ثالثًا: التصديق

إن جعل الإيمان هو التصديق وحده هو رد فِعل على جعله مجرد معرفة أو إقرار أو عمل دون تصديق قلبي داخلي؛١ فالإيمان لغةً هو التصديق، ومحله القلب. قد يُصاحب التصديق عمل القلب وليس نشاط الذهن، أو عمل اللسان، أو فعل الجوارح. وإذا كان العمل مقرونًا بالإيمان فإن العطف لا يعني انه جزء منه؛ لأن الجزء لا يُعطَف على الكل. ويمكن تأييد هذا الموقف بعدة حجج نقلية وعقلية؛ فكثير من النصوص تشهد بأن الإيمان يدخل في القلب أو لا يدخل. وإذا كان المأمور مقدورًا اختياريًّا، فإن ذلك لا يعني أنه من مقولة الفعل، بل من مقولة الإيمان، فلا فاعل إلا الله. والتصديق اللغوي أو المنطقي أعمُّ من الاختياري؛ وبالتالي لا يرد التصديق إلى ما هو أقل منه. وإن صِدق المُتكلم بالقلب قبل أن يكون باللسان. والتصديق من جنس العلوم، والعلم أشمل من العمل وأعم منه. كما أن الملائكة تصدق من غير كسب أو فعل. هذه الحجج في الحقيقة تهدف إلى جعل الإيمان نظريًّا خالصًا لا صلة له بالفعل، وأن يكون مجرد قبول أو إذعان أو رضوخ باسم الشهادة الباطنية حتى دون عقلها.٢ ويمكن تفنيد هذه الحجج بأخرى مضادَّة لها من أجل إثبات أن الإيمان لا يُرَد إلى التصديق وحده، بل يشمل المعرفة والإقرار والعمل؛ فلو كان الإيمان هو التصديق لما كان الإنسان مؤمنًا في حالة نومه؛ لأنه كان غافلًا غير مُصدق؛ فالتصديق يتطلب الشعور اليقِظ وليس الشعور الغافل، كما يتطلب القدرة على الاستبطان، وهو ما لا يتوافر لكل الناس، كما يتطلب أن من صدَّق وسجد للشمس يكون مؤمنًا؛ ومن ثَم فالتصديق لا يكون مجرد إيمان باطني، عمل للقلب، ولكنه يُحيل إلى موضوع التصديق حتى يحدُث التطابق بين فعل الشعور وموضوعه. كما أن التصديق لا يكون فقط للإيمان، بل قد يكون للشرك؛ فكما أن المؤمن مُصدق بالتوحيد فكذلك المشرك مُصدق بالشرك؛ وبالتالي لا يكفي التصديق كي يكون مُماثلًا للإيمان، بل لا بد من مضمون الإيمان بالإضافة إلى صورته، وهي التصديق.٣ ولكن هل التصديق داخلي أم خارجي؟ هل في الشعور أم في الواقع؟ هل التصديق بالله تصديق بما أتى به، والتصديق بالنبي تصديق بخبره؟ إن التصديق لا يكون بالله، بل بكلامه الذي من خلاله يمكن التعرف على أصلَي التوحيد والعدل. والتصديق بالخبر لا يكون خارجيًّا فقط عن طريق صحة الرواية، بل يكون أيضًا عن طريق تطابق مضمونها مع التجربة الحية الفردية والاجتماعية. لا يكون التصديق بالحلف، بل بالبرهان؛ فأغلظ الأيمان لا يكون برهانًا، وشهادة الباطن غير التسليم الباطني، والانقياد القلبي ليس هو الإذعان والقبول، كما هو الحال في علوم التصوف، بل إيجاد البرهان التجريبي في شهادة الوجدان على صدق المضمون. وهو تصديقٌ اختياري بناءً على صفاء النية أو البحث المروي عن الدلالة. لا يتم بكشف أو إلهام، وليس من أفعال الهداية أو الضلال، التوفيق أو الخذلان، العصمة أو الصون أو الحفظ؛ وذلك لأن أفعال الشعور الداخلية أفعالٌ حُرة.٤

(١) هل يوجد تصديق بلا استدلال؟

وإذا كان الإيمان تصديقًا، فهل هو بالضرورة تصديق بلا استدلال؟ العجيب إخراج كل استدلال من التصديق، وجعل التصديق أقرب إلى الاعتقاد الجازم بلا دليل أو برهان، وتفنيد كل الأدلة لإثبات الدليل هو في حد ذاته إثبات لشرعية الاستدلال. ومع ذلك فهناك عدة حجج تُوجَّه ضد الاستدلال من أجل إخراجه من التصديق، وكلها يسهل تفنيدها؛ فإذا كان الاستدلال بعد البلوغ وليس قبله فشرطه العقل، والعقل ليس فقط شرط الاستدلال، بل إنه شرط التكليف. والاستدلال لا يحتاج إلى حد حتى يجب في التصديق؛ لأن التصديق لا يتم إلا بالاستدلال؛ أي بتحوُّل الحَدس إلى برهان، والتجربة إلى نظر. وإن احتاج الاستدلال إلى حد فمكانه علم المنطق. وقد تم تعريف الاستدلال من قبلُ في نظرية العلم.٥ والاستدلال لا يُفيد الشك، بل هو السبيل للوصول إلى اليقين. وعلى افتراض أنه يورث الشك؛ فالشكُّ أول الواجبات حتى قبل النظر. ولم يكتفِ إبراهيم بحدوث الإيمان القلبي، ولكنه أراد الاستدلال حتى يطمئنَّ قلبه. وقد تم التصديق في النهاية بالاستدلال. والشك المنهجي ليس مَضيعة للوقت، ولا يستغرق العمر، ولا يؤدي إلى اللاأدرية. وماذا عن بديل الاستدلال بالرغم من مخاطره ومحاذيره إلا الاختلاف والتردد والهوى أو التقليد والاتباع؟ ليس التواتر بديلًا عن الاستدلال؛ فالتواتر حجةٌ تاريخية تُعطي اليقين التاريخي لصِدق الرواية، أي صحة الخبر، ولا يُعطي يقينًا نظريًّا أو تصديقًا للمعارف، بل إن من شروط التواتر عدم مناقضته لشهادة العقل، وهو أصل الاستدلال. وليس الإجماع بديلًا عن الاستدلال؛ فالإجماع حجة سلطة، وليس حجة عقل. كما أن الإجماع يقوم أيضًا على الاستدلال عند المُجتمعين حتى ولو كان استدلالًا على نص وتأويلًا له. وليست المعجزة بديلًا عن الاستدلال لأن المعجزة قد تكون فقط دليلًا على صدق النبوة، وليس على التصديق بها. والمعجزة دليل؛ وبالتالي فهي استدلال من نوعٍ خاص، استدلال عن طريق الإعجاز، وقد يقع استدلال على نحوٍ آخر، ثم يصبح الخلاف بعد ذلك: هل الدليل هو دليل المعجزة أم دليل العقل؟ وإذا لم تكن المعجزة دليلًا على صدق النبوة فإن الدليل يكون هو دليل العقل.٦ إن الاستدلال فرض كفاية وليس فرض عين، وقد آمن الكثير بالاستدلال، وقد كفر الكثير أيضًا بالاستدلال؛ فلِلمُخطئ أجر، وللمُصيب أجران. ومع ذلك هناك مقاييس للصدق النظري صورية أو مادية يمكن من خلالها معرفة الخطأ من الصواب. إن الاستدلال لا يحدث إلا في شئون النظر، أما في الأمور العملية فلا حاجة إلى استدلال. هناك العادة وبداهة السلوك وحكمة الشعوب. وبالرغم من وجود مواقف تتكافأ فيها الأدلة إلا أن الترجيح يظل قائمًا حتى ولو في صورة رهان، أو قياس شرف، أو قياسٍ أولي. على أية حال التصديقُ بالاستدلال هو ما ينبغي أن يكون، ما يحرص عليه الخاصة، في حين ما هو كائن هو التصديق بلا استدلال، وهو إيمان العوام. ولا يهمُّ قدر الاستدلال؛ كلما كان أقوى وأيقن زاد التصديق يقينًا، وكلما كان أضعف وأهوى قلَّ التصديق يقينًا. ويتنوع الاستدلال طبقًا لكل يقين. تبقى الغاية منه هو يقين التصديق.٧ والحقيقة أنه لا يمكن الاستغناء عن الأدلة كطريق للنظر، وعن الدليل كوسيلة للعلم؛٨ فالتقليد ليس مصدرًا للعلم، ولا يمكن الترجيح بين أحد أمرين إلا بالدليل، ولا يتميز الصواب من الخطأ إلا بدليل، وإلا كان الأمر مجرد دعوى لا دليل عليها. وإذا كان العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو عليه، فإن ذلك لا يكون إلا بدليل حتى يكون علمًا دون جهل أو اعتقاد أو شك أو ظن على ما هو معروف في مضادَّات العلم.٩ ولا تكفي الحواس كدليل، ولا غناء عن دليل العقل، خاصةً في الأمور النظرية مثل العقائد، بل إن العقل هو الوسيلة للدفاع عن النفس يوم الحساب منذ مساءلة القبر حتى توقيع الجزاء.١٠
والدعوة إلى الاستدلال والنظر سارية في كل الوحي، من البداية إلى النهاية، كوسيلة لإيجاب العلم؛ فإن لم يكن الإيمان بديلًا عن الاستدلال لغياب الدليل عليه، وإن لم تكن المعجزة بديلًا عن الاستدلال لأنها مجرد إثارة الدهشة، بل وتُعَد الدليل الطبيعي وسلب الإنسان عقله وإرادته، وإن لم يكن الإلهام بديلًا عن الدليل لأنه دعوى بلا برهان، وإن لم يكن التقليد أو الجهل أو الشك أو الظن مصدرًا للعلم اليقيني، استحال وجود تصديق بالإيمان دون دليل. وإذا كان علم أصول الفقه هو أساسًا بحث عن الدليل لاستقصاء العلة، فإن علم أصول الدين صِنْوه، ويكون الشق الثاني من علم الأصول. ولا يمكن في شقٍّ واحدٍ نفيُ الدليل وفي الشق الثاني إثباته. ومن مناهج الاستدلال أن ما لا دليل عليه يجب نفيه؛ وبالتالي إذا كان التصديق دون دليل فإنه يجب نفيه. وإذا كان التصديق مجرد إذعان وخضوع وتسليم فإنه ينتقل من علم أصول الدين إلى علوم التصوف، وهو ما حدث بالفعل عندما ازدوج التصوف مع الأشعرية، وضاع البرهان، وساد الخضوع والتسليم. طالما أن الإنسان عاقل فلا يوجد تصديق بلا استدلال.١١ وليس الإقرار بديلًا عنه، فما الفائدة في إقرار تصديق بلا برهان؟ وكيف يمكن الدفاع عنه وإثباته للناس وإعلانه لهم ومواجهتهم بالتحدي. وإن إيمان العوام لا يُغني عن برهان الخواص، كما أن اليقين الباطني أمام النفس لا يُغني عن البرهان أمام الناس.

(٢) هل الإيمان تصديق دون معرفة أو إقرار أو عمل؟

طبقًا للبنية السابقة للشعور في أبعاده الأربعة، وفي إمكانيات العلاقات الثنائية والثلاثية والرباعية، مرةً ابتداءً من المعرفة، وثانيةً من التصديق، وثالثةً من الإقرار، ورابعةً من العمل. وبعد ظهور احتمالات عشر في عرض المعرفة وعلاقاتها تظهر من جديدٍ نفس الاحتمالات العشر في عرض التصديق. يبدو فيها التكرار في الاحتمال الأول؛ فالتصديق بلا معرفة يُعادل المعرفة بلا تصديق، والخلاف فقط في البداية مرةً بالمعرفة، ومرةً بالتصديق، ولكن النتيجة واحدة، وهي استحالة فصل كل منهما عن الآخر. وفي العلاقات الثنائية يتكرر الاحتمال الرابع؛ فالمعرفة والتصديق دون الإقرار والعمل هما نفساهما التصديق والمعرفة دون الإقرار والعمل. والخلاف أيضًا في البداية مرةً بالمعرفة، ومرةً بالتصديق. وفي العلاقات الثلاثية يتكرر الاحتمال السابع؛ فالمعرفة والتصديق والإقرار دون العمل هي نفسها التصديق والمعرفة والإقرار دون العمل، والخلاف في البداية كذلك مرةً بالمعرفة، ومرةً بالتصديق. كما يتكرر الاحتمال الثامن المعرفة والتصديق دون الإقرار. والخلاف أيضًا في البداية مرةً بالمعرفة، ومرةً بالتصديق. وتكون العلاقة الرباعية باستمرار واحدة. والخلاف فقط في البداية مرةً المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، ومرةً التصديق والمعرفة والإقرار والعمل.١٢ وقد تم استبعاد التكرار قدر الإمكان باستثناء التصديق كاستدلال، فالاستدلال معرفة. ومع ذلك فإنه معرفة من نوعٍ خاص. أما الاحتمال الأول، هل الإيمان تصديق دون معرفة؟ فقد تكرَّر ذلك من قبلُ في تحليل المعرفة، هل الإيمان معرفة دون تصديق؟ لا يوجد تصديق بلا معرفة، وإلا كان مجرد إيمان أعمى دون برهان.١٣ الوجدان نظرٌ شعوري، والتصديق عملٌ عقلي. الوجدان فكرٌ شعوري، وإلا فهو انفعالٌ أعمى، وهو ومزاج. ولا يكون الوجدان وحده أساسًا للعمل؛ لأنه يفتقد الوعي النظري بالسلوك. المُتعصب وحده هو الذي يُقيم سلوكه على وجدان دون نظر، والمُتآمر هو الذي يسلك بناءً على تعصب في صمتٍ دون إعلان. إن التصديق لا يكون إلا تصديقًا بشيء، ولا يمكن أن يُعرَف هذا الشيء إلا بالنظر، وإلا كان تصديقًا بشيءٍ مجهول، واستحال التفريق بين الأشياء.١٤

(٢-١) هل الإيمان تصديق دون إقرار؟

إذا كان التصديق قد قام أساسًا على البرهان النظري وتحوَّلت الشهادة الباطنية، بالتجرد والعقل، إلى طاقةٍ حركية، فما أسهل بعد ذلك أن تتخارج في القول؛ وبالتالي يتحول التصديق إلى إقرار؛ لذلك يصعب التفرقة بين التصديق والإذعان. فما دام التصديق قد قام على أساسٍ معرفي، وكان الوجدان مرتبطًا بالإرادة والنزوع، فإنه يصعب التفرقة بين التصديق والإقرار؛ فالإقرار إعلان عن التصديق، وانتقال من التصديق الخارجي، أي الصدق مع النفس، إلى التصديق الخارجي، أي الإعلان، إعلان المسافة بين المثال والواقع.١٥ إن الفصل بين التصديق والإقرار إنما يتم فقط في حالة الإكراه، عندما يقول الإنسان بلسانه ما لا يعتقد به في قلبه، وإلا كان الأمر نفاقًا في غير حالات الإكراه، بل إن الإقرار هو السبيل إلى تطبيق الأحكام الشرعية. ولا يمكن مطالبة الصدق بالطاعات، أو تطبيق الحدود قبل الإقرار والإعلان. الإقرار إذن هو الإظهار، ولولا الإقرار بعد التصديق لظلَّ الأمر سِريًّا، ولما بدأت عملية الصراع الاجتماعي.

(٢-٢) هل الإيمان تصديق دون عمل؟

إذا كان الإيمان تصديقًا يقوم على برهانٍ نظري، ويتخارج في القول، فما أسهل بعد ذلك أن يتخارج في العمل؛ وبالتالي تكتمل أبعاد الشعور في بُعدَيه الداخليين، المعرفة والتصديق؛ وبُعدَيه الخارجيين، القول والعمل. التصديق بلا عمل ضيق نفس، وطاقةٌ مختزَنة، وإمكانية بلا تحقُّق، وسيلة بلا غاية، طريق بلا هدف. وكيف يكون الإيمان كاملًا بلا عمل، وقد اقترن العمل بالإيمان في أصل الوحي، والإيمان بلا عمل كصورة بلا مضمون، كما أن العمل بلا إيمان كمضمون بلا صورة، بل وفي حالة الاختيار فالعمل بلا إيمان أفضل وأبقى من الإيمان بلا عمل، فالمضمون بلا صورة أفضل وأبقى من الصورة بلا مضمون. وليس العمل فقط هو المحبة والولاية، بل قد يكون الكراهة والعداوة، فمحبة العدل مثل كراهية الظلم، وولاية للحق تتضمن العداوة للباطل. وإن مقاومة الظلم والتخلف والاستغلال قد تكون شرطًا للعمل من أجل العدل والتقدم والمساواة. النفي شرط الإثبات، ومقاومة السلب شرط تحقيق الإيجاب؛ لذلك لا يمكن تأجيل العمل على الإيمان أو تأخيره عنه.١٦ العمل تحقيق للتصديق وتعبير عنه. والتصديق الذي لا يتخارج في العمل يولد ميتًا، ويفقد مصادر طاقته وتفاعله مع العمل. لا يكفي العمل المحبة والخضوع والتسليم، بل والطاعة، فهذه أعمالٌ سكونية خارجية صورية آلية أثر من آثار التصوف على العقيدة بعد ازدواج التصوف مع الأشعرية عند المتأخرين. قد يكون لإخراج العمل مدلولٌ سياسي لاكتفاء الناس بالإيمان، وإسقاط العمل تحقيقًا للاستسلام النهائي، وأمانًا من الثورة. أما الاختيارات الأخرى فهي أيضًا مكرَّرة، مثلًا: هل الإيمان تصديق وإقرار دون معرفة وعمل؟ إذا أصبح الإيمان تصديقًا مصحوبًا بالإقرار، أي تجربة داخلية تتحول إلى تعبيرٍ خارجي، فما أسهل بعد ذلك أن يكتمل التحقيق، فيتحول النظر إلى عمل. واكتمال التصديق بالمعرفة يؤدي بالضرورة إلى اكتمال القول بالعمل. وبدلًا من أن يتحول نصف الطاقة، أي التصديق، إلى نصف الحركة، أي العمل، تتحول الطاقة كلها، أي التصديق والمعرفة، إلى الحركة كلها، أي إلى القول والعمل.١٧ تصعب التفرقة إذن بين التصديق الذي يتحول إلى إقرار والعمل؛ لأن التصديق بمعنى الإذعان والإقرار تعبير عن الإذعان؛ فإن التعبير له شكلان؛ الإقرار والعمل. وما دام قد تخارج بالإقرار فليس هناك ما يمنع أن يتخارج في العمل؛ وبالتالي يتحقق الفعل. وإن كل محاولة لجعل التصديق خارج الفعل وجعل الإقرار مقطوع الصلة بالإرادة واللغة، فإنه لا يهدف إلا إلى إماتة الإيمان؛ وذلك نتيجة لسيادة التصوف كعلم لبواطن القلوب على الأشعرية السائدة.
أما سؤال «هل الإيمان تصديق وعمل دون معرفة وإقرار؟» فيُشير إلى نفس السؤال السابق في علاقات النظر: هل الإيمان معرفة وعمل دون تصديق وإقرار؟ فمع أن الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، وهو أفضل من المعرفة النظرية والقول الفارغ، وهو طريق العمل الصامت الناتج عن التصديق القلبي، إلا أنه قد يتحول إلى عملٍ سِري إن لم يُصاحبه الإعلان. وقد يصبح تعصبًا وضيق أفق إن لم يرتكز على أساسٍ نظري.١٨

(٢-٣) هل الإيمان تصديق وإقرار وعمل دون معرفة؟

في العلاقات الثلاثية التي يبدأ التصديق بها يكون الإيمان تصديقًا وإقرارًا وعملًا دون معرفة. وفي هذه الحالة يكون السلوك أيضًا صادقًا علنيًّا، ولكن ينقصه بعض القدرة على الحوار مع الآخرين، والتعامل مع الواقع الإحصائي، وفهم عِلل السلوك؛ فالنشاط لا يُعفي من الفهم، والحركة لا تُغني عن الإدراك. يستحيل تحقيق فعل واعٍ باجتماع الأبعاد الثلاثة، التصديق والإقرار والعمل دون المعرفة، نظرًا لغياب الجانب النظري للسلوك. قد وقع الفعل، ولكنه يكون انفعالًا وخطابة، حماسًا واندفاعًا غير قادر على احتواء أفعال الآخرين الذين يُخالفونه في المعارف.١٩

(٢-٤) الإيمان تصديق ومعرفة وإقرار وعمل

هذه هي العلاقة الرباعية الأخيرة التي تتفق مع الاحتمال الأخير في علاقات المعرفة، وهي أن الإيمان معرفة وتصديق وإقرار وعمل. والخلاف فقط في البداية بالمعرفة أولًا وبالتصديق ثانيًا. والحقيقة أن كل بُعْد يحتوي على الأبعاد الثلاثة الأخرى؛ إذ يستحيل وجود تصديق بلا عمل؛ فالطاقة لا بد وأن تتحول إلى حركة. إن كل تصديق هو تصديق بشيء، وهذا الشيء يتأسس في الذهن، ويعبَّر عنه باللسان، ويتحقق باليد؛ فإذا كان الإيمان هو المعرفة والتصديق فإن الإسلام هو الإقرار والعمل؛ وبالتالي يضم الإسلام الإحسان. إن الوحدة بين الداخل والخارج، بين الطاقة والحركة، بين التصور والنظام، أو كما يقول القدماء بين العقيدة والشريعة هو تحقيق للإيمان الكامل الذي يجمع بين النظر، المعرفة والتصديق، والعمل؛ أي الإقرار والفعل. بهذه الوحدة لا تتسرب الطاقة الداخلية، ولا يُبتسر الفعل الخارجي.٢٠
١  الفريق الذي قال إن الإيمان هو التصديق والإذعان فقط بنى على ظاهر قول الفريق الذي قال إن الإيمان هو عمل الواجبات وترك المحرَّمات؛ فلا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، وإنما هو خلافٌ مبني على ظواهر العبارات وسَّع فجوتَه التعصبُ المذهبي (القول، ص١٤-١٥).
٢  الإيمان في اللغة هو التصديق؛ ففي سورة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا؛ أي بمصدِّق لنا. وقال الرسول: «الإيمان أن تؤمِن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله.» أي تصديق. وأما في الشرع، وهو مُتعلق ما ذكر من الأحكام، فهو عندنا، وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ، التصديق للرسول في علم مجيئه به ضرورةً، وتفصيلًا فيما عُلِم تفصيلًا، وإجمالًا فيما عُلِم إجمالًا (المواقف، ص٣٨٤؛ شرح الدواني، ص٢٨٥-٢٨٦). وهناك آياتٌ كثيرة أخرى تدل على محلية القلب للإيمان، مثل: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وكذلك الآيات التي تدل على الختم والطبع على القلوب، ويؤيدها قول النبي: «اللهم ثبِّت قلبي على دينك.» وكذلك قوله لأسامة وقد قتل من قال لا إله إلا الله: «هلَّا شققتَ على قلبه؟» (المواقف، ص٣٨٥). وعند القاضي والأستاذ، الإيمان هو التصديق للرسول فيما عُلِم مجيئه بضرورة تفصيلًا وإجمالًا، التصديق القلبي بما عُلِم مجيئه من النبي ضرورة، أي علمًا ضروريًّا، أو برهانيًّا. حقيقة الإيمان أنه مجرد التصديق والإذعان بالقلب (القول، ص١٤). التلفظ بكلمتَي الشهادتين مع القدرة عليه بشروط. لا تنفع المعرفة القلبية من غير إذعان وقبول، خروج التلفظ بالشهادتين عن الإيمان، الإيمان في القلب والعمل خارج عنه، التصديق هو الإدراك نفسه؛ بالتالي فهو من جنس العلوم والمعارف (شرح الخريدة، ص٦٤-٦٥). التصديق هو الإذعان (الإتحاف، ص٤٦؛ الدر، ص١٥٩–١٦١). وعند أبي حنيفة، الإيمان معرفة بالقلب؛ أي التصديق. وعند الجهمية، المعرفة إيمان بالقلب دون إقرار باللسان. وقد قيل شعرًا:
واختير من حقيقةِ الإيمانِ
مجردُ التصديق بالقلب مع إذعانِ
الوسيلة، ص١٤
وقيل أيضًا:
وأوفِ الإيمان بالتصديق
والنطق فيه الخُلف بالتحقيق
الجوهرة، ص١٠
ويعتمد على عدة حجج، منها: (أ) لا يعني كون المأمور به مقدورًا اختياريًّا أن يكون البتة من مقولة الفعل. (ب) التصديق المنطقي هو التصديق اللغوي، فيكون أعمَّ من الاختياري والضروري. (ﺟ) صِدق المتكلم بالقلب؛ أي الإذعان. (د) العلم هو التصديق؛ فالتصديق من جنس العلوم. (ﻫ) تصديق الملائكة بلا كسب وفعل (حاشية الكلنبوي، ص٢٨٥–٢٩٠). أصل الإيمان في القلب خلافًا للكرَّامية (الأصول، ص٢٥٠-٢٥١).
٣  هذه هي حجج المعتزلة ضد كون الإيمان تصديقًا، ولإثبات بُطلان مذهب الخصم: (أ) لو كان الإيمان هو التصديق لما كان المرء مؤمنًا حين لا يكون مُصدقًا كالنائم والغافل، وأنه خلاف الإجماع. (ب) من صدَّق وسجد للشمس ينبغي أن يكون مؤمنًا، والإجماع على خلافه. (ﺟ) الآية: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ، والتصديق بجميع ما جاء به الرسول لا يُجامع الشرك؛ لأن التوحيد مما عُلم مجيئه به (المواقف، ص٣٨٧).
٤  التصديق بما جاء به النبي (الرسالة، ص٢٠١). تصديق الملائكة والأنبياء والصِّديقين (حاشية الخلخالي، ج٢، ص٢٩١). ما جاء كثرة الخلق (الكتاب، ص١١٨–١٦٥). باب ما جاء في الأقسام (ص١٧٤–١٧٧، ص١٣٢–١٣٧؛ حاشية الكلنبوي، ج٢، ص٢٩١–٢٩٥، ص٢٨٨-٢٨٩). الإيمان في الشرع تصديق النبي بالقلب في جميع ما عُلم بالضرورة مجيئه من عند الله إجمالًا (شرح التفتازاني، ص١٢٦؛ حاشية الخلخالي، ص١٢٦؛ حاشية الإسفراييني، ص١٢٦؛ المواقف، ص٣٨٥؛ انظر أيضًا الفصل السابع: خلق الأفعال، أفعال الشعور الداخلية، أفعال الشعور الداخلية أفعالٌ حرة).
٥  انظر الفصل الثالث: نظرية العلم، سابعًا: طُرُق النظر، الاستدلال.
٦  الفصل التاسع: تطور الوحي، ثالثًا: هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟
٧  هذه هي الحجج التي يُقدمها ابن حزم لإبطال الاستدلال كجزء من التصديق، وهو راجع إلى موقفه الفقهي في إبطال القياس، وهي سبعة: (أ) هل يجب الاستدلال قبل البلوغ أم بعده؟ فإذا كان بعده وجب الشك. (ب) ما هو حد الاستدلال المُوجب للإيمان. (ﺟ) الاستدلال يُورث الشك ضد الإجماع والتواتر. (د) المعجزة دليل، والمباهَلة دليل؛ وبالتالي يبطل الاستدلال. (ﻫ) جميع أهل الأرض كفار بالرغم من استدلالهم. (و) ألا يأكل الإنسان ذبيحة ولا يطأ زوجة إلا باستدلال؟ (ز) تكافؤ الأدلة واستعمال الاستدلال لإثبات الشيء ونقيضه عند أهل الحق وأهل الباطل، عند المُستدل وعند خصمه (الفصل، ج٤، ص٦٤–٦٨؛ ج٥، ص١٨٦–١٨٨). ويذكر ابن حزم حجج أنصار الاستدلال ويُفندها واحدةً تِلو الأخرى؛ أي إنه يستدل لإبطال الاستدلال، وهي سبعة: (أ) ذم الله اتباع الآباء والرؤساء. (ب) لا يعلم أحد الأمرين أجدى بيقين ولا الآباء إلا بدليل. (ﺟ) كل ما لم يكن يصح بدليل فهو دعوى، لا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما، ولكن بالدليل؛ فمن لا برهان له لا صدق له. (د) ما لم يكن علمًا فهو شك، والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال. (ﻫ) لا تُعرَف صحة بُطلان الديانات بالحواس، فلا بد من الاستدلال، وإلا وقع الإنسان في الشك. (و) في مساءلة القبر، المؤمن الموقِن يُجيب، والمنافق المُرتاب لا يعرف كيف يُجيب، بدليل حديث عمر المشهور. (ز) الاستدلال على الله والنبوة في غير موضع من الكتاب، وأمر به، وأوجب العلم به، ولا علم بلا دليل (الفصل، ج٤، ص٦٠–٦٨؛ ج٥، ص١٨٨).
٨  انظر الفصل الثالث: نظرية العلم، ثامنًا: مناهج الأدلة.
٩  الفصل الثالث: نظرية العلم، ثانيًا: تعريف العلم، (١) الشك والظن والوهم، (٢) الجهل، (٣) التقليد.
١٠  الفصل العاشر: مستقبل الإنسانية، سادسًا: حياة القبر، (٣) هل هناك سؤال للملَكين؟
١١  عند بعض الإباضية وعند المفضلة يجوز أن يبعث نبيًّا بلا دليل، في سؤال الرسول: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال: نعم. قال عمر: فلِمَ نُعطي الدنيَّة في ديننا؟ قال النظَّام: هذا شك في الدين، ووجدان حرج في النفس مما قضى (المِلل، ج١، ص٨٦). وإجابة على سؤال: هل يكون مؤمنًا من اعتقد الإسلام دون استدلال، أم لا يكون مؤمنًا مسلمًا إلا من استدلال؟ هناك عدة إجابات: (١) عند العلوي وعند الأشعري لا يكون مؤمنًا إلا من استدل. وعند الطبري من بلغ الاحتلام أو الأشعار من الرجال والنساء، أو المحيض من النساء، ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته عن طريق الاستدلال فهو كافرٌ حلال الدم والمال. وإذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال. وعند الأشعري لا يلزمها الاستدلال إلا بعد البلوغ. (٢) عند سائر أهل الإسلام من اعتقد بقلبه اعتقادًا لا يشك فيه وقال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإن كان كل ما جاء على حق وبريئًا من كل دين سوى دين محمد، فإنه مسلم مؤمن وليس عليه ذلك (الفصل، ج٤، ص٥٩-٦٠). رفض التقليد (الفصل، ج٤، ص٦٠-٦١). كل من اعتقد تقليدًا من غير معرفة بأدلتها فنظر فيه؛ فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها، وقال لا آمن أن يرد عليها من الشُّبه ما يُفسدها، فهذا غير مؤمن. ومن اعتقد الحق ولم يعرف دليله، وأن ليس فيه من الشُّبه ما يُفسده، هل هو مؤمن أو مسلم أو عاصٍ بتركه النظر والاستدلال؟ هذا هو تحليل جميع الفقهاء، الشافعي ومالك والأوزعي والثوري وأبو حنيفة وأهل الظاهر والأشعري، في حين أنه عند الغزالي لقد صدَّق العرب الرسول بإحساساتهم دون أدلة. وهم مُتفاوتون فيه؛ فتصديق المسلم غير تصديق اليهودي أو النصراني الذي يعقد قلبه على التهويلات والتخريفات، وليس على التحقيقات العلمية أو التخيلات الإقناعية (الاقتصاد، ص١١٤-١١٥). وقد صنَّف المتأخرون الإيمان على خمسة أقسام: (أ) إيمان عن تقليد، وهو الأخذ بقول الشيخ من غير دليل، وهو إيمان العوام. (ب) إيمان من علم، وهو الإيمان الناشئ عن معرفة العقائد بأدلتها، وهو إيمان أصحاب الأدلة. (ﺟ) إيمان عن عيان، وهو الإيمان الناشئ عن مراقبة القلب لله، وهو إيمان أهل المراقبة في مقام المراقبة. (د) إيمان عن حق، وهو الإيمان الناشئ عن مشاهدة الله بالقلب، وهو للعارفين في مقام المشاهدة. (ﻫ) إيمان عن حقيقة، وهو الإيمان الناشئ عن كونه لا يشهد إلا الله للواقعين في مقام الفناء. أما حقيقة الحقيقة فهي للمرسَلين، وقد منعَنا الله من كشفها، فلا سبيل إلى بيانها (التحفة، ص٣٨-٣٩). التحقيق هو إثبات الشيء بالدليل (التحفة، ص٤٠-٤١). التحقيق أن الأدلة قائمة على دعوى الفريقين (الإتحاف، ص٤٦–٤٨). ويكفي الدليل الإجمالي دون التفصيلي (التحفة، ص٣٩-٤٠). وقد اختلفت المعتزلة على فريقين: (أ) المعارف ضرورية، ومُعتقِد الحق ضرورةً مؤمن ولو خلطه بفسق فاسق، وإن اعتقد لا عن ضرورة فهو غير مكلَّف. (ب) إذا كانت المعارف اكتسابًا لا عن غير نظر، بل تقليد، فهو فاسق بتركه الاستدلال، أو كافر لا تصحُّ توبته. وعند أبي هاشم لو عرف الإسلام كله وأدلته إلا دليلًا واحدًا فهو كافر (الأصول، ص٢٥٤-٢٥٥).
١٢  يبدو تكرار الاحتمالات بين علاقات المعرفة وعلاقات التصديق، وفي علاقات تماثل وتضاد على النحو الآتي:
(أ) معرفة دون تصديق. (أ) تصديق دون معرفة.
(ب) معرفة دون إقرار. (ب) تصديق دون إقرار.
(ﺟ) معرفة دون عمل. (ﺟ) تصديق دون عمل.
(د) معرفة وتصديق دون إقرار وعمل. (د) تصديق ومعرفة دون إقرار وعمل.
(ﻫ) معرفة وإقرار دون تصديق وعمل. (ﻫ) تصديق وعمل دون معرفة وعمل.
(و) معرفة وعمل دون تصديق وإقرار. (و) تصديق وإقرار دون معرفة وعمل.
(ز) معرفة وعمل دون تصديق وإقرار. (ز) تصديق ومعرفة وإقرار دون عمل.
(ﺣ) معرفة وتصديق وعمل دون إقرار. (ﺣ) تصديق ومعرفة وعمل دون إقرار.
(ط) معرفة وإقرار وعمل دون تصديق. (ط) تصديق وإقرار وعمل دون معرفة.
(ي) معرفة وتصديق وإقرار وعمل. (ي) تصديق ومعرفة وإقرار وعمل.
١٣  لا يثبت التصديق إلا مع العلم (الإرشاد، في ٣٩٧). وعند ابن حزم لقد عرف اليهود والنصارى كما يعرفون أبناءهم، ويجدونه عندهم مكتوبًا في التوراة والإنجيل، ولكنهم لا يُصدقون به، فلا خلاف في كفرهم لأنها معرفة بلا تصديق. كما أن إبليس عارف بالله وبملائكته وكتبه ورسله وبالبعث، ولكنه لا يُصدق بهم (الفصل، ج٣، ص١٤٤–١٤٦). وقالت الأشاعرة إن فرعون لم يعرف أن موسى إنما جاء من عند الله، ورفض ابن حزم لذلك بأنه عرف ولكنه لم يُصدق (الفصل، ج٥، ص٤٨).
١٤  انظر سابقًا النظر، هل يوجد إيمانٌ نظري بلا تصديق أو إقرار أو عمل؟ هل الإيمان معرفة بلا تصديق؟
١٥  عند أبي حنيفة، التصديق مع الكلمتين (الموقف، ص٣٨٤؛ الدر، ص١٦٠). الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان (الدر، ص١٦٢). الإيمان عمل القلب واللسان، وهما التصديق والإقرار (التحفة، ص٤١-٤٢؛ الإتحاف، ص٤٨–٥٠؛ المِلل، ج٢، ص١٠٦). فالأعمال شرائع الإيمان وفرائض له فقط. الإيمان هو الإقرار والتصديق (الفقه، ص١٨٦). الإقرار باللسان بالتحقيق، والتصديق بالجَنان وفق التحقيق، وتقديم الإقرار للإشعار بالإظهار (شرح الفقه، ص٧٥-٧٦). وعند غسان المرجئي وأكثر أصحاب أبي حنيفة، الإيمان الإقرار والمحبة لله والتعظيم له والهيبة منه وترك الاستخفاف (مقالات، ج١، ص٢٠٤). الإيمان هو الإقرار والمحبة لله وتعظيمه وترك الاستكبار عليه (الفرق، ص٢٠٣). وعند بشر المريسي وأصحابه من المرجئة، الإيمان في اللغة التصديق، ويكون بالقلب واللسان، وهو أيضًا موقف ابن الراوندي (الفرق، ص٢٠٤-٢٠٥). الإيمان هو التصديق بما جاء من عند الله والإقرار به (النسفية، ص١٢٤–١٢٦؛ حاشية الخيالي، ص١٢٥). ولا يكفي التصديق بمعنى التسليم، وليس التسليم إلا الإذعان والقبول الذي لا بد منه في التصديق (حاشية الإسفراييني، ص١٢٥). من قال بلسانه إن الله واحد، وعنى به المسيح، فهو صادق في قوله مشرك بقلبه. وقد اختلفت المرجئة في الكفر؛ فهم من يرى أن الكفر خصالٌ كثيرة، ويكون بالقلب وبغير القلب. والجهل بالله كفر، وبالقلب يكون. وكذلك البغض والاستكبار لله والتكذيب برسله بالقلب واللسان، والاستحقاق يكون بالقلب واللسان دون الجوارح، وأن من لطم النبي لم يكفر من أجل القتل بل من أجل الاستخفاف، وكذلك تارك الصلاة (مقالات، ج١، ص٢٠٦). وعند أبي معاذ التومني، الإيمان بالتصديق بالقلب واللسان، والكفر هو الجحود والإنكار والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه، ولكنه علامة الكفر (المِلل، ج٢، ص٦٥). من أضمر الإيمان دون لسان لم يستحق الجنة بشرط المعرفة عند الرقاشي، وبفضل التصديق عند القطان (الدر، ص١٩٠). الإيمان في اللغة التصديق بالقلب واللسان معًا (الفصل، ص٣، ص١١–١٤). الإيمان معرفة وتصديق ومحبة وإخلاص وإقرار (المواقف، ص٤٢٨). الكفر تكذيب لله وللرسول بالقلب واللسان دون غيرهما من الجوارح، التصديق لا يحتمل السقوط أصلًا، والإقرار قد يحتمله كما في حالة الإكراه. التصديق بالقلب، والإقرار فقط شرط لإجراء الأحكام في الدنيا. من أقرَّ بلسانه ولم يُصدق بقلبه كان منافقًا. ومن صدَّق بقلبه ولم يُقر بلسانه كان مؤمنًا (شرح التفتازاني، ص١٢٦؛ حاشية الخيالي، ص١٢٦؛ حاشية الإسفراييني، ص١٢٦). وعند الأشاعرة والماتريدي، الإقرار شرط إجراء الأحكام (شرح الفقه، ص٧٥–٧٩). ويتضح أهمية الإقرار في إسلام عمر، وإعلانه ذلك في الكعبة، وبداية تحوُّل الدعوة الإسلامية بعد إعلان عمر من السر إلى العلن.
١٦  عند أهل السنة اسم الإيمان لا يزول بذنب دون الكفر، ويكون مؤمنًا وإن فسق بمعصية، ولا يحل قتل مسلم إلا برِدَّة بعد إحصان أو قصاص (الفرق، ص٣٥١-٣٥٢). والإرجاء على معنيين؛ الأول التأخير، والثاني تأخير العمل على النية والقصد؛ فلا تنفع مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة (المِلل، ج٢، ص٥٨). الإيمان تصديق مع العمل بموجب التصديق، المواظبة في العمل تعبير عن التصديق، المواظبة على الطاعات لها تأثير في تأكيد طمأنينة النفس إلى الاعتقاد التقليدي ورسوخه في النفس (الاقتصاد، ص١١٤-١١٥). الإيمان قول وعقد وإن عري عن العمل (النهاية، ص٤٧١).
١٧  المعرفة والإقرار أولى من التصديق والإقرار؛ لأن التصديق الناشئ عن التقليد دون التحقيق مختلف في قبوله، بخلاف المعرفة الناشئة عن الدلالة مع الإقرار، فإنه إيمان بالإجماع (شرح الفقه، ص٦٤-٦٥).
١٨  وهذا هو الحديث المشهور: «ليس الإيمان بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل» (الأصول، ص٢٥٠-٢٥١). إن أصل الكلام في النظر الوصول للمعرفة … مفهوم الإيمان الانقياد الباطني، ومفهوم الإسلام الانقياد الظاهري، ومنطلقهما ليس إلا مما عُلِم من الدين بالضرورة؛ لأنه هو الذي يكفر عدم الانقياد له لغيره. القلب أصل الجوارح لتبعيتها له صلاحًا وفسادًا. الإيمان شرط لصحة أعمال الجوارح. الإسلام هو الإقرار الظاهر باللسان. (الحاشية، ص٤٤). لا يكفر من قال إن الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان دون العمل بالجوارح، وإن كان خطأً أو بدعة فهو إيمانٌ ناقص وليس كاملًا (الفصل، ج٣، ص١٥٣). لم يرضَ الرسول بمجرد الشهادة أو القول وإضمار ما خلافه في القلب؛ فإذا حدث ذلك كانوا منافقين لا إيمان لهم أو كاذبين؛ فالتصديق مع الإقرار (النهاية، ص٤٧٣-٤٧٤). الإيمان عبارة عن الاعتقاد، والقول سبب ظهوره، والأعمال خارجة عن مسمَّى الإيمان، والدليل: (أ) أن الله جعل محل الإيمان القلب، والقلب محل الاعتقاد. (ب) كلما ذكر الإيمان بمطلق الأعمال الصالحة، والعطف يُوجب التغاير. (ﺟ) إثبات الإيمان مع الكبائر، مثل قاتل النفس عمدًا عدوانًا بالمؤمن، وسُمي الباغي مؤمنًا. واحتجَّ المخالف بأن الأعمال مسمَّاة الدين، والدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان. ويجب التوفيق بين هذه الدلائل بقدر الإمكان. الإيمان له أصل وله ثمرات، والأصل هو الاعتقاد، وأما هذه الأعمال فقد يُطلَق لفظ الإيمان عليها كما يُطلَق أصل الشيء على ثمراته (المعالم، ص١٤٤–١٤٧).
١٩  الإيمان في اللغة التصديق، وشرعًا تصديق الرسول بكل ما عُلِم مجيئه به ضرورةً عندنا، وعند كلمتَي الشهادة عند الكرامة، وعن امتثال الواجبات والاجتناب عن الحرمات عند المعتزلة، وعن مجموع ذلك عند أكثر السلف (الطوالع، ص٢٢٧؛ النهاية، ص٤٧١-٤٧٢). الإيمان عقد بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان (الإنصاف، ص٥٥-٥٦؛ المواقف، ص٣٥٨؛ الغاية، ص٣١١–٣١٣). فعل القلب واللسان والجوارح (الدر، ص١٦٠–١٦٢).
٢٠  اختلف أبو الحسن في معنى التصديق. قال مرةً هو المعرفة بوجوب الصانع وألوهيته وقِدمه وصفاته، ومرةً هو قول في النفس يتضمن المعرفة ثم يعبَّر عن ذلك باللسان؛ فيُسمَّى الإقرار باللسان تصديقًا، والعمل بالأركان أيضًا من باب التصديق بحكم الدلالة، دلالة الحال، كما أن الإقرار تصديق بحكم الدلالة، دلالة المقال؛ فكان المعنى القائم بالقلب هو الأصل المدلول، والإقرار والعمل دليلان (النهاية، ص٤٧٢). الإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله عن طريق اللغة. وهناك فرق بين الإيمان والإسلام، ولكن لا يكون إيمان بلا إسلام، ولا يوجد إسلام بلا إيمان، وهما كالظهر مع البطن. والدين اسمٌ واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها (الفقه، ص١٨٦). الإيمان محض التصديق، والإسلام هو الإقرار وعمل الأبرار. الإسلام علانية، والإيمان سرًّا. الأول ظاهرًا، والثاني باطنًا. الأول بالقول والعمل، والثاني بالمعرفة والتصديق (شرح الفقه، ص٧٩-٨٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤