رابعًا: الإقرار

الإقرار هو البعد الثالث للشعور بعد المعرفة والتصديق وقبل العمل. ويعني الإقرار التلفظ بكلمتَي الشهادة؛ فالإقرار هو القول؛ أي عمل اللسان والنطق بكلمة تُعلن عن التصديق الذي يُعلن بدَوره عن البرهان. وما فائدة القول إن لم يعبِّر عن شيء؟ فالقول لفظٌ يعبِّر عن معنًى، والمعنى يكون في الشعور ينكشف في تجربة تصديق، ويُدرَك بالذهن، ثم يتحقق بالعمل.

(١) ماذا يعني الإقرار؟

الإقرار هو النطق بكلمتَي الشهادة، حتى ولو أضمر صاحبه الكفر أو النفاق؛ أي حتى ولو لم تكن هناك معرفة أو تصديق بهاتين الكلمتين. ويظل إيمان الكافر أو المنافق الناطق بالشهادتين مثل إيمان جبريل وميكائيل والأنبياء أجمعين! الإقرار باللسان وليس تصديقًا بالقلب أو برهانًا بالعقل أو فعلًا باليد. وقد تواتر اقتناع الرسول بالكلمتين، ومنعه التفتيش في الضمائر وشق قلوب الناس. وما علينا إلا الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. والظاهر عندنا هو القول أو الفعل، والباطن هو المعرفة أو التصديق. ويكفي في الإقرار مرةً واحدة دون التكرار، على عكس الأفعال الشرعية مثل الصلاة التي يُقصَد من الأمر فيها التكرار. وبعد ازدواج التصوف مع الأشعرية أصبح الإقرار قديمًا في عهد الذر عندما أشهد الله الناس على أنفسهم «ألستُ بربِّكم؟» فقالوا: بلى. وبالتالي لا يحتاج الإنسان إلى تكرار الإقرار في الدنيا إلا مرةً واحدة.١ والحقيقة أن جعل الإيمان مجرد إقرار دون تصديق أو معرفة أو عمل هو ابتسار له، وجعله مجرد قول أو نطق أو إعلان. وهل يمكن الإقرار بكل ما يجيء به الرسول دون تصديق به والتحقق من صحته؟ أليس الإقرار إقرارًا بشيء وتصديقًا بشيء وإعلانًا عن شيء، يُدركه المؤمن ويصدِّق به ويعمل على تحقيقه؟ يظهر الإيمان في أبعاد الشعور كلها، في المعرفة والتصديق والعمل، ظهورَه في الإقرار. إن جعل الإيمان هو الإقرار وحده لهو تخلٍّ عن الإيمان كتجربةٍ شعورية، نظرية ووجدانية، كمعرفة وتصديق، كما أنه تخلٍّ عن الإيمان كتجربةٍ عملية فعلية، والاكتفاء بالإعلان.٢ وهل يمكن الإقرار بكل ما يجيء به الرسول دون التصديق به والتحقق من صِدقه؟ إن الإقرار شرط كمال وليس شرط صحة. هو إعلان عن التصديق وليس تحقيقًا له. وقد يتم تحقيقه بالفعل حتمًا دون إعلان؛ وبالتالي يكون الفعل هو العلامة الظاهرة. الإقرار إعلان دون عمل، تحقيق كمال بلا مضمون، وتحقيقٌ فارغ. إن أقصى ما يستطيع الإقرار هو أن يكون أولى البدايات في ظروفٍ صعبة كبداية لعملية التعلم من الإقرار إلى العمل، ثم إلى التصديق، وأخيرًا إلى المعرفة؛ فالإقرار هو الإعلان عن النية ثم تتحقق في أعمال، حتى ولو كانت هي الشعائر والطقوس مشفوعةً بالأعمال الصالحة. وربما لا يأتي التصديق إلا بالبرهان، ولا تأتي المعرفة إلا في النهاية؛ فإذا ما ثبت الإيمان بدأت المعرفة ثم التصديق ثم الإقرار ثم العمل. قد يُخالف الإقرار التصديق في حالة القهر والاضطهاد، فيضطرُّ المؤمن أن يقول شيئًا لا يُصدق به ويجحده تخفيفًا لآلام العذاب، ولكن الأفعال هي الأفعال الحرة وليست أفعال الإكراه. وحين يصعب العمل المباشر قد يتحقق الإيمان بالقول حتى يأتي العمل في ظرفٍ أكثر ملاءمة، ويكون أقرب إلى النجاح. وطالما كان الإقرار هو أساس الأحكام الشرعية، فعليه يكون الحكم بالإيمان والكفر والفسق والعصيان والارتداد وسائر الأحكام؛٣ لذلك قد يكون لهذا الاختيار، الإيمان إقرار، مغزًى سياسي من أجل عدم تكفير الحكام وقبول الأمة لهم ما داموا يشهدون ويُقرون بكلمتَي الشهادة، في مُقابل اختيار آخر تجعل الأعمال مع الإقرار، وتضع التصديق أساسًا للإقرار، وهو اختيار المعارضة. وقد يكون في حالةٍ أخرى ردَّ فِعل على تكفير الناس والخصومات المتبادلة من أجلِ لمِّ الشمل وإرساء قواعد الوحدة الوطنية على الحد الأدنى من الاتفاق، وهو القول، وإن صعب التفسير والتصديق.

وقد تكون هناك صلة بين التجسيم كأحد اختيارات التوحيد، والإقرار كأحد اختيارات الإيمان؛ وبالتالي تكون هناك صلة مقابلة بين التنزيه في التوحيد، والعمل في الإيمان. فالتجسيم يجعل الواقع في جسم الله؛ وبالتالي لا يحتاج إلى الدخول فيه بالفعل.

(٢) هل الإيمان إقرار دون معرفة وتصديق وعمل؟

طبقًا لنسق العلاقات بين الإقرار كبُعدٍ ثالث للشعور والأبعاد الثلاثة الأخرى، المعرفة والتصديق والعمل، فإن كل العلاقات الثنائية والثلاثية وُجدت من قبلُ في علاقات المعرفة والتصديق؛ فالإقرار دون معرفة هو نفسه المعرفة بلا إقرار، والإقرار دون تصديق هو نفسه التصديق دون إقرار؛ وبالتالي لا تبقى إلا علاقةٌ واحدة، وهي الإقرار دون عمل. وفي العلاقات الثنائية، الإقرار والمعرفة دون التصديق والعمل، هي نفسها التصديق والعمل دون الإقرار والمعرفة، كما أن الإقرار والتصديق دون معرفة وعمل هو نفسه المعرفة والعمل دون الإقرار والتصديق. وفي العلاقات الثلاثية للإقرار في احتمالاتها الثلاثة توجد هي نفسها في العلاقات الثلاثية للمعرفة والتصديق. والعلاقة الرباعية الوحيدة توجد مُتكررة، سواء كانت البداية المعرفة أو التصديق أو الإقرار.٤

(٢-١) هل الإيمان إقرار دون عمل؟

في العلاقات الثنائية هذا هو الاحتمال الوحيد الذي لم يُعرَض بعدُ: هل هناك إقرار دون عمل؟ الحقيقة أن القول أحد مظاهر السلوك مثل العمل؛ فالقول سلوكٌ لغوي، والعمل سلوكٌ اجتماعي. ولا يمكن أخذ أحد مظاهر السلوك دون الآخر، كما أن الإقرار ليس له صيغةٌ معيَّنة، بل هو صياغة تدل على مضمون. ليس الإقرار إذن مجرد كلمة، بل هو فعل شعور يتطلب سلوكًا هو الإقرار. ولما كانت شرائط الإيمان وأوصافه داخلة في الإقرار، فإن الإيمان لا يكون إقرارًا فحسب، بل هو الإقرار بالإضافة إلى شرائط الإيمان وأوصافه. والعمل يأتي في المقدمة، حق الإيمان. ويتَّضح ذلك في النطق بالشهادتين؛ إذ لا تعني الشهادة مجرد إقرار بالقول، مجرد التلفظ بعبارة، والنطق بقضية، بل تعني فعل «أشهد»، وهو فعلٌ شخصي في ضمير المتكلم المفرد. والشهادة رؤية ووعي وواقع وإعلان. الشهادة تحقق من أمرٍ واقع. الشاهد حامل الحق، ورائي الواقع الذي يؤخذ برأيه في القضاء حين الفصل في الخصومات. الشاهد هو الشاهد على عصره، هو الذي يرى عصره رؤية حق، ويأخذ قضاء العصر بشهادته. وقد تكرَّر فعل «أشهد» مرتين؛ الأولى في التوحيد، والثانية في الوحي؛ مما يدل على أن أصل التوحيد لا ينفصل عن الكلام؛ أي الفكر المصدِّق والمحوِّل إلى الفعل. وقد تصل الشهادة القولية إلى حد الشهادة الفعلية عندما يتحول الشاهد إلى شهيد بفعل الشهادة. ولما كان النطق بالشهادتين للقادر المتمكن، فهو فعلٌ يحتاج إلى قدرة، وليس مجرد قول بلا ثمن. وليست القدرة عضويةً خالصة، القدرة على تحريك اللسان والشفتين وإخراج هواء الحنجرة من خلال الحبال الصوتية، فهذه قدرة لا يتملكها الأخرس وحده، بل هي قوةٌ معنوية تكشف عن القدرة على الرفض، رفض آلهة العصر وتأليه الطاغوت حتى يتحرر الوجدان البشري، ويكون قادرًا بعد ذل على الانتساب إلى مبدأٍ واحد، عامٍّ شامل، يتساوى أمامه البشر جميعًا؛ لذلك ضم فعل الإقرار فعلين؛ الأول فعل النفي «لا إله»، والثاني فعل الإثبات «إلا الله»؛ من أجل تحرير الوجدان البشري من الطاغوت، والتعبير عن الهُويَّة المطلَقة؛ إذ إن العبارة إذا ما حذفنا النفي والاستثناء كانت «إله الله»؛ أي تعريف الشيء بنفسه، وهوية الذات مع الموضوع، وتطابق المبتدأ مع الخبر؛ لذلك لا يجوز نطق الأطفال والصِّبية والمجانين بها؛ لأن الإقرار له ثمن، وله حق من العقل والقلب والفعل، في المعرفة والتصديق والعمل. وإذا كانت الشهادة تتطلب الإذعان فإنها تتطلب الفعل؛ فليس الإذعان مجرد خضوع واستسلام، فعل سلبي، بل هو قبول عن رضًا، أي فعل إيجابي. وقد يظهر هذا القبول في صورة غضب وتمرُّد وثورة على الواقع الذي تدحضه الشهادة وينفيه الإقرار. وإذا كانت الشهادة تتطلب الانقياد والامتثال بدليل حروب الردة، فإن ذلك يعني أن للشهادة حقًّا، حتى في المال مثل حق الزكاة؛ فالشهادة إذن فعل، والإقرار سلوك. وليس أدل على ذلك أيضًا من أن الأحكام الشرعية لا تجوز إلا بعد القول، وأن الفرائض لا تتحقق إلا بعد الشهادة؛ فالإقرار التزام بفعل، وليس مجرد قول فارغ لا مضمون له ولا حق فيه. وإذا لم يكن للشهادة صياغة محدَّدة، بل تصحُّ لها أية صياغة، فإن ذلك يدل على أنها مضمون وليست صورة. وإن الإقرار ليس مجرد كلمة، بل هو فعل للشعور، وأنه معنًى وتوجُّه يتطلب سلوكًا هو حق الإقرار.٥
وماذا عن الفرائض إن لم تكن أعمالًا تُضاف إلى الإقرار؟ ألا يقوم الفقه كله على الحكم والتحكيم للأفعال وليس للأقوال؟ وكيف سيحاسَب الناس يوم القيامة وعلى أي شيء إن لم تكن على الأعمال؟ وماذا سيغفر الله يوم القيامة إن لم تكن الأعمال؟ وعن ماذا تتم التوبة في الدنيا إن لم تكن على الأعمال؟ الأعمال حقيقة وليست مجازًا، أعمال فعلية وليست وهمية. لا تقتصر فقط على الشعائر، بل تضم أيضًا الأعمال الصالحة المقرونة دومًا بالإيمان. وإذا كان أصل التوحيد يتوجه إلى الإقرار فإن أصل العدل يتوجه إلى الأفعال. إن الإرجاء لا يعني تأخير الفعل على القول، ولا العمل على الإقرار. أليست هذه هي الأخلاق اليهودية أو التطهرية التي تقوم على أن اليهود هم أبناء الله وأحباؤه ما داموا طاهرين، فلا عبرة بالأعمال؟٦
لقد ثبَّتت السلطة القائمة هذا الاختيار، إما عن نية أو عن سوء نية؛ فإذا كان الاختيار عن حسن نية فإن الهدف يكون هو لمَّ الشمل، وتحقيق الوحدة الوطنية، وعدم التفتيش في ضمائر الناس لمعرفة تصديقهم بما يُقرون، أو الدخول في أذهانهم لمعرفة ماذا يعرفون، أو حتى الحكم على أعمالهم؛ فقد بُعث الأنبياء والرسل هُداةً لا قضاة، ويُرجئ الحكم على أعمالهم لليوم الآخر. وقد يكون ذلك كردِّ فِعل على تكفير الخصوم واقتتال الفِرق، وقطع الرقاب طبقًا للأعمال؛ وبالتالي حقنًا للدماء وحفاظًا على وحدة الأمة أصبح هذا الاختيار إحدى وسائل لتحقيق هذا الهدف. ولكن لما كانت السلطة القائمة هي أيضًا تُشهر سلاح تكفير الخصوم وتأييد السلطان، فإنها بإخراجها العمل عن الإيمان جعلت أفعال الخصوم سياسيةً خالصة لا شأن لها بالإيمان؛ وبالتالي تقضي على شرعية المعارضة. وفي الوقت نفسه تخرج أعمال السلطان من الأيمان حتى يظل الحكم شرعيًّا ما دام السلطان يُقر بالشهادتين! وفي الوقت نفسه تجعل السلطة القائمة المنظومة العقائدية أساسًا للتكفير مما يمكن لها من حصار المعارضة السياسية التي تُتهم بالتأويل؛ وبالتالي الخروج على العقائد السُّنية الحرفية الشيئية التي تتفق مع أذواق العامة وتصوراتها؛ وبالتالي يمكن عزلها سياسيًّا في الدنيا، وعزلها دينيًّا في الآخرة. وذلك ليس فقط للمُعارض، ولكن لقومه وشيعته وأنصاره حتى ولو غزا مع المسلمين وشارك في قضاياهم، وكأن المحكَّ في الإيمان والكفر هو الخضوع للسلطان أو المعارضة له.٧ وقد تأخذ بعض فِرق المعارضة الشعبية مثل هذا الموقف بدافع المصالحة الوطنية بين السلطة القائمة والمعارضة الجذرية.٨ فإذا ما ظهر الواقع في التجسيم فإنه يتلاشى في الإيمان، ويصبح الإيمان مجرد إقرار.٩ ومع ذلك كي تظهر السلطة القائمة في مظهر المُدافع عن الدين فإنها تُهاجم الإقرار باعتباره كافيًا في الإيمان، وترفض إرجاء العمل على الإيمان بالنسبة للعامة حتى تظل العامة في الإيمان التقليدي ومظاهر العمل التقليدي له؛ أي في الشعائر والطقوس بعيدًا عن المعارضة السياسية.١٠ وتروج الأحاديث لنقد كل اختيار. ولما كانت السلطتان السياسية والدينية مُتعاونتين، فإنه سرعان ما تروح أحاديث لتأييد السلطة وتفنيد المعارضة.١١

(٢-٢) الإيمان إقرار ومعرفة وتصديق وعمل

العلاقة الرباعية باستمرارٍ واحدة، سواء أكانت البداية بالمعرفة أو بالتصديق أو بالإقرار؛ فالإيمان إقرار ومعرفة وتصديق وعمل؛ فلا يوجد إقرار باللسان إلا بعد التصديق بالقلب، ولا يوجد تصديق بالقلب إلا بعد المعرفة. وإذا كان الإقرار عملًا بالقلب فإنه يكون أيضًا عملًا بالجوارح، فلا قول بلا تصديق، ولا تصديق بلا معرفة، ولا نظر بلا عمل. إن القول دون المعرفة يكون مجرد ألفاظ لا تدل على شيء، ولا يؤدي إلى تصديق؛ لأنه لا يوجد موضوع للتصديق. وبطبيعة الحال لا ينتج عنه عمل. القول دون تصديق يكون بالضرورة دون معرفة أو فعل. تغيب الخصوصية في الزمان والمكان، ويصبح الإيمان مجرد لغو. ليس الإيمان قولًا فحسب؛ فالقول أحد مظاهر الإيمان. القول صياغة للنظر، وتعبير عن الرأي. اللفظ مجرد صورة للفكر وأداة له؛ لذلك يستحيل إقامة سلوك الناس على أساس من القول؛ لأن القول وحده لا يكون أساسًا للسلوك. القول تعبير عن فكر، وكشف لموقفٍ شعوري. القول بمفرده مجرد ألفاظ لا تدل على شيء. ولما كان العمل واعيًا استحال تحقيقه على أساس من القول، وإلا تحوَّل الإنسان الحي إلى إنسانٍ آلي يُعطى القرار فيتحول تلقائيًّا إلى عمل. والشهادة ليست قولًا، بل هي قول وفكر ووجدان وعمل؛ فالشاهد على العصر هو الشهيد، والشهيد هو الذي يشهد بقوله وفكره ووجدانه وعمله. وكل ذلك مُمثل في حياته وأبعاد لشعوره.١٢ وقد يتم تجاوز مفهومَي الإقرار والعمل بمفهوم الخضوع والاستسلام والانقياد وطاعة الأوامر والنواهي بمعنى قبولها، ويصبح الإيمان والإسلام مترادفين. والحقيقة أن هناك تمايزًا في هذه المفاهيم الأخيرة بين المعرفة والتصديق وبين النظر، أي المعرفة والتصديق، وبين العمل، أي الإقرار والفعل. ولا يوجد خضوع أو استسلام يأتي بالضرورة من المعرفة والتصديق، بل قد تؤدي المعرفة والتصديق إلى الرفض والتمرد والثورة، كما قد لا يكون العمل وحده هو الإتيان بالطاعات والالتزام بالأوامر واجتناب النواهي، بل قد يتجاوز ذلك إلى الأعمال الصالحة، كما قد يأخذ مضمون الإيمان العقائدي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره مضمونًا جديدًا، وهو أصلا التوحيد والعدل، ومضمون الرسالة، وهو استقلال الإنسان عقلًا وإرادة. ويعني التوحيد انتساب الإنسان إلى مبدأٍ يتساوى أمامه الجميع، كما يعني العدل إثبات حرية الإنسان وعقله القادر على التمييز بين الحسن والقبح، بل إن العمل الفرد لا يكفي كتعبير عن الإقرار بعد المعرفة والتصديق؛ فالعمل الفردي لا يزدهر إلا في العمل الجماعي، في موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار؛ أي في الصراع الاجتماعي. وإذا كان علم الأصول واحدًا، أصول الدين وأصول الفقه، فإن مصالح الأمة والحرص عليها ضد الإفساد في الأرض يكون هو محور الصراع الاجتماعي في أصول الدين؛ لذلك ينتهي علم التوحيد بأحكام قيمة ونداء للفعل، فتتحول الإلهيات إلى أخلاقيات، ثم إلى اجتماعياتٍ مستمدَّة من التصوف والأصول. ويتحول الحديث من الإيمان وصياغاته وأحكامه، من مجال الأوامر والنواهي وخطب المساجد ومواعظ المنابر، إلى الحديث عن الضروريات الخمس، المحافظة على النفس والعقل والدين والعرض والمال. التوحيد إذن هو أساس المحافظة على الجماعة، يظهر في أقوال الأفراد والجماعات كما يظهر في أعمالهم.١٣
١  هذا هو موقف محمد بن السجستاني وأصحابه من غُلاة المرجئة، وموقف الكرامية والكعبي. فعند محمد بن السجستاني وأصحابه، الإيمان هو الإقرار باللسان بالله وإن اعتقد الكفر بقلبه؛ فإذا فعل ذلك فهو مؤمن من أهل الجنة (الفصل، ج٣، ص١٣٧). وكانت شيعته بخراسان وبيت المقدس (الفصل، ج٥، ص٤٦؛ الإرشاد، ص٣٩٦؛ النهاية، ص٤٧٧؛ المواقف، ص٤٢٩). وعند الكرامية، فالمنافق المشرك مؤمن حقًّا، وأن إيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل والأنبياء أجمعين (الأصول، ص١٨٨-١٨٩). الإيمان هو كلمتا الشهادة (المواقف، ص٣٨٤). وقد تواتر أن الرسول والصحابة والتابعين كانوا يقنعون بالكلمتين، من أتى بهما لا يستفسرون عن علمه وعمله، فيحكمون بإيمانه بمجرد الكلمتين (المواقف، ص٣٨٥-٣٨٦). الإيمان هو التصديق، والتصديق باللسان. وكان النبي يقنع به من غير استفسار عما في القلوب (شرح التفتازاني، ص١٢٧-١٢٨). ليس المعتبر عند الكرامية إلا مجرد اللفظ الدال على معنًى (حاشية الخيالي، ص١٢٧). هو اللسان فقط ولو أضمر الكفر (الدر، ص١٦٠). الإيمان هو الإقرار، سواء كان عن إخلاص أو نفاق (الفرق، ص٣٥١-٣٥٢). الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب، والكفر باللسان. وأنكروا معرفة القلب أو شيء غير التصديق باللسان؛ فالمنافقون مؤمنون على الحقيقة، والكفر هو الجحود والإنكار له باللسان دون الجوارح (مقالات، ج١، ص٢٠٥-٢٠٦). وأمة الإسلام جامعة لكل من أقر شهادتَي الإسلام لفظًا. كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو مؤمن حقًّا من أهل الإسلام، سواء كان مُخلِصًا أو مُنافقًا أو مُضمِرًا الكفر والزندقة. المنافقون مؤمنون، وإيمانهم مثل إيمان جبريل وميكائيل والأنبياء والملائكة، مع اعتقادهم النفاق وإظهار الشهادتين (الفرق، ص١٢). الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر في قلبه (المِلل، ج٢، ص١٠٦). اسم ملة الإسلام واقع على كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، سواء أخلص في ذلك أو اعتقد خلافه. وكذلك الكعبي أن اسم الإسلام واقع على كلِّ مُقرٍّ بنبوة محمد، وأن كل ما جاء به حق كائنًا قوله بعد ذلك ما كان. وهذا يلزم إدخال العيسوية من اليهودية والمشكانية منهم في ملة الإسلام؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، ويزعمون أن محمدًا كان مبعوثًا إلى العرب، وقد أقرُّوا بأن ما جاء به حق (الفرق، ص٢٣٠-٢٣١).
٢  لقد حاجَج المتكلمون والفقهاء موقف المرجئة والكرامية؛ فإن قيل: لمَ لا تجعلون التصديق باللسان، فإن أهل اللغة لا يعلمون من التصديق إلا ذلك؟ قلنا: لو فُرض عدم وضع صدقت لمعنًى أو وضعه لمعنًى غير التصديق لم يكن التلفظ به مصدقًا قطعًا. فالتصديق إما معنى هذه اللفظة أو هذه اللفظة لدلالتها على معناها، فيجب الجزم بعلم العقلاء ضرورةً بالتصديق القلبي، ويؤيده قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، وأيضًا: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا …، وأن حجة الكرامية معارضة بالإجماع على أن المنافق كافر، وبنحو قوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، ولا نزاع في أنه يُسمَّى إيمانًا لغةً، وأنه يترتب عليه أحكام الإيمان ظاهرًا. وإنما النزاع فيما بينه وبين الله. يلزمكم أن من صدَّق بقلبه، وهمَّ بالتكلم بكلمتين، فمنعه مانع من خرس وغيره، أن يكون كافرًا، وهو خلاف الإجماع (مواقف، ص٣٨٥-٣٨٦). وفي الحديث: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (المواقف، ص٣٨٧-٣٨٨). الإيمان بسيط وهو الحق، فمن صدَّق بقلبه ولم يُقر بلسانه لا لعذر أو لإباء فهو مؤمن؛ فالنطق شرط كمال فيه كيفية الأعمال من صلاة وصوم وزكاة وحج، لا شرط صحة، ولا كجزء من حقيقته، شرط لإجراء الأحكام الدنيوية؛ لأن التصديق لخفائه قلبي فلا بد من علامةٍ ظاهرة تدل.
٣  عند الفقهاء، الزنديق من أظهر الإسلام وأسرَّ الكفر تُقبَل توبته إلا مالكًا (الدر، ص١٧١-١٧٢). وعند الحنفية: (أ) من أتى بلفظ الكفر عن اختيار وهو يعلم أنه كفر لا يكفُر. (ب) لو كان في المسألة وجوه تُكفر يكفُر، ووجه يمنع التكفير لا يكفُر. (ﺟ) من تلفَّظ بالكفر يُقر بالتوبة وتجديد النكاح. (د) من كفر بلسانه طائعًا وقلبه مطمئن بالإيمان فهو كافر. (ﻫ) جحود الكفر التوبة. (و) من ارتدَّ ثم أسلم وقد حج عليه أن يحج دون أن يُعيد الصلوات والزكاة والصيام. (ز) المؤمن عند ارتكاب الكبيرة إذا كان خائفًا من الله وغير مستخف بالشارع مؤمن. (ﺣ) إيمان اليأس غير مقبول، وتوبة اليأس مقبولة (الدر، ص١٦٩-١٧٠).
٤  يوضِّح الجدول الآتي الاحتمالات العشرة في علاقات كل من المعرفة والتصديق والإقرار، وكيف أنه لا يبقى في التصديق إلا خمسة احتمالات، وفي الإقرار احتمالان. ويمكن التعرف على علاقات التماثل والتضاد بين: (أ) المعرفة والتصديق. (ب) المعرفة والإقرار. (ب) التصديق والإقرار. (ﻫ + و) المعرفة والتصديق. (د + و) المعرفة والتصديق والإقرار … إلخ. وما زال الأمر في حاجة إلى توضيحٍ أكثر لهذه العلاقة، والتمييز بين التماثل والتضاد اعتمادًا على حساب الاحتمالات. يكفي فقط النموذج كمدخلٍ تقريبي لمزيد من الأحكام، وربما بالاعتماد على الحاسب الآلي.
المعرفة التصديق الإقرار
(أ) معرفة دون تصديق تصديق دون معرفة إقرار دون معرفة
(ب) معرفة دون إقرار تصديق دون إقرار إقرار دون تصديق
(ﺟ) معرفة دون عمل تصديق دون عمل إقرار دون عمل
(د) معرفة وتصديق دون إقرار وعمل تصديق ومعرفة دون إقرار وعمل إقرار ومعرفة دون تصديق وعمل
(ﻫ) معرفة وإقرار دون تصديق وعمل تصديق وإقرار دون معرفة وعمل إقرار وتصديق دون معرفة وعمل
(و) معرفة وعمل دون تصديق وإقرار تصديق وعمل دون معرفة وإقرار إقرار وعمل دون معرفة وتصديق
(ز) معرفة وتصديق وإقرار دون عمل تصديق ومعرفة وإقرار دون عمل إقرار ومعرفة وتصديق دون عمل
(ﺣ) معرفة وتصديق وعمل دون إقرار تصديق ومعرفة وعمل دون إقرار إقرار ومعرفة وعمل دون تصديق
(ط) معرفة وإقرار وعمل دون تصديق تصديق وإقرار وعمل دون معرفة إقرار وتصديق وعمل دون معرفة
(ي) معرفة وتصديق وإقرار وعمل تصديق ومعرفة وإقرار وعمل إقرار ومعرفة وتصديق وعمل
٥  عند الشافعية تصحُّ الشهادة بغير الصياغة المعروفة (الدر، ص١٦٥-١٦٦). وعند أبي حنيفة، الإيمان المجمَل يتم بشهادةٍ واحدة، وعند الشافعية بالشهادتين (التحفة، ص٤٠–٤٣؛ الإتحاف، ص٤٧–٥٠؛ الجوهرة، ص٤١–٤٤). وقد قيل في العقائد المتأخرة شعرًا:
والنطق يُشترط للأحكام
عليه والفعل بمبادئ الإسلام
الوسيلة، ج٢٦؛ القول، ص١٦؛ شرح الخريدة، ص٢٦
٦  حجة الجهمية والكرامية والأشعرية وأبي حنيفة واحدة، وهي أن الإيمان في اللغة هو التصديق، والعمل بالجوارح ليس تصديقًا. الإيمان توحيد، والأعمال لا تدخل فيه. ولو كانت الأعمال توحيدًا لكان قد ضاع بضياعها مثل المعتزلة والخوارج، وهو ليس موقف أهل السنة. عند المرجئة من شهد شهادة الحق دخل الجنة وإن عمل أي عمل، كما لا تنفع مع الشرك حسنة، كذلك لا يضرُّ مع التوحيد سيئة. لا يدخل النار أبدًا وإن ركب العظائم وترك الفرائض والكبائر (التنبيه، ص١٦). لا بد من الإقرار باللسان بالشهادة بأن لا إله إلا الله وبالأنبياء وبما جاء من عند الله، ثم ترك من العمل، فهو مؤمن لا ينقصه شيء (التنبيه، ص١٥١). ليس في إيمانهم نقص وإن زنا أحدهم بامرأة أخيه، أو ارتكب العظائم، وأتى الكبائر والفواحش، وشرب الخمر، وقتل النفس، وأكل الحرام والربا، وترك الصلاة والزكاة والفرائض، واغتاب وهمز ولمز ونمى (التنبيه، ص١٥٣). عند المرجئة، الإقرار بالتنزيل وإن جحد التأويل. نشهد، ولكن لا ندري من محمد هو الذي بمكة أم بالمدينة أو بخراسان، ونُقر بالحج ولا ندري هل هو بمكة أو بخراسان، ونُقر بأن الخنزير حرام ولا ندري هل هذا خنزير أم حمار، وإبليس لم يعرف ما أقر به (التنبيه، ص١٥١-١٥٢). وعند غيلان (رواية زرقان)، الإيمان إقرار باللسان وهو التصديق، والمعرفة بالله فعل الله وليست من الإيمان؛ فالإيمان في اللغة هو التصديق، والتصديق باللسان (مقالات، ج١، ص٢٠٠؛ الفرق، ص٢٠٦-٢٠٧). وعند أبي ثوبان، الإيمان هو الإقرار بالله وبرسله، وما كان لا يجوز في العقل إلا أن يفعله، وما كان جائزًا في العقل ألا يفعله، فليس ذلك من الإيمان (مقالات، ج١، ص٩٩). قالت المرجئة بالإرجاء في الإيمان (الفرق، ص٢٥). وهي ثلاثة أصناف: (أ) الإرجاء في الإيمان وبالقدر على مذاهب القدرية، المعتزلة وغيلان وأبي شمر ومحمد بن شبيب البصري. (ب) الإرجاء بالإيمان والجبر في الأعمال مثل جهم بن صفوان. (ﺟ) إرجاء العمل عن الإيمان بمعنى التأخير، وهم اليونسية والثوبانية والمريسية والتومنية (الفرق، ص٢٠٢). ولذلك سُمُّوا مرجئة (الفرق، ص٢٠٧). الإيمان إقرار باللسان (الفصل، ج٥، ص٤٦). هذه الطاعات لو كانت جزءًا من مسمَّى الإيمان شرعًا لكان تقييد الإيمان بالطاعة تكديرًا، وبالمعصية نقصًا. وقد فنَّد الرازي هذه الحجة بأربع حجج أخرى مُناهضة، هي: (أ) فعل الواجبات هو الدين، والدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان. (ب) قاطع الطريق يُجزى يوم القيامة، والمؤمن لا يُجزى. (ﺟ) لو كان الإيمان التصديق لكان كل من صدَّق الخبث والطاغوت مؤمنًا. (د) الآيات القرآنية التي تربط بين العمل والإيمان (المحصل، ص١٧٤).
٧  عند أهل السنة، اسم ملة الإسلام واقع على كل من أقرَّ بحدوث العالم وتوحيده وصانعه وقِدمه، وأنه عادلٌ حكيم، مع نفي التشبيه والتعطيل، وأقرَّ مع ذلك بنبوة جميع أنبيائه، وبصحة نبوة محمد ورسالته إلى الكافة، وبتأييد شريعته، وبأن كل ما جاء به حق، وأن القرآن مَنبع شريعته، وبوجوب الأركان الخمسة. فإن لم يخلط إيمانه ببدعةٍ شنعاء تؤدي إلى الكفر فهو الموحِّد السُّني، وإن ضم إلى ذلك بدعةً شنعاء، مثل الباطنية أو البيانية أو المغيرية أو المنصورية أو الجناحية أو السبئية أو الخطابية من الرافضة، أو كان على دين الحلولية أو أصحاب التناسخ أو الميمونية أو اليزيدية من الخوارج، أو على دين الحابطية أو الحمارية من القدرية، أو كان ممن يُحرم شيئًا من نص القرآن على إباحته باسمه، أو أباح ما حرَّم القرآن باسمه؛ فليس من جملة أمة الإسلام. وإن كانت بدعته من جنس بدع الرافضة الزيدية أو الرافضة الإمامية، أو من جنس بدع الخوارج أو المعتزلة أو البخارية أو الجهمية أو الضرارية أو المجسمة؛ كان من جملة أمة الإسلام في بعض الأحكام؛ الدفن في مقابر المسلمين، وأن يُدفَع إليه سهمه من الغنيمة إن غزا مع المسلمين، ولا يُمنَع من دخول المساجد والصلاة فيها؛ ويخرج في بعض الأحكام، مثل أنه لا تجوز الصلاة عليه ولا خلفه، ولا تحل ذبيحته وامرأته للسُّني، أو نكاح السُّنية من أحدهم (الفرق، ص٢٣١-٢٣٢).
٨  العجيب أن تتبنَّى بعض فِرق الخوارج والمعتزلة هذا الرأي؛ فعند بعض الروافض أن ظهور الإيمان من خلال القول لا يُعَد إيمانًا، بل إسلام. وعند الزيدية من شهد لمحمد بالنبوة من أهل الكتاب وإن لم يدخلوا في دينه ويعملوا بشريعته فهم مؤمنون (مقالات، ج١، ص١٧١). من قال بلسانه «إن الله واحد»، وعنى به المسيح، فهو صادق في قوله مشرك بقلبه (مقالات، ج١، ص١٧٣). وعند الفضيلة الصفرية من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بلسانه، ولم يعتقد ذلك بقلبه، بل اعتقد الكفر أو الدهرية أو اليهودية أو النصرانية، فهو مسلم عند الله مؤمن، ولا يضرُّه إذا قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبه (الفصل، ج٥، ص٣١). وعند الكعبي من المعتزلة أن قول القائل «أمة الإسلام» تقع على كل مُقر بنبوة محمد، وإن كان كل ما جاء به حقًّا كائنًا في قوله بعد ذلك ما كان. وهذا يُناقَض بقول العيسوية من أصبهان؛ إذ يُقرون بنبوة محمد، وبأن كل ما جاء به حق، ولكن إلى العرب وليس إلى بني إسرائيل؛ وبقول موشكانية اليهود؛ إذ قال موشكان إن محمدًا رسول الله إلى العرب وإلى سائر الناس ما خلا اليهود، وأقروا بالشهادتين، وهم ليسوا من أمة الإسلام لقولهم إن شريعة الإسلام لا تلزمهم (الفرق، ص١٢-١٣).
٩  تُقر المُشبهة بلزوم أحكام القرآن، وبوجوب أركان الشريعة، وبتحريم المحرَّمات (الفرق، ص٢٢٧). الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب ودون سائر الأعمال. وفرَّقوا بين تسوية المؤمن مؤمنًا فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء؛ فالمنافق مؤمن في الدنيا حقيقة، مستحقٌّ للعذاب الأبدي في الآخرة (المِلل، ج٢، ص٢٢). وعند الكرامية، الإيمان هو الإقرار باللسان فقط. ولا يخفى قبح القول بأن الإيمان مجرد الإقرار باللسان من حيث إفضاؤه إلى تكفير من لم يُظهر ما أبطنه من التصديق والطاعة، وامتناع استحقاقه للشفاعة، والحكم بنقيضه لمن أظهر ضد ما أبطن من الكفر بالله ورسوله وآله، والمضادَّة في الدين، والعداوة للمسلمين (الغاية، ص٣١٠-٣١١).
١٠  يتبنى أهل السنة هذا الموقف ويعيبونه على الآخرين؛ الكرامية والمرجئة وبعض الروافض والخوارج.
١١  وُضعت أحاديث عديدة لهدم موقف المرجئة، كما وُضعت أحاديث أخرى لهدم مواقف المعتزلة والخوارج والشيعة؛ فقد رُوي عن النبي قوله: «لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيًّا.» قيل: من المرجئة يا رسول الله؟ قال: «الذين يقولون الإيمان كلام.» يعني الذين زعموا أن الإيمان هو الإقرار وحده دون غيره (الفرق، ٢٠٢).
١٢  الاكتفاء بالمعرفة دون الإقرار، وبالإقرار دون المعرفة، فهو في محل النزاع كما قاله بعض أهل الابتداع (شرح الفقه، ص٦٥). رفض موقف المرجئة في «التنبيه» بأسلوبٍ خطابي دعائي (التنبيه، ص٤٣–٤٧). حجج ابن حزم ضد المرجئة (الفصل، ج٣، ص١٣٨–١٥٣). وهي خمسة: (أ) الإيمان تصديق ليس فقط باللسان، ولكن بالقلب. وهذا أيضًا مما تسمح به اللغة، وإلا كان كل تصديق بشيء إيمانًا. (ب) قبول النبي الناس بالقول كان بداية وليس نهاية، فبالإجماع صح ذلك. وقول الرسول في السوداء: «أعتقْها فإنها مؤمنة.» ولعمه: «قل كلمةً أُحاجج لك بها عند الله.» (ﺟ) الإعلان عن الكفر ليس كفرًا، ولا عن الإيمان إيمانًا؛ نظرًا لوجود الإكراه. (د) الإيمان ارتياب وظن وإيمان ويقين، وكلها أفعال القلب. (ﻫ) يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، درجات الثواب والعقاب في الآخرة ليست طبقًا للأقوال، بل للأعمال. حكاية جملة أصحاب الحديث وأهل السنة: الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليُصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله (مقالات، ج١، ص٣٢٢). كما يرفض ابن حزم الأحاديث التي تجعل الإيمان مجرد إقرار، مثل: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.» فقد أتت أحاديث أخرى بزيادة في الخبر، وهو قوله: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويؤمنوا بما أُرسلت به، فهذا هو الذي لا إيمان لأحد بدونه» (الفصل، ج٤، ص١٨-١٩).
١٣  يظهر ذلك التيار عند بعض الأشاعرة والماتريدية (شرح الخريدة، ص٦٦-٦٧؛ النسفية، ص١٣٠؛ حاشية التفتازاني، ص١٣٠-١٣١؛ شرح الدواني، ص٢٨٧–٢٩١؛ حاشية الكلنبوي، ص٢٨٨؛ حاشية المرجاني، ج٢، ص٢٨٨؛ التحفة، ص٩٨-٩٩؛ الإتحاف، ص١٥٢). معنى لا إله إلا الله لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار، ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده ولا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه، يُضيف إلى ذلك الكفر بما يُعبَد من دون الله؛ فإن شك أو توقَّف لم يحرم ماله ودمه (الكتاب، ص١٤؛ الفرق، ص٣٤٥-٣٤٦). وعند بعض المرجئة، الكفر يكون بالقلب واللسان (مقالات، ج١، ص٢٠٦). وعند محمد بن كرام رادًّا على أصحاب الحديث، الإيمان قول وعمل (الفرق، ص٢٢٠؛ مقالات، ج١، ص٣١٢؛ التنبيه، ص١٥–١٧؛ الإبانة، ص١٠). ولكن الخوارج هم الذين ربطوا بين القول والعمل؛ فعندهم قد يسلم الإنسان بمعرفة وظيفة الدين، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله جملة، والولاية لأولياء الله والبراءة من أعداء الله، وإن لم يعرف سوى ذلك فهو مسلم حتى يُبتلى بالعمل؛ فمن واقَع شيئًا من الحرام مما جاء فيه الوعيد وهو لا يعلم أنه حرام فقد كفر، ومن ترك شيئًا من كبير مما افترضه الله عليه وهو لا يعلم فقد كفر؛ فإن حضر أحد من أوليائه مواقعة من واقع الحرام وهو لا يدري أحلال أم حرام، أو اشتبه عليه وقف فيه، فلم يقله ولم يبرأ منه حتى يعرف أحلالًا ركب أم حرامًا، فبرئت منه البهيسية (مقالات، ج١، ص١٧٨). وعند الشبيبة أن الرجل يكون مسلمًا إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وتولَّى أولياء الله، وتبرَّأ من أعدائه، وأقرَّ بما جاء من عند الله جملةً وإن لم يعلم سائر ما افترض الله ما سوى ذلك أفرض هو أم لا، فهو مسلم حتى يُبتلى بالعمل به فيُسأل؛ لذلك سُمُّوا أصحاب السؤال (مقالات، ج١، ص١٧٩-١٨٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤