الفصل الخامس والعشرون

وقد فكرت سعاد، وما كانت في حاجة إلى التفكير، وقد امتلأ قلبها وعقلها بهذه الحياة التي تحياها امتلاء، وامتزجا بها امتزاجًا، حتى أصبحت جزءًا منهما أو أصبحا جزأين منها، وحتى أصبح من أعسر الأشياء وأشقها أن تفكر الفتاة في هذه الحياة تفكيرًا هادئًا مجردًا لا يتأثر بهذه العواطف العنيفة الحادة التي تتصور مرة كأنها النفور الذي لا نفور بعده، وتتصور مرة أخرى كأنها الإقبال الذي لا إقبال بعده، وهي في الحالين شيء واحد تختلف عليه الصور والأشكال دون أن يتغير جوهره الذي هو الحب.

نعم! لقد أصبحت سعاد عاجزة كل العجز عن أن تخلو إلى نفسها ساعة من نهار أو ساعة من ليل، بل أصبحت عاجزة كل العجز عن أن تخلو إلى نفسها في يقظة أو نوم، إنما هي مستصحبة هذا الشاب إن حضر، ومستصحبة هذا الشاب إن غاب، لا تهم بالخلوة إلى ضميرها حتى تجد صورته ماثلة فيه، ولا تمد عينها إلا رأت شخصه، ولا تمد أذنها إلا سمعت صوته، قد أخذ الحياة عليها من جميع أقطارها، وقد ذاد عنها كل شيء وكل إنسان، وذاد عنها حتى أختها تلك العزيزة وأشباحها تلك الحمراء، وانتهى الأمر بها كما انتهى الأمر بالشاب نفسه إلى علة تشبه الجنون. لقد صُرفت إليه عن كل شيء، وصُرف إليها عن كل شيء.

ولم يبق بين هذين الخصمين العنيدين صراع أو تفكير في الصراع، وإنما هو الإذعان الذي لا ثورة بعده والاستسلام الذي لا رجوع فيه.

ولكن الكبرياء ما زالت مسيطرة على سعاد، تصارع الحب فيها فتصرعه، وتغالب العشق فيها فتغلبه، وما أكثر ما اندفعت الفتاة إلى الاستسلام! حتى إذا كادت تنتهي منه إلى غايته، وحتى إذا بلغت حافة الهوة وكادت تتردى فيها تمثلت لها الكبرياء قوية عنيفة، ونصبت أمام عينيها مرآة تنظر فيها فترى صورة آمنة الأبية العزيزة، وترى صورة سعاد الضعيفة المتهالكة، فترتد وراءها خطوة أو خطوات، وتؤجل الإذعان والإلقاء باليد إلى أجل يقصر أو يطول!

وقد تغيرت سيرة سيدي أيضًا؛ فهو محبٌّ يلقى من الحب عناء وبلاء، ويجد من آلامه مثل ما أجد، ولكن كبرياءه قد رُدت إليه هو أيضًا فأصبح يتمنى في غير إلحاح، ويأمل في غير إلحاف، كأنما أحس في حبه شيئًا من حياء فآثر القصد والاعتدال، وكأنما أحس الإخفاق المتصل فآثر الحرمان في شيء من العزة على ذلك الإلحاح الذي لم يكن يعقبه إلا هزيمة وخذلان.

ولكنه يقبل عليَّ ذات مساء وعلى وجهه ابتسامة فيها شيء من الرضا، وفيها كثير من الحزن، وفيها شكٌّ يتردد بين الرضا والحزن. يقبل عليَّ ذات مساء لا ثائرًا ولا مستسلمًا، ويقول لي في صوت لا حدة فيه: لقد آن لك أن تستريحي، وآن لي أن أستريح! فأنظر إليه نظرة التي لم تفهم عنه والتي تعودت أن تسمع كثيرًا فتفهم أو لا تفهم دون أن تحفل بما يستقر في نفسها أو يعزب عنها مما تسمع، ولكنه يعيد عليَّ حديثه فأسأله عما يريد، فيقول: سنفترق لأني نقلت إلى القاهرة.

وتقع من نفسي هذه الجملة موقع الصاعقة، وإذا أنا ذاهلة لا أجيب ولا أتكلف حتى إخفاء الذهول، وإذا أنا أجد شيئًا من الدوار يكاد يبلغ بي الإغماء لولا أن أتمالك، وإذا الدموع تنهمر في صمت متصل، وإذا الفتى يدنو مني فلا أرتد عنه، وإذا هو يضع يديه على كتفي فلا أمتنع عليه، وإنما أنا مغرقة في الصمت ودموعي ماضية في الانهمار، والفتى قائم بمكانه مني في هدوء لم أعهده، ينظر إلي صامتًا دهشًا، ثم ينأى عني قليلًا وهو يقول في صوت شاحب: ماذا أرى! إنك لتكرهين فراقي حقًّا!

ثم يعود إلى صمته، وأمضي أنا في صمتي، وتمضي دموعي في الانهمار، وما أدري أطال بيننا هذا الموقف أم قصر، ولكني أسمعه يدعوني في صوت قد فارقه شحوبه وعاد ممتلئًا مشرقًا كما عرفته، وأرفع رأسي وأحاول النظر إليه من وراء هذه الدموع المنسكبة فأرى وجهًا مشرقًا أشد الإشراق قد استقرت فيه أمارات الحزم والهدوء، وإذا هو يقول لي: أما والأمر بيننا على ما أرى فلن نفترق، ستصحبينني إلى القاهرة، ولن ينالك مني إلا ما تحبين، هلم فامضي في شئونك كما تعودت أن تفعلي، هيئي من أمرك وأمري للسفر، فلن نقيم هنا إلا أيامًا.

ثم ينصرف عني كما أقبل عليَّ هادئًا رزين الخطى، وقد أنكرت من نفسي كل شيء، وأهم أن ألوم نفسي على هذا الضعف الذي لم أستطع إخفاءه، ولكني لا أجد من نفسي قوة على اللوم، وإذا أنا راضية عن هذه الحال الجديدة رضًا عميقًا قد مازج نفسي واختلط بدمي، ولكنه في الوقت نفسه رضًا حزين ليس فيه ابتهاج ظاهر، وإنما هي حياة الخادم التي اطمأنت إلى ما يلم بها من الأحداث، ومضت في حياتها لا تنكر شيئًا ولا تعرف شيئًا، وإنما هي مستسلمة تذهب وتجيء، وتأتي من الأمر ما تأتي، وتدع من الأمر ما تدع؛ لأنها لا تستطيع أن تفعل غير هذا ولا تريد أن تفعل غير هذا، ولأنها تجد في هذا أقصى ما كانت تنتظر من السعادة.

والغريب أنه هو أيضًا قد جعل ينظر إليَّ منذ ذلك الوقت نظرات برئت من الطمع والأمل، وقنعت مني بما يقنع به السيد النقي من الخادم النقية، فلا إثم بيننا ولا تلميح إلى الإثم ولا خوف من التورط فيه، وإنما هي حياة نقية بريئة قد استؤنفت بيننا كأننا لم نلتق قبل ذلك الوقت، وكأن أحدنا لم يعرف صاحبه قبل تلك الساعة التي أنبأني فيها أنه قد آن لكلينا أن يستريح لأنه نقل إلى القاهرة.

وإني لأدعو أختي حين أخلو إلى نفسي في النهار وحين أخلو إلى نفسي في الليل فلا تستجيب لي صورتها التي كنت أعرفها في المدينة باسمة مشرقة، ولا تستجيب لي صورتها التي عرفتها في بيت العمدة واجمة هائمة، ولا تستجيب لي صورتها التي كنت أراها مطرقة إلى ينبوعها الأحمر، تطيف بها ظلالها الحمراء.

لا تستجيب لي صورة من هذه الصور، وإنما هي ذكرى غامضة حزينة تلذع القلب أحيانًا فتندفع لها بعض الزفرات وقد تنهمر لها بعض العبرات، ثم لا تلبث أن تنجاب كما ينجاب السحاب الرقيق، وإذا أنا أعود إلى حياتي المضيئة الهادئة، الحزينة في غير تكلف لحزن أو سرور.

وأنتقل مع سيدي إلى القاهرة وأقيم معه في دار أبويه موكلة بخدمته لا أكلف شيئًا غيرها من أعمال الدار، ولا أجد من أبويه إلا برًّا وعطفًا، وإلا رفقًا وحنانًا. فأما هو فقد جعل ينظر إليَّ كلما تقدمت الأيام كما ينظر إلى الصديق لا كما ينظر إلى الخادم، قد اصطفاني لنفسه، واختصني بوده، وجعل يشركني في كثير من أمره.

يالله! إني لأحس شبهًا بين هذه الحياة التي أحياها مع هذا الشاب في دار أبويه الفخمة بالقاهرة وبين تلك الحياة التي كنت أحياها مع خديجة في بيت أبويها بمدينة من مدن الأقاليم، لقد عاد الأمر بيني وبين هذا الشاب إلى مثل ما كان بيني وبين خديجة من النقاء والطهر، ألم أخلق إلا لأحيا حياة الأصدقاء!

ولكنها صداقة غريبة هذه التي تقوى وتنمو بين هذا الشاب المترف الغني، وهذه الخادم البائسة التي طالما طمعت فيها نفسه الطامحة، وأغرته بها عواطفه الجامحة، والتي طالما اتخذها غرضًا لأهوائه الآثمة، وابتغى عندها من اللهو والمجون ما يبتغيه أمثاله من الشباب المترفين عند أمثالها من البائسات الغافلات، فلما لم يظفر منها بشيء حاصرها كما تحاصر القلعة، وحاربها كما يحارب العدو، فلم يستطع أن يقهرها، ولم تستطع أن تقهره، وأقاما معًا في شيء من الموادعة لا يستطيع عنها سلوًّا، ولا تستطيع عنه انصرافًا، لا يشير إليها من آماله ومطامعه بقليل أو كثير، ولا تلقاه هي من مقاومتها وامتناعها بقليل أو كثير لأنها لم تعد في حاجة إلى المقاومة أو الامتناع.

أأكذب نفسي أم أصدِّقها؟ أأصارحها بالحق أم أموِّه عليها الأمر؟ لقد رضيت حياتنا الجديدة واطمأن إليها قلبي كل الاطمئنان، واغتبطت بها نفسي أشد الاغتباط، وارتاح إليها ضميري هذا المتعب المعذب الذي كان في حاجة إلى أن يرتاح، ولكن أظلَّ قلبي مطمئنًّا ونفسي مغتبطة وضميري مرتاحًا بعد أن مضت علينا الأسابيع والشهور في مدينة القاهرة قريبين بعيدين مؤتلفين مختلفين؟ ألم أشعر شعورًا غامضًا بأن هذه الهدنة قد طالت وبأن هذه الموادعة قد اتصلت أكثر مما ينبغي أن تتصل؟ ألم أجد في أعماق ضميري شوقًا إلى تلك الحرب وجنوحًا إلى ذلك الخصام؟ ألم أحس في دخيلة نفسي أن حياء هذا الشاب قد يكون لونًا من الصدِّ، وأن احتشامه قد يكون فنًّا من الإعراض؟ بلى! وجدت هذا كله وأنكرته من نفسي أشد الإنكار ولمتها فيه أعنف اللوم، وما أشك في أنه وجد من نفسه مثل ما كنت أجد، ولام نفسه في مثل ما كنت ألوم نفسي فيه.

وقد زاد هذا الحمل ثقلًا على نفسه وعلى نفسي أنه سار منذ انتقل إلى القاهرة سيرته تلك التي ألفها في الأيام الأخيرة من حياته في الأقاليم.

فكان يغدو إلى عمله مصبحًا ويروح إلى دار أبويه حين يتقدم النهار فلا يكاد يخرج منها إلا إذا كان الغد، ومع ذلك فأمثاله من الشباب لا يُلمُّون بدورهم إلا ليخرجوا منها، إنما دورهم فنادق يطعمون فيها ويأوون إليها آخر الليل، وفي القاهرة مما يفتن الشباب ويغريهم شيء كثير طالما سمعت أحاديثه قبل أن أبلغ القاهرة وبعد أن أقمت فيها، فما بال هذا الشاب لا تبلغه فتنة ولا يناله إغراء؟ لقد رضي أبواه أول الأمر عن هذه الحياة المستقيمة كل الرضا، وابتهجا بمحضر ابنهما كل الابتهاج، ولكنهما وجدا آخر الأمر أن الفتى قد أسرف على نفسه في لزوم الدار والعكوف على القراءة والانقطاع عن الأندية وما يكون فيها من لقاء الأصدقاء والتعرف إلى الناس، وكثيرًا ما رغَّبته أمه في الخروج فلم يستجب لهذا الترغيب، وكثيرًا ما أغراه أبوه بملاعب التمثيل ومجالس الموسيقى وزيارة هذا البيت أو ذاك من بيوت الأصدقاء فلم يستمع لهذا الإغراء، إنما هو الغدوُّ على العمل والرواح إلى الدار، والأوقات ينفقها مع أبويه، ثم الانحياز إلى غرفته والانقطاع إلى كتبه يعكف عليها حتى يتقدم الليل.

وكان في أثناء ذلك ربما دعاني إلى غرفته وأخذ يتحدث إلي ويسمع مني، وكانت المدينة وشئون أهلها موضوع حديثنا في كثير من الأحيان، كما كانت القاهرة وشئونها موضوع حديثنا أحيانًا أخرى.

كان يتحدث أو يسمع جالسًا إلى مكتبه، وكنت أتحدث أو أسمع واقفة غير بعيدة من مكتبه، وما أكثر ما دعاني إلى الجلوس وما أشد ما كنت أتمنى الجلوس! ولكني كنت أعتذر باسمة؛ فما ينبغي لمثلي أن تجلس إلى مثله وإنما حَسْبُ مثلي من مثله الوقوف بين يديه والتحدث إليه والاستماع له، وهذا كثير.

ألم تكن غريبة هذه الصداقة بيني وبين هذا الشاب على ما كان بيننا من الائتلاف والاختلاف؟ أكانت صداقة خالصة أم كان وراءها أكثر من الود الذي يكون بين الأصدقاء؟! أما أنا فقد كنت أجد وراء هذه الصداقة حبًّا ثائرًا أكتمه على ما كان يكلفني كتمانه من الجهد ويحملني من المشقة والعناء، وأما هو فقد كتم أمره أسابيع وشهورًا حتى خدعني أو كاد يخدعني عن نفسه، ولكنه ألقى النقاب ذات مساء فغيَّر من أمرنا كل شيء، ألقاه في غير جهد وفي غير تكلف، لم يضطرب له صوته، ولم يظهر على وجهه أثر العواطف المضطربة أو القلب الذي تضطرم فيه نار الحب، إنما تحدث إليَّ في هذا الأمر كما كان يتحدث إلي في أمر المدينة وفي أمر القاهرة بصوت لا ارتفاع فيه ولا انخفاض ولا اعوجاج فيه ولا التواء!

قال: ألا ترين أن الأمر بيننا قد آن له أن ينتهي إلى غايته ويبلغ مداه؟ قلت: وما ذاك؟ قال: هذا الحب الذي اختصمنا فيه وقتًا طويلًا وسكتنا عنه وقتًا طويلًا، ولكنه لم يسكت عنا، فما أظنه قد أمهلك يومًا كما أنه لم يمهلني ساعة، أما ينبغي أن تنتهي هذه الحياة الغامضة إلى ما يجب لها من الصراحة والوضوح؟ وقد سمعت منه ولكني لم أردَّ عليه جوابًا.

فلما طال عليه صمتي استأنف حديثه في صوت لا يزال سواء، فقال: إنك تفهمين عني اليوم ما أريد، كما فهمت عني من قبل ما كنت أريد. قلت مبتسمة: بل إني لم أفهم عنك شيئًا. قال ضاحكًا: بل تفهمين أني كنت أريدك على الإثم، وإني الآن إنما أريدك على الزواج.

واحتجت إلى أن أعتمد على كرسي كان مني غير بعيد، فإن فكرة الزواج لم تخطر لي قط، وما كان ينبغي أن تخطر لي؛ فقد أقدمت على كثير من خطير الأمر وتصورت في نفسي كثيرًا من جليل العمل، ولكني احتفظت دائمًا بعقلي ولم يخرجني الحب كما لم يخرجني البغض، ولم يخرجني الأمل كما لم يخرجني اليأس عن طوري في لحظة من اللحظات؛ لذلك أجبته صادقة بأن هذا أمر لا ينبغي العبث فيه.

قال لي وهو يضحك: فإنك تظنين أني أعبث، وتقدرين ما بينك وبيني من الفرق الاجتماعي، متى تزوج السيد الغني المترف من خادمه الشقية الفقيرة البائسة! أليس هذا هو ما تقدرين؟ فأريحي نفسك إذن من كل هذه الخواطر؛ فقد رأيت منذ موقفنا ذاك في المدينة أني لست سيدًا كغيري من السادة، وقد رأيت أنا منذ عرفتك أنك لست خادمًا كغيرك من الخدم، لقد دهشت حين رأيتك تنتظرينني إلى آخر الليل على غير ما تعودت من الفتيات اللاتي سبقنك إلى خدمتي، ولكني لم أكن أقدر أنك ستثيرين في نفسي ألوانًا أخرى من الدهش.

ثم أطرق صامتًا فأطال الإطراق والصمت، ولبثت ماثلة ذاهلة لا أقول شيئًا، وأكاد لا أعي شيئًا، ولكنه رفع رأسه، وقال في صوت هادئ حزين: أتقبلين؟ قلت في صوت ليس أقل من صوته هدوءًا ولا حزنًا: فإن سيدي يعلم أن ليس إلى هذا من سبيل. قال: تفكرين في أبويَّ! فإني قد فكرت فيهما قبلك وقد حزمت أمري، وما أشك في أنهما لن يمتنعا علي، ولو قد فعلا لعرفت كيف أمتنع عليهما، ولكنهما لن يفعلا، فهل تقبلين؟ قلت: ليس إلى ذلك من سبيل. قال: فمن حقي عليك أن أفهم هذا الامتناع، إنك لتعلمين أن فراقًا بيننا مستحيل، وإني لأعلم كما تعلمين أن ليس لقلبينا رضًا إلا في الزواج. قلت: فقد قُضي على قلبينا ألا يرضيا. قال: ومن ذا الذي قضى عليهما هذا العذاب المتصل؟ وهممت أن أجيب ولكن صوتي يحتبس، ودمعي ينطلق، وإني لأراني أهمُّ بالانصراف، وإني لأراه قد نهض من مجلسه متثاقلًا وسعى إليَّ متباطئًا حتى ردني في هدوء ودعة، ثم عاد إلى مجلسه وقال: أترين إليَّ كيف أملك نفسي! ألا تفكرين في تلك الثورة الجامحة التي شقيت بها وقتًا طويلًا؟

أنبئيني من ذا الذي قضى علينا هذا العذاب المقيم؟ قلت: أنت الذي قضى علينا هذا العذاب المقيم، وأنا التي قضت علينا هذا العذاب المقيم، كلانا قضى على صاحبه ما نحن فيه من شرٍّ ونكر، وكلانا أتاح لصاحبه ما نحن فيه من هذه الموادعة الهادئة التي لا ينبغي أن نطمع في خير منها، فليس في الحياة خير منها بالقياس إليك ولا بالقياس إليَّ. قال: فإن حديثك لم يزدد إلا غموضًا. قلت: فخير لنا أن نقبله على ما فيه من غموض. قال، وقد ظهر أنه يبذل جهدًا ليحتفظ بهدوئه: فإني أقسم لك أني لم أعد أستطيع صبرًا على هذه الحياة. قلت: وأنا أيضًا لا أستطيع صبرًا على هذه الحياة، ولكن ما الذي نستطيع أن نفعل وقد سبق القضاء بما لم نحب. قال: أي قضاء؟ ألم يأن لك أن تفصحي، ألم يأن لي أن أفهم، ألم يأن لهذه الظلمة أن تنجاب؟ قلت: أحريص أنت على ذلك؟ إني لأخشى إن انجابت عنَّا هذه الظلمة وغمرنا الضوء أن يكره كل واحد منا النظر في وجه صاحبه. قال، وقد غلبه العنف، فارتفع صوته قليلًا واضطربت يده اضطرابًا خفيفًا: بل أنا أريد أن أفهم مهما تكن العاقبة. قلت: فأذن لي بالجلوس، ولم أنتظر إذنه، وإنما جلست على هذا الكرسي الذي كنت أعتمد عليه، وألقيت عليه قصتي في صوت هادئ مطرد لا يبله الدمع ولا يظهر فيه الحزن، ولا ينم عن قليل أو كثير من الاضطراب، إنما ألقيت عليه قصتي كأني أتحدث عن شخص غريب إلى شخص غريب.

وما أدري أطال الوقت الذي ألقيت فيه قصتي أم قصر، ولكني أعلم أني سمعتني أقول: أفهمت الآن؟ أترى إلى هذا الضوء الذي يغمرنا؟ أتستطيع أن تنظر إليَّ؟! وقد انتظرت جوابه لحظة غير قصيرة، ولكني سمعته كأنما كان يتحدث إليَّ من مكان بعيد جدًّا، سمعته يقول: نعم! أستطيع أن أنظر إليك، ولن أستطيع أن أنظر إلا إليك، وأنت أتطيقين أن تنظري إلي؟ أما زلت تضمرين الانتقام؟ ولم أجب إلا بما تجيب به المرأة المغلوبة التي انكسرت نفسها وذاب قلبها، فهو يسيل من عينيها دموعًا، ثم أسمعه بعد وقت لا أدري أكان طويلًا أم قصيرًا يقول لي: لقد كان من الممكن أن نفترق قبل أن يغمرنا هذا الضوء؛ فأما الآن فقد أصبح افتراقنا شيئًا لا سبيل إليه، أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شرًّا من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه. إن العبء لأثقل من أن تحمليه وحدك، وإن العبء لأثقل من أن أحمله وحدي، فلنحتمل شقاءنا معًا حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.

ثم انقطع الحديث بيننا فلم يقل شيئًا ولم أقل شيئًا، وأطبق على الغرفة صمت هائل رهيب! غرقنا فيه يقظين كما يغرق النائم في نوم بريء من الأحلام.

ولكن صوتك أيها الطائر العزيز يبلغني فينتزعني انتزاعًا من هذا الصمت العميق، فأثب وجلة مذعورة، ويثب هو وجلًا مذعورًا، ثم لا نلبث أن يثوب إلينا الأمن ويرد إلينا الهدوء، فأما أنا فتنحدر على خدي دمعتان حارتان. وأما هو فيقول وقد اعتمد بيديه على المائدة، دعاء الكروان! أترينه كان يرجِّع صوته هذا الترجيع حين صُرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض؟!

القاهرة، سبتمبر ١٩٣٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤