الاتجاهات الفكرية أنماطًا مثالية للفكر البشري، فهل هذه الأنماط حلولٌ مُتزامنة أو مُتتالية في الزمان، أم أنها جوانب مختلفة لموضوعٍ واحد؟ فالتوحيد كموضوعٍ تأليه في أحد جوانبه، وتجسيم أو تشبيه من جانبٍ آخر، وتنزيه من جانبٍ ثالث. وخلق الأفعال هو جبر من جانب، وكسب من جانب، وحرية اختيار من جانب ثالث. مهمة الباحث الآن عرض الاتجاهات الفكرية التي تُمثلها الفِرق كجوانب مختلفة لموضوعٍ واحد. وكأن الباحث ينظر إلى الموضوع من عل كمُشاهدٍ مُحايد. والسؤال الثالث: إذا كانت الفِرق الكلامية تُمثل اتجاهاتٍ فكرية، فالسؤال هو: هل هذه الاتجاهات الفكرية أنماطٌ دائمة للفكر الديني تتكرَّر في كل زمان ومكان؟ ففي التوحيد مثلًا لا تُمثل الشيعة التأليه والتجسيم فقط، ولا تُمثل السنة التشبيه فقط، ولا تُمثل المعتزلة التنزيه فقط، بل إن التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه أنماطٌ مثالية للفكر الديني أو الفكر البشري العام فيما يتعلق بالألوهية. وكذلك الأمر في خلق الأفعال؛ فلا تُمثل الجبرية الجبر، ولا تُمثل الأشعرية الكسب، ولا تُمثل المعتزلة حرية الاختيار؛ بل إن هذه الحلول الثلاثة، الجبر والكسب والاختيار، تُمثل أنماطًا مثالية لمشكلة الحرية تتعدى حدود الزمان والمكان. ويمكن أن يُقال الشيء نفسه في العقل والنقل، وفي التعيين والبيعة، والكُمون والخلق، والإيمان والعمل، فيصبح علم أصول الدين علمًا بنيويًّا لكل حضارة وللفكر البشري العام.

والتعدد في جوانب الموضوع وتطوُّره إنما هو مقدمة للاختيار البشري طبقًا لظرف كل عصر. وقد لا يكون اختيار العصور الماضية هو اختيار كل عصر؛ فما يكون فعلًا عند القدماء قد يكون رد فِعل عند المُعاصرين، وما قد يكون وسطًا عند القدماء قد يكون فعلًا أو رد فِعل عند المعاصرين، وما قد يكون فعلًا أو رد فعل عند القدماء، فلا يكون وسطًا عند المعاصرين. فالمعاصرون جيل الفعل ورد الفعل إيقافًا للانهيار وبعثًا للنهضة. قد تُحتِّم الظروف النفسية والاجتماعية المعاصرة مرةً اختيار الموضوع، ومرةً أخرى اختيار نقيض الموضوع، ومرةً ثالثة مركَّب الموضوع، ومرةً رابعة إلغاء المشكلة كليةً والعودة إلى الواقع الملموس أو النص الخام مُصوبًا نحوه. فمن الطبيعيات مثلًا يُحتِّم واقعنا المعاصر اختيار استقلال قوانين الطبيعة واطرادها ردًّا على تكويننا النفسي الذي يرجع الأفعال إلى خوارق العادات. وفي التوحيد يكون التعطيل موقفنا النفسي المعاصر أكثر مُساهمةً في حل عُقَدنا العقلية، وذلك بالقضاء على التشخيص في الفكر المعياري، وإفساح المجال للإنسان لأن يفعل دون أن يوضع في بوتقةٍ عامة تُحيط بها الأغلاف. وفي خلق الأفعال تُحتِّم ظروفنا النفسية المعاصرة نقيض الموضوع، وهو إثبات حرية الأفعال تقليلًا من وطأة الجبرية وحتمية الأفعال التي نرزح تحتها، إما جبرية الدين أو جبرية الدنيا وخضوع الجماهير للإرادة المطلَقة المشخصة، إرادة الله أو إرادة السلطان، أو خضوعها لحتمية الرغيف والقهر المادي. كما يُحتم واقعنا المعاصر اختيار العقل أساسًا للنقل ردًّا على حشوية العصر، واعتماده على النقل كحجةٍ دون اتِّساق عقلي أو استشهاد واقعي. كما أن الظروف النفسية لواقعنا المعاصر، إن كنَّا صادقي النية في التغيير، تتطلب اختيار وجوب الثواب والعقاب، تصور العالم يحكمه قانون، ولا يخضع لإرادةٍ مشخصة وأهوائها. كما يُحتم واقعنا المعاصر اختيار الموضوع، وهو وحدة النظر والعمل، ردًّا على الفصل بينهما في حياتنا، أو تأخير العمل على النظر أو الحكم على العمل كما تفعل مرجئة العصر. وقد يُعاني واقعنا المعاصر من التوسط قدر ما يُعاني من التطرف، ولكن توسُّط السلطة أخطر على الأمة من تطرُّف المعارضة، والأجدى تطرُّف السلطة وتوسُّط المعارضة. والتطرف العاقل من أجل تغيير الوضع القائم خيرٌ من التوسط المبرِّر للأوضاع القائمة. كما يُحتم واقعنا المعاصر اختيار رد الفعل القديم، وهو البيعة، ردًّا على ظروفنا الحالية التي يغلب عليها التعيين، وأن «الإمامة في العسكر» حتى ولو كانت في صيغةِ بيعةٍ صوريةٍ معروفةٍ نتائجُها مسبقًا. وقد تُحتم ظروفنا خلق فرقة رابعة أو وضع حل رابع، فيُلغي المشكلة تمامًا ويعتبرها متاهةً عقلية، ويُفضل حلها بإلغائها والرجوع إلى الأصول الأولى العامة التي حدَّدت الموضوعات بلا تفريعات أو انحرافات، أو طرح مسائل نظرية لا ينتج عنها قيمةٌ عملية، بل ينتج منها التشتُّت والتفرُّق والضياع. وقد تمثَّل الفقهاء القدماء والمُصلِحون المُحدَثون هذا الاتجاه، الله وظيفة، والحرية تحرُّر، والنص واقع، والحياة هدف، والوعي مستقل، والمعاد مستقبل، والحكم ثورة.١١٥

(٣-٣) الشعور الاجتماعي (السياسي)

إن الشعور (المذهبي) البنائي الذي يكشف عن بنية العقائد والمذاهب والشعور الجدلي (التاريخي) الذي يكشف عن تطور الفِرق وتاريخها، إنما هما في الحقيقة داخلان في الشعور الاجتماعي (السياسي) الذي يُفسر نشأة العلم وتكوينه، تطوُّره وبناءه. قد يكون علم الكلام هو أول العلوم العقلية النقلية من حيث الزمان، تظهر فيه المحاولات الأولى لفهم النصوص فهمًا عقليًّا وتحويلها إلى مَعانٍ، ثم تحويل المعاني إلى نظريات ومذاهب حول الإيمان والكفر والفسق والعصيان والنفاق. وقد نشأ نشأةً داخليةً محضة لإيجاد أساس نظري للسلوك، ولتنظير الأحداث التي وقعت وتكاثرت في الفتنة وما بعدها. وقد أدَّى البحث عن النظرية إلى تفسير النصوص؛ فالنص الديني هو المَرجع الأول للنظرية، ثم أدَّى اختلاف المصالح وتضارب الأهواء إلى اختلاف في تفسير النصوص التي تؤديها كل فرقة لصالحها، ولإثبات آرائها والدفاع عن مواقفها ومواقعها. نشأ علم الكلام نشأةً داخليةً محضةً دون أن يتأثر بمؤثراتٍ أجنبية في نشأته؛ مما حدا بالبعض إلى اعتباره الفلسفة الإسلامية الحقَّة، وأنه المُمثل الوحيد للفكر الإسلامي، وهو الذي ظهرت فيه أصالة المسلمين فكان تصويرًا لأحداث الواقع وتطوُّره. أما الْتقاء الحضارة الناشئة بحضاراتٍ أخرى وافدة بعد ترجمة أعمالها، فهو عاملٌ مُتأخر ساعَد على تطوير العلم، وقوَّى من تحليلاته العقلية، وخفَّف من وطأته كعلم للعقائد، كما وضح ذلك في المؤلَّفات الكلامية المتأخرة، بل إن هذا العامل لم يأتِ مباشرةً من الحضارات الوافدة، بل أتى من الفلسفة التي تشبَّعت بها ثم حذا علم الكلام حذوها. ومع ذلك استطاع العلم ضمَّها ووضعها في إطاره وضْعَ الفرع في الأصل، وأصبح علم الكلام مُمثلًا لعلم تاريخ الأديان ووارثًا له.

علم الكلام إذن ليس تاريخًا مقدَّسًا. ويُخطئ البعض عندما يوحِّد بينه وبين العقيدة الدينية، خاصةً بعد أن وحَّد البعض بين علم الكلام والعقائد، وجعل علم الكلام أصول الدين. وهناك فرقٌ شاسع بين علم الكلام والعقائد الدينية؛ فعِلمُ الكلام محاولاتٌ اجتهادية لفهم العقيدة أو للعثور على أساسٍ نظري لها، وتخضع كل هذه المحاولات للظروف التاريخية التي نشأت فيها، وللأحداث السياسية التي سبَّبتها، وللغة العصر التي عبَّرت بها، وللمستوى الثقافي الذي ظهرت من خلاله. لا يمكن إذن التوحيد بين العقيدة كحقيقةٍ مطلَقة، وبين الصياغات التاريخية لها التي تحدُث في زمانٍ معيَّن، ومكانٍ معيَّن، وبلغةٍ معيَّنة، وعلى مستوًى ثقافي معيَّن.١١٦ ويظل السؤال قائمًا: هل العقائد المطلَقة أو العقائد في ذاتها موجودة بالفعل، أم أن الوحي نزل في فترةٍ معيَّنة بلغةٍ معيَّنة، وعلى مستوًى ثقافي معين، وفي حضارةٍ معيَّنة، وفي مرحلةٍ تاريخية معيَّنة من تطور الوعي البشري؟ الوحي ذاته صياغاتٌ تاريخية ظهر على مراحل إنسانية مُتتالية، وبلغاتٍ إنسانيةٍ مُتعددة، وفي سياقاتٍ حضاريةٍ مُختلفة.١١٧ ويظل السؤال أيضًا: هل يمكن للعقيدة المطلَقة أن تتحدث عن نفسها؟ هل يقرأ الوحي الوحي ويفهم ذاته، أم أنه في اللحظة التي يقرأ فيها الوحي ويُعبر عنه في فكرة، أو في وصفه تجربة، أو في تحليله لواقع، فإن العقيدة تتحول إلى فهمٍ معيَّن في عصرٍ معيَّن، وزمانٍ معيَّن، ولجماعةٍ معيَّنة، بل ولشخصٍ معيَّن؟١١٨ علم الكلام علمٌ تاريخي محض، وليس علمًا مقدَّسًا أو علمًا للعقائد الدينية نشأ مُواكبًا للأحداث التي وقعت للجماعة منذ الجيل الأول. ولو تغيَّرت الأحداث لتغيَّر العلم. علم الكلام ما هو إلا غطاءٌ نظري لأحداث الساعة في بيئة توجِّه الوقائع توجيهًا نظريًّا، ويحتاج كل سلوك فيها إلى أساسٍ نظري من الوحي.
والمنهج الاجتماعي في تفسير نشأة الأفكار وتطورها ليس فقط مَطلبًا علميًّا للعصر، وبديهية من بديهيات العقول، وواقعًا ملموسًا مُشاهَدًا عند كل فرد أبرزته إحدى الحضارات المُجاورة، وأطلقت عليه «علم اجتماع المعرفة»، بل إنه كان يُستعمل في التراث القديم لتفسير نشأة الأفكار. فتُذكَر الفكرة ثم تُذكَر الواقعة سببها، أو تُذكَر الواقعة ثم الأفكار التي نشأت منها.١١٩ هو إذن ليس منهجًا مُستحدَثًا من حضارةٍ أخرى، أو يدل على تبنِّي أيديولوجيةٍ خاصة، بل هو المنهج السائد أحيانًا في مؤلَّفات القدماء عن وعي أو عن غير وعي. والمؤلَّفات الكلامية في النهاية هي تاريخ الجماعة لفكرها تاريخًا فكريًّا واجتماعيًّا معًا؛ فكثيرًا ما ينتقل المؤلف من الفكر إلى الواقع، ومن التوحيد إلى الإمامة، ومن الصفات إلى الشرعيات، دون إحساس بتغيُّر الموضوع. وإذا كنَّا نحن نفصل أحيانًا بين الفكر والتاريخ، فإننا نفعل ذلك لسببين؛ الأول تعارُض المنهجين في البيئات الثقافية المحيطة بنا، ووصول هذا التعارض في ثقافتنا وأثره علينا. فعِلمُ اجتماع المعرفة يُعارض النظرية المثالية في المعرفة، ولا سبيل إلى الجمع بينهما.١٢٠ والثاني نقصٌ في وعينا الاجتماعي، وفي عِلمنا بتاريخ نشأة الأفكار لانشغال طبقتنا المُتوسطة بالأفكار مُستنكفةً من الوقائع الاجتماعية ذاتها. وكيف تنشأ ميزتنا، وهي الثقافة، من قاع الدست؟ وبالرغم من أهمية الأفراد في التاريخ إلا أنه لا يمكن تفسير حوادث التاريخ بمجرد ظهور الأفراد، إما عن حسن نية أو عن سوء نية، وتكون الحضارة قد نشأت لمجرد ظهور أفراد حسَني النية أو سيِّئي النية. والحقيقة أنه لو لم يظهر الأفراد لظهرت الأفكار من الحوادث التي كانت ستفرضها، وما الأفراد إلا المُعبرون عنها، أو من التقاء الثقافات وظهور الثقافات الوافدة بعد تمثُّلها في لغة الثقافة الناشئة، وإدخالها في تصوراتها للعالم.١٢١ وقد يوضع الأفراد داخل إطارهم الحضاري، ويتم تحديد سلوكهم الاجتماعي. وهنا يظهر سوء النية والتحايل والكيد والخداع والمكر والدسيسة والخديعة كعوامل مُحركة للتاريخ.١٢٢ وكان الواقع النفسي للجماعة مهيَّئًا لقبول هذه الأفكار التي تُعبر عن هذا الواقع، ومن قام بها أهل خبرة بالأديان والشعوب، بتاريخ الأديان وبحكم الشعوب.
ليس هناك إذن ما يُسمَّى بعلم الكلام، بل هناك تاريخ للفِرق الإسلامية؛ فنحن لا نجد حديثًا عن علم الكلام قبل القرن الخامس، ولا نجد في كتب الفِرق حديثًا عن علم الكلام أو حتى تعريفًا له إلا في المؤلَّفات المتأخرة؛ مما يدل على أن ما اصطُلح بتسميته علم الكلام هو في الحقيقة تاريخ الفِرق الإسلامية. ولما كانت معظم الفِرق قد نشأت نشأةً سياسية، أو أن لعقائدها مدلولًا سياسيًّا صراحةً أو بباعثٍ سياسي مُتستر وراء اختلاف الآراء في فهم النصوص وصياغة النظريات، فإن ما يُسمَّى علم الكلام إن هو إلا تاريخ الفِرق الإسلامية، وأن تاريخ الفِرق الكلامية ما هو إلا تاريخٌ اجتماعي وسياسي للمجتمع الإسلامي في عصوره الأولى.١٢٣ ويرفض كثيرٌ من علماء الكلام التاريخ الموجه، ويؤثِرون تاريخًا موضوعيًّا خالصًا يكون في جوهره تاريخًا سياسيًّا، ويدل على نشأة الفِرق الكلامية نشأةً سياسية، وأن أول مشكلة تعرَّض لها علم الكلام كانت مشكلةً سياسية وهي الإمامة، وأن طابع الأحداث في الجيل الأول كان طابعًا سياسيًّا، ثم عبَّر الخلاف السياسي عن نفسه في تفسير النصوص للحصول منها على نظرية. والسياسة لا تعني شيئًا منفصلًا عن الدين، فالدين يُنظم كافة شئون الحياة؛ لذلك قد يصعب القول بأن علم الكلام نشأ نشأةً سياسية بالمعنى الحديث؛ لأن الأحداث التي هزَّت وجدان المسلمين في العصر الأول وعلى رأسها الفتنة، لم تكن أحداثًا سياسية بالمعنى الحديث، بل كانت وقائع أثارت الفكر. لم يكن في ذلك الوقت ولا في هذه البيئة ولا في هذا الفكر تمييزٌ بين العامل السياسي والعامل الديني. كان الفكر، وهو الوحي، الموجِّه لسلوك الجماعة والمنظِّم لحياتها، وكان الواقع الذي تعيشه واقعًا مُتكاملًا، موجَّهًا بالفكر؛ لذلك لا يمكن اتهام الخوارج بأنهم خلطوا شئون الدين بشئون الدولة؛ لأن الدين والدولة كانا شيئًا واحدًا.١٢٤ تبدأ الحوادث بالفتنة التي رجَّت شعور الجماعة، وجعلت الخلاف أساسًا خلافًا سياسيًّا حول موضوع الإمامة.١٢٥
فإذا كانت الإمامة هي أُولى المشاكل التي أثارها المسلمون، فإن ذلك يدل على أن علم الكلام نشأ نشأةً سياسية. وإذا ما تمَّت إعادة بناء العلم من جديد على أنه علمٌ إنساني، فإن هذه المحاولة تقوم أيضًا على واقعٍ سياسي خالص، تحرير الأرض، والقضاء على التخلف، وإعادة بناء المجتمع، وإرساء قواعد الديمقراطية، وتأسيس المجتمع اللاطبقي.١٢٦ وقد ظهرت الإمامة كمشكلةٍ عملية لا كمشكلةٍ نظرية، ولم تنشأ منها فرقة؛ فقد كان يكفي إلقاء الفكرة الموجهة حتى تُحَل المشكلة، ويُطيع الناس، وتتوحَّد الجماعة. وقد تساءل الناس: هل الخلاف السياسي من الفروع أم من الأصول؟ هل هو من المسائل الاجتهادية أم من المسائل النصية؟ هل هو من المسائل الفقهية أم من المسائل العقائدية؟١٢٧   والقول بإمامة المفضول مع وجود الأفضل إثبات للأمر الواقع، وبيعةٌ فكرية للحكم الأموي، وتخلٍّ عن صاحب الحق الشرعي، وقبول للمساومة، والرضا برغد العيش. والقول بأن الإمامة تكون من خارج قريش رفضٌ للحكم الأموي الذي يعتمد على النسب لقريش، ورفض للحكم القومي الذي يجعل من الحاكم عربيًّا بالضرورة، وإعطاء الحق لكل الرعايا عربًا كانوا أم موالي في أن يُصبحوا أئمة للأمة وحكامًا لها.١٢٨ والقول بأن الإمامة لا تكون إلا بالإجماع رفضٌ لأي حكم لم تُجمِع عليه الأمة كالحكم الأموي مثلًا. وبالرغم مما قد يُوحِي به التشيع بأنه أقلُّ معارضةً من حيث إن الإمام بالتعيين وليس بالاختيار، وإنه مصدر الحق والتشريع حتى يرجع ويأخذ بنواصيهم بدل الثورة الفعلية في الحاضر، وأن في خلوده قد يجد أنصاره عزاءً ونصرًا نفسيًّا واطمئنانًا إلى الحق الضائع دون أن يأخذوه بالفعل، بالرغم من كل ذلك إلا أنه أيضًا قاوَم الحكم القائم بالقوة نفسها التي قاوَم بها بعض علماء الكلام السُّنيين. ولم تخلُ سنة من خروج إمام على الحكم الأموي. فمن الناحية النظرية القول بخلود الإمام والقول بالرجعة يُعبر عن الأمل في الانتصار، ويُثبت ضرورة انتصار الحق على الظلم مهما طال انتظار المظلومين والمضطهَدين.
ولم يكن التوحيد أول المسائل الخلافية، بل نشأ نتيجة إعمال العقل في النصوص. أما المشكلة السياسية فقد كانت تابعة للمسائل العقائدية حتى تحوَّلت هي نفسها إلى مسألةٍ اعتقادية.١٢٩ وكانت للنظريات والآراء مدلولاتٌ سياسية؛ فإنكار القدر وإثبات الإنسان حرًّا مُختارًا في أفعاله، مسئولًا عن الخير والشر، يجعل حكم الولاة أصحاب السلطة مسئولين عن أفعالهم ولا يُمثلون قدر الله، كما يجعل كل المُواطنين مسئولين عن أعمالهم، ويبعثهم على الثورة ضد السلطة المُغتصِبة الخارجة على إرادة الجماعة.١٣٠ وكل موضوعات علم الكلام ونظرياته لها مدلولاتٌ سياسية خالصة؛ ففي التوحيد مثلًا تهدف فكرة الله المخلِّص أو الإمام المؤلَّه إلى تحريك الجماهير، وإعطائها أملًا بالنجاة والخلاص من الظلم، وانتصار الحق ضرورة في النهاية، بينما تهدف فكرة الله القوة إلى تثبيت الوضع القائم، وإلى الطاعة للسلطة القائمة المُمثلة لله القوة. وإعطاء الأولوية للنقل على العقل يُثبت الوضع القائم، ويجعل الأمر موكولًا للتفسير، والتفسير تقوم به السلطة الدينية التي تعتمد عليها السلطة السياسية. وإعطاء الأولوية للعقل على النقل رفض للوضع القائم ولتعاوُن السلطتين الدينية والسياسية، ووضع مقياس عام للناس جميعًا حاكمين محكومين، وهو مقياس العقل وطريق البرهان. وإخراج العمل عن الإيمان أو إرجاؤه إثبات للوضع القائم، وجعل الإيمان خاويًا لا يتطلب حركةً وفعلًا، ولا يتحول إلى رفض أو ثورة. وجعل العمل جزءًا من الإيمان وتعبيرًا عنه رفضٌ للوضع القائم، وجعل الإيمان أساسَ حركةٍ وفعل وتغيير وثورة. أما مسألة خلق القرآن فقد ظهرت مُتأخرةً للغاية.١٣١
وكان لعلماء الكلام الأوائل أثرٌ بعيد في توجيه مَجرى الحوادث؛ فقد كانوا من أوائل المُعارضين للحكم الأموي. وكثيرًا ما استعملت السلطة الآراء الدينية كحجج للقضاء على قُوى المعارضة التي قامت أساسًا تطبيقًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.١٣٢ لا تُمثل الفرقة إذن اتجاهًا فكريًّا فحسب، بل تُمثل قوةً اجتماعية تُعبر عن وضعٍ اجتماعي. وقد تتحالف مع السلطة القائمة، وقد تتعارض معها.١٣٣ وقد نشأت الخوارج من سلوكٍ عملي أثناء التحكيم،١٣٤ واستمرُّوا في المعارضة والرفض للحكم الأموي كما استمرَّ الشيعة وآل البيت، كلٌّ لحسابه. وهكذا تشتَّتتْ المعارضة إلى فريقين مُتنازعين، وبقي الخصم قويًّا.١٣٥ وقد شارك المعتزلة في ثورات بعض آل البيت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.١٣٦
والمعتزلة هم أول من ردُّوا البدع قبل الأشاعرة، فكانوا هم أهل السنة والجماعة قبل أن يظهر الاسم ويتبلور؛ فهم الذين ردُّوا على القدرية مع أنهما فيما بعدُ أصبحوا قدريين؛١٣٧ لذلك ظهر المعتزلة مُبكرين للغاية، وانتهَوا أيضًا مُبكرين، على حين ظهر الأشاعرة مُتأخرين، وانتهَوا مُتأخرين. وقد بلغ المد الاعتزالي أوجه في القرن الثالث، في حين لم يخلُ قرنٌ واحد من مُمثل للأشاعرة. وإذا ظهر الأشاعرة مُبكرين فإنما يرجع ذلك إلى أنهم قد نسبوا أنفسهم إلى الفقهاء والمحدِّثين الذين كانوا يشتغلون بمسائل عملية خالصة لا بمسائل نظرية، فضمهم الأشاعرة إليهم وكأنهم يُكملون لهم الجانب النظري فيما يتعلق بالعقائد. وكان المعتزلة الأوائل من الدرجة الأولى في العلم والبيان، كانوا هم حمَلة العلم الأوائل، وهم الذين أعملوا العقل في النظر والاستدلال. نشأت الحضارة على أيديهم أولًا. كما استطاع المعتزلة أن يقوموا بعملٍ جماعي بعد تعرُّفهم على بعضهم البعض، فما دام العقل هو الحكم فهناك موضوعات وحقائق مستقلة يمكن للجميع الوصول إليها، ولا مكان للعبقرية الفردية التي قد تُعبر عن هوًى أو ادعاء. ولا يوجد الاتجاه الاعتزالي باعتباره اتجاهًا عقليًّا عند المعتزلة فقط، بل يوجد أيضًا مُمثلًا لدى كل فرقة، وكأن التنزيه والعقل والحرية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبادئ عامة تتعدى حدود الفِرق، وأصبحت قاسمًا مشتركًا بينهم. ففريق من الشيعة مثلًا يقول بالإمامة والاعتزال (الزيدية)، وفريق من الخوارج يقولون بالقدر ويُثبتون الاستطاعة للإنسان (الميمونية). وكان الاعتزال ثورة على التقليد والتعصب واللجاج، ويعتزُّ بالعقل والبرهان ضد التقليد والهوى والمحاجَّة. وكان المعتزلة أول من استعان بثقافة الغير، الفلسفة اليونانية. لم يكن ذلك رغبةً منهم في تبعيَّتها، بل لأنها راجت في البيئة الثقافية بعد عصر الترجمة، وأصبحت جزءًا من الثقافة المعاصرة آنذاك. فاستعملتها المعتزلة كعلوم للوسائل لا كعلوم للغايات، خاصةً من مُتأخريهم في القرن الثالث.١٣٨ وكان معظم الفلاسفة معتزلة نظرًا لاعتماد كلا الفريقين على العقل.١٣٩
وقد خرجت الأشاعرة من جُبِّ المعتزلة وكرد فِعل عليها،١٤٠ واستعملوا المنهج نفسه الذي استعمله المعتزلة، وهو العقل والثقافة العقلية المعاصرة (اليونانية)، ولكنهم خلطوا بين العقل والنقل، فلا هم انتهَوا إلى شيءٍ معقول في النقل أو في العقل. فهم في الوقت نفسه يرجعون إلى أهل السلف، ويلتزمون بخط الفقهاء وأهل السنة والحديث، ويُحاولون إعطاء الأساس النظري للاتجاه الفقهي. وظلَّت هذه المحاولة مشبوهةً عند الفقهاء، المحاولة التي تريد الجمع بين أهل السنة والعقل. وظل الأشعري مشبوهًا بشبهة الاعتزال؛ إما لأنه ظلَّ مُتأثرًا بطريق الاعتزال، أو لأنهم كانوا يرفضون أي عمل عقلي في النص. وظلَّ الحنابلة يرفضون الأشاعرة وقتًا طويلًا لا يَقْبلون محاولاتهم العقلية في النصوص.١٤١ ويظهر الأشاعرة كحلٍّ وسط بين الاتجاهات المُتعارضة بكل ما في هذا الموقف المُتوسط من مُميزات وعيوب.١٤٢ فإذا كان المعتزلة قد روَّجوا الفلسفة في أول الأمر طلبًا للدليل العقلي والبرهان النظري، فقد فرضت الفلسفة نفسها في النهاية على الأشاعرة في القرون المُتأخرة بعد أن خمد العقل وركَد العلم. فسادت المباحث الفلسفية المباحث الكلامية، واعتمد الأشاعرة كليةً على تحليلات الفلاسفة يجِدُون فيها الأساس العقلي الضائع منهم. فما يتَّهم به الأشاعرة المعتزلة وقعوا هم أنفسهم فيه، وشتان ما بين الموقعين؛ أخذ المعتزلة الفلسفة كوسيلة، وظلَّت الغاية هي التوحيد، في حين أن الأشاعرة أخذوا الفلسفة كغاية، وتوارى التوحيد.١٤٣
وبالرغم من أن الأشاعرة متأخرة في الظهور إلا أن شيخها لا يُعتبر واضع أصول العلم؛ فعِلمُ الكلام ظاهرةٌ حضارية أكثر منها اكتسابًا عبقريًّا، على عكس علم أصول الفقه الذي وضع قواعدَه الشافعي. ولما كان الأشاعرة هم أصحاب التأليف، فقد اعتُبروا واضعي علم أصول الدين دون غيرهم.١٤٤ ثم جمد المذهب الأشعري، ولم يعُد الدليل هو الوسيلة الوحيدة إلى اليقين.١٤٥ وبعد جمود الفكر واتِّباع التقليد، ظهرت الشروح والملخَّصات تُعبر عن الفكر الشارح أكثر مما تُعبر عن الفكر المشروح،١٤٦ ثم خمد الشرح وساد الجهل على العلم لدرجة أن منع بعض المُصلِحين شرح مؤلَّفاته.١٤٧ فإذا كان عِلم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية، بل وكالحضارة ذاتها، فقد نشأ من النص ثم عمل العقل فيه، فإنه يعود إلى النص من جديدٍ بعد أن تجمَّد العقل، وساد التقليد، وحلَّ الجهل محلَّ العلم.١٤٨
وفي العقائد المتأخرة اختلط التوحيد بالتصوف خاصةً في الشروح، ولم توجد مادةٌ يُشرَح بها١٤٩ إلا من التصوف، وأحيانًا من الفقه والأصول، وابتعد عن الفلسفة لأنها لم تعُد خطرًا على التوحيد. ومعظم الصوفية أشاعرة؛ لأن التصوف موقفٌ أشعري قلبي، والأشاعرة موقفٌ صوفي عقلي، ومن السهل تحويل التوحيد كما يتصوره الأشاعرة إلى توحيد كما يُعبر عنه الصوفية بمجرد تغيير المنهج من العقل إلى القلب.١٥٠ وفي المؤلَّفات المتأخرة يسود التصوف، ويُقتبَس من أقواله ومن أشعار الصوفية وأناشيدهم.١٥١ كما يظهر في المؤلَّفات المتأخرة الفقه والأصول، وتسود المادة الكلامية، وكأن اللجوء إلى الفقه والتشريع فيه اليقين.١٥٢ والفقهاء غالبًا أشاعرة بلا استثناء؛ لأن الفقهاء هم المُدافعون عن أهل السلف، وهم المُمثلون لأهل السنة والجماعة، والأشاعرة يعتبرون أنفسهم أهل السنة والجماعة.١٥٣ ثم جاء الإصلاح الديني مُحيِيًا مذهب الأشاعرة.١٥٤ ولكن غزو الثقافات الأجنبية الوافدة ما زال يدعو إلى إعادة بناء علم أصول الدين من جديد.١٥٥

(٣-٤) خاتمة الخاتمة

وكما تبدأ المصنَّفات القديمة بمقدماتٍ إيمانية تنتهي أيضًا بنهاياتٍ إيمانية، وليس بالضرورة بتذييل في الفِرق. تعترف بالجهل التام، وكأن تأسيس العلم لم يؤدِّ إلى أي علم. تصف الله بأوصافٍ أزلية، وفي الوقت نفسه يُعلن عن حيرة العقل، وكأن أداة العلم لم تؤدِّ إلى أي علم. ويختفي العلم، وتبدأ مُناجاةٌ صوفية؛ مما يدل على سيادة علوم التصوف على باقي العلوم. وينقلب التصوف ضد عقائد الفرقة الناجية، فلا يمكن وصف الله أو رؤيته. وكلما ازدادت المُناجاة تعظيمًا لله زاد الإنسان تحقيرًا لنفسه. وكيف يُعاد بناء علم أصول الدين دون اكتشاف للذاتية؟١٥٦ وقد تَكشِف خواتيم أخرى عن أن هدف العلم هو تبرير الدين والدفاع عنه وتثبيته، مع دعوات للحفظ ضد الغواية، وطلب للمغفرة والعفو، وكأن العلم غوايةٌ تؤدي إلى الخطأ بالضرورة وتجب التوبة منه. ويبرُز منهج الاقتداء بسنة الرسول وتقليد صحابته والتابعين، مع أن التقليد ليس مصدرًا للعلم. وقد تحتوي الخواتيم على اعتذار عن التطويل والحشو، أو ما يقع فيه المصنِّف من أخطاء، يرجو عملًا صالحًا يوضع في حسابه يوم القيامة، مع ذكر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.١٥٧ وقد تكون الخواتيم آياتٍ قرآنيةً صرفةً تُوحي بقوة العقيدة والاستخلاف في الأرض، وكأننا هنا بصدد فعل وعمل لا قول ونظر، مع التمسك بطريقة السلف والإصرار عليها بعيدًا عن الخلف.١٥٨ ونحن إنما نُقدِّم «من العقيدة إلى الثورة» اجتهادًا منَّا، واستئنافًا لعلم أصول الدين بعد أن توقَّف منذ سبعة قرون، وتطويرًا له بعد «المواقف» و«رسالة التوحيد» في عصر التحرر من الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وفي فترة الردة من قلب مصر المحميَّة.١٥٩
١  مصنَّفات الفِرق مثل: «مقالات الإسلاميين» للأشعري، «التنبيه والرد» للملطي الشافعي، «التمهيد» للباقلاني، «الفَرْق بين الفِرق» للبغدادي، «المِلل والنِّحل» للشهرستاني، «اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين» للرازي.
٢  مقالات، ج١، ص٣٤–٦٤.
٣  يرى أبو القاسم الكعبي في مقالاته أن قول القائل «أمة الإسلام» تقع على كل مُقر لنبوة محمد، وأن كل ما جاء به حق كائنًا قوله بعد ذلك ما كان. ويرفض البغدادي هذا التعريف لاعتراف العيسوية من يهود أصبهان والموشكانية بنبوة محمد، ولكنهم زعموا أنه بُعث إلى العرب لا إلى بني إسرائيل (الفرق، ص١٢-١٣).
٤  قال البعض إن ملة الإسلام أمرٌ واقع على كل من يرى وجوب الصلاة إلى الكعبة المنصوبة بمكة. فقد رضي بعض فقهاء الحجاز هذا القول، وأنكره أصحاب الرأي لما رُوي عن أبي حنيفة أنه صحَّح إيمان من أقرَّ بوجوب الصلاة إلى الكعبة، كما لا يُصححون إيمان من شك في وجوب الصلاة إلى الكعبة (الفرق، ص١٣).
٥  والصحيح عندنا أن أمة الإسلام تجمع المُقرين بحدوث العالم، وتوحيد صانعه وقِدمه وصفاته وعدله وحكمته ونفي التشبيه عنه، وبنبوة محمد ورسالته إلى الكافة، وبتأييد شريعته، وبأن كل ما جاء به حق، وبأن القرآن مَنبع أحكام الشريعة، وأن الكعبة هي القِبلة التي تجب الصلاة إليها؛ فكل من أقرَّ بذلك كله ولم يُشبه ببدعة تؤدي إلى الكفر فهو السُّني الموحِّد (الفرق، ص١٣).
٦  من المسائل العملية الخالصة الخلاف في وصية النبي، وموت النبي، ودفن النبي، وتجهيز جيش أسامة، وقتال مانعي الزكاة، وأمر فدك، وجمع القرآن (المِلل، ج١، ص٢٦–٣٠؛ مقالات، ج١، ص٣٤–٣٨). ومن المسائل العملية أيضًا ميراث الجد مع الإخوة والأخوات، ميراث الأخوات مع الأب والأم أو مع الأب (مقالات، ج١، ص٣٧؛ الفرق، ص١٤–١٧). ومن المسائل العملية ذات الطابع النظري وما يُحيط بها من خلافٍ حول عثمان وقتلته، والخلاف بين علي وأصحاب الجمل، وعلي وأهل صفين (طلحة والزبير)، وعلي ومعاوية، والخلاف بين الأشعري وعمرو بن العاص. ومن المسائل النظرية ذات الطابع العملي الخلاف حول القدرية والاستطاعة أيام معبد الجهني، والخلاف حول الخوارج والروافض والمرجئة، والخلاف بين واصل والحسن البصري (مقالات، ج١، ص٣٩–٦٤). وأما الاختلافات الواقعة في حال مرضه وبعد وفاته بين الصحابة فهي اجتهادية كما قيل، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع وإدامة مناهج الدين (المِلل، ج١، ص٢٥-٢٦).
٧  وقد علِم كل ذي عقل من أصحاب المقالات المنسوبة إلى الإسلام أن النبي لم يُرِد بالفِرق المذمومة التي هي من أهل النار فِرق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على أصول الدين؛ لأن المسلمين فيما اختلفوا فيه من فروع الحلال والحرام على قولين؛ أحدهما قول من يرى تصويب المجتهدين كلهم في فروع الفقه، وفِرق الفقه كلهم عندهم مُصيبون؛ والثاني قول من يرى في كل فرع تصويبَ واحد من المختلفين فيه، وتخطئة الباقين من غير تضليل منه للمُخطئ فيه (الفرق، ص٩-١٠).
٨  من الناس من قسَّم أهل العالم بحسب الأقاليم السبعة، وأعطى أهل كل إقليم حظًّا من اختلاف الطبائع والأنفُس التي تدل عليها الألوان والألسُن. ومنهم من قسَّمهم حسب الأقطار الأربعة التي هي الشرق والغرب والجنوب والشمال، ووفَّر على كل قطر حقَّه من اختلاف الطبائع، وتبايُن الشرائع (المِلل، ج١، ص٥).
٩  ومنهم من قسَّمهم بحسب الأمم، فقال: كبار الأمم أربعة؛ العرب والعجم والروم والهند. ثم زاوَج بين أمة وأمة؛ فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهبٍ واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية. والعجم والروم يتقاربان على مذهبٍ واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية (المِلل، ج١، ص٥-٦).
١٠  ومنهم من قسَّم بحسب الآراء والمذاهب، وذلك غرضنا من تأليف هذا الكتاب. وهم مُنقسمون بالقسمة الصحيحة الأولى إلى أهل الديانات والمِلل، وأهل الأهواء والنِّحل. فأرباب الديانات مثل المجوس واليهود والنصارى والمسلمين، وأهل الأهواء والآراء مثل الفلاسفة والدهرية والصابئة وعبَدة الكواكب والأوثان والبراهمة (المِلل، ج١، ص٦).
١١  ثم إن التقسيم الصحيح الدائر بين النفي والإثبات هو قولنا إن أهل العالم انقسموا من حيث المذاهب إلى أهل الديانات وأهل الأهواء. فإن الإنسان إذا اعتقد عقدًا أو قال قولًا، فإما أن يكون فيه مُستفيدًا من غيره أو مستبدًّا برأيه؛ فالمُستفيد من غيره مسلمٌ مُطيع، والدين هو الطاعة، والمُطيع هو المُتدين. والمُستبد برأيه مُحدِثٌ مُبتدع. وفي الخبر عن النبي عليه السلام: «ما شقي امرؤ عن مشورة، ولا سعد باستبداد رأي.» وربما يكون المستفيد من غيره مُقلدًا، فقد وجد مذهبًا اتفاقيًّا بأن كان أبواه أو مُعلمه على اعتقادٍ باطل، فيتقلَّد منه دون أن يتفكر في حقه وباطله، وصواب القول فيه وخطئه، فحينئذٍ لا يكون مُستفيدًا لأنه ما حصل على فائدة ولا اتَّبع الأستاذ على بصيرة ويقين إلا من شهد بالحق وهم يعلمون، شرط عظيم فليعتبروا. ربما يكون المُستفيد برأيه مُستنبطًا مما استفاده على شرط أن يعلم موضع الاستنباط وكيفيته، فحينئذٍ لا يكون مستبدًّا حقيقةً؛ لأنه حصَّل العلم بقوة تلك الفائدة، «لَعلِمه الذين يستنبطونه منهم» ركنٌ عظيم فلا تغفل. فالمُستبدون بالرأي مطلقًا هم المُنكرون للنبوات مثل الفلاسفة الصابئة والبراهمة، وهم لا يقولون بشرائع وأحكامٍ أمرية، بل يضعون حدودًا عقلية حتى يمكنهم التعايش عليها. والمُستفيدون هم القائلون بالنبوات، ومن قال بالأحكام الشرعية فقد قال بالحدود العقلية ولا ينعكس (المِلل، ج١، ص٥٥-٥٦).
١٢  هذا ما يفعل خاصةً ابن حزم في «الفصل».
١٣  مذاهب أهل العالم من أرباب الديانات والمِلل وأهل الأهواء والنِّحل من الفِرق الإسلامية وغيرهم. فمن له كتابٌ منزَّل محقق مثل اليهود والنصارى، ومن له شبهه كتاب مثل المجوس والمانوية، ومن له حدود وأحكام دون كتاب مثل الصابئة الأولى، ومن ليس له كتاب ولا حدود وأحكام شرعية مثل الفلاسفة الأولى والدهرية وعبادة الكواكب والأوثان والبراهمة (المِلل، ج١، ص٥٣-٥٤).
١٤  نذكر أربابها وأصحابها، ونقل مآخذها ومصادرها عن كتب طائفة طائفة على موجب اصطلاحها، بعد الوقوف على مناهجها، والفحص الشديد عن مبادئها وعواقبها (المِلل، ج١، ص٥٤).
١٥  الطريقة الأولى اتَّبعها ابن حزم في «الفصل»، والقاضي عبد الجبار في «المُغْني»، والملطي الشافعي في «التنبيه والرد» إلا أن الجزء الأول والثاني عن اليهود والنصارى مفقود. يقول ابن حزم: «إذ قد أكملنا بعون الله الكلام في المِلل، فلنبدأ بحول الله عز وجل في ذكر نِحل أهل الإسلام وافتراقهم فيها، وإيراد ما شغب به شاغب منهم، وفيما يخلط فيه من نِحلته، وإيراد البراهين الضرورية على إيضاح نِحلة الحق من تلك النِّحل كما فعلنا في المِلل» (الفصل، ج٢، ص١٠٦). لذلك يُسمِّى ابن حزم مؤلَّفه «الفَصْل في المِلل والأهواء والنِّحل».
١٦  رؤساء الفِرق المُخالفة لدين الإسلام ست، ثم تفترق من هذه الفِرق الست على فِرق. ويُصنِّف ابن حزم الفِرق كلها في ست، هي: (أ) مُبطِلو الحقائق، وهم السوفسطائية. (ب) مُثبِتو الحقائق إلا أن العالم لم يزل، وأنه لا مُحدِث له ولا مُدبِّر، وهم الدهرية. (ﺟ) مُثبِتو الحقائق إلا أن العالم لم يزل، وأن له مُدبرًا لم يزل. (د) مُثبِتو الحقائق إلا أن العالم لم يزل، وأنه مُحدَث، له مُدبِّران لم يزالا، أو أنهم أكثر من واحد، واختلافهم في العدد. (ﻫ) مُثبِتو الحقائق، وأن العالم مُحدَث، وأن له خالقًا واحدًا لم يزل، إلا أنهم أبطلوا النبوات كلها. (و) مُثبِتو الحقائق، وبأن العالم مُحدَث، وأن له خالقًا واحدًا لم يزل، وأثبتوا النبوات كلها، إلا أنهم خالفوا بعضها (الفصل، ج١، ص٣؛ الأصول، ص٦-٧).
١٧  وهي الطريقة التي تبعها الشهرستاني في «المِلل والنِّحل».
١٨  يجعل الرازي الفِرق الذين هم خارجون على الإسلام بالحقيقة وبالاسم ضِمن الفرقة العاشرة من مجموع الفِرق العشرة (اعتقادات، ص٨٢–٨٤). ويتَّضح ذلك من عنوانه؛ «اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين».
١٩  وذلك مثل الباقلاني في «التمهيد» حين يتحدث عن الصابئة والمانوية والمجوس والنصارى واليهود في مَعرِض الحديث عن التوحيد. وكذلك القاضي عبد الجبار في «المُغْني» في الفِرق غير الإسلامية في مَعرِض الحديث عن الواحد (المُغْني، الجزء الرابع، الفِرق غير الإسلامية).
٢٠  وذلك مثل الأشعري في مقالات غير الإسلاميين الذي يذكره ابن تيمية في «موافقة صحيح المنقول صريح المعقول» (ج١، ص٩١)، أو المسعودي في «المقالات في أصول الديانات» الذي يذكره في مروج الذهب، أو البِيروني في «تحقيق ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة».
٢١  يذكر الملطي الشافعي خمس فِرق من الزنادقة؛ المعطلة والمانوية والمزدكية والعبدكية والروحانية. فالمعطلة هم الدهريون، وهم موجودون داخل الحضارة الإسلامية وخارجها. والعبدكية إحدى فِرق الشيعة تقول بالإمام. والروحانية تُمثلها اتجاهات الصوفية أو ما يُضادها؛ إذ إنها ستُّ فِرق؛ الروحانية الذين يُركزون على الروح، والفكرية الذين يتأملون بالفكر، وأصحاب الخلة الذين يغلب عليهم حب الله فيُسقِطون الشرائع، وأصحاب تصغير النفس الذين يروِّضون النفس حتى تبلغ الغاية، ثم يحقُّ لهم التمتع بما يشاءُون، والذين يستصغرون الدنيا ويأتون بما شاءوا من ملذَّات استصغارًا لها حتى لا يُشغَل القلب بها، ثم الزاهدون في الحرام، الآتون والمُتمتعون بالحلال (التنبيه، ص٩١–٩٥). ويقسِّم الأشعري الفِرق إلى اثنتَي عشرة فرقة، ويعتبر الصوفية فرقةً كلامية يُسميها العامة مرةً، وقومًا ينتحلون النُّسك مرةً أخرى (مقالات، ج١، ص٦٥، ص٣١٩). ويُدخل البغدادي الحلَّاجية أتباع أبي الغيث الحلَّاج ضِمن فِرق الحلولية (الفرق، ص٢٦٠–٢٦٣). ويذكر الرازي الصوفية كفرقةٍ ثامنة من فِرقٍ عشر (اعتقادات، ص٧٢–٧٥).
٢٢  وهذا ما يفعله البغدادي في «الفَرْق بين الفِرق».
٢٣  الدين، والملة، والشرعة، والمنهاج، والإسلام، والحنفية، والسنة، والجماعة، فإنها عباراتٌ وردت في التنزيل، ولكل واحدة منها معنًى يخصُّها، وحقيقة تُوافقها لغةً واصطلاحًا (المِلل، ج١، ص٥٦).
٢٤  معنى الدين الطاعة والانقياد، وقد يرِد بمعنى الجزاء، وقد يرِد بمعنى الحساب. فالمُتدين هو المسلم بالطبع المُقر بالجزاء والحساب يوم الثناء والمعاد (المِلل، ج١، ص٥٦). الدين ما ورد به الشرع من التعبد، ويُقال للطاعة والعبادة والمعاد والجزاء والحساب. وعرَّفوه بأنه وضعٌ إلاهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات؛ أي أحكامٌ وضعها الله تعالى للعبادة باعثة إلى الخير الذاتي، وهي السعادة الأبدية (الإتحاف، ص١٣-١٤).
٢٥  ولما كان نوع الإنسان مُحتاجًا إلى اجتماع مع آخر من بني جنسه في إقامة معاشه والاستعداد لمعاده، وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكلٍ يحصل به التمانع والتعاون حتى يحفظ بالتمانع ما هو ليس له، فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي الملة (المِلل، ج١، ص٥٧).
٢٦  الملة الكبرى هي ملة إبراهيم، وهي الحنيفية السمحة التي تُقابل الصبوة تقابُل التضاد، وابتدأت من نوح. وقيل خُصَّ آدم بالأسماء، ونوح بمعاني تلك الأسماء، وإبراهيم بالجمع بينهما (المِلل، ج١، ص٥٧-٥٨).
٢٧  الطريق الخاص الذي يوصِّل إلى هذه الهيئة هو المنهاج والشريعة والسنة، والحدود والأحكام ابتدأت من آدم وشيث وإدريس، وضمَّت الشرائع والمِلل والمناهج والسنن بأكملها، وأتمها حسنًا وجمالًا بمحمد، والاتفاق على تلك السنة الجماعة (المِلل، ج١، ص٥٧-٥٨).
٢٨  ثم خص موسى بالتنزيل، وخص عيسى بالتأويل، وخص المصطفى بالجمع بينهما على ملة إبراهيم (المِلل، ج١، ص٥٨).
٢٩  … ثم كيفية التقرير الأول والتكميل بالتقرير الثاني بحيث يكون مُصدقًا كل واحد بين يدَيه من الشرائع الماضية والسنن السالفة، تقديرًا للأمن على الخلق، وتوقيفًا للدين على الفطرة. فمن خاصية النبوة ألا يُشاركهم فيها غيرهم. وقد قيل إن الله عز وجل أسَّس دينه على مثال خلقه ليستدلَّ بخلقه على دينه، وبدينه على وحدانيته … ولن يُتصور وضع الملة وشرع الشريعة إلا بوضع شارع يكون مخصوصًا من عند الله بآياتٍ تدلُّ على صِدقه، وربما تكون الآية متضمَّنة في نفس الدعوى، وربما تكون مُلازمة منه، وربما تكون مُتأخرة (المِلل، ج١، ص٥٧–٥٩). والتوحيد جاء به كل نبي من لدن آدم إلى يوم القيامة (التحفة، ص١٢-١٣). وقد جاءت به جميع الرسل من آدم حتى محمد (الحصون، ص٥).
٣٠  الإسلام قد يرِد بمعنى الاستسلام ظاهرًا، ويشترك فيه المؤمن والمنافق. الإسلام بمعنى التسليم والانقياد ظاهرًا موضع الاشتراك فهو المبدأ، ثم إذا كان الإخلاص معه بأن يُصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويُقر عقدًا بأن القدر خيره وشره من الله كان مؤمنًا حقًّا، ثم إذا جمع بين الإسلام والتصديق، وقرن بين المجاهدة والمشاهدة، وصار غيبه شهادة، فهو الكمال. فكان الإسلام مبدأً، والإيمان وسطًا، والإحسان كمالًا. وعلى هذا شمل لفظ المسلمين الناجي والهالك (المِلل، ج١، ص٥٩-٦٠). الإسلام هو الخضوع والانقياد باطنًا وظاهرًا لما جاء به الرسول، وعُلِم مجيئه بالضرورة؛ أي يقينًا. اعلم أن الإيمان الذي كلَّف الله به عباده، وجعل جزاءه دخول الجنة والنجاة من النار، هو تصديق سيدنا محمد فيما عُلِم مجيئه بالضرورة؛ أي اعتقاد صِدقه اعتقادًا جازمًا فيما جاء به عن الله، وعُلِم مجيئه به يقينًا، مع الإذعان القلبي لذلك. وذلك مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر وافتراض الصلاة، وبقية العبادات الإسلامية من الزكاة والصيام والحج على المُستطيع، وتحريم قتل النفس المعصومة ظلمًا والزنا وأمثال ذلك، فكلٌّ من الإيمان والإسلام المُنجِّيَّين لا ينفكُّ عن الآخر؛ فكل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن؛ لأن المُصدق ذلك التصديق للرسول لا بد أن يكون خاضعًا لما جاء به، والخاضع هذا الخضوع لا بد أن يكون مُصدقًا لذلك التصديق، ثم إن النطق بالشهادتين شرطٌ لازم لإجراء الأحكام الدنيوية على المؤمن (المناكحة، الصلاة خلفه وعليه، الدفن …)، فإذا لم ينطق بهذا القدر كالخرس، أو مات عقب إيمان قلبه، فهو مؤمنٌ ناجٍ. ولكنه إن امتنع عن النطق بهما عنادًا بعد أن عُرِض عليه، فهو كافر، ولا عبرة بتصديق القلب (الحصون، ص٦).
٣١  قد يرِد الإسلام وقرينه الإحسان، وعلى هذا خُصَّ الإسلام بالفرقة الناجية (المِلل، ج١، ص٦١).
٣٢  هذه هي حكاية إبليس، ورفض السجود لآدم، ونقاشه مع الله. ويذكُرها الشهرستاني في التوراة والإنجيل والقرآن للدلالة على صفتها الكونية السابقة على الأديان الثلاثة، ويضع على لسان إبليس أسئلةً سبعةً تدلُّ على أنه يُمثل الاتجاه الاعتزالي، والله — تعالى — يُمثل الاتجاه الأشعري! فالمعتزلة يُشاركون إبليس في إعمال الرأي، والأشاعرة يُشاركون الله — تعالى — في الدفاع عن النص. وهذه الأسئلة هي: (أ) إذا كان الله يعلم مسبقًا ما يصدُر عن إبليس، فلِمَ خلقه؟ وهو سؤال عن الغائية التي يُثبتها المعتزلة ويُنكرها الأشاعرة. (ب) إذا كان الله قد خلق إبليس على إرادته، فلِمَ كلَّفه بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف؟ وهو سؤال عن الحرية التي تُثبتها المعتزلة وتُنكرها الأشاعرة. ويرجع كلاهما إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق. (ﺟ) إذا كان الله قد خلق إبليس وكلَّفه فالتزم بالتكليف، فلِمَ أمره بالسجود؟ وهو تأكيد للعبث الذي تُثبته الأشاعرة وتُنكره المعتزلة. (د) إذا كان الله قد خلق إبليس وكلَّفه فالتزم بالتكليف، ورفض السجود، فلماذا لُعن في حين أنه لم يقُل لا أسجد إلا لله؟ وهو سؤال يؤكِّد على الاعتراض على الله كتهمة من الأشاعرة إلى المعتزلة، وهو في الحقيقة يكشف عن تنزيه الله عند المعتزلة. (ﻫ) إذا كان الله قد خلق إبليس وكلَّفه فالتزم بالتكليف، ورفض السجود، ولُعن، فلماذا أُدخلَ الجنة ووسوس لآدم؟ وهو سؤال عن المعاد. (و) إذا كان الله قد خلق إبليس وكلَّفه فالتزم بالتكليف، ورفض السجود، ولُعن، ووسوس لآدم، فلماذا سلَّطه على أولاده؟ وهو سؤال عن المسئولية. (ز) إذا كان الله قد خلق إبليس وكلَّفه فالتزم بالتكليف، ورفض السجود، ولُعن، ووسوس لآدم، وسلَّطه على أولاده، فلماذا استمهله؟ وهذا سؤال عن الزمان والتاريخ والحياة كرسالة (المِلل، ج١، ص١٥–٢٣).
٣٣  ذُكِر لفظ «أساطير» في القرآن تسع مرات: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ؛ بمعنًى سلبي في مُقابل التنزيل والآية والوعد، الخرافة في مقابل الواقع.
٣٤  وتلك الشُّبهات (شبهات إبليس) مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة، إنجيل لوقا ومارقوس ويوحنا ومتَّى، مذكورة في التوراة مُتفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود. هذا الذي ذكرته مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته (المِلل، ص١٥، ص١٨).
٣٥  إن المعلوم الذي لا مِراء فيه أن كل شبهة وقعت لبني آدم فإنما وقعت من إضلال الشيطان الرجيم، ومن وساوسه نشأت شبهاته. ولا يجوز أن تعدد شبهات فِرق الزيغ والكفر هذه الشبهات وإن اختلفت العبادات وتباينت الطُّرق، فإنها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور. وقال المُتأخر من ذريته كما قال المُتقدم: أنا خيرٌ من هذا الذي هو مَهين. وكذلك تعقَّبْنا أحوال المُتقدمين منهم وجدناها مطابقةً لأقوال المُتأخرين. كذلك قال الذين من قبلهم مِثل قولهم، فتشابهم قلوبهم، فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّبوا به … (المِلل، ج١، ص١٨–٢٠).
٣٦  تنميط الوقائع أو تفسير الوقائع الحالية طبقًا لأنماطٍ سابقة، وكأنها تحقيق لنبوءتها معروف في تاريخ الأديان والدراسات المعاصرة حول الكتب المقدَّسة باسم Stcréotype.
٣٧  في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، وكيفية انشعابها، ومن مُصدرها، ومن مُظهرها. وكما قرَّرنا أن الشبهات التي في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أول الزمان، كذلك يمكن أن يُقرَّر في زمان كل نبي ودور كل صاحب ملة وشريعة، أن شبهات أمته في آخر ناشئة من شبهات خصماء أول زمانه من الكفار والمنافقين، وأكثرها من المنافقين. وإن خفي علينا ذلك في الأمم السالبة لتمادي الزمان، فلم يخفَ في هذه الأمة أن شبهاتها نشأت كلها من شبهات مُنافقي زمن النبي (المِلل، ج١، ص٢٣).
٣٨  وأنت ترجع في أمرك كله إلى عقلك الفاسد، ورأيك الأعرج، فتقول قد فعل فلان ولمَ كان وممَّ كان. أنت يا جاهل قد ضارَع قولك قول إبليس حين قاس … فأنت تُعارض كما عارض وليُّك الشيطان. ثم من أدلِّ الأدلة أنك لو تقطَّعت واجتهدت لم يصحَّ لك أصل تعتمد عليه إلا أن تكذب وتنقل الكذب لتستريح إليه، ولا راحة لكذَّاب … وأيضًا فتأويلك القرآن على غير تأويله، وقولك فيه برأيك الفقير، ومخالفتك للسلف، وخروجك من العلم، ورجوعك إلى الجهل الذي هو أولى بك، وقولك في حجته روى فلان وفلان، فأنت ضالٌّ مُضلٌّ تركت السواد الأعظم، وتركت طريق المواضحة … فاللهَ اللهَ في نفسك! انتبهْ، ودَعْ ما يَريبك لما لا يَريبك، ولا تتبع هواك، فليس على وجه الأرض شخصٌ يَعدِل عن السنة والجماعة والألفة إلا كان مُتبعًا لهواه، ناقصًا لعقله، خارجًا من العلم والتعارف. فالزمْ للحق ترشد … (التنبيه، ص١١-١٢).
٣٩  إنك في تسليمك الأول أني إلهك وإله الخلق غيرُ صادق ولا مُخلِص؛ إذ لو صدَّقت أني إله العالمين ما احتكمت عليَّ ﺑ «لمَ»، فإني الله الذي لا إله إلا أنا، لا تسأل عما أفعل، والخلق مسئول (المِلل، ج١، ص١٨). (وهو ما أُثيرَ أخيرًا في مجلس الشعب المصري حين حاول فقيه السلطان تطبيق هذه الآية الخاصة بالله على الحاكم، واعتراض فِرق المعارضة عليه.)
٤٠  فلم يخفَ في هذه الأمة أن شبهاتها نشأت كلها من شبهات مُنافقي زمن النبي؛ إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مَسرًى، وسألوا عما مُنعوا من الخوض فيه والسؤال عنه، جادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه؛ فمن اعترض على الرسول الحق أولى أن يصير خارجيًّا. أوَليس ذلك قولًا بتحسين العقل وتقبيحه، وحكمًا بالهوى في مقابلة النص، واستكبارًا على الأمر بقياس العقل … وتصريح بالقدر … وتصريح بالجبر … صارت الاعتراضات كالبذور، وظهر منها الشبهات كالزروع (المِلل، ج١، ص٢٣–٢٥).
٤١  الجنوح إلى الهوى في مُقابل النص، فاللَّعين الأول لما أن حكَّم العقل على من لا يحتكم عليه العقل لزِمه أن يُجريَ حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخلق في الخالق. الأول غلو، والثاني تقصير. فصارت من الشبهة الأولى مذاهب الحلولية والمُشبهة والغلاة من الروافض، حيث غالَوا في حق شخص من الأشخاص حتى وصفوه بصفات الجلال. وصارت من الشبهة الثانية مذاهب القدرية والجبرية والجسمية، حيث قصروا في وصفه تعالى بصفات المخلوقين. فالمعتزلة مُشبهة الأفعال حلولية الصفات. وكل واحد منهم أعور بأي عينَيه يشاء. فإن من قال إنما يحسُن منه ما يحسُن منَّا، ويقبح منه ما يقبح منَّا، فقد شبَّه الخالق بالخلق. ومن قال بوصف الباري تعالى بما وصف به الخلق، أو بوصف الخلق بما وصف به الباري عز اسمه، فقد اعتزل عن الحق. وسنح القدرية حتى في طلب العلة في كل شيء، وذلك من سنح اللعين الأول إذ طلب العلة في الخلق أولًا، والحكمة في التكليف ثانيًا، والفائدة في التكليف السجود لآدم ثالثًا، وعنه نشأ مذهب الخوارج؛ إذ لا فرق بين قولهم «لا حكم إلا الله» و«لا يحكم الرجال»، وبين قوله «لا أسجد إلا لك، أأسجد لبشرٍ خلقته من صلصال …» وبالجملة، كلا الطرفَين في قصد الأمور ذميم. فالمعتزلة غالَوا في التوحيد بزعمهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات المُشبهة، وقصروا حتى وصفوا الخالق بصفات الأجسام. والروافض غالَوا في النبوة والإمامة حتى وصلوا إلى الحلول. والخوارج قصروا حيث نفَوا تحكيم الرجال (المِلل، ج١، ص١٩-٢٠).
٤٢  غير أن شيئًا لم يقِف في سبيل الدعوة الإسلامية، ولم يحجب ضياء القرآن من الأطراف النائية عن مثار النزاع، وكان الناس يدخلون فيه أفواجًا من الفُرس والسوريين ومن جاوَرهم والمصريين والأفريقيين ومن يليهم، واستراح جمهورٌ عظيم من العمل في الدفاع عن سلطان الإسلام، وآن لهم أن يشتغلوا في أصول العقائد والأحكام بما هداهم إليه سير القرآن اشتغالًا يُحرَص فيه على النقل، ولا يُهمَل فيه اعتبار العقل، ولا يُقضى فيه من نظر الفكر. ووُجد من أهل الإخلاص من انتدب للنظر في العلن والقيام بفريضة التعليم، ومن أشهرهم الحسن البصري، فكان له مجلس للتعليم والإفادة في البصرة يجتمع إليه الطالبون من كل صوب، وتمتحن فيه المسائل من كل نوع، وكان قد الْتحف بالإسلام، ولم يتبطَّنه أناسٌ في كل ملة دخلوه حاملين لما كان عندهم، راغبين أن يصلوا بينه وبين ما وجدوه. فثارت الشبهات بعدما هبَّت على الناس أعاصير الفتنة، واعتمد كل ناصر على ما صرَّح به القرآن من إطلاق العنان للفكر، وشارك الدخلاء من حق لهم السبق من العرفاء، وبدتْ رءوس المشاقِّين تعلو بين المسلمين (الرسالة، ص١٢-١٣).
٤٣  التراث والتجديد، ص١٨–٢١، ص١٥٧–١٦٨.
٤٤  مضى زمن النبي، وهو المَرجع في الحيرة، والسراج في ظلمات الشبهة، وقضى الخليفتان بعده ما قبلهما من العمر في مواقعة الأعداء، وجمع حكمة الأولياء، ولم يكن للناس من الفراغ ما يَخْلون فيه من عقولهم ليبتلوها بالبحث في مباني عقائدهم، وما كان من اختلافٍ قليل رُدَّ إليهما، وقُضي الأمر منه بحكمهما بعد استشارة من جاوَرهما من أهل البصر بالدين إن كانت حاجة إلى الاستشارة. وأغلب الخلاف كان في فروع الأحكام لا في أصول العقائد، ثم كان الناس في الزمنَين يفهمون إشارات الكتاب ونصوصه، يعتقدون بالتنزيه، ويُفوضون فيما يوهم بالتشبيه، ولا يذهبون وراء ما يفهمه ظاهر اللفظ (الرسالة، ص٩). إنه من المعلوم أن المسلم عند كل مُطَّلع على تاريخ الأمة المحمدية، أن إيمان أهل الإسلام بجميع ما جاء به الرسول كان في عصره السعادة مُستندًا للقرآن والحديث، مؤيَّدًا بأدلة العقل السليم، الناهج في المنهج القويم، خالصًا من شوائب الشُّبه والأهواء، سليمًا من غوائل الأغاليط واختلاف الآراء؛ فلذلك كانت ثمرةً يانعة، وزهرةً ساطعة؛ فكنت ترى أفراد الأمة مُحافظين على إقامة العبادات، وانتظام شأن المعاملات، ومُمتثلين للأوامر مُنتهين عن المُنكرات، مُتحلِّين بأخلاق الدين الحسنة، وآدابه المستحسَنة؛ لأنه متى طاب الأصل طابت الفروع، وعذوبة الماء تنشأ من صفاء الينبوع. وقد دام ذلك في المسلمين وجماعة المُوحدين (الحصون، ص٣).
٤٥  … مع التوفيق بين المذاهب على قدر استطاعتي مُعرضًا عن كل ما كثُر فيه القال والقيل، معمولًا على ما يقتضيه الدليل، غير مُتعصب لمذهبٍ دون مذهب، بل أدُور مع الحق حيث دار؛ لأن الله إنما كلَّف عباده بما يقتضيه الدليل في الاعتقاد والعمل، ولم يُكلِّف أحدًا منهم بأن يكون أشعريًّا أو ماتريديًّا أو معتزليًّا أو فلسفيًّا أو غير ذلك. وعلى العاقل المُنصف أن يدور مع الدليل الصحيح أينما دار، وأن يعرف الرجال بالحق، وألا يعود إلا على صحيح الأنظار (القول، ص٢).
٤٦  كما عرف الأولون من العباسيين ما كان من الفُرس في إقامة دولتهم وقلب دولة الأمويين، واعتمدوا على طلب الأنصار منهم، وأعدُّوا لهم منصَّات الرقعة بين وُزرائهم وحواشيهم، فعَلَا أمرُ كثير منهم وهم ليسوا من الدين في شيء. وكان فيهم المانوية واليزدية ومن لا دين له، وغير أولئك من الفِرق الفارسية، فأخذوا ينفثون من أفكارهم، ويُشيرون بحالهم وعقالهم إلى من يرى مثل آرائهم أن يقتدوا بهم، فظهر الإلحاد، وتطلَّعت رءوس الزندقة، حتى صدر أمر المنصور بوضع كتب لكشف شبهاتهم وإبطال مزاعمهم (الرسالة، ص١٥-١٦).
٤٧  هذا النوع من العلم، علم تقرير العقائد وبيان ما جاء في النبوات، كان معروفًا عند الأمم قبل الإسلام؛ ففي كل أمة كان القائمون بأمر الدين يعملون لحفظه وتأييده، وكان البيان من أول وسائلهم إلى ذلك، لكنهم كانوا قلَّما يَنْحون في بيانهم نحو الدليل العقلي، وبناء آرائهم وعقائدهم على ما في طبيعة الوجود أو ما يشتمل عليه نظام الكون، بل كانت مَنازع العقول في العلم ومَضارب الدين في الإلزام بالعقائد وتقريبها من مشاعر القلوب على طرفَي نقيض. وكثيرًا ما صرَّح الدين على لسان رؤسائه أنه عدو العقل، نتائجه ومقدماته، فكان ما في علوم الكلام من تأويل وتفسير وإدهاش بالمعجزات، أو إلهاء بالخيالات، يعلم ذلك من له إلمام بأحوال الأمم قبل البعثة الإسلامية. جاء القرآن فنهج بالدين منهجًا لم يكن عليه ما سبقه من الكتب المقدَّسة، منهجًا يمكن لأهل الزمن الذين أُنزلَ فيه ولم يأتِ بعدهم أن يقوموا عليه، فلم يقصر الاستدلال على نبوة النبي بما عُهِد الاستدلال به على النبوات السابقة، بل جعل الدليل في حال النبي مع نزول الكتاب عليه في شأن من البلاغة عن مُحاكاته فيه، ولو في مثل أقصر سورة منه. وقضى علينا من صفات الله ما أذِن الله لنا ما أوجب علينا أن نعلم. لكن لم يطلب التسليم بالمجرد أنه جاء بحكاية، ولكن أقام الدعوى وبرهن، وحكى مذاهب المخالفين وكرَّ عليهم بالحجة، وخاطَب العقول، وطالَب بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما دعاه ودعا إليه، حتى إنه في سباق قصص أحوال السابقين كان يُقرر أن للخلف سنةً لا تُغيَّر، وقاعدةً لا تتبدَّل. وتآخى العقل بالدين لأول مرة في كتابٍ مقدَّس على لسان نبي مُرسَل بتصريحٍ لا يَقْبل التأويل. وتقرَّر بين المسلمين كافةً — إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه — أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل، كالعلم بوجود الله، وبقدرته على إرسال الرسل، وعلمه بما يوحي به إليهم، وإرادته لاختصاصهم برسالته، وما يتبع ذلك مما يتوقف عليه فهم معنى الرسالة، وكالتصديق بالرسالة نفسها. كما أجمعوا على أن الدين إن جاء بشيء قد يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل؛ فاعتبار حكم العقل مع ورود أمثال من المُتشابهات في النقل فسح مجالًا للناظرين، خصوصًا ودعوة الدين إلى التفكير في المخلوقات لم تكن محدودة بحد، ولا مشروطة بشرط للعلم بأن كل نظر صحيح فهو مؤدٍّ إلى الاعتقاد بالله على ما وصفه بلا غُلوٍّ في التجريد، ولا دُنوٍّ من التحديد (الرسالة، ص٥–٩).
٤٨  على هذا كان النزاع بين ما تطرَّف من نظر العقل وما توسَّط أو غلا من الاستمساك بظاهر الشرع، والكل على وفاق على أن الأحكام الدينية واجبة الاتِّباع، ما يتعلق فيها بالعبادات والمعاملات وجب الوقوف عنده، وما مسَّ بواطن القلوب وملكات النفوس فرض توطين النفس عليه. وكان وراء هؤلاء قوم من أهل الحلول والدهريين، وطلبوا أن يُحملوا القرآن ما حملوه عند الْتحاقهم بالإسلام، وأفرطوا في التأويل، وحوَّلوا كل عمل ظاهر إلى سرٍّ باطن، وفسَّروا الكتاب بما يبعد عن تناول الخطاب بعد الخطأ عن الصواب، وعُرِفوا بالباطنية أو الإسماعيلية. ولهم أسماءٌ أخرى تُعرَف في التاريخ، فكانت مذاهبهم غائلة الدين، وزلزال اليقين، وكانت لهم فِتنٌ معروفة وحوادث مشهورة (الرسالة، ص١٦-١٧).
٤٩  هذا هو ما اتبعه الملطي الشافعي في «التنبيه والرد» في عرضه لمقالات الفِرق الأربعة؛ الرافضة والمعتزلة والمرجئة والخوارج، ثم نقدها بعد ذلك.
٥٠  هذا هو موقف الرازي في «اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين»، وكذلك ابن حزم في «الفصل».
٥١  هذا هو اختيار الأشعري في «مقالات الإسلاميين».
٥٢  هذه هي طريقة البغدادي في «الفَرْق بين الفِرق».
٥٣  وهو المنهج الذي اتَّبعه البغدادي في «الفَرْق بين الفِرق»، والإيجي في «العقائد»، لبيان افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، وعقائد الفِرق الناجية. وكذلك هو المنهج المتبَع عند الإسفراييني في «التبصير»، والعلوي في «بيان الأديان»، والملطي الشافعي في «التنبيه والرد». وهو أيضًا المنهج المتبَع جزئيًّا عند الشهرستاني في «المِلل والنِّحل» (الفرق، ص٦). وإنَّا نذكُر لك في هذا الجزء الثالث الفِرق الاثنتين والسبعين فرقة، ومن هي بأسمائها، وما ينتحل من كفرها وعدوانها، وأنها بانتحالها وفعالها في النار … (التنبيه، ص١٢-١٣). سألتم — أسعدكم الله بمطلوبكم — شرح معنى الخبر المأثور عن النبي في افتراق الأمة ثلاثًا وسبعين فرقة، منها واحدة ناجية تصير إلى الجنة عالية، وبواقيها عاديةٌ تصير إلى الهاوية، والنار الحامية، وطلبتم الفرقة الناجية التي لا يزلُّ بها القدم، ولا تزول عنها النِّعم، وبين فِرق الضلال الذين يرون ظلام الظلم نورًا، واعتقاد الحق ثبورًا، وسيصلون سعيرًا، ولا يجدون من دون الله نصيرًا؛ فرأيت إسعافكم بمطلوبكم من الواجب في إبانة الدين القويم، والصراط المستقيم، وتمييزها من الأهواء المنكوسة، والآراء المعكوسة؛ ليهلكَ من هلك عن بيِّنة، ويحيا من يحيا عن بيِّنة (الفرق، ص٣).
٥٤  وتُستوفى أقسام الفِرق الإسلامية ثلاثًا وسبعين فرقة (المِلل، ج١، ص٥٣). ويُقسم البغدادي أبواب «الفرق» على النحو الآتي: (أ) في بيان الحديث المأثور في افتراق الأمة (ص٤–١١). (ب) في كيفية افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (ص١١–٢٨). (ﺟ) في بيان تفصيل مقالات فِرق أهل الأهواء، وبيان فضائح كل فرقة منها على التفصيل (ص٢٨–٣٠). (د) في بيان الفِرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منه (ص٢٢٠–٣١٢). (ﻫ) في بيان أوصاف الفرقة الناجية (ص٣١٢–٣٦٥).
٥٥  أما بعد، فإنك سألتني أن أصنِّف لك كتابًا مختصَرًا أبيِّن فيه جُملًا توضِّح الحق وتدمغ الباطل، فرأيت إسعافك بذلك، رزقك الله الخيرات، وأعانك على الخير والمطلوبات (اللُّمع، ص١٧). أما بعد، فإن كثيرًا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم في رؤية الله، وأنكروا الشفاعة، وجحدوا عذاب القبر، ودانوا بخلق القرآن، وأيقنوا أن العباد يخلقون الشر، وزعموا أن الله يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم، وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها، وأنكروا أن يكون له يدان (الإبانة، ص٧-٨). أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه يجب أن يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله تعالى، والحساب والميزان، والجنة والنار، حقٌّ كله (الفقه، ص١٨٤). وسيتَّضح لك أيها المَشوق إلى اطلاع على قواعد أهل السنة، المُقترح تحقيقها بقواطع الأدلة، أنه لم يستأثر بالتوفيق للجمع بين الشرع والتحقيق فريقٌ سوى هذا الفريق، فاشكُرِ الله تعالى على اقتفائك لآثارهم، وانخراطك في سلك نظامهم وعيارهم، واختلاطك بفِرقهم، فعساك أن تُحشَر يوم القيامة في زمرتهم (الاقتصاد، ص٣-٤).
٥٦  يعتمد مُلا القاري على حديث الفرقة الناجية قبل بداية شرح عقائد أهل السنة كما عرضها أبو حنيفة في «الفقه الأكبر» (شرح الفقه، ص٢).
٥٧  وذلك مثل «الفقه الأكبر»، «العقائد النسفية»، «العقائد العضدية»، «جوهرة التوحيد»، «العقيدة التوحيدية»، «الخريدة البهية»، «جامع زبد التوحيد»، «وسيلة العبيد».
٥٨  فلما وفَّقني الله لمطالعة مقالات أهل العلم من أرباب الديانات والمِلل، وأهل الأهواء والنِّحل، والوقوف على مصادرها ومواردها، واقتناص أوانسها وشواردها، أردتُ أن أجمع ذلك في مختصَرٍ يحوي جميع ما تديَّن به المُتدينون، وانتحله المُنتحلون؛ عبرةً لمن استبصر، واستبصارًا لمن اعتبر (المِلل، ج١، ص٤). فاللهَ اللهَ عبادَ الله، اتقوا الله في أنفسكم، ولا يغرَّنكم أهل الكفر والإلحاد، ومن موَّه كلامه بغير برهان، لكن بتمويهات ووعظ على خلاف ما أتاكم به كتاب ربكم وكلام نبيكم، فلا خير فيما سواهما. واعلموا أن دين الله تعالى ظاهرٌ لا باطن فيه، وجهرٌ لا سر تحته، كله برهان لا مسامحة فيه. فإياكم وكلَّ قول لم يُبيَّن سبيله، ولا وضح دليله، ولا تعوجوا عمَّا مضى عليه نبيكم وأصحابه (الفصل، ج٢، ص١٠٩). وقد أثبت ما يسرُّ المتعلمَ والمعلم، وينفع الجاهلَ سماعُه، ويزيد البصيرة بصيرة (التنبيه، ص١). ودلَلْتك على منهج إسلامه، وجعلت كتابي هذا مَعقلًا للمسلمين، فمن نظر فيه مُتفهمًا لمعانيه، مُحتفظًا لأصوله، ومُحتجًّا بفصوله، وناظرًا فيه، ازداد بصيرةً (التنبيه، ص١٣). ليكون مجموعها للعالم تذكرة، وللمتكلم تبصرة (الأصول، ص١). هذا وقد استدعيتم ذكر لُمَع من الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، فاستخرت الله في إسعافكم بمُناكم، والله المستعان، وعليه التُّكلان (لُمَع الأدلة، ص٧٥). فدُونك أيها الساري هذا النبراس، كتاب وهدًى فيه نور للناس، يُرشدك إلى المكامن الخفيَّة، من شرح العقائد النسفيَّة (حاشية التفتازاني، ص٢). فافترصت لمعة من ظلم الدهر، ونبوة من أنياب النوائب، وانتهزت فرصة من عين الزمان، وخفةً من زحام الشوائب، وأخذت في تصنيف مختصَر مرسوم بالمقاصد، منظوم فيه غُرَر الفرائد، ودُرَر الفوائد، وشرح له يتضمن بسط موجَزه، وحل ملغزه، وتفصيل مجمله، وتبيين معضله، مع تحقيق للمقاصد وفق ما يُرتاد، وتدقيق للمعاقد وفق ما يُعتاد، وتحرير للمسائل بحسب ما يُراد ولا يُزاد، وتقرير للدلائل بحيث لا يُضاد ولا يُصاد، بألفاظٍ تنفتح بها الآذان وتنشرح الصدور، وتنفطر بالأنهار والأزهار جبال وصخور، ومَعانٍ تتهلل بها وجوه الأوراق وتبتسم ثغور الطور، وتتلألأ خلال الكلام كأنها نور على نور، باذلًا الجهد في إيراد مباحث قلَّت عناية المتأخرين بها من المتكلمين، وقد بالَغ في الاعتناء بها المُحققون من المتقدمين، لا سيَّما السمعيات التي هي المطلب الأعلى والمقصد الأقصى في أصول الدين، والعروة الوثقى والعمدة القصوى لأهل الحق واليقين (شرح المقاصد، ص٣).
٥٩  … وعلى آله الطيبين. اللهم نستعينك على جهاد الأعداء، والرد على السفهاء، ونسألك كلمة العدل في الغضب والرضا. وقد قرأت، أسعدك بالله بطاعته، ووفقك لاتباع مرضاته، كتاب الماجن السفيه، وفهمت ما ذكره فيه، فرأيته كتاب إنسان حنق على أهل الدين، شديد البغض على المسلمين، يحكي عنهم ما ليس في قولهم، ويروِّيهم بما ليس من مذهبهم؛ جرأةً منه على الكذب والبهتان، وتهادنًا وتهاونًا منه بركوب الإثم والعدوان. ورأيت مع ذلك مُتعديًا لعلوه، مُتجاوزًا القدرة، واضعًا نفسه في غير موضعها. وذكر المعتزلة فشتمهم وبهتهم بما ليس فيهم، وأوهم جهل الرافضة وحشو أهل الإمامة أنه من نظراء المعتزلة وكفائها، وأنه عالم بمذاهبها وأقاويلها. فأما أهل النظر وأصحاب الكلام فقد علِموا جميعًا أنه ليس بنظير للمعتزلة ولا كفء لهم، وأنه كان زمانًا تابعًا من أتباعهم، وحدثًا من أحداثهم، يختلف إلى مجالسهم ويتعلم من أشياخهم، إلى أن ألحد في دينه، وجحد خالقه، ونفته المعتزلة وباعدته عن مجالسها، فحمله الغيظ الذي دخله، والدهشة التي صار إليها، على أنه فضح نفسه بأن وضع كتابًا كذب عليها فيه، ونحَلها ما ليس من قولها، وعاب بعضها بمذاهب هو يقول ببعضها، بل يقول بها ويذهب إليها، ولكن كيف يتعجب من شتم صاحب الكتاب المعتزلة والكذب عليها، ورميها بما ليس من قولها، وقد ألَّف عدة كتب في تثبيت الإلحاد، وإبطال التوحيد، وجحد الرسالة، وشتم النبيين، والأئمة المهديِّين. وهي كتبٌ مشهورة معروفة. وأنا بعون الله ذاكر لما في كتابه، وناقضه عليها حرفًا، ومُبينٌ كذبه على العلماء، وتحريفه لأقاويلهم، وبالله أستعين (الانتصار، ص١–٣).
٦٠  ذلك مثل كتب السلفيين، مثل ابن تيمية، «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، «منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية»، وكتاب ابن القيم «اجتماع الجيوش الإسلامية» …
٦١  هذا هو الحال في العقائد العضدية التي تبدأ بحديث الفرقة الناجية (العقائد العضدية، ص٩–٢٥). قال النبي: «ستفترق أمَّتي ثلاثًا وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي.» وهذه عقائد الفرقة الناجية، وهم الأشاعرة (العضدية، ص٩–٣٥).
٦٢  حاشية الإتحاف، ص٤؛ تحفة المريد، ص٢٢.
٦٣  المواقف، ص٤١٤.
٦٤  يُهاجم التفتازاني اللاأدرية والشُّكَّاك قائلًا: «والحق يُعذبهم ولو بالنار، ليعترفوا فتُلغى مِلتهم، أو يحترقوا فتنطفئ شعلتهم» (المقاصد، ص٥٢).
٦٥  ورأيت في الناس حكاةً يحكون من ذكر المقالات، ويصنِّفون في النِّحل والديانات إرادة التشنيع على من يُخالفه، ومن بين تارك للنقص في رواية لما يرونه من اختلاف المختلفين، ومن بين من يُضيف إلى قول مُخالفيه ما يظنُّ أن الحجة تلزمهم به. وليس هذا سبيل الربَّانيين، ولا سبيل الفطناء المُميزين؛ فحَدَاني ما رأيت من ذلك على شرح ما التمستُ شرحه من أمر المقالات، واختصار ذلك وترك الإطالة والإكثار (مقالات، ج١، ص٧٣). وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصُّب لهم ولا كسر عليهم، دون أن أبيِّن صحيحه من فاسده، وأعيِّن حقه من باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكيَّة في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل (المِلل، ج١، ص١٤). ولكل فرقة مقالةٌ على حيالها، وكتبٌ صنَّفوها (المِلل، ج١، ص٦٥). ونحن لا نستحلُّ ما يستحلُّه من لا خير من تقويل أحد ما لم يقله نصًّا، وإن آل قوله إليه؛ إذ قد يلزم ما ينتجه قوله فيتناقض، فاعلموا أن تقويل القائل، كافرًا كان أو مبتدعًا أو مخطئًا، على ما يقوله نصًّا كذبٌ عليه، ولا يحلُّ الكذب على أحد (الفصل، ج٥، ص١٩).
٦٦  هذا هو ما اتَّبعه الملطي الشافعي في «التنبيه والرد» في بدئه شرح أهل السنة (التنبيه، ص١٤-١٥). وهو أيضًا ما اتَّبعه ابن حزم في «الفصل» إذ يقول فِرقُ المُقرِّين بملة الإسلام خمسة، وهم أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج (الفصل، ج٢، ص١٠٦). ويقول أيضًا وأهل السنة الذين نذكُرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة. فإنهم الصحابة، رضي الله عنهم، ومن سلك نهجهم من خيار التابعين، رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء جيلًا فجيلًا إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها، رحمة الله عليهم (الفصل، ج٢، ص١٠٧).
٦٧  هذا ما اتبعه البغدادي في «الفَرْق بين الفِرق»، وذكره أوصاف الفرقة الناجية في النهاية (الفرق، ص٣١٢–٣٦٥).
٦٨  يصنِّف البغدادي في «الفَرْق بين الفِرق» أهل الأهواء ثماني فِرق، والخارجة على الإسلام إلى سبع عشرة فرقة، الاثنتا عشرة الأولى والسابعة عشرة الأخيرة (الباطنية) اتجاهاتٌ مُتطرفة من الروافض، خاصةً بتأليه الأئمة، والفرقتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة (الحابطية والحمارية) فرقتان مُتطرفتان من القدرية، والفرقتان الخامسة عشرة والسادسة عشرة (اليزيدية والميمونية) من الخوارج. وهو ما يتبعه ابن حزم أيضًا في «الفصل» إذ يقول: «وما أصحاب أحمد بن حابط وأحمد بن مانوش والفضل الحراني والغالبية من الروافض والمتصوفة والبطيحية أصحاب أبي إسماعيل البطيحي، ومن فارق الإجماع من العجاردة وغيرهم، فليسوا من الإسلام، بل كفار بإجماع الأمة (الفصل، ج٢، ص١٠٦).
٦٩  يذكر ابن حزم في «الفصل» أمثلة من غلو بعض الفِرق إلى حد خروجها على الإسلام، مثل غلو بعض طوائف الخوارج والمعتزلة والمرجئة والشيعة (الفصل، ج٢، ص١٠٨).
٧٠  فأين أنت يا بطَّال من هؤلاء السابقين؟ وأين عملك من أعمالهم؟ وهل بقي عمل العامل في عصرنا هذا بوقت أو لحظة من أوقاهم وسبقهم؟ وإنما نالوا الشرف بسبقهم إلى الإسلام، وبذلهم النفوس، والكل في الله حتى أيَّد الله بهم نبيه، وأظهر بهم دينه، وأعلن بهم الحق، وأظهر بهم الصدق. فكيف يجسر على الطعن عليهم من عرف الله ساعةً في عمره؟ أم كيف يجسر على سبِّهم من يزعم أنه مسلم؟ فأين أنت؟ وأين لك وأهل عصرك من هؤلاء؟ هيهات إن لم تدرك بعض شأنهم أو تبلغ من أحدهم أو تصفه؟ فكيف وأنت ترجع في أمرك كله إلى عقلك الفاسد، ورأيك الأعرج، فتقول قد فعل فلان ولمَ كان وممَّ كان؟! وأنت يا جاهل قد ضارَع قولك قول إبليس حين قاس فقال «خلقتَني من نار وخلقتَه من طين»، فأنت تُعارض كما عارَض وليُّك الشيطان! ثم من أدلِّ الأدلة أنك لو تقطَّعت واجتهدت لم يصح لك أصلٌ تعتمد عليه إلا أن تكذب وتنقل الكذب لتستريح إليه، ولا راحة لكذَّاب. والله عز وجل يقول: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ؛ أي لُعِن الكذَّابون. وقال النبي : «من كذب عليَّ فيلتبوَّأْ مَقعده من النار.» وأيضًا فتأويلك القرآن على غير تأويله، وقولك فيه برأيك الفقير، ومُخالفتك للسلف، وخروجك من العلم، ورجوعك إلى الجهل الذي هو أولى بك، وقولك في حجتك «روى سديف الصيرفي» (التنبيه، ص١١-١٢).
٧١  فأما الفرقة الثالثة والسبعون فهي أهل السنة والجماعة من فريقَي الرأي والحديث دون من يشتري لَهْو الحديث، وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومُحدثوهم، ومُتكلمو أهل الحديث منهم، كلهم مُتفقون على مقالةٍ واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته، وفي أسمائه وصفاته، وفي أبواب النبوة والإمامة، وفي أحكام العقبى، وفي سائر أصول الدين. وإنما يختلفون في الحلال والحرام من فروع الأحكام، وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق. وهم الفرقة الناجية، ويجمعها الإقرار بتوحيد الصانع وقِدمه وقِدم صفاته الأزلية، وإجازة رؤيته من غير تشبيه ولا تعطيل، مع الإقرار بكتب الله ورسله، وبتأييد شريعة الإسلام، وإباحة ما أباحه القرآن، وتحريم ما حرَّمه القرآن، مع قبول مع صح من سنة رسول الله، واعتقاد الحشر والنشر، وسؤال الملكَين في القبر، والإقرار بالحوض والميزان. فمن قال بهذه الجهة التي ذكرناها، ولم يخلط إيمانه بها بشيء من بدع الخوارج والروافض والقدرية وسائر أهل الأهواء، فهو من جملة الفرقة الناجية إن ختم الله له بها. ودخل في هذه الجملة جمهور الأمة وسوادها الأعظم، هم أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي والثوري وأهل الظاهر (الفرق، ص٢٦-٢٧).
٧٢  كاشفًا لظلمات وتهويلات المُلحدين، كالمعتزلة وغيرهم من طوائف الإلهيين (الغاية، ص٥).
٧٣  لم تدع الرسالة شبهة على الدين إلا كشفتها، ولا عقدة المشكلات إلا حلَّتها. ولكن الشُّبه تُذكَر غالبًا بطريق الإيماء والتلويح، دون الإبانة والتصريح، وذلك أدنى ألا يشكَّ الضعيف، ولا يشتغل القوي عن المَقصد الشريف (الرسالة، مقدمة الناشر (رشيد رضا)، ص ن).
٧٤  في إحدى الروايات لا تُذكَر الفرقة الناجية ولا تُعيَّن، وفي روايةٍ أخرى تُذكَر وتُعيَّن (الفرق، ص٥–٧).
٧٥  وافترق المسلمون على ثلاث وسبعين فرقة، والناجية أبدًا من الفِرق واحدة؛ إذ الحق من القضيتين المتقابلتين في واحدة، ولا يجوز أن تكون قضيتان مُتناقضتان مُتقابلتان على شرائع التقابل إلا وإن اقتسما الصدق والكذب، فيكون الحق في أحدَيهما دون الأخرى. ومن المُحال الحكم على المُتخاصمين المُتضادين في أصول المعقولات بأنهما مُحقَّان صادقان. وإذا كان الحق في كل مسألة عقلية واحدة، فالحقُّ في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقةٍ واحدة (المِلل، ج١، ص٧). وقد علِمْنا بموجب العقل وضرورته أن الحق لا يكون من الأقوال المختلفة والمتناقضة إلا في واحد، وسائرها باطل (الفصل، ج١، ص٧٦-٧٧).
٧٦  شرَعْنا في ذكر مقالات أهل العلم من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا لعلةٍ لا يشذُّ عن أقسامها مذهب، ونكتب تحت كل باب وقسمٍ ما يليق به ذكرًا حتى يُعرَف لمَ وُضع ذلك اللفظ لذلك الباب، ونكتب تحت ذكر الفرقة المذكورة ما يعمُّ أصنافها مذهبًا واعتقادًا تحت كل صنف ما خصَّه وانفرد به عند أصحابه (المِلل، ج١، ص٥٣).
٧٧  في السبب الذي أوجب هذا الكتاب على طريق الحساب، ومنها إشارة إلى مناهج الحساب. لما كان مَبنى الحساب على الحصر والاختصار، وكان الغرض من تأليف هذا الكتاب حصر المذاهب — مع الاختصار — المذاهب التي أخذت طريق الاستيفاء ترتيبًا، وقدرت الأغراض على مناهجها تقسيمًا وتبويبًا، وأردت أن أبيِّن كيفية طرق هذا العلم وكمية أقسامه؛ لئلا يظن أني من حيث أنا فقيهٌ ومُتكلمٌ أجنبي في مسالكه ومراسمه، أعجمي القلم بمداركه ومعالمه، فآثرت من طرق الحساب أحكمها وأحسنها، وأقمت عليه من حجج البرهان أوضحها وأمتنها، وقدرتها على العدد، وكان الواضع الأول منه استمداد المدد. فأقول: مراتب الحساب تبتدئ من واحد وتنتهي إلى سبع، ولا تُجاوزها البتة (المِلل، ج١، ص٤٦-٤٧).
٧٨  وشرط الصناعة الحسابية أن يُكتَب بإزاء المحدود من الخطوط ما يُكتَب حشوًا. وشرط الصناعة الكتابية أن يترك الحواشي على الرسم المعهود. فراعيت شرط الصناعتين، ومددت الأبواب على شرط الحساب، وتركت الحواشي على رسم الكتابة (المِلل، ج١، ص٥٣). والحساب تاريخ وتوجيه (المِلل، ج١، ص٤٩). مثلًا، هل الواحد مبدأ العدد؟ اثنان مصدر العدد، ثلاثة فرد، أربعة زوج (المطموس)، خمسة عدد مكرَّر أو دائر، ستة عدد مركَّب من فردين وهو العدد التام (المموج)، سبعة عدد مركَّب من فرد وزوج وهو العدد الكامل، ثمانية عدد مركب من زوجين بداية أخرى … (المِلل، ج١، ص٥٠–٥٢).
٧٩  مثلًا: (١) صدر الحساب فرد، يقبل التقسيم والتفصيل، لا يُساويه عددٌ آخر كمًّا وطولًا. (٢) الأصل زوجٌ يجب حصره في قسمين، أقصى من الصدر كمًّا وطولًا. (٣) من الأصل تقسيم ثانٍ لا يقلُّ عن قسمين ولا يزيد على أربع، أقصر عن الأصل كمًّا وطولًا. (٤) أقصر من الأصل كمًّا وطولًا، وهو المطموس، يجوز أن يُجاوز الأربعة، والأفضل أن يكون أقل، ويكون أقصر كمًّا وطولًا. (٥) الصغير، وهو حيث ينتهي التبويب، ويكون أقل كمًّا وطولًا. (٦) ويجوز حيث ينتهي التفصيل. (٧) القصد، ويمتد من طرف إلى طرف حيث إنه نهاية الصدر الأول (المِلل، ج١، ص٤٧–٤٩).
٨٠  في إحدى الروايات ذكر لليهود والنصارى والمسلمين، في روايةٍ أخرى ذكر لليهود للمسلمين. انظر اختلاف الروايات في «الفَرْق» (ص٤–٩).
٨١  وما يتوهم من أنه حمل على أصول المذاهب فهي أقل من هذا العدد، وإن حمل ما يشغل الفروع فهي أكثر مما يتوهم، وتوهُّم لا مستند له؛ لجواز كون الأصول التي بيَّنها مخالفة معتدة بها بهذا العدد. وقد يُقال لعلهم في وقت من الأوقات بلغوا هذا العدد، وإن زادوا أو نقصوا في أكثر الأوقات (الدواني، ص١٧-١٨). العدد الواقع في الحديث إما أن يُحمَل على أصول مذاهب الأمة المذكورة فيه أو على ما يشمل فروعها؛ إذ لا وجه للحمل على مجرد فروعها لخروج الأصل الذي لا فرع له كالجبرية المحضة. وعلى التقديرين لا ينطبق ذلك العدد على عدد فِرق أمَّة الإجابة؛ لأن أصول فِرقها أقل، وما يشمل فروعها أكثر، فلا يصحُّ حمل الأمة أمة الإجابة. ومَنشؤه أمور: (أ) استفادة بلوغ الافتراق إلى هذا العدد في أوائل الإسلام من السيرة، سواء بمعناه الحقيقي أو بمعناه المجازي للتأكيد. (ب) كون زمان التوهم بعد أوائل الإسلام؛ إذ لا مجال للحكم بأقلية الأصول قبل انقضاء الأوائل لجواز البلوغ إليه إلى وقت الانقضاء. (ﺟ) توهم أن العدد الواقع في زمانٍ يدوم بحيث لا يزيد ولا ينقص أبدًا. (د) توهم انحصار الأصول في الأقسام الأولية التي هي كبار الفِرق الإسلامية، أو في الشاملة على الأقسام الثانوية والفروع ما عداها. (ﻫ) توهم انحصار أمة الإجابة في الإنس؛ لأن ما بيَّنها أهل الكلام هو فِرق الإنس، مع أنها شاملة للجن أيضًا (الكلنبوي، ص١٧-١٨).
٨٢  الفرق، ص٥٧–٦٠.
٨٣  هذا ما فعله الشهرستاني في «المِلل»، وجعله الأصول التي تختلف عليها الفِرق أربعة؛ التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والنقل والعقل (المِلل، ص١٠–١٢).
٨٤  ويفترق كلٌّ منهم فِرقًا؛ فأهل الأهواء ليست تنضبط مقالاتهم في عددٍ معلوم. وأهل الديانات قد انحصرت مذاهبهم بحكم الخبر الوارد فيها؛ فافترقت المجوس سبعين فرقة، واليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمون على ثلاث وسبعين فرقة (المِلل، ج١، ص٧).
٨٥  هذا هو موقف ابن حزم في «الفصل»، بل إن ابن حزم يُعلن عدم صحة حديث الفرقة الناجية ويُضعفه، وهو ما لا نستطيعه نحن الآن. أما الصيغة الأخرى له الواردة في كتب الحديث عن نجاة الفِرق كلها إلا واحدة، والتي تُفيد عكس المعنى الأول، فليست مذكورة في كتب العقائد؛ لأنها لا تُفيد في تكفير المعارضة، بل تردُّ الاعتبار لها، وتجعل الهالك هو فرقة السلطان؛ أي احتكار الفكر وتبرير السلطة.
٨٦  هذا ما يفعله ابن حزم؛ فقد كتب في فضائح المِلل المخالفة للإسلام، يهود ونصارى ومجوس، ثم عن الفِرق الأربع من فواحش أقوالهم ضلال وأباطيل (الفصل، ج٥، ص١٩).
٨٧  ونقتصر في أقسام الفِرق الخارجة عن الملة الحنيفية على ما هو أشهر وأعرف أصلًا وقاعدة، فنُقدم ما هو أولى بالتقديم، ونؤخر ما هو أجدر بالتأخير (المِلل، ج١، ص٥٣). ويصنِّف الشهرستاني الفِرق إلى نوعين؛ الأول المسلمون (المِلل، ج١، ص٥٩–١٦٠؛ ج٢، ص٣–٥٨)، وهؤلاء نوعان: (أ) أهل الأصول المختلفون في التوحيد والوعد والوعيد، مثل المعتزلة، والجبرية، والصفاتية، والمُشبهة، والخوارج، والمُرجئة، والشيعة. (ب) أهل الفروع، وهم المختلفون في الأحكام الشرعية والمسائل الاجتهادية (ج٢، ص١٥٨). والثاني الخارجون على الملة الحنيفية والشريعة الإسلامية (ج٣، ص٨–١٦٦)، وهم فرقتان: (أ) اليهود، والنصارى، والمجوس، وأصحاب الاثنين، والمانوية، وسائر فِرقهم. (ب) أهل الأهواء والنِّحل والفلاسفة (ج٤، ص٥–١٧٤؛ ج٥، ص٣–١٧٤؛ والهند، ج٥، ص١٧٤–٢١١).
٨٨  يقسِّم الأشعري الفِرق إلى إحدى عشرة فرقة بالرغم من قوله عشرة، وهي: الشيعة، الخوارج، المرجئة، المعتزلة، الجهمية، الضرارية، الحسينية، البكرية، العامة، أصحاب الحديث، الكلابية أصحاب عبد الله بن كلاب القطان. ويُضيف زهيرًا الأثري وأبا معاذ التومني. وكأن الأقوال ثلاثة عشر (مقالات، ج١، ص٦٥). وكلها تعود إلى الأربعة الكبرى الأولى؛ الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة. فالجهمية نِصفها اعتزالي في نفي الصفات، والنصف الآخر اعتزاليةٌ مضادة في القول بالجبر. والضرارية والحسينية فِرقٌ اعتزالية. البكرية والعامة وأصحاب الحديث والمرجئة والكلابية وأبو معاذ التومني وزهير الأثري، كلها فِرقٌ صغيرة داخل الفرقة الناجية. ويُقسم الرازي الفِرق إلى عشرة؛ العاشرة خارج على الإسلام، والتسعة في الإسلام، وهي: المعتزلة، الخوارج، الروافض، الغلاة، الكرامية، الجبرية، المرجئة، الصوفية، الذين يتظاهرون بالإسلام وإن لم يكونوا مسلمين، الذين هم خارجون على الإسلام بالحقيقة وبالاسم (اليهود، والنصارى، والمجوس، والثنوية، والصابئة، والفلاسفة). ويمكن أيضًا ردُّها إلى الأربعة الكبرى؛ فالغلاة والكرامية والصوفية مع الروافض، والجبرية مع المعتزلة. كما يصنِّف البغدادي الفِرق إلى عشرة؛ الروافض، والخوارج، والمعتزلة، والكرامية، والمُشبهة، والمرجئة، والنجارية، والجهمية، والبكرية، والضرارية. وهي ترجع أيضًا إلى الأربعة الكبرى؛ فالكرامية مع المعتزلة أو مع الروافض (حدوث الصفات أو التجسيم)، والنجارية والجهمية والبكرية والضرارية أيضًا مع المعتزلة، والمشبهة مع الروافض. ويصنِّفها الشُّرَّاح إلى ثمانية (الكلنبوي، ص١٨؛ حاشية الإتحاف، ص٤). ويُقسِّم الشهرستاني الفِرق إلى سبعة؛ المعتزلة، والجبرية، والصفاتية، والمُشبهة، والخوارج، والمُرجئة، والشيعة. ويمكن ردُّها إلى أربعة؛ فالجبرية نقيض المعتزلة في خلق الأفعال ومعتزلة في نفي الصفات، والصفاتية والمرجئة والمشبهة أشاعرة في الذات والصفات والأفعال (المِلل، ج١، ص١٣). ويذكر ابن حزم فِرقًا ستًّا خارج الملة الإسلامية، تنقسم بدَورها إلى أقسامٍ فرعية. ومن خلال هذه الفِرق الست تحدث آراءٌ أخرى فرعية يمكن إدخالها في أحدها، مثل تناسخ الأرواح وتواتر النبوات في كل وقت، أو أن كل نوع من أنواع الحيوانات أنبياء، أو أن العالم مُحدَث وله مدبِّر لم يزل، إلا أن النفس والخلاء والزمان لم يزل معه. وهو قول الرازي الطبيب. وقد صنَّف ابن حزم ضده كتابًا مُنفردًا عن نقد العلم الإلهي، أو أن الفلك لم يزل، وأنه غير الله، وأنه هو المدبِّر للعالم الفاعل له إجلاله (الفصل، ج١، ص٣-٤). ويقسِّم الملطي الشافعي الفِرق إلى خمس؛ أهل السنة، والمعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج. ويمكن ردُّها إلى أربعة؛ لأن أهل السنة والمرجئة فرقةٌ واحدة. وكذلك الأمر عند ابن حزم في تصنيفٍ آخر (الفصل، ج٢، ص١٠٦). ونفس التصنيف عند الخياط؛ شيعة، ومرجئة، ومعتزلة، وأصحاب حديث ورواية (الانتصار، ص١٣٩).
٨٩  الفِرق عند ابن حزم أربع؛ المعتزلة والخوارج والمرجئة والتشيع (الفصل، ج٥، ص١٩–٧٠). وهي نفس القسمة عند الملطي الشافعي في «التنبيه والرد»؛ الرافضة (ص١٨–٣٥)، المعتزلة (ص٣٥–٤٣)، المرجئة (ص٤٣–٤٧)، الخوارج (ص٤٧–٥٤). وقد تكون المرجئة إحدى فِرق السلطان فصَّلتها الفرقة الناجية كي تكون معارضةً مستأنَسة.
٩٠  عند الملطي الشافعي مثلًا الزنادقة خمس فِرق، والجهمية ثمانٍ، والقدرية سبع، والمرجئة اثنتا عشرة، والرافضة خمس عشرة، والحرورية خمس وعشرون، ومجموعها اثنتان وسبعون فرقة، فهذه جملتهم (التنبيه، ص٢–٩). ويعترف الكلنبوي بأن الفِرق أقل من هذا العدد إذا كانت كبار الفِرق ثمانية؛ المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والنجارية والجبرية والمشبهة وأهل السنة، والشاملة للأصول الثانوية ثلاثًا وأربعين؛ عشرون للمعتزلة، وثلاثة للشيعة، وسبعة للخوارج، وخمسة للمرجئة، وثلاثة للنجارية، وواحدة للجبرية، وثلاثة للمشبهة، وواحدة لأهل السنة؛ فسواءٌ حمل على الأصول الأولية أو على ما يشتمل الأصول الثانوية يكون أقل من هذا العدد (الكلنبوي، ص١٨). وأحيانًا يتم ضبط العدد؛ عشرون للمعتزلة، واثنان وعشرون للشيعة، وثمانية عشر للخوارج، وخمسة للمرجئة، وثلاث للنجارية، وواحدة للجبرية المحضة، وثلاثة للمشبهة، وواحدة لأهل السنة (الكلنبوي، ص١٨).
٩١  ولكن ربما لسوء المعنى الفاحش بلفظٍ مُتلبس ليُسهلوه على أهل الجهل ويحسن النظر بهم من أتباعهم، وليبعد فهم تلك العظيمة على العامة من مُخالفتهم، كقول طوائف من أهل البدعة والضلالة لا يوصف الله بالقدرة على المُحال ولا على الظلم ولا على الكذب، ولا غيرها ما علم أن يكون، فأخفَوا أعظم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تأنيس الأغمار من اتِّباعهم، وتسكين الدهماء من مُخالفيهم؛ فرارًا من كشف معتقدهم صُراحًا الذي هو أنه تعالى لا يقدر على الظلم، ولا له قوة على الكذب، ولا به طاقة على المُحال (الفصل، ج٥، ص١٩).
٩٢  هذا ما يفعله ابن حزم في تكفيره للمرجئة، أي رجعية أهل السنة، المحافظة الساذجة، فقه السلطان. أقرب المرجئة إلى أهل السنة القائلون بأن الإيمان عقد بالقلب واللسان، وأبعدهم القائلون بأنه باللسان فقط، وأقرب الشيعة إلى أهل السنة القائلون بالإمامة في علي وبنيه، وأبعدهم الإمامية.
٩٣  ثم سائر الفِرق الأربع فيها ما يُخالف أهل السنة الخلاف البعيد، وفيهم ما يُخالفهم الخلاف القريب. فأقرب فِرق المرجئين إلى أهل السنة من ذهب مذهب أبي حنيفة الفقيه إلى أن الإيمان هو التصديق باللسان والقلب معًا، وأن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط. وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان والأشعري ومحمد بن كرام السجستاني؛ فإن جهمًا والأشعري يقولان إن الإيمان عقد بالقلب فقط، وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه وعبد الصليب في دار الإسلام بلا تقيَّة. ومحمد بن كرام يقول هو باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه. وأقرب فرق المعتزلة إلى أهل السنة أصحاب الحسين بن محمد النجار وبشر بن غياث المريسي، ثم أصحاب ضرار بن عمرو، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل. وأقرب مذاهب الشيعة إلى أهل السنة المُنتمون إلى أصحاب الحسن بن صالح بن حسن الهمذاني الفقيه، القائلون بأن الإمامة في ولد علي، والثابت عن الحسن بن صالح هو قولنا إن الإمامة في جميع قريش، وقول جميع الصحابة، إلا أنه كان يُفضل عليًّا على جميعهم، وأبعدهم الإمامية. وأقرب فِرق الخوارج إلى أهل السنة أصحاب عبد الله بن يزيد الإباضي والفزاري الكوفي، وأبعدهم الأزارقة (الفصل، ج٢، ص١٠٦).
٩٤  وكان بين المعتزلة والسلف في كل زمان اختلافات في الصفات (المِلل، ج١، ص٤٤). وهذا التضادُّ بين كل فريق كان حاصلًا في كل زمان (المِلل، ج١، ص٦٤-٦٥).
٩٥  فاللَّعين الأول لما أن حكَّم العقل لمن لا يحتكم عليه العقل لزِمه أن يُجريَ حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخلق في الخالق. والأول غلو، والثاني تقصير. فمَثار الشبهة الأولى مذاهب الحلولية والتناسخية والمشبهة والغلاة من الروافض، حيث غالَوا في حق شخص من الأشخاص حتى وصفوه بصفات الجلال. وثار من الشبهة الثانية مذاهب القدرية والجبرية والمجسمة، حيث قصروا في وصفه بصفات المخلوقين. فالمعتزلة مُشبهة الأفعال، والمُشبهة حلولية الصفات، وكل واحد منهم أعور بإحدى عينَيه شاء. فإن من قال إنَّ ما يحسن منَّا ما يحسن منه، وما يقبح منَّا يقبح منه، فقد شبَّه الخالق بالخلق. ومن قال يوصف الباري بما يوصف به الخلق، أو يوصف الخلق بما يوصف به الباري، فقد اعتزل الحق (المِلل، ج١، ص٢٠-٢١). فالمعتزلة غالَوا في التوحيد بزعمهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات، والمشبهة قصروا حتى وصفوا الخالق بصفات الأجسام. والروافض غالَوا في النبوة والإمامة حتى وصلوا إلى الحلول، والخوارج قصروا حيث نفَوا تحكيم الرجال (المِلل، ج١، ص٢٢).
٩٦  كثيرٌ من أصحاب المقالات إن هي إلا تفريعات على فرقة من أمهات الفِرق. وكثيرًا ما يحدث خلط بين الفرقة والمقالة؛ فالفرقة ينتسب إليها عديد من المتكلمين، وتُمثل اتجاهًا فكريًّا، في حين أن المقالة رأيٌ مُنفرد يُنسَب إلى صاحبه ولا يدخل تحت اسم فرقة. ونظرًا لأهمية الفِرق الأربع فإنها تحظى بالقدر الأكبر من كتب الفِرق من حيث الكم والترتيب. فبينما يُخصص الأشعري في «مقالات الإسلاميين» من حيث الكم للمعتزلة ١٠٠ص، وللشيعة ٩٠ص، وللخوارج ٤٠ص، وللمرجئة ٢٠ص (المعتزلة والشيعة نقيضان، والخوارج والمرجئة نقيضان، والأشاعرة هي الفرقة الناجية الموجهة للعقائد)؛ يخصِّص لأصحابها الحديث ٦ص، وللبكرية ٣ص، وللضرارية ٢ص، وللنجارية ٢ص، وللعامية صفحةً واحدة، ولكلٍّ من زهير الأثري ومعاذ التومني نصف صفحة. وبينما يخصِّص البغدادي في «الفَرْق بين الفِرق» للمعتزلة ٨٨ص، وللروافض ٤٣ص، وللخوارج ٤٢ص، فإنه يخصِّص للكرامية ٢٠ص، وللمشبهة ٥ص، وللمرجئة ٥ص، وللنجارية ٤ص، ولكلٍّ من الجهمية والبكرية والضرارية صفحةً واحدة. ويكون التقابل بين الفِرق الأربعة في الأصول الأربعة كما يُحددها الشهرستاني (المِلل، ج١، ص١٠–١٢) كالآتي:
٩٧  وهذا ما يُلاحَظ في أمهات الفِرق التي يذكرها الأشعري في أول القائمة؛ فالخوارج ضد الشيعة بالنسبة لعلي، والمرجئة ضد الشيعة في التنزيه والتشبيه، والأشاعرة ضد المعتزلة في الصفات والنقل والعقل وأفعال العباد، والمعتزلة ضد جهم في الحرية وأفعال العباد. وهو ما يفعله البغدادي أيضًا عندما يُرتب الفِرق كالآتي: الخوارج، القدرية، المعتزلة، المرجئة. فالخوارج ضد الروافض في الإمامة، والمعتزلة ضد الروافض في التوحيد، والمرجئة ضد الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة وفي صلة الإيمان بالعمل. وهو ما لاحظه الشهرستاني بقوله: «المعتزلة وغيرهم من الجبرية والصفاتية والمختلطة منهم الفريقان من المعتزلة والصفاتية مُتقابلان تقابُل التضاد، وكذلك القدرية والجبرية، والمرجئة والوعيدية، والشيعة والخوارج. وهذا التضاد بين كل فريق وفريق كان حاصلًا في كل زمان» (المِلل، ج١، ص٦٤-٦٥). لذلك رتَّب الشهرستاني الفِرق الأربعة الأولى، المعتزلة والجبرية والصفاتية والمشبهة، حسب الموضوع، وهو التوحيد بحلوله الثلاث؛ نفي الصفات عند المعتزلة والجبرية، وإثبات الصفات عند الصفاتية، وتشبيه الصفات عند المشبهة. ولكنه أغفل الجدل في الزمان؛ فالترتيب الزمني هو المشبهة في تشبيه الصفات كدعوى، ثم المعتزلة والجبرية في نفي الصفات كنقيض الدعوى، ثم في إثبات الصفات بلا تشبيه عند الصفاتية كمركَّب للدعوى. كما أنه ترك الشيعة في النهاية مع أنها تُشارك المشبهة، وتُغالي في التشبيه إلى درجة التأليه. ويضع الشهرستاني الخوارج والمرجئة والوعيدية معًا لاشتراكها في موضوع الإيمان والعمل، ولو أن الخوارج والوعيدية يشتركان في الدعوى نفسها، ويُقدم المرجئة كنقيض للدعوى (المِلل، ج٢، ص٣).
٩٨  يُرتب الملطي الشافعي الفِرق من الجانب التاريخي كالآتي: الرافضة، والمعتزلة، والمرجئة، والخوارج. فالمعتزلة رد فِعل على الرافضة في التوحيد، ولكن المرجئة ليست رد فِعل على المعتزلة في شيء، بل هو رد فِعل على الخوارج في الحكم على مُرتكب الكبيرة وفي الصلة بين الإيمان والعمل. ولكنه يعود في الجزء النقدي ويُرتبها كالآتي: المرجئة، الروافض، المعتزلة، الحرورية (الخوارج). أي إنه يضع الفرقة الثالثة في المكان الأول، وربما كان ذلك خطأً إراديًّا من الناسخ أو من الناشر؛ لأنه ترتيبٌ مُخالف للأول ولا يدل على شيء.
٩٩  وأما الروافض فإن السبئية منهم أظهروا بدعتهم في زمان علي، فقال بعضهم له: أنت الإله. فأحرق عليٌّ قومًا منهم، ونفى ابنَ سبأ إلى ساباط المدائن. وهذه الفرقة ليست من فِرق أمة الإسلام لتسميتهم عليًّا إلهًا (الفِرق، ص٢١). وكان من العاملين في تلك الفتنة (قتل الخليفة الثالثة) عبد الله بن سبأ، يهودي، وغلا في حب علي حتى زعم أن الله حل فيه، وأخذ يدعو إلى أنه الأحق بالخلافة، وطعن على عثمان فنفاه، فذهب إلى البصرة وبثَّ فيها فِتنته، فأُخرجَ منها، فذهب إلى الكوفة ونفث ما نفث من سم الفتنة فنُفي منها، فذهب إلى الشام فلم يجد فيها ما يريد، فذهب إلى مصر فوجد فيها أعوانًا على فتنته إلى أن كان ما كان مما ذكرناه، ثم ظهر بمذهبه في عهد علي فنفاه إلى المدائن. وكان رأيه جرثومة كما حدث من مذاهب الغلاة من بعده (الرسالة، ص١٠-١١). ويقول رشيد رضا معلِّقًا إن ابن سبأ فعل ما فعل بغضًا في الإسلام لا حبًّا في علي؛ فإسلامه كان خديعة. وله نظراء في ذلك من اليهود، ومثلهم بعض مجوس الفُرس الذين أظهروا الإسلام وتستَّروا بالتشيع لعلي ولآل البيت، كلهم كانوا يقصدون إفساد الإسلام وإزالة ملكه بالتفريق بين أهله (الرسالة، ص١٠).
١٠٠  يحلُّ الشهرستاني هذا التضاد فيقول: المعتزلة والصفاتية مُتقابلان تقابُل التضاد، وكذلك القدرية والجبرية، والمرجئة والوعيدية، والشيعة والخوارج (المِلل، ج١، ص٦٤).
١٠١  ثم ظهرت بدع بشر بن المعتمر من القول بالتولد والإفراط فيه، والميل إلى الطبيعيين من الفلاسفة (المِلل، ج١، ص٤٢).
١٠٢  ويقول رشيد رضا معلِّقًا: الغلو في التجريد مذهب المُعطلة مُنكري الصفات، والدنو من التحديد مذهب المُشبهة، وبينهما مذهب السلف الوسط، وهو أن تصفه تعالى بما وصف به نفسه بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، ويقرب من مذهب مُتكلمي الخلق الذين يمنعون التعطيل والتمثيل دون التأويل لبعض الصفات والأفعال (الرسالة، ص٩). ويقول أيضًا «التحقيق» أن السلف كانوا يأخذون في الصفات الإلهية بمعاني الألفاظ في اللغة مع تنزيهه تعالى عن مُشابهة شيء من خلقه؛ فكما أن ذاته ليست كغيرها من الذوات فكذلك صفاته وأفعاله. ولا يذهبون إلى ما وراء ذلك من لوازم ظاهر اللفظ كالتشبيه والتحديد المأخوذ من إطلاقه في الأصل على المخلوق؛ فإن التنزيه قد جعل المشاركة في اللفظ اسمية أو جنسية لا شخصية (الرسالة، ص٩).
١٠٣  ومن بالغ القول بالقدر هشام بن عمرو والفوطي والأصم من أصحابه (المِلل، ج١، ص٤٣).
١٠٤  ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر والاستطاعة من معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم، وتبرَّأ منهم المتأخرون من الصحابة (الفرق، ص١٨-١٩). المعتزلة والصفاتية مُتقابلان تقابُل التضاد، وكذلك القدرية والجبرية، والمرجئة والوعيدية، والشيعة والخوارج (المِلل، ج١، ص٦٤).
١٠٥  وكانت أول مسألة ظهر الخلاف فيها مسألة الاختيار واستقلال الإنسان بإرادته وأفعاله الاختيارية، ومسألة من ارتكب الكبيرة ولم يتُب. اختلف فيها واصل بن عطاء وأستاذه الحسن البصري، واعتزل، يعلم أصولًا لم يكن أخذها عنه. غير أن كثيرًا من السلف ومنهم الحسن — على قول — كان على رأي أن العبد مختار في أعماله الصادرة عن علمه وإرادته. وقام يُنازع هؤلاء أهل الجبر الذين ذهبوا إلى أن الإنسان في عمله الإرادي كأغصان الشجر في حركاتها الاضطرارية. كل ذلك وأرباب السلطان من بني مروان لا يحفلون بالأمر، ولا يُعنَون بردِّ الناس إلى أصل، وجمعهم على أمرٍ يشملهم، ثم يذهب كل ما يشاء، سوى أن عمر بن عبد العزيز أمر الزهري بتدوين ما وصل إليه من الحديث، وهو أول من جمع الحديث (الرسالة، ص١٣-١٤).
١٠٦  ويضع الغزالي هذا القانون في مقدمة «الاقتصاد» إذ يقول: واطلعوا (أهل السنة) على طريق التلفيق بين مُقتضيات الشرائع وموجبات العقول، وتحقَّقوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وعرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد واتِّباع الظواهر ما أتَوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة بين تصرُّف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع ما أتَوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط، بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد وملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم؛ فكلا طرفَي قصدِ الأمور ذميم. وأنَّى يُستثب الرشاد يُقنع بتقليد الأثر والخبر، ويُنكر مناهج البحث والنظر، أو يعلم أنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر، وبرهان العقل الذي عرف به صِدقه فيما أخبر؟ وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر، وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحَصَر! أوَلا يعلم أن خطأ العقل قاصر، وأن مجاله ضيق فيحصر؟ هيهات قد خاب على القطع والثبات، وتعثَّر بأذيال الضلالات، من لم يسمع بتأليف الشرع والعقل وهذا الشتات. فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والآذاء، ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء، فأخلِقْ بأن يكون طالب الاهتداء المُستغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأنبياء! فالمُعرِض عن العقل مُكتفيًا بنور القرآن مِثاله المُتعرض لنور الشمس مُغمضًا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان؛ فالعقل مع الشرع نور على نور. والمُلاحظ بالعين الأعور لأحدهما على الخصوص مُتدلٍّ بحبلٍ مغرور (الاقتصاد، ص٣-٤).
١٠٧  وأما السمع والعقل فقد قال أهل السنة الواجباتُ كلها بالسمع، والمعارف كلها بالعقل، لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضي ولا يوجب. والسمع لا يُعرف، أي لا يوجد المعرفة، بل يوجب. وقال أهل العدل المعارفُ كلها معقولةٌ واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجبٌ قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبح (المِلل، ج١، ص٦٤). والعدل على مذهب أهل السنة أن الله عدل في أفعاله بمعنى أنه مُتصرف في الملك على مُقتضى المشيئة. والجور والظلم ضده، فلا يُتصور منه جور في الحكم، وظلم في التصرف. وعنى مذهب الاعتزال والعدل ما يقتضيه العقل من الحكمة، وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة (المِلل، ج١، ص٦٢-٦٣).
١٠٨  أما الوعد والوعيد، فقد قال أهل السنة الوعدُ والوعيد كلامُه الأزلي، وعَدَ على ما أمر وأوْعَد على ما نهى؛ فكل من نجا استوجب الثواب فبوعده، وكل من هلك واستوجب العقاب فبوعيده؛ فلا يجب شيء من قضية العقل. وقال أهل العدل لا كلام في الأزل، ومن خسر فبفعله استوجب العقاب، والعقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك (المِلل، ج١، ص٦٣-٦٤).
١٠٩  والوعيدية من الخوارج والمرجئة من الجبرية والقدرية ابتدأت بدعتهم في زمان الحسن، واعتزل واصل عنهم وعن أستاذه بالقول بالمنزلة بين المنزلتين، وسُمِّي هو وأصحابه معتزلة.
١١٠  وأما المرجئة فثلاثة أصناف؛ صنفٌ منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان وبالقدر على مذاهب القدرية، فهم معدودون في القدرية والمرجئة، كأبي شمر المرجئي، ومحمد بن شبيب البصري والخالدي. وصنفٌ منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان، ومالوا إلى قول جهم في الأعمال والأكساب، فهم من جملة الجهمية والمرجئة. وصنفٌ منهم خالص في الإرجاء من غير قدر (الفرق، ص٢٥). والمعتزلة والصفاتية مُتقابلان تقابُل التضاد، وكذلك القدرية والجبرية، والمرجئة والوعيدية، والشيعة والخوارج (المِلل، ج١، ص٦٤).
١١١  ثم حدث في أيام الحسن البصري خلاف واصل بن عطاء الغزال في القدر وفي المنزلة بين المنزلتين، وانضمَّ إليه عمرو بن عبيد في باب بدعته، فاعتزلا إلى سارية من سواري مسجد البصرة، فقيل لهما ولأتباعهما معتزلة لاعتزالهم قول الأمة في دعواها أن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر (الفرق، ص٢٠-٢١؛ حاشية الإتحاف، ص٢٦).
١١٢  هذا ما فعله الشهرستاني في عرض الأصول الأربعة، وذكر الطرفين، إذ يقول: أما التوحيد فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وقال أهل العدل إن الله واحد في ذاته لا قسيم له ولا صفة له، وواحد في أفعاله لا شريك له؛ فلا قديم غير ذاته، ولا قسيم له في أفعاله، ومُحال وجود قديمين ومقدورين وقادرين، وذلك هو التوحيد (المِلل، ج١، ص٦٢). المعتزلة والصفاتية مُتقابلان تقابُل التضاد (التوحيد)، وكذلك القدرية والجبر (خلق الأفعال)، والمرجئة والوعيدية (الإيمان والعمل)، والشيعة والخوارج (الإمامة).
١١٣  وظهرت جماعة من المعتزلة مُتوسطين مثل ضرار بن عمرو وحفص الفرد والحسين النجار من المتأخرين خالفوا الشيوخ في مسائل (المِلل، ج١، ص٤٤). وقد تتلمذ له (واصل) زيدُ بن علي، وأخذ منه؛ فلذلك صارت الزيدية كلهم معتزلة، ومن رفض زيد بن علي لأنه خالف مذهب آبائه في الأصول، وفي التبرِّي والتولِّي، وهم أهل الكوفة، وكانوا جماعةً سُمِّيت رافضة (المِلل، ج١، ص٤٠).
١١٤  وقد ظهر ذلك أيضًا في التصوف الذي مرَّ بمراحل تاريخية ثلاث؛ المرحلة الخلقية حتى القرن الثاني، والمرحلة النفسية حتى القرن الخامس، والمرحلة الميتافيزيقية حتى القرن السابع. وقد ظهر التصوف أيضًا كبناءٍ نظري أو كطريقٍ روحي في المراحل الثلاث نفسها؛ المرحلة الخلقية يكون فيها التصوف علمًا للأخلاق الدينية، والمرحلة النفسية يكون فيها التصوف علمًا للأخلاق الدينية، والمرحلة النفسية يكون فيها التصوف علمًا لبواطن القلوب، والمرحلة الميتافيزيقية يتحول فيها التصوف إلى نظرية في وحدة الوجود أو الوحدة المطلَقة. وقد ظهر هذا التطابق أيضًا بين التاريخ والفكر في الفقه؛ فقد مرَّ أيضًا بثلاث مراحل؛ الفقه الواقعي الذي يُعطي الأولوية للواقع على الفكر، وهو فقه مالك؛ ثم الفقه العقلي أو النظري أو التقديري، وهو الغالب على أهل الرأي وفقه أبي حنيفة؛ وأخيرًا فقه الشافعي الذي يُحاول الجمع بين المَطلبَين. وهذه المراحل الثلاث ذاتها هي مناهج ثلاثة لموضوع الأصول؛ الأول يُعطي الأولوية للواقع على الفكر، والثاني يُعطي الأولوية للفكر على الواقع، والثالث يُحاول الجمع بينهما. أما الفقه الحنبلي فإنه عود إلى الأصول الخام والتصاق بالنص دون أية محاولة للتحضير أو للتعقيل أو للتكييف. فالنص هو المصدر والواقعة، الأصل والفرع.
١١٥  انظر التراث والتجديد، (١) موقفنا من التراث القديم، إعادة الاختيار بين البدائل (ص١٨–٢١).
١١٦  لذلك يُخطئ كثيرٌ من الدارسين المُعاصرين عندما يبدءون دراستهم بالصلاة والسلام على رسول الله، والشكر لله على الإبقاء على الدين بفضل علم الكلام الذي استطاع إظهار الحق على الباطل بعد أن أتى الإسلام، ونظم العرب الهمج، وأعطاهم حضارة وهم بلا حضارة. وتعمُّ هذه الروح خاصةً الدراسات الجامعية في كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وفي كلية أصول الدين في الجامعة الأزهرية. انظر مقدمة محمد محيي الدين عبد الحميد ﻟ «مقالات الإسلاميين» للأشعري (ص٦-٧).
١١٧  انظر الفصل التاسع: تطور الوحي، النبوة، تطور النبوة.
١١٨  هذا هو موضوع القسم الثالث من «التراث والتجديد»، بعنوان «نظرية التفسير» (التراث والتجديد، ص٢١٣–٢١٦).
١١٩  سبب قول المختار (الكيسانية) داعية محمد بن الحنفية بالبداء أنه لما خرج عليه مصعب بن الزبير لأخذ الكوفة بعث صاحبه أحمد بن شميط على رأس الجند لقتاله. وادَّعى أن الوحي نزل إليه ووعده بالنصر، فلما انهزم سأله أحمد: لماذا تعِدُنا بالنصر على عدونا؟ فقال: إن الله تعالى كان قد وعدني بذلك، ولكنه بدا له. واستدل على ذلك قائلًا: يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ (الرعد: ٣٩)، فكان سبب قول الكيسانية بالبداء (الفرق، ص٥١-٥٢).
١٢٠  هذا هو موضوع القسم الثاني من «التراث والتجديد»، «موقفنا من التراث الغربي».
١٢١  يرى البعض أن بدعة الكلام الأولى نشأت على يد رجلين؛ الأول نصرانيٌّ من أهل العراق يُدعى «سوس»، أظهر الإسلام وصحِب معبدًا الجهني، وعلَّمه القول بالقدر (في حين أن النصارى لا يؤمنون بحرية الاختيار المُنفصلة عن الفضل الإلهي)، وعنه أخذ غيلان الدمشقي الذي قال بالقدر خيره وشره أنه من العبد، وجعل الإمامة صالحةً في غير قريش، وأن كل من كان قائمًا بالكتاب والسنة فهو مستحقٌّ لها، وأنها لا تثبُت إلا بإجماع الأمة (التكفير للموقف السياسي تحت ستار غطاء العقيدة). والآخر هو عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم ليكيد للإسلام، وقد أحدث ثلاثة أشياء: (أ) وصية الرسول لعلي بالإمامة نصًّا (لتقويض دولة الخلافة). (ب) رجعة علي ورجعة الرسول. (ﺟ) علي لم يُقتَل وما زال حيًّا، يسكن السحاب؛ الرعد صوته، والبرق سوطه، به جزءٌ إلهي، ينزل إلى الأرض فيملؤها عدلًا كما مُلئت جورًا. وهو الذي أثار فتنة عثمان (تاريخ الإسلام، ج٣، ص٣٠؛ تهذيب التهذيب، ج١، ص٢٢٥؛ مقالات، ج١، ص٩–١٢).
١٢٢  يُعطي ابن حزم نموذجًا لهذا التحليل، فيقول إن الأصل في خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفُرس كانوا من سعة الملك، وعلو التِّيه على جميع الأمم، وجلاله الخطير في أنفسهم، حتى إنهم كانوا يُسمُّون أنفسهم الأحرار والأبناء، وكانوا يعدُّون سائر الناس عبيدًا لهم، قلَّما امتُحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب أقل الأمم عند الفُرس خطرًا، تَعاظَمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمُحاربة في أوقاتٍ شتَّى. وكان من قادتهم شنقاده وأستاسيس والمقنع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقَّب بخداش، وأبو مسلم السراج، فأرادوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قومٌ منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة آل بيت رسول الله واستشناع ظلم علي، ثم سلكوا بهم مسالك حتى أخرجوهم من الإسلام. فقومٌ منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلًا يُنتظَر يُدعى المهدي عنده حقيقة الدين؛ إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين من هؤلاء الكفار؛ إذ نسبوا أصحاب رسول الله إلى الكفر. وقومٌ خرجوا إلى النبوة من ادَّعَوا له النبوة. وقومٌ سلكوا بهم المسلك الذي ذكرنا من القول بالحلول وسقوط الشرائع. وآخرون تلاعَبوا فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة. وآخرون قالوا بل هي سبع عشرة صلاة، في كل صلاة خمس عشرة ركعة. وهذا قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكندي قبل أن يصير خارجيًّا صفريًّا. وقد سلك هذا المسلكَ أيضًا عبدُ الله بن سبأ الحميري اليهودي، فإنه، لعنة الله عليه، أظهر الإسلام لكيد أهله، فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان. وأحرق علي بن أبي طالب منهم طوائف أعلنوا بالإلهية. ومن هذه الأصول الملونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة، وهما طائفتان مُجاهرتان بالإسلام جملةً، قائلتان بالمجوسية المحضة، ثم مذهب مزدك الموبذ الذي كان على عهد أنوشروان بن قيماد ملك الفرس. وكان يقول بوجوب تآسي الناس في النساء والأموال (الفصل، ج٢، ص١٠٨-١٠٩).
١٢٣  لا نجد تعريفًا لعلم الكلام إلا عند الغزالي في «المُنقِذ من الضلال»، هو ليس مؤلَّفًا كلاميًّا، وأيضًا في «العقائد النسفية»، وفي مقدمة ابن خلدون.
١٢٤  هذا هو موقف الأشعري في «مقالات الإسلاميين» دون أن يتعرَّض لحديث الفرقة الناجية (مقالات، ج١، ص٣٩-٤٠). وكذلك موقف الرازي في «اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين». وهو أيضًا موقف الملطي الشافعي في «التنبيه والرد»، وبدئه مؤلَّفه بالهجوم على الشراة (الخوارج) (التنبيه، ص٢–١٠). هذه الثنائية بين السياسة والدين وليدة العصر الحديث في الحضارة الأوروبية بعد أن انحسر الدين عن توجيه الحياة وأصبح كهنوتًا، واشتدَّ التيَّار العلماني، وأصبح الواقع عقلانيًّا محضًا، وبعد أن قوَّى الفكر الغربي هذه الثنائية بامتداده داخل الفكر الإسلامي المعاصر.
١٢٥  كان الأمر على ذلك إلى أن حدث ما حدث في عهد الخليفة الثالث، وأفضى إلى قتله، هوى بتلك الأحداث ركنٌ عظيم من هيكل الخلافة، واصطدم الإسلام وأهله صدمةً زحزحتهم عن الطريق التي استقاموا عليها، وبقي القرآن قائمًا على صراط … وفُتح للناس بابٌ لتعدِّي الحدود التي حدَّها الدين؛ فقد قُتل الخليفة بدون حكم شرعي، وأشعر الأمر قلوب العامة أن شهواتٍ تلاعبت بالعقول في أنفُس من لم يملك الإيمان قلوبهم، وغلب الغضب على كثير من المُغالين في دينهم، وتغلَّب هؤلاء وأولئك على أهل الأصالة منهم، فقُضيت أمور على غير ما يُحبون (الرسالة، ص١٠). توالت الأحداث بعد ذلك، ونقض بعض المُبايعين للخليفة الرابع ما عقدوا، وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطة إلى الأمويين، غير أن بناء الجماعة قد تصدَّع، وانفصمت عُرى الوحدة بينهم، وتفرَّقت بهم المذاهب في الخلافة، وأخذ الأحزاب في تأييد آرائهم كلٌّ ينصر رأيه على رأي خصمه بالقول والعمل، وكانت نشأة الاختراع في الرؤية والتأويل، وغلا كل قبيل؛ فافترق الناس إلى شيعة وخوارج ومُعتدلين، وغلا الخوارج فكفَّروا من عداهم، ثم استمر عنادهم وطلبهم لحكومةٍ أشبه بالجمهورية وتكفيرهم لمُخالفهم زمنًا طويلًا، إلى أن تضعضع أمرهم بعد حروب أكَلتْ كثيرًا من المسلمين، وانتشرت غاراتهم في أطراف البلاد، ولم يكفُّوا عن إشعال الفتن، وبقيت منهم بقيةٌ إلى اليوم في أطراف أفريقيا، وناحية من جزيرة العرب. وغلا بعض الشيعة فرفعوا عليًّا أو بعض ذريته إلى مقام الألوهية أو ما يقرب منه، وتبع ذلك خلاف في كثير من العقائد (الرسالة، ص١١-١٢).
١٢٦  وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم اختلافهم في الإمامة، وكان الاختلاف بعد الرسول في الإمامة (مقالات، ج١، ص٣٩–٦٤).
١٢٧  يذكر الشهرستاني الخلاف في الإمامة، والخلاف في تنصيب أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة، والخلاف في أمر الشورى وخلافة عثمان، والخلاف على علي وحروبه، على أنه خلاف في المسائل الاجتهادية والفقهية؛ أي إنها من الفروع لا من الأصول (المِلل، ج١، ص٣٠–٣٩). وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين اختلافهم في الإمامة، وذلك أنه بعد موت رسول الله اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأرادوا عقد الإمامة لسعد بن عباد، وبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين، فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، واحتجَّ عليهم بقول النبي «الإمامة في قريش»، فأذعنوا له مُنقادين، ورجعوا إلى الحق طائعين (مقالات، ج١، ص٢٩–٤١). وكان الاختلاف بعد الرسول في الإمامة، ولم يحدث خلافٌ غيره في حياة أبي بكر وأيام عمر، إلى أن ولي عثمان، وأنكر قومٌ عليه في آخر أيامه أفعالًا كانوا فيما نقموا عليه من ذلك مُخطئين، وعن سنن الحجة خارجين، فصار ما أنكروه عليه اختلافًا إلى اليوم، ثم قُتل وكانوا في قتله مُختلفين. فأما أهل السنة والاستقامة فقالوا كان مُصيبًا في أفعاله، قتله قاتلوه ظلمًا وعدوانًا، وقال قائلون بخلاف ذلك. وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم (مقالات، ج١، ص٤٧–٤٩). ثم بُويِع علي بن أبي طالب، فاختلف الناس في أمره؛ فمن بين مُنكِر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، ومن بين قائل بإمامته مُعتقد لخلافته. وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم (مقالات، ج١، ص٥٤-٥٥). ثم حدث الاختلاف في أيام علي في أمر طلحة والزبير، حربهما إياه، وفي قتال معاوية إياه (مقالات، ج١، ص٦٠-٦١).
١٢٨  جعل غيلان الدمشقي، بالإضافة إلى قوله بأن الخير والشر من العبد، الإمامة صالحةً في غير قريش، وأن كل من كان قائمًا بالكتاب والسنة فهو مستحقٌّ لها، وأنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة (تاريخ الإسلام، ج٣، ص٣؛ تهذيب التهذيب، ج١، ص٢٢٥).
١٢٩  ثم لم يقِف الخلاف عند المسألتين السابقتين، بل امتدَّ إلى إثبات صفات المعاني للذَّات الإلهية أو نفيها عنها، وإلى تقرير سلطة العقل في معرفة جميع الأحكام الدينية، حتى ما كان منها فروعًا وعبادات (غلو في تأييد خلق القرآن)، أو تخصيص تلك السلطة بالأصول الأولى على ما سبق بيانه؛ ثم غالى آخرون، وهم الأقلُّون، فمحَوها بالمرة، وخالفوا في ذلك طريقة الكتاب عنادًا للأولين. وكانت الآراء في الخلفاء والخلافة تسترجع الآراء في العقائد كأنها مبنًى من مباني الاعتقادات الإسلامية (الرسالة، ص١٤-١٥).
١٣٠  هذا هو موقف أوائل المعتزلة مثل معبد الجهني وغيلان الدمشقي؛ لذلك يمكن أن نتساءل: هل قتلُ معبد الجهني وصلبُه على يد عبد الملك بن مروان في دمشق، وقتل غيلان الدمشقي وقطع يدَيه ورجلَيه على يد هشام بن عبد الملك بن مروان، لأنهما قدريان، أم لأنهما عارَضا الحاكم الأموي الذي كان على كل مسلم شريف ثوري في ذلك الوقت معارضته، كما فعل علي والحسن والحسين وأصحابهم؟
١٣١  فيما حوالَي هذا العهد كانت نشأة هذا العلم، نبتٌ لم يتكامل نموُّه، وبناءٌ لم يتشامخ علوُّه، وبدأ علم الكلام كما انتهى مَشوبًا بمبادئ النظر في الكائنات جريًا على ما سنَّه القرآن من ذلك. وحدثت فتنة القول بخلق القرآن وأزليته، وانتصر للأول جمعٌ من خلفاء العباسيين، وأمسك عن القول أو صرَّح بالأزلية عددٌ غفير من المُتمسكين بظواهر الكتاب والسنة، والمُتعففين عن النطق بما فيه مُجاراة البدعة، وأُهينَ في ذلك رجال من أهل العلم والتقوى، وسُفكت فيه دماء بغير حق. وهكذا تعدَّى القوم حدود الدين باسم الدين (الرسالة، ص١٦).
١٣٢  لم يكن لقضاء الحكم الأموي على جهم بن صفوان أي سبب ديني؛ فقد كانت آراء جهم كالآتي: (أ) فناء كل شيء، معلومات الله وأفعاله ومقدوراته والجنة والنار، ولا يبقى إلا هو. وهي نزعةٌ صوفية أكثر منها عقلية، وأقرب إلى الصورة الفنية منها إلى الفكرة الاستدلالية. (ب) إنكار الصفات من أجل تنزيه الذات، وعدم الوقوع في التشبيه السائد في العصر. (ﺟ) عِلم الله مُحدَثٌ من أجل تنزيه الذات وعدم الوقوع في التشبيه. (د) القرآن مخلوق لأن الكلام صفةٌ مادية إثباتًا لتنزيه الذات، ونفيًا للتشبيه. (ﻫ) الإيمان معرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل بالله فقط؛ لأنه لا فعل لأحد إلا لله؛ وبالتالي يخرج العمل من الحكم، ويثبُت الجبر. (و) الاتفاق مع الأشاعرة في أن الله يخلق في الإنسان قوةً يكون بها الفعل، وإرادةً يكون بها الاختيار؛ لذلك انتهت الجهمية في نهاية الأمر إلى الأشعرية. وهذه الآراء لا تُمثل بالضرورة خطرًا على الحكم الأموي، ولكنه قُتل لخروجه مع الحارث بن شريح على الحكم الأموي، قتله معز بن سيار نائب مروان بن محمد على خراسان (مقالات، ج١، ص١٤–١٧).
١٣٣  لكل فرقة مقالةٌ على حيالها، وكتبٌ صنَّفوها، ودولةٌ عاوَنتهم، وصولةٌ طاوَعتهم (المِلل، ج١، ص٦٥).
١٣٤  صار علي ومعاوية إلى صِفين، وقاتَله علي حتى انكسرت سيوف الفريقين، ونصلت رماحهم، وذهبت قُواهم، وجثَوا على الرُّكب؛ فوهم بعضهم على بعض، فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو، ألم تزعم أنك لم تقع في أمرٍ فظيع فأردت الخروج منه إلا خرجت؟ فقال: بلى. قال: من المخرج مما نزل؟ قال له عمرو بن العاص: فلي عليك ألا تخرج مصر من يديَّ ما بقيت؟ فقال: لك ذلك، ولك به عهد الله وميثاقه. قال: فأمُرِ المصاحف فتُرفَع، ثم يقول أهل الشام لأهل العراق: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم، البقية البقية. فإنه إن أجابك إلى ما تريد خالفه أصحابه، وإن خالفك خالفه أصحابه. وكان عمرو بن العاص في رأيه الذي أشار كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق. فأمر معاوية أصحابه برفع المصاحف، وبما أشار إليه عمرو بن العاص، ففعلوا ذلك؛ فاضطرب أهل العراق على علي، وأبَوا عليه إلا التحكيم، وأن يبعث علي حكمًا، ويبعث معاوية حكمًا؛ فأجابهم علي إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يُجيبهم إليه. فلما أجاب علي إلى ذلك، وبعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حكمًا، وبعث علي وأهل العراق أبا موسى حكمًا، وأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، اختلف أصحاب علي عليه، وقالوا: قال الله: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، ولم يقُل: حاكموهم وهم البغاة. فإن عُدتُ إلى قتالهم، وأقررت على نفسك بالكفر إذا أجبتهم إلى التحكيم، وإلا نابذناك وقاتلناك. فقال علي: قد أبيت عليكم في أول الأمر فأبيتم إلا إجابتهم إلى ما سألوا، فأجبناهم وأعطيناهم العهود والمواثيق، وليس يسوغ لنا الغدر. فأبوا إلا خلعه وإكفاره بالتحكيم، وخرجوا عليه، فسُمُّوا خوارج لأنهم خرجوا على علي، وصار اختلافًا إلى اليوم (مقالات، ج١، ص٦١–٦٤). ويُسمَّى الخوارج أيضًا الحرورية؛ لأنهم نزلوا بحروراء في أول الأمر. ويُسمَّون المُحكِّمة لإنكارهم الحكمين، وقولهم لا حكم إلا لله. ويُسمَّون الشراة؛ لقولهم شرينا أنفسنا في طاعة الله؛ أي بِعْناها بالجنة. ويرفضون أن يُسمَّوا المارقة لأنهم لم يخرجوا عن الدين (مقالات، ج١، ص١٩١).
١٣٥  مقالات، ج١، ص١٩٢–١٩٦.
١٣٦  خرج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بالبصرة، فانضمَّ إليه المعتزلة، وقُتل بعد هزيمة إبراهيم (مقالات، ج١، ص٢٤٥).
١٣٧  كتب عمرو بن عبيد في «الرد على القدرية».
١٣٨  وذلك مثل النظَّام والجاحظ وأبي الهذيل العلَّاف، ثم إنهم، المعتزلة، توغَّلوا في علم الكلام، وتشبَّثوا بأذيال الفلاسفة في كثير من الأصول، وشاع مذهبهم فيما بين الناس (شرح التفتازاني، ص١٣). تفرَّقت السُّبل باتباع واصل، وتناولوا من كتب اليونان ما راق لعقولهم، وظنُّوا من التقوى أن تؤيَّد العقائد بما أثبته العلم بدون تفرقة بين ما كان منه راجعًا إلى أوليات العقل وما كان سرابًا في نظر الوهم، فخلطوا بمعارف الدين ما لا ينطبق على أصل من أصول النظر، ولجُّوا في ذلك حتى صارت شِيعهم تُعَد بالعشرات. أيَّدتهم الدولة العباسية وهي في ريعان القوة، فغلب رأيهم، وابتدأ علماؤهم يؤلفون الكتب، فأخذ المُتمسكون بمذاهب السلف يُناضلون مُعتصمين بقوة اليقين، وإن لم يكن لهم عضد من الحاكمين (الرسالة، ص١٥). تعاظَم الأمر لما عرَّب المأمون العلوم الفلسفية وطلبها من اليونان، ففُتِنوا بها، ثم قالوا: أرسلوها لهم، فإنها ما دخلت بين قوم إلا وأفسدت عليهم أمر دينهم. فالمعتزلة ينتحلون من الفلسفة. ألا ترى أن من قواعد الفلاسفة واجب الوجود لا يكون إلا واحدًا من جميع جهاته؟ أخذت منهم المعتزلة نفي صفات المعاني، ومن قواعدهم التأثير بالتعليل، ونفي الاختيار بإثبات اللزوم، وأخذوا منهم وجوب الصلاح والأصلح، ومنها أن الرؤية بأشعةٍ تتصل بالمبصر. وأخذوا منهم أن الله تعالى لا يُرى، ومنها تأثير العقول ونحوها المستندة لواجب الوجود. أخذوا منهم أن العباد يخلقون أفعالهم إلى غير ذلك (حاشية الإتحاف، ص٢٦). وإنما احتاج هذا الفن للتبيين لأنه لما حدثت المبتدعة بعد الخمسمائة كثُر جدالهم مع علماء الإسلام، وأوردوا شُبهًا على ما قرَّره الأوائل، وخلطوا تلك الشُّبه بكثير من القواعد الفلسفية. قصد المتأخرون وضع تلك الشُّبه، فاحتاجوا إلى إدراجها في كلامهم ليتمكَّنوا من ردها. فما أدرجوها إلا لغرض منهم بحيث لا يبعد معه الوجوب خلافًا لما شُنع عليهم في ذلك (تحفة المريد، ص٢٢). إلى أنْ أمَر أحد الخلفاء العباسيين بترجمة كتب الفلاسفة المُتقدمين إلى اللغة العربية، وانتشرت تلك التراجم بين الأمة الإسلامية، ونشأ من الاطلاع عليه شُبهٌ زعزعت إيمان ضعفاء المسلمين، ومن ليس عندهم تمكُّن من معرفة أصول دين سيد المؤمنين، فانبرى عند ذلك علماء الأمة المحمَّديَّة وأئمتها الأعلام المُتمسكون بما كان عليه المصطفى وأصحابه يردُّون القلوب الشوارد، ويدفعون تلك الشُّبه بما يُرغم نفس كل مُعاند، حتى رأيت كتبهم مُزدانة بالدلائل القطعية على إثبات العقائد الدينية، وصادعةً بردود الشُّبه التي كانت على الضعفاء أعظم بليَّة؛ فحفظ الله بصنيعهم إيمان الأوائل، وحصَّنه من صدمات الشُّبه بأقوى الدلائل (الحصون، ص٢-٣).
١٣٩  كان الكِندي مُتكلمًا مُعتزليًّا قبل أن يكون فيلسوفًا، وألَّف رسالة في «القدرة والاستطاعة». وكان ابن سينا معتزليًّا يُثني على المعتزلة. وكان ابن رشد يميل إلى المعتزلة، ولكنه للأسف لم يطَّلع على كتبهم لأنها لم تصل إلى الأندلس. ويعتمد الفارابي أيضًا على العقل، ولو أنه أقرب إلى العقل الإشراقي منه إلى العقل الفلسفي.
١٤٠  كان أبو الحسن الأشعري تلميذًا لأبي علي الجبائي، وخرج عليه إثر مناظرة جرَت بينهما (الفصل، ج٣، ص١٩٨؛ مقالات، ج١، ص٢٣). وهي قصته عن الإخوة الثلاثة الذين مات أحدهم مُطيعًا، والآخر عاصيًا، والثالث صغيرًا؛ وإثابة الأول بالجنة، وعقاب الثاني بالنار، وترك الثالث بلا ثواب ولا عقاب؛ فإذا ما طلب هذا ألا يُميته الله صغيرًا، ويتركه حتى يكبر ويطيع ويدخل الجنة، وكانت الإجابة أن الأصلح له أن يموت صغيرًا حتى لا يعصي، اعترض العاصي بأنه كان الأصل له أن يموت صغيرًا. بعدها ترك الأشعري الجبائي، واشتغل ومن تبِعه بإبطال رأي المعتزلة، وإثبات ما وردت به السنة ومضى عليه الجماعة، فسُمُّوا أهل السنة والجماعة (شرح التفتازاني، ص١٣-١٤؛ حاشية الإتحاف، ص١٦). انظر أيضًا الفصل الثاني: العقل الغائي، الصلاح والأصلح، العِلية والغائية.
١٤١  قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي نَدين بها، التمسُّك بكتاب الله وسنة نبيه، وما رُوي من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معصومون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل، نضَّر الله وجهه ورفع درجته وأجزله مثوبته، قائلون، ولمن خالف قولَه مُحاربون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال (مقالات، ج١، ص٢٤). ويقول ابن الجوزي إن الأشعري ظل على مذهب المعتزلة زمانًا طويلًا ثم تركه، وأتى بمقالةٍ ضبط بها عقائد الناس، ولكن ابن تيمية ردَّ اعتباره، واعتبره أحد أئمة السنة والحديث (إعلام الموقِّعين، ج٢، ص١٠؛ مقالات، ج١، ص٢٥).
١٤٢  مع اتفاق السلف وخصومهم في مُقارعة هؤلاء الزنادقة وأشياعهم، كان أمر الخلاف بينهم جللًا، وكانت الأيام بينهم دولًا، ولا يمنع ذلك من أخذ بعضهم عن بعض، واستفادة كل فريق من صاحبه، إلى أن جاء الشيخ أبو الحسن الأشعري في أوائل القرن الرابع، وسلك مسلكه المعروف وسطًا بين موقف السلف وتطرُّف من خالفهم، وأخذ يُقرر العقائد على أصول النظر، وارتاب في أمره الأوَّلون، وطعن كثيرٌ منهم على عقيدته، وكفَّره الحنابلة واستباحوا دمه، ونصَره جماعة من أكابر العلماء كأبي بكر الباقلَّاني وإمام الحرمَين الإسفراييني وغيرهم، وسمَّوا رأيه بمذهب أهل السنة والجماعة، فانهزم من بين هؤلاء الأفاضل قوَّتان عظيمتان؛ قوة الواقفين عند الظواهر، وقوة الغالين في الجري خلف ما تزيِّنه الخواطر. ولم يبقَ من أولئك وهؤلاء بعد نحو من قرنين إلا فئاتٌ قليلة في أطراف البلاد الإسلامية (الرسالة، ص١٧-١٨).
١٤٣  أما مذاهب الفلسفة فكانت تستمدُّ آراءها من الفكر المحض، ولم يكن من همِّ أهل النظر من الفلاسفة إلا تحصيل العلم، والوفاء بما تندفع إليه رغبة العقل من كشف مجهول، أو استكناه معقول. وكان يمكنهم أن يبلغوا من مَطالبهم ما شاءوا. وكان الجمهور من أهل الدين يكنفهم بحمايته، ويدع لهم من إطلاق الإرادة ما يتمتَّعون به في تحصيل لذَّة عقولهم، وإفادة الصناعة، وتقوية أركان النظام البشري بما يكشفون من مساتير الأسرار المكنونة في ضمائر الكون، بما أباح الله لنا أن نتناوله بعقولنا وأفكارنا، إذا لم يستثنِ من ذلك ظاهرًا ولا خفيًّا. وما كان عاقلٌ من عقلاء المسلمين ليأخذ عليهم الطريق، أو يضع العقاب في سبيلهم إلى ما هدوا إليه، بعدما رفع القرآن من شأن العقل، وما وضعه من المكانة بحيث ينتهي إليه أمر السعادة، والتمييز بين الحق والباطل، والضار والنافع، لكن يظهر أن أمرين غلَبا على غالبهم؛ الأول الإعجاب بما نُقل إليهم عن فلاسفة اليونان، خصوصًا أرسطو وأفلاطون، ووجد أن اللذة في تقليدهما في بادئ الأمر. الثاني الشهوة الغالبة على الناس في ذلك الوقت، وهو أشأم الأمرَين. زجُّوا بأنفسهم في المُنازعات التي كانت قائمة بين أهل النظر في الدين، واصطدموا بعلومهم في قلة عددهم مع ما انطبعت عليه نفوس الكافة، فمال حُماة العقائد عليهم. جاء الغزالي ومن على طريقتهم فأخذ جميع ما وجد في كتب الفلاسفة مما يتعلق بالإلهيات، وما يتصل بها من الأمور العامة، وأحكام الجواهر والأعراض، ومذاهبهم في إعادة تركيب الأجسام، وجميع ما ظنَّه المُشتغلون بالكلام يمسُّ شيئًا من مباني الدين، واشتدُّوا في نقده. وبالَغ المتأخرون منهم في تأثُّرهم حتى كاد يصل بهم السير إلى ما وراء الاعتدال، فسقطت منزلتهم من النفوس، ونبذتهم العامة، ولم تحفل بهم الخاصة، وذهب الزمان بما كان ينتظر العالمَ الإسلامي من سعيهم. هذا هو السبب في خلط مسائل الكلام بمذاهب الفلسفة في كتب المتأخرين، كما تراه في كتب البيضاوي والعضد وغيرهم، وجمع علوم نظرية شتَّى وجعلها جميعًا علمًا واحدًا، والذهاب بمقدماته ومباحثه إلى ما هو أقرب إلى التقليد من النظر، فوقف العلم عن التقدم (الرسالة، ص١٩-٢٠). ويُعلِن رشيد رضا: إن الفلاسفة لو لم يخلطوا فُنونهم بالدين، ويزجُّوا بأنفسهم في المنازعات الدينية، لتُركوا وشأنَهم في البحث، ولارتقت علومهم، وارتقت بهم الصناعة، واتَّسع العمران. ذكره المؤلف في الدرس. وكان من رأيه أنه يجب ألا تُمازج الفلسفة والعلوم الدنيوية بالمسائل الدينية (الرسالة، ص٢٠).
١٤٤  وواضعه أبو الحسن الأشعري ومن تبعه، وأبو منصور الماتريدي ومن تبعه، بمعنى أنهم دوَّنوا كتبه، وردُّوا الشبهة التي أوردتها المعتزلة (تحفة المريد، ص١٢-١٣). ولكن لما كان الشيخ أبو منصور الماتريدي والشيخ أبو الحسن الأشعري أشهر من دوَّن كتب العلم، وأقام الأدلة والبراهين ردًّا على ما قاله المُخالفون، شاع أنهما الواضعان له (الحصون، ص٥). ووضعه أبو الحسن الأشعري، وقد تبعه أبو منصور الماتريدي ومن تبعه (الخلاصة، ص٢-٣).
١٤٥  غير أن الناصرين لمذهب الأشعري، بعد تقريرهم ما بنى رأيه عليه من نواميس الكون، أوجبوا على المُعتقِد أن يُوقِن بتلك المقدمات ونتائجها، كما يجب عليه اليقين بما تؤدي إليه من عقائد الإيمان، ذهابًا منهم إلى أن عدم الدليل يؤدي إلى عدم المدلول. ومضى الأمر على ذلك إلى أن جاء الإمام الغزالي والإمام الرازي ومن أخذ مأخذهما، فخالفوهم في ذلك، وقرَّروا أن دليلًا واحدًا أو أدلةً كثيرة قد يظهر بُطلانها، ولكن قد يستدل على المطلوب بما هو أقوى منها، فلا وجه للحجر في الاستدلال (الرسالة، ص١٨-١٩).
١٤٦  ثم جاءت فترة طُلاب الملك من الأجيال المختلفة، وتغلَّب الجهال على الأمر، وفتكوا بما بقي من أثر العلم النظري النابع من عيون الدين الإسلامي، فانحرفت الطريق بسالكيها، ولم يعُد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاوُر في الألفاظ أو تناظر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور (الرسالة، ص٢١).
١٤٧  ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهَلة من ساستهم، فجاء قومٌ ظنُّوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعُد للإسلاميين قِبلٌ باحتماله. غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارًا، ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانًا، فشرَدوا بالعقول عن مَواطنها، وتحكَّموا في التضليل والتكفير، وغلَوا في ذلك حتى قلَّدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم والدين، وقالوا لِما تصِف ألسنتها الكذب، هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إسلام، والدين من وراء ما يتوهَّمون، والله جل شأنه فوق ما يظنُّون وما يصفون، ولكن ماذا أصاب العامةَ في عقائدهم ومصادر أعمالهم من أنفسهم بعد طول الخبط وكثرة الخلط؟ شرٌّ عظيم، وخَطبٌ عميم (الرسالة، ص٢٢).
١٤٨  هذا مُجمَل تاريخ هذا العلم، يُنبئك كيف أُسِّس على قواعد من الكتاب المُبين، وكيف عبثت به في نهاية الأمر أيدي المُقترفين حتى خرجوا به عن قصده، وبعدوا به عن حده. والذي علينا اعتقاده أن الدين الإسلامي دين التوحيد في العقائد، لا دين تفريق في القواعد، العقل من أشد أنواعه، والنقل من أقوى أركانه، وما وراء ذلك نزعات شياطين، وشهوات سلاطين، والقرآن شاهد على كلٍّ بعمله، قاضٍ عليه في صوابه وخطله (الرسالة، ص٢٢-٢٣).
١٤٩  هذا في لطيف نظم في أصول وزبد التوحيد والتصوف (حاشية العقيدة، ص١٠).
١٥٠  هذا ما يفعله الغزالي.
١٥١  هذا هو الحال في «إتحاف المريد»، «تحفة المريد».
١٥٢  هذا هو الحال في «جوهرة التوحيد»، «تحفة المريد»، «إتحاف المريد». والمراد هنا المعنى الشرعي لا معنى الفن المدوَّن (تحفة المريد، ص١٢). لا يُقال يلزم على ذلك أن أحكام الفقه الاجتهادية ليست من الدين لأن البشر، أعني المجتهدين، لهم فيها كسب، وإنما منه ما ورد نصًّا لا خلاف فيه؛ لأنَّا نقول هي من الدين قطعًا، وهي موضوعٌ إلهي، غاية الأمر أنه يخفى علينا. والمجتهدون يُعلون إظهارها والاستدلال عليها بقواعد الشرع، ولا مدخل لهم في وضعها (تحفة المريد، ص١٤).
١٥٣  وذلك مثال الملطي الشافعي في «التنبيه والرد»، ابن القيم في «إجماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطِّلة والجهمية»، ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية»، ابن الجوزي في «تلبيس إبليس».
١٥٤  يقول رشيد رضا إن مؤلف الرسالة قد فاته أن يذكر في هذه الخلاصة التاريخية أنه بعد أن استفحل سلطان الأشعرية في القرون الوسطى، وضعف أهل الحديث ومُتبعو السلف، ظهر في القرن الماضي المجدِّد الأعظم شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، الذي لم يأتِ الزمان له بنظير في الجمع بين العلوم النقلية والعقلية وقوة الحجة، فنصَر مذهب السلف على المذاهب الكلامية كلها ببرهانَي العقل والنقل. وقد أحيَت مصر والهند كتبه وكُتُب تلميذه الأكبر العلَّامة ابن القيم بعد أن كان الاهتداء بها محصورًا في بلاد نجد، وهي الآن تعمُّ الشرق والغرب، وستكون عمدة جميع مسلمي الأرض (الرسالة، ص٢٢). أقام هذا الدينَ سلفُ المسلمين المُبتغون، وخذله خلفُهم المُبتدعون، حتى صاروا حجة عليه عند أكثر العالمين؛ إذ زيَّنت لهم التقاليد والعادات أن يجعلوه حجابًا دون العلوم والفنون والصناعات، وأن يتفرَّقوا فيه مذاهب وشيعًا، وينقصوا منه سننًا، ويزيدوا عليه بدعًا، وأن يجعلوا كتب العقائد مَلْأى بالجدل والمراء بين أهل المذاهب الأموات والأحياء. وقد مرَّت القرون وليس عندنا مصنِّف يصلُح للدعوة إلى الإسلام على الوجه الذي اشترط عليه علماء الكلام، وهو أن يكون على وجه يُحرك إلى النظر، ويدعو إلى البحث والتفكير، حتى قام الأستاذ الإمام فكتب «رسالة التوحيد» في بيان هذا الدين، فجاء مع التزام الشرط اللائق لهذا العصر بما لم يأتِ بمثله أحدٌ من المتقدمين (الرسالة، مقدمة الناشر، ص«ل-م»).
١٥٥  وقد استمرَّ الحال على هذا المِنوال إلى أن ظهرت في هذه العصور الأخيرة الفلسفة الحديثة التي خالف فيها أربابها طريقة أسلافهم المتقدمين، واعتمدوا في ذلك أصولًا للرياضيات والطبيعيات لم تكن تُعرَف قبل هذا الحين. وانتشرت هذه الفلسفة بواسطة المطبوعات بين أهل الإسلام، ونشأت عنها شُبَه لم تكن معهودة في غابر الأعوام، وصار كل عاقل يخشى على أبعد الضعفاء من غوائل هذه الشبهة الجديدة، فتجدَّد الاحتياج إلى استئناف الردود السديدة، وتأليف كتب في حفظ الإيمان مُفيدة (الحصون، ص٣).
١٥٦  عند ذلك يحقُّ لنا أن نقول وحقًّا وصدقًا، نقول مُتبركين بألفاظ الصالحين، وهي كلماتٌ مُلتقَطة من دعوات زين العابدين: يا من لا يبلُغ أدنى ما استأثر به من جلالك وعِزَّتك أقصى نعمة الناعمين، يا من قصُرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعمته أوهام الواصفين، يا من لا تراه العيون، ولا تُخالطه الظُّنون، ولا يصفه الواصفون، أنت كما وصفتَ به نفسك، وأنت كما أثنيتَ على نفسك، ضلَّت فيك الصفات، وتقسَّمت دونك النُّعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام والعقول، أنت الأول في أزليَّتك، وعلى ذلك أنت دائمٌ لا تزول، وأنت الآخر في أبديَّتك، وكذلك أنت قائمٌ لا تحُول، وأنت الظاهر فما احتجبت عن شيء، وأنت باطن فما اختفيت في شيء، لا تُغيرك الدهور، ولا تُبليك الأمور، ولا يعتورك الزمان، ولا يحويك المكان، ولا يشفيك شان، كذلك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، لك الأسماء الحسنى، والمثل الأعلى، والكلمة العليا، أنزلت الكتاب بالحق، وأرسلت الرسل بالصدق، وختمتهم بآخرهم عصرًا، وأولهم مأثرةً وذكرًا، محمدًا المصطفى، اللهم اكتب لي هذه الشهادة عندك، واجعلها عهدًا تؤديه لي يوم القيامة وقد رضيت عني يا أرحم الراحمين، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا لا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهبْ لنا من لدنك الرحمة، إنك أنت الوهاب (النهاية، ص٥٠٣-٥٠٤).
١٥٧  وليكن هذا آخر الكلام من كتاب المواقف، ونسأل الله أن يُثبت قلبنا على دينه، ولا يُزيغه بعد الهداية، ويعصمنا عن الغواية، ويُوقفنا للاقتداء برسول الله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، ويعفو عن طُغيان القلم، وما لا يخلو عن البشر من السهو والزلل، وأن يُعاملنا بفضله ورحمته، إنه هو الغفور الرحيم (المواقف، ص٤٣٠). ونحن نختم هذا الكتاب بهذا؛ فقد أظهرنا «الاقتصاد في الاعتقاد»، وحذفنا الحشو والفضول المستغنى عنه لإمام المتكلمين، ناصر سنة سيد المرسلين، والذاب عن الدين، الشيخ أبي الحسن الخارج من أمهات العقائد وقواعدها، واقتصرنا أدلة ما أوردناه على الجلي الواضح الذي لا تقصُر أكثر الأفهام عن إدراكه. فنسأل الله ألا يجعله وبالًا علينا، وأن يضعه في ميزان الصالحات إذا رُدَّت إلينا أعمالنا. والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على محمدٍ خاتم النبيين، وعلى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا (الاقتصاد، ص١٢٩).
١٥٨  وذلك مثل آيات: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الرسالة، ص٢٠٧-٢٠٨).
١٥٩  انظر «التراث والتجديد»، ثالثًا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية، ص٧٥–١٢٢. وأيضًا «من العقيدة إلى الثورة»، الفصل الثاني: بناء العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤