الفصل الثامن عشر

قلت: نعم يا سيدتي، قد أنقذت خديجة من شرٍّ عظيم، ولكنك ترين معي أن لا مقام لي في هذه الدار منذ الآن! فكل شيء يأمرني بالتحوُّل عنها. قالت وقد أحسست في صوتها أنها مشغولة البال منصرفة النفس عما يمكن أن أبسط لها من حديث: وما ذاك؟ قلت مقتصدةً متعجلةً مضمرةً أني إنما أتحدث لأعتذر عما سآتي من الأمر: لم أتعود يا سيدتي أن أخفي على خديجة شيئًا أو أكتم من دونها سرًّا، وما ينبغي بل ما أستطيع أن أبقى معها مستأثرة بعلم ما أعلم، طاوية عنها مسعاي عندك، وستعلم خديجة من غير شك أن هذا الأمر الذي بُدئ فيه قد أهمل وعُدل عنه، وسيكون له في نفسها أثرٌ حاد، ما أشك في ذلك، ولست آمن نفسي حين أحاول ما يجب عليَّ من تسليتها وتعزيتها أن أبوح لها ببعض الحديث، والخير كل الخير في أن أتعجل الرحيل، وما دام الله قد قضى عليَّ الشقاء فلا بد من الإذعان لما قضى الله، قالت: وأين تريدين أن تذهبي؟ قلت: لا أدري! وإنما يجب أن أذهب أولًا، فأما إلى أين فشيء سأتبينه بعد ذلك …!

ولم يرتفع ضحى الغد حتى كنت بعيدة عن دار المأمور قريبة منها مع ذلك، ألحظ من كثب ما يكون بين هاتين الأسرتين اللتين لم تتصل بينهما الأسباب إلا لتنقطع، ولم تنشأ بينهما المودة إلا لتستحيل إلى عداء أو شيء يشبه العداء، ولم أجد في ذلك مشقة ولم أتكلف فيه عناءً، وإنما تحولت من دار إلى دار، وقضيت يومًا أو بعض يوم عند هذه المرأة التي تحدثت عنها في أول القصة، عند زنوبة تلك التي عرفتها في بيت العمدة وقصصت من حديثها ما قصصت.

أقبلت عليها نحو الظهر، فألفيتها قائمة تكيل بعض ما تكيل من الحَب، وأمامها نسوة يشترين منها: هذه تشتري القمح، وهذه تشتري الذرة، وهذه تشتري الفول، هذه تشتري نقدًا، وهذه تشتري نسيئة، وزنوبة تحتكم في هذه وتلك صائحة مسرفة في الحركة، لا يستقر لسانها في فمها، ولا يستقر وجهها أو لا يستقر ما يختلف عليه من الصور والأشكال، فهي عابسة حينًا، وباسمة حينًا، وهي تفعل بعينيها وشفتيها وحاجبيها الأفاعيل، وتدل بها على ما قد يعجز الكلام عن أن يدل عليه، وهي تسب هذه جادَّةً وتسب هذه مازحة، وهي تُلمِّح حينًا وتصرح حينًا آخر، وهي تمضي في ذلك والنسوة يسمعن لها راضيات عنها معجبات بها، مشاركات لها في بعض ما تقول وفي بعض ما تأتي من الحركات، وأفراد من شباب المدينة قد اجتمعوا غير بعيد ينظرون ويسمعون، ثم يتبادلون بينهم أحاديث فيها الدعابة والرضا، وفيها اللذة والإعجاب.

فلما رأتني زنوبة لم تنكرني، ولكنها لم تغلُ في الترحيب بي، وإنما نظرت إليَّ من الرأس إلى القدم، ثم قالت في صوتها النحيف: ها أنت ذي تقبلين! لقد بَعُد العهد بك منذ التقينا في بيت العمدة، ولكني كنت أنتظرك، وما شككت في أنك ستأتين إلى هذا البيت وستقومين مني هذا المقام. قلت: فهل أنبأك الودع بهذا؟ قالت: وما يدريك! لعل الودع قد أنبأني من أمرك بما تعلمين وبما لا تعلمين، اصعدي إلى هذه الغرفة من فوقنا فتخففي من حقيبتك واستريحي، فسأفرغ لك بعد حين، ولا تتعجلي الطعام إن كنت جائعة فإن وقت الغداء لم يحن بعد، وإن كنت أقدر من أمرك أنك لا تحفلين بالوقت فيما يتصل بالطعام، فما أرى إلا أنك تأكلين في كل وقت، هذا شأنكن أيتها الفتيات تشغلن ببطونكن أكثر مما تشغلن بأي شيء آخر. ومن يدري! لعلكن تشغلن …

فقطعت عليها حديثها بالانصراف عنها والتصعيد في السلم إلى الغرفة التي دلتني عليها، ولكنها تبعتني مع ذلك بالسخرية والدعابة، وأخذت تقول: اهربي، اهربي، وجدِّي في الهرب، إن أذنيك النقيتين البريئتين لا تستطيعان أن تسمعا لما ألقي من حديث، إنك تخافين من احمرار الوجه واضطرابه، لن تخدعيني وإن استطعت أن تخدعي غيري؛ فإنك لتحبين هذا الحديث وتخوضين فيه وفي شرٍّ منه مع أترابك من الفتيات، ولكنكن تتصنعن الحشمة وتتكلفن الحياء. على أنها لم تمضِ في هذا اللغو إذ لم تأنس استماعي لها وانصرافي إليها فمضت فيما كانت فيه من بيع وكيل ومن دعابة بالوجه واللسان.

وفرغت لي بعد ساعة، فأقبلت عليَّ هادئة باسمة، تسألني عن أمي وأختي وأجيبها عن أسئلتها بما أريد، فتصدق ما تصدق وتكذب ما تكذب ثم قالت: وأنت الآن تريدين العمل، فأين تحبين أن تعملي؟ وكيف تريدين أن تعيشي؟ إن لك من جسمك الجميل، ووجهك هذا الوضيء، ومنظرك هذا الذي يسحر الشبان ويخلب عقول الرجال، ما يكفل لك حياة فيها ثروة وغنى، وفيها نعيم وترف، وفيها لذة ومتاع، وفيها تسلط وسيطرة واستخفاف وعبث بعقول الشباب والشيب. قلت مغضبة: دعيني من هذا الحديث، ولست أريد منك شيئًا، وما أقبلت أستعينك على شيء، وإنما ألممت بك محييَة لك قبل أن أترك هذه المدينة فإني عنها مرتحلة، قالت وقد أدارت عينيها وأسبغت على وجهها شكلًا مضحكًا تملؤه السخرية ويشيع فيه التكذيب والاستهزاء، وأرسلت من فمها شهيقًا منكرًا أتبعته بشخير منكر ما أشك في أن الشباب المجتمعين غير بعيد قد سمعوه فتضاحكوا له، وانتهى إلينا ضحكهم حيث كنا، فزادها مرحًا ونشاطًا، وملأني خزيًا واستحياء، قالت: لا تُراعي لا تراعي، فلن أعرضك للبيع كما كنت أعرض هذه الحبوب آنفًا، ولن أكرهك على ما لا تحبين، ولكني أعرض عليك ما عندي، فأنت تكرهين هذه البضاعة أو تظهرين كرهها الآن! فعندي غير هذه البضاعة، ولكن ثقي يا ابنتي أنك راجعة إليَّ فطالبة مني ما ترفضين الآن، لستِ الأولى ولن تكوني الأخيرة … تريدين عملًا كله جدٌّ كهذا الذي كنت فيه عند المأمور، فلم تركت بيت المأمور؟ ولكن هذا من أسرارك، وإن لم يكن للفتيات أمثالك على أمهاتهن من أمثالي سرٌّ؛ فقد أحب أن أعلم من أمرك جليَّه وخفيَّه لأوصي بك عن علم، أَخَرجت سارقة؟ أم خرجت لسوء العشرة؟ أم خرجت للكذب؟ أم خرجت لكثرة الصياح؟ أأغضبت سيدك؟ أم أغضبت سيدتك؟ أم أغضبت بنت المأمور؟ أم أغضبتهم جميعًا؟ وكيف خرجت من هذا البيت في هذا الوقت؟ وهل تعلمين أن في المدينة مأمورين أو بيتين كبيت المأمور؟ وأنت تخرجين في الوقت الذي يستعد فيه البيت للأفراح والليالي الملاح، وتنزلين عما كان يحق لك أن تطمعي فيه من العطايا والهبات! فليس من شكٍّ في أنهم كانوا سيمنحونك كسوة فاخرة، وليس من شكٍّ في أن كثيرًا من النقد كان سيقع إليك من هذا ومن ذاك ومن هذه ومن تلك، فكيف تركت هذا كله؟ أتركته راضية؟ ولماذا؟ أم أُكرهت على تركه؟ ولماذا؟ تكلمي! إني لا أحب الغموض، ولا أطمئن إلى الأسرار، ولا خير في التمنع والإباء والكتمان، فما تخفينه اليوم سأظهر عليه غدًا، وسأظهر عليه قبل أن تغيب الشمس، ولست بزنوبة إن أُخفيت عليَّ أسرار فتاة مثلك لم تبلغ العشرين، وأنا أعلم من أمر هذه المدينة وأسرار أهلها وأخبار الأسر التي تقيم فيها أو تفد عليها أو ترحل عنها ما أعلم. تحدثي! كيف خرجت من بيت المأمور أو كيف أُخرجت منه؟

وأمام هذا السيل المنهمر من الحديث، وأمام هذه الأسئلة الملحة، وهذا الحرص الشنيع على الاستطلاع واستكشاف الأسرار، لم يسعني إلا أن أنهض وأعمد إلى حقيبتي فأحملها وأمضي نحو السلم، ولكني لم أكد أبلغه حتى رددت عنه ردًّا، وحتى كانت حقيبتي قد خطفت مني خطفًا، وحتى كانت زنوبة قد أحاطتني بذراعيها المنكرتين، وأخذت تلحُّ عليَّ بالضم والتقبيل تهدئني وتترضاني، وأنا لذلك كارهة أشد الكره، وعلى ذلك ساخطة أشدَّ السخط، ولو استجبت لنفسي لصحت مستنجدة طالبة الغوث؛ فقد أخذت أمقت نفسي وألومها، وألعن هذه اللحظة التي خطر لي فيها أن آوي إلى دار هذه المرأة ريثما أهيِّئ أمري بعض الشيء وأدبر لي عملًا أمضي فيه.

ولكن زنوبة ملحة عليَّ بالرفق والملاطفة، وقد خفت صوتها وعذب حديثها، وأخذت تتحدث إليَّ بأمور ليس بينها وبين ما كنا فيه صلة، كأنها أعرضت عن كل ما من شأنه أن يسوءني أو يروعني أو يقلقني عن هذه الدار التي اقتنعت زنوبة بأن لا بد من أن يطول فيها مقامي أيامًا أو أسابيع.

ثم أنظر فإذا نحن قطعنا وقتًا غير قليل في حديث هادئ فيه الجد وفيه الهزل، وإذا أنا آنس إلى هذه المرأة وأطمئن إلى ما أحس من عطفها، وأنظر فإذا حياتنا قد مضت في هذه الساعات يسيرة قد زال منها التكلف، وإذا نحن قد تغدينا معًا، وإذا كل واحدة منا قد أخذت تتحدث إلى صاحبتها في شيء من السذاجة والثقة غريب، وإذا نحن نستحضر آلامنا وأحزاننا، وإذا كل واحدة منا تستكشف في صاحبتها من وراء هذه الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس صورة أخرى خفية من صور البؤس وتمثالًا مستترًا من تماثيل الشقاء، وإذا كل واحدة منا ترثي لصاحبتها أو تتخذ الرثاء مظهرًا من مظاهر الرثاء لنفسها، وإذا نحن نشترك في البكاء ونتعاون عليه كما كنا نشترك منذ حين في الضحك ونستبق إليه، ولم يكد ينصرم النهار ويقبل الليل حتى كانت الألفة بيننا قد انتهت بنا إلى هذا الطور الذي يطمئن فيه الإنسان إلى الإنسان وإن احتفظ بشيء من الاحتياط … فلم أُظهر زنوبة على سري، ولكني أنبأتها بأن أختي قد قضت في الغرب، وزعمت لها أني إنما خرجت من بيت المأمور في إثر مغاضبة كانت بيني وبين الخدم، ثم لم أظفر بما كنت أراني أهلًا له من الإنصاف، وقد سمعت مني ما أقول وهي إلى التكذيب أقرب منها إلى التصديق، ولكنها تجنبت الجدال والإلحاح فيه، وأظهرت الرثاء لي والعطف عليَّ، ووعدتني بأنها ستجد لي عملًا شريفًا مريحًا إذا كان الغد، وألحت عليَّ في أن أقضي الليل معها وقد فعلت، وقد أنفقنا جزءًا غير قليل من الليل في مثل ما أنفقنا فيه النهار، فلما أصبحنا غابت عني ساعة أو نحو ساعة، ثم عادت إليَّ متهللة مشرقة الوجه وهي تقول: لقد وجدت عملًا ما أشك في أنه سيرضيك، ستعملين حيث كانت تعمل أمك قبل أن ترحلن عن المدينة في بيت فلان، أتذكرين اسمه؟ أتعرفينه؟ إنه رجل من أصحاب الثراء واليسر، وقد لا تجدين في داره مثل ما كنت تجدين في دار المأمور من الترف، ولكنك ستجدين عنده سعةً ويسرًا، ودماثةً في الخلق، وتبسطًا في المعاملة؛ فزوجه كريمة النفس، وبناته صالحات لم يفسدهن الذهاب إلى المدارس ولا استقبال المعلمين. فهذا الرجل أمير يضنُّ ببناته على هذا الفساد، ويرسل أبناءه كلهم إلى القاهرة ليتعلموا فيها وليصيروا فيما بعد موظفين كبارًا كالمأمور والقاضي والمهندس، وإذا أقبل الصيف وعاد هؤلاء الشبان من القاهرة امتلأ البيت فرحًا ومرحًا، وأصبحت أيام الأسرة كلها أعيادًا، وازداد حظ الخدم من الرغد والسعة ولين العيش. وأنا كثيرة الاختلاف إلى هذا البيت منذ استقرت هذه الأسرة فيه منذ أعوام وأعوام، وقد ربَّيت أبناءها وبناتها، وقد تبنيت منهم واحدًا بعينه هو الآن شاب نجيب سيكون بعد قليل موظفًا كبيرًا، وهو يعرف لي هذا الحق ويحبني ويكرمني ويؤثرني بالخير والمعروف، قلت: وكيف تبنيته؟

قالت وهي تضحك: أتجهلين هذه العادة؟ لقد أخذته حين كان وليدًا فأدخلته من بين ثوبي وبيني، أدخلته من جيبي وأخرجته من تحت ذيلي، فأصبحت كأني والدته، وأصبح لي عليه حق الأمهات وله علي حق الأبناء. ستعملين في هذا البيت وسترضين، وسأراك كل يوم إذا أصبحت وسأراك إذا أمسيت؛ فليس بين هذا البيت وبيننا إلا خطوات، وأنا أعمل فيه ساعات من نهار. وقد تحدثت عنك إلى ربة البيت فعرفتك وعرفت أمك وأختك وقبلتك راضية مسرورة، فهلمَّ بنا فقد تركتها على أن أعود بك إليها بعد لحظات، ولست أخفي عليك أنها كرهت بعض الشيء استخدامك بعد أن خرجت من بيت المأمور لما بين الأسرتين من مودة، ولكنها لم تطب نفسًا عن تركك عرضة لما يتعرض له الفتيات من الشر بعد أن عرفت أمك وحمدت عشرتها، فهلم بنا فقد تتاح لنا أوقات طوال يكثر فيها بيننا الحديث.

ونهضت معها وليس في نفسي ريب في أنها قد نصحت لي وأخلصت في النصح والود، وفي نفسي بعض الأمل في أنها ستعينني يومًا ما على تحقيق ما أريد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤