خامسًا: العمل

العمل هو البعد الرابع والأخير للشعور بعد المعرفة والتصديق والإقرار، وطبقًا لمنطق العلاقات الثنائية والثلاثية والرباعية، فقد ظهرت كلها من قبل في علاقات المعرفة والتصديق والإقرار؛ ففي العلاقات الثنائية العمل دون المعرفة هو نفسه المعرفة دون العمل، والعمل دون التصديق هو نفسه التصديق دون العمل، والعمل دون الإقرار هو نفسه الإقرار دون العمل. وفي العلاقات الثنائية، العمل والمعرفة دون التصديق والإقرار هما نفسهما الإقرار والتصديق دون المعرفة والعمل، والتصديق والإقرار دون المعرفة والعمل والمعرفة والعمل دون التصديق والإقرار، كما أن العمل والتصديق دون المعرفة والإقرار هما نفسهما الإقرار والمعرفة دون التصديق والعمل، وهما نفسهما التصديق والعمل دون المعرفة والإقرار، وهما نفسهما المعرفة والإقرار دون التصديق والعمل. أما العمل والإقرار دون المعرفة والتصديق فهما نفسهما الإقرار والعمل دون المعرفة والتصديق، والتصديق والإقرار دون المعرفة والعمل، والمعرفة والعمل دون التصديق والإقرار. وفي العلاقات الثلاثية، العمل والمعرفة والتصديق دون الإقرار هي نفسها التصديق والمعرفة والعمل دون الإقرار، والتصديق والعمل دون الإقرار. وكذلك العمل والتصديق والإقرار دون المعرفة هي نفسها الإقرار والتصديق والعمل دون المعرفة، وأيضًا التصديق والإقرار والعمل دون المعرفة. أما العمل والمعرفة والإقرار دون التصديق فهي نفسها الإقرار والمعرفة والعمل دون التصديق، وأيضًا المعرفة والإقرار والعمل دون التصديق. أما العلاقة الرباعية فهي باستمرارٍ واحدة لأنها العلاقة الكاملة، وهي نفسها التصديق والمعرفة والإقرار والعمل، هي نفسها المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، ولكن الخلاف فقط في البداية، مرةً بالعمل، وأخرى بالإقرار، وثالثةً بالتصديق، ورابعةً بالمعرفة.١ ولا يوجد إذن اختيار جديد ممكن في علاقات لم تظهر بعد. ولكن الاختيار الرباعي هو الأمثل؛ لأنه هو الذي يوحد بين أبعاد الشعور الأربعة، فالإيمان هو العمل. والتركيز على العمل رد فعل على جعل الإيمان مجرد معرفة أو تصديق أو إقرار. والحقيقة أن العمل تعبير عن معرفة، كما أن المعرفة تصديق ببرهانها. وكما لا توجد معرفة دون عمل، وإلا كانت معرفةً نظرية فارغة جوفاء، فكذلك لا يوجد عمل دون معرفة، وإلا كان عملًا أخرق أحمق. العمل لا يقوم إلا على أساسٍ معرفي، وإلا كان عملًا آليًّا غريزيًّا عضويًّا صرفًا تعبيرًا عن مجرد نشاط العضو الحي، بل إن العمل أيضًا يُغذي المعرفة ويُثيرها؛ فالمعرفة قد لا تحصل بالضرورة قبل العمل، بل يمكن أن تنشأ أثناء العمل ومن خلاله، وهي المعرفة التجريبية. فإذا كانت المعرفة قبل العمل عامةً فرضية، فإنها تتخصص وتتحقق وتُقاس في العمل طبقًا لقدراته ومقدار تقبُّل الواقع لها. وهذا هو أساس الواقعية في التشريع كما بان في «أسباب النزول» وفي «الناسخ والمنسوخ». كما أن العمل أحد مظاهر تخارج المعرفة والتصديق مثل الإقرار؛ فإذا ثبت الإقرار ثبت العمل، فلا عمل بلا إقرار، وإلا كان عملًا صامتًا سريًّا أو علنيًّا بلا كلمة أو إعلان عنه، وكأن الفعل هو الكلمة. ولا إقرار بلا عمل، وإلا كانت الكلمة هي الفعل الوحيد؛ وبالتالي تصبح كلامًا أجوف، وخطابةً فارغة. لا يوجد إذن عمل بلا إقرار إلا العمل الصامت، مع أن الإعلان عنه بلاغ للناس، ونوع من العمل والفاعلية من خلال الكلمة. يتحقق العمل بالقول، وليس بالعمل المباشر وحده. وقد يكون وقْع كلمة حق في وجه إمام ظالم ثورةً فعلية علنية، فيتحول القول إلى فعل، ولكن يظل الفعل في حاجة إلى تنظيمٍ فعلي، وذلك لا يتأتى إلا بالعمل. والعمل تعبير عن وجدان وتحقيق للبواعث، وإلا كان عملًا آليًّا لا يهزُّ الوجود الإنساني ولا يُنشد شعرًا. العمل إذن ما هو إلا تحققٌ رابع بعد المعرفة والتصديق والإقرار، بل يمكن القول بأن المعارف العقلية أعمال هي أفعال الذهن، وأن أفعال القلوب أعمال هي أفعال القلب. إذن الأقوال أعمال، وهي أفعال اللسان.
ويتضح ذلك أكثر وأكثر بارتباط الإيمان بالعمل في أصل الوحي، سواء كان عملًا صالحًا أو عملًا فاسدًا. وفي هذه الحالة يكون الإيمان قد لبسه الظلم، وكأن العمل هو عدل الإيمان. ويُقر العقل أن فعل الواجبات هو الدين، وأن الدين هو الإسلام، وأن الإسلام هو الإيمان؛ وبالتالي يكون فعل الواجبات هو الإيمان. كما يعني الإيمان الصلاة نظرًا للتوحيد بين الإيمان والأعمال. وإن قاطع الطريق ليس بمؤمن، أي إن قطع الطريق ليس من الإيمان. كما أن الزاني لا يزني وهو مؤمن نظرًا لارتباط الفعل بالإيمان. أما الاعتراض بواو العطف، وبأنه لو كان العمل جزءًا من الإيمان لكان الإيمان مُنافيًا للظلم لإخراج العمل من الإيمان، فمردود عليه بأنه لو لم يكن العمل من الإيمان لما صح إطلاق الإيمان على العمل. كما أن الإيمان في الشرع ليس التصديق فحسب، وإلا لما كان بضعًا وسبعين شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.٢ ومع ذلك يظل موضوع الإيمان والعمل موضوعًا دينيًّا سياسيًّا؛ فإخراج العمل عن الإيمان كلية، فلا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، هو تبرئة للحكام وتجاهل لأفعالهم، والاكتفاء بأقوالهم حتى لا تُحاسبهم الأمة، في حين أن إدخال الأعمال كجزء لا يتجزأ من حقيقة الإيمان هو مراقبة على الحكام والمحكومين ومحاسبتهم على أفعالهم. أما جعل الأعمال مجرد أجزاء عرَضية للإيمان لا يلزم من عدمها عدمه، أو آثارًا خارجية عن الإيمان مسببة له، ويُطلَق عليها الإيمان مجازًا، فهي محاولة لتحقيق نوع من المصالحة بين الخصوم السياسيين، وتظل أقرب إلى رأي السلطة القائمة التي تُخرج العمل من الإيمان.٣

(١) ماذا يعني العمل؟

قد يعني العمل فعل الطاعات واجتناب المعاصي؛ أي القيام بالفعل إيجابًا أم سلبًا. فإذا كان الإيمان إذن فعل الطاعات واجتناب المعاصي يكون الكفر فعل المعاصي واجتناب الطاعات، ولكن هل الإيمان فعل جميع الطاعات واجتناب جميع المعاصي؟ وماذا لو فعل المؤمن بعض الطاعات واجتنب بعض المعاصي أو فعل جميع المعاصي؟ وماذا يكون وضع الإيمان فيما يتعلق بالأفعال في جدل الكل والبعض؟ إذا استحال فعل كل الطاعات واجتناب كل المعاصي فلا ريب أن فعل بعض المعاصي واجتناب بعض الطاعات ممكن، ولكن ماذا تعني الطاعة وماذا تعني المعصية؟ هل الطاعة ما جاء فيها وعد، والمعصية ما جاء فيها وعيد؟ الطاعة حينئذٍ فعلٌ يقوم على الترغيب، والمعصية فعلٌ يقوم على الترهيب. وهل المعرفة في هذه الحالة فعل طاعة لما كانت أفعال الأذهان مثل أفعال القلوب أفعالًا؟ وهل فعل الطاعات يكون فعلًا للفرائض والنوافل أم فعلًا للفرائض؟ هل هو فعل للحد الأقصى أم للحد الأدنى؟ أم يُترَك ذلك للقدرات الفردية وللطاقات النوعية؟ وإذا كانت المعاصي كبائر وصغائر، فهل اجتناب الكبائر يُساوي اجتناب الصغائر؟ وهل يمكن الإتيان بأفعالٍ تؤدي إلى أفعال طاعة مثل المشي إلى الصلاة في المساجد البعيدة طلبًا للثواب، أو المشي إلى الحج سيرًا على الأقدام، أم أن أفعال الطاعة إنما تأتي بلا مقدمات وبلا طلبٍ زائد، فالغرض منها تزكية النفس وتقوية الوعي؟ وقد يكون كل ذلك أسماءً لغوية أو أسماءً شرعية؟ ولما كانت المعاني اللغوية أساس المعاني الاصطلاحية، يظل الموضوع كله في حدود اللغة والعُرف.٤
فما حقيقة الطاعة والمعصية؟ تتحدد الطاعة بالمتابعة أو الموافقة؛ أي متابعة الله في أغراضه أو الاتفاق معه في إرادته. والحقيقة أن هذا التعريف صوريٌّ خالص، يرجع موضوع الفعل إلى التوحيد من جديد في قضية الصفات، صفة الإرادة. كما أنه تحديد للشيء بغيره، للفعل الإنساني بإرجاعه إلى مصدرٍ آخر خارج عنه، وليس تحديدًا للفعل في ذاته. وهل يمكن معرفة الإرادة الإلهية حتى يمكن الاتفاق معها؟ فإذا كان الأمر تعبيرًا عنها، وكان الأمر وحيًا مكتوبًا بلغة، ظهرت مشكلة التفسير والتأويل كشرط للموافقة مع الأمر. وطالما اختلفت التفسيرات والتأويلات له طبقًا للمصالح والأغراض، يستحيل إذن الاتفاق معه إلا على نحوٍ معيَّن؛ وبالتالي تختلف الأفعال. أما تحديد المعصية فلا يأتي إلا عن طريق القلب، أي قلب الطاعة؛ وبالتالي القياس عليها. فإذا كانت الطاعة هي الموافقة مع الإرادة تكون المعصية هي المخالفة معها. وتظل الإشكالات كما هي قائمة. وقد يكون هذا الاتفاق بين الفعل الإنساني والإرادة الإلهية أولى المقدمات لعقائد الاتحاد والحلول التي يتبنَّاها التصوف ارتكازًا على علم الأشعرية.٥ وإذا كانت المعاني اللغوية هي الأساس، فالإسلام لغةً كما يعني التسليم أو الإخلاص فإنه يعني أيضًا التبرؤ؛ أي التحرر من كل شيء. فالإسلام هو البراءة الأصلية، العيش على الطبيعة، حيث تكمن الحرية. الإسلام إذن هو تحرُّر الوجدان البشري من كل طوق وطاغوت وجبر وقهر وخوف وجبن وممالأة ومداهنة لكل قُوى البشر، حتى يعود الإنسان إلى طبيعته الأولى وبراءته الأصلية. وهذا هو فعل النفي «لا إله» في الشهادتين؛ فإذا ما تحرَّر الوجدان البشري انتسب إلى مبدأٍ عام واحد شامل يقف البشر أمامه سواءً، وهذا هو فعل الإيجاب «إلا الله». ويشارك الإيمان الإسلام في معنى التبرؤ والبراءة، ولكن الإيمان يضيف التصديق، أي البرهان الداخلي، على صحة مضمون الإيمان وشمول المبدأ ووقوعه؛٦ لذلك استوجبت الطاعة المعرفة كما يتطلبها التصديق. ومع ذلك يظل للفعل الخيِّر استقلاله الذاتي عن المعارف النظرية التي يقوم عليها؛ نظرًا لوجود الحسن في ذاته والقبح في ذاته كأساسٍ نظري كافٍ للفعل. وفي هذه الحالة لا يكون الفعل هو إطاره النظري الذي يقوم عليه، أو الإقرار باللسان، أو فعل الفرائض أو النوافل؛ فهذه أفعالٌ مركزة، وسيلة للفعل الخير. كما لا تكون المعصية إطارًا نظريًّا مخالفًا أو كبائر أو صغائر؛ فهذه أيضًا أفعال مركزة، وسيلة لفعل السيئ؛٧ لذلك ليست الطاعات هي إقامة الشعائر، أي أركان الإسلام الخمس المشهورة؛ فهذه وسائل مركزة لتحقيق غايات عامة. وقد تتفاضل فيما بينها من حيث سرعة التحقيق وانتشاره؛ فالشهادة تتطلب فهمًا نظريًّا وعمقًا في إيجاد الدلالة وممارسة فعلَي النفي والإثبات. والصلاة تتجه نحو الجماعة في صلاة الجمعة، والزكاة تتجه نحو سيولة المال العام في المجتمع، والصوم يهدف إلى الإحساس بحاجات الآخرين، والحج مؤتمر سنوي عام للناس جميعًا لدراسة أحوال الأمة. ويمكن معرفة ذلك بالعودة إلى المعاني الاشتقاقية التي هي أساس الأسماء الاصطلاحية؛ فالصلاة تعني الدعاء، أي الارتفاع والسُّمو والتعالي قبل العودة إلى العالم والدخول في الصراع الاجتماعي الذي تكشف عنه الزكاة والصوم، والحوار وتبادل الرأي الذي يظهر في الحج. والزكاة تعني الزيادة والسخاء؛ أي إن العطاء زيادة، والإنفاق وفرة، ضد الاكتناز والاختزان بدعوى الوفرة والتراكم؛ فلا زيادة إلا من خلال السيولة وتوظيف المال في المجتمع؛ وذلك تطهيرًا للنفس، وتحريرًا لها من أسْر المال، واعتباره موضوعًا اجتماعيًّا وليس استحواذًا أو ملكيةً فردية. والصيام يعني الوقوف؛ أي التوقف والمراجعة والصمود ومراقبة النفس حتى يمكن رؤية الآخر أو المجتمع، فيظهر التفاوت في الرزق بين الفرد والجماعة؛ مما يدفع الإنسان إلى إعادة التوازن في الدخول بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.٨ وقد يكون هذا الموضوع أدخل في علم الفروع منه في علم الأصول؛ أي في علم الفقه أكثر منه في علم الأصول، أصول الفقه أو أصول الدين. ومع ذلك يمكن تحليل العمل بالعودة إلى اللغة والمعاني الاشتقاقية من أجل معرفة ما يُسمَّى في التربية الدينية «الحكمة من»؛ أي الهدف من الشعائر باعتبارها وسائل. فالصلاة مثلًا تهدف إلى إيصال عدة مضامين للشعور من أجل الحصول على المعاني الأصلية، مثل: الاتصال الدائم بالفكر، والعيش المتصل في عالم الفكر، والتعرف على المثال قبل التوجه إلى عالم الواقع الذي تدفع إليه الشعائر الأخرى كالصوم والزكاة والحج، تفاديًا لضياع الإنسان ومحوه في خِضم الحياة اليومية، وإبقاءً على دعوته الفكرية فيها والإحساس بالزمان، وبأن اليوم هو مجموعة من اللحظات، وبأن لكل لحظة فِعلَها؛ فلا يتحقق الفعل قبل لحظته فيكون استباقًا، ولا بعد لحظته فيأتي بعد فوات الأوان. الإحساس بالزمان كلحظاتٍ مُتميزة يقوم فيها الإنسان بمراجعة النفس، وقياس المسافة بين المثال والواقع، النظافة البدنية وأثر ذلك على الفكر والحياة، الرياضة البدنية وأثر الحركات على البدن وقوامه، العمل الجماعي وما يقتضيه من تنظيم ومداولة وعملٍ مشترك، وحدة الجماعة بتوجيهها نحو غاية واحدة واتباعها نظامًا واحدًا لا ينفي التعدد والمشاركة بالرأي والحوار … إلخ. وعلى هذا النحو تأخذ المعاني الثلاث للَّفظ عند الأصوليين القدماء اللغة والاصطلاح والعُرف وظيفةً جديدة؛ فاللغة هي المعنى الثابت، والعُرف هو الحاجة المُتغيرة، والاصطلاح هو الصلة بين الثابت والمُتغير.٩ وإذا كانت الطاعة هي إقامة الشعائر تكون المعصية هي ارتكاب الكبائر. لا توجد كبائر نظرية، أي كفر نظري، لاختلاف الأُطر النظرية وتعدُّد التصورات النظرية، ولكن الكبائر عمليةٌ صرفة. وإذا كانت الشعائر وسائل لتحقيق غايات، فإن المعاصي أيضًا وسائل للقضاء على هذه الغايات؛ وبالتالي لا تكون سلوكًا بشريًّا؛ فترك الصلاة رفض لأنجع الوسائل لتحقيق الغايات، وهي التي يتقبلها جمهور الأمة، والسجود للشمس أو للصنم تجسيم للمبدأ وتشبيه له، وأكل الخنزير أو شرب الخمر مَفسدة للصحة والعافية ومَضيعة للمال، وإظهار زي الكفرة في بلاد المسلمين دعوة إلى التقليد وقضاء على الأصالة. وقد يصل الأمر إلى حد اعتبارها كفرًا عمليًّا في مقابل الطاعات باعتبارها إيمانًا عمليًّا. وقد تخرج بعض الأمور عن هذا الكفر العملي؛ إما لأنها أدخل في البحث العلمي مثل جمع القرآن وتواتر الوحي، أو في المعترك السياسي مثل الخلاف بين الصحابة ونصرة هذا الفريق أو ذاك، وتمسُّك كل منهم بكتاب الله وسنة رسوله. إنما المعاصي ضياع الطاقات العقلية والمادية من أجل تحقيق الغايات والمقاصد؛ فالأفعال واحدة، والغايات واحدة، الطاعات تحقيقها إيجابًا، والمعاصي تحقيقها سلبًا.١٠

(٢) هل يسقط العمل؟

فإذا ما حدث اختلال بين أبعاد الشعور الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، أو على الأقل بين النظر الجامع للمعرفة والتصديق والعمل الجامع للإقرار والفعل، يسقط العمل ويتحول إلى عملٍ مضاد، يتحول الإيجاب إلى سلب، وتتفرغ الطاقة ولا تتحول إلى حركة، أو تتحول إلى حركةٍ مضادَّة. ويسقط العمل أو يختل بصورٍ عدة، منها تشخيص الأحكام، وإسقاط التكاليف، وإيقاف الحدود، وتحريم الحلال، وتحليل الحرام، وتأويل العبادات والمعاملات. ويحدث ذلك كله نتيجةً للكفر بكل الشرائع الموجودة الناتجة عن مجتمع الظلم الذي وضع الأوامر والنواهي لصالح السلطة القائمة. الخلل في العمل إنما ينشأ إذن عن خلل في النظر؛ أي عن اغتصاب للسلطة وهدم للشرعية. ويكون رد الفعل على ذلك تكوين مجتمع مقابل، مغلق على نفسه، حر من علاقاته، يناقض مجتمع القهر والغلبة، ويضع شرائعه ويسن قوانينه تُساعده على التحرر، وعلى قهر مجتمع الغلبة، والتغلب على نُظُم القهر. يسقط العمل إذن بتخلخل الأسس النظرية التي يقوم عليها، أو قيام التصديق، أو نفاق وخوف وجبن؛ وبالتالي عدم تعبير الإقرار لا عن معرفة ولا عن تصديق، فيصبح العمل مجرد شعائر صورية، أوامر ونواهٍ، للطاعة أو للزجر.١١ وليس لإسقاط العمل أي أثر خارجي من الفِرق الدينية المعاصرة في الديانات السابقة، بل هو تعبير عن خللٍ نظري داخل المجتمع الإسلامي.١٢

(٢-١) تشخيص الأحكام

ويسقط العمل ويختلُّ عندما تتشخَّص الأحكام، وتصبح الطاعة رجلًا، والأركان الشرعية الخمسة رجالًا. تتشخص الحدود والفرائض فتصبح المحرَّمات رجالًا والفرائض رجالًا، وتُحوَّل الحدود إلى علاقاتٍ إنسانية مجسمة؛ وذلك لأن المصائب تأتي من البشر، ومن اضطرابات العلاقات الاجتماعية. ويقوم هذا التشخيص على التأويل، تأويل الأحكام، الأوامر أشخاصٌ يجب موالاتهم، والنواهي أشخاصٌ تجب معاداتهم. الفرائض رجالٌ تجب ولايتهم، والمحارم رجالٌ تجب عداوتهم؛ نظرًا لتحقُّق الفعل في مجتمعٍ ينقسم إلى أولياء وأعداء، ويؤدي التشخيص بدَوره إلى إسقاط الشرائع وإبطال الأحكام وتجسيم الشريعة كما تجسَّمت العقيدة من قبل. ونتيجةً لتشخيص الحدود تصبح بلا موجهات، فتسقط الشرائع، وتبطل الحدود، وتحل المحرَّمات، وتحرم المحلَّلات. ويتمثل إسقاط الشريعة في إباحة الحرام أكثر منه في تحريم الحلال، وتصبح أقرب إلى الإباحية أو المشاع أو الفوضوية أو الغريزية كفرًا بالشرائع وبالقوانين، ورفضًا للمجتمعات وللدساتير، وثورة على السلطة والحكم، ورغبة في الكفر بكل شيء، وهدم كل الكيانات التي تقوم على الظلم، وتحريرًا للطبيعة المكبَّلة بالقيود؛ فالأوامر والنواهي إنما هي تعبيرٌ مجسم للصراع الاجتماعي بين العدل والظلم، بين الحق والباطل. وما فائدة الشرائع إن لم تتحول إلى صراع؟ وهل الغاية من القانون تقييد الحرية وتكبيل اليدين وتكميم الأفواه، أم إطلاق الحرية لليدين وللسان؟١٣
وقد تدور الأحكام كلها حول شخص واحد هو شخص الإمام؛ فالانتساب إليه يرفع التكاليف؛ وبالتالي لا عذاب له ولا تثريب عليه، حتى ولو ترك الفرائض وأشرك بالله. ولا يكفر إلا إذا كفر بالإمام وبالأئمة. الدين إذن أمران؛ معرفة الإمام وأداء الأمانة، وليس منه أداء الطاعات واجتناب المعاصي. العالم شر، والدنيا حرام، ولا يتحول العالم إلى خير أو يحل شيء من الدنيا إلا بمعرفة الإمام.١٤ الإمام هو الفاصل بين الحلال والحرام، وليست الشريعة التي وضعها البشر المُغتصبون لحق الله، وهو الذي سيُعيد الشريعة إلى نِصابها. وقد يتحول الأشخاص إلى أكوان فيصبح محمد السماء، وأصحابه الأرض، والعدل والإحسان الإمام، والخبث والطاغوت أعداءه، والصلاة دعاءه، والزكاة عطاءه، والحج القصد إليه. إن البنية النفسية لمجتمع الاضطهاد تنحو بالإنسان إلى التضخيم والتصوير للصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، والعدل والظلم. ويظهر ذلك على مستوى القانون والتشريع، وهو ما يُعاني مجتمع الاضطهاد منه.١٥

(٢-٢) إسقاط التكاليف

وإذا كان العمل هو أداء الطاعات واجتناب النواهي، أي القيام بالتكاليف الشرعية، فإنها تسقط أو ترتفع أو تبطل نظرًا للكفر بالشرائع الأرضية التي تقوم على الظلم وهضم الحقوق، وإحساس مجتمع الاضطهاد بأن الحق معه، وبأنه قد اتحد بالحق، أو بأن الحق قد حل فيه، وأنه قد أصبح هو والحق شيئًا واحدًا. تجسَّد الحق فيه وتجسَّد هو في الحق، إما أن يحل الله في الإنسان أو أن يرتفع الإنسان إلى الله، أو يغوص الإنسان في أعماق نفسه فيجد الحقائق دون الظواهر والأشكال. تسقط التكاليف إذن إما بالارتفاع إلى أعلى أو بالانخفاض إلى أسفل، أو بالدخول إلى الباطن ثم إعمال التأويل. ترتفع التكاليف عندما ينتقل الإنسان من مستواه الإنساني إلى مستوى البهيمية أو الملائكية، والجزاء في كليهما ثوابًا أم عقابًا؛ فالتكاليف مرتبطة بالوجود الإنساني بين الحيوان والملاك. وكما تؤدي نظرية الارتفاع إلى إسقاط التكاليف، كذلك تؤدي نظرية الحلول إلى إسقاط الشرائع حيث يقود الوعي إلى الإحساس بالرضا عن طريق رفع الروح وخفض الجسد؛ مما يؤدي إلى الإحساس بالتقوى والتطهر، وتصبح الأعمال مُتجهة نحو الداخل لا نحو الخارج، وهي أعمال تنقية الروح وتطهير البدن. التأليه إحساس بالكمال، وبأنه لا يوجد شيء يمكن عمله بعد أن وصل الإنسان إلى قمة الكمال. والعواطف في قمتها تمنع الفعل. وإن تضخُّم العالم الباطني من خيال وانفعال يجعل كل عمل خارجي لا قيمة له، كما يُساعد الإحساس بالكمال على التبرير لكل فعل بعد أن أصبح الفعل مشرَّعًا من أعلى ومضمونًا من القمة. ولما احتاجت هذه الأعمال إلى رموز بدلًا عن الشرائع، وطلبًا للإيحاء والإقناع وإظهار النفس والدعوة أمام الناس، زاد الزخرف، وازدحمت الزينات، وكثرت الطقوس والألوان، وظهرت «الأشياء» المقدسة بالصورة والصوت، كالسجاد والحناء والخواتم والنعال، وكثرت مظاهر البدن مثل العمش في العين من طول البكاء، وأصوات النحيب، وتأوُّهات الروح. تحوَّلت الشعائر إلى طقوسٍ شبيهة بطقوس الديانات القديمة واليهودية والنصرانية، حتى يعيش الإنسان في عالم من الرموز والاحتفالات. تؤدي الاتجاهات الباطنية إلى إسقاط الشرائع لأنها تحويل للخارج إلى الداخل، وللقانون إلى عاطفة، وللواقع إلى خيال. ويُخاطب الباطني الناس مؤثرًا فيهم بطرق الإيحاء حتى يستدرجهم إلى إسقاط الشرائع. يوجِّه صاحب العبادة إلى معانيها حتى يقضي على العمل بالمعرفة، ويدفع الباحث عن اللذة إلى الشك في الدين، ويدفع الشك في الدين إلى إنكار المعاد حتى تسقط الشرائع؛ فإذا ما ارتبطت الشرائع بأصولٍ غيبية سهلت زعزعة هذا الأصل؛ فإذا ما قامت على عِلل الأحكام فإن معرفة العلل تكون كافيةً دون إتمام الشعائر؛ لذلك حرَّم أهل الظاهر التعليل حتى لا ينتهي العقل إلى القضاء على الشعائر محتجًّا بالتعليل؛ فإذا ما كانت الشعائر تعبيرًا عن الطبيعة فالأولى الإتيان بأفعال الطبيعة كبديل عن الشعائر وتأصيل لها. وعلى أحسن الأحوال تكون الفرائض نوافل. يكفي شكر المُنعِم عليها نظرًا لغناء الرب عن خلقه. من شاء قام بها، ومن شاء لم يقم، والأمر متروك لاختيار الإنسان وحريته.١٦ وقد يكون العمل هو الطريق إلى النظر وليس العكس؛ فالعمل وسيلة، والنظر غاية. ويتجه النظر نحو شخص الله، ولا يكون أساسًا للعمل؛ فالعمل أساس النظر. ويصل الأمر إلى رفع الإنسان إلى رتبةٍ أعلى من الإنسانية، وأعلى من الملائكة والأنبياء والصالحين والمقرَّبين؛ فالخلل في العمل إما أن يهبط بالإنسان إلى مستوى البهيمية، وإما أن يرفعه إلى مستوى الملائكة. الإنسان وسط بين الحيوان والملاك، وحركة بين اتجاهَي الخفض والرفع، السفل والعلو، الأدنى والأعلى. في هذه الحالة تسقط التكاليف، ويصبح الله مطيعًا للعبد، وليس العبد مطيعًا لله؛ لأن للعبد الأولوية في الفعل على فعل الله، وكلما زاد فعل الإنسان قويت رؤيته لله؛ فالله يرى قدر الأعمال، والله يفرح بأفعال عباده، ويغتم ببعدهم عنه؛ فالله معبود بعبادة الناس له، ولم يكن كذلك قبل خلقه لهم؛ فوجود المعبود مشروط بوجود العابدين وبعبادتهم له. وإن لم تسقط الشرائع فإنها تتحول من كم إلى كيف، وترتبط بالحالة الشعورية للإنسان، وتختلف باختلاف الأفراد ومراتبهم الشعورية. من وصل إلى مرتبة المعرفة سقطت عنه الشرائع؛ فبين الحبيب والحبيب لا يوجد حجاب أو قانون.١٧ والحقيقة أن إسقاط الشرائع ليس أثرًا من الديانات الخارجية، مانوية أو غيرها، بل تعبير عن الكفر بكل الشرائع الأرضية التي وحَّدت بينها وبين الشرائع السماوية ظلمًا وعدوانًا من أجل تقويض النُّظم القائمة، وإقامة شرعية أخرى تأخذ حقوق المضطهَدين.

(٢-٣) إباحة المحرَّمات

وإباحة المحرَّمات نتيجةٌ طبيعية للكفر بالشرائع والقوانين وإسقاط التكاليف التي استعملتها السلطة اللاشرعية القائمة لتكبيل المعارضة وفرض الطاعة بالقوة. وإباحة المحرمات أكثر دلالة من تحريم الحلال؛ فالتحرر من القانون إحدى وسائل التحرر من المجتمع. وتتمثل إباحة المحرمات في ميدانين؛ الطعام والنكاح. ففي الطعام إباحة الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، وفي النكاح إباحة الزنا واللواط والمتعة الحرام. ويهدف ذلك كله إلى إطلاق قُوى الطبيعة الحبيسة تحت القهر، وتقوية المجتمعات السرية والروابط المشتركة حيث يشيع كل شيء؛ النساء والأموال. والميسر أيضًا مُباح ضد قوانين السلطة نقضًا لها، وإعلانًا أمام النفس عن عدم الاعتراف بشرعيتها، ثم تأخذ النفس شرعيتها من ذاتها، وتصبح أفعالها مقياس شرعيتها فتُبيح كل شيء؛ ردَّ فِعل على القهر. وإن التحرر في القهر الاجتماعي يبدأ من التحرر من القهر الفردي، وإن التحرر من القانون شرط للتحرر من السلطة. إن التحرر من الخارج لا يتم إلا بعد التحرر من الداخل، بل جهاد الأعداء لا يبدأ إلا بعد جهاد النفس، يليه جهاد الغاصبين. إن إنكار الذات يُولد رد فعل عكسي وهو إثبات الذات، كما يُولد التحريم الإباحة؛ وبالتالي يصبح الإنسان أولى بابنته الحسناء وأخته الهيفاء. وإذا ما استند التحريم إلى التخويف بالمجهول والإيمان باللامعقول، قامت الإباحة على التحرر من هذا الخوف من المجهول، وعلى عقل كل شيء مادي خارج العالم؛ فطالما استُعمل الغيب للسيطرة على الناس؛ وبالتالي يكون إنكار الغيب مقدمة لتحريرهم. كما أن كراهية المجتمع الغاصب تؤدي إلى التحريم من الزواج منه؛ فلا يتم زواج إلا من داخل المجتمع المضطهد، زواج الأقرباء، داخل مجتمع الإيمان في مواجهة مجتمع الكفر. المؤمن لا ينكح إلا مؤمنة، والكافر لا ينكح إلا كافرة. ولما كانت الأثرة والأنانية من صفات الغير، فإن الشيوع يكون من ممارسات الأنا؛ وبالتالي تنشأ المجتمعات المغلَقة التي يُباح فيها الجنس ويصبح على المشاع، عنادًا ضد مجتمع الكفر، والاستئثار عندما يستحوذ الرجل على امرأةٍ يمتلكها لنفسه ويمنعها غيره. تريد الجماعات المضطهَدة الغياب عن الواقع الأليم، وتعيش في عالم التمنِّي والأحلام، فتسقط الحدود رمز القهر، والتي يقوم الإمام الغاصب بتطبيقها، وتدعو إلى السُّكْر والشراب معارضةً له، ورفضًا لقانونه، كما تفعل جماعات الصوفية؛ فلا فرق بين الهجرة إلى الداخل والهجرة إلى الخارج، بين الفرار إلى الله والفرار من الله!١٨ لذلك قد تُباح المحرَّمات من جماعات الصوفية قدر إباحتها من جماعات الاضطهاد؛ فبقدر ما تعيش جماعة الاضطهاد تحت القهر الاجتماعي تعيش جماعة الصوفية تحت القهر النفسي، كلاهما جماعتا معارضة، عاجزتان عن المقاومة، وكلاهما يتحدان بالحق عن طريق تمثُّله وتجسُّده. تبدأ جماعة الصوفية بالزهد، بالرياضة والمجاهدة، حتى تصل إلى حالة الفناء حيث تسقط التكاليف وتُباح المحرمات؛ فإذا ما شافه الروحانيون الله ورأوه، وعاشوا في الجنان قبل الأوان، وجامعوا الحُور العِين، على الأرائك متكئين، يسعى إليهم الولدان المخلَّدون بأصناف الطعام والشراب، فما وجه التحريم وكل شيء قد تمَّت إباحته، ولم يعد هناك ستار ولا حجاب بين الحبيب والحبيب؟ وعلاقة الخلة، علاقة الخليل بالخليلة، ليست علاقة قانون وتحريم، بل علاقة اتحاد وإباحة.١٩ من هذا التصور للعالم ينبثق نظام، وتخرج من هذه العقيدة شريعة تقوم على إلغاء الفروق ما دام التصور يقوم على الوحدة؟ وحدة الإنسان والله، وحدة الروح والطبيعة، وحدة الحياة والموت، وتمَّحي الفروق أيضًا بين الحلال والحرام، وتنتهي درجات الوجود. وقد تنشأ الإباحة من حب الدنيا والالتذاذ بنعيمها إحساسًا بالطبيعة وإشباعًا لرغباتها. هكذا نشأ آدم في البداية؛ فميراثه بين أولاده بالسوية، مساواة طبيعية، فلماذا تحريم كل ذلك باسم الشريعة ثم الاتهام بالإباحة بالزندقة؟٢٠
وعلى عكس إباحة كل شيء يأتي تحريم كل شيء، وكلاهما واحد، تحليل المحرمات أو تحريم المحللات نكاية في القانون، في واضعيه أو القائمين عليه. وقد ينتقل الأمر من الإباحة إلى التحريم أو من التحريم إلى الإباحة في جدلٍ دائري يُعبر عن الرغبة في كسر القانون والتحرر منه؛ فالحلال المطلَق والحرام المطلَق كلاهما بديلان يتناوبان ولا وسط بينهما. البعد عن الدنيا من أجل الإقبال عليها، والإقبال على الدنيا من أجل البعد عنهما، والطرفان يلتقيان. هل التمتُّع بالدنيا تعويض عن فقدها، ولا حيلة للمقهور إلا الانغماس في اللذات، الخمور والنساء؟ هل الزهد في الدنيا تعويض عن الهزيمة فيها، وتركٌ إرادي لما حرم منه بُغية الحصول على أعظم منها في النهاية؟ وإذا ما تكالبت السلطة على الدنيا فإن المعارضة تتركها لهم، وإذا ما قمعت بمثل القهر فيها فإن مجتمع الاضطهاد يقلبها عليهم تعبيرًا عن القدرة على الصمود، والتحكم في الإرادة، وترفعًا على الخصوم.٢١ ويظهر جدل التحليل والتحريم في قوانين الطعام؛ فكل ما تُحلله السلطة تُحرمه المعارضة، وكل ما تُحرمه السلطة تُحلله المعارضة. والتمايز في قوانين الطعام إثبات للخصوصية وتمايز عن الجماعة كما هو الحال عند اليهود. ويتداخل المقدَّس مع الدنيوي، ويتحول الطعام إلى محرم أو مقدس إذا ما ارتبط بشخص الإمام الشهيد إمعانًا في الإغلاق وتعذيب الذات والتشدد في محاسبة النفس إذا ما استحال تغيير الواقع، أو استعدادًا لمرحلةٍ قادمة. وبينما يُحرم البعض الماء بفلاة من الأرض لو وقعت فيه قطرة خمر، يُحلل البعض الآخر الخمر نبيذ التمر لأن علة السكر غائبة فيه، الضد يُولد الضد، إما تحريم الخمر كله في الجِرار، أو تحريم قطرة منه من مياه البحار! يؤدي التطرف إلى عدم السوية في العالم، والانتقال من طرف إلى طرف، والضدان يجتمعان، اليأس من العالم أو احتضانه، الابتعاد عنه رغبة في التطهر منه أو الاغتراف منه والاتحاد به.٢٢ الحلال والحرام إذن في النهاية موقفٌ اجتماعي صِرف، قانون لتثبيت النظام الاجتماعي أو زعزعته، مجرد وظيفة اجتماعية طبقًا لغاية الجماعة.

(٢-٤) إيقاف الحدود

بعد إباحة المحرَّمات تسقط الحدود بالتبعية؛ فالحدُّ عقاب على معصية، والمعاصي نفسها لم يعد لها وجود، وإسقاط الحدود تعني التحرر من قيد السلطة وشرع مجتمع القهر كمقدمة للتحرر السياسي. يسقط حد شارب الخمر حتى ينسى أزمته ويتجاوز هزيمته، ويُقاوم عقاب القهر بإسقاط قانونه وعدم تطبيقه بالرغم من الإتيان بالأفعال التي تقع تحت طائلة القانون، خاصةً ولو كان القانون نفسه نقطة ضعف في فقه السلطة الذي لم تجتمع عليه المدارس الفقهية وما زال موضوع خلاف. والعجيب أن التشدد السياسي مع السلطة يؤدي إلى لينٍ أخلاقي مع النفس، وكأن الكفر بالعالم يولد طبيعيًّا إيمانًا بالذات.٢٣ كما يسقط حد الرجم رفضًا لتقييد حرية الإنسان الجنسية مرتين، مرةً بينه وبين نفسه، ومرةً بينه وبين الإمام المغتصِب المطبِّق للحد. والكَبت السياسي يُولد حريةً جنسية؛ فالضغط من الخارج إلى الداخل يتحول إلى تحرر الداخل إلى الداخل. أما الإمام العادل فله الحق في تطبيق الحد؛ فهو القادر على التمييز بين الإيمان والكفر، وهو المُدافع عن الشرعية والمنصب لها. يُطبق الحد من السلطة الشرعية، ويُوقف من السلطة اللاشرعية، حاكمية الله في مواجهة حاكمية البشر.٢٤ وقد يُقام حد القذف على قاذف المحصَنات من النساء، ولا يُقام على قاذف الرجل المحصن؛ فالقذف الأول أشد وأقصى من الثاني، المرأة عورةٌ أكثر من الرجل، وهو ما يُميز رؤية المجتمع المغلَق.٢٥ وعلى الضد من ذلك يُقام حد السرقة في الكثير وفي القليل، في الحرز وفي غير الحرز، كوسيلة لإحكام الانضباط في المجتمع المغلَق.٢٦ يُقابل إذن مجتمع الاضطهاد السري مجتمع الغلبة بالتسيُّب الخلقي، وقد يُقابل مجتمع الاضطهاد العلني مجتمع الغلبة بالانضباط الاجتماعي.٢٧ وأخيرًا لا تُرَد الأمانات إلى أهلها، بل تُخفَر الأمانة نظرًا لعدم ولاء مجتمع الاضطهاد لمجتمع الغلبة. وقد يكون لذلك رصيد في الديانات السابقة في الأخلاق اليهودية التي تُبيح لنفسها أخذ كل شيء وفعل كل شيء ضد الآخر، فليس عليهم في الأمِّيين سبيل.٢٨

(٢-٥) تأويل العبادات

فإذا لم تنتهِ الأحكام أو يسقط التكاليف أو تُباح المحرَّمات أو توقَف الحدود، تُئوَّل العبادات والمعاملات بحيث تكون أكثر اتساقًا مع الظروف النفسية والأوضاع الاجتماعية لمجتمع الاضطهاد في مواجهة مجتمع الغلبة. التأويل ليس استنباطًا موضوعيًّا لحكم من الآية، بل هو وضع الخاص الانفعالي فيها لإيجاد مبرِّر لها. وهو موقف هوًى، وليس نموذجًا عامًّا للفعل الإنساني كما هو الحال في أسباب النزول. التأويل إذن هو إيجاد الوقائع داخل الآية حسب الهوى. والهوى ليس فرديًّا فقط، بل هو تعبير عن موقفٍ نفسي اجتماعي، سواء لمجتمع الاضطهاد أو مجتمع الغلبة، يتَّجه نحو الأعماق، ويكشف أبعاد الذهن، فيصبح مُبررًا للوضع النفسي والاجتماعي للمتأوِّل. وكما تُئوَّل الأحكام إلى أشخاص وأكوان تُئوَّل الفرائض، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحج، بين الشدة واللين، الشدة زيادة في التعصب والتصلب تعذيبًا للنفس، وتأكيدًا لصلابتها في مجتمعٍ مغلَق في حاجة إلى تماسكٍ داخلي في مواجهة مجتمع القهر، واللين رفقًا مع النفس وتسامحًا معها في عالم من القهر والظلم والطغيان؛ حتى تستريح النفس وتنعم بحريتها الداخلية إن استحالت ممارسة حريتها في الخارج؛ فالوضوء قد يكون غير واجب إذا تم بماءٍ مغصوب، أسوةً بعدم جواز الصلاة في الدار المغصوبة؛ فالغصب رؤية تتحدد العبادات من خلالها؛ لأنه هو البنية النفسية والاجتماعية لمجتمع المضطهد الذي تم اغتصاب السلطة منه في مجتمع الغلبة والقهر. وقد يؤدي تأويل العبادات إلى فهم معانيها وعِللها، ثم تحوير صورها وإعادة صياغة أشكالها، خاصةً في موضوعاتٍ صغيرة جانبية بعد أن يستعصي التعرض للموضوعات العامة التي أصبحت حكرًا على مجتمع القهر. يتعرض وعي الجماعة المضطهَدة إلى نقائض الوضوء، هل هو النوم مع الحدث أو النوم مُضطجعًا؟ المسح بالماء على ظهور الأقدام أو أسفلها … إلخ. ويظهر التشدد في ضرورة الوضوء من قرقرة البطن، كما يظهر اللين في الاستحمام في الآبار التي نشرب منها، أي الشرب من ماء الاستحمام، وحدة الذات والموضوع كما هو الحال في النرجسية. فإذا ما تم عقل الأحكام يمكن إنكار المسح على الخفَّين باعتبار أن الوسخ في أسفل الخفين وليس في أعلاهما، حتى يظهر تعسُّف أحكام مجتمع القهر وشريعة الغلبة.٢٩ أما بالنسبة للصلاة فإنه لا يجوز أيضًا الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأن الفعل الواحد لا يكون طاعة ومعصية في الوقت نفسه، وتحرير الأرض سابق على طاعة الله فيها، وذلك في مجتمع يُعاني من الاغتصاب، اغتصاب الشرعية والاستيلاء على السلطة، ولا فرق في ذلك بين العدو الخارجي والعدو الداخلي.٣٠ كما يختلف الأمر فيها أيضًا بين اللين والشدة؛ ففي اللين لا تجب إعادة الصلاة على من تركها مُتعمدًا، خاصةً إذا كان قد فهم معناها، وتحقَّق بالحكمة منها، ووصل إلى غايتها. ولماذا الإسراع والجري إلى الصلاة إذا حان وقتها، فيتحول الناس إلى هرج ومرج وسباق وتزاحم؟ ولماذا المشي إلى الصلاة واختيار المساجد البعيدة سعيًا في مزيد من الثواب وكأن الأمر تجارة ومكسب؟ قد تكفي الواجبات دون النوافل، والحد الأدنى دون الحد الأعلى. يكفي الواجب دون المندوب، والامتناع عن المحرَّم دون المكروه، أقل القليل من الفرائض لإفساح المجال إلى المعارف. وقد يكون اللين من حيث الكم، فلا صلاة واجبة إلا ركعة بالغداة وركعة بالعشي، أو ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي. كما يمكن الجمع بين صلاتَي الظهر والعصر في أول الزوال، والمغرب والعشاء في جوف الليل. وفي صلاة المسافر تكبيرتان دون ركوع أو سجود أو قيام أو قعود أو تشهد أو سلام. وتصحُّ الصلاة في ثوبٍ كله نجس على أرضٍ نجسة ومع بدنٍ ظاهر النجاسة؛ إذ يكفي الطهارة من الأحداث دون الأنجاس. والتحرر من نجاسة البدن أسهل من التحرر من نجاسة المجتمع وشرعه ونظمه التي تقوم على القهر والغلبة. ويكفي دفن الميت بعد كفنه دون غسله والصلاة عليه؛ فهما سنتان غير مفروضتين. كما تجوز الصلاة بلا نية، يكفي نية الإسلام منذ البداية.٣١
وقد يظهر التشدد والانتقال من الأخف إلى الأثقل حرصًا على تماسك الجماعة الداخلي، وأخذًا بالشدة دون اللين، خاصةً في مجتمع الأقلية المغلق؛ فتكون الصلاة سبع عشرة مرة أو تسع عشرة مرة في اليوم والليلة. واقل الصلاة خمس عشرة ركعة! وقد تكون الصلاة خمسين مرةً كل يوم وليلة، وفي كل مرة خمس عشرة ركعة كذلك.٣٢ فالنقيض يُولد النقيض، والضد يُحيل إلى الضد، وكأن القهر يأخذ صورتين؛ الأولى اللين والتخفف مع النفس، إذ يكفي قهر المجتمع؛ والثانية الشدة والتصلب، تقوية للنفس لمقاومة قهر المجتمع.٣٣ وقد تُئوَّل الشريعة تأويلًا عقليًّا باردًا، وكأن الأمر مجرد حساب ما دام العقل قادرًا على فهم عللها واستنباط أحكامها؛ حتى لا يتحكم أحد في السلوك بالنقل اعتمادًا على السلطة بعد الكفر بكل سلطة. وفي هذه الحالة قد تكون الصلاة صحيحة في أولها، باطلة في آخرها. تكون صحيحة إذا كانت موصولة، وباطلة إذا كانت مقطوعة.٣٤ هذان التياران اللين والشدة في باقي الأركان، الزكاة والصوم والحج؛ فتكفي نية الإسلام في الصوم والحج دون نيات خاصة في كل فعل، ويكفي الحج دون وقوف أو طواف أو سعي.٣٥ ولكن تظل القضية الكبرى هي: هل تجوز الصلاة خلف الفاسق؟ وهنا يظهر التياران نفساهما؛ تيار اللين الذي يُجوز ذلك، وتيار الشدة الذي يُحرمه. وكل تيار في الحقيقة موقفٌ سياسي؛ فالجواز إنما يعني قبول شرعية الإمام الظالم القاهر، وبالتالي جواز الطاعة له، في حين أن التحريم إنما هو رفض لهذه الشرعية، ورفض لطاعة الإمام الظالم؛ لذلك قالت فرقة السلطة بالجواز بينما قالت فرقة المعارضة بالتحريم. وقد تتم الصلاة خلف الإمام الفاسق تقية، ولكن لا عن اقتناع. وفي هذه الحالة تجب إعادة الصلاة حتى تصح خلف الإمام العادل. ونظرًا لأهمية إمامة الصلاة، فإذا جازت الصلاة خلف الإمام الفاسق فإنها لا تجوز في صلاتَي الجمعة والعيدين؛ نظرًا لأن خطبتَي الجمعة والعيدين ركنان من أركان الصلاة؛ فالفسق في العمل لا بد وأن يظهر في القول. وهنا تضيع الإمامة باعتبارها نصحًا وقيادةً للأمة.٣٦ وقد يصل الأمر إلى إيقاف صلاة الجمعة حتى يظهر الإمام العادل؛ وبالتالي تتحول إمامة الصلاة وجواز الصلاة خلف الإمام الفاسق إلى رمز للصراع السياسي بين الخصوم السياسيين. كل فرقة تُفسق خصمها وتُحرم الصلاة خلفه، أو تقول بضرورة الإعادة. ولا يوجد فاسقٌ مطلَق تتفق عليه الفِرق جميعًا.٣٧ وما يُقال في الصلاة يُقال في باقي الأحكام، مثل الزكاة والحج والجهاد؛ لأنه من الأقضية والحدود.٣٨

(٢-٦) تغيير المعاملات

ولا يكفي تأويل العمل الفردي، أي العبادات، بل يتم التأويل أيضًا للعمل الجماعي، أي المعاملات. فإذا كانت العبادات أعمالًا فرديةً مركَّزةً غايتها الحصول على مضمونها، فإنها يمكن أن تتحقق للإنسان بعدة أفعال أخرى في المعاملات، ولكن على نحوٍ أطول. يشمل العمل إذن الفردي والجماعي، العبادات والمعاملات. وهي تفرقة تقوم على تصور للإنسان وكأنه يعيش بين عالمين في وقتٍ واحد، العالم العُلوي وعالم الآخرين، العالم المجرد وعالم الناس، مرةً في خطٍّ عمودي وأخرى في خطٍّ دائري، مرة في بعدٍ رأسي وأخرى في بعدٍ أفقي. وتتراوح المعاملات بين الأحوال الشخصية، أي علاقات الزواج والطلاق؛ والعلاقات المالية، أي قسمة الأموال وتوزيعها؛ والعلاقات الاجتماعية، أي الولاية والعداوة ابتداءً من الشهادة الفردية حتى علاقات الحرب وأسباب القتال. والمعاملات الشخصية هي لبُّ المعاملات، والذي تتحد فيه علاقة الفرد بالآخر، الرجل بالمرأة من أجل تكوين البذرة الأولى للجماعة، وهي الأسرة، والتي فيها يتكون الأطفال، والتي تكون مركز الأسرة الكبيرة، وهي القبيلة. والقضية الكبرى هي: هل يجوز نكاح المسلم لمسلمٍ آخر ليس من المذهب نفسه؛ أي الفِرقة؟ فلم تعد الفِرقة وحدها سببًا في السؤال حول شرعية إمامة الصلاة، بل أيضًا حول شرعية الزواج؛ فالمجتمع المغلَق يحرص على تقوية بنيته الداخلية والعلاقات الوثيقة بين أعضائه. يحرم زواج المؤمنة من مسلمٍ آخر ينتسب إلى المجتمع المفتوح، وهو مجتمع الغلبة والقهر، حتى لا يتميع النظام ويظل التضاد قائمًا بين المجتمعين؛ فالاتفاق العقائدي وليس الاتفاق في الدم والنَّسب هو أساس القرابة، في حين أن مجتمع القهر والغلبة يُبيح زواج المسلمة من المسلم بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف العقائدي لما كان هو المجتمع الأقوى، ولا يخشى من انفتاحه على الآخرين، بل إن من صالحه التزاوج والتصاهر بينه وبين الفِرق المعارضة حتى يخترقها فتنكسر المعارضة، وتقوى روابط النسب والمصاهرة. وعلى أقصى تقدير، يمكن للمؤمنة الزواج من مسلمٍ مُخالف في المذهب في دار التقية وحدها، وليس في دار الإعلان، حمايةً لمجتمع الاضطهاد حتى تقوى شوكته فيُحافظ على التضاد في النسب.٣٩ وعندما يستحكم العناد، يتحول نظام القرابة إلى سلاحٍ سياسي، كل فِرقة تحمي عقيدتها كأساس لوحدة مجتمعها، وتُحرم الزواج من الفرقة الأخرى؛ أي الجماعة السياسية المعارضة، بل ويقوم مجتمع القهر والغلبة بإشهار هذا السلاح لحصار جماعات المعارضة، ورفضهم ودفعهم خارج المجتمع كمنبوذين أو خوارج عليه.٤٠ ولا ينطبق ذلك على الزواج وحده، بل أيضًا على كل الذبائح والوراثة والصلاة وسائر الحقوق المدنية. ويتعدى ذلك إلى موالاة الأطفال وبيع الدماء وتزويج الصغار وضرورة الشهود والعقود أو عدم ضرورتها.٤١ وكيف يمكن إثبات شهود وعقود، والشهود شهود زور، والعقود عقود قهر وغلبة؟ تكفي لذلك شهادة الكرام الكاتبين الذين لا يشهدون الزور مثل شهود كل عصر، وتكفي عقود القلب والنية التي لا قهر فيها ولا غلبة. التزويج بلا ولي؛ فالولي قد خان الأمانة، وبلا شهود؛ فقد شهدوا زورًا، وبلا صداق؛ فما أكثر الرشوة! وإذا ما تم بيع إماء المخالفين فإن ذلك يكون نكاية فيهم، وإضعافًا لهم، ونوعًا من الحرب عليهم. وإذا سُبيت نساء المخالفين فإذن ذلك نوع من الإذلال لهم وإضعافهم والقضاء على شوكتهم. وإن تزويج الصغار يكون بمثابة تربية لمجتمع الاضطهاد على الشدة منذ البداية، وإثبات الرجولة المُبكرة، ورغبة في التكاثر. كل ذلك إنما يرجع إلى النظرة إلى المخالف؛ هل هو كافر أم غير كافر؟ فلو كان كافرًا ظهر التضاد بين مجتمع الاضطهاد ومجتمع الغلبة، ولو كان مؤمنًا نشأت علاقة بين المجتمع المغلَق والمجتمع المفتوح. والواقع أن كل ذلك إنما نشأ في واقعٍ اجتماعي معيَّن فرض قوانينه وشرائعه، وعبَّر عن طبيعة الصراع السياسي فيه من خلال فقه الفِرق، ولا شأن له بالعقائد إلا من حيث التبرير والشرعية ما دام الفقه فقهًا دينيًّا، عبادات ومعاملات. ولا يظهر هنا الخلاف في الفروع في فقه مجتمع الغلبة؛ لأنه بغير ذي دلالة، خلافٌ جزئي أسري داخل المجتمع القاهر، إنما يظهر الخلاف في فقه الفِرق بين مجتمع الغلبة ومجتمع الاضطهاد.
ولا يتعلق الأمر فحسب بنظام القرابة، بل بمؤسسة الزواج كلها؛ فيجوز الزواج من تسعة حاصل جمع اثنين وثلاثة وأربعة كنوع من التحرر من التفسير الأحادي للقانون الذي يُعطيه مجتمع الغلبة. وإن إباحة تعدد الزوجات إلى تسعة إنما يكشف عن رغبة في تفجير الطاقات المكبوتة، وهدم شرائع المجتمع، والعيش في عالم من الخيال والمتعة الحسية تعويضًا عن ضياع العالم، وخلق مجتمع صغير يحكم الإنسان فيه، وهو مجتمع النساء ودولته الصغيرة بعد أن غاب منه المجتمع الخارجي والدولة الكبيرة. وفي النهاية ما الفرق بين تعدد الزوجات والإماء والسبايا وما ملكت اليمين؟ ألا يدل ذلك كله على حرياتٍ جنسية عامة، والفرق فقط بين هذه النظم في الصيغ التشريعية وليس في المضمون، مجرد فرق في الدرجة وليس فرقًا في النوع؟٤٢ وقد يتَّسع الأمر أكثر فأكثر حتى تحليل زواج المتعة. وإباحة نكاح المتعة إنما يقوم للسبب نفسه؛ تفريجًا عن الهم، وإغراقًا في الدنيا، ونسيانًا للحق الضائع، وانغماسًا في شيءٍ بعد ضياع كل شيء. وقد يحل نكاح المتعة بناءً على تأويل نص أو اجتهادٍ عقلي، وليس كردِّ فِعل نفسي على مجتمع القهر، فهل تقع الممارسة بناءً على الجواز النظري؟ وقد يأتي رفض نكاح المتعة من مجتمع القهر حتى يظل مجتمع الاضطهاد محكومًا بقانون دون التمتع بحرية، حتى ولو كانت في نطاق الجنس. يبدو أن مجتمع الاضطهاد يفرض واقعه على شرعه كما هو الحال عند الجنود القائمين والطلاب المُغتربين، إقرارًا لواقع إن لم يكن تقنينًا لشرع،٤٣ بل ويصل الأمر إلى نكاح المَحارم، نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات الإخوة وبنات بني الإخوة؛ إذ تنتهي جماعات الرفض بالتقوقع على الذات، وتكوين جماعة مغلَقة تترابط فيما بينهما دمًا وبدنًا؛ وبالتالي يحل الزواج من المحارم.٤٤ كما يجوز اللواط وتفخيذ الرجال ما دام القصد هو المتعة بصرف النظر عن الجنس، كصورة للترابط الاجتماعي والتكوين المتماسك، لحمًا بلحم. والجنس قوةٌ مُحركة ودافعٌ اجتماعي للتماسك.٤٥ ولا يجوز الظهار كنايةً أو الطلاق كنايةً، كما لا يجوز التطليق ثلاثًا من أجل التماسك الاجتماعي.٤٦
أما بالنسبة للعلاقات الاقتصادية، الأموال والمكاسب والمواريث، فإن طبيعة مجتمع الاضطهاد تجعله أقرب إلى مجتمع العدل والمساواة والمِلكية العامة والشيوع، ضد مجتمع القهر الذي يغلب عليه التفاوت في الدخول والاقتصاد الحر والمِلكية الفردية والميراث؛ فالأموال بالتساوي بين الأسياد والعبيد من الزكاة، أن يُعطي السيد العبد، أو أن يعطي العبد السيد. وتؤدَّى الزكاة حتى عما سُقي من العيون والأنهار الجارية. وتُقسَّم الأموال بين الأغنياء والفقراء حتى لا يوجد في مجتمع الاضطهاد ذو حاجة، ويصل الإحساس بالمساواة إلى حد اقتسام ركوب فرس أو لبس عمامة! وكذلك تعمُّ المساواة في قسمة الغنائم وتوزيع سهام الصدقات؛ فمجتمع الاضطهاد أول من يشعر بالظلم الاجتماعي ويُحقق المساواة؛٤٧ فإذا ما ضاع أمل المساواة فإن ذلك يرجع إلى رغبة كل رئيس في التكبر والاستكثار أسوة بالحاكم الظالم؛ فيلعب دور الظالم وهو المظلوم مثل رئيس الفقراء، ورئيس المظلومين، ورئيس العسكر، والكل منهوب من الرئيس الأعظم. وقد أدَّى التشرذم والتكفير المتبادل إلى انكسار جماعة الاضطهاد إلى عدة جماعات حتى سهل القضاء عليها من مجتمع الغلبة. ولا يجوز إجراء بيع أو شراء إلا بعد معرفة هل المال حلال أو حرام، كما لا يجوز استعمال أي شيء حتى ولو سكينًا لذبح شاة قبل معرفة هل السكين مغتصَبة أم غير مغتصَبة، ولا يجوز التصدق أو الزكاة أو الحج بمالٍ حرام، وإلا بطلت الأفعال.٤٨ ولما كان مجتمع القهر والغلبة مجتمعًا تجاريًّا يقوم على الاقتصاد الحر والنشاط التجاري الخاص، فإنه يتَّهم مجتمع الاضطهاد بالتكامل والتوكل. أما مجتمع الاضطهاد فإنه يُحرم البيع والشراء في مجتمع كله ظلم وسلب، وغصب ورشوة. يكفي الإنسان قوت يومه، وما زاد يتفضل به غيره. لا يسأل أحدٌ الناس إلا مضطرًّا.٤٩ وإذا كان مجتمع القهر والغلبة يسمح بالميراث لأنه يسمح بالمِلكية الفردية. الميراث إذن لا يجوز لأنه أخذ أموال بغير حق. إلغاء الميراث إثبات لتكافؤ الفرص، وإثبات للمساواة، ووضع للعمل كمقياس للجهد وكمصدرٍ وحيد للقيمة والاستحقاق. ومع ذلك يمنع مجتمع الغلبة توريث أهل الأهواء من ميراثهم، بغية حصارهم الاجتماعي وعزلهم السياسي.٥٠
ثم تأتي العلاقات الاجتماعية والسياسية العامة التي تُحدد رؤية الإنسان لنفسه ولعلاقاته بالآخرين؛ فقد يشهد كل فريق على نفسه بأنه من أهل الجنة، ومُخالفه من أهل النار؛ وأنه هو الناجي، وخصمه هو الهالك، كما هو الحال في الأخلاق اليهودية. إذا شهد مجتمع الغلبة ذلك على نفسه فلأنه هو السلطة والشرعية وحامي الإيمان والديار، وإذا ما شهد مجتمع الاضطهاد ذلك على نفسه فلأنه مجتمع الحق الضائع والعدل المهضوم. الأول يُقرر واقعًا، والثاني يُعوض بالخيال. وفي هذه الحالة يُجيز مجتمع الاضطهاد شهادة الزور على مُخالفيهم لأنهم أهل زور وبهتان، ولا يفلُّ الحديدَ إلا الحديدُ. ولا تُقبَل شهادة مُخالفيهم إلا بعد معرفة كيفية الشهادة وتفسيرها؛ فلربما يكون الشاهد شاهد زور ليس في الواقعة الخاصة، بل في الوقائع العامة، لا من حيث هو كائنٌ فردي، بل من حيث هو كائنٌ اجتماعي. وكردِّ فِعل مضاد لم يقبل مجتمع القهر والغلبة شهادة أهل الأهواء، أي فِرق المعارضة، رفضًا برفض حتى يزيد حصارهم الاجتماعي وعزلهم عن المجتمع.٥١ ثم تتحول الشهادة على النفس ضد الآخر إلى ولاية النفس والبراءة من الآخر. فإذا برئت جماعة الاضطهاد من مجتمع القهر والغلبة فإنها تتولى أصحاب الحدود من مُوافقيها حرصًا على وحدة الجماعة وعذرًا لها، وإلا وقعت الجماعة في التشرذم والتفتُّت إلى ما لا نهاية. وهو ما يُحاوله مجتمع القهر والغلبة كذلك من أجل تثبيت إيمان الحكام وأقوالهم، وإخراج أفعالهم من أسوأ الأحوال، أو حفاظًا على وحدة الأمة أيضًا وحقنًا للدماء في أحسن الأحوال.٥٢ وقد تتجاوز العلاقات الاجتماعية من البراءة والولاية إلى علاقات الحرب والسلام. وبطبيعة الحال يُحدد مجتمع الاضطهاد علاقته بمجتمع الغلبة على أساس من المقاومة والحرب؛ فأهل الغلبة كفار وليسوا بمشركين، تحلُّ غنيمة سلاحهم عند الحرب دون سبيهم وقتلهم في السر، إلا من اعتنق الشرك ودعا إليه. وقد يُباح قتلهم وسبيهم علنًا، وسلاحهم غنيمة، ولكن يُرَد إليهم الذهب والفضة، فهم أعداء سلاح، دارهم دار إسلام إلا معسكر السلطان؛ أي المحاربين منهم.٥٣ أما مجتمع الغلبة والقهر فإنه يجعل الجهاد مع الأعداء في الخارج هو الأساس، وليس في الداخل، ما دامت طاعة الداخل لهم واجبة، والخروج عليهم بالسيف حرام شرعًا، فتنة تُضعف الأمة من الداخل وتشقُّها؛ وبالتالي لا تقوى على مقاومة الأعداء في الخارج. قد يكون ذلك سوء نية لحصار المعارضة والقضاء عليها، وقد يكون حسن نية كطريق إلى الوحدة الوطنية.٥٤
١  تتضح علاقات التماثل والتضاد الثنائية على النحو الآتي كما هو مبيَّن في الجدول:
(أ) المعرفة والتصديق. (ب) المعرفة والإقرار. (ﺟ) المعرفة والعمل.
(ب) التصديق والإقرار. (ﺟ) التصديق والعمل. (ﺟ) الإقرار والعمل.
كما تتَّضح علاقات التماثل والتضاد الثلاثية على النحو الآتي:
(د) المعرفة والتصديق + (و) الإقرار والعمل.
(ﻫ) المعرفة + (و) التصديق + (د) الإقرار + (ﻫ) العمل.
(و) المعرفة + (ﻫ) التصديق والإقرار + (د) العمل.
(ز) المعرفة والتصديق والإقرار.
(ﺣ) المعرفة والتصديق + (ز) العمل.
(ط) التصديق والإقرار + (ﺣ) العمل.
(ي) التصديق والإقرار + (ﺣ) العمل.
وأخيرًا تتضح العلاقة الرباعية في حالةٍ واحدة، هي:
(ي) المعرفة والتصديق والإقرار والعمل.
المعرفة التصديق الإقرار العمل
(أ) معرفة دون تصديق تصديق دون معرفة إقرار دون معرفة عمل دون معرفة
(ب) معرفة دون إقرار تصديق دون إقرار إقرار دون تصديق عمل دون تصديق
(ﺟ) معرفة دون عمل تصديق دون عمل إقرار دون عمل عمل دون إقرار
(د) معرفة وتصديق دون إقرار وعمل تصديق ومعرفة دون إقرار وعمل إقرار ومعرفة دون تصديق وعمل عمل ومعرفة دون تصديق وإقرار
(ﻫ) معرفة وإقرار دون تصديق وعمل تصديق وإقرار دون معرفة وعمل إقرار وتصديق دون معرفة وعمل عمل وتصديق دون معرفة وإقرار
(و) معرفة وعمل دون تصديق وإقرار تصديق وعمل دون معرفة وإقرار إقرار وعمل دون معرفة وتصديق عمل وإقرار دون معرفة وتصديق
(ز) معرفة وتصديق وإقرار دون عمل تصديق ومعرفة وإقرار دون عمل إقرار ومعرفة وتصديق دون عمل عمل ومعرفة وتصديق دون إقرار
(ﺣ) معرفة وتصديق وعمل دون إقرار تصديق ومعرفة وعمل دون إقرار إقرار ومعرفة وعمل دون تصديق عمل وتصديق وإقرار دون معرفة
(ط) معرفة وإقرار وعمل دون تصديق تصديق وإقرار وعمل دون معرفة إقرار وتصديق وعمل دون معرفة عمل ومعرفة وإقرار دون تصديق
(ي) معرفة وتصديق وإقرار وعمل تصديق ومعرفة وإقرار وعمل إقرار ومعرفة وتصديق وعمل عمل ومعرفة وتصديق وإقرار
٢  جاء الإيمان مقرونًا بالعمل الصالح في غير موضع من الكتاب، مثل: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فدلَّ على التغاير. كما قُرن بضد العمل الصالح نحو: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ (المواقف، ص٣٨٥). وتعطي المعتزلة حججًا نقلية وعقلية لإثبات اقتران العمل بالإيمان، مثل: (أ) فعل الواجبات هو الدين: وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، والدين هو الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ، والإسلام هو الإيمان: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ؛ إذن يكون فعل الواجبات من الإيمان. (ب) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ؛ أي صلاتكم إلى بيت المقدس. (ﺟ) قاطع الطريق ليس بمؤمن: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، والمؤمن لا يُخزى، يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. (د) «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، «لا إيمان لمن لا أمانة له»، (وهو حديث مُعارَض بآخر)، «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر» (المواقف، ص٣٨٦-٣٨٧). والذي يدل على خروج العمل عن مفهوم الإيمان عند المرجئة هو عطف العمل على الإيمان، ويدل من وجهين: (أ) العطف. (ب) لو كان العمل جزءًا من الإيمان لكان الإيمان مُنافيًا للظلم. والرد على ذلك بحجتين كذلك: (أ) لو لم يكن العمل من مفهوم الإيمان لما صح إطلاق الإيمان على العمل. (ب) ليس الإيمان في الشرع التصديق، وإلا لما كان بضعًا وسبعين شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»؛ أي الأفعال (الطوالع، ص٢٢٧-٢٢٨).
٣  هناك أربعة احتمالات: (أ) الأعمال جزء من حقيقة الإيمان. (ب) الأعمال أجزاءٌ عرَضية للإيمان لا يلزم من عدمها عدمه (أهل السلف). (ﺟ) الأعمال آثارٌ خارجية عن الإيمان مسببة له، ويُطلَق عليها الإيمان مجازًا (عبثٌ لفظي). (د) الأعمال خارجة عن الإيمان كلية، لا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة (بعض الخوارج) (شرح الدواني، ص٢٨٧–٢٨٩؛ الكلنبوي، ج٢، ص٢٨٧-٢٨٨؛ الخلخالي، ج٢، ص٢٨٧).
٤  اختلفت الروافض في الإيمان وفي الأسماء إلى ثلاث فِرق، منها ابن جبروية من متأخري الروافض، الإيمان عنده جميع الطاعات، والكفر جميع المعاصي، ويُثبتون الوعيد، والمتأولون الذين خالفوهم كفار (مقالات، ج١، ص١١٩-١٢٠). وكذلك عند متأخري الزيدية، الإيمان جميع الطاعات، وليس ارتكاب كل ما جاء في الوعيد كفر (مقالات، ج١، ص١٤٠). وعند جمهور الخوارج أن الإيمان هو الطاعة (الإرشاد، ص٣٩٦). ولكن عند بعض الإباضية ليس على الناس المشي إلى الصلاة والركوب إلى الحج، وإنما فعلها فقط (مقالات، ج١، ص١٧٣). فليس الإيمان هو إقامة العبادة والتمسك بالطاعات كما زعمت الخارجية، وأشد قبحًا في جعل الإيمان مجرد الإتيان بالطاعات والتمسك بالعبادات (الغاية، ص٣١٠-٣١١). ويشارك المعتزلة الخوارج في أن الإيمان هو جميع الفرائض مع ترك الكبائر (الأصول، ص٢٤٩-٢٥٠). وعند الخوارج والعلَّاف والقاضي عبد الجبار، الطاعات فرض ونفل، في حين أنه عند أكثر المعتزلة البصرية والجبائي وابنه الطاعات دون النوافل. فعند المعتزلة الإيمان هو الطاعة، ثم اختلفت في تسمية النوافل إيمانًا (الإرشاد، ص٣٩٦). وعند الجبائي، الإيمان جميع ما افترضه الله على العباد، وليست النوافل بإيمان. والأسماء ضربان؛ أسماء اللغة وأسماء الدين. أسماء اللغة المشتقة من الأفعال تقتضي الأفعال، وأسماء الدين بعد أسماء الأفعال. فاليهودي مؤمن مسلم لغويًّا وليس دينيًّا. وعند هشام الفوطي وعباد بن سليمان، الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها (مقالات، ١، ص٣٠٤). وعند النظَّام، الإيمان اجتناب الكبائر، وهو ما جاء فيه الوعيد أو من غيره (المواقف، ج٣٨١–٣٨٧). وقد اختلفت المعتزلة في الإيمان على ستة أقاويل. منها أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونقلها (مقالات، ج١، ص٣٠٣-٣٠٤). وعند أصحاب الحديث، الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها. وهو على ثلاثة أقسام: (أ) قسم يخرج صاحبه به من الكفر به ويتخلد به في النار إن مات عليه، وهو معرفته بالله وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره من الله، مع إثبات الصفات الأزلية، ونفي التشبيه والتعطيل عنه، ومع إجازة رؤيته، واعتقاد سائر ما تواترت به الأخبار الشرعية. (ب) قسم يوجب العدالة وزوال اسم الفسق عن صاحبه، ويتخلص به من دخول النار، وهو أداء الفرائض واجتناب الكبائر. (ﺟ) قسم يوجب صاحبه من السابقين الذين يدخلون الجنة بلا حساب، وهو أداء الفرائض والنوافل مع اجتناب الذنوب كلها (الأصول، ص٢٤٩). الإيمان اسم للطاعات والسعادات (المحصل، ص١٧٤).
٥  حقيقة الطاعة والمعصية. عند الأصحاب، الطاعة هي المتابعة، وهي أيضًا موافقة الأمر. وعند القدرية البصرية، الطاعة موافقة الإرادة. وعند الجبائي، الباري مطيع لعبده إذا فعل مراده (الأصول، ص٢٤٨). الطاعة عند أهل السنة موافقة الأمر وليس موافقة الإرادة (الأصول، ص٢٦٧).
٦  المسلم في اللغة قولان: (أ) المُخلِص. (ب) المستسلِم (الأصول، ص٢٤٨). والإيمان في أصل اللغة والتصديق. ثم المسلم هو الذي أوقعه الله في الشريعة على جميع الطاعات واجتناب المعاصي، والإسلام أصله في اللغة التبرؤ؛ فسُمِّي مسلمًا لأنه يتبرأ من كل شيء إلا الله، ثم نُقل اسم الإسلام إلى جميع الطاعات. وأيضًا فإن التبرؤ إلى الله من كل شيء هو معنى التصديق؛ فإذا كان الإسلام يعني خلاف الكفر والفسق فهو والإيمان واحد. وقد يكون الإسلام بمعنى الاستسلام، وهو غير الإيمان. الإسلام لفظٌ مشترك منقول من وضعه في اللغة من التبرؤ والتصديق. لا يجوز إطلاق اسم الكافر على المسلم أو المؤمن. وكذلك الكفر والشرك منقولة من اللغة؛ فالكفر لغةً هو التغطية، والشرك هو الجمع بين الاثنين، واصطلاحًا الإنكار (الفصل، ج٣، ص١٦٣–١٦٥).
٧  في بيان من يصح منه الطاعة ومن لا يصح منه. كل من عرف حدوث العالم وتوحيد صانعه وصفاته وعدله وحكمته وشروط النبوة وأصول الشريعة، صحَّت طاعته … أجاز أبو الهذيل من الكافر كثيرًا من الطاعات مع جهله بالله. قال الأصحاب إن المخالفين من القدرية والخوارج والرافضة والجهمية والبخارية والمجسمة لا تصح طاعتهم … (الأصول، ص٢٦٧). بيان شروط الإسلام ومقدماته: من شروط صحة الإيمان عندما تقوم المعرفة بالأصول العقلية في التوحيد والحكمة والعدل، وثبوت النبوة والرسالة، واعتقاد أركان شرعية الإسلام، ومن شرطه معرفة صحة ذلك كله بأدلته المشهورة، وأن لم يعلم دليل فروعها صح إيمانه (الأصول، ص٢٦٩). أقسام الطاعات والمعاصي، الطاعات على أقسام: (أ) أعلاها يصير بها المطيع مؤمنًا ويدخل الجنة، وهي معرفة أصول الدين في التوحيد والعدل والوعد والوعيد والنبوات والكرامات في معرفة أركان الشريعة، وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر. (ب) إظهار ما ذكرناه باللسان مرةً واحدة، وبه يَسْلم من الجزية والقتال والسَّبي والاسترقاق، وبه تحل المناكحة والذبيحة والموارثة والدفن والصلاة عليه وخلفه. (ﺟ) إقامة الفرائض واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار، ويصير به مقبول الشهادة. (د) زيادة النوافل، وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية. والمعاصي أيضًا على أقسام: (أ) كفر معصية كعقد القلب على ما يُضاد القسم الأول، وصاحبها مخلَّد في النار. (ب) ركوب الكبائر أو ترك الفرائض من غير عذر، وذلك فسقٌ تسقط به الشهادة، ويوجب الحد أو القتل أو التعزير. وهو مع ذلك مؤمنٌ خلاف الخوارج بأنه كافر، والقدرية بأنه فاسق، قد يغفر الله له وقد يُعاقبه دون تخليد. (ﺟ) الصغائر، وليس فيها ترك فريضة ولا ارتكاب ما يوجب حدًّا، يفعل الله ما يشاء بها (الأصول، ص٢٦٨-٢٦٩).
٨  عند أصحاب الحديث وفقهاء الحجاز، أمة الإسلام كل من يرى وجوب الصلاة إلى الكعبة. وأنكره فقهاء الرأي (أبو حنيفة). وصح إيمان من ترك في موضعها (الفرق، ص١٢-١٣). وماذا عن المرتدين الذين يوقنون بالصلاة وجهتها، وليس بالزكاة أو بادعاء النبوة؟ كما أسقط البعض صلاة الصبح وصلاة المغرب (الفرق، ص٢٣١). جعل مسيلمة سقوط صلاتَي الصبح والمغرب مهرًا لامرأته سجاح المُتنبئة (الفرق، ص٤٣٥). عند البعض، الصلاة أفضل من الحج، ويرى البعض الآخر أن الصيام أفضل من الحج. وكل فريق يعتمد على فرض الصلاة أو الحج (التحفة، ص٤٣-٤٤؛ الإتحاف، ص٥٠؛ الفصل، ج٣، ص١٤٣-١٤٤). الصلاة لغويًّا الدعاء، واصطلاحًا حركاتٌ معيَّنة محدودة (الفصل، ج٣، ص١٤٣-١٤٤؛ الإتحاف، ص٥٠-٥١؛ الأمير، ص٥٠). الزكاة لغةً النماء والزيادة، واصطلاحًا إعطاء مال محدَّد في أجلٍ معلوم (الفصل، ج٣، ص١٤٣). الزكاة لغةً التزكية؛ أي التطهير والمدح والنماء، وشرعًا … الصيام لغةً الوقوف، واصطلاحًا امتناعًا عن الطعام والشراب والجماع في وقتٍ معلوم (التحفة، ص٤٤؛ الإتحاف، ص٥١).
٩  هذا هو موضوع الجزء الخامس من «التراث والتجديد» في قسمه الأول «موقفنا من التراث القديم» بعنوان «من النقل إلى الإبداع»، محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية (علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه).
١٠  الأفعال الدالة على الكفر. عند الأصحاب، تارك الصلاة عن استحلالٍ كافر، وعن كسلٍ كافر عند أحمد بن حنبل، وليس بكافر عند الشافعي الذي قال بأمره بالصلاة؛ فإن صلَّى وإلا قُتل، وعند أبي حنيفة يؤدَّب حتى يُصلي وإلا قُتل، وعند الخوارج كافر، وعند القدرية لا مؤمن ولا كافر (الأصول، ص٢٩٦). رفض ابن أحزم أن يكون تارك الصلاة مشركًا؛ لأن أحاديث تارك الصلاة مشرك غير صحيحة الإسناد (الفصل، ج٤، ص٩–١٨). وعند الخوارج، كل معصية فيها حدٌّ كفر، وكل معصية ليس فيها حد ليست كفرًا، وهو باطل عند ابن حزم (الفصل، ج٤، ص٢٤). ترك الشرك ليس قولًا باللسان (الكتاب، ص٥). وعند الأصحاب، السجود للشمس أو للصنم بشرط عقد القلب على الكفر في الأفعال الدالة على الكفر، وكذلك أكل الخنزير من غير ضرورة ولا خوف، وأيضًا إظهار زي الكفرة في بلاد المسلمين من غير إكراه عليه. ومنها أيضًا تبديل آية مكان آية في القرآن، وإسقاط كلمة عمدًا أو زيادة أخرى بعكس الخطأ في التلاوة، وعصيان أوامر النبي عن عمد وليس عن جهل، وقذف عائشة لتكذيب القرآن وبعض الأنصار (الفصل، ج٤، ص١٩–٢٤).
١١  يصعب تصنيف الفِرق على هذه الصورة المتعددة لسقوط العمل وصياغة عمل مضاد؛ لأن كل فِرقة تشارك في أكثر من صورة، ومعظم الفِرق تُعبر عن مجتمع الاضطهاد، خاصةً الشيعة والخوارج وإلى حدٍّ ما المعتزلة في تأويل العبادات والمعاملات.
١٢  يُحيل الفقهاء كل صور إسقاط العمل إلى آثارٍ خارجية من المزدكية والعبدكية والمانوية والبابكية بالرغم من ذكرهم فِرق المعارضة الداخلية (التنبيه، ص٩٢-٩٣؛ الفرق، ص٢٦٦–٢٦٩).
١٣  عند الكيسانية، الدين طاعة رجل، وأوَّلوا أركان الشريعة الخمسة على أنها رجال؛ وبالتالي تسقط الشرائع بعد الوصول إلى الرجل (المِلل، ج٢٠، ص٦٩-٧٠؛ ج١، ص٣٦-٣٧). أما المنصورية فقد استحلَّت النساء والمحارم. أحلَّ المنصور ذلك لأصحابه، وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والميسر وغير ذلك من المحارم حلال؛ فهذه أشياء، أسماء رجال حرم الله سبحانه ولا يتهم. من ظفر بذلك الرجل وعرفه فقد سقط عنه التكليف وارتفع عنه الخطاب؛ إذ وصل إلى الجنة، وبلغ إلى الكمال (المِلل، ج٢، ص١٢٣-١٢٤). وكفرت الجناحية بالجنة والنار، واستحلُّوا الخمر والميتة والزنا واللواط وسائر المحرمات، وأسقطوا وجوب العبادات، وتأوَّلوا العبادات على أنها كنايات عمن تجب موالاتهم من أهل بيت علي، والحرمات كنايات عن قوم يجب بغضهم كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وعائشة (الفرق، ص٢٤٦-٢٤٧). وقد كفَّر أهل السنة الرافضة لإسقاطها الأركان الخمسة، وتأويلها على معنى موالاة قوم مثل تأويل المنصورية والجناحية وغلاة الروافض (الفرق، ص٢٤٥). كما تأوَّلت الباطنية أركان الشريعة؛ فالصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والصوم الإمساك عن إفشاء سره، والزنا إفشاء سره بغير عهد وميثاق؛ فأبطلوا الشرائع (الفرق، ص٢٩٦).
١٤  الانتساب إلى العِترة يرفع التكاليف، فيكفيه أنه من أهل العترة. هذا هو موقف المغيرة. فمن ظلم نفسه من عترة علي فلا حساب عليه ولا عذاب، ولا وقوف عليه ولا سؤال، وإن ترك الفرائض وركب العظائم وأشرك بالله (التنبيه، ص١٦١). وتُكفر الإسماعيلية من خالف عليًّا وإمامة الاثنَي عشر (التنبيه، ص١٦١). وتُكفر الإسماعيلية من المبيضة والمحمرة والحزمية الذين أباحوا الزنا، وكفَّروا أيضًا من تأوَّل المحرَّمات على قومٍ زعم أن موالاتهم حرام (الفرق، ص٣٤٦). عند الرازمية، الدين أمران؛ معرفة الإمام وأداء الأمانة. ومن حصل له الأمران فقد وصل إلى حال الكمال، وارتفع عنه التكليف (المِلل، ج٢، ص٨٠-٨١). وعند العبدكية، الدنيا حرام محرم لا يحل الأخذ منها إلا القوت من حيث ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بإمامٍ عادل، وإلا فهي حرام، ومعاملة أهلها حرام؛ فحلَّ لك أن تأخذ من القوت من الحرام من حيث كان. وسُمُّوا كذلك لأن عبدك وضع لهم هذا (التنبيه، ص٩٣).
١٥  امتنع غلاة الشيعة عن القول بظاهر القرآن وأوَّلوه؛ فالسماء محمد، والأرض أصحابه، والله يأمر بذبح بقرة وهي فلانة أم المؤمنين، والعدل والإحسان هو علي، والخبث والطاغوت فلان وفلان، أي أبو بكر وعمر، والصلاة دعاء الإمام، والزكاة ما يُعطى الإمام، والحج القصد إلى الإمام (المِلل، ج٢، ص١٥٨).
١٦  عند أحمد بن أيوب بن مانوش، متى صارت التوبة إلى البهيمية ارتفعت التكاليف، ومتى صارت التوبة إلى رتبة النبوة والملك ارتفعت التكاليف، وصارت التوبتان عالم الجزاء (المِلل، ج١، ص٩٣). أما العذافرة أصحاب ابن أبي العذافر فقد وضع كتابًا سمَّاه «الحاسة السادسة»، دفع فيه برفع الشريعة (الفِرق، ص٢٦٤). أما الإسماعيلية فإنهم يُصلون الخمس، ويُظهرون التنسك والتأله والتهجد والورع، ولهم سجادات وصفرة في الوجوه، وعمش في أعينهم من طول البكاء والتأوه على المقتول بكربلاء الحسين ورهطه، ويدفعون زكاتهم ومعوناتهم إلى أثرتهم، ويتحنئون بالحنَّاء، ويلبسون خواتمهم في أيمانهم، ويُشمرون قمصهم وأيديهم كما تصنع اليهود، ويتحلَّون بالنعال الصُّفر، وينوحون على الحسين، ويُكبرون على جنائزهم خمسًا، ويأمرون بزيارة قبور السادة، ويعتقدون بالعدل والتوحيد والوعيد وإحباط الحسنات مع السيئات (التربية، ص٣٢). وقد تأوَّلت الباطنية أصول الدين على الشرك، واحتالت لتأويل أحكام الشريعة على وجوهٍ تؤدي إلى رفعها، أو إلى مثل أحكام المجوس، أبطلوا الشرائع (الفرق، ص٢٩٦). قال القيرواني: من رآه الداعي مائلًا على العبادات حملة على الزهد والعبادة، ثم سأله عن معانيها وعلل الفرائض وشكَّكه فيها … والربط تعليق نفس المدعو بطلب تأويل أركان الشريعة؛ فإما أن يعقل فهم تأويلها على وجهٍ يؤدي إلى رفعها، وإما يبقى على الشك والحيرة فيها؛ فالتأويل يؤدي إلى الرفع (الفِرق، ص٢٩٩–٣٠٢). مقصود الباطنية إبطال الشريعة (الاعتقادات، ص٧٦). رفع التكاليف واضمحلال السنن والشرائع (المِلل، ج٢، ص١٤٩). وتسأل الباطنية: لمَ صارت صلاة الصبح ركعتين والظهر أربعًا والمغرب ثلاثًا؛ وفي كل ركعة ركوعٌ واحد وسجدتان؛ والوضوء على أربعة، والتيمم على عضوين؛ والغسل من المني وهو طاهر، على عكس البول مع نجاسته؛ وإعادة الحائض الصيام دون الصلاة؛ وعقوبة السرقة قطع اليد، والزاني الجلد دون قطع الفرج؟ فإذا سأل الغِرُّ التأويل قالوا عِلمها عند إمامنا، والمأذون له في كشف أسرارنا، فيعتقد أن المراد بالظاهر غير الباطن، فيتخرج عن العمل بأحكام الشريعة. فإذا اعتاد ترك العبادة واستحل المحرمات كشفوا له القناع، وقالوا لو كان لنا إلهٌ قديم غني عن كل شيء لم يكن له فائدة في ركوع العباد وسجودهم، ولا في طوافهم حول بيت من حجر، ولا في سعي بين جبلين؛ فينسلخ عن التوحيد، ويصير زنديقًا (الفرق، ص٣٠٦-٣٠٧). أكفرت أهل السنة الباطنية لقولهم بسقوط الحج، ولم يُكفروهم لإسقاط العمرة لاختلاف الأمة في وجوبها (الفرق، ص٣٤٦). عند القرامطة (الرافضة)، الصلاة والزكاة والصيام والحج وكل الفرائض نافلة لا فرض، وإنما هو شكر المُنعِم هو الفرض، ولا يحتاج الرب إلى عبادة خلقه، من شاء فعل ومن شاء لم يفعل، والاختيار لهم (التنبيه، ص٢٠).
١٧  حكاية قوم من النُّساك. يُرى الله في الدنيا على قدر الأعمال؛ فمن كان بعمله أحسن يرى معبوده أحسن (مقالات، ج١، ص٣١٩). العبادة تبلغ بهم أن يروا الله، ويأكلوا من ثمار الجنة، إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة والمقرَّبين (مقالات، ج١، ص٣١٩). قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء ومن الملائكة، وأن من عرف الله حق معرفته فقد سقطت عنهم الأعمال والشرائع (المِلل، ج٢، ص١٠٨). تبلغ بالنساك العبادة منزلةً تزول عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم. وعند الصوفية من عرف الله سقطت عنه الشرائع، وذلك مثل أبي سعيد أبي الخير، يلبس الصوف مرة، والحرير المحرم على الرجال مرة، ويُصلي في اليوم ألف ركعة مرة، ولا يُصلي فريضة ولا نافلة مرةً أخرى (الفصل، ج٥، ص٢٩). والمباحية من الصوفية قوم يحفظون طاعات لا أصل لها، وتلبيسات في الحقيقة. يدَّعون محبة الله، وليس لهم نصيب من شيء عن الحقائق، بل يُخالفون الشريعة، ويقولون إن الحبيب رُفع عنه التكليف، وهو الأشرُّ من الطوائف، وهم على الحقيقة على دين مزدك (اعتقادات، ص٧٤). وإذا أبلغ بعض المباحيين غاية المحبة، وصفا قلبه، واختيار الإيمان على الكفر من غير نفاق، سقط عنه الأمر والنهي، ولا يُدخله الله إلى النار بارتكاب الكبائر، ويحبهم إلى أن تسقط عنه العبادات الظاهرة من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وتكون عبادتهم التفكر (التفتازاني، ص١٤٨؛ الخيالي، ص١٤٨). وكان في الصوفية رجل يُعرَف باسم ابن شعيب، يزعم أن الله يُسَر ويفرح بطاعة أوليائه، ويغتم ويحزن إذا عصَوه. وحكى عن رجلٍ كان يُعرَف بأبي شعيب أن الباري يُسَر بطاعة أوليائه، وينتفع بها وبإنابتهم، ويلحقه العجز بمعاصيهم (مقالات، ج١، ص٣١٩). وقد سمَّى أبو علي الجبائي الله مطيعًا لعبده إذا فعل مراد العبد (الفرق، ص١٨٣). ويقول محمد بن كرام: «إن الله لم يزَل معبودًا، ولم يكن في الأزل معبود العابدين، وإنما صار معبود العابدين عند وجود العابدين وعبادتهم له» (الفرق، ص٢١٩).
١٨  هذا هو موقف غلاة الروافض من البيانية والمغيرية والجناحية والمنصورية والخطابية والحلولية؛ فبعد أن أسقطوا الفرائض أباحوا المحرمات (الفرق، ص٢٣). استحلَّت المنصورية النساء والمحارم، وأحل المنصور ذلك لأصحابه، وقال إن الميتة والدم ولحم الخنزير والميسر وغير ذلك من المحارم حلال (مقالات، ج١، ص٧٤–٧٨). كما استحلَّت الجناحية الخمر والميتة والزنا واللواط وسائر المحرمات (الفرق، ص٢٣٦–٢٤٧). استحلَّت الخطابية الخمر والزنا وسائر المحرمات، وتركوا الصلاة والفرائض، وتُسمَّى المعمرية (المِلل، ج٢، ص١٢٥). أباحت الرافضة اللواط ونكاح الابنة والأحمق والزنا وشرب الخمر وكل قاذورة ليس لهم شريعة ولا دين (التنبيه، ص٣٢). أباحوا الزنا واللواط (اعتقادات، ص٥٨). وقد استباحت الحلولية (الحزمية) المحرمات، وأسقطت المفروضات (الفرق، ص٢٥٤–٢٥٦). وأصحاب الإباحة من الحزمية صنفان؛ صنفٌ كانوا قبل الإسلام كالمزدكية استباحوا المحرمات، وقالوا إن الناس شركاء في الأموال والنساء، ودانوا بترك الفرائض، فالدين معرفة الإمام فقط (المِلل، ج، ص٨٠). أما الحلمانية الحلولية أنصار حلمان الدمشقي (أصله من فارس، ومنشؤه في حلب، وبدعته في دمشق)، فقد قالوا بالإباحة، من عرف الإله على الوصف الذي يعتقده زال الخطر والتحريم، واستباح كل ما يستلذه ويشتهيه (الفرق، ص٢٥٩). ومن الخرمدينية البابكية استباحوا المحرمات، وقتلوا الكثير من المسلمين. في جبلهم ليلة عيد لهم يجتمعون فيها على الخمر والشرب، وتختلط فيها رجالهم ونساؤهم؛ فإذا أطفئت سرجهم ونيرانهم احتضن فيها الرجال والنساء على تقدير من عزيز. لا يُصلون في السر، ولا يصومون رمضان، ولا يرون جهاد الكفرة (الفرق، ص٢٦٦–٢٦٩). وأباحت الباطنية نكاح البنات والأخوات وشرب الخمر وجميع الملذات. سنُّوا اللواط، وأوجبوا قتل الغلام الذي يمتنع عن الفجور به (الفرق، ص٢٨٦). قال القيرواني في رسالته إن العاقل أحق بأخته أو بابنته الحسناء من الأجنبي. لقد حرَّم عليهم صاحبهم الطيبات أحق بأخته أو بابنته الحسناء من الأجنبي. لقد حرم عليهم صاحبهم الطيبات، وخوَّفهم بغائب لا يعقل وهو الإله، وأخبرهم بما لا يرونه من البعث والحساب والجنة والنار حتى استعبدهم بذلك عاجلًا … وهذه هي مذاهب الدهرية واستباحة المحرمات وترك العبادات (الفرق، ص٢٩٧-٢٩٨). من رآه الداعي ذا مجون وخلاعة قال له إن العبادة بلهٌ وحماقة، والفطنة في نيل اللذات. ومن رآه شاكًّا في دينه أو في المعاد والثواب والعقاب صرَّح له بنفي ذلك، وحمله على استباحة المحرمات حتى يعتقد أن المراد بالظواهر والسنن غير مقتضاها في اللغة، وهان عليه بذلك ارتكاب المحظورات وترك العبادات (الفرق، ص٢٩٩–٣٠٢). وتُبيح القرامطة (الرافضة) شرب الخمر والمنكر والملاهي وسائر ما يفعله العصاة شهوات، إن شاء فعلها وإن شاء تركها، ليس فيها وعيد ولا وعد، مثل المنانية وقولهم في النور (التنبيه، ص٢٢). ومن قال من القرامطة والديلم بهذا القول مؤمن ونساؤهم مؤمنات حقنوا الدماء والأموال، ومن خالفهم كافر ومشركٌ حلال الدم والمال والسَّبي. يُسمِّي بعضهم بعضًا المؤمنين والمؤمنات. نساء بعضهم لبعض حلال، وأولادهم وأبدانهم مباحة في بعضهم البعض، لا تحظير بينهم ولا منع. لو طلب رجلٌ امرأة نفسها أو من رجل أو من غلام فامتنع عليه فهو كافرٌ خارج عن الشريعة. وإذا مكَّنه من نفسه فهو مؤمن مُوافٍ فاضل. والمفعول به من الرجال والنساء أفضل عندهم من الفاعل، يقوم الواحد منهم من فوق المرأة التي لها زوج وليس زوج بمحرم، ويقول لها: طوبى يا مؤمنة. وهكذا يقول للرجل أو الغلام إذا أمكنه من نفسه. وكذلك أموالهم وأملاكهم لا يحظرونها من بعض على بعض. مباحة بينهم شرب الخمور والمنكر والملاهي وسائر ما يفعله العصاة شهوات، إن شاء فعلها وإن شاء تركها، ليس فيها وعد ولا ثواب (التنبيه، ص٢١-٢٢). وعند بعض البهيسية السُّكْر من كل شراب حلالٌ موضوع لمن سكر منه. وكل ما كان السكر من ترك الصلاة أو شتم الله فهو موضوع لا حد فيه ولا حكم، ولا يكفر بشيءٍ ما داموا في سكرهم. الشراب حلال الأصل، ولم يأتِ فيه شيء من التحريم لا في قليله ولا في كثيره (مقالات، ج١، ص١٨١؛ الفرق، ص١٠٩). وعند العوفية البهيسية، السُّكْر كفر، ولكن لا يشهد بذلك حتى يأتي مع غيره كترك الصلاة (مقالات، ج١، ص١٨٢).
١٩  هذا هو موقف الروحانية «الزنادقة»! إذ تنظر أرواحهم إلى ملكوت السموات، وبها يُعاينون الجنان، ويُجامعون الحور العين، وتسرح في الجنة. وسُمُّوا الفكرية لأنهم يتفكرون؛ فالفكر غايتهم ومنتهاهم، فيتلذَّذون بمخاطبة الله لهم ومصافحتهم ونظرهم إليه، ويتمتعون بمجامعة الحور العين ومناكحة الأبكار على الأرائك متكئين، يسعى عليهم الولدان المخلدون بأصناف الطعام والشراب والثمار (التنبيه، ص٩٣-٩٤). وعند الروحانية يغلب حب الله على قلوبهم وأهوائهم وإرادتهم حتى يكون حبه أغلب الأشياء عليهم؛ فإذا حدث ذلك كانوا عنده بهذه المنزلة، ووقعت عليه الخلة من الله، فجعل لهم السرقة والزنا وشرب الخمر والفواحش كلها على وجه الخلة التي بينهم وبين الله، لا على وجه الحلال، ولكن على وجه الخلة، كما يحل للخليل الأخذ من مال خليله بغير إذنه. منهم رباح وكليب (التنبيه، ص٩٤). ينبغي للعباد أن يدخلوا في مِضمار الميدان حتى يبلغوا إلى غاية السبقة من تضمير أنفسهم وحملها على المكروه، فإذا بلغت الغاية أعطى نفسه كل ما تشتهي وتتمنى، وإن أكل الطيبات كأكل الأراذلة من الأطعمة، وكان الصبر والخبيص عنده بمنزلة، وكان العسل والخل عنده بمنزلة، فإذا كان كذلك فقد بلغ غاية السبقة، ويسقط عنه تضمير الميدان، واتبع نفسه ما اشتهت، ومنهم ابن حيان (التنبيه، ص٩٤-٩٥).
٢٠  ترى المزدكية (الزنادقة) أن الله خلق الدنيا خلقًا واحدًا، وخلق لها خلقًا واحدًا، وهم آدم، وله أن يأكل من طعامها، ويشرب من شرابها، ويلتذ بلذائذها، وينكح نساءها. فلما مات آدم جعلها ميراثًا بين ولده بالسوية، ليس لأحدٍ فضل في مال ولا أهل؛ فمن قدر على ما في أيدي الناس وتناول نساءهم بسرعة أو خيانة أو مكر أو خلابة أو بمعنًى من المعاني، فهو له مُباحٌ سائغ، وفضول ما في أيدي ذوي الفضل محرم عليهم حتى يصير بالسوية بين العباد سواءً. وسُمَّوا مزدكية لأنه ظهر في زمان الأكاسرة رجل يُقال له مزدك (التنبيه، ص٩٢).
٢١  عند العبدكية «الزنادقة»، الدنيا كلها حرام، لا يحل الأخذ منها إلا القوت من حيث ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بإمامٍ عادل، وإلا فهي حرام، ومعاملة أهلها حرام؛ فحل لك أن تأخذ من القوت من الحرام من حيث كان (التنبيه، ص٩٣). إن ترك الدنيا واشتغال القلوب تعظيم للدنيا ومحبة لها، ولما عظمت الدنيا عندهم تركوا طيب طعامها ولذيذ شرابها. وكان من إهانتها مؤاتاة الشهوات عن اعتراضها حتى لا يشتغل القلب بذكرها، ويعظم عنده ما ترك منها. ومنهم رباح وكليب (التنبيه، ص٩٥). الزهد في الدنيا زهد في الحرام، والحلال مباح من أطايب الطعام وغرائب الألوان وكفاية الخدم ولين الرياش وسعة المنازل ووطأة المهاد وتشييد القصور وكفاية الحاجات وترك الطلبات وقطن الأوطان. والأغنياء أفضل منزلة عند الله من الفقراء لما أعطوا من فضل أموالهم، وفضول من نوائب حقوقهم، وأدركوا منتهى رغباتهم! (التنبيه، ص٩٥).
٢٢  بينما حلَّل أبو عفار وبعض المعتزلة شحم الخنزير ودماغه (الفصل، ج٢، ص١٠٨؛ ج٥، ص٣٩؛ المِلل، ج٢، ص١٠٨)، فقد حرَّمت الخطابية صيد البحر الذي أحلَّه الله ما لم يكن عليه قشر، واتبعوا في ذلك اليهود. كما حرَّمت الإباضية بالأندلس طعام أهل الكتاب، وأكل قضيب التيس والثور والكبش، وأكل السمك حتى يُذبَح (الفصل، ج٥، ص٣٠). وحرَّم أحمد بن إدريس بن علي بن أبي طالب أكل شيء من الثمار، بل أصله (الفصل، ج٥، ص٢٣). وحرَّم عبد الواحد بن يزيد أكل الثوم والبصل لأنه حرام على الإنسان أن يقرب المسجد إذا أكلها (مقالات، ج١، ص٣١٨؛ الأصول، ص٣٣٩). كما حرَّم البعض (أكرم) أكل الكرنب لأن به دم الحسين! (الفصل، ج٥، ص٣٠). عند الصوفية البهيسية لو وقعت قطرة خمر في جب ماء بفلاة من الأرض، فإن كل من خطر على ذلك الجب فشرب منه وهو لا يدري ما وقع فيه كافر بالله، إلا أن الله يوفق المؤمنين لاجتنابه (الفصل، ج٥، ص٣١). ويحلل بعض الإباضية الأشربة التي يُسكر كثيرها (مقالات، ج١، ص١٧٥). وأما أهل السنة فلا تُحرم نبيذ التمر (النسفية، ص١٤٧). وهو أن يُنبَذ تمر وزبيب في الماء، فيُجعل في إناء من الخزف، فيحدث فيه القرع كما للفقاع، نُهي عن ذلك في بدء الإسلام لما كانت في الجرار أو في الفخور، ثم نُسخ فعدم تحريمه من قواعد أهل السنة والجماعة خلافًا للروافض. أما إذا اشتدَّ فصار مُسكرًا فهو حرامٌ قليله وكثيره (التفتازاني، ص١٤٧). حرَّم بعض الرافضة صيد البحر الذي أحلَّه الله ما لم يكن عليه قشر كاليهود (التنبيه، ص١٦٣).
٢٣  عند الخوارج إذا سكر الإنسان فلا حد عليه. يشهد بعضهم على بعض في ذلك بالشرك، وكفَّروا من خالفهم (التنبيه، ص١٨٠). كما تُنكر النجدات حد الخمر، وخالفهم أهل السنة لذلك (الفِرق، ص٨٩، ص٣٢٧). وعند البهيسية كل شراب حلال الأصل عن سكر من كل ما كان منه السكر. من ترك الصلاة والشتم لله ليس فيه حد ولا كفر ما دام في سكره (المِلل، ج٢، ص٤٢). السكر كفر إذا كان معه غيره من ترك الصلاة وغيره (الفرق، ص١٠٩). كل ما ليس فيه حد يُرفَع إلى الإمام مغفور. إذا كان السكر من شرابٍ حلال فلا مؤاخذة (المِلل، ج٥، ص٤١-٤٢؛ المواقف، ص٤٢٤). إذا سكر فلا حد عليه (التنبيه، ص١٨٠). وأما أبو هاشم فمع إفراطه في الوعيد كان مُصرًّا على شرب الخمر، وقيل إنه مات في سكره (الفرق، ص١٩١). وعند النظَّام أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر خطأ؛ إذ المعتبَر في الحد النص والتوقيف (المِلل، ج١، ص٨٩-٩٠). وكذلك عند جعفر بن المبشر، إجماع الصحابة على ضرب شارب الخمر حدٌّ وقع خطأً؛ لأنهم أجمعوا عليه برأيهم. فشارك ببدعته نجدات الخوارج في إنكارها حد الخمر. وقد أجمع الفقهاء على تكفير من أنكر الخمر، إنما الخلاف في حد شارب النبيذ إذا لم يسكر منه؛ فأما إذا سكر منه فعليه الحد عند فريق من أهل الرأي والحديث (الفرق، ص١٦٨؛ الانتصار، ص٨٢).
٢٤  أنكرت الأزارقة حد الرجم (مقالات، ج١، ص١٦٢؛ المِلل، ج٢، ص٣٣). والصفرية لم تُسقط الرجم (المِلل، ج٢، ص٥٦). ويُكفرون الأزارقة في ذلك (المواقف، ص٤٢٤). ويُضلل أهل السنة الخوارج في إنكارهم الرجم (الفرق، ص٣٢٧، ص٣٤٦). عند بعض البهيسية من واقَع زنًا لم نشهد عليه بالكفر حتى يُرفَع إلى الإمام أو الوالي ويُحَد (مقالات، ج١، ص١٨١). ووافقهم بعض الصفرية (مقالات، ج١، ص١٨٣-١٨٤؛ الفصل، ج٥، ص٣١؛ المواقف، ص٤٢٤). وعند الإباضية من زنى أو سرق أُقيمَ عليه الحد ثم استُتيب؛ فإن تاب وإلا قُتل (مقالات، ج١، ص١٧٣؛ الفرق، ص١٠٧؛ الفصل، ج١، ص٣٠؛ ج٢، ص١٠٨؛ مقالات، ج١، ص١٨١؛ ج٢، ص١٠٨).
٢٥  لم تُقِم الأزارقة الحد على قاذف الرجل المحصن، وأقاموه على قاذف المحصَنات من النساء (الفرق، ص٨٤؛ المواقف، ص٤٢٤؛ الفصل، ج٥، ص٣؛ مقالات، ج١، ص١٦٢).
٢٦  قطع الخوارج يد السارق في القليل وفي الكثير، ولم يعتبروا في السرقة نِصابًا (الفرق، ص٨٤؛ المواقف، ص٤٢٤؛ الفصل، ج٥، ص٣٠). تضليل الخوارج في قطع يد السارق في الكثير والقليل من الحرز وغير الحرز (الفرق، ص٣٢٧، ص٣٤٦).
٢٧  جماعة الاضطهاد السري هم الشيعة، والعلني الخارجي هم الخوارج، والعلني الداخلي هم المعتزلة؛ وهي الفِرق الثلاث التي لكلٍّ منها فقهٌ مُتميز (انظر الخاتمة: من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية، ثالثًا: هل هناك تكفير شرعي عملي؟ فِرق الأمة، فِرق المعارضة، فِرقة السلطان).
٢٨  استحلَّت الأزارقة خفر الأمانة التي أمر الله بأدائها، وقالوا: قومٌ مشركون لا ينبغي أن تؤدَّى الأمانة إليهم، استحلُّوا خفر الأمانة (مقالات، ج١، ص١٦٢).
٢٩  عند الجبائي الطهارة غير واجبة. وإجابةً على سؤال عن الطهارة بماءٍ مغصوبة قياسًا على قوله وقول أبيه بأن الصلاة في الأرض المغصوبة فاسدة، فأجاب بأن الطهارة بالماء المغصوب صحيحة، وفرَّق بينها وبين الصلاة (الفرق، ص١٩٧). وعند النظَّام النومُ لا ينقض الطهارة إذا لم يكن معه حدث، وليس كالنوم مُضطجعًا. والخلاف في النوم قاعدًا وراكعًا وساجدًا الذي سامح فيه أبو حنيفة، وأوجبه أصحاب الشافعي قياسًا (الفرق، ص١٤٦). أما أهل قم الإمامية فإنهم يمسحون في الوضوء بالماء على ظهور أقدامهم وأسفلها (التنبيه، ص٣٢). وأوجب عبد الواحد بن يزيد وجوب الوضوء من قرقرة البطن (مقالات، ج١، ص٣١٨؛ الأصول، ص٣٣٩). وبعض إباضية الأندلس يستحمون وهم على الآبار التي يشربون منها (الفصل، ج٥، ص٣). اختلفوا في المسح على الخفَّين؛ أثبته أكثر أهل الإسلام، وأنكره الروافض والخوارج (مقالات، ج١، ص٣٢٣؛ ج٢، ص١٤٤). ونرى المسح على الخفَّين في السفر والحضر (النسفية، ص١٤٧؛ التفتازاني، ص١٤٧). ويُضلل أهل السنة الخوارج في إنكارهم ذلك (الفرق، ص٣٢٧). ترك الخطابية المسح على الخفَّين خلافًا للأثر والسنة (التنبيه، ص١٦٣).
٣٠  اختلفوا في الصلاة في الدار المغصوبة على مقالتين: (أ) أكثر أهل الكلام، هي صلاةٌ ماضية وليس عليها الإعادة. (ب) أبو شمر، إعادة الصلاة لأنه إنما يؤديها إذا كانت طاعة لله، وكونه في الدار واعتماده فيها وحركته وقيامه وقعوده فيها معصية، ولا تكون صلاة مُجزية معصيةً لله. وهو أيضًا موقف الجبائي (مقالات، ج٢، ص١٢٤). وبعد زيارة رئيس جمهورية مصر العربية في نوفمبر ١٩٧٧م للقدس حاولت إبراز هذه القضية في جريدة «الأهالي» التي يُصدرها حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في مصر، وأخذ موقف التحريم إبرازًا لقضية أولوية تحرير الأرض، فلسطين، قبل الصلاة في القدس، فرفض الحزب، بالرغم من عضويتي فيه، كما رفض مجلس تحرير الجريدة بالرغم من كوني أحد أعضائه، ورفض عرض القضية بأغلبية الأصوات بما في ذلك مُمثل التيار الديني المُستنير! انظر الموضوع في «الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١»، الجزء السابع: اليمين واليسار في الفكر الديني، دار ثابت، القاهرة، ١٩٨٨م.
٣١  عند النظَّام من ترك الصلاة عامدًا لم تجب عليه الإعادة (الانتصار، ص٥١، ص١٣٢؛ الفرق، ص١٤٦). ويُقال إن النظَّام استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها، ولم يجسر على إظهار دفعها (الفرق، ص١٣٢). يُحكى أن ثمامة بن الأشرس لما رأى الناس يوم الجمعة يتغادون إلى المسجد الجامع لخوفهم فوت الصلاة قال لرفيق له: انظر إلى هؤلاء الحمير والبقر! ثم قال: ماذا صنع ذاك العربي بالناس؟! وقال له غلامه يومًا: قم صلِّ. فتثاقل، فقال له: قد حان الوقت، قم صلِّ واسترح. فقال: أنا مستريح إن تركتني (الفرق، ص١٧٣-١٧٤). كما حُكي عن الجاحظ أن المأمون رأى ثمامة سكران وقد وقع في الطين، فقال له: ثمامة! قال: إي والله! قال: ألا تستحي؟ قال: لا والله! قال: عليك لعنة الله! قال: تَتْرى ثم تَتْرى! وعند بعض فِرق الإباضية ليس على الناس المشي إلى الصلاة، والركوب إلى الحج، ولا شيء من أسباب الطاعات التي يتوصل بها إلى أداء الواجب، وإنما يجب عليهم فعل الطاعات الواجبة بأعيانها دون أسبابها المُوصلة إليها (الفرق، ص١٠٧). وعند أبي إسماعيل البطحي من الخوارج، لا صلاة واجبة إلا ركعة واحدة بالغداة وركعة بالعشي (الفصل، ج٥، ص٣٠). وعند البدعية من الأزارقة، الصلاة ركعتان بالغداء وركعتان بالعشي (مقالات، ج١، ص١١٩؛ الفصل، ج٢، ص١٠٨). أما أهل قم الإمامية فإنهم يجمعون بين الظهر والعصر في أول الزوال، وبين المغرب والعشاء في جوف الليل آخر وقت المغرب، ويُصلون صلاة الفجر بين طلوع الفجر الأول الذي يُسمَّى ذنب السرحان (التنبيه، ص٣٢). وعند محمد بن كرام صلاة المسافر تكبيرتان من غير ركوع ولا سجود ولا قيام ولا قعود ولا تشهد ولا سلام، كما تصح الصلاة في ثوبٍ كله نجس على أرضٍ نجسة ومع بدنٍ ظاهر النجاسة، والطهارة عن الأحداث دون الأنجاس. كما أن غسل الميت والصلاة عليه سنتان غير مفروضتين، وإنما الواجب كفنه ودفنه فقط. كما تصح الصلاة المفروضة بلا نية، تكفي نية الإسلام ابتداءً (الفرق، ص٢٢٣-٣٢٤).
٣٢  عند المنصورية الصلاة المفروضة تسع عشرة صلاة في اليوم والليلة، في كل صلاة خمس عشرة ركعة (الفصل، ج٥، ص٢٨). وقالت الشيعة بالحلول وسقوط الشرائع. وتلاعب آخرون فأوجبوا خمسين صلاة في كل يوم وليلة. وأوجب آخرون سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة (وهو عبد الله بن عمرو بن الحارث الكندي قبل أن يصير خارجيًّا صفريًّا) (المِلل، ج٢، ص١٠٩).
٣٣  اللين هو موقف الشيعة عادةً، والشدة هو موقف الخوارج.
٣٤  هذا هو موقف الفوطي وقوله بالمقطوع والموصول؛ فلو أن رجلًا أسبغ الوضوء، وافتتح الصلاة مُتقربًا بها إلى الله، عازمًا على إتمامها، ثم قرأ فركع فسجد مُخلِصًا لله في ذلك كله، غير أنه قطعها من آخرها؛ فهي طاعة من أولها، معصية من آخرها، نهاه الله عنها وحرَّمها عليه، وليس له سبيل قبول (الفرق، ص١٦٣؛ الانتصار، ص٥٩-٦٠).
٣٥  عند محمد بن كرام يصحُّ الصوم المفروض والحج المفروض بلا نية، وتكفي نية الإسلام ابتداءً (الفرق، ص٢٢٣-٢٢٤). وعند بعض المعتزلة، في الحج الوقوف والطواف والسعي غير واجب لجواز الركوب. ويتساءل أهل السنة: هل يلزم من ذلك ألا تكون الزكاة واجبة ولا الكفارة والنذور وقضاء الديون لأن وكيله ينوب عنه؟ أليس هذا رفعًا لأحكام الشريعة؟ (الفرق، ص١٩٧). أما إباضية الأندلس فإنها توجب القضاء على من صام نهارًا في رمضان فاحتلم (الفصل، ج٥، ص٣٠).
٣٦  كل الصحابة والفقهاء والتابعين وجمهور أصحاب الحديث جوَّزوا الصلاة خلف الفاسق، الجمعة وغيرها (الفصل، ج٥، ص١٦–١٨). أوجب أهل السنة وجوب عقد صلاة الجمعة، وكفَّروا الخوارج والروافض، ومن قال لا جمعة اليوم حتى يظهر إمامهم الذين ينتظرونه (الفرق، ص٣٤٥). صلاة العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر (مقالات، ج١، ص٣٢٣). وتجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر (النسفية، ص١٤٦؛ التفتازاني، ص١٤٦). الصلاة على كل من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وموارثتهم (مقالات، ج١، ص٣٢٤). وعند بعض المعتزلة الصلاة جائزة خلف البر والفاجر، وليس عليه الإعادة، وقد أوجب أصحاب الشافعي ومالك وداود وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إعادة صلاة من صلَّى خلف القدري والخوارج والروافض، وكل مبتدع تُنافي بدعته التوحيد. وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أن من صلَّى خلف من يقول بخلق القرآن يُعيد الصلاة. وقال أبو يوسف القاضي في المعتزلة إنهم زنادقة، وكل من لا يجوز الصلاة خلفه لا تجوز الصلاة عليه إذا مات (مقالات، ج٢، ص١٢٤-١٢٥). وعند الشمراخية الصفرية تجوز الصلاة خلف من تعرف ومن لا تعرف (مقالات، ج١، ص١٩٠). أما عند جمهور الروافض فلا تجوز الصلاة خلف الفاسقين، وإنما الروافض وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة لا تجوز الصلاة إلا خلف الفاضل (الفصل، ج٥، ص١٦–١٨). وعند أكثر المعتزلة لا تجوز صلاة العيد ولا أية صلاة خلف الفاجر، وإلا الإعادة (مقالات، ج١، ص١٩٠).
٣٧  وقد أوجب أصحاب الشافعي ومالك وداود وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إعادة صلاة من صلَّى خلف القدري والخوارج والروافض، وكل مبتدع تُنافي بدعته التوحيد. وروى هشام بن عبيد الله عن محمد بن الحسن أن من صلَّى خلف من يقول بخلق القرآن يُعيد الصلاة. وقال أبو يوسف القاضي في المعتزلة إنهم زنادقة، وكل من لا يجوز الصلاة خلفه لا تجوز الصلاة عليه إذا مات (الأصول، ص٣٤٢).
٣٨  الصلاة خلف الفاسق والجهاد معه والحج ودفع الزكاة إليه ونفاذ أحكامه من الأقضية والحدود (الفصل، ج٥، ص١٦–١٨).
٣٩  عند المعبدية الخوارج لا يجوز نكاح كل امرأة تُخالف الدين (الاعتقادات، ص٥). وقد أباح الضحاكية نكاح المسلمة من كفار قومهم في دار التقية، فأما في دار حكمهم فلا يستحلون ذلك. وقومٌ توقَّفوا، وقالوا إن ماتت لم نصلِّ عليها، ولم نأخذ ميراثها؛ لأنَّا لا ندري ما حالها (الفرق، ص٢٠٨؛ مقالات، ج١، ص١٧١؛ المِلل، ج٢، ص٥٦). ومن الضحاكية من توقَّف ولم يتبرأ من فعله. وقالوا ألا نُعطي هذه المرأة المتزوجة من كفار قومنا شيئًا من حقوق المسلمين، ولا نُصلي عليها إذا ماتت. ومنهم من توقَّف ولم يتبرأ من فعله. وقالوا لا نُعطي هذه المرأة المتزوجة من أصحاب عبد الجبار بن سليمان، تبرَّءوا منها من كفار قومهم (مقالات، ج٢، ص١٧٦). أما النجرانية الخوارج فقد افترقوا في امرأةٍ هاجرت إلى بعض خوارجهم، فتزوَّجت رجلًا في الهجرة بالبصرة، ثم استخفَت فتزوَّجت رجلًا من أصحابها سرًّا، ثم ظهر عليها زوجها الأول من قومها؛ فتبرَّأ منها بعضهم وتولَّاها بعضهم، وكفَّروا من خالفهم بعضهم بعضًا (التنبيه، ص١٧٩). أما هارون الضعيف من الخوارج فقد جوَّز تزويج نساء مُخالفيه مثل أهل الكتاب (مقالات، ج١، ص١٨٧). وعند الأخنسية يجوز تزويج النساء في نصبة الحرب وغير نصبة الحرب (مقالات، ج١، ص١٩٠). وعند جمهور الخوارج، مُخالفوهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين، حلالٌ مناكحتهم وموارثتهم، وغنيمة أموالهم حلال (مقالات، ج١، ص١٧١). وعند أهل السنة يجوز تزويج المسلمات من مُشركي قومهم (المواقف، ص٤٢٦).
٤٠  في أنكحة أهل الأهواء وذبائحهم ومواريثهم. عند الأصحاب لا تحل ذبائحهم؛ فالمعاملة بالمثل. أكثر المعتزلة مع الأزارقة من الخوارج يُحرمون ذبائح أهل السنة بناءً أيضًا على أن المعاملة بالمثل. عند الأصحاب لا يجوز تزويج المرأة المسلمة من واحد منهم، وإلا فالنكاح مفسوخ. وإن لم تعلم المرأة ببدعة زوجها حتى وطئها فعليها العدة، ولها مهر المِثل بالوطء دون المهر المُسمَّى. والمرأة منهم إن اعتقدت اعتقادهم حرُم نكاحها، وإن لم تعتقد اعتقادهم لم يحرم نكاحها لأنها مسلمة بحكم دار الإسلام. وهناك قوم من عوام الكرامية لا يعرفون من الجسم إلا اسمه، ولا يعرفون أن خواصهم يقولون بحدوث الحوادث في ذات الباري؛ فهؤلاء لا يحل نكاحهم وذبائحهم والصلاة عليهم (الأصول، ص٣٤٠-٣٤١).
٤١  خالفت البهيسية الخوارج في النكاح بغير شهود، وقالوا تُنكَح بشهادة الكرام الكاتبين (التنبيه، ص١٣٠). وعند الخطابية التزويج بلا وليٍّ ولا شهود ولا صداق. الله وليُّها، والملائكة شهودها، والإسلام صداقها (التنبيه، ص١٦٣). وعند جعفر بن مبشر لو بعث رجل إلى امرأة يخطبها ليتزوجها، فجاءته ووثب عليها من غير عقد، لا حد عليها؛ لأنها جاءته للنكاح، وأوجب عليه الحد لأنه قصد الزنا (الفرق، ص١٦٨-١٦٩؛ الانتصار، ص٨٨–٩٠). واختلفت الفقهاء فيمن أكره امرأة على الزنا؛ منهم من أوجب لها مهرًا، وعلى الرجل حدًّا (الشافعي وفقهاء الحجاز)؛ ومنهم من أسقط الحد عن الرجل لأجل وجوب المهر دون سقوط الحد من المطاوعة للزاني كما قال جعفر. كما اختلفوا في سبي نساء مُخالفيهم وأخذ أموالهم؛ يُجيزه البعض ويُحرمه البعض (مقالات، ج١، ص١٢٣-١٢٤). وأفتى رجل من الإباضية يُقال له إبراهيم ببيع الإماء من مُخالفيهم، فبرئ منه ميمون، وتوقَّف فريقٌ ثالث. وأفتى العلماء بأن بيعهن وهِبتهن حلال في دار التقية، ويُستتاب أهل الوقف وميمون (مقالات، ج١، ص٧٥). وخالفت فرقة من الخوارج في تزويج الصغار (التنبيه، ص١٧٩). وكفَّرت البهيسية من الخوارج ميمونًا حين حرَّم بيع المملوكة في دار كفار مؤمنًا، وحين برئ ممن استحلَّ ذلك، وكفَّر الواقفة (مقالات، ج١، ص١٧٧-١٧٨؛ الفرق، ص١٠٨).
٤٢  تُجيز الكيسانية الإمامية نكاح تسع نسوة (الفصل، ج٥، ص٢٣).
٤٣  تُجوز الرافضة نكاح المتعة بالنساء من غير زواج ولا مِلك يمين. يطأ المرأةَ الواحدة في اليوم مائةُ رجل من غير استبراء ولا قضاء عدة (الانتصار، ص٨٨–٩٠). وتقول الخطابية بنكاح المتعة (التنبيه، ص١٦٣). كما يقول إسماعيل بن عبد الله الرعين من المعتزلة بنكاح المتعة. وهذا لا يقدح في إيمانه وعدالته لو قاله مجتهدًا (الفصل، ج٥، ص٤١). وقد ضلَّل أهل السنة من ثبت على حكم خبر اتفق الفقهاء من فريق الرأي والحديث على نسخه، كتضليل الرافضة في المتعة التي قد نُسخت إباحتها (الفرق، ص٣٥٧). قال أهل السنة إن الفروج لا تُستباح إلا بنكاحٍ صحيح أو مِلك يمين (الفرق، ص٣٤٦).
٤٤  تُجيز العجاردة والميمونية نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات الإخوة وبنات بني الإخوة؛ لأن الله حرَّم البنات وبنات الإخوة وبنات الأخوات (مقالات، ج١، ص١٦٦). وهو نوع من المجوسية (الفرق، ص٢٤، ص٩٦، ص٢٨١؛ المِلل، ج٢، ص٤٦؛ الاعتقادات، ج٤٨؛ الأصول، ص٣٣٢؛ الفصل، ج٢، ص١٠٨؛ ج٥، ص٣١؛ المواقف، ص٤٢٥-٤٢٦).
٤٥  يُجيز أبو غفار أحد شيوخ المعتزلة تفخيذ الرجال الذكور، ويعتبره حلالًا. وقد ذُكر ذلك أيضًا عن ثمامة (الفقه، ج٥، ص٣٩).
٤٦  عند النظَّام، الطلاق لا يقع بشيء من الكنايات للطلاق، مثل أنت خلية أو برية، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك، سواءٌ نوى أم لم ينوِ؛ فالنية تُجيزه عند الفقهاء. وقوله في الظهار إن من ظاهَر في امرأته بذكر البطن أو الفرج لم يكن مُظاهرًا (الفرق، ص١٤٥-١٤٦؛ الأصول، ص٣٣٥). وعند الخطابية إذا طلَّق المطلِّق ثلاثًا فلا شيء عليه؛ لأنه خالف السنة، وهي امرأته على حالها (الفرق، ص١٤٥-١٤٦). الثلاثة واحدة، الطلاق واحدة للعدة، وهو ظاهر من غير جماع بشاهدين دون غضب، وبنية الطلاق وبرضًا عنه، ولا يقع الطلاق لغير عدة (مقالات، ج٢، ص١٤٣).
٤٧  عند المعبدية من العجاردة الثعالبة الخوارج، الزكاة من أموال عبيدهم إذا استغنوا، وأعطاهم من زكاتهم إذا افتقروا (مقالات، ج١، ص١٦٧؛ الفرق، ص١٠١؛ المواقف، ص٤٢٦). وخالفتهم التغلبية في الخوارج في زكاة العبد وميراثه؛ فعليه الزكاة إذا كان منهم وكان مولاه من قومه، وليس لمولاه من ميراثه شيء، ثم فارقتهم وكفَّرت من خالفهم (التنبيه، ص١٧٩). أما الرشيدية من الثعالبة العجاردة الخوارج فإنهم يؤدون عما سُقي بالعيون والأنهار الجارية نصف العُشر (مقالات، ج١، ص١٦٨؛ الفرق، ص١٠٢؛ المِلل، ج٢، ص٤٩؛ الاعتقادات، ص٥٠؛ الفصل، ج٥، ص٣١). نقِمت النجدية على غيرها لتفريق الأموال بين الأغنياء وتحريم ذوي الحاجة (مقالات، ج١، ص١٦٤). وأصاب شبيب من الخوارج أموالًا فقسَّمها، وبقيت دابة ومِنطقة وعمامة، فطلب رجلٌ أن يركب هذه الدابة حتى يقسمها، وقال آخر ألبس العمامة والمنطقة حتى نقسمها (مقالات، ج١، ص٢٨٨). وعند الثعالبة يجوز أن يصير سهم الصدقة سهمًا واحدًا في حال التقية (المِلل، ج٢، ص٤٩). وقد تبرَّأت الراجعة من صالح بن مسرح لأنه احتبس من الغنائم فرسًا، فكان أصحابه يفزعون إذا أرادوا ركوبه، ويتنافسون في القتال عليه … (مقالات، ج١، ص١٨٧-١٨٨).
٤٨  اختلفوا إذا ذُبح بسكينٍ مغتصَبة، هل تكون الذبيحة ذكية أم لا؟ (مقالات، ج٢، ص١٤٣). كما اختلفوا فيمن اشترى جارية بمالٍ حرام بعينه، هل يكون البيع منتقضًا؟ وإن لم يكن بعينه، هل يكون البيع منعقدًا؟ (مقالات، ج٢، ص١٤٢). واختلفوا فيمن حج أو قضى فرضًا من مالٍ حرام، هل يصح الحج أم لا؟ يصح ويكون المال في ذمته (مقالات، ج٢، ص٢٤٣). واختلفوا في الهدي والقلائد، هل هي حلال أم حرام؟ (التنبيه، ص١٧٩).
٤٩  اختلفوا في المكاسب، هل هي جائزة أم لا؟ (أ) تحريم المكاسب والتجارات، ولا يجوز بيع ولا شراء حتى يظهر الإمام على الدار ويقسمها؛ لأن الأشياء التي فيها لا مِلك للناس عليها لفسادها، ولكون الغصب والظلم فيها. يسألون الناس ما يكفيهم لقوتهم، وما فضل عن ذلك لا يأخذونه، لا يسألون الناس هل الناس يملكون شيئًا عندهم، ولكنهم إذا نظروا إلى أنفسهم سألوا الناس شيئًا، وأقاموا ما يأخذونه مقام الميتة للمضطر. وهذا قول طوائف من المعتزلة. ويتَّهم أهل السنة أنصار هذا المذهب بالتكاسل عن التجارات والتواكل وترك الأعمال. (ب) أكثر الناس وهم جمهور أهل السنة يرون المكاسب جائزة، والبيع والشراء جائزان إلا في الحرام، والأشياء على ظاهرها، والدار دار إيمان (مقالات، ج٢، ص١٤١-١٤٢).
٥٠  مارس المردار هذا الموقف بالفعل، فلم يرث ولم يورث، وتصدَّق بما له لما حضرته الوفاة، ورفض أن يورث. والعجيب اعتذار الخياط لذلك بأنه كان في ماله شُبَه، فدفعه حق المساكين (الفرق، ص١٦٦). لذلك سُمِّي راهب المعتزلة (الانتصار، ص٦٩). أموال الناس محرَّمة عليهم، والعجيب اعتبار الخياط ذلك كذبًا على المعتزلة، وكأنها تهمة (الانتصار، ص١٠٢). أما الأصحاب فقد أجمعوا على أن أهل الأهواء لا يرثون من أهل السنة. واختلفوا في ميراث السُّني منهم؛ فمنهم من قطع التوارث مثل الحارس المحاسبي، ولم يأخذ من ميراث والده القدري، ومنهم من رأى توريث السُّني؛ فالمسلم لا يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم (معاذ بن جبل). والسني يرث المبتدع الضال ما اكتسبه قبل بدعته، كما يرث المسلم المرتد ما اكتسبه قبل ردته، ويكون كسبه بعد الردة فيئًا للمسلمين. وعند الشافعي، مال الزنديق وكل كافر مبدع فيئًا فيه الخُمس. وقال ذلك فيء لا خُمس فيه (الأصول، ص٣٤١).
٥١  أباحت الرافضة قذف المؤمنين والمؤمنات وشهادة الزور والبهت وكل قاذورة، ليس لهم شريعة ولا دين (التنبيه، ص٣٢). تشهد الخطابية الزور لمُوافقيهم (الفرق، ص٢٤٧). وصنفٌ من الخوارج قطعوا الشهادة على أنفسهم ومن واقعهم بأنهم من أهل الجنة من غير شرط ولا استدعاء (مقالات، ج١، ص١٨٤). أما عند البهيسية وهم أصحاب التفسير من الخوارج، فمن شهد على المسلمين لم تجز شهادتهم إلا بتفسير الشهادة كيف هي. ولو أن أربعةً شهدوا على رجل منهم بالزنا لم تجز شهادتهم حتى يشهدوا كيف هو. وهكذا قالوا في سائر الحدود (مقالات، ج١، ص١٨١-١٨٢). ولكن الإباضية جوَّزت شهادة مُخالفيهم على أوليائهم، وحرَّموا الاستعراض إذا خرجوا، وحرَّموا دماء مُخالفيهم وحتى يدعوهم إلى دينهم (مقالات، ج١، ص١٧١-١٧٢؛ المِلل، ج٢، ص٧٣؛ المواقف، ص٤٢٥). وعند المستدركة النجارية، أقوال مُخالفيهم كلها كذب حتى قولهم لا إله إلا الله (المواقف، ص٤٢٨). وقد ردَّ مالك شهادة أهل الأهواء، كما أشار الشافعي وأبو حنيفة بردِّها.
٥٢  تولَّى نجدة أصحاب الحدود من مُوافقيه لعل الله يُعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة، فالنار ينقلها من خالفه في دينه (الفرق، ص٨٩). واختلفت الضحاكية في أصحاب الحدود؛ فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولَّاهم، ومنهم من وقف (مقالات، ج١، ص١٧٦). وعند الحدودية الشكية الخوارج، أصحاب الحدود من أصحابهم مسلمون إن سرقوا أو زنوا أو قذفوا، والقتلى يستغفرون لهم، ويتولونهم دون أن يشهدوا لهم بالنجاة؛ لأن الله أعلم بسرائرهم؛ فلم يكلفوا الشهادة، فسُمُّوا أهل الشك، وكفَّروا من خالفهم (التنبيه، ص٧٩).
٥٣  عند الخوارج، مُخالفوهم من أهل الصلاة كفار ليسوا بمشركين، حلالٌ غنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، حرامٌ ما وراء ذلك مثل قتلهم وسبيهم في السر، إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به (مقالات، ج١، ص١٧١). وأجمعت الإباضية على أن مُخالفيهم براء من الشرك والإيمان، ولكنهم كفار أجازوا شهادتهم، وحرَّموا دماءهم في السر، واستحلُّوها علانية، وصحَّحوا مناكحتهم والتوارث منهم. وهم مُحاربون لله ولرسوله، ولا يدينون بدين الحق. وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون البعض، واستحلُّوا الخيل والسلاح، ويردُّون الذهب والفضة عند الغنيمة (الفرق، ص٢٠٣). دارهم دار الإسلام إلا معسكر سلطانهم (المواقف، ص٤٢٥). ولا تتبع الإباضية المولِّي في الحرب إذا كان من أهل القبلة وكان مُوحدًا، ولا يقتلون امرأة ولا ذرية، ويرون قتل المُشبهة وسبيهم وغنيمة أموالهم، ويتبعون توليهم كما فعل أبو بكر بأهل الردة (مقالات، ج١، ص١٧٥). أما الخوارج فبالنسبة لأهل السنة قومٌ خرجوا من سواد الكوفة، فقتلوا النساء، وسبُوا الذرية، وقتلوا الأطفال، وكفَّروا الأمة، وأفسدوا العباد والبلاد، فمنهم اليوم بقايا بسواد الكوفة (التنبيه، ص٥٢).
٥٤  يُثبِت أهل السنة فرض الجهاد منذ بعث الله نبيه إلى آخر عصابة تُقاتل الدجال، ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، أو ألا يُقاتلوا في الفتنة (مقالات، ج١، ص٣٢٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤