هل الإمامة واجبة، أي ضرورية، لا يرسل الله وحيًا إلا ذكرها، ولا تقوم حياة الناس
إلا بها، أم أنها غير ضرورية يصلح حال الناس دونها؟ وهو موضوعٌ نظري صرف كما هو
الحال في النبوة، إثبات وجوبها أو استحالتها أو إمكانها.
١ وهناك احتمالاتٌ عدة؛ ألا تكون الإمامة واجبة أصلًا؛ إما لعدم حاجة
الناس إليها والاستغناء بفطرتهم عنها، أو لأنها تُثير الفتنة والشقاق، أو لأنه يصعب
تحقيق شروطها. وقد تكون واجبة على الله قبل وجوبها على العباد؛ لأنه لطيف بهم يرعى
الصلاح ويبغي الأصلح. وقد تكون واجبة على العباد إما سمعًا أو عقلًا. وهو سؤالٌ عام
في الفلسفة السياسية عن ضرورة السلطة في المجتمع.
٢
(١) هل الإمامة غير واجبة أصلًا؟
قد تكون الإمامة غير واجبة أصلًا، لا على الله ولا على العباد، لا سمعًا ولا
عقلًا، لا نظرًا ولا عملًا. وقد يُصاغ السؤال بطريقةٍ أخرى، فيكون: هل يجوز أن
تخلو الأرض من إمام؟ فإذا كان السؤال الأول يتوجه نحو النظر والمبدأ، فإن
السؤال الثاني يتوجه نحو الواقع والمشاهدة واستقراء التاريخ؛ فإذا تطابق
الرأيان تصبح الإمامة غير واجبة أصلًا بحجة العقل وحجة الواقع.
ويُرفَض الوجوب النظري بعلَّتَين مُتضادتين؛ الأولى: أن الناس وقت السلم
أخيار، وليسوا في حاجة إلى إمام. والثانية: أن الناس في وقت الفتنة يمتنع عليهم
وجود الإمام. وهما حجتان مُتعارضتان مُتقابلتان لنفي وجوب الإمامة وإثبات
استحالتها. حجةٌ مثال، وحجةٌ واقع. الأولى ترسم صورةً مثالية للعالم؛ ومن ثَم
فلا حاجة إلى إمام، الثانية ترسم صورةً سوداوية للعالم؛ وبالتالي فتركُ الإمامة
أفضل. تُبين الحجة الأولى أن الناس لو كفُّوا عن التظالم لاستغنَوا عن الإمام،
فالناس أخيار بالطبع، يكفي اتِّباع الفطرة والعقد الاجتماعي الطبيعي دونما حاجة
إلى سلطة تأخذ بزمامهم، وتُوجههم نحو الخير. الإنسان سيد نفسه، والجماعة ترعى
مصالحها، والسلطة شر ومفسدة لا حاجة للناس بها.
٣ والحقيقة أنه لا يمكن رد هذه الحجة بالحجة العكسية، وهو تصور الناس
أشرارًا يأكل بعضهم بعضًا؛ وبالتالي لا بد من إمامٍ يحفظ أموال اليتامى وتوجيه
السرايا والذب عن البيضة وتنفيذ الحدود، وكأن مصالح الناس تظل معطَّلة دون
إمام، وكأن الناس بطباعهم ليست لهم أخلاقٌ اجتماعية يحفظون بها الحقوق
ويُدافعون بها عن النفس؛ وبالتالي إنكار الحق الطبيعي، مثل حق الآخر، وحقوق
الدفاع عن النفس.
٤ وتُبين الحجة الثانية أن الأمة إذا اجتمعت كلمتها على الحق احتاجت
حينئذٍ إلى الإمام. أما إذا عصت وفجرت وقتلت الإمام لم يجب على أهل الحق منهم
إقامة إمام؛ فالشعب الغاضب الرافض هنا أقوى من الإمام، والإمام أضعف منه،
والسلطة لا تقوى على تثبيت نفسها. ولما كانت السلطة تعبيرًا عن الشعب، والشعب
رافض لها، فإن أية محاولة لتثبيت سلطة شعب رافض لها ستكون بالضرورة سلطةً قاهرة
لا تُعبر عنه.
٥ ويمكن الرد على هذه الحجة بأن الناس أحوج إلى الإمام في عصر الفتنة
منهم في حال الاطمئنان واستتباب الأمن، وقد يكون تنصيب الإمام وقت الفتنة أدعى
إلى القضاء عليها، ولكن يظل وكأنه أمير يُطيعه الناس خوفًا منه، ولكن الرد
الأكثر إقناعًا هو أن هذا الرأي إنما هو تبرير لواقعٍ سياسي معيَّن من أجل غاية
سياسية معيَّنة، وهو رفض إمامة الإمام الشرعي الذي بُويع في عصر الفتنة.
٦ وقد تُنكَر الإمامة أصلًا بلا علة، سواء في حال السلامة أو في حال الفتنة.
٧ أما القول بجواز أن تخلو الأرض من إمام حتى يُعقَد لواحد، وبالتالي
فهي غير واجبة، وهي الصيغة الثانية من السؤال التي تعتمد على حجة الواقع، فإنه
يمكن الرد عليها بحجة من نوعها، وهي أن الزمان لا يخلو من إمام، ليس بمعنى أنه
لا بد من إمام ضرورةً يتصرف في أمور الناس، بل بمعنى أنه لا يجوز خلو الزمان
ممن يصلح للإمامة؛ لأنها قضيةٌ مصلحية.
٨
وقد تُعاد الحجتان المُتضادتان نفساهما بطريقةٍ أخرى. الأولى أن الناس لا
يحتاجون لإمام لأنهم يعلمون كتاب الله فيما بينهم، يكفي أن يتناصحوا فيما
بينهم، فإن رأوا إقامة إمام بينهم فعلوا، ولكن إقامته ليست ضرورية أصلًا. يكفي
أن يتعاطى الناس بالحق ويتواصوا به دون أن تكون الإمامة واجبة شرعًا تستحق
الأمة اللوم والعقاب في حال الامتناع عن القيام بها. وكل إنسان مثل غيره في
التقوى والصلاح، فكيف يُنصَب إنسانٌ آخر إمامًا عليه وهو مثله ومُساوٍ له؟ في
طباع الإنسان وأديانه وشرائعه ما يُغْني عن الإمام. وطالما انتظمت حياة البدو
والعربان في البوادي بلا سلطان.
٩ والحقيقة أن السلطة تنشأ في المجتمع طالما أن هناك أكثر من اثنين،
«لو كنتم ثلاثة فأمِّروا عليكم واحدًا». ولا يكفي التناصف؛ إذ ينشأ النزاع
ويبرز الخلاف، وهو طبيعي. ينشأ النزاع من الإرادات، فتظهر الحاجة إلى التنسيق
والتوفيق بين المصالح المتعارضة، مثل الأسرة والمجتمع والسياسة الدولية. هي
حالةٌ افتراضية صرفة تبدأ بالشرط المستحيل «لو» تناصفوا، وهو ما لا يحدث نظرًا؛
لأن الإنسان مجموعة من الأهواء والمصالح يعيش في طبقاتٍ اجتماعية مُتباينة، حتى
الصحابة والتابعين بالرغم من إخلاصهم وتقواهم نشب بينهم خلاف، ولم يمنعهم
تناصحهم وتناصفهم من الوقوع في الفتنة وإراقة الدماء. وإن وجود مساواة بين
الناس في الفضل والحكمة لا يمنع من الإمارة، ثم الإمارة لا تعني الرفعة والسمو
للبعض والطاعة والمذلَّة من البعض الآخر، بل تعني مجرد التوحيد بين المصالح
التي قد تتعارض. والمحكوم حاكم بالرقابة. وهناك شرعٌ مستقل عن كليهما وهو
الحاكم الفعلي. كما لا يعني الوجوب الشرعي استحقاق الثواب على الفعل والعقاب
على الترك، بل الوجوب المصلحي العملي، حيث لا تستقيم الحياة بدونه. وإن وجود
العربان وأهل البوادي بلا سلطان يعني أن حياتهم بدائية، وأن مظاهر إنتاجهم
بسيطة، وليست الحياة المدنية المركَّبة، حيث الصناعة والتجارة وأنماط الإنتاج
المُتشابكة التي تستدعي سلطةً وتنظيمًا وإدارة وإمارة. ليس الرد على هذه الحجة
هو ضرورة وجود إمام مهمتُه تخويف الناس والتشدد عليهم، ولو باستعمال السيف،
فذاك هو الإمام القاهر، ودرء شر بشرٍّ أعظم، ولكن بضرورة نشأة السلطة نشأةً
طبيعية تحقيقًا لمصالح الجماعة عن طيب خاطر بناءً على عقدٍ اجتماعي شفاهي أو
مكتوب. فهذا العقد تعبير عن الحرية الطبيعية، وليس سلبًا لها بالقهر. لا يكون
إثبات الإمامة بالتخويف وحمل الناس حملًا عليها، فذلكم هم العبيد. وقد يكون
الراد على عمر وهو يخطب أكثر سلطة من عمر نفسه كحاكم وكإمام من فوق
المنبر.
والحجة الثانية أنه حتى في حالة الحاجة إلى إمام فإنه يصعب تنصيبه؛ لأن ذلك
يُثير الفتنة نظرًا لاختلاف الأهواء، كل قوم يريدون الإمام منهم، فيقع التشاجر
والتناحر، والتجربة خير شاهد على ذلك. كما يتعذر الوصول إلى آحاد الرعية
لتنصيبه إمامًا عليها يُسير كل ما يعني لهم من شئون حياتهم. كما أن للإمامة
شروطًا قلَّما توجد في كل عصر؛ فإن أقاموا من لم يتَّصف بها فقد أخلُّوا
بالواجب، وإن لم يقوموا أحدًا فقد تخلَّوا عن الواجب؛ وبالتالي يرتكبون الذنب مرتين.
١٠ والحقيقة أن تنصيب إمام لا يثير بغضًا ولا كراهيةً ولا تسابقًا على
الإمامة. فإذا ما تسابق إمام عليها فإن ذلك يُسقط شرط إمامته؛ لأنه لا يمكن
تولية هذا الأمر من يطلبه، ولا بد فيه من بيعة الآخرين له دون أن يطلبها هو
لنفسه حياءً واستحياءً. ومن يبغي تحمُّل مسئولية أمة، يُعذَّب على كل محتاج
ومظلوم؟ وإن صعوبة شروط الإمام لا تعني عدم وجوده بالفعل، بل تُطبَّق الشروط
على مستوى الممكن والواقع، وليس على مستوى المستحيل والمثال. لا توجد استحالة
في اختيار الإمام نظرًا لصعوبة تنفيذ الشروط؛ إذ يجتاز الأفضل فالأقل فضلًا.
هناك أولويات في الشروط؛ الأعلم فالأروع فالأسن، ويمكن للأعدل وللأقوى.
١١ ويبدو أن هذا الموقف بحجتَيه إنما هو رد فِعل على تشاحن الناس على
الإمامة مما أدَّى إلى تركها، وتضارب الأهواء والمصالح حولها؛ الأمر الذي أدَّى
إلى تنابذها. وقد أدَّى ذلك إلى تصور حالة طوباوية مُعاكسة، حيث يعيش الناس في
جو من الأمن والسلام دون مشاحنة أو تقاتل حيث لا حاجة بهم إلى إمام. وعادةً ما
يتم ذلك من إحدى فِرق المعارضة العلنية في الخارج التي ترفض إمام العصر، زمانه
ومكانه، وتعيش في الفلاة حياةً طوباوية بلا إمام أو إمامة؛ فهم بهذا المعنى
«خوارج» على الإمام وعلى مجتمع المدنية.
وقد يأتي إنكار وجوب الإمامة أصلًا من استحالة ثبوتها، سواء عن طريق النص أو
عن طريق الاختيار، وليس فقط لعدم الحاجة إليها، أو عدم الانتفاع بها، أو وقوع
المضرة بسببها، أو صعوبة تحقيق شروطها. فإذا كانت تثبت بالنص فإنه لا نص على
أحد، وإن ثبتت بالاختيار من المجتهدين، والاختيار إجماع لا خلاف عليه، وهو ما
لا يتصوره عقل أو واقع. لا يمكن تصوُّره عقلًا لأن الاختيار مبني على الاجتهاد،
والاجتهاد على قدرات كل إنسان في إدراك الوجوه العقلية والسمعية. ولما كانت
الطباع مختلفة تختلف الأحكام ضرورةً. وقد كانت الخلافة أحقَّ الأحكام بالاتفاق
عليها، وأولى الأزمان هو الزمن الأول، وأولى الأشخاص بالصدق والإخلاص والصحابة،
وأخصُّهم بالأمانة ونفي الخيانة المهاجرون والأنصار، وأقربهم إلى الرسول
الشيخان، ومع ذلك وقع الخلاف. فإن لم يُتصوَّر إجماع الأمة في أهم الأمور
وأولاها بالاعتبار دلَّ ذلك على أن الإجماع لن يتحقق قط، وليس دليلًا في الشرع.
١٢ ويمكن الرد على ذلك بأن الخلاف في الإجماع جائز، وأن ذلك لا يطعن
في حجته، فلا عصمة لأحد. يجوز الخطأ فيه والرجوع عنه، والشواهد كثيرة. وقد يكون
الطعن في الإجماع سببه سياسيٌّ خالص لأن الأمة لم تجتمع على الإمام الشرعي بعد
الإمام المقتول. لقد تم إدراك كثير من واجبات الشرع بالإجماع؛ فالإجماع دليلٌ
شرعي، قد يقع عن نص، وقد يقع عن اجتهاد، ويتطلب اجتماع شخصين أو ثلاثة على رأي.
وقد وقع ذلك في الصدر الأول، وله قرائن تدل عليه مثل النص أو التواتر أو
القرينة اللفظية أو الفعلية. وكل حد للإجماع السابق له ما يُبرره، مثل غياب
البعض وانشغال البعض الآخر. وقد يقع الخطأ في الإجماع عن اجتهاد ثم يُعاد
تصحيحه بإجماع الآخر. وفي هذه الحالة لا يكون الإجماع الأول خطأً، والثاني
صحيحًا، بل كلاهما صحيح طبقًا لتغير الظروف والأحوال.
١٣ وقد يُقال إن الاختيار مُتناقض لوجهين؛ الأول: أن صاحب الاختيار
ينصب الإمام ويُبايعه حتى يصير إمامًا، ثم تجب عليه طاعته بعد ذلك إذا بايع
الناس الإمام، فكيف بالذي نصب الإمام يقوم بطاعته؟ والثاني: أنه يجوز أن يُخالف
أحد المجتهدين الإمام في المسائل الاجتهادية، فكيف تجوز طاعة الإمامة والخلاف
بينه وبين أحد الأئمة موجود؟
١٤ والحقيقة أن الطاعة ليست للإمام بل للشريعة. وكما أن من نصب الإمام
من حقه طاعته، فمن واجبه خلعه إذا ما تقاعس الإمام عن تنفيذ الشرع أو صالح
الأعداء. إن الإمامة وظيفة وليست منصبًا. الشخص غير مهم، إنما المهم هو أداء
الوظيفة، والقيِّم عليها هو جمهور الأمة الممثَّلة في أئمة المجتهدين وعلمائهم
وورثة الأنبياء. وأن يُنصب الإمام من الناس خير من أن يطلب الإمامة لنفسه. وإن
تنصيب واحد للإمامة إنما هو بداية البيعة، بعدها تتم البيعة من أهل الحل والعقد
له؛ فالطاعة للناس بعد البيعة وليس لواحد بفعل التنصيب. كما أن الخلاف في
المسائل الاجتهادية بين الأئمة والمجتهدين والإمام لا يمنع من الطاعة، فالأمر
شورى بينهم. وإن الاتفاق على موضوع الاختلاف بالأغلبية يوجب الطاعة والنزول على
رأي الجماعة. والخلاف النظري شيء، والخلاف العملي شيءٌ آخر. الأول جائز،
والثاني لا يؤثر في وحدة العمل. وإن تعدُّد الأُطر النظرية ممكن، في حين أن
وحدة العمل والممارسة ضرورية. وتظل مسئولية أخذ القرار للإمام، أي للسلطة
الشرعية، وحق العلماء النصيحة والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد
قيل: إذا جار الإمام وجبت مُنابذته وخلعه، فإن لم ينخلع قُتل طوعًا، وإن حدث شك
قبل التحكيم في إمامته فقد يُقتل؛ وبالتالي فالإمامة في كلتا الحالتين تؤدي إلى القتل.
١٥ والحقيقة أن حجة التاريخ والأحداث على الإمامة في عصرٍ كانت الدماء
فيه تسيل، والرقاب فيه تتطاير، ولم يعد أحدٌ يعرف الحق من الباطل. ومع ذلك
فالخلع لا يؤدي بالضرورة إلى القتل، والتحكيم مصالحةٌ يصعب رفضها، والاستثناء
لا يكون قاعدة، كما أن الحجة العملية لا تكون حجة نظرية، والواقع لا يتحول إلى
فكر. وكثيرًا ما خُلع الحكام ووقع التحكيم وحدثت المصالحة في جوٍّ مشحون
بالانفعالات والصراع على السلطة. ومع ذلك تظل حجج نفي الإمامة أصلًا قويًّا،
سواء من حيث النظر أو العمل. ولكن ما العمل؟ وما البديل؟ هل يُترَك الناس بلا
سلطة والسلطة تنشأ طبيعيًّا في الجماعة؟ هل البديل هو الخروج المستمر على
الإمام وتكوين جماعات رفض منعزلة على أطراف الأمة، أو تكوين جماعات سرية في
المركز، لها إمامٌ غائب يظهر في نهاية الزمان ليملأ الأرض عدلًا كما مُلئت
جورًا؟