الدرس الثالث

في هذا الدرس الثالث والأخير سأتحدث إليكم في الميتافيزيقا عند ديكارت وفي مهمته، وسأضطر لمعالجة بعض المسائل التي مررت بها مرًّا سريعًا.

أبطأ ديكارت في العناية بالميتافيزيقا، فهو يقول: «وانقضت تسع سنين قبل أن أتخذ لي موقفًا من المسائل العسيرة التي يخوض فيها أهل العلم وأن أحاول تأسيس فلسفة أوكد من الفلسفة الشائعة.»

إن فكر ديكارت يتمشى على النظام الموروث بعد المنطق العلم الطبيعي، وبعد العلم الطبيعي الميتافيزيقا، وهذه ترضي حاجتين عنده: «الحاجة لليقين الديني والحاجة لليقين العلمي.»

أما الحاجة لليقين الديني فقد أجملت لكم في نهاية الدرس السابق الصورة الموئسة للعالم الديكارتي، عالم آلي بحت، مركب من امتداد وحركة فحسب، ليس فيه مكان للإنسان ولا لله.

وديكارت رجل متدين تدينًا عميقًا مخلصًا، أجل إنه متدين على طريقته الخاصة، ولكن من يدري؟ لعله خير الطرق؟ إن لدينا منه نصوصًا غاية في الغرابة. هاكم مثلًا نصًّا من مذكراته يرجع إلى عهد الشباب إلى عهد المدفأة:

ثلاث عجائب أبدعها الله: الخلق من عدم، والإنسان الإله (المسيح)، والحرية.

وقد نستطيع أن نعلق طويلًا على هذا النص، على الاختيار الغريب لما أبدع الله من أمور عجيبة، قد نستطيع أن نلاحظ أن هذه العجائب الثلاث أي الأمور الثلاثة المعارضة للعقل، أو بتعبير أدق الفائقة للعقل تشترك في شيء هو تلاقي اللامتناهي والمتناهي، فالخلق يعبر المسافة اللامتناهية الفاصلة بين العدم والوجود، والتجسد يجمع بين اللانهاية الإلهية والنهاية الإنسانية، وأخيرًا الحرية؛ فهي نوع من تحقيق اللامتناهي في المتناهي.

وهاكم نصًّا يرجع إلى عهد الكهولة، كتب ديكارت في ١٥ سبتمبر سنة ١٦٤٥ إلى الأميرة إليصابات تلميذته — ولعلها موضوع الحب الأكبر في حياته — قال:

من بين الأفكار الفطرية، الفكرة الأولى والأهم أن هناك إلهًا جميع الأشياء متعلقة به، كمالاته لا متناهية، وقدرته عظيمة، وأوامره لا تخطئ.

لنلاحظ جيدًا أن فكرة الله فطرية حاصلة للإنسان بالطبع وأنها ميزة له غير منفكة عنه، فإنَّا قد نستطيع أن نجد الإنسان في رأي ديكارت؛ إنه الموجود الحاصل على فكرة الله.

وهاكم نصًّا أقدم من السابق بخمس عشرة سنة، كتبه إلى مرسين في ١٥ أبريل ١٦٣٠:

إني أرى أن الذين منحهم الله العقل ملزمون باستخدامه خاصة في محاولة معرفة الله ومعرفة أنفسهم بهذا حاولت أن أبدأ دراساتي.

هذا كلام يشبه تمام الشبه كلام القديس أوغسطينوس: «أتوق إلى معرفة الله والنفس.» ولكن ديكارت ليس مؤمنًا بسيطًا، إنه مؤمن فيلسوف، هو لا يكتفي بالإيمان بالله، هو يرى مع جميع أهل عصره أن من الممكن والواجب البرهنة على وجود الله، والعلم الطبيعي الذي أنشأه قد هدم الأساس الذي تقوم عليه الأدلة الموروثة، أعني به تصور العالم كلًّا مرتبًا، وقد هدم منطقه هذه الأدلة في صيغتها المنطقية؛ إذ إنها قائمة على امتناع سلسلة لا متناهية بالفعل، فيجب البحث عن أدلة جديدة أو الرجوع إلى بعض الأدلة القديمة «بعد الملاءمة بينها وبين العقل».

إلى هذا الغرض سيوجه ديكارت جهده، يحثه على ذلك فيما يقول أن بعضهم كان قد أذاع أنه انتهى إلى غايته فأثبت وجود الله، ولكنه يضيف قائلًا بتواضع: «ولست أدري علام بنوا هذا الزعم؟ فإن كنت عاونت عليه بأقوالي، فذلك بإقراري بالجهل، في سذاجة لم يألف مثلها الذين أخذوا من العلم بنصيب أو بإعلاني ما لدي من أسباب الشك في أشياء كثيرة يراها الآخرون محققة لا بادعائي مذهبًا ما.»

وفي استطاعتنا أن نحدد المعلومات التي يقدمها لنا «المقال»، إن الثناء الذي كان يذاع حول ديكارت لم يكن خلوًا من كل أساس، أجل إنه لم يكن قد وضع مذهبه الميتافيزيقي بعدُ، ولكنه كان قد شرع منذ مدة في رسم برنامجه، كان مذهبه أكثر حرية وأقل استخدامًا للاستدلال من المذهب المدرسي، يعني خاصة بتعقل المبادئ، ويبحث عن الله في النفس كما كان قد فعل القديس أوغسطينوس، ويجتهد في استغلال كشفه الكبير، وأعني به تقدم اللامتناهي عند العقل، سيشرع في العمل لا ليصدق حسن ظن أصدقائه به فحسب، بل إن أصدقاءه يوجبون عليه ذلك في اجتماع عند سفير البابا الكردنيال دي بانبي، حيث ألقى ديكارت محاضرة فحتم عليه بيريل — مؤسس الجمعية الكهنوتية المعروفة «بأوراثوار» — أن ينتظم تحت لواء الله.

ماذا كان موضوع المحاضرة؟ إن بابييه أول مترجم لديكارت وراوي الخبر لا يذكر الموضوع، ولكنا نستطيع أن نفرض دون أن نستهدف كثيرًا للخطأ أن ديكارت عرض على مستمعيه بطلان الأسلوب المألوف في الدفاع عن الدين، وقال لهم: إن التحالف مع أرسطو كان نكبة، وإنه يتعين الرجوع القهقرى والصعود فيما وراء القديس توما الأكويني والفلسفة المدرسية إلى القديس أوغسطينوس.

وديكارت متفق في ذلك مع أهل عصره فقد كان العود إلى القديس أوغسطينوس حديث القوم، وكانت حركة أوغسطينية كاثوليكية قوية آخذة في التكوُّن بعد الحركة الأوغسطينية التي تمت على أيدي لوثيروس وكالفينوس.

وقد لحظ الأوغسطينيون دائمًا ما بين فكر ديكارت وفكر القديس أوغسطينوس من قرابة، ومنذ عهد ديكارت — فلنذكر أرنو ومالبرانشي — إلى أيامنا، ولحظوا كذلك ما بينهما من تعارض.

فإن من الخطأ اعتبار ديكارت مجرد تلميذ للقديس أوغسطينوس والناطق بلسان بيريل.

والواقع أن لعبارة القديس أوغسطينوس التي ذكرتها لكم: «أتوق إلى معرفة الله والنفس» بقية هي هذه «ولا شيء خلا ذلك، لا شيء مطلقًا»، ولكتاب ديكارت إلى مرسين الذي قرأت لكم بدايته بقية هي هذه: «وأقول لك إني لم أكن لأجد أسس العلم الطبيعي لو لم أبحث عنها بهذا الطريق.» أي بمعرفة الله والنفس.

يكفي القديس أوغسطينوس أن يعرف الله ونفسه، ولكن لا يكفي ديكارت أصلًا؛ هو بحاجة إلى علم طبيعي، وهو إنما ينشئ ميتافيزيقا ويتجه نحو الله ليستطيع أن ينشئ علمًا طبيعيًّا.

وهذا يعود بنا إلى ما ذكرته لكم من حاجة ديكارت الأخرى، حاجة اليقين العلمي، حاجة تسويغ أسس العلم الجديد تسويغًا ميتافيزيقيًّا، وقد يبدو هذا غريبًا لأول وهلة.

أليس العلم، العلم الحديث على الأقل، معارضًا للميتافيزيقا؟ أليس هو معتزًّا بسلطانه، أَوَليس ديكارت أحد مبدعيه؟ وديكارت يعلمنا عكس ذلك تمامًا، إنه يقول لنا: إن العلم بحاجة إلى ميتافيزيقا، بل يقول لنا ما هو أخطر من ذلك، يقول: إن العلم يجب أن يبدأ بالميتافيزيقا.

إن هذا أخطر؛ لأن ديكارت يقلب به «نظام العلوم» وكان قد أعلن أنه لا يريد أن يمسه، ولم يكن أحد قد نهج هذا المنهج منذ عهد أرسطو، بل كان الكل يبدأ بالعلم الطبيعي ليتأدى منه إلى ما بعد الطبيعة، إلى الميتافيزيقا.

ما هو السبب في هذه الثورة الديكارتية الجديدة؟ أهي الرغبة في التجديد؟ أم ديكارت يرى من الضروري أن يسير على نظام الأسباب دون نظام المواد، وأن يعلم أن «العلوم جميعًا تستمد مبادئها من الفلسفة»؟ هذا هو السبب من غير شك؛ فإن ديكارت، أو الفكر عند ديكارت، والأمر واحد، يجب أن يكون تركيبيًا لا تحليليًّا. الفكر الديكارتي يذهب من الأفكار إلى الأشياء، لا من الأشياء إلى الأفكار، ويذهب من البسيط إلى المركب، ويتقدم من وحدة المبادئ إلى كثرة الأنواع، فيتقدم من المجرد إلى المشخص، ويسير من النظر إلى العمل، لا كفكر أرسطو والمدرسيين الذي يذهب من عالم متنوع واقعي ليرتقي منه إلى وحدة المبادئ والعلل التي هي أساسه، فإن الواقع عند الفكر الديكارتي هو الموضوع البسيط للحدس العقلي لا موضوعات الإحساس المركبة.

ولكن هناك فوق ذلك سببًا أدق يلوح لي أنه لم يفقد كل قيمة، ذلك أن ديكارت إنما قام بثورته العلمية فنفى من الوجود الكيفيات والصور والنفوس النباتية والقوى الحيوية، وأثبت السيطرة الكلية للآلية في العالم الطبيعي بأن استبعد من العلم كما تذكرون كل فكرة غير «واضحة»، ومعنى هذا عنده كل فكرة «مجردة» من المحسوس، كل فكرة تحمل أثر المحسوس، ما من شيء واضح؛ أي ما من شيء يمكن عرضه بتمامه على العقل، إلا ما يتصوره العقل دون مشاركة المخيلة والحس أصلًا، وهذا يعني عمليًّا: ما من شيء واضح إلا ما هو رياضي، أو على الأقل ما يمكن وضعه وضعًا رياضيًّا.١

ولكن أي حق لنا في الخروج من الفكرة إلى الشيء كما يتطلب المنطق الديكارتي؟ هل وضوح الفكرة يخولنا هذا الحق؟ قد لا يكون للوضوح إلا قيمة ذاتية، وقد لا تكون للفكرة الواضحة، الواضحة بالإضافة إلينا، إلا علاقة بعيدة جدًّا بالوجود كما هو في ذاته، بل قد لا تكون لها به علاقة أصلًا، وخاصة إذا كان العقل يجدها في نفسه كما يؤكد لنا ديكارت، فإن وضوح الفكرة شيء ووجود موضوعها شيء آخر، قد نستطيع أن نتصور أفكارًا وأفكارًا واضحة عن أشياء هي مع ذلك غير موجودة بل ممتنعة الوجود، فمثلًا — بصرف النظر عن موضوعات الهندسة كالمثلثات والدوائر والخطوط — أليس لدينا فكرة واضحة جدًّا عن الحركة في خط مستقيم؟ فهل يلزم من ذلك وجود مثل هذه الحركة في العالم الواقعي؟

وضوح الفكرة مزية لها عند عقلنا، ولكن كيف السبيل إلى التحقق من أن الوجود الواقعي يطابق مقتضياتها؟ وما القول إذا اتفق أن كان الوجود الواقعي غامضًا معارضًا للعقل ممتنع التصور؟

يستند ديكارت إلى ما للأفكار الواضحة من امتياز؛ فيستبعد من العالم الواقعي — من العالم كما هو موجود في ذاته مستقلًّا عنا وعن عقلنا — كل كيفية محسوسة وكل قوة وكل صورة، وبالإجمال كل ما ليس آليًّا، ويرد العالم إلى الامتداد والحركة ليس غير، فهل يملك الحق في ذلك؟ ليس هذا السؤال فضولًا، ولم يفقد قيمته، وإنما يثير مسألة قيمة المذهب الرياضي، وهي مسألة هامة في الوقت الحاضر.

فلنفكر في الأمر: يعلمنا ديكارت أنه لأجل معرفة الوجود — الوجود الطبيعي كما هو في ذاته وخارجًا عنَّا — يجب علينا بادئ ذي بدء أن نرفض كل ما يأتينا أو يبدو لنا آتيًا من خارج؛ أي عن طريق الإدراك الحسي، والذي لا يمكن إلا أن يوقعنا في الخطأ، وأن نمحو عالمنا المألوف — فإن الذوق العام هو العدو — وننفي من الوجود كل ما يلوح لنا عادة أنه جزء منه: اللون والحرارة، بل الصلابة والثقل.

لأجل معرفة الوجود يجب أن نبدأ بأن نغمض أعيننا ونسد آذاننا ونعدل عن اللمس؛ يجب أن نتخذ طريقًا معارضًا فنتجه نحو أنفسنا ونبحث في عقلنا عن أفكار واضحة له، فإن هذه هي اللغة التي تفهمها الطبيعة، وبهذه اللغة — لغة الرياضيات — تجيب الطبيعة عن الأسئلة التي قد يلقيها عليها العلم في تجاربه، أليس هذا شيئًا غريبًا؟ بل من أبعد الأشياء عن التصديق وأمعنها في الإغراب؟

لا عجب أن أحدًا من العقلاء لم يستطع قط تسليمه، وبالأخص أرسطو، كان يلزم لتسليمه رجل مثل ديكارت أو مثل أفلاطون.

أجل لم يشك أحد قط — جادًّا — في قيمة الرياضيات وحقيقتها الذاتية، بل إن كل الناس، وأرسطو في مقدمتهم، سلموا بما لها من دقة ويقين. على أن هذه الدقة وهذا اليقين هل يتضمنان أن قوانين الهندسة هي أيضًا قوانين العالم الطبيعي، وأنه يتعين في دراسة الطبيعة البدء بدراسة الهندسة؟

كلا، بل إن أرسطو يقول لنا إن الأمر على خلاف ذلك، إن دقة الهندسة وضبطها يفسران بأنها لا تُعنَى إلا بالمجردات، بالموجودات الذهنية، ليست الدوائر والخطوط المستقيمة موجودات طبيعية، وما الفضاء الأوقليدي ذلك الفضاء اللامتناهي سوى فضاء غير واقعي، لا يوجد إلا في ذهننا.

والواقع ليست الهندسة عند أرسطو والمدرسيين إلا علمًا مجردًا، مجردًا من الوجود الواقعي الذي إن أعوزته الدقة والضبط إلا أنه غني مليء بجميع الكيفيات التي يدركها فيه الحس؛ لذلك لن تستطيع الهندسة تفسير الوجود الواقعي، وليست قوانينها مسيطرة على الطبيعة، بل بالعكس أن تطبيقها فيها يتفاوت دقة، وهو أقرب إلى عدم الدقة منه إلى الدقة، وإذن فليست دراسة الهندسة تسبق دراسة العلم الطبيعي، ولكنها تلحقها.

العلم الذي من النوع الأرسطوطالي الذي يبدأ بالذوق العام ويقوم على الإدراك الحسي ليس بحاجة لأن يستند إلى ميتافيزيقا، إنه يؤدي إليها ولا يبدأ منها، أما العلم الذي من النوع الديكارتي الذي يقرر قيمة حقيقية للمذهب الرياضي ويشيد علمًا طبيعيًّا هندسيًّا فلا يستغني عن الميتافيزيقا، ولا يسعه أن يبدأ إلا بها، لقد كان ديكارت يعلم ذلك، وكان أفلاطون وهو أول من وضع علمًا من هذا النوع يعلمه أيضًا.

لقد نسينا ذلك، وعلمنا يتقدم دون أن يُعنَى كبير عناية بأسسه الخاصة، هو يكتفي بالنجاح إلى أن تنتابه أزمة — أزمة مبادئ — فتكشف له أن ثمة شيئًا ينقصه؛ هو أن يفهم ما هو صانع.

وديكارت فيلسوف يهمه قبل كل شيء أن يفهم ما هو صانع، فهو سيحاول إذن أن «يؤسس» علمه الطبيعي ومنطقه و«منهجه»، ولكي يحقق هذا الغرض ولكي يتوفر في هدوء على مذهبه الميتافيزيقي يرحل مرة أخرى ١٦٢٩ إلى هولندا.

الميتافيزيقا علم الوجود، وعلم معرفتنا بالوجود، فلأجل أن نستطيع تشييدها وتأسيس العلم الطبيعي كعلم وجودي، نحن بحاجة إلى كشف نقطة — نقطة واحدة على الأقل — يدرك فيها علمنا الوجود، أو بعبارة أوضح، نقطة يلتقي فيها علمنا والوجود، لأجل ذلك يجب الرجوع إلى منهج الشك نزيد، فيه تشددًا وعنفًا عما فعلناه في المرة الأولى.

في تلك المرة الأولى، حين حاولنا أن نراجع أفكارنا جميعًا، وقفنا عند «الأفكار الواضحة الجلية» ونجت الرياضيات من نقدنا، أما الآن فسنذهب إلى أبعد من ذلك، وسيشتمل الشك حتى الرياضيات.

سننهج بغاية الدقة، فننكر كل علم نتبين فيه خطأ واحدًا، بل إمكان الخطأ، وإذن فنحن ننكر الحس من حيث إنه يخدعنا أحيانًا، ونستبعد بالإجمال دعواه إدراك الوجود من حيث إن الجنون «التخييل» والحلم يبطلان ما لهذه الدعوى من قيمة كلية.

ونحن ننكر الاستدلال والحدس العقلي نفسه من حيث إنَّا نخطئ أحيانًا في الحساب وفي البراهين الهندسية، إن في وسع من يخدعنا مرة أن يخدعنا دائمًا، وننكر أن لدعوى الأفكار الواضحة الجلية قيمة وجودية من حيث إن هذه المسألة هي بالذات موضوع البحث.

ونحن نخترع أسبابًا للشك — نخترع سببًا يكاد يكون مانويًّا فنفرض أن روحًا خبيثًا قديرًا يخدعنا دائمًا وفي كل موضوع، ولنلاحظ جيدًا أننا إنما نقبل هذا الفرض القاسي ونقرر الشك مريدين أحرارًا.

قد سبق لي القول — ولا يخلو تكراره من فائدة: إن الفلسفة الديكارتية تبدأ بفعل حر، الإنسان حر؛ فهو يستطيع أن يقول: «لا»، للميل الطبيعي الذي يدفعه لتصديق ما يرى ويسمع، وأن يمتنع عن اتباع ما للمحسوس من أثر قوي، وأن يتخلص من سلطان جسمه وعاداته، وبالجملة من سلطان طبيعته.

لا تبرهن فلسفة ديكارت على حرية الإرادة الإنسانية، ولكنها «تفرضها» وتدلل عليها بنفس وجودها، كما كان ديوجانس يدلل على الحركة بالمشي، فلأننا أحرار، ولذلك فقط، نستطيع التحرر من الخطأ والبلوغ بحرية إلى الوضوح الأعظم للعقل وقد استعاد نفسه تمامًا، تلك هي الفائدة في رياضة أنفسنا على الشك المطلق.

فإنَّا إذا مضينا بالشك والإنكار إلى الحد الأقصى فسلمنا أننا نخطئ دائمًا وفي كل موضوع فنحن منتهون حتمًا إلى أنِّي أنَا الذي يخطئ موجود لكي أستطيع أن أخطئ، وإذا سلمنا من جهة أخرى بأن جميع أفكاري كاذبة فمن المحقق أني حاصل على هذه الأفكار.

فاليقين بوجودي يثبت لكل مجهودات الشك، وهذا هو الذهب الخالص الذي لا تقوى الأحماض على النيل منه، إن الحكم بأني موجود حكم صادق كلما نطقت به، وكذلك كلما ألفت حكمًا وكلما شككت أو أخطأت كان وجودي متضمنًا ومطويًّا في جميع أحكامي وأفكاري وأفعالي؛ أي حالاتي النفسية، إن الفكر يتضمن الوجود، وإن «أنا موجود» لازم مباشرة من «أنا أفكر» وديكارت يقول لنا: «أنا أفكر إذن فأنا موجود.»

وإذن أنا أفكر وأنا موجود، ولكن ما أنا؟ أنا موجود يفكر ويشك وينفي، وهذا يكفي ديكارت لأن الموجود الذي يفكر ويشك فهو موجود ناقص متناهٍ، وهو فوق ذلك يعلم أنه ناقص متناهٍ.

كيف يستطيع أن يعلمه؟ كيف يستطيع أن يدرك — وأن يدرك بوضوح — تناهيه ونقصه إن لم يكن حاصلًا في ذاته على فكرة موجود كامل غير متناهٍ؟ كيف يستطيع أن يفهم نفسه إن لم يكن حاصلًا في ذات الوقت على فكرة الله؟

والواقع أن المنطق الديكارتي يعلمنا أن فكرة المحصلة والأولى، الفكرة التي يتصورها العقل بذاتها، ليست كما يعتقد العامة ويعتقد المدرسيون، فكرة المتناهي، بل بالضد، هي فكرة اللامتناهي، وليس يكون العقل فكرة اللانهاية بنفي تناهي المتناهي، بل بالضد إنما يتصور العقل فكرة المتناهي باستخدام النفي لوضع حد لفكرة اللانهاية.

إن العامة تنخدع باللغة التي تخلع اسمًا معدولًا على فكرة محصلة (وبالعكس)، ولكن اللغة خادعة، وهي إنما تُخاطب الذوق العام، كما أن الذوق العام هو الذي يضعها، فعند الذوق العام وعند المخيلة اللامتناهي ممتنع الإدراك من غير شك، عند العامة المتناهي أول، أما اللامتناهي فلا تبلغ إليه، وهذا هو خطأ المنطق القديم، ذلك الخطأ الذي يفسد كل الفلسفة القديمة: أي الجهل بالفكر المحرر من قيود التخيل، وبالإجمال الجهل بالفكر الحقيقي، فعند هذا الفكر، عند العقل الديكارتي، النسبة معكوسة: هو يتصور الكامل قبل الناقص، واللامتناهي قبل المتناهي، والامتداد قبل الشكل، إنه يعلم أن الفكرة الواضحة عن المتناهي تتضمن وتحوي فكرة اللانهاية.

كل هذا يؤدي إلى قضية تثير العجب: هي أن عندنا فكرة واضحة عن الله، وسينكر العامي ذلك من غير شك، وله بعض العذر؛ إذ إنه خلو من الأفكار الواضحة، وكل ما عنده خليط مضطرب من الصور والمعاني المجردة؛ لذلك هو خلو من فكرة واضحة عن نفسه وعاجز عن الإجابة عن سؤال: ما أنت؟

ومع ذلك فهو حاصل على فكرة الله وفكرة النفس، ولكنهما عنده غامضتان تغطيهما طبقة من الأفكار المختلطة التي تحجب ضوء العقل، تلك الطبقة التي كانت مهمة الشك المنهجي إزالتها.

الآن نحن نعلم أننا موجودون، ونعلم ما نحن، نحن موجود ناقص متناهٍ، موجود يفكر، بل موجود كل ماهيته أنه يفكر، وموجود حاصل على فكرة واضحة عن الله.

هذا يكفي، أو على الأقل بالإضافة إلى ديكارت فهو مستطيع أن يبرهن على وجود الإله الكامل غير المتناهي.

ليس بإمكاني أن أدرس هنا أمامكم البراهين الديكارتية على وجود الله من حيث تركيبها الفني ومصادرها، لقد سبق لي هذا الدرس في كتاب يرجع إلى عهد الشباب، وهو درس طويل جدًّا وعلى شيء من التعقيد دون فائدة تُذكر، فإن الأساس الحقيقي لهذه البراهين ومعناها العميق بسيطان جدًّا، كما يقول ديكارت نفسه؛ وذلك أن «الشعور بالذات يتضمن الشعور بالله.» عندنا فكرة عن الله، وهي فكرة فطرية بدونها نحن غير مفهومين، فقد قلت: إن الإنسان عند ديكارت ما هو إلا الموجود الحاصل على فكرة الله، هذه الفكرة بسيطة واضحة، بل هي أبسط وأوضح أفكارنا جميعًا، هي من الوضوح والبيان بحيث تشمل وجود الله، إن الله هو الموجود الكامل اللامتناهي، فلا يمكن تصوره غير موجود، إنه موجود بفضل كماله اللامتناهي.٢

وفكرة الموجود الكامل هذه، البديعة الغنية، تفوقنا إلى حد أنه لا يمكن أن تصدر عنَّا نحن الضعفاء المتناهين الناقصين، ولا يمكن أن تأتينا إلا من عند الله، وإذن فهذا يقين ثانٍ، وهذه فكرة واضحة ثانية لا ينالها الشك، موضوعها حقيقي بلا ريب: إن الله موجود لأني موجود، أنا الحاصل على فكرة الله.

الأمر بسيط جدًّا كما ترون، ومع ذلك فهو عسير للغاية؛ لأنه لكي نفهم هذا البرهان البسيط يجب علينا أولًا أن نطهر العقل ونجعله كفؤًا لإدراك المعاني العقلية، وما لم نصنع ذلك، وما دام ضوءنا الطبيعي محجوبًا بأفكار مزعومة آتية من المحسوس، ومشحونًا بمعانٍ مجردة، ومتبعًا منطق المتناهي، فليس يستطيع أن يفهم نفسه، وليس لديه فكرة واضحة عن الله، فلا بد له من اجتياز الشك، والشك رياضة روحية حقيقية — رياضة طويلة عسيرة يجب تكرارها كثيرًا.

الآن فقط تحررنا من الشك تمامًا، الله موجود: هذه حقيقة أكيدة، والله هو الذي وهبنا الوجود وعنه صدرت أفكارنا، والموجود الكامل لا يمكن أن يخدعنا، وإذن فأفكارنا الواضحة البسيطة صادقة؛ أي إنها تصلح لأن تكون أساسًا لأحكام وجودية، وتسمح لنا بالتأدي من الفكرة إلى الموضوع، إن أفكارنا الواضحة البسيطة تكشف لنا الوجود كما هو، كما خلقه الله، فنحن نستطيع الآن أن نفهم هذا التوافق بين الوجود والفكرة؛ إنه آتٍ من الله، إن الله خالق الوجود والفكرة وهو الموفق بينهما، وهو ضامن حقيقتهما وضامن كل حقيقة، فالثقة بعقلنا قائمة عند ديكارت على ثقتنا بالله، والملحد لا يستطيع أن يحصل على مثل هذه الثقة، ولا يستطيع أن يستيقن من شيء، أما نحن وقد وثقنا بالله وبعقلنا، واستندنا إلى صدق الله، فنستطيع أن نمضي إلى أبعد من ذلك، نستطيع أن نعيد تصنيف أفكارنا وتعيين ما لها من قيمة نسبية، حتى الأفكار غير الواضحة، حتى التي أتت من المحسوس فكانت غامضة بالمرة، نستطيع أن نفهم مهمتها وأن نضعها في مواضعها.

وجود الله ضامن لقيمة الأفكار الواضحة البسيطة، ضامن لفكرتي الامتداد والحركة اللتين بدأنا بهما، فأصبح العلم الطبيعي وطيدًا، وكذلك الشعور بالذات. وكوني استطعت أن أفهم نفسي قبل أن أعلم شيئًا من العالم الممتد يدلني على أني؛ أي على أن نفسي غير متعلقة بالعالم الممتد، لست ممتدًا في ذاتي، أنا حاصل على جسم ولكني لست إياه، أنا شيء أعظم من الفضاء اللامتناهي الذي يدركه عقلي فإني حرية وروح، وليس الروح مادة، وليس بيني وبين المادة شبه ولا علاقة، وعالم الفضاء اللامتناهي لا يشعرنا بعد الآن أي خوف، بل بالعكس هو يكشف لديكارت قدرة الله غير المتناهية.

والآن ماذا يبقى من كل هذا، من المجهود الهائل الذي بذله هذا العبقري؟ يبقى كل شيء أو لا يبقى شيء كما تشاءون، لا يبقى شيء من عمل ديكارت، ويبقى كل شيء من روحه.

لا يبقى شيء يُذكر من الميتافيزيقا، وقد لحقت أدلته على وجود الله أدلة أرسطو والقديس توما في عالم الأوهام، ومع ذلك فإن الاكتشاف الديكارتي الكبير — اكتشاف تقدم اللامتناهي عند العقل — باقٍ، من الحق أن الفكر يتضمن اللامتناهي، وأن كل فكر متناهٍ فهو لا يستطيع أن يدرك ذاته إلا بفضل فكرة لا متناهية، وأن الفكر حر ومستقل.

ولكن شيئًا لم يبق من العلم الطبيعي، وقد استطاع بعضهم أن يكتب منذ عشرين سنة أن العلم لا يتبع الطريق الذي رسمه لنا ديكارت، كان هذا القول صحيحًا منذ عشرين سنة، أما اليوم فهو أقل صحة بكثير، أجل إن العلم الطبيعي الحاضر كما نجده عند أمثال أينشتاين ودي برويل لا يردد بحال العلم الطبيعي الحاضر كما نجده في كتاب «مبادئ الفلسفة» لديكارت، كما أن ديكارت لم يكن ناقلًا للعلم الطبيعي الذي نجده في كتاب «تيماوس» لأفلاطون، ومع ذلك فإن التاريخ يعتبر العلم الطبيعي الذي وضعه ديكارت ثأرًا لأفلاطون، وكذلك العلم الطبيعي الذي وضعه أينشتاين فهو ثأر لديكارت، والواقع أن العلم الطبيعي الحاضر الذي يرد الوجود إلى الهندسة إنما يسعى إلى تحقيق ما كان لديكارت وأفلاطون من حلم قديم، بل يحققه إلى حد ما.

وإنما استطاع العلم أن يخرج من المأزق بفضل إجراء ديكارتي؛ أي بالرجوع على ذاته ونقد مبادئه وامتحانها بالشك من جديد، ليس علمنا الطبيعي علم ديكارت، ولكنه ديكارتي أكثر منه، إنه ديكارتي أكثر مما كان في أي وقت آخر.

أجل لم يستطع منهج ديكارت — منهج الأفكار الواضحة البسيطة — أن يوفر للإنسان طمأنينة اليقين التي كان ديكارت يرجو أن يمنحه إياها، ولم يستطع أن يُعيد بناء الوجود كاملًا، إن الوجود أغنى مما ظن ديكارت، ليس الوجود قاصرًا على الامتداد والحركة، وليس منبسطًا على سطح، هذا محقق؛ ولذلك كثيرًا ما تُؤخذ علينا نزعتنا الديكارتية، وكثيرًا ما يقال لنا: إن طلبنا الوضوح والجلاء يؤدي بنا إلى الخطأ وإلى إنكار ما في الحياة من قوى مضطربة غامضة عميقة، ويقال لنا أيضًا: إنَّا بشغفنا بالتحليل النقدي وإصرارنا على الشك في كل شيء نحرم الإنسان أعظم خيراته، نحرمه الطمأنينة واليقين.

هذا حق؛ إن منهج ديكارت منهج قلق وجهد، وإن طلب الوضوح أمر شاق، وهو أطول مما ظن ديكارت من حيث إنه لا يقف عند حد، هو يهدم التقاليد والمعتقدات الموروثة وأصنام فكرنا، ولكن هذا هو الثمن الذي نُؤديه لإدراك الحق.

نعم، إن الحياة أشد تعقيدًا من صيغة جبرية، ولكن هل نحن ملزمون بالإذعان لقواها العميقة الغامضة؟ أم على العكس الواجب علينا أن نفهمها وأن نفيض عليها نورًا وعقلًا ونرفعها إلى مستوى العقل؟

أعتقد أنَا أنه ما من زمن كان أنسب لرسالة ديكارت اليوم؛ أي من عصر أنكر فيه الفكر الإنساني قيمته أنه مجرد صورة للمجتمع أو مجرد وظيفة للحياة؛ عصر عاد العالم فيه إلى القلق، فرأينا الإنسان يطلب بكل ثمن يقينًا جديدًا يشتريه مغتبطًا بحريته وحرية عقله، عصر تجددت فيه الأساطير وقامت سلطات معصومة فوجب علينا أكثر من أي وقت مضى الطاعة لوصية ديكارت التي تحظر علينا أن نسلم إلا ما نرى بوضوح أنه حق، والأمانة لرسالة ديكارت التي إذ نعلن ما للعقل والحقيقة من قيمة عظمى تحظر علينا الإذعان لسلطان مهما يكن ما خلا العقل والحقيقة.

١  لما كانت فكرة الحياة غير واضحة ولا جلية فليس لها محل في العلم، وإذًا فليس للحياة نفسها محل خاص في العالم الديكارتي، وليس يوجد شيء بين الفكر من جهة والامتداد من جهة أخرى.
٢  عند ديكارت وجود الله اللازم من فكرة الله أوكد من وجود جسمي والعالم الخارجي، هذه حقيقة واضحة كأبسط القضايا الحسابية وأوكد منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤