رابعًا: الإقرار
الإقرار هو البعد الثالث للشعور بعد المعرفة والتصديق وقبل العمل. ويعني الإقرار
التلفظ بكلمتَي الشهادة؛ فالإقرار هو القول؛ أي عمل اللسان والنطق بكلمة تُعلن عن
التصديق الذي يُعلن بدَوره عن البرهان. وما فائدة القول إن لم يعبِّر عن شيء؟
فالقول لفظٌ يعبِّر عن معنًى، والمعنى يكون في الشعور ينكشف في تجربة تصديق،
ويُدرَك بالذهن، ثم يتحقق بالعمل.
(١) ماذا يعني الإقرار؟
الإقرار هو النطق بكلمتَي الشهادة، حتى ولو أضمر صاحبه الكفر أو النفاق؛ أي
حتى ولو لم تكن هناك معرفة أو تصديق بهاتين الكلمتين. ويظل إيمان الكافر أو
المنافق الناطق بالشهادتين مثل إيمان جبريل وميكائيل والأنبياء أجمعين! الإقرار
باللسان وليس تصديقًا بالقلب أو برهانًا بالعقل أو فعلًا باليد. وقد تواتر
اقتناع الرسول بالكلمتين، ومنعه التفتيش في الضمائر وشق قلوب الناس. وما علينا
إلا الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. والظاهر عندنا هو القول أو الفعل،
والباطن هو المعرفة أو التصديق. ويكفي في الإقرار مرةً واحدة دون التكرار، على
عكس الأفعال الشرعية مثل الصلاة التي يُقصَد من الأمر فيها التكرار. وبعد
ازدواج التصوف مع الأشعرية أصبح الإقرار قديمًا في عهد الذر عندما أشهد الله
الناس على أنفسهم «ألستُ بربِّكم؟» فقالوا: بلى. وبالتالي لا يحتاج الإنسان إلى
تكرار الإقرار في الدنيا إلا مرةً واحدة.
١ والحقيقة أن جعل الإيمان مجرد إقرار دون تصديق أو معرفة أو عمل هو
ابتسار له، وجعله مجرد قول أو نطق أو إعلان. وهل يمكن الإقرار بكل ما يجيء به
الرسول دون تصديق به والتحقق من صحته؟ أليس الإقرار إقرارًا بشيء وتصديقًا بشيء
وإعلانًا عن شيء، يُدركه المؤمن ويصدِّق به ويعمل على تحقيقه؟ يظهر الإيمان في
أبعاد الشعور كلها، في المعرفة والتصديق والعمل، ظهورَه في الإقرار. إن جعل
الإيمان هو الإقرار وحده لهو تخلٍّ عن الإيمان كتجربةٍ شعورية، نظرية ووجدانية،
كمعرفة وتصديق، كما أنه تخلٍّ عن الإيمان كتجربةٍ عملية فعلية، والاكتفاء بالإعلان.
٢ وهل يمكن الإقرار بكل ما يجيء به الرسول دون التصديق به والتحقق من
صِدقه؟ إن الإقرار شرط كمال وليس شرط صحة. هو إعلان عن التصديق وليس تحقيقًا
له. وقد يتم تحقيقه بالفعل حتمًا دون إعلان؛ وبالتالي يكون الفعل هو العلامة
الظاهرة. الإقرار إعلان دون عمل، تحقيق كمال بلا مضمون، وتحقيقٌ فارغ. إن أقصى
ما يستطيع الإقرار هو أن يكون أولى البدايات في ظروفٍ صعبة كبداية لعملية
التعلم من الإقرار إلى العمل، ثم إلى التصديق، وأخيرًا إلى المعرفة؛ فالإقرار
هو الإعلان عن النية ثم تتحقق في أعمال، حتى ولو كانت هي الشعائر والطقوس
مشفوعةً بالأعمال الصالحة. وربما لا يأتي التصديق إلا بالبرهان، ولا تأتي
المعرفة إلا في النهاية؛ فإذا ما ثبت الإيمان بدأت المعرفة ثم التصديق ثم
الإقرار ثم العمل. قد يُخالف الإقرار التصديق في حالة القهر والاضطهاد، فيضطرُّ
المؤمن أن يقول شيئًا لا يُصدق به ويجحده تخفيفًا لآلام العذاب، ولكن الأفعال
هي الأفعال الحرة وليست أفعال الإكراه. وحين يصعب العمل المباشر قد يتحقق
الإيمان بالقول حتى يأتي العمل في ظرفٍ أكثر ملاءمة، ويكون أقرب إلى النجاح.
وطالما كان الإقرار هو أساس الأحكام الشرعية، فعليه يكون الحكم بالإيمان والكفر
والفسق والعصيان والارتداد وسائر الأحكام؛
٣ لذلك قد يكون لهذا الاختيار، الإيمان إقرار، مغزًى سياسي من أجل
عدم تكفير الحكام وقبول الأمة لهم ما داموا يشهدون ويُقرون بكلمتَي الشهادة، في
مُقابل اختيار آخر تجعل الأعمال مع الإقرار، وتضع التصديق أساسًا للإقرار، وهو
اختيار المعارضة. وقد يكون في حالةٍ أخرى ردَّ فِعل على تكفير الناس والخصومات
المتبادلة من أجلِ لمِّ الشمل وإرساء قواعد الوحدة الوطنية على الحد الأدنى من
الاتفاق، وهو القول، وإن صعب التفسير والتصديق.
وقد تكون هناك صلة بين التجسيم كأحد اختيارات التوحيد، والإقرار كأحد
اختيارات الإيمان؛ وبالتالي تكون هناك صلة مقابلة بين التنزيه في التوحيد،
والعمل في الإيمان. فالتجسيم يجعل الواقع في جسم الله؛ وبالتالي لا يحتاج إلى
الدخول فيه بالفعل.
(٢) هل الإيمان إقرار دون معرفة وتصديق وعمل؟
طبقًا لنسق العلاقات بين الإقرار كبُعدٍ ثالث للشعور والأبعاد الثلاثة
الأخرى، المعرفة والتصديق والعمل، فإن كل العلاقات الثنائية والثلاثية وُجدت من
قبلُ في علاقات المعرفة والتصديق؛ فالإقرار دون معرفة هو نفسه المعرفة بلا
إقرار، والإقرار دون تصديق هو نفسه التصديق دون إقرار؛ وبالتالي لا تبقى إلا
علاقةٌ واحدة، وهي الإقرار دون عمل. وفي العلاقات الثنائية، الإقرار والمعرفة
دون التصديق والعمل، هي نفسها التصديق والعمل دون الإقرار والمعرفة، كما أن
الإقرار والتصديق دون معرفة وعمل هو نفسه المعرفة والعمل دون الإقرار والتصديق.
وفي العلاقات الثلاثية للإقرار في احتمالاتها الثلاثة توجد هي نفسها في
العلاقات الثلاثية للمعرفة والتصديق. والعلاقة الرباعية الوحيدة توجد مُتكررة،
سواء كانت البداية المعرفة أو التصديق أو الإقرار.
٤
(٢-١) هل الإيمان إقرار دون عمل؟
في العلاقات الثنائية هذا هو الاحتمال الوحيد الذي لم يُعرَض بعدُ: هل
هناك إقرار دون عمل؟ الحقيقة أن القول أحد مظاهر السلوك مثل العمل؛ فالقول
سلوكٌ لغوي، والعمل سلوكٌ اجتماعي. ولا يمكن أخذ أحد مظاهر السلوك دون
الآخر، كما أن الإقرار ليس له صيغةٌ معيَّنة، بل هو صياغة تدل على مضمون.
ليس الإقرار إذن مجرد كلمة، بل هو فعل شعور يتطلب سلوكًا هو الإقرار. ولما
كانت شرائط الإيمان وأوصافه داخلة في الإقرار، فإن الإيمان لا يكون إقرارًا
فحسب، بل هو الإقرار بالإضافة إلى شرائط الإيمان وأوصافه. والعمل يأتي في
المقدمة، حق الإيمان. ويتَّضح ذلك في النطق بالشهادتين؛ إذ لا تعني الشهادة
مجرد إقرار بالقول، مجرد التلفظ بعبارة، والنطق بقضية، بل تعني فعل «أشهد»،
وهو فعلٌ شخصي في ضمير المتكلم المفرد. والشهادة رؤية ووعي وواقع وإعلان.
الشهادة تحقق من أمرٍ واقع. الشاهد حامل الحق، ورائي الواقع الذي يؤخذ
برأيه في القضاء حين الفصل في الخصومات. الشاهد هو الشاهد على عصره، هو
الذي يرى عصره رؤية حق، ويأخذ قضاء العصر بشهادته. وقد تكرَّر فعل «أشهد»
مرتين؛ الأولى في التوحيد، والثانية في الوحي؛ مما يدل على أن أصل التوحيد
لا ينفصل عن الكلام؛ أي الفكر المصدِّق والمحوِّل إلى الفعل. وقد تصل
الشهادة القولية إلى حد الشهادة الفعلية عندما يتحول الشاهد إلى شهيد بفعل
الشهادة. ولما كان النطق بالشهادتين للقادر المتمكن، فهو فعلٌ يحتاج إلى
قدرة، وليس مجرد قول بلا ثمن. وليست القدرة عضويةً خالصة، القدرة على تحريك
اللسان والشفتين وإخراج هواء الحنجرة من خلال الحبال الصوتية، فهذه قدرة لا
يتملكها الأخرس وحده، بل هي قوةٌ معنوية تكشف عن القدرة على الرفض، رفض
آلهة العصر وتأليه الطاغوت حتى يتحرر الوجدان البشري، ويكون قادرًا بعد ذل
على الانتساب إلى مبدأٍ واحد، عامٍّ شامل، يتساوى أمامه البشر جميعًا؛ لذلك
ضم فعل الإقرار فعلين؛ الأول فعل النفي «لا إله»، والثاني فعل الإثبات «إلا
الله»؛ من أجل تحرير الوجدان البشري من الطاغوت، والتعبير عن الهُويَّة
المطلَقة؛ إذ إن العبارة إذا ما حذفنا النفي والاستثناء كانت «إله الله»؛
أي تعريف الشيء بنفسه، وهوية الذات مع الموضوع، وتطابق المبتدأ مع الخبر؛
لذلك لا يجوز نطق الأطفال والصِّبية والمجانين بها؛ لأن الإقرار له ثمن،
وله حق من العقل والقلب والفعل، في المعرفة والتصديق والعمل. وإذا كانت
الشهادة تتطلب الإذعان فإنها تتطلب الفعل؛ فليس الإذعان مجرد خضوع
واستسلام، فعل سلبي، بل هو قبول عن رضًا، أي فعل إيجابي. وقد يظهر هذا
القبول في صورة غضب وتمرُّد وثورة على الواقع الذي تدحضه الشهادة وينفيه
الإقرار. وإذا كانت الشهادة تتطلب الانقياد والامتثال بدليل حروب الردة،
فإن ذلك يعني أن للشهادة حقًّا، حتى في المال مثل حق الزكاة؛ فالشهادة إذن
فعل، والإقرار سلوك. وليس أدل على ذلك أيضًا من أن الأحكام الشرعية لا تجوز
إلا بعد القول، وأن الفرائض لا تتحقق إلا بعد الشهادة؛ فالإقرار التزام
بفعل، وليس مجرد قول فارغ لا مضمون له ولا حق فيه. وإذا لم يكن للشهادة
صياغة محدَّدة، بل تصحُّ لها أية صياغة، فإن ذلك يدل على أنها مضمون وليست
صورة. وإن الإقرار ليس مجرد كلمة، بل هو فعل للشعور، وأنه معنًى وتوجُّه
يتطلب سلوكًا هو حق الإقرار.
٥
وماذا عن الفرائض إن لم تكن أعمالًا تُضاف إلى الإقرار؟ ألا يقوم الفقه
كله على الحكم والتحكيم للأفعال وليس للأقوال؟ وكيف سيحاسَب الناس يوم
القيامة وعلى أي شيء إن لم تكن على الأعمال؟ وماذا سيغفر الله يوم القيامة
إن لم تكن الأعمال؟ وعن ماذا تتم التوبة في الدنيا إن لم تكن على الأعمال؟
الأعمال حقيقة وليست مجازًا، أعمال فعلية وليست وهمية. لا تقتصر فقط على
الشعائر، بل تضم أيضًا الأعمال الصالحة المقرونة دومًا بالإيمان. وإذا كان
أصل التوحيد يتوجه إلى الإقرار فإن أصل العدل يتوجه إلى الأفعال. إن
الإرجاء لا يعني تأخير الفعل على القول، ولا العمل على الإقرار. أليست هذه
هي الأخلاق اليهودية أو التطهرية التي تقوم على أن اليهود هم أبناء الله
وأحباؤه ما داموا طاهرين، فلا عبرة بالأعمال؟
٦
لقد ثبَّتت السلطة القائمة هذا الاختيار، إما عن نية أو عن سوء نية؛ فإذا
كان الاختيار عن حسن نية فإن الهدف يكون هو لمَّ الشمل، وتحقيق الوحدة
الوطنية، وعدم التفتيش في ضمائر الناس لمعرفة تصديقهم بما يُقرون، أو
الدخول في أذهانهم لمعرفة ماذا يعرفون، أو حتى الحكم على أعمالهم؛ فقد بُعث
الأنبياء والرسل هُداةً لا قضاة، ويُرجئ الحكم على أعمالهم لليوم الآخر.
وقد يكون ذلك كردِّ فِعل على تكفير الخصوم واقتتال الفِرق، وقطع الرقاب
طبقًا للأعمال؛ وبالتالي حقنًا للدماء وحفاظًا على وحدة الأمة أصبح هذا
الاختيار إحدى وسائل لتحقيق هذا الهدف. ولكن لما كانت السلطة القائمة هي
أيضًا تُشهر سلاح تكفير الخصوم وتأييد السلطان، فإنها بإخراجها العمل عن
الإيمان جعلت أفعال الخصوم سياسيةً خالصة لا شأن لها بالإيمان؛ وبالتالي
تقضي على شرعية المعارضة. وفي الوقت نفسه تخرج أعمال السلطان من الأيمان
حتى يظل الحكم شرعيًّا ما دام السلطان يُقر بالشهادتين! وفي الوقت نفسه
تجعل السلطة القائمة المنظومة العقائدية أساسًا للتكفير مما يمكن لها من
حصار المعارضة السياسية التي تُتهم بالتأويل؛ وبالتالي الخروج على العقائد
السُّنية الحرفية الشيئية التي تتفق مع أذواق العامة وتصوراتها؛ وبالتالي
يمكن عزلها سياسيًّا في الدنيا، وعزلها دينيًّا في الآخرة. وذلك ليس فقط
للمُعارض، ولكن لقومه وشيعته وأنصاره حتى ولو غزا مع المسلمين وشارك في
قضاياهم، وكأن المحكَّ في الإيمان والكفر هو الخضوع للسلطان أو المعارضة له.
٧ وقد تأخذ بعض فِرق المعارضة الشعبية مثل هذا الموقف بدافع
المصالحة الوطنية بين السلطة القائمة والمعارضة الجذرية.
٨ فإذا ما ظهر الواقع في التجسيم فإنه يتلاشى في الإيمان، ويصبح
الإيمان مجرد إقرار.
٩ ومع ذلك كي تظهر السلطة القائمة في مظهر المُدافع عن الدين
فإنها تُهاجم الإقرار باعتباره كافيًا في الإيمان، وترفض إرجاء العمل على
الإيمان بالنسبة للعامة حتى تظل العامة في الإيمان التقليدي ومظاهر العمل
التقليدي له؛ أي في الشعائر والطقوس بعيدًا عن المعارضة السياسية.
١٠ وتروج الأحاديث لنقد كل اختيار. ولما كانت السلطتان السياسية
والدينية مُتعاونتين، فإنه سرعان ما تروح أحاديث لتأييد السلطة وتفنيد المعارضة.
١١
(٢-٢) الإيمان إقرار ومعرفة وتصديق وعمل
العلاقة الرباعية باستمرارٍ واحدة، سواء أكانت البداية بالمعرفة أو
بالتصديق أو بالإقرار؛ فالإيمان إقرار ومعرفة وتصديق وعمل؛ فلا يوجد إقرار
باللسان إلا بعد التصديق بالقلب، ولا يوجد تصديق بالقلب إلا بعد المعرفة.
وإذا كان الإقرار عملًا بالقلب فإنه يكون أيضًا عملًا بالجوارح، فلا قول
بلا تصديق، ولا تصديق بلا معرفة، ولا نظر بلا عمل. إن القول دون المعرفة
يكون مجرد ألفاظ لا تدل على شيء، ولا يؤدي إلى تصديق؛ لأنه لا يوجد موضوع
للتصديق. وبطبيعة الحال لا ينتج عنه عمل. القول دون تصديق يكون بالضرورة
دون معرفة أو فعل. تغيب الخصوصية في الزمان والمكان، ويصبح الإيمان مجرد
لغو. ليس الإيمان قولًا فحسب؛ فالقول أحد مظاهر الإيمان. القول صياغة
للنظر، وتعبير عن الرأي. اللفظ مجرد صورة للفكر وأداة له؛ لذلك يستحيل
إقامة سلوك الناس على أساس من القول؛ لأن القول وحده لا يكون أساسًا
للسلوك. القول تعبير عن فكر، وكشف لموقفٍ شعوري. القول بمفرده مجرد ألفاظ
لا تدل على شيء. ولما كان العمل واعيًا استحال تحقيقه على أساس من القول،
وإلا تحوَّل الإنسان الحي إلى إنسانٍ آلي يُعطى القرار فيتحول تلقائيًّا
إلى عمل. والشهادة ليست قولًا، بل هي قول وفكر ووجدان وعمل؛ فالشاهد على
العصر هو الشهيد، والشهيد هو الذي يشهد بقوله وفكره ووجدانه وعمله. وكل ذلك
مُمثل في حياته وأبعاد لشعوره.
١٢ وقد يتم تجاوز مفهومَي الإقرار والعمل بمفهوم الخضوع
والاستسلام والانقياد وطاعة الأوامر والنواهي بمعنى قبولها، ويصبح الإيمان
والإسلام مترادفين. والحقيقة أن هناك تمايزًا في هذه المفاهيم الأخيرة بين
المعرفة والتصديق وبين النظر، أي المعرفة والتصديق، وبين العمل، أي الإقرار
والفعل. ولا يوجد خضوع أو استسلام يأتي بالضرورة من المعرفة والتصديق، بل
قد تؤدي المعرفة والتصديق إلى الرفض والتمرد والثورة، كما قد لا يكون العمل
وحده هو الإتيان بالطاعات والالتزام بالأوامر واجتناب النواهي، بل قد
يتجاوز ذلك إلى الأعمال الصالحة، كما قد يأخذ مضمون الإيمان العقائدي
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره
مضمونًا جديدًا، وهو أصلا التوحيد والعدل، ومضمون الرسالة، وهو استقلال
الإنسان عقلًا وإرادة. ويعني التوحيد انتساب الإنسان إلى مبدأٍ يتساوى
أمامه الجميع، كما يعني العدل إثبات حرية الإنسان وعقله القادر على التمييز
بين الحسن والقبح، بل إن العمل الفرد لا يكفي كتعبير عن الإقرار بعد
المعرفة والتصديق؛ فالعمل الفردي لا يزدهر إلا في العمل الجماعي، في موالاة
المؤمنين ومعاداة الكفار؛ أي في الصراع الاجتماعي. وإذا كان علم الأصول
واحدًا، أصول الدين وأصول الفقه، فإن مصالح الأمة والحرص عليها ضد الإفساد
في الأرض يكون هو محور الصراع الاجتماعي في أصول الدين؛ لذلك ينتهي علم
التوحيد بأحكام قيمة ونداء للفعل، فتتحول الإلهيات إلى أخلاقيات، ثم إلى
اجتماعياتٍ مستمدَّة من التصوف والأصول. ويتحول الحديث من الإيمان وصياغاته
وأحكامه، من مجال الأوامر والنواهي وخطب المساجد ومواعظ المنابر، إلى
الحديث عن الضروريات الخمس، المحافظة على النفس والعقل والدين والعرض
والمال. التوحيد إذن هو أساس المحافظة على الجماعة، يظهر في أقوال الأفراد
والجماعات كما يظهر في أعمالهم.
١٣