الدرس الأول

اجتمعنا هنا اليوم لنحتفل بانقضاء المائة الثالثة على حدث أدبي عظيم هو ظهور كتاب ديكارت «مقال في المنهج»، ذلك الكتاب الذي يُعدُّ من أكثر الكتب الفلسفية مَدْعَاةً للدهشة، والذي كان إخراجه حدثًا روحيًّا كبيرًا؛ أي ثورة روحية نحن ورثتها، وإن تفاوت حظنا في هذا الإرث.

ثلاثة قرون — وأي قرون! — تفصلنا من ديكارت ومن كتبه، وهي فترة طويلة بالإضافة إلى التاريخ، وإلى العلم نظريًّا، وعمليًّا، وإلى الحياة، ولكنها قصيرة بالإضافة إلى الفلسفة، فإنَّا نعترف صراحة أن تقدم الفلسفة بطيء، أنها تُعْنَى بأمور بسيطة جدًّا: تُعنَى بالوجود، وبالمعرفة، وبالإنسان؛ وهذه أمور بسيطة لا ينقطع اهتمامنا بها؛ لذلك تظل أجوبة كبار الفلاسفة عن هذه المسائل البسيطة خليقة بالعناية، مفيدة هامة قرونًا طويلة بل آلاف السنين، فإن الفلسفة في حاضر مستمر، وقد لا يوجد اليوم فكر فلسفي أكثر ملاءمة من فكر ديكارت، إلا أن يكون فكر أفلاطون.

ولكن لندع أفلاطون جانبًا، وسنصادفه أثناء سيرنا، فإنما أقصد أن أحدثكم اليوم عن ديكارت، وعن «المقال في المنهج».

نحن نعرف جميعًا هذا الكتاب، فقد قرأناه جميعًا، ودرسناه في المدرسة مع تفاوت في العناية، وذاكرتنا مليئة بعباراته المتثاقلة اللطيفة، كلها سذاجة وتهكم وحكمة، وكلها «أصالة رأي»، تلك الأصالة التي هي أندر وأنفَس شيء في العالم، مهما يقل في ذلك ديكارت، أو بعبارة أخرى أدق جريًا مع ديكارت نفسه.

جميعنا نذكر قوله: «إن أصالة الرأي أعدل الأشياء توزعًا بين الناس، فإن كلًّا يعتقد أن حظه منها موفور، حتى الذين هم أقل الناس رضًى فيما عدا ذلك فليس من عادتهم أن يطلبوا منها أكثر مما قُسم لهم.» وجميعنا تذوقنا ما في هذا التدليل من تهكُّم، وجميعنا نعلم أن المهم «ليس أن يكون عقلنا جيدًا، بل أن نجيد استخدامه»، ولقد تساءلنا جميعًا كيف السبيل إلى ذلك، وجميعنا نذكر «أنه ينبغي أن نكون حازمين في العمل، محاكين في ذلك المسافرين الذين إذا ضلوا في غابة حرصوا على ألا يدوروا فيها دورانًا، بل مضوا في اتجاه واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ لأنهم بذلك إن لم يذهبوا إلى حيث يرغبون فإنهم يصلون حيث يكونون في الراجح أحسن حالًا منهم في وسط الغابة»، وإن «قراءة الكتب القيمة بمثابة حديث مع أفضل رجال القرون السالفة» و«إنَّا لا نستطيع أن نتصور شيئًا أكثر غرابة، وأبعد عن التصديق إلا وقد قاله أحد الفلاسفة.»

ثم إننا جميعًا منذ ثلاثة قرون متشبعون بالفكر الديكارتي عن طريق مباشر أو غير مباشر من حيث إن الفكر الأوربي بأجمعه، أو على الأقل الفكر الفلسفي بأجمعه يتجه ويتعين منذ ثلاثة قرون بالنسبة إلى ديكارت؛ لذلك يصعب علينا جدًّا أن ندرك أهمية عمل ديكارت وجدته، فقد كان ثورة من أعمق ما عرفته الإنسانية من ثورات فكرية بل روحية، كان عبارة عن استعادة العقل سلطانه على نفسه، وكان نصرًا حاسمًا في الطريق الوعر الشاق المؤدي بالإنسان إلى التحرر الروحي إلى حرية العقل والحقيقة، وإنه لأصعب من ذلك إن لم يكن مستحيلًا أن نتصور ما كان «للمقال» من أثر عند الذين كانوا يقرءونه لأول مرة منذ ثلاثة قرون.

وإنَّا لنكرر القول: إن ثلاثة قرون حقبة طويلة، ومع أن المسائل الفلسفية هي في الواقع دائمة فإن من الحق أيضًا أن ما كان لمعاصري ديكارت من المرامي الروحية يختلف أشد اختلاف عما لنا نحن من مرامٍ روحية؛ لذلك اختلف ما كانوا يطلبونه في هذا الكتاب عما نطلبه نحن.

وفضلًا عن ذلك فإن «المقال في المنهج» كما كان بين أيديهم كما خرج من مطبعة جان مير بلدين في ٥ يناير ١٦٣٧ كان يختلف عن الكتاب الذي نقرؤه اليوم، أو إن شئتم كان بالإضافة إليهم غير ما هو بالإضافة إلينا.

فبالإضافة إلينا «المقال» كتاب صغير لطيف يحوي بالأخص وقبل كل شيء الترجمة الروحية لديكارت، ثم القواعد الأربعة المشهورة، ولم تعد لنا حاجة بها، وإنما نستبقي منها خاصة المواضع المتعلقة ﺑ «الأفكار الجلية الواضحة» والتي تفرض علينا ألا نعتبر حقًّا إلا ما نراه كذلك بجلاء، وأن نقود أفكارنا بنظامٍ مبتدئين بأبسط الأشياء وأسهلها، ثم هو يحوي عجالة في الأخلاق عليها مسحة رواقية، وفيها حرص على مجاراة العُرف، وبحثًا قصيرًا في الميتافيزيقا عويصًا للغاية، فيه الجملة المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود» وبيان — هام جدًّا للمؤرخ، ولكنه ممل جدًّا للمثقف من أهل عصرنا — لتجارب علمية أُجريت، أو كان يجب أن تُجرى، وكلنا يعلم من غير شك أن كان «للمقال» ملحق هو عبارة عن ثلاث رسائل: واحدة في البصريات، وأخرى في الآثار العلوية، وثالثة في الهندسة، لا نقرؤها ولا تثبت في طبعاتنا العامة.

أما معاصرو ديكارت فقد كان الحال عندهم على خلاف ذلك؛ فإن «المقال في المنهج» أو بحسب عنوانه التام «مقال في المنهج لحسن قيادة العقل، والبحث عن الحقيقة في العلوم»، مضافًا إليه علم البصريات والآثار العلوية والهندسة، وهي تطبيقات هذا المنهج، نقول: إن «المقال» كان كتابًا ضخمًا في ٥٢٧ صفحة بقطع الربع يحوي ثلاث رسائل علمية ذات جدة مدهشة وأهمية عظمى، فرسالة البصريات كانت تشتمل بنوع خاص على نظرية في انكسار الضوء، وعلى دراسة للآلات الجديدة «كلتلسكوب، والمنظار» التي كانت قد غيرت علمنا بالعالم، ورسالة الآثار العلوية؛ أي الظواهر الجوية تتحدث عن السحاب، والمطر، والبَرَد، وقوس قزح، وانعكاس صورة الشمس في السحاب، مفسرة بأبسط الوسائل، وأكثرها مطابقة للطبيعة، وأكثرها غرابة أيضًا بالإضافة لذلك العصر، وعن حركة المادة المالئة للفضاء، وانعكاس الماء في قطرات المطر، وأخيرًا رسالة الهندسة أي رسالة في الجبر قلبت الأفكار المتعارفة في الرياضيات بإيجاد مشاركة بين موضوعين مختلفين اختلاف المكان وهو كمية متصلة، والعدد وهو كمية منفصلة، وجاءت هذه الرسالة في «الهندسة» بنظرية عامة للمعادلات، واصطلاح جديد للرمز للكميات، هو الاصطلاح الذي ما نزال نعول عليه، وجاءت أيضًا فيما جاءت به بحل لطيف لمسألة بابوس الشهيرة، وفيما عدا ذلك كان الكتاب يحتوي على مقدمة طويلة مطبوعة على حدة، ولصفحاتها ترقيم خاص هو «المقال» بالذات، يقدم للقارئ فضلًا عن برنامج لأبحاث علمية منشط للتفكير غاية التنشيط، موجزًا في الميتافيزيقا غريبًا وجريئًا جدًّا، ورسالة قصيرة في «المنهج»، وأخيرًا ترجمة لحياة المؤلف الروحية.

فبالإضافة إلى معاصري ديكارت وإلى ديكارت نفسه «المقال في المنهج» مقدمة لعلم جديد، وإعلان لثورة فكرية ستتلوها ثورة علمية كثمرة لها، ولقد نسينا نحن أنه مقدمة، ولنا في ذلك بعض الحق من غير شك من حيث إن الرسائل العلمية البحتة التي كانت تنطوي عليها دفتا المجلد قد تجاوزها العلم فشاخت وسقطت، بينما «المقال» ما يزال محتفظًا بنضارته، على أني مع ذلك أريد أن أذكركم اليوم بأن «المقال» إنما هو مدين بحظه ونفوذه وأثره لتلك الرسائل العلمية.

ولم تكن الكتب في المنهج نادرة لعهد ديكارت، وأحدثها عهدًا «المنطق الجديد» لبيكون جاء هو أيضًا بمنهج جديد، منهج يؤدي إلى علم جديد؛ إلى علم عملي للعلم النظري القديم، ولقد أعلن ديكارت من ناحيته هذا العلم الجديد الذي كان ينتظر منه تغيير الحياة الإنسانية وإقامة الإنسان «سيدًا، ومالكًا للطبيعة»، ولكن ديكارت لم يقتصر على إعلانه، بل جاء هو بذلك العلم الجديد وأعطانا نتائج، ولم يكن منهجه مجردًا، ولكنه كان يلخص تجربة حقيقية ويصوغها في قانون، وهذه التجربة هي التي كانت تبرهن على قيمته وتسمح بتفهُّم المعنى الحقيقي العميق للقواعد المبهمة التي نجدها في «المقال».

وفي الواقع مَن ذا الذي وضع موضع الشك أن الفيلسوف من حيث هو كذلك لا ينبغي أن يذعن إلا لوضوح العقل ليس غير؟ ومَن ذا الذي — إلى أيامنا هذه على الأقل — وضع موضع الشك ما للفكرة الجلية على الفكرة الغامضة من قيمة عالية؟ لا أحد، كما أن أحدًا لم يضع قط موضع الشك قيمة النظام وضرورة الابتداء بأبسط الأشياء وأسهلها، لا على العكس بأصعب الأشياء وأكثرها تقيدًا، هذه أمور متعارفة في الفلسفة، ولكن ما هذا الوضوح الذي ينبغي أن نطلبه؟ ما هذا النظام الذي ينبغي أن نتبعه؟ ما هذه الأشياء البسيطة التي ينبغي أن نبدأ بها.

في الجواب عن هذه الأسئلة يقوم «الإصلاح الديكارتي». وهذا الجواب — وهو ثورة حقًّا — يجب علينا أن نطلبه لا في «المقال» بل في الرسائل.

ولقد أثار «المقال في المنهج» ضجة غير قليلة بين العلماء؛ وذلك بسبب مضمونه من غير شك، وبسبب المؤلف أيضًا، أجل إن اسمه لم يكن مذكورًا على الغلاف، فإن ديكارت تقدم للجمهور مخفيًا اسمه بكبرياء، ولكن العارفين، وأعني بهم أعضاء جمهورية الآداب، كانوا يعلمون.

لم يكن ديكارت سنة ١٦٣٧ قد بلغ المنزلة التي سيبلغها بعد ذلك ببضع سنين؛ أي منزلة الفيلسوف الكبير الشهير وزعيم العقل في زمانه، لم يكن الناس يتحدثون بعدُ في الأزقة عن نظريته في الحركة، ولم يكونوا يتناقشون في الصالونات في المادة اللطيفة، ولكنه لم يكن مجهولًا، فقد كان عالم الأدب والعلم أضيق مما هو الآن، وكان رجاله أكثر معرفة بعضهم ببعض، وكان ديكارت قد عاش بباريس واختلف إلى الأوساط العلمية فيها، وكانت هذه الأوساط ما تزال تذكر ذلك الرجل القصير الكريه غريب الأطوار — فإنه لم يكن يطيق المعارضة، وكان ينهض من فراشه متأخرًا ويكره الزيارات — ذلك الرجل الذي كان يمكن لقاؤه عند مرسين، أو بريل، أو جيبيف، كان الناس يعلمون أنه غادر باريس فجأة ليختفي في مكان حقير في هولاندا، وكانت المراسلة متصلة بينه وبين مرسين، ذلك الرجل الذي كان بمثابة صندوق البريد في عالم العلم على حد قول ويجنس، ولم يكن يحبه، أو إن فضلتم هذا التعبير: «بمثابة النائب العام في جمهورية الآداب»، كما أسماه هوبس، وكان مدينًا له بالشيء الكثير، وكان الأب مرسين آخر من يكتم سرًّا، وبالأخص إذا كان هذا السر خبرًا أو رسالة، فكانت رسائل ديكارت تجوب أنحاء فرنسا من رين إلى تولوز، ومن مرسيليا إلى ديجون، وكان الكل يعرف أن ديكارت عالم كبير وفيلسوف كبير، وأنه يعد كتابًا في «العالم» أو في «الضوء»، وأنه يقول بدوران الأرض، وأنه وعد بلزاك أن يقفه على تاريخ فكره، فكان الكل ينتظر هذا التاريخ بفارغ الصبر.

ولم يخيب «المقال في المنهج» ظن المنتظرين؛ القسم العلمي من الكتاب جميل جدًّا مبتكر جديد، فثار حوله نقاش عنيف، كان فرما، وروبرفال، وفرنييكل، وديزارج، وبوجران، وميدورج يعترضون، ويجادلون، ويقارنون، ويتراشقون بالمسائل، ويتبادلون التحدي وقوارع الكلم.

كل ذلك ومرسين فَرِح؛ فإن تلك النفس الوادعة الساذجة لم تكن تحب شيئًا مثل حبها لشجارٍ أدبي.

ومقدمة الكتاب — وهي «المقال في المنهج» — أثارت أيضًا اهتمامًا كبيرًا، بل نوعًا من الدهشة.

وإني أكرر القول: إن «المقال» أصبح مألوفًا لدينا، قد ألفنا أن نرى فيه فيلسوفًا كبيرًا يقص علينا حياته الروحية، ونحن نرى ذلك أمرًا طبيعيًّا، ولا ندرك كم كان ذلك على العكس خارجًا عن المألوف، منقطع النظير، غريبًا.

طبيعي أن العالم أو الفيلسوف الذي بلغ إلى اكتشافات جميلة يعرض علينا الطرق والوسائل، أو المناهج التي مكنته من الوصول إليها، وطبيعي كذلك أن العالم أو الفيلسوف الذي كشف منهجًا جديدًا للبحث يعرضه علينا ويقدم لنا أمثلة على قيمته، أما أن يقص علينا حياته بهذه المناسبة، فهذا هو الأمر الغريب.

هل نتصور أينشتاين أو ديبرويل يروي لنا تاريخ حياته — حتى حياته الروحية — قبل أن يعرض علينا نظرية النسبية، أو النظرية الكمية؟ لا، أليس كذلك؟ ولكن ديكارت يصنع ذلك، لِمَ اعتبر نفسه ملزمًا بأن يصنع ذلك؟ أجل إنه يعلن أسبابه، ولكن لا يبدو لي أنها هي الأسباب الحقيقية.

يقول إنه وُفِّق إلى اكتشاف «منهج» مكَّنه من التقدم تقدمًا كبيرًا في دراسة العلوم، وإنه يعرضه لفائدة القراء.

وهاك نصه:

لقد واتاني الحظ؛ فوُجِدت منذ صباي في طرق أدت بي إلى اعتبارات ومبادئ ألفت منها «منهجًا» يبدو لي أنه يمكِّنني من زيادة علمي بالتدريج، والبلوغ به إلى أعلى نقطة أستطيع الوصول إليها مع قلة حظي من الذكاء وقصر حياتي، ومع أني في تقديري لنفسي أحرص دائمًا أن أكون أميل إلى قلة الثقة مني إلى الزهو، ومع أني إذ أنظر بعين الفيلسوف إلى مختلف أفعال الناس ومشاريعهم، أكاد لا أتبين شيئًا منها إلا وهو باطل عديم الجدوى، فقد حصلت على نتائج لا أتمالك معها من أن أستشعر غبطة بالغة بما يلوح لي أني وصلت إليه في البحث عن الحقيقة، وآمالًا بالمستقبل تحملني على الاعتقاد بأنه لو كان بين أعمال الناس، من حيث هم ناس، عمل حسن وهامٌّ حقًّا لكان هو العمل الذي اخترته.

ولكن لعله أخطأ «وظن ماسًا وذهبًا ما هو نحاس وزجاج»؛ لذلك فهو يقول لنا: «لست أقصد أن أعلِّم هنا ما ينبغي لكل واحد أن يتبع من منهج ليحسن قيادة عقله، وإنما أريد أن أُبيِّن على أي نحو حاولت أن أقود أنا عقلي، فلست أعرض هذا المؤلف إلا على أنه قصة، أو إذا آثرتم هذا التعبير حديث خرافة قد يجد فيه القارئ إلى جانب بضعة أمثلة قد يحسن احتذاؤها أمثلةً أخرى يحسن صنعًا بعدم اتباعها.» ويضيف ديكارت إلى ذلك قوله: «أرجو أن يعود هذا المؤلف بالفائدة على البعض دون أن يضر أحدًا، وأن يحمد مني الجميع صراحتي.»

ما أجمل هذا التواضع!

ولئن كانت الرغبة في نفع معاصريه والإنسانية جمعاء من أقوى الدواعي وأقلها حظًّا من الحمد في نشاط ديكارت الفلسفي، أليس من قوانين الأخلاق، بل أليس القانون الأعلى للأخلاق، أخلاق «التضحية» التي يعلمنا إياها ديكارت، ذلك القانون الذي «يلزمنا أن نوفر الخير للناس جميعًا ما وسعنا ذلك»؟ ولئن صح أنه اعتبر كشف «المنهج» من قبيل الحظ، إن لم يكن نعمة إلهية، فمن الحق مع ذلك أن التواضع لم يكن قط أهم نقائص ديكارت، ذلك الرجل الذي لم يعتقد قط أنه تعلم شيئًا، أو يمكن أن يتعلم شيئًا من أحد كائنًا من كان، ذلك الرجل الذي كان قد أخذ على نفسه أن ينظم العالم هو وحده في هيئة جديدة، وأن يحل محل أرسطو في مدارس العالم المسيحي.

أما الأسباب التي يتمحلها فهل تبدو كافية حقًّا؟ لقد سبق لي القول: إني لا أعتقد ذلك.

وقد أُتهم بجريمة العيب في ذات ديكارت، وقد يقال لي: إن ديكارت كان يعلم أكثر من أي إنسان ماذا كان يصنع، ولِمَ كان يصنعه، بل إنه كان الوحيد الذي يعلم ذلك حقًّا، لا شك، ولكن ديكارت رجل حذر متكتم، يُفكر فيما يقول، ولا يقول ما يُفكر، أو على الأقل لا يقول كل ما يُفكر، ألم يكتب إلى مرسين — وهو أحد رجلين أو ثلاثة كان يثق بهم كل الثقة: «إني أتقدم مقنعًا»؟ لا نؤاخذه على احتياطه؛ فإن حكاية جاليليو كانت ما تزال قريبة العهد، ولم يكن ديكارت يحس أي رغبة في أن تتجدد الحكاية على حسابه، وكان يعلم أن رسالته للعالم أخطر بكثير من رسالة الرياضي الفلورنتي، فالعلم — ذلك العلم الذي تُظْهِرنا الرسائل العلمية على أمثلة منه — لا يكتفي بأن يطرد الإنسان والأرض من مركز العالم، ولكنه يحطم هذا العالم ويخربه ويفتح بدلًا منه الفضاء اللامتناهي. أما «المنهج» فكان عبارة عن مراجعة جميع أفكارنا ونقدها نقدًا منظمًا، كان عبارة عن دعوتها جميعًا إلى أن تبرر أنفسها أمام محكمة العقل، ومهما يحرص ديكارت — بكل إخلاص من غير شك — على تضييق مجال هذا «المنهج»، ومهما يؤكد لنا من أنه لم يقصد قط إلا إلى إصلاح أفكاره هو، وهو حر في التصرف بها، فإنه لا يستطيع أن يجهل أنه قد أنجز أهول آلة حربية عرفها الإنسان في الحرب ضد السلطة، والسنة الموروثة، وأن أصحاب الأمزجة القلقة لن يحسبوا حسابًا لتحفظاته، ولكنهم سيُعملون تلك الآلة غير هيَّابين سلطة الكنيسة ولا سلطة الدولة، وهما قيمتان من قيم الماضي كان بوده لو يصونهما، وإذن فنحن لا نقيم وزنًا ﻟ «صراحة» ديكارت، وهو إلى ذلك يسرف في التظاهر بها، وحينئذ فالمسألة باقية بتمامها: لِمَ يروي لنا حكاية حاله؟ إن المسألة لخطيرة، وهي تمس فكر ديكارت في صميمه.

إني أعتقد أنه يصدر عن أسباب عميقة جدًّا هي معارضة، تمام المعارضة، للأسباب الواهية التي يذكرها لنا، فإن هذه الأخيرة تتضمن أن المنهج الديكارتي — ذلك المنهج الذي يقول عنه ديكارت في العنوان الأصلي للكتاب: إنه كفيل ﺑ «إبلاغ الطبيعة الإنسانية أعلى كمالها» — ليس إلا قيمة شخصية ذاتية، وأنه قد يفيد الواحد ولا يفيد الآخر، وما من شيء أبعد عن المذهب الديكارتي من كل هذا.

وهي تتضمن كذلك أن لكل أحد أن يختار من هذا المنهج ما يعجبه، أن يأخذ شيئًا ويدع شيئًا، وإنا نكرر القول أن ليس شيء أبعد من هذا عن المذهب الديكارتي، فإن المنهج، منهج الشك، والأفكار الواضحة، كتلة واحدة لا تتجزأ، هو «المنهج»؛ أي «الطريق»، الطريق الوحيد الكفيل بتحريرنا من الضلال والتأدي بنا إلى معرفة الحق.

أجل، إن منهج ديكارت لا يصلح لأن يُطبق تطبيقًا عامًّا، وإن الطريق الذي اتبعه لا يصلح لأن يسلكه كل إنسان، وديكارت لا يعرضه على أنه نموذج يجب على كلٍّ أن يحاكيه؛ ذلك لأنه طريق شاق جدًّا، طويل جدًّا، خطر جدًّا، لا يفيد إلا الذي أوتي القوة اللازمة لسلوكه إلى النهاية. أما الآخرون، أولئك الذين «يعتقدون في أنفسهم أكثر مما لهم من الحصافة، فلا يتمالكون أنفسهم من التسرع في أحكامهم، ولا يملكون من الصبر ما يلزم لقيادة جميع أفكارهم بنظام»، والذين «قد أوتوا من العقل، أو من التواضع ما يكفي لأن يحكموا بأنهم أقل مقدرة على تمييز الحق من الباطل من بعض آخرين يستطيعون أن يتتلمذوا لهم، فيقنعوا باتباع آرائهم دون أن يحاولوا كشف آراء خير منها بأنفسهم»، أما هؤلاء وأولئك فإن المثل الديكارتي لا يلائمهم بحالٍ؛ إنه يضرهم لأنهم «إذا اعتزموا أن يشكوا في المبادئ التي تلقوها، وأن يحيدوا عن الطريق المألوف فلن يستطيعوا الاهتداء إلى الطريق الضيق الذي ينبغي سلوكه للسير سيرًا قويمًا، فيظلون ضالين طول حياتهم، ويكاد يكون العالم مؤلفًا من هذين الصنفين من العقول»؛ وإذًا فليس يكتب ديكارت لهم، ليس يكتب للعامة، ولكنه يكتب للحاصلين على القوة اللازمة الذين يستطيعون اتباعه للنهاية، كذلك القديس أوغسطنيوس لم يكتب ترجمة حياته للعامة؛ أي قصة عودته إلى الله.

وإذا كان ديكارت يقص علينا في «المنهج» — وهو كتاب الاعترافات الديكارتية — ترجمة حياته الروحية، وحكاية عودته إلى الروح، فإنه لم يقصد من ذلك إلى أن يظهرنا على ما فيه من شخصي فردي، ولكنه على العكس يقص علينا ليجعلنا نرجع إلى أنفسنا، وليبين لنا في هذه القصة الشخصية موجز حال الإنسان في عصره، وليبعثنا على إتيان الأفعال التي يستطيع بها الإنسان أن يتغلب على داء زمانه.

هذا الداء وهذا الحال يمكن التعبير عنهما بلفظين: شك، وفوضى، وهما حالتان نفسيتان يستطاع تفسيرهما بسهولة؛ فقد كان القرن السادس عشر فترة هامة جدًّا في تاريخ الإنسانية، فترة ثراء فكري عظيم، وتحول عميق في موقف الإنسان من الوجهة الروحية، فترة تتملكها رغبة قوية في الاستكشاف؛ استكشاف في المكان، واستكشاف في الزمان، ورغبة في الجديد، ورغبة عن القديم.

استخرج العلماء جميع النصوص المدفونة في مكتبات الأديرة القديمة، قرءوا كل شيء، ودرسوا كل شيء، ونشروا كل شيء، بعثوا جميع ما كان لقدماء فلاسفة اليونان والشرق من المذاهب المنسية: مذهب أفلاطون، ومذهب أفلوطين، الرواقية، والأبيقورية، الشك، والفيثاغورية، والمذاهب السرية من وثنية ويهودية.

وحاول العلماء إقامة علم جديد، علم طبيعي جديد، وعلم جديد للفلك، وجاب الرحالون والمجازفون أنحاء القارات والبحار، فكونت روايات أسفارهم علمًا جديدًا للجغرافيا ولخصائص الشعوب.

فكان من ذلك تكبير إلى حدٍّ بعيد لصورة الإنسان والعالم من الوجهات التاريخية والجغرافية والعلمية، وكان من ذلك غليان مختلط خصب لأفكار جديدة وأفكار مجددة، وكان بعث لعالم منسي، وميلاد لعالم جديد، ولكن كان أيضًا نقد وزعزعة، وأخيرًا هدم وموت تدريجي للعقائد القديمة والتصورات القديمة، والحقائق القديمة التي كانت توحي للإنسان اليقين بالعلم والأمن في العمل، والاثنان متلازمان، فإن الفكر الإنساني جدلي في الأكثر، أو في الأكثر تقوم الحقائق الجديدة على أنقاض الحقائق القديمة.

ومهما يكن من أمر هذه القضية العامة فهي صادقة بالإضافة إلى القرن السادس عشر؛ إذ إنه هدم في كل شيء، هدم وحدة أوروبا السياسية والدينية والروحية، هدم نفوذ العلم ونفوذ الإيمان، هدم سلطة الكتب المقدسة، وسلطة أرسطو، وسلطة الكنيسة، وسلطة الدولة، وسلطة الجامعة.

ركام من النفائس وركام من الأنقاض، تلك هي نتيجة ذلك النشاط العنيف المختلط الذي خرب كل شيء، ولم يعرف أن يبني شيئًا، أو على الأقل لم يعرف أن يتم شيئًا؛ لذلك نرى الإنسان وقد حرم معاييره الموروثة للحكم والاختيار، يحس أنه ضل السبيل في عالم أصبح قلقًا وانتفى منه اليقين وصار فيه كل شيء ممكنًا، فبرز الشك شيئًا فشيئًا؛ إذ إنه كان كل شيء ممكنًا، فمعنى ذلك أن ليس شيء حقًّا، وإذا لم يكن شيء محققًا فمعنى ذلك أن ليس شيء حقًّا، وإذا لم يكن شيء محققًا فمعنى ذلك أن الخطأ وحده مؤكد.

لست أنا الذي يستخرج هذه النتيجة من المجهود البديع الذي بذله عصر النهضة، ثلاثة رجال من أبناء ذلك العصر استخرجوها من قبلي هم: أجريبا، وسانشير، ومونتاني.

أما أجريبا ففي سنة ١٥٣٧ بعد أن استعرض جميع العلوم أعلن الشك فيها، وأما سانشير فبعد أن نقد قوتنا الفكرية كرر الحكم سنة ١٥٦٢ «بأنَّا لا نعلم شيئًا»، وتشدد فقال: «إنا لا نستطيع أن نعلم شيئًا، لا العالم ولا أنفسنا.» وأخيرًا مونتاني يطفح الكيل فيقول: الإنسان لا يعلم شيئًا؛ لأن الإنسان ليس شيئًا.

إن في أمر مونتاني بنوع خاص لعبرة وعجبًا: هذا الهادم الكبير لم يهدم في الواقع إلا على الرغم منه. كل ما أراد هدمه بادئ ذي بدء إنما هو الخرافة والخطأ والتعصب للرأي الخاص الذي يدعي أنه على حق، ويعتقد ذلك بدون دليل. ولم يكن الذنب ذنبه إذ تركه صفر اليدين، فالواقع أن كل شيء إنما هو «ظن» في عالم يسوده الشك.

ويحاول مونتاني حينئذ أن يقوم بالمناورة السقراطية، تلك المناورة المعروفة التي تحاولها الفلسفة متى أحست الضيق واليأس، فإن الفلسفة تحاول دائمًا أن تعطينا جوابًا عن هذين السؤالين: «ما الوجود؟» و«ما أنا؟» أو إن شئتم: «أين أنا؟» و«ما أنا؟» أنا الذي يضع هذا السؤال.

ففي العصور السعيدة تبدأ الفلسفة بما هو موجود بالعالم، ومن النظر في العالم تحاول أن تجيب عن سؤال: «ما أنا؟» وذلك بالبحث عن المكان الذي يشغله الإنسان في «سلسلة الوجود الكبرى» في النظام الوجودي، ولكنها في أوقات الأزمة؛ إذ يخيم الشك على الوجود، يتفكك العالم وينحل أجزاء، تتجه نحو الإنسان وتبدأ بسؤال: «ما أنا؟» وتسأل ذلك الذي يسأل.

وهذا هو ما يفعل مونتاني فإنه يدع جانبًا العالم الخارجي، وهو موضوع ظن، ويحاول أن يخلو إلى نفسه، وأن يجد فيها أساس اليقين والمبادئ الوطيدة للحكم أي للتمييز بين الصواب والخطأ.

هذا هو السبب الذي من أجله يدرس نفسه ويصفها ويحللها، وهو يطلب في أحوالها المتغيرة المتنوعة أساسًا متينًا يسند إليه معيار الحكم، وإني أكرر القول أن ليس الذنب ذنبه؛ إذ لم يجد شيئًا هنا أيضًا؛ إذ لم يجد سوى الشك والفراغ والانتهاء والموت.

أمام هذا الفراغ ماذا سيصنع؟ لن يصنع شيئًا أصلًا، هو يسلم بإخفاقه، يسلم بحاله كما هو وكما كشفه له التحليل، وما العمل حيث قد امتنع العمل؟ اللهم إلا أن يعدل المرء عن الأمل المستحيل وأن يسلم بالواقع؟ أما أن يعود القهقرى، وأن يثور في نوبة من اليأس، وأن يحاول رتق حجاب الوهم الذي مزقه، فقد كان مونتاني أخلص طَوِيَّةً وأقوى نفسًا وأذكى عقلًا من أن يصنع ذلك، ليس كتابه «رسالة في اليأس»، وإنما هو «رسالة في الزهد».

على أن الشك لا يصلح موقفًا للحياة، وهو إن طال أضحى موقفًا لا يُطاق، إن «وسادة الشك اللينة» صلبة جدًّا، وليس يستطيع الإنسان أن يعدل نهائيًّا عن اليقين، عن «طمأنينة الحكم» كما يقول ديكارت، إنه بحاجة لليقين لكي يحيا، كي يدبر سيرته في الحياة؛ لذلك بدت حركة مقاومة منذ نهاية القرن السادس عشر على أيدي شارون وبيكون وديكارت: الأول يمثل الإيمان، والثاني التجربة، والثالث العقل.

الحق أن ليس لدى شارون ما يعارض به مونتاني اللهم إلا أن الحالة التي كشفها لا تحتمل، وأنها تؤدي بنا إلى اليأس، إذا كان العقل عاجزًا عن تخليصنا فبئس مصيره، بل نعم المصير إذ يبقى لنا الإيمان.

أجل إن نقد مونتاني قد هدم أسس اللاهوت المدرسي، والأساليب المعروفة في الدفاع عن الدين، والأدلة المألوفة على الحقيقة الدينية، ولكن شارون يعترض فيقول: إن النقد الشكي يهدم نفسه؛ ذلك أنه إذا كانت الأدلة المؤيدة غير صالحة فإن الأدلة المعارضة غير صالحة كذلك، فهو أمام شك العقل الطبيعي يقيم يقين الإيمان الفائق الطبيعة.

لم يلقَ موقف شارون هذا، المؤلف من إيمان بالوحي وشك في العقل، نجاحًا يُذكر، وهذا أمر مفهوم، فإن «العاطفة الدينية» كانت شيئًا مجهولًا إلى حد ما في عصره، ولم يكن الإله في ذلك العصر موضوع شعور باطن، لم يكن بسكال قد وضعه بعد على هذا النحو، ولكنه كان إلهًا معقولًا، وسيقول ديكارت في «رسالته إلى أساتذة السوربون»:

ولو أنه من المحقق أنه يجب الإيمان بالله؛ لأن الكتب المقدسة تعلم ذلك، وأنه من جهة أخرى يجب الإيمان بالكتب المقدسة؛ لأنها صادرة عن الله، فليس يمكن عرض ذلك على غير المؤمنين (على الشكاك، والزنادقة)؛ إذ قد يتصورون أن في هذا القول الغلط الذي يسميه المناطقة بالدور.

لذلك لم تقف «حكمة» شارون حركة الشك، بل بالعكس صارت أصلًا له.

كان شارون رجل دين، وكان بيكون رجل دولة وجه عنايته لا إلى اليقين الديني ومصير الإنسان في العالم الآخر، بل إلى «تقدم» العلوم والمخترعات النافعة، وإلى مصير الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لم يكن يتوق إلى السعادة الأبدية، بل إلى رغد الحياة؛ لذلك لم يلتمس دواء شرور الحاضر في الماضي، بل في المستقبل.

هو يسلم بنقد الشاك، ولم يوفق أحد مثله في تصنيف الأخطاء الإنسانية والكشف عن أصلها في الطبيعة والمجتمع جميعًا، ولم يكن أحد أقل ثقة منه في قوة العقل الذاتية.

أجل إن العقل — العقل النظري — مريض عاجز مشحون بالأوهام والأخطاء، وبيكون يذعن لذلك، إن ما يهمه، إن ما يهم الإنسان في رأيه، ليس النظر والتأمل بل العمل؛ لأن الإنسان فاعل قبل أن يكون مفكرًا؛ لذلك إنما توجد الأسس الوطيدة للعلم — بالإضافة إلى الإنسان — في العمل والتجربة. العقل النظري هو «مجنون الدار»، يَضِلُّ حالَمَا يترك التجربة؛ لذلك كان الواجب منعه من الاسترسال في الضلال، وتثقيله بقواعد عديدة محكمة، والهبوط به قسرًا إلى أرض التجربة الثابتة.

التجربة: ذلك هو الداء الذي يصفه بيكون، وليس لكتابه «المنطق الجديد» من غرض سوى معارضة شك العقل المتروك لنفسه بيقين التجربة المنظمة.

وقد اعتقد بيكون أنه أصاب هدفه، وكتابه اللامع في «تقدم العلوم وكرامتها» إنما هو رد، حتى بالعنوان، على كتاب أجريبا اليائس المطمئن إلى اليأس.

وصادف الحل الذي جاء به نجاحًا عظيمًا، على أن هذا النجاح كان أدبيًّا بحتًا؛ لأن بيكون لم يضع ذلك العلم الجديد، العلم العملي، الذي أعلنت عنه كتبه، ولم يضعه أحد من بعده، والسبب بسيط: هو استحالة الأمر.

إن التجربة البحتة لا تؤدي بنا إلى شيء، لا تؤدي بنا حتى إلى التجربة، فإن كل تجربة إنما تستند إلى نظرية سابقة، التجربة سؤال نلقيه على الطبيعة، فهي تقتضي لغة نلقيه بها، فأخفق بيكون في إصلاحه لأنه لم يدرك هذه النقطة، ولأنه أراد «أن يتبع نظام الأشياء بدل أن يتبع نظام الأدلة» على حد تعبير ديكارت، وأفلح ديكارت في ثورته؛ لأنه أدرك تلك النقطة وسلك طريقًا معارضًا فحرر العقل بدل أن يعوق سيره.

أيها السادة!

لقد فرضت عليكم هذا الاستطراد التاريخي الطويل؛ لأنه بدا لي ضروريًّا كل الضرورة لتحديد مكان «المقال في المنهج» من التاريخ، والبيئة التي يجب وضعه فيها لكي نفهمه، فإني أعتقد أنَّا نسيء فهم «المقال» بل فهم ديكارت، إذا نحن لم نَرَ ظل مونتاني القوي منتشرًا عليهما.

إن لديكارت خصمين: أرسطو، والفلسفة المدرسة، على أنهما ليسا الخصمين الوحيدين، كما ردد البعض وكما سبق لي أن قلت، كان سلطانهما قد تزعزع فأراد ديكارت أن يحل محلهما، لا أن يحاربهما، إن له خصمًا آخر هو مونتاني، ولعله أقوى الخصوم، ومونتاني هو في نفس الوقت المعلم الحقيقي لديكارت.

إن ديكارت يتم مهمة مونتاني ويبلغ بها الغاية، تلك المهمة الهادمة المحررة، وأعني بها مهاجمة الخرافات والأوهام وما في الفلسفة المدرسية من ظاهر العقل، فإنه يحيل الشك منهجًا ويسنده إلى يقين الحقيقة بعد استعادتها، فيجعل منه بين يديه محكًّا وآلة فعالة للنقد ووسيلة لتمييز الصواب من الخطأ، إن ديكارت يقتفي أثر مونتاني في الرجوع السقراطي إلى النفس، ويسبقه ويمضي بالتحليل إلى غايته.

هو يحارب شك مونتاني ويدفع به أيضا إلى غايته، وهذه هي عظمته، أي هذا التشدد الذي لا يلين ولا يخطئ، وهو فضيلة نادرة جدًّا تقتضي أكثر من صفات عقلية عادية بالغة ما بلغت، هو فضيلة تتطلب إقدامًا وشجاعة وعزيمة صادقة تأبى الوقوف في الطريق، وتمضي في سبيلها مهما يكلفها ذلك، مقتحمة العقبات غير مبالية بالتناقض الظاهر.

إنما استطاع ديكارت أن ينجو من تعاريج الخطأ والشك؛ لأنه مضى إلى النهاية في كل مسألة، واستطاع أن يكشف بها الحرية الروحية، وأن يستعيد يقين الحقيقة العقلية، وأن يجد الله، حيث لم يجد مونتاني سوى الفراغ، هذا هو الغرض الحقيقي الذي توخاه ديكارت من «المقال»؛ أي أن يستعيد نفسه، وأن يدل فيما وراء الشك الهادم «للرأي العقلي» إلى طريق الوضوح وإلى يقين «المعرفة العقلية»، إن ديكارت يرد ﺑ «المقال» على «رسائل» مونتاني، ويعارض تاريخ مونتاني الروحي بتاريخه هو، إنه يعارض قصة هزيمة بقصة انتصار.

والآن نستطيع أن نتحدث عن «المقال» الجدير بأن يُسمى «طريق العقل إلى الحقيقة»، ولكن الوقت يضيق اليوم دون ذلك، فموعدنا الدرس الآتي نسلك معًا الطريق الذي رسمه لنا ديكارت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤