من مالطة إلى إنكلترة

(١) مرسى مسينة

أقول بعد الحمد لله إنه في الساعة العاشرة من صباح السبت الموافق لثاني يوم من أيلول سنة ١٨٤٨م سافرنا من مالطة إلى إنكلترة، وبعد نحو ساعتين غابت عنا أرضها، ولكن لم أقل كما قال الشريف الرضي:

وتلفَّتَت عيني فمذ خَفِيَت
عنا الطُّلول تلفَّت القلب

وبعد خمس ساعات ظهرت لنا أرض جزيرة صقلية، وفي نحو الساعة الثامنة من صباح الغد أرسينا في مرسى مسينة، وكان فيه يومئذ بوارج ملك نابولي لحصار البلد، فكانت تطلق المدافع عليه ويأتيها جوابها من القلعة؛ فلذلك لم نقم بها إلا بعض دقائق.

(٢) نبذة عن صقلية

ويقال: إن سكان صقلية الأقدمين كانوا من إسبانيا، وكان يقال لهم سيكاتي، ثم قدم إليها الأطروسكان من إيطاليا في سنة ١٢٩٤ قبل الميلاد، ثم استوطنها الفينيقيون واليونانيون، ثم جاء القرطاجنيون واستولوا على الجزيرة كلها إلى أن أخرجهم منها الرومانيون.

وفي سنة ٨٢١ للميلاد فتحها المسلمون، وجعلوا مقر الحكومة في بالرمو، ولبثوا فيها مائتي سنة إلى أن أخرجهم منها الأمير روجر الروماني، وفي تاريخ الرومانيين لغيبون أنها فتحت في زمن المأمون في سنة ٨٢٣، وزعم بعض المؤرخين أنها كانت متصلة بالأرض ففصلتها الزلازل المتتالية.

(٣) نابولي مدينة العواجل

وفي نحو الساعة الحادية عشرة من صباح الإثنين بلغنا نابولي، وهي مدينة ظريفة مشهورة بكثرة العواجل والملاهي والحظ والمتنزهات الزهية والفاكهة الرخيصة الطيبة، وفيها عدة كنائس حسنة، وأحسن طرقها حيث الحوانيت العظام الطريق المسمى توليدو، ولولا أن مملكة نابولي عرضة للزلازل لكانت أحسن بقاع الأرض لخصبها واعتدال هوائها.

(٤) من شيفتافكيه إلى ليفورنو

ثم سافرنا منها في ذلك اليوم فوصلنا إلى شيفتافكيه في صباح الثلاثاء فأقمنا فيها ساعات، وليس فيها شيء يقر العين، ثم سافرنا منها يوم الثلاثاء وقد تزودنا بعض فاكهة فوصلنا إلى ليفورنو في صباح الأربعاء، وظاهر هذه المدينة للناظر دون ظاهر نابولي لكنها من داخل أكبر، وطرقها أوسع، وبناؤها من الآجُرِّ المحكم، وديارها شاهقة إلا أنها ليس لطرقها ممشى على الجوانب للناس، وكذا هي مدينة نابولي ومرسى ليفورنو حسن، وفيها ملهى وعدة أعلام ومدارس لليهود، ويقال: إنه أعظم مدارس لهم في أوروبا، ومكتبة موقوفة، وهي ذات أشغال وتجارة وأهلها نحو ٧٦٠٠٠، وفي القرن الثالث عشر لم تكن إلا قرية حقيرة.

(٥) جينوى مدينة الصروح

ثم سافرنا منها إلى جينوى فبلغناها فجر الخميس، وهذه المدينة مشهورة بكثرة الصروح العالية والديار الشاهقة جدًّا، وفيها قصور كثيرة من المرمر وبساتين ناضرة وفاكهة طيبة، وهي في نجوة من الأرض متفاوضة الوضع، وطرقها أضيق من طرق ليفورنو، ولهذا كانت عواجلها أقل من تلك، إلا أن الشمس لا تستحكم في مسالكها لكثرة شرفات الديار المائلة، فكأنها مبنية من أصلها لحجب الشمس، وفيها حوانيت بهيجة ولا سيما حوانيت الصاغة، ولها قنطرة قديمة شاهقة جدًّا إذا نظرت منها إلى الحضيض هَالَكَ ارتفاعها، وفيها الفاكهة الطيبة والخبز النظيف ومحل قهوة في غَيْضَة أنيقة، وهي في الحقيقة نزهة للناظرين وما أشبهها إلا بدمشق، وليس على من يدخلها أن يدفع شيئًا.

كان تأسيسها في سنة ٧٠٧ قبل الميلاد، وكانت في زمن دولة الرومانيين حافلة غناء، وفي القرن الحادي عشر امتدت تجارتها بحرًا وبرًّا، وفي مدة الحرب الصليبية — وذلك نحو سنة ١٠٦٥ — صارت مُضَاهِئَة لفينيسيه في الغنى والثروة؛ حيث كانت موردًا للعساكر التي كان يراد تجريدها إلى البلاد المشرقية، ثم وقع فيها من الفتن والتحزب ما أضعف دولتها، فدخلت في حماية دولة فرنسا، ثم في عهدة شارلكان — أي كارلوس الخامس الشهير — فاستخلصها من الفرنسيس وصارت تتحزب مع إسبانيا عليهم، وفي سنة ١٧٩٦ استولى عليها الفرنسيس أيضًا، وفي سنة ١٨٠٠ حاصرهم فيها الإنكليز والروس وعساكر أوستريا حصارًا شديدًا فاضطروا إلى تسليمها، ثم رجعت إلى عهدة فرنسا، وفي سنة المهادنة وهي سنة ١٨١٤ سلمت لملك سردينية.

(٦) مدينة مرسيلية

ثم سافرنا منها يوم الخميس بعد الظهر فبلغنا مرسيلية في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة، ولهذه المدينة مرسى عظيم يسع ألفًا ومائتي سفينة ولا يزال مشحونًا بالبواخر، ولكثرة ورود المراكب إليها قطعوا خليجًا من البحر ووصلوه به، وفيها عدة مكاتب وملهى يعد من أحسن ملاهي أوروبا، وبستان للنباتات ومكتبة موقوفة ومصرف فسيح — أعني البورس — وفي ضواحيها أكثر من خمسة آلاف دار، ولها تجارة واسعة مع المشرق وإفريقية وأميريكا وإنكلترة والبحر الأسود، كان تأسيسها في سنة ٥٩٩ قبل الميلاد، وكانت في الزمن القديم ملحقة بولايات الرومانيين ومنها توصلوا إلى فتح فرنسا.

وفي هذه المدينة محالٌّ عظيمة للقهوة مغشاة حيطانها وسقوفها بالمرايا والنقوش والتماثيل، وأمامها مصاطب يقعد عليها الناس وإن لم يشتروا شيئًا منها، وأهل المدينة يصرفون فيها أكثر أوقاتهم كل طبقة منهم تنتاب منها محلًّا خاصًّا، وفي بعضها ترى قيانًا حسانًا يغنين وهن كاشفات الصدور، وعند ملهاها عدة ديار تسكنها المومسات يدعون الغادي والرائح، وهي وسخة الحارات والأطراف لكنها بهية الحوانيت والديار مبلطة الطرق، وليس في ديارها مراحيض، وإنما يجمعون أقذارهم في وعاء إلى أن يأتي رجل معه عجلة وعليها برميل كبير، فيناولونه الوعاء فيفرغه في البرميل، وما يجمعه فيه فإنه يبيعه لتدميل الأرض، ولا أعرف مدينة أخرى بهذه الصفة، ومنهم من يقذف بالأقذار أمام البيوت ليلًا؛ فلهذا يشم الماشي في أكثر طرقها رائحة كريهة، وماؤها في بعض الديار أُجَاج، ولعدم الاكتفاء به نهروا إليها نهرًا كبيرًا من مسافة نحو ستين ميلًا، فأحوج ذلك إلى أن ينقبوا له بعض الجبال، ثم بنوا عليه جسرًا عظيمًا يشتمل على ثلاثة صفوف من القناطر بعضها فوق بعض، وفي كل صف خمسون قنطرة، وارتفاع أعلاها من الحضيض نحو مائة وعشر أذرع، وعرض الماء الجاري فيه تسع أذرع ونصف في علو مثلها، وجميع أحجار هذا الجسر ضخمة جزيلة، وبعد إجراء هذا النهر كثرت عندهم الحياض والعيون ووفرت الفاكهة والبقول، وصارت بساتينها في غاية الرَّيْع والنضارة.

وفي هذه المدينة عدة عَرَصَات محفوفة بالشجر يتمشى فيها الناس، وتضرب فيها آلات الطرب العسكرية، وفي أحد هذه المماشي حوانيت تفتح خمسة عشر يومًا في السنة، تجمع إليها جميع التحف والطرائف، وأكثر الباعة فيها بنات حسان، فإذا مررت بحانوت حرت بين أن تنظر إلى الباعة أو إلى البياعة، وفيها يوجد أيضًا محال للعب والغناء واللهو، ومشاهدة غرائب الأشياء مصورة على خارج المحل دليلًا على وجود أعيانها في داخله.

وقد أخبرني من يوثق به أنه شاهد فيها امرأة ورجلًا قد عصب على عينيها بمنديل لكيلا تبصر الحاضرين، ثم جعل يأخذ من بعضهم خاتمًا ونحوه ويجعله في كفه مطبقة عليه، ثم يسأل المرأة عما بيده فتجيبه ولا تخطئ، وأنه أخذ مرة درهمًا قيمته عشرون فرنكًا وسألها، فقالت: في يدك درهم قيمته عشرون فرنكًا، فقال: ويحك ليس في هذه البلاد درهم على هذا الضرب، فقالت: بلى، ولكنه من ضرب الصين، وكان كذلك.

وسألها مرة أخرى عن درهم فرنساوي، فأجابته بأنه يساوي كذا وقد ضرب في عام كذا، فلما سمعت ذلك أعظمته لما أنه كان أول مرة طرق مسمعي، ثم لما شاهدته عدة مرار بمرأى العين في باريس ولندرة سقط اعتباره من بالي؛ إذ تحققت أن مع السؤال الذي يلقيه الرجل على المغمض العينين ينبهه على نوع ذلك الشيء المسئول عنه بلحن من القول لا يدركه إلا هو، وعلى كل حال ففي التلقين والتلقن حذق ودربة، وفي الجملة فإن مرسيلية إنما يستحسنها من قدم إليها من البلاد المشرقية لا من باريس ولندرة.

ثم سافرنا من هذه المدينة في الساعة الرابعة يوم الأحد في سكة الحديد، فكان البحر عن شمالنا والجبال والغياض عن يميننا، فلم يكن منظرًا أبهج منه، وأظن أن بلاد فرنسا أكثر بلاد الدنيا غياضًا وحدائق.

وكثيرًا ما كنا نسير في حافلة المجد نحو ساعة ونصف بين الأُجم، والسبب في تكثيرها احتياجهم إلى الوقود، بخلاف بلاد الإنكليز فإن أكثرها سهول ومروج وحقول لاستغنائهم عن الحطب بفحم الحجر، وفي فرنسا الجنوبية تنبت جميع الأشجار المعروفة عندنا، وذلك كالتين والبردقان والعنب والزيتون والليمون مما هو معدوم في بلاد الإنكليز، غير أن كروم العنب عندهم لا تبلع في النمو والكبر كروم الشام، وفي مسافة الطريق دخل الرَّتَل في قبوة مظلمة منقورة في الصخور، فسار فيها نحو عشر دقائق فكان أمرًا عظيمًا لمن لم يرَ مثله من قبل.

(٧) مدينة ليون

ثم بلغنا مدينة ليون بعد سفر نحو أربع ساعات لم يغب فيها عن أبصارنا ذلك المنظر الأنيق، وهذه المدينة وسخة الطرق والأزقة غير أنها حسنة الموقع، وحوانيتها واسعة عظيمة، وفيها معامل لثياب الحرير والقماش وحريرها مشهور، فأما الشريط ونحوه فإنه يصنع في صنت إتيان، ولها مماشٍ حسنة وملهى عظيم ومكاتب عديدة ومدرسة ملوكية، ومحكمة جليلة هي من فاخر البناء، ومكتبة موقوفة ومتحف وبستان للنباتات، وعدد أهلها نحو ٣٣٠٠٠٠، وفيها يجتاز نهران أحدهما يقال له: «رون» والثاني «صون»، تسير فيهما بواخر مشحونة بالبضائع والميرة، وتمر على جملة مدن من بلاد فرنسا، ثم يلتقيان ويصيران نهرًا واحدًا ممتدًّا إلى بحر مرسيلية، ولا تكاد تمضي سنة من دون أن تزخر شواطئه على الأرضين، وقد طغى في هذه السنة حتى كانت الناس تسير في شوارع المدينة في قوارب، فهدم كثيرًا من البيوت والجسور، وأهلك كثيرًا من الماشية والناس، وأتلف الغلال فيما جاوره، فانتحى سائر سكان فرنسا إلى إمدادهم وإغاثتهم، واقتدى بهم الإنكليز أيضًا، وعلى هذا النهر جسور من حديد وحجر وعدة مغاسل للنساء.

(٨) إلى باريس

ثم سافرنا منها في الساعة الرابعة من يوم الثلاثاء في حافلة المجد المعروف بالدليجانس، فبلغنا برجًا في الساعة السادسة من اليوم الثاني، ومنها سافرنا في سكة الحديد إلى باريس فوصلنا إليها في الساعة الرابعة من صباح الخميس، وسيأتي وصف هذه المدينة بعد فراغي من وصف إنكلترة إن شاء الله.

وإنما أقول هنا إنا لما وصلنا إليها كانت السياسة جمهورية؛ إذ كانوا قد خلعوا الملك لوي فيليب عن الملك، ففر بنفسه وأهله إلى بلاد الإنكليز ملجأ الفارين ومأمن القارين، ومع ما حصل فيها وقتئذ من الشغب وسفك الدماء فلم يكد الإنسان يتميز المفجوع من أهلها من المغبوط، فإن منتزهاتها بقيت غاصة بالناس.

(٩) إلى كالي

ثم بعد أن لبثنا يومين في باريس سافرنا في سكة الحديد إلى كالي أو كالس، وذلك في الساعة الثانية بعد الظهر من يوم الأربعاء الواقع في السابع والعشرين من أيلول، فبلغناها بعد الساعة السابعة مساء.

وكالي هذه إحدى فُرَض فرنسا المقابلة لإنكلترة، وهي دون بولون، وكانت سابقًا تحت استيلاء الإنكليز أيام حروبهم مع الفرنسيس، وبقيت في أيديهم مائتين وثلاث عشرة سنة، ثم استرجعها الفرنسيس في عصر الملكة ماري سنة ١٥٥٨م.

فلما بلغها الخبر أظهرت من الحزن الشديد ما قيل إنه كان سبب موتها، وقالت: «أموت وفي قلبي اسم كالي مكتوبًا.» فكانت كالي عندها أخت حتى عند الفراء، وبقيت نورماندي وأنجو ومين وطورين وبواتو وبريتاني وغيرها بيد الإنكليز نحو سنة ٢٩٢.

(١٠) السفر إلى لندرة

وأوفق لنا أن وجدنا باخرة معدة للسفر إلى لندرة فركبنا فيها وسارت مَاخِرَة بنا، وأول ما دخلت في نهر التامس انحجبت عنا الشمس واكتسى الجو سحابًا، وكان يومًا ماطرًا مظلمًا يقضي بالأسف على شمس مالطة.

وهذا النهر يختلط بالبحر الملح وتسير فيه الشمس نحو خمس ساعات إلى لندرة، والسفر فيه بهيج من جهة أن السفينة تسير فيه سيرًا خفيفًا لا اضطراب فيه، وترى فيه من البواخر الصاعدة والمنحدرة ما يشغل الخاطر، وله عند الإنكليز شأن عظيم، ويحكى عن الملك جامس الأول الذي ألحق حكومة مملكة سكوتلاند بإنكلترة أنه لما نقم على أهل لندرة أشياء أنكرها، أراد أن ينتقل ديوانه منها، فقال له ضابط البلد ويقال له بلغتهم «مير»: «إذا كان لا بد من ذلك فلا تنقل نهر التامس معك.» وهو كلام بليغ يشير إلى أن أهل المدينة ربما يستغنون عن الملك بوجود هذا النهر؛ لأنه من أعظم الأسباب الميسرة للتجارة، ولولاه لما حصلت لندرة على هذه الثروة والسعة، والمأكول والمشروب في هذه السفن التي تنقل الركاب من فرض بلاد فرنسا وأكثرها للإنكليز غاليان جدًّا، فإن قنينة الشراب في تلك الفرض تساوي فرنكًا، وفي السفن ستة فرنكات، وقس على ذلك.

(١١) إلى بلدة «وير»

ثم لما بلغنا لندرة أخذت أثقالنا إلى الكمرك وفتشت، فلم يجدوا فيها ما يوجب الأداء إلا أنا أدينا على كل صندوق وكل حاجة مستقلة نحو خرج وغيره نصف شلين، ثم تبوأنا محلًّا في إحدى الديار، وبعد أن استرحنا سافرنا منها في سكة الحديد إلى بلدة «وير» بقصد المسير منها إلى القرية التي يسكن فيها الدكطور «لي» الذي اعتمدته الجمعية لأن يكون معارضًا ترجمتي بالأصل الذي أترجم منه.

وكان للمذكور شهرة عظيمة عند الإنكليز في معرفة اللغات الشرقية، وكان في مبدأ أمره نجارًا، ولكنه أكب على العلم وقد فات الثلاثين سنة فحصل معلومات غير يسيرة، غير أنه لم يتمكن من اللغات التي حاولها، وسيأتي ذكره بعد هذا.

وحيث كان اسم القرية المذكورة مكتوبًا على أثقالنا، فلما بلغ الرَّتَل إليها وضعوها في الموقف ونحن لم نشعر بذلك، وبقينا سائرين فيها حتى إذا وقف الرَّتَل مرة ثانية سألنا عنها فأخبرنا بأنا تجاوزناها بنحو ثلاثة أميال، فرجعنا إليها مشاة، فوجدنا حاجاتنا سالمة، فسرت في طلب شيء للأكل فلم أجد فيها مطعمًا، فقلت لأحد الوقوف: ألا نجد طعامًا هنا؟ قال: هلم معي، فأخذني إلى الجزار؛ وذلك لأن مرادف لفظة الطعام عندهم يستعمل غالبًا في اللحم.

قلت: إني أريد شيئًا آكله؛ فدلني على حانوت بقربه، فتوجهت فلم أجد إلا الخبز، قلت: ما الخبز وحده أريد، فدلني على دكان آخر، فذهبت فوجدت به الفطير فقط، فعدت خائبًا، ولقيت بعض الشرطة فقلت له: ألا تهديني إلى محل للأكل؟ فدلني على موضع زعم أنه شهير يقصده جميع المسافرين، فتوجهت فوجدت صاحبته امرأة ضخمة فظة تحاول إظهار السيادة والإمارة في وجه قاصديها، فسألتها: هل عندك ما يؤكل؟ قالت: ما عندي سوى البيض، فتبلغنا بما عندها، ورجعنا إلى الموقف حتى جاء الرَّتَل الذي يسير إلى «رويستان» وهي قرية جامعة.

وقد ذكرت هذه الحادثة هنا دليلًا على ما يرى من الفرق بين بلاد الإنكليز وفرنسا، فإن القرى الحافلة في هذه ولا سيما التي يقف فيها المسافرون يوجد فيها كل ما يشتهي الإنسان من المأكول والمشروب، وحين كنا نسافر فيها وتقف حافلة المجد كنا نرى النساء يتسابقن إلينا حاملات لأطباق الفاكهة الطيبة ويعرضنها على السَّفْر، وكنا نجد أيضًا في المطاعم كل ما تشتهيه الأنفس.

(١٢) «بارلي» قرية الدكطور «لي»

ثم سرنا إلى رويستان ومنها إلى قرية «بارلي»، وهي على بعد ثلاثة أميال منها، فبلغناها في الساعة الحادية عشرة ليلًا، فتوجهت إلى دار الدكطور «لي» فوجدته مستعدًّا لتلقي الأحلام السعيدة، فقال لي: قد كتبت إليَّ الجمعية تخبرني بقدومك فينبغي أن تذهب الليلة لتبيت في خان القرية، فبتنا فيها وفي الغد كتب إلى الجمعية يخبرهم بأنه أكرم مثواي، وعُني بإنزالي منزلًا مريحًا فشكروه على عنايته، وكانت مدة سفري من مالطة إلى هذا المنفى ثمانية وعشرين يومًا.

(١٣) أحوال إنكلترة على وجه الاختصار

ثم قبل الشروع في الترجمة وفي ذكر شيء من أحوالي، ينبغي هنا أن أقدم كلامًا في أحوال إنكلترة على وجه الاختصار؛ فإن تفصيل ذلك مرجعه إلى كتب التاريخ والجغرافية، فأقول: إن الرومانيين كانوا يسمونها «بريتانيا»، وفي اللاتيني المتعارف تسمى «إنكليا»، وفي لغة أهلها «إنكلاند» ومعنى لاند: أرض، وحين يذكرون بريتانيا فإنما يعنون بذلك إنكلترة ووالس وإرلند، وهي منقسمة إلى اثنين وخمسين كونيا أي ولاية، منها اثنتا عشرة ولاية هي الأصول، وأشهر مدنها: دوفر، ونرويش، وهل، ونيوكاستل، وليفربول، وبرستول، وفلموث، وبليموث، وبورتسموت، وأكسفورد، وبرمنهام، ومنشستر، وشيفلد ونوتنهام، وكمبريج، ويورك، وباث، وشلتنهام، وهي كثيرة معادن الحديد والفحم والقصدير والرصاص والنحاس، وحيواناتها ضليعة حسنة الصورة، وبها مراعٍ واسعة ومروج نضيرة، وفيها نحو خمسين نهرًا تصلح للسفر أشهرها التامس، وجبالها قليلة لا يبلغ أعلاها أكثر من مائة ذراع، وطول الجزيرة كلها لا يزيد على ثمانمائة ميل، وعرضها في بعض الجهات ثلاثمائة وفي بعضها أقل.

وقبل فتح الرومانيين لها لم يكن عنها خبر يعتمد على صحته، وقد غزوها مرتين، وذلك في سنة ٢٦ و٥٥ للميلاد، وكان عدد أهلها حينئذ نحو مليون، وفي سنة ١٨٥١ بلغ عددهم ١٧٤٥٢٢٦٢، وعن غيبون أن الرومانيين كانوا يحسبون بريتانيا مغاصًّا للؤلؤ، وهو الذي دعاهم إلى فتحها، وبعد حرب أربعين سنة استولوا على أقصى أطراف الجزيرة.

وعدد من ولد فيها وفي والس في سنة ١٨٥٤ بلغ ٦٣٤٥٠٦ أنفس، وعدد من مات ٢٣٨٢٣٩، وفيها ١١٠٧٧ أبرشية، ويقال: إنها كانت في الزمن القديم متصلة بأرض فرنسا.

ونقلت من جرنال التيمس: أنه يوجد في إنكلترة وإرلاند أربعة وخمسون قاضيًا في المحاكم العليا تبلغ وظيفتهم ٢٤١٨٠٤ ليرة، وثلاثمائة وخمسة وتسعون قاضيًا في المحاكم الأدنى تبلغ وظيفتهم ٢٩٢٦٦٣ ليرة، فتكون جملة القضاة ٤٤٩، وجملة وظائفهم ٥٣٤٤٤٧ ليرة، قال: ولكبير القضاة عشرة آلاف ليرة في كل سنة، ولقاضي محكمة الاستدعاء ستة آلاف، ويوجد في بريتانيا ١٨٥٨٦ من القسيسين المنتمين إلى الكنيسة المتأصلة و٥٨٥٢١ من قسيسي الكنيسة المتفرعة، وسيأتي بيان الفرق بينهما، و١٠٩٣ من قسيسي الكنيسة البابوية، و١٤٧٧ من طلبة علم اللاهوت، والمدرسين فيه، فتكون الجملة ٣٠٦٤٧ وعدد فقهاء الشرع ١٨٤٢٢ ما عدا ١٦٧٦٣ ما بين وكيل دعوى وكاتب صكوك ونحو ذلك، وعدد الأطباء ١٨٧٢٨ ما عدا التلامذة الذين دخلوا في سلك المتطببين و١٥١٦٣ ما بين جراح ودوائي، ويضاف إليهم أكثر من ألف ومائة من معالجي الأسنان، و٤٣٠ صانعًا لآلات الجراحة، فأصحاب هذه الحرف الثلاث أعني القسيسية والفقهية والطبية، ومن يتعلق بهم وينضم إليهم يبلغون ١١٠٧٣٠، وعدد المؤلفين وأهل الأدب ٢٨٦٦ منهم أربعمائة وستة وثلاثون مؤلفًا يكتبون لناشري الكتب، و١٣٠٢ ما بين كاتب وناشر.

وعدد أهل الصنائع الظريفة ٨٦٠٠ من جملتهم الرسامون، وعدد المدرسين في العلوم أربعمائة وستة وستون، وعدد المهندسين ٣٠٠٩، وجملة المشتغلين بالتعليم والتخريج ١٠٦٣٤٤ منهم ٣٤٣٧٨ رجال و٧١٩٦٦ نساء، وفي عداد الأول ٢٣٤٨٨ يعلمون في المكاتب، و٤٣٧١ يُعَلَّمُون مطلق التعليم، و٣١٤٩ يعلمون الموسيقى، و١٥٣٠ يعلمون اللغات، و٥٥٤ يعلمون الهندسة، وفي القسم الثاني أعني النساء ٤١٨٨٨ يعلمن في المكاتب، و٥٢٥٩ يعلمن مطلقًا، وبالتعليم ٢٦٠٦ يعلمن الموسيقى، ويوجد أكثر من ألفين من اللاعبين واللاعبات في الملاهي، فمن الرجال ١٣٩٨، ومن النساء ٦٤٣، ومن أهل الموسيقى الرجال ٣٦٦٨، ومن النساء ٤٣٢، وعدد الذين هم في الخدمة المدنية ٧١١٩١، من سن عشرين سنة فصاعدًا منهم ٣٧٦٩٨ في خدمة الإدارة المدنية، و٢٩٧٨٥ في خدمة دواوين الميري، و٣٧٦٨ في خدمة دولة الهند ومقامهم في بريتانيا.

(١٣-١) قرية المتاعب وترجمة التوراة

ثم إني أخذت في أن أذهب إلى الدكطر «لي» في كل يوم لأترجم التوراة ثم أعود إلى منزلي ملازمًا له، فلم تمض عليَّ أيام حتى عيل صبري؛ لأن هذه القرية التي قدر الله أن أسعد الناس بترجمتي فيها كانت من أنحس قرى الإنكليز، على أن جميع قراهم لا تَلِيط بقلب الغريب لما سيأتي.

ولم يكن فيها للأكل غير اللحم والزبدة المخلوطة بالجزر والخبز المخلوط بالبطاطس والجبن واللبن المذيق والبيض والكرنب، وذلك يغني عن ذكر ما هو معدوم فيها، على أن هذه اللوازم إنما كانت نفاية ما يوجد في المدن، ومن عادة الإنكليز أن يكون لهم بالقرب من القرى بليدة يباع فيها ما يلزم لهم من المأكول والمشروب والملبوس والأثاث، فيذهب إليها الفلاحون مرة في الأسبوع ويشترون ما يلزمهم، وقد يمر على البيوت ليلًا رجل ينفخ في البوق تنبيهًا على ذهابه إلى تلك البليدة فمن شاء أن يشتري شيئًا كلفه به وجزاه على ذلك، وقد يمر أيضًا تجار بعجلات فيها نحو البن والشاي والسكر، أو يكون معهم راموز هذه الأشياء ليبعثوا منها للمشتري من حوانيتهم، وبمثل هذه الأسباب المتنوعة والصعوبة المبرحة يحصل الإنسان ما لا بد له لقوام عيشه.

أما محار البحر والسرطان والأنكليس وهذا الذي يسمونه «البسترا» وهو أطيب ما يُؤكل عندهم، وهو في شكل البرغوث وأكبر من السرطان فلا وجود لها البتة، وأما السمك فلا يرد منه إلا مرة في كل ثلاثة أشهر، على أن جميع أصناف سمكهم مسيخة إلا صنفًا منها يقال له «سمن» وهو طيب لكن لا بالنسبة إلى سمك بلادنا، وقد يضعونه في الثلج ليلًا ويعرضونه للبيع نهارًا، فربما كان عمر السمكة بعد صيدها أطول منه قبله، ولكن ربيب الثلج هذا لا وجود له إلا في المدن.

(١٣-٢) فقراء الإنكليز وأغنياؤهم

ومن قدم إلى لندرة ورأى فيها تلك الحوانيت العظيمة والأشغال الجمة والغنى والثروة، حكم على جميع الإنكليز بأنهم أغنياء سعداء، ولكن هيهات فإن أهل القرى هنا كأهل القرى في الشام، بل هم أشد قشفًا، وكثيرًا ما تقرأ حكايات تدل على بؤسهم وقشف معيشتهم مما لا يقع في بلاد أخرى، فمن ذلك حكاية عن حائك شكا حاله إلى إحدى النساء المخدومات فقال: «يا سيدتي إني حائك، وإن لي امرأة وثلاثة أولاد بقوا من عشرة فجعت بهم، ودخلي من كدي الليل والنهار لا يزيد على سبعة شلينات في الأسبوع، ولكن عليَّ أن أعطي منها شلينًا واحدًا لأجل النول، وأربعة في الشمع الذي أسهر عليه، فقالت له: وكيف تعيش على هذا الدخل القليل؟ قال: على قدر الإمكان.

ألا وقد مضى علينا ستة أشهر لم نشتر فيها رطلًا واحدًا من اللحم، بل لا نقدر على مشترى الحليب إلا بالجهد، فجل طعامنا إنما هو الشعير وحساء الماء، وقد يكون لنا في بعض أيام الآحاد إدام من البطاطس. أما أنا فلا أبالي فإني قد ألفت البؤس والضنك، ومذ سنين عديدة لم أعرف شيئًا من الدنيا سوى الكد والكدح المبرح على قلة الأجرة، ولكن همي بالأولاد وبأمهم النحيفة.» ا.ﻫ.

فقوله: إنه لم يقدر على شراء الحليب مع كونه في الريف أرخص الأشياء بالنسبة إلى غيره يغنيك عن مزيد البيان فيما يكابده هؤلاء الناس، وكثيرًا ما تقرأ أيضًا في صحف الأخبار عن أناس تركوا أولادهم من الإملاق أو ماتوا من الجوع والبرد أو النوم على الأماكن الندية القذرة أو اعْتَفَدُوا فماتوا جوعًا.

نعم إنه يوجد مستشفيات وملاجئ يقوم بها الأهلون إمدادًا للفقراء والعاجزين ونحوهم إلا أنها ربما كان عدد من فيها لا يقبل الزيادة، أو كان اللبث فيها ضنكًا أو الدخول إليها صعبًا ونحو ذلك.

وقد يبلغ من فقرهم أنهم يتركون أطفالهم بغير معمودية لئلا يعطوا القسيس مصروفها، وأعرف في القرية المذكورة أولادًا كثيرين لم يتعمدوا مع أنهم من أتباع الكنيسة المتأصلة التي توجب المعمودية، ولا تأذن لمن مات غير معمد أن يدفن في مدافنها فتنزله منزلة المنتحر.

وسبب فرط فقر الفلاحين هنا هو كون الأرض قد دحاها الله تعالى لأن تكون ملك الأمراء والأشراف فقط، فيستأجرها منهم أناس مأمونون ويستخدمون بعض الفلاحين في حرثها واستغلالها؛ فلهذا لن تجد في القرية أحدًا ذا رواء ورياش إلا مستأجر الأرض، وقسيس القرية، على أنه لا يلي شيئًا من أمور أولاده الروحيين سوى الخطبة فيهم يوم الأحد؛ لأنه يستخدم تحت يده قسيسًا يعطيه نحو ثمانين ليرة في السنة ويلقي عليه أحمال الكنيسة، وهذا المبلغ هو دون وظيفة طباخ الأسقف في بلاد الإنكليز، فعلى هذا القسيس أن يعمد أولاد الرعية، وأن يدفن الموتى منهم، ويزوج أحداثهم، ويعود مرضاهم وغير ذلك.

وعدد ملاك الأرض في إنكلترة نحو ستين ألف عيلة لا غير، وقلما يذوق هؤلاء المساكين اللحم، فجل أكلهم الخبز والجبن، فجزار القرية لا يذبح شاة أو بقرة إلا مرة في الأسبوع، ولا يبيع من اللحم إلا نصف رطل أو ربعه، وإذا ذبح شاة فلا يسلخها ويجزر لحمها إلا بعد يوم، والبقرة بعد يومين أو ثلاثة، نعم إنه قد يربي أحدهم خنزيرًا في دويرته ويذبحه ويتخذ لحمه كالقورمة التي تتخذ في بر الشام، ويطعم منه في أيام الآحاد، ومن كان ذا يسر قليل اشترى قطعة لحم في يوم السبت وطبخها وتبلغ بها عامة الأسبوع باردة؛ إذ ليس تسخين الطعام مألوفًا عندهم، فهم أحرى أن يأكلوه بائتًا منذ أيام من أن يسخنوه، ولما طلبت من المرأة التي كنت نازلًا عندها تسخين طعام بقي لي من الغداء، لم تكد تفهم مني إلا بعد شرح وتفسير، وراح كل منا يتعجب من صاحبه.

(١٣-٣) مصاعب الريف

وليس في القرى مواضع للهو والحظ، وإذا أرادوا اللهو عمدوا إلى أجراس الكنيسة يضربونها فتقوم عندهم مقام آلات الطرب، ومن الحظ عندهم أن يجلس الرجل مع امرأته ينظران إلى الخنانيص التي يربيانها، أو إلى ما يزرعانه من خسيس البقول في عرصته، فإن لكل منهم في الغالب بضع أذرع من الأرض أمام بيته يزرع فيها نحو الفجل والكرنب وما أشبه ذلك، ولولا ذلك لكانت عيشتهم شرًّا من عيشة البهائم.

وقد ترى في القرية دكانًا فيه نفاية ما يباع من الشمع والصابون والسكر والبن والشاي، وبيتًا حقيرًا يُباع فيه شيء من البصل والبطاطس والحلويات الرديئة والتفاح المسيخ، تنظرها من طاقة البيت، ولو اشتريت ذلك جميعه لما بلغت قيمته خمسين قرشًا، وفي أوان الشتاء لا يمكن للإنسان أن يخرج من منزله لاستنشاق الهواء، وذلك لكثرة الوحل في الطريق، فقد يمكث عدة أيام رهين بيته، وليس في القرى خيل أو حمير أو بغال أو عواجل تُكرى، فليس إلا مركوب النعل، وقد يكون لبعض المتشبعين عجلة يحركونها بأرجلهم إذا أرادوا أن يذهبوا من قرية إلى أخرى، فتجري بهم من دون حصان ولا حمار، وبعضهم يكون له عاجلة صغيرة مفتوحة يجري بها حصان صغير، فمثل ذلك لا يدفع عليه شيء للميري، فأما العواجل المعتادة والخيل فلا بد من الأداء عليها كما سيأتي بيانه في محله.

وكنت كلما اضطررت إلى المؤنة ذهبت إلى البليدة ماشيًا، ومرة اضطررت إلى أن أذهب في التابوت الذي ينقل فيه الدمان، لكنه كان فارغًا، وعلى فرض أن يسكن غني إحدى هذه القرى فلا يمكنه أن يتنعم بغناه؛ إذ لا يجد فيها إلا ما يجده الفقير، إلا أن يجلب مؤنته من لندرة وغيرها، ويعلم الله أني مدة إقامتي في تلك القرية المشئومة لم يكن لي هم إلا بتحصيل لوازم المعيشة، فكنت أجلب بعض القَطَاني من كمبريج وبعض النقل من رويستان والمزر من لندرة في سكة الحديد، ولكن لما وجدته غاليًا اقتصرت عن جلبه، فاستولى عليَّ ضعف المعدة ووهن في رُكَبي لم أحس به في عمري قط، فإن مِزْر القرى رديء؛ إذ ليس منه إلا ما ينبط بالمنبطة دون المرعى في زجاج، وهو كالدواء سواء إلا إنه غير نافع، وقد غُشي عليَّ مرة في دار الدكطور «لي» وأنا أترجم، فأمر خادمته بأن تتداركني بكسرة خبز مشوية.

أما الصيف فإنه وإن يكن غير مزهق إلا أنه منغص؛ لعدم وجود البقول المرطبة فيه، ولعوز الفاكهة كما ستعلم، ولا سيما أن أكثر شرب أهل الريف إنما هو من مناقع من ماء المطر، وأكثرها يعلوه الطحلب، فإذا نشفت عمدوا إلى الآبار — وهي قليلة — يدخرونها إلى الحاجة، وهي أيضًا من المطر، إلا أن الإنكليز قلما يشربون الماء فإنهم يستغنون عنه بالجعة، وقد مضى علينا في الصيف نحو شهرين لا نذوق فيهما شيئًا من الفاكهة والخضرة إلا ما ندر، وفي شهر نيسان انقطع عنا المذيق الذي كنا نشتريه لأجل القهوة؛ لأنهم كانوا يسقونه الخنازير ولا يبيعونه، فاضطررنا إلى أن نتوسل بإحدى النساء لتشفع فينا عند صاحبة البقرة في إمدادنا كل يوم بما يكفي للقهوة فقط، ففعلت ثم جاءت مبشرة لنا بقبول خالص شفاعتها في المَذِيق، وأن صاحبة البقرة رضيت بأن تبيعنا كل يوم بنصف بني تفضلًا وتكرمًا، فأوسعناها شكرًا وثناء ومطأطأة رأس وانحناء.

وفي هذا الشهر المبارك لم يكن يوجد شيء من الفاكهة ولا من البقول، وكانت البصلة الصغيرة تباع بيني، مع أن الحقول كلها كانت ناضرة زاهية، فالمار فيها هو كراكب البحر وهو ظامئ.

(١٣-٤) مزروعات الإنكليز وثمارهم

وأكثر ما يزرع الإنكليز في حقولهم إنما هو القمح والشعير واللفت والبطاطس، وأصل جلب هذه إليهم من أميريكا في سنة ١٥٨٦، فأما البقول فيزرعونها في عرصات الديار لمؤنتهم فقط، وهي قليلة جدًّا، ولما كان جل علف البقر من اللفت، كان لحمها ولبنها لا يخلوان من طعمه.

وإذا زرعوا البقول فلا بد وأن يضعوا معها شيئًا من الملح والجير ويكثرون من تدميلها، فلهذا لا تكون زكية، إلا أنها تنمو نموًّا فاحشًا، فإن الفول قد يعلو مقدار قامة الربعة، وكذا اللوبياء والقمح والشعير والرشاد يبلغ أطول من ذراع، ونحو ذلك الخس والنعناع والكرفس، وقد تبلغ الكرنبة قدر الجرة الكبيرة، وتكون التفاحة أو الإجاصة نحو البطيخة الصغيرة، وقس على ذلك البصل والكراث حتى إن الحيوانات البرية والبحرية تكبر عندهم غاية الكبر، فإن السرطان يكون في قدر رأس الآدمي، وقد وُزِنَ مرة ديك حبشي فبلغ أربعين رطلًا، ورطل الإنكليز نحو ١٥٠ درهمًا، وكان ارتفاعه ثلاثة أقدام.

وأصل جلب الجزر إلى هذه البلاد كان من هولاند، ولم ينبت هنا قبل سنة ١٥٤٠م، ولكنه لم يكن أولًا في هذا الكبر، وأصل جلب القنبيط كان من جزيرة قبرس، وكان منذ ستين سنة يرسل منه من هنا إلى بلاد البورتوغال على سبيل الهدية والطرفة، ويحرثون على الخيل والبقر جميعًا، وحين يزرعون القمح وغيره يمدون خيطًا من أول الحقل إلى آخره حتى تأتي الأقلام مستقيمة.

وفي كثير من البقاع يخافون عليه من آفة تعرض له من الدود؛ فيزرعون بينه حشيشًا سميًّا ليقتل الدود، فإذا حصدوا القمح حصدوا معه الحشيش أيضًا وباعوه على حدته، وربما أُغفل فبقي مختلطًا بالقمح وطُحن معه، فقد قرأت في كثير من صحف الأخبار أن كثيرًا ماتوا من الخبز، وهذا هو أيضًا سبب وضعهم الملح مع البقول، فأعجب لقوم يطبخون طعامهم بلا ملح ويملحون مزروعاتهم ويسمونها.

ومما لا ينبت عندهم شجر البردقان والليمون الحلو والحامض وقصب السكر، والموز واللوز والفستق، والتين والمشمش والخوخ، والدراق والصنوبر والتمر والرمان، وهذا الأخير لا يعرفون ماهيته، والصبار والآس والزيتون والبطيخ، والقثاء والباذنجان والباميا والملوخية، والحمص والعدس والماش، وقَلَّ وجود الخرشف والخيار والسفرجل، وشجر التوت لا يرى إلا للفرجة، والطيب من فاكهتهم إنما هو الإجاص والتفاح، وقد يكبران حتى تملأ الواحدة منهما الكف.

وهذا الأخير يدوم الشتاء كله في المَطَامِر، ولكن يباع في القرى على قلة، وأصل جلبه إليهم كان من بر الشام وذلك في سنة ١٥٢٢م، فأما البردقان فيرد إلى المدن الكبيرة من إسبانيا وبرتوغال وكذا العنب، وقد يربون شجرهما في بيوت من زجاج، ويسخنونها بالنار؛ لأن حرارة هوائهم لا تكفي لإنباتهما: ولكن يكون سعره أغلى من سعر المجلوب إليهم، وما ينبت في غير هذه البيوت من العنب فإنه يبقى حثرًا وهو ما لا يونع، ويبقى حامضًا صلبًا.

وعندهم ثلاثة أصناف من الثمار أو أربعة كحب الآس عندنا وهي قليلة الجدوى، ولا سيما كونها لا تقوى على الرياح فأقل نسمة تذهب بها، وكذلك عندهم ثلاثة أصناف أو أربعة من البقول لا توجد عندنا وهي أيضًا تافهة.

ويحق لي أن أقول بعد الاختبار والتحري: إن جميع ما ينبت في بلاد الإنكليز هو دون ما ينبت في فرنسا في الطيبة والزكاء، وجميع ما ينبت في هذه هو دون ما ينبت في بر الشام، وما أرى العلة في ذلك سوى كثرة السِّرْقِين في الأرض، وقلة الحرارة في السماء، نعم إن جميع ما ينبت عندهم هو أكبر جرمًا مما ينبت عندنا كما تقدم، ولكن شتان ما بين الكبر والطعم، إلا أن الإنكليز يتنافسون في كل شيء ضخم.

أما أنواع الرياحين والزهور والأشجار غير المثمرة فكثيرة عندهم، وعنايتهم بها أشد من عنايتهم بالبقول المأكولة، على أن جل أزهارهم لا عرف له، غير أني رأيت عندهم جملة أنواع من الزهور ذكية الرائحة مما هو في مالطة لا رائحة له أصلًا، وكثيرًا ما يذكرها المؤلفون منهم في كتبهم وتلهج بها النساء في محاوراتهن، حتى إن إحداهن سجنت مرة فكانت صواحبها يهادينها بباقات من الزهر، وفي أعياد ميلادهن يطرفن به، فيغني ذلك عن طرف القماش والجواهر، فهي في الواقع صلة الرحم وسبب الوداد، وإذا رقصت امرأة في ملهى وأعجبت الحاضرين نقطوها بباقة، وعلى ذكر التنقيط يعجبني قول ابن المعتز في مليح جدَّر:

يا قمرًا جدر لما استوى
فزاده حسنًا فزدنا هموم
كأنما غنى لشمس الضحى
فنقطته طربًا بالنجوم

قلت: وأهل اللغة أهملوا هذا الحرف بهذا المعنى، والضمير في زاده يرجع إلى التجدير المفهوم من الفعل، وهو رد على الحريري حيث منع أن يقال جدر بالتشديد لكونه ليس للتكثير.

(١٣-٥) أرض إنكلترة

أما أرض إنكلترة فكلها سهل محروث مزروع تشبه أرض البقاع في الشام، فلن ترى فيها بقعة واحدة بورًا، فكأنها جميعًا لرجل واحد ذي عيال في كونها لا يغادر منها محط قدم من دون منفعة، فلا ترى إلا غياضًا وحقولًا ومزارع ومروجًا وديارًا، والظاهر أن بلاد الإنكليز أعظم حرثًا وأعمر من بلاد فرنسا، وكل شيء فيها من نام وحيوان، تراه في غاية الريع والنمو، وكنت قبل حضوري إليها أحسبها كلها جبالًا لما كنت أسمع من شدة بردها، فإذا هي قاع صفصف، وقرأت في بعض الأخبار أن قيمة ما تحصل من غلالها في سنة ١٨٤٧ بلغت ٥٤٠٠٠٠٠٠ ليرة، وقس على ذلك سائر السنين.

وأحسن بقعة في الأرض يغادرونها مرعى للضأن ومسرحًا؛ فلهذا كان لحم الضأن عندهم فاخرًا جدًّا، ومع شدة عنايتهم بتربية الماشية فإنهم يحتاجون إلى جلب الجلود من الروسية والغرب الأقصى، وثمن ما يجلبونه منها يبلغ في السنة ١٥٠٠٠٠٠٠ ليرة يذهب نحو نصفها في عمل الأحذية، والباقي في غير ذلك.

(١٣-٦) بين إنكلترة وفرنسا

وفي بعض الصحف أن في كل من إنكلترة وفرنسا يربى نحو خمسة وثلاثين مليونًا من الغنم، ومن كل من العددين يحصل قدر من الصوف متساوٍ، إلا أن غنم فرنسا يحصل من لحمها أقل مما يحصل من تلك، وقد يبلغ الحاصل من إقليم شستر من الجبن مبلغًا وافرًا، وما يحصل من لبن البقر في فرنسا يبلغ مليون ليتر، ثمن كل ليتر نحو عشرة صنتيم، وما يحصل من لبن البقر في إنكلترة يبلغ ضعفي هذا القدر، ويباع بضعفي قيمة ذلك، والإنكليز يربون ثمانية ملايين من الماشية في أحد وثلاثين مليون جريب، والفرنسيس يربون عشرة ملايين في ثلاث وخمسين مليون جريب.

وجزارو فرنسا يذبحون في السنة غالبًا أربعة ملايين من الماشية تبلغ خمسين مليون كيلوغرام، والإنكليز يذبحون مليونين، ولا يذبحون من العجل قدر ما يذبح عند أولئك.

والحاصل في فرنسا من الحليب مائة مليون فرنك، ومن اللحم أربعمائة مليون، ومن الحرث مائتا مليون، والحاصل في إنكلترة من الحليب أربعمائة مليون فرنك، ومن اللحم خمسمائة مليون، فيكون الحاصل من كل بقرة في إنكلترة من اللبن واللحم فقط أكثر من الحاصل من البقرة في فرنسا من اللبن واللحم والحرث معًا، هذا ما نقلته وفيه نظر.

(١٣-٧) ما يجلبه أهل إنكلترة

ومع خصب أرضهم وكثرة غلالهم كما بيناه آنفًا فإنهم يجلبون كثيرًا من المأكول والمشروب من البلاد الأجنبية، فقد قرأت أنه في مدة ستة أشهر جلبوا من البقر ١٢٢٣٧ رأسًا، ومن الغنم ٢٩٢٦٨، ومن البيض ٥٦٤٥٤٧٤٥ بيضة، وفي سنة ١٨٥٠ جلبوا من الجبن ٢٧٠٠٠ طن، وفي سنة ١٨٤٨ جلب من أرلاند من البقر اثنان وثمانون ألفًا وخمسمائة واثنان وتسعون رأسًا، ومن الغنم مائة ألف وثلاثمائة وستة وستون، ومن الخنزير ثلاثمائة وواحد وثمانون ألفًا وسبعمائة وأربعة وأربعون، وقيمة ما جلب من البطاطس في عام واحد بلغت نحو عشرين ألف ليرة، وقس على ذلك الزبدة والفاكهة والقطاني، وبهذا يتبين لك ما يلزم لأعالي هؤلاء القوم وأسافلهم.

وفي الحقيقة فإن إنكلترة قد ضاقت بأهلها، ولهذا يهاجر منها في كل سنة نحو مائتي ألف وخمسين ألفًا، وأحسن أقاليمها في النضارة والريع إقليم «كنت»، وفي كثر أشجار الفاكهة «دوفنشير» وإذا دخلت حمى «ششير» فهرول.

(١٣-٨) حيوانات الإنكليز

أما حيواناتهم فعلى نسق بقولهم من الكبر والضخامة، منها الخيل وهي نوعان: ضليع ضخم وهو ما يستعمل في جر الأثقال فترى الحصان كالبرج المرصوص، ويحمل أربعمائة رطل من أرطالهم وثمنه مائة ليرة، والثاني: خفيف ممشوق وهو للركوب والسباق، أو لجر عواجل العظماء، وربما سار في الساعة ثمانية عشر ميلًا، ويقولون: إن خيلهم أعتق من خيل العرب، وإن يكن أصل بعضها من تلك، ويقال: إنه في زمن الملكة اليصابت لم يكن في جميع مملكة إنكلترة أكثر من ألفي فرس، وبقرهم تعظم في عظم جواميس مصر، ولحمها طيب إلا أنه كثير الدم، وهي حسنة الخلقة والشكل، وكذلك غنمهم تسمن سمنًا فاحشًا، وهي أيضًا مليحة ولكن ليس لها ألايا كغنم الشام، ولعلها هي النوع الذي يقال له: القهد، والهر عندهم ظريف وهو أحرى بأن تحلق الحواجب على فقده من هر قدماء المصريين، أما الحمير فإنها قبيحة وغير فارهة على قلة وجودها، ولا وجود للبغال عندهم، وندر رؤية المعزى.

ومما منَّ الله به على هذه البلاد أن ليس فيها حيات ولا عقارب ولا رتيلًا ولا سوام أبرص ولا ابن آوى يعوي في الليل، ولا نمس يأكل الدجاج، ولا بعوض يمنع من النوم، ولا براغيث في الربيع إلا نادرًا. ويكثر عندهم الجُرْذان تسمع شقشقتها وهي تجري تحت مخشب البيوت، وكذا البق لكثرة الألواح في منازلهم، قال في أبجدية الأوقات: هذا الجرذ الأسمر الذي يسمى جرذ نوردي غلطًا هو أعظم رزيئة في ديارنا، وأصل مجيئه إلينا كان من بلاد العجم وبعض البلاد الجنوبية في آسية كما هو الظاهر من كلام بالاس وغيره؛ حيث قال: إنه في سنة ١٧٢٩ زحفت أسراب جرذان لا تحصى من البراري الغربية إلى أسطراخان، حتى لم يمكن ردها بوجه ما، وفي أواخر القرن السادس عشر زحفت حتى دنت من باريس، إلا أن كثيرًا من جهات فرنسا لم يزل خاليًا من هذه البلية.

(١٣-٩) فائدة في عمر الحيوان

قال بعضٌ: إن الحصان يعيش من ثماني سنين إلى اثنتين وثلاثين سنة، والثور ٢٠، والبقرة ٢٣، والحمار ٣٣، وأصل نتاجه في بلاد العرب، والبغل ١٨، والشاة من الغنم ١٠، والكبش ١٥، والكلب من ١٤ إلى ٢٥، والخنزير ٢٥، والعنز والحمام ٨، والقط ١٠، والوز ٢٨، والببغاء من ٣٠ إلى ١٠٠، واليمام من ٥٠ إلى ٢٠٠، هكذا نقلته وهو غريب، فإن الحمام واليمام من جنس واحد.

وقال آخر: الدب يعيش ٢٠ سنة، ونحوه الكلب والذئب والثعلب من ١٤ إلى ١٦، والأسد نحو ٧٠، والقط في الجملة ١٤، والأرنب ٧ سنين، والفيل قد يعيش ٤٠٠ سنة، والخنزير ٣٠، والكركدن ٢٠، والفرس من ٢٥ إلى ٣٠، والجمل نحو ١٠٠، والبقرة ١٥، والضأن قلما يجاوز ١٠ سنين، والوعل يعمر طويلًا، والدلفين ٣٠، والنسر قد يعيش ١٠٤ سنين، والغراب ١٠٠، والسلحفاة ١٠٧، ونوع من الحيتان اسمه والس ولعله الدخس يعيش ١٠٠٠ سنة.

(١٣-١٠) بناء الإنكليز ومساكنهم

أما بناؤهم فمن الآجُرِّ الأحمر والأبيض، وقد يصبغون خارج الديار أو يُكَلِّسونه، ثم يرسمون عليه خطوطًا تبديه كأنه حجارة مربعة متساوية لا يدركها إلا من دنا منها وترسمها، وتبقى على ذلك سنين بخلاف بيوت لندرة، فإنها لما كانت هدفًا للدخان والضباب لم تلبث أن تسود كما سنذكر ذلك إن شاء الله، ولهم في تجديد الأبنية مهارة غريبة، وذلك أنهم إذا أرادوا مثلًا هدم دار هدموا أولًا أسفل جدرانها، وأسندوا القائم منها بعضائد، ثم بنوا الأسفل فربما نجز الهدم والبناء في وقت واحد، وبعض البيوت يبنون خارجها كالسفينة من قطع خشب يعارضون بعضها ببعض، ثم يطينونها، وربما كانت تلك الأخشاب قديمة.

وفي الجملة فإن بيوت الفلاحين حسنة مهندسة، غير أن القديم منها ربما يكون أصغر من سطحه، فإن السطوح عندهم على ثلاثة أنواع؛ الأول: من ألواح المكاتب التي يتعلم عليها الخط وهي للديار الكبيرة، والثاني: من الخزف وهو للبيوت الوسط، والثالث: من التبن. فهذا يكون قبيح المنظر، وهو يرقع كما يرقع الثوب، ويقولون: إنه أحسن من غيره شتاء وصيفًا، فإنه في الشتاء يمنع البرد ويرد الثلج، وفي الصيف يمنع الحر.

ولا يكون السطح عندهم إلا مُسَنَّمًا، والفاصل بين ألواح الزجاج في الشبابيك أكثره قضبان رصاص بدلًا من الخشب، وربما كان الزجاج قطعًا صغارًا كالكف مربعة ومخمسة فيكون للعين أنيقًا، وحيث كان في السابق ضريبة للميري على الطيقان إذا زادت عن ثمانية، كان الناس يتحاشون من مجاوزة هذا القدر، ولكنه الآن أبطل، تمتعًا بنور الله وهوائه، ولكن قام مقامها ضريبة أخرى، وكل دار لا بد وأن يكون فيها عدة مواقد للنار، وأسِرَّتهم كلها من خشب لا من حديد، والغالب أن أرض منازلهم تكون مفروشة باللبد أو البسط من الزرابي، وأثاثهم بين بين، وقَلَّ أن ترى عندهم من الصور إلا صورة كبير العائلة، وصورة الخيل في السباق، أو صورة أرانب وكلاب.

أما بيوت الأغنياء والمترفهين فلا شيء أجمل منها؛ لإحكام بنائها وحسن ترتيبها، وحيطانها من داخل مغشاة بالورق الفاخر المنقش، وطيقانها محكمة الوضع، كبيرة قطع الزجاج، وهو يقارب البلور في الصفا والبريق، ودرجها وأرضيتها من الخشب المتين، ولهم إسراف زائد في الأثاث، فإن أسرتهم وموائدهم وأصونتهم وكراسيهم وخزائن كتبهم كلها من الخشب المسمى بالماهيكون، وقد تبلغ قيمة ذلك في الجملة نحو ٥٠٠ ليرة، ومع ذلك فلن ترى لسيدة الدار حليًّا من الألماس أو شالًا من الكشميري، وهي عكس عادتنا، ومن إسرافهم أن يغطوا الدرج بالجوخ المنقوش أو الزرابي الفاخرة وفوقها الكتان النفيس يدوسون عليه، ومراحيضهم في غاية النظافة والترتيب، حتى إن الفرنسيس إذ ذكروا مرحاضًا على هذه الصفة قالوا: إنه مرحاض إنكليزي، وكنت مرة ضيفًا لأحد بخلائهم فلما أصبحت طلبت الكنيف فدللت عليه، وإذا هو في غاية الزخرفة والإحكام حتى إني أحجمت عن فتحه واستعماله، وخطر ببالي حينئذ ما قاله بعض الظرفاء في بخيل أنفق على كنيف له سبعمائة درهم قد استدانها: «ليت شعري ما الذي يريد أن يخرأ فيه.»

وإجارة المسكن للغريب إنما تكون بالأسبوع، ولا بد أن يخبر أهل المنزل قبل خروجه بأسبوع؛ فإذا علموا ذلك تهاونوا في خدمته، وإذا استأجر أحد مسكنًا في دار من مستأجر الدار وفرشه، وكان المستأجر لا يؤدي غلة الدار إلى مالكها، حق للمالك أن يستولي على كل شيء في الدار، ثم إن البناء في الأصل كان من الخشب والطين، ثم من الآجُرِّ، ثم من الحجارة غير المهندمة، فلما تمدن الناس وتبحروا في الصنائع صار من المرمر.

(١٣-١١) نبذة عن استخدام الحجر في البناء

والبناء من الحجر عُرف عند أهل صور من القديم ثم اشتهر عند جميع الأجيال، ولم يعرف في إنكلترة قبل سنة ٦٧٠م، وكان المحدث له راهبًا اسمه بناديكتوس، وأول جسر بني منه في هذه البلاد كان في سنة ١٠٨٧م، أما البناء من الآجُرِّ فإنما عُرف عن الرومانيين، وفي سنة ٨٨٦م أمر ألفريد ملك الإنكليز باستعماله، وفي سنة ١٥٩٨م استحسن تعميمه، وكان بناء لندرة إذ ذاك من الخشب غالبًا، وأما الزجاج فيقال: إن أول من تعلم صنعته أهل مصر؛ فإنهم أخذوها عن هرمس، وقال بلينيوس: بل كان اختراعه في سورية، وكان له معامل في صور من القديم، وقد ذكره الرومانيون في عهد طيبيريوس، وعلم من أنقاض بمباي أن الزجاج كان في طيقانها سنة ٧٩ قبل الميلاد.

وأول ما اشتهر اتخاذه في أوروبا كان في إيطاليا، ثم عرف في فرنسا، ثم في إنكلترة، وفي سنة ١١٧٧ استعمل في ديار بعض الأعيان ولكنه كان مجلوبًا، ويفهم من كلام فلتير أن أول من شهره في بلاد الإنكليز رجل من فرنسا، وذلك في سنة ١١٨١، وفي سنة ١٥٥٧ أنشئ له معمل، وفي سنة ١٦٣٥ أكسب رونقًا وصفاء، وفي زمن وليم الثالث أتقن إلى الغاية.

(١٣-١٢) عاطلو الإنكليز

ومن سوء التدبير في بلاد الفلاحين أنه لا يقام في القرية من الشرطة إلا واحد، فلذلك يكثر فيها الحريق والسرقة، فإن أهل القرية إذا لم يستخدمهم مستأجر الأرض يبقون معطلين متنزعين إلى ارتكاب كل شر، فيعمدون إلى إحراق أكاديس القمح والحشيش المكدسة في الحقول في ليلة ذات ريح؛ فتسري النار إلى بعض البيوت وليس من يطفئها، ثم لا تلبث أن تلاشيه بالكلية وتسري إلى غيره، فربما احترقت القرية كلها في ليلة واحدة، وفي مدة شهرين من إقامتي بتلك القرية وقع خمس عشرة حريقة في أكداس الغلال، وكان سبب ذلك من هؤلاء المعطلين عن الشغل تشفيًا من غيظهم من مستأجر الأرض، ورأيت آثار قرية كانت تشتمل على خمسين بيتًا احترقت بأجمعها في ليلة واحدة، بل إن كثيرًا من هؤلاء الفجار ينهبون الكنائس، وقد يدخلون الديار من مداخن المواقد النافذة إلى السطح ويسرقون ما قدروا عليه، وفي كل ليلة قبل النوم يوصي المخدوم خادمه والمخدومة خادمتها بإطفاء النار والنور.

أما العاجزون والسُّقط فإنهم يمكثون في المستشفى ويقوم بنفقتهم القادرون من الرعية، فإن الحكومة لا تنفق شيئًا على المستشفيات ولا على تصليح الطرق ولا على ترتيب الشرطة أيضًا، إلا أن أكثر الناس يستنكفون من المكث في المستشفى كما ذكرنا سابقًا.

وقد تقرر عند الإنكليز جميعًا أن التصدق على الفقراء يحملهم على الكسل والتواني، فما يعطون فقيرًا إذا مروا به ولو كان عريانًا اعتمادًا على وجود هذه المستشفيات. ويمكن أن يقال: إن أكثر فقرهم هو من انهماكهم في شرب المسكرات؛ فإنك ترى منهم فقراء كثيرين بأخلاق من الثياب، ومهما يكسبوه ينفقوه في الجعة، ولا يزالون يَكْرَعون منها حتى تجحظ عيونهم وتنعقد ألسنتهم عن الكلام، ولا يزالون يلهجون بذكرها فهي عندهم في الشتاء للتسخين وفي الصيف للترطيب، ومع ذلك فهم بالنسبة إلى أهل المدن الجامعة أصحى وأعف، كما أنهم أسخى منهم وأكرم، وهذه خطة عامة في جميع البلاد، فإن أهل المدن لما كان احتياجهم إلى أسباب المعيشة والرفاهية أكثر كان الكرم فيهم أقل، وذكر الطبيب بوخان أنه عرف في زمانه نساء بعن أولادهن بالجعة.

ثم إن الإنكليز طالما افتخروا بهناء العيش داخل ديارهم، وهو عبارة عن أمرين؛ أحدهما: التمتع بكل ما يلزم للإنسان في معيشته، والثاني: ترتيب وضع الأشياء المتمتع بها، وهو أن يكون لكل شيء موضع خاص به، ولكل موضع شيء، فمن غسل يديه مثلًا في طست على مائدة ثم تناول المنشفة من جانب المائدة من دون أن يغادر موضعه ويفتش عليها، فقد اتصف بأنه متهنئ، وقس على ذلك.

(١٣-١٣) من مفاخر الإنكليز

والحق يقال: إن الإنكليز في ذلك أعظم الناس ترتيبًا وأحكمهم وضعًا للأشياء، وكأنهم إنما ورثوا هذه الخلة كابرًا عن كابر، ومن تعود على هذه الحال عندهم فلا يمكنه أن يتهنأ بعدها في معيشته في البلاد المشرقية، قالوا: وعلى هذا الأصل بنيت بيوتنا، بحيث إذا تبوأها أحد لا يحب أن يخرج منها، ولا سيما وضع مواقدهم؛ فإنها تسع من الفحم ما شئت، وبذلك يحصل لهم الدفء في الشتاء وهو من ألزم ما يكون، وعندهم نحو ثمانمائة ألف دار مفردة يقال لها: «كوتاج»، لا يمكن لغيرهم من الناس أن يعيش في مثلها حالة كونها منفردة.

فأما دعواهم بأن مَبَاقِلهم مريعة غضة بحيث تكفي لكل ما يلزم لهم، وأن أثاثهم وأدواتهم وافية بالمراد حتى لا يمكن للشهواني أن يقترح شيئًا زائدًا عليها، فليست في محلها، فقد مر بك أن كثيرًا من البقول والفاكهة لا ينبت عندهم، ويمكن أن يقال إن ذلك غير ضائر من لم يتعود عليه، فأما من جهة الأثاث فإن جميع سكان أوروبا المتمدنين مشتركون فيه، على أنهم محرومون من كثير من الملاهي والفرج.

(١٣-١٤) مناير إنكلترة وغيرها

هذا؛ وكما أن أرض إنكلترة كلها محروث عامر، كذلك كانت شطوطها بأجمعها مرصعة بالمنابر والأعلام لهداية السفن، فإن في سواحلهم مائتي منارة لا تزال أنوارها متقدة الليل كله، وجملة المناير التي في سواحل فرنسا الشمالية والغربية ٨٩، والتي في هولاند ٢٦، ومصاريف منايرهم تؤخذ في رسم يجعل على السفائن المشحونة التي تمر بها وهو يختلف، وقد يبلغ في السنة مائتين وخمسين ألف ليرة ينفق نحو ثلثيه في لوازمها ويدخر الباقي لأجل ترميمها.

وأعظم منارة بنيت في إنكلترة مما يجدر بأن يعد من عجائب الدنيا منارة أدسطون وذلك في سنة ١٦٧٠، ولكن طُمَّ عليها الماء في إحدى السنين فأبادها رأسًا فلم يبقَ منها سوى قطعة سلسلة من حديد.

وأول منارة عُرفت في الزمان القديم المنارة التي بنيت على صخر فاروس قبالة الإسكندرية، وكانت من المرمر الأبيض العجيب الصنعة، وذلك في عهد بطليموس فيلادلفوس ملك مصر سنة ٢٨٢ قبل الميلاد، فكان النار يوقد في قُنَّتِها دائمًا لهداية السفن إلى مرسى المدينة المذكورة حتى قيل: إنها كانت تُرى من مسافة مائة ميل وهو مظنة للإنكار، ويقال: إن مصاريفها بلغت ٣٠٠٠٠٠ ليرة إنكليزية بحساب أن الدراهم كانت من ضرب مصر، وقد عدت من عجائب الدنيا السبع، وبلغت من الشهرة والعجب بحيث إن اسمها أطلق على كل منارة بنيت بعدها إلى يومنا هذا تقريبًا.

وفي تاريخ مصر لعبد اللطيف البغدادي أن بعض ذوي العناية ذكروا أن طولها ٢٥٠ ذراعًا، وأن بعضهم قاسها فوجدها ٢٣٣ ذراعًا، وهي ثلاث طبقات؛ الطبقة الأولى: مربعة وهي مائة ذراع، والطبقة الثانية: مثمنة وطولها ٨١ ذراعًا ونصف ذراع، والطبقة الثالثة: مدورة وطولها ٣١ ذراعًا ونصف ذراع، قال: «وفوق ذلك مسجد ارتفاعه نحو عشر أذرع.»

(١٣-١٥) عجائب الدنيا

وعجائب الدنيا فيما عده بعضهم ما عدا ما ذُكر هي أهرام مصر، والموزليوم وهو قبر بناه أرطيمسيا لموزلوس ملك قاريا، وهيكل ديانة ابنة جوبيتر، في أفسوس، وأسوار مدينة بابل وحدائقها المتدلية، وصنم الشمس من نحاس في رودس، ويقال له: قولوسوس وصنم جوبيتر، وقيل: إن جوبيتر هو هُبَل عند جاهلية العرب، قلت: ومن العجب في هذه العجائب أنهم لم يعدوا منها سد الصين؛ فقد قال فلتير: إن دورته مسافة ألف وخمسمائة ميل مرتفعًا على جبال شامخة ومنحدرًا في أماكن وعرة المرتقى، وعرضه في جميع هذه المواضع عشرون قدمًا، وارتفاعه أكثر من ثلاثين، وهو أعظم من أهرام مصر في القدر والمنفعة، بناه أهل الصين حاجزًا بينهم وبين التتر، وذلك في سنة ١٣٧ قبل الميلاد.

(١٣-١٦) هواء إنكلترة

أما هواء إنكلترة فإنه كثير التقلب يختلف في اليوم الواحد مرات، وبينما يكون الجو مصحيًّا والسماء نقية إذا بالغيم قد طبق الأفق وتراكم حتى تحسب أنه لم يكن شمس قط.

وقد يبلغ درجات الهواء في يوم ثلاثين، وفي غده خمسين، ومع ذلك فلا يصح أن يحكم عليه بأنه وخيم ولا سيما على من ألفه، فإن الغالب على بنية الإنكليز الضلاعة والشدة، وإن كثيرًا منهم يعمرون فوق المائة سنة، وفي مدة ثلاث سنين مات في إنكلترة ووالس ٢٦٦ شخصًا وعمرهم من المائة فصاعدًا، ومات رجل في كورة «هولي وود» وقد بلغ من العمر مائة وثلاث عشرة سنة، وبقي متمتعًا بجميع حواسه، وأوصى وصية مبينة، ولم يعرف المرض إلا قبل موته بساعة واحدة.

ومتى تم لهم صحو يوم تام رأيت الناس جميعًا يلهجون بمحاسنه ويذكرون بهجته، فهو عندهم عيد وموسم، وفي الحقيقة فإنه إذا انجلى الغيم وظهرت الشمس لم يكن شيء أبهج من ذلك، فإن بلادهم كلها مروج وغياض كما ذكرنا سابقًا، وقد ترى في الأشجار المتصافة ألوانًا مختلفة، وترى الحقول كأنها بسط من سندس أخضر، ولا يخفى أن هواء الرستاق والريف أصح وأسلم من هواء المدن الكبار التي يكثر فيها الدخان والعفونات والأقذار، إلا أنه لا يمكن الخروج في الريف شتاء حين تكون المسالك وحلة، فلهذا يمكن أن يقال: إن أهل المدن أكثر حركة ورياضة من أهل الأرياف.

وبذلك تحصل الموازنة ما بين طيب هواء هؤلاء ووَخَامَته عند أولئك، وقد سبقت الإشارة إليه، فأما من ابتلي بالسل والربو أو ضيق الصدر فلا يصح له مقام في هذه البلاد أيًّا كان، وكما أن لياليهم في الشتاء تكون طويلة جدًّا، فإن النهار إذ ذاك عبارة عن ثماني ساعات كذلك تكون في الصيف قصيرة جدًّا فإن النهار في شهر حزيران يكون ست عشرة ساعة ونصفًا، فيكون الليل كله كالشفق إلا أن يلبس الجو الغيم والدُّكْنة.

ولنذكر لك جملة من الكلام على الهواء هنا لتتخذها قانونًا تقيس عليه، فأقول: إنه في الثاني عشر من شهر تشرين الأول أحوج البرد إلى إيقاد النار، وكنا نرى أهل القرية كلهم يصطلون، فحذونا حذوهم، وبقيت الشمس أيامًا عديدة لا تُرى إلا لمحًا، وكانت تطلع في الساعة السادسة وتغرب في الخامسة، ولا يكاد يكون بعد غروبها شفق، وفي الواقع فإن النار عندهم تقوم مقام الشمس، فإنهم ينشفون عليها الثياب، ويتلذذون بالنظر إليها، ولا سيما إذا كانت ذات لهب، وقد بلغت منهم ألفتهم بها بحيث إذا جلسوا في الصيف حين يستغنون عنها يطوفون بالموقد، ويؤثرونه على الجلوس عند الشبابيك.

إلا أنه من يجلس عند الموقد فلا بد له من أن يغسل يديه ووجهه في اليوم مرارًا، حتى إن غِلالته تتسخ من أثر الفحم من تحت ثيابه، وفي الرابع والعشرين من الشهر المذكور كانت الشمس تطلع في الساعة السابعة وتغيب قبل الساعة الخامسة، وفي السادس من تشرين الثاني كانت تطلع عند الثامنة وتغيب بعد الرابعة.

وفي هذا الشهر يكثر وقوع الضباب، فيأخذ بالكظم إذ المشي فيه لا يخلو من بعض أذى بالبصر، ويسمون هذا الشهر «نحار الأعناق»، وقبل عيد الميلاد كان صحو عظيم، فكانت الشمس ترى عامة النهار، ولم يكن البرد يحوج إلى الاصطلاء، وإنما كنا نوقد النار لمجرد الارتياح لرؤيتها كما هي عادتهم، وفي السنة الثانية قبل العيد المذكور أصحت السماء مدة يومين كاملين، فظهرت الشمس فيها من ساعة شروقها إلى غروبها، ولكن وقع برد شديد جمدت منه المياه حتى في الآنية، فلم يكن كب السلحفاة مانعًا له كما قال صاحب القاموس، وكانت الأولاد تَطْفِر على المناقع والبرك كما تطفر على الصخرة الصماء، وإذا كسرتها تشققت عن ألواح كلوح الباب.

والتزحلق على الجليد عادة شائعة عند جميعهم حتى إن البرنس ألبرت زوج الملكة يطفر مع خواصه في موضع خاص به، وحين يتزحلقون يلبسون نعالًا كالقباقيب، وهو عندهم من الأمور الرياضية، وكنا نرى الصقيع على وجه الأرض كأنه ملح مرشوش، وكان الماء يجمد على زجاج الطيقان، وإذا ألقيت منه على الأرض لم يلبث أن يجمد أيضًا، أما المطر فلم يقع إلى وقت الميلاد إلا رذاذًا، وقلما ينزل في غيره أيضًا سحًّا كما ينزل في بر الشام ومالطة، وإذا انقطع عنهم شهرًا فأكثر لا يستسقونه بالأيدي كما يفعل المالطيون؛ لأن ثراهم لا يزال نديًّا من المطر السابق، وأكثر وقوعه في الخريف والربيع، فأما الرعد فقد مضى الشتاء كله ولم نسمع له قصفة، وإنما سمعناه في أيار والشمس حارة.

وكان شهر نيسان أبرد من آذار، وفي أواسطه سقط ثلج وبرد شديد، وكان آخر آذار أبرد من أوله، فقد احتجبت فيه الشمس أيامًا متوالية، وفي أوائل العام الثاني غطى الثلج وجه الأرض والسطوح ورءوس الشجر، ولم يكن البرد شديدًا كما يكون عند سقوط الصقيع، ويقال: إن كثيرًا يهلكون في الطريق حينئذ إذا لم يكونوا خبيرين بها فيقعون في مهواة على حين غفلة فيعطبون، وربما سقط الثلج على الشاء في الحقول فتضل الطريق، وقد سمعت أن امرأة سقط عليها الثلج وهي تحت شجرة تستذري بها فلم يمكنها التحول من موضعها، فلبثت فيه بضعة أيام، حتى جاء من أخرجها منه وقد سقطت أصابع يديها ورجليها وبقيت بعد ذلك حية، ويقال: إن بقاء الثلج في المزارع أيامًا نافع للزرع، ولا شيء أشق على الماشي من المشي عليه حين يذوب بخلاف ما إذا كان متلبدًا.

وللإنكليز لهج عظيم في محاوراتهم وكتبهم بمحاسن أيار لانكسار حدة البرد فيه، إلا أنه في الواقع من أنحس الشهور؛ وذلك لانقطاع الفاكهة والبقول فيه إلا ما ندر، وفي أوله تدور الصبيان والبنات يغنون ويجتدون من أهل البيوت والمارين في الطرق، وكان قدماء الإنكليز يرقصون فيه في الحقول والمزارع، ويجعلونه يوم مسرة وطرب حتى إن السفلة في لندرة يعيدونه إلى الآن فيتخذون نحو شجرة ويرقصون حولها في الشوارع، وفي أوائل شباط يطوف الأولاد أيضًا يغنون لفالنتين، وهو يوم تزاوج الطيور، وفيه تتهادى الشبان والشواب بالرسائل والأشعار على طُرُوس مزخرفة.

ومن أول شهر حزيران إلى العشرين منه حصل حر يقرب من حر مالطة، فكانت الشمس تبدو من أول النهار إلى آخره، ثم اكفهر الجو ودَهَم البرد ووقع المطر الغزير، وحين يشتد الحر يبلغ ثمانين درجة — إنكليزية — وغاية البرد عشرون، وأبرد الرياح عندهم هي الشرقية ثم الشمالية، أما الغربية فلا تكاد تأتي من دون مطر، والغالب حينئذ أن تنكسر سَوْرَة البرد، ويعقبه دفء مغر بالكسل والعجز حتى يود الإنسان أن تعود الريح الباردة وإن أطارت عنه الثياب، وبما مر بك من تقلب الهواء عندهم تعلم أنه لا يحسن أن يترجم إلى لغتهم قول بعضهم من قصيدة يمدح بها الملكة، وهو:

تلوي الرياح مثاني الرمل عاصفة
حتى تُصيب أراضيها فتعتدل

وهو نظير قول المتنبي:

إذا أتتها الرياح الهوج من بلد
فما تهب بها إلا بترتيب

لكن بيت المتنبي سالم من الضرورات، وقلت أنا من قصيدة طويلة:

ما أَنْ يحيل حُئولٌ في هوائِهِم
هوى نفوسهم عن مَذْهَبِ الخِيَرِ

إشارة إلى أن تقلب الهواء عندهم لا يغير طباعهم عن فعل الخير، و«الخير» بالكسر الكرم والشرف والأصل والهيئة، وفي الحقيقة فإنه عند شدة البرد هنا لا يفكر الإنسان إلا في الاصطلاء، ولا تزال تسمع من كل من تلقاه لفظة البرد، وإذا تفوه بها فرك يديه، وتأفف ليدل على صدق ما يقول ولا سيما النساء، حتى إنهم ربما قالوا ذلك في يوم لا برد فيه، فكأن ألسنتهم مرنت على ذلك، وكثيرًا ما ترى أيضًا وصف البرد والنار في كتبهم، ويسمون المرأة «رفيقة الموقد» والإضافة بتقدير «عند»، وقد جرت العادة عندهم بأن لا يحرك النار إلا مَنْ كان من أهل البيت أو من طالت ألفته بهم.

وفي الجملة فإن النار أليفهم مدة ثمانية أشهر في السنة، وبهذا تعلم أنهم لا يرون في وصف الجنة نعيمًا؛ لأن الإنسان إذا كان مقرورًا لا يشتهي أن يسمع بذكر المياه والظلال والأشجار، بل كانوا يقولون تلك الجنة نيرانها مضطرمة، ومواقدها محتدمة، وخَضَبها معتد، وحطبها منضد، وفحمها مؤبد، ومسعرها مخلد، فهنيئًا للمصطلين، وطوبى للمستدفئين، أليس أن عبادة النيران في بلاد الفرس نشأت عن البرد، كما قال ابن صاره في المعنى:

أُحِلَّ لنا تركُ الصيام بأرضكم
وشُرْبُ الحُمَيَّا وهو شيء محرَّم
فرارًا إلى نار الجحيم فإنها
أَرَقُّ علينا من شلير وأرحَمُ
لئن يَكُ ربي مُدْخِلي في جهنم
ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم

(١٣-١٧) المناخ وحياة البشر

ثم إنه لا يخفى أن أهل البلاد الحارة يكونون أذكى ذهنًا وأسرع فهمًا من أهل البلاد الباردة، إلا أنهم لا يكون لهم جَلَدٌ على الأعمال الشاقة؛ لغلبة الترهل عليهم، ولا عظم همة لمباشرة المساعي الخطيرة، ولا يمكن أن يلحقوا أهل البلاد الباردة في العز والغنى، إلا أن يكون لبعض البلاد مزية خاصة بوجود المعادن وغيرها كبلاد الهند مثلًا، أما سكان البلاد الباردة فيتحملون مشاق الأعمال ويستطيعون إدمان السعي، ويعمرون أكثر، ولهذا كان جل الفاتحين والغازين من الشمال، وكأن جزيرة العرب مستثناة من هذا الحكم، إلا أن أيامهم في الشتاء تكون قصيرة جدًّا، فيضطرون إلى العمل ليلًا، وربما كتبت أيديهم من شدة البرد.

وفي كتاب منسوب إلى أرسطو أن أهل البلاد الحارة يعمرون أكثر من أهل البلاد الباردة؛ لأن الحرارة الطبيعية يتأتى حفظها في الأولى أكثر من الثانية، ولا أرى قوله مطابقًا للواقع إلا أن يحمل قوله البلاد الباردة على معنى المفرطة في البرودة، والبلاد الحارة على معنى المعتدلة في الحرارة.

(١٣-١٨) اختراع ميزان الهواء

ولنختم الكلام على ميزان الهواء بما لا يخلو من فائدة فنقول: إن أصل اختراعه فيما علم كان في إيطاليا، وفي سنة ١٦٢٦ ألف صنطوريا الطبيب في بدوى كتابًا وادعى فيه أنه مخترعه، وادعى أيضًا هذه الدعوى رجل من هولاند اسمه كرنيليوس دريبل، وبعد البحث والتدقيق علم أن الأول سبق إلى الدلالة على اتخاذه، وأن الثاني عرف خواصه من قبل أن يسمع شيئًا عن ذاك، ونقلت من بعض الكتب أنه حسبت أيام السنة في مدينة ويانه على مدة خمس وسبعين سنة، فكان في خلال السنة من أيام الصحو ١٢٧ يومًا، ومن أيام الضباب ٧٥، ومن المطر ١١٠، ومن الثلج ١٣٥، ومن الرعد والبرق ١٩، وأقول إن هذا القدر من أيام الضباب هو أكثر مما يقع بلندرة، فإن جُلَّه هنا إنما يقع في شهر تشرين الثاني.

(١٣-١٩) معادن إنكلترة

أما معادن إنكلترة فأشهرها القصدير والصفر والحديد والفحم، وهذان الأخيران أقنى وأنفع لهم من سائر المعادن النفيسة؛ إذ لولاهما لم يتأتَّ لهم إنشاء ألوف من البواخر ومن سكك الحديد ومن الغاز وغير ذلك، وليس كل البلاد التي فيها معادن الذهب والفضة أغنى من غيرها؛ فإن من المعادن ما تقوم نفقة استخراجه بفائدته، فلا يحصل منه نفع إلا مجرد الافتخار بوجوده، وإنما العمدة على سهولة إيشائه وقلة مصروفه، وأكثر ما يوجد الذهب في إفريقية ويابان وجنوب أميريكا، وهذا الأخير عثر عليه الإسبانيول في سنة ١٤٩٢، ومن ذلك التاريخ إلى سنة ١٧٣١ جلب منه إلى أوروبا ستة آلاف مليون شذرة قيمة كل منها ثمانية ريالات أميريكانية.

ويكثر وجوده أيضًا في جبال أورال بالروسية، ويوجد منه معدن في كورنول، وفي وكلو بإرلاند، وأكثر ما يأتي الإنكليز من الذهب فإنما هو من أوستراليا وكاليفورنيا، قيل: إنهم يجلبون منه في كل سنة عشرين مليون ليرة، وأول من اطلع عليه في الأولى إدورد هرغافس وذلك في سنة ١٨٥١، فأطلع أرباب الحكم على ذلك طمعًا في الجائزة فأجازوه، وولوه خولية أرض الميري، ومن جملة ما وجد فيه قطعة ذهب إبريز بلغت مائة وستة أرطال، ووجد أيضًا في موضعين منها إلى غاية تشرين الأول سنة ٥٢ «٢٥٣٢٤٢٢» أوقية إنكليزية، أو مائة وخمسة أطنان أي طنلاته، وبلغت قيمة الذهب الذي بعث منها إلى الخارج نحو تسعة ملايين ليرة، ومن ذلك الوقت تتابع وروده إلى بلاد الإنكليز.

ويحتمل أن في أوستراليا معادن أخرى كثيرة وكنوزًا جزيلة لم تكتشف إلى الآن، فمتى كُشفت تكون داعية لعجب أهل الدنيا، وهذه الجزيرة هي أكبر جزيرة في المسكونة، وأصغر أرض قارة، فإنها دون أميريكا بنحو ستة أضعاف، وكان استعمار الإنكليز إياها بعد انفصال أميريكا عن بلادهم، وفي سنة ١٨٥٤ بلغ عدد أهلها ٢٣٦٧٩٨ نفسًا وهي أقل بلاد الدنيا إناثًا.١

(١٣-٢٠) نبذة عن أميريكا

فأما «أميريكا» فأول من كشفها رجل من جينوى اسمه كرستوفر كولمبوس، وذلك في سنة ١٤٩٢، قيل إذا صارت مملكة الدول المتحدة بأميريكا مأهولة كهولاند فتكون تسع تسعمائة مليون من الناس، وهذا القدر هو نصف قدر سكان المسكونة وأهلها الآن سبعة وعشرون مليونًا،٢ وحين كان الإنكليز يبنون مجلس الشورى بلندرة، كان الأميريكانيون مشتغلين بتمدين بلادهم فأنشئُوا سبعة وعشرين ألف ميل وخمسمائة ميل لسكة الحديد،٣ بلغت نفقتها نحو ثلاثمائة مليون ليرة، وفي غضون ذلك أنشأ الإنكليز تسعة آلاف ميل، كلفتهم نحو المبلغ المذكور، والذي ورد إلى خزنة الدول المتحدة في سنة ١٨٥٧ من جميع موارده، بلغ نحو ثمانية وعشرين مليون ريال ونصف مليون، وكان المبلغ الفاضل فيها نحو عشرين مليونًا، وبلغت مصاريف الدولة سبعين مليونًا، وكانت محال البوسطة في سنة ١٨٢٧ سبعة آلاف، فصارت في سنة ٣٧ «١١١٧٧»، وفي سنة ٤٧ «١٥١٤٦»، وفي سنة ٥٧ «٢٦٥٨٦»، وكان مواضع امتدادها طولًا في سنة ٢٧ «١٠٥٣٣٦» ميلًا، وفي سنة ٣٧ «١٤١٢٤٢»، وفي سنة ٤٧ «١٥٣٨١٨»، وفي سنة ٥٧ «٢٤٢٦٠١»، وفي المملكة المذكورة تسعة آلاف رتل لسكة الحديد، وهو عبارة عن إجراء رتل واحد لكل ثلاثة أميال.

ووجدت في كتاب آخر أن طول سكك الحديد في أميريكا كان في سنة ٥٧ «٢٤٤٦٦» ميلًا، وأنه في سنة ١٨٢٨م وهي أول سنة ابتدءوا فيها بهذه المصلحة، لم يكن عندهم إلا ثلاثة أميال، فانظر إلى هذا الفرق.

أما كاليفورنيا فكان كشفها في سنة ١٥٣٥م، وكانت في سنة ١٨٤٦م تابعة لأعمال مكسيكو تحت استيلاء دولة إسبانيا ثم استولت عليها الدول المتحدة، وكان كشف الذهب فيها سنة ١٨١٧م، وقيل: إنه كان معروفًا قبل هذا التاريخ لبعض أشخاص ولكن كانوا يكتمونه، وهذه اللفظة محرفة عن لفظتين في اللغة الإسبانيولية، معناهما الفرن الحامي، ولا يبعد أن يكون ذلك عربيًّا فإن كالي محرف عن قالي من قليت اللحم ونحوه، وفورنيا من الفرن، وقيمة ما يخرج من هذا الصقع في السنة يبلغ خمسة ملايين، وبلغت قطعة الذهب من ذلك إلى خمسة وعشرين رطلًا، فكان الرجل يسعد من كَدِّه وقميصه لم يتسخ، ويحكى أن الدول المتحدة لما بلغها خبر وجود الذهب في هذا الإقليم أرسلت حاكمًا إليه فما كان منه بعد وصوله إلا أن حمل المعزقة وأقبل يحفر عن الذهب مع الحافرين.

(١٣-٢١) عودة إلى معادن إنكلترة وصك أموالهم

قال بعضهم: أما معادن إنكلترة فكثيرة وغنية، فقد عدَّ طاخيطوس من جملتها الفضة والذهب، وفي عهد الملك جامس الأول كشف معدن رصاص استخرج منه كثير من الفضة، ويوجد في «كورنول» أكثر من خمسين معدنًا للنحاس، ونقلت من بعض الإحصائيات الصحيحة أن جملة ما خرج من معدن الذهب من بلاد الإنكليز من سنة ١٨١٦ إلى سنة ٤٦ بلغ خمسة وتسعين مليونًا.

وقيل إن أول ضرب الدنانير عندهم كان في سنة ١٢٥٧م، وأول ضرب الدنانير الرائجة المحكمة كان في سنة ١٣٤٤م، وكان ضرب الجيني في سنة ١٦٧٣م، وكان مبلغ ما ضرب من النقود في أيام الملكة إليصابت ٥٨٣٢٠٠٠ ليرة، وفي أيام جامس الأول ٢٥٠٠٠٠٠، وفي أيام جورج الثاني ١١٩٦٦٥٧٦، وفي أيام جورج الثالث ٧٤٥٠١٥٨٦، وفي أيام جورج الرابع ١٠٨٢٧٦٦٣، وفي زمان الملكة فكطوريا وذلك من سنة ١٨٣٧م إلى سنة ٤٨ «٣٩٨٨٦٤٥٧»، ويقال: إن طبع الدراهم والدنانير من مخترعات ليديا — من بلاد الأناطول — وذلك في سنة ٨٦٢ قبل الميلاد.

أما الفلوس فقد ذكرها أوميروس في سنة ١١٨٤م قبل التاريخ المذكور، والذهب الإنكليزي فيه اثنان وعشرون قيراطًا من الذهب، وقيراطان من النحاس، ويقال: إن حبة الذهب يمكن تقسيمها إلى ثمانية عشر مليون جزء ظاهرة، ويمكن أيضًا تطريقها ومدها حتى نصير خمسًا وستين إصبعًا مربعة، وإن الصفحة تصير إلى جزء من ثلاثمائة من أجزاء الإصبع، ويذهب بها حتى إلى جزء من عشرة ملايين، وأول استعمال خيوط الذهب كان في إيطاليا وذلك سنة ١٣٥٠م.

ولما كان هذا الجوهر ألين جميع الجواهر وأصفاها كان لا يستعمل إلا مخلوطًا بالصفر أو الفضة، ونقلت من جرنال التيمس سنة ١٨٥٢م أن مبلغ نقود الفضة والذهب في الدنيا بأسرها قيمته أربعمائة مليون ليرة منها مائتان وخمسون مليونًا فضة والباقي ذهب، ونقلت من غيره أيضًا أن مبلغ الذهب الذي كان متداولًا في سنة ١٨٤٨م في الدنيا بأسرها كان ستمائة مليون ليرة، وأن الإمداد السنوي كان من ثمانية ملايين إلى تسعة، وأنه لسبب كشف معادن الذهب في أوستراليا وكاليفورنيا صار الذهب المتداول الآن يبلغ أكثر من ثمانمائة مليون.

فمن كاليفورنيا خرج من سنة ١٨٤٩م إلى سنة ١٨٥٣م خمسة وستون مليونًا وتسعمائة ألف، ومن أوستراليا خمسة وثلاثون مليونًا وذلك من سنة ١٨٥٤م إلى سنة ١٨٥٦م.

أما معدن الفضة فقيل: إن أحسن ما عرف منه ما كان في لاباز وذلك سنة ١٦٦٠م، فكان من لينه وحسنه يقطع كالبلور، وفي سنة ١٧٤٩م أرسلت قطعة منه إلى بلاد إسبانيا فبلغت ٣٧٠ رطلًا، وحفر عن قطعة في معدن بنورويج، وأرسلت إلى متحف كوبنهاغن فبلغت ٥٦٠ رطلًا وقيمتها ١٦٨٠ ليرة، وكانت آنية الفضة نحو الأقداح والمغارف تعد في سنة ١٣٠٠م في بلاد الإنكليز من الإسراف، ووجودها في البلاد المذكورة إنما يكون مختلطًا بغيرها من الجواهر.

أما معدن النحاس فقد مر ذكره في كورنول، ويقال: إن أعظم معادنه في مملكة السويد، ويقال أيضًا: إن الحبة من هذا الجوهر إذا حلت في محل النشادر تجزأت إلى أكثر من اثنين وعشرين ألف جزء.

أما معدن الحديد عندهم فيستخرج منه في كل سنة أكثر من ثمانمائة طن، ويقال: إنه أول ما عرف وجود الحديد كان على جبل إيداي وذلك في سنة ١٤٣٢ قبل الميلاد، وزعم اليونانيون أنهم أول من عثروا عليه، كما أن أهل فينيقية أول من عثر على الزجاج، إلا أنا نعلم من التوراة أن أول من قان الحديد طوبال قاين.

وقال آخر: «إن تجارة الحديد عند الإنكليز كما هي الآن من إبداع هنري كورت؛ لأَنَّا قبل سنة ١٧٨٣ كنا نجلب جل لوازمنا من الحديد المصنوع من سواحل بحر البلتيك، ولم تكن طريقة لصنع هذا الجوهر الذي يصدق عليه أن يسمى جوهر الجواهر سوى تطريقه بمطارق ضخمة ثقيلة، بعد إحمائه في فرن، وهو أسلوب قديم يجري مع قدم أيام الخرافات.

وما عدا ما كان يتبعه من التعب والكلال فكان يلزم له أجم كثيرة لتفي بالوقود اللازم لإحمائه، وحيث لم يكن عندنا منها ما يكفي، كان لا بد لنا من استجلابه من الروسية والسويد؛ حيث الأجم كثيرة، والحديد يسهل صنعه بالنسبة إلى هذه الديار وإلى سعره فيها، فكانت معادننا الجزيلة تبقى معطلة، إلى أن قام هنري كورت المذكور وأعمل فكره الثاقب في اختراع طريقة تكثر بها منافع هذا المعدن، وتقل الصعوبة في صنعه، فأداه الاجتهاد والتبحر إلى إحداث فرن هواء بواسطة لهيب النار المنبعث من فحم الحجر، فكان يحمي به الحديد وهو تبر ويصفيه، ثم يجعله قضبانًا مسبوكة من دون فحم ولا مطرقة، ولكن لم يتهيأ له إتقان هذا الحمل إلا بعد أن أنفق عليه عشرين ألف ليرة، ومنذ ذلك الوقت استغنينا عن حديد السويد والنورويج.

ثم لم تمض أربع عشرة سنة حتى صار ما يصنع منه في بلادنا قدر ما كنا نجلبه من بحر البلتيك، ثم صار ما يُصنع منه على هذا المنوال موازيًا لمائتي ألف طن، منها خمسون ألفًا ترسل إلى الخارج، وهذا القدر هو ما كنا نفتقر إلى جلبه سابقًا من البلاد الأجنبية، وقد صنع منه في سنة واحدة من هذه السنين المتأخرة في معمل بوالس أكثر مما كان يصنع منه قديمًا في جميع المملكة بضعفين، فَأَعْظِمْ به من اختراع يعد من أعظم الأسباب الموجبة لثروة هذه البلاد ولاستقلالهم بأعمالهم؛ إذ لولاه لم يتأتَّ إنشاء سكك الحديد والبواخر وغيرها، ولا يخفى ما في ذلك من المنافع، فهو لنا بمنزلة إبرة المغنطيس لكشف الدنيا الجديدة، فما أجدر مخترعه بأن يحسب ندًّا لواط، وما أخلق بلادنا بأن تظهر كونها ممنونة له على ممر الأيام.» إلى أن قال: «ومع أنه أنفق في هذا العمل الجليل عشرين ألف ليرة، ومهد لبلادنا طريقة فاقت بها على جميع الممالك، لم تجازه على ذلك بل عاملته بالكنود، على أنه تحقق وثبت أن ما أكسبها من فوائد هذا الاختراع يبلغ ستمائة مليون ليرة، وأفاد أيضًا مؤنة ستمائة ألف من الصناع.» ا.ﻫ.

وقد كان الرومانيون في الزمن القديم يصحفون قعور سفنهم بالرصاص، وكان ثمنه إذ ذاك أغلى مما هو الآن بأربعة وعشرين ضعفًا، ويقال: إن أحسن صبغ للشعر هو ما يتخذ من الرصاص، لكنه في نفس الأمر سم.

أما فحم الحجر فإن أهل بريتانيا الأقدمين كانوا يستعملونه، وإن لم يذكر ذلك الرومانيون فيما ذكروا من أحوال هذه الجزيرة، وأول كشفه كان في نيوكاستل سنة ١٢٨٤ وزعم بعضٌ أنه قبل هذا التاريخ.

وكان قد منع أولًا من استعماله بدعوى أنه مضر بالصحة، حتى إن الحدادين كانوا لا يوقدون إلا الحطب، وفي سنة ١٣٨١ اتخذ كأنه صنف من أصناف التجارة، فصارت الناس تجلبه من المحل المذكور إلى لندرة، ثم عم استعماله فيها وذلك في حدود سنة ١٤٠٠، فأما في جميع إنكلترة فلم يعم قبل سنة ١٦٢٥، ويوجد منه معدن في نورثمبرلاند في سهل فسيح، امتداده ٧٢٣ ميلًا مربعًا، وقريب منه سائر الأماكن، والموجود منه في والس فقط يكفي إنكلترة على المعدل الذي ينفق منه الآن ألفي سنة.

والمنصرف منه في بريتانيا في كل سنة ٢٥٠٠٠٠٠٠ طن، وفي سنة ٥٧ وصل إلى مرسى لندرة نحو ١٥٠٠ سفينة مشحونة بالفحم، وبلغت كمية ما ورد إليها منه بحرًا وبرًّا ٤٣٦٨٧٠٨ أطنان، والمستخرج منه من درهام ومن نورثمبرلاند يبلغ في السنة ١٤٠٠٠٠٠٠ طن يصرف منها في لوازم لندرة ٦٠٠٠٠٠٠، وفي لوازم البلاد الخارجية ٢٥٠٠٠٠٠، وقدر ذلك لأجل الغاز، والباقي في مهمات أخرى.

وقال آخر يوجد في إنكلترة وإرلاند ٤٠٠٠ ميل مربع تحتوي على معادن فحم لم تكشف بعد، ومسافة جريب واحد سمكه ثلاثة أقدام يوازي ما يخرج من فحم ١٩٤٠ جريبًا من الأجم والغِياض، ومعادن الفحم المفتوحة الآن في دربي تبلغ ٢٤٠ معدنًا يعمل فيها ٢٠٠٠٠ نفس، ومعادن يورك شير تبلغ ٣٤٣ معدنًا، ويوجد أيضًا في سكوتلاند معادن كثيرة منها محفور ومنها غير محفور.

وقيل: إن أصل استخراج الفحم كان في بلجيك في سنة ١١٩٨، ثم عرف في إنكلترة، والذي يخرج منها يبلغ خمسة أضعاف أكثر مما يخرج من غيرها من أي أرض كانت، وما يحصل من مسافة ١٢٧٥ كيلومتر مربعًا من بلجيك يبلغ ٥٠٠٠٠٠٠ طن، وما يحصل من مسافة ٢٥٠٠ من القياس المذكور في فرنسا لا يزيد على ٤٦٠٠٠٠٠ طن، وكان المنصرف من الفحم في فرنسا في سنة ١٧٨٠ «٤٠٠٠٠٠» طن، وفي سنة ١٨٤٥ «٦٠٠٠٠٠٠».٤
أما القصدير فوجوده في بلاد الإنكليز من قديم الزمان، وأول من اتجر فيه معهم أهل فينيقية؛ لأنهم هم أول من عرف خاصية إبرة المغنطيس، ومن قبل أن غزا القيصر يوليوس هذه الجزيرة كان الرومانيون واليونانيون يسمعون بوجود جزيرة جهة الشمال توجد فيها معادن هذا الصنف، وكانوا يسمونها «كستيريدس»؛ أي جزيرة القصدير، وبقيت هذه التجارة مقصورة على الفينيقيين أحقابًا عديدة، وكان اليونانيون كثيرًا ما يبعثون إليهم جواسيس ليتعرفوا أي بَرٍّ ينزلون فلم يقدروا، والذي يبعث من هذا الصنف إلى البلاد الخارجية يبلغ في السنة ألفًا وخمسمائة طن غير مصنوع، وثمن المصنوع والصفائح منه ٤٠٠٠٠٠ ليرة.٥

(١٣-٢٢) إبرة المغنطيس

أما استعمال إبرة المغنطيس في هداية السفن فلا يعلم بالتحقيق في أي عصر ابتدأ، وإنما يعلم أن خاصية ما في جذب الحديد والفولاذ كانت معروفة لقدماء اليونانيين، وأن استعماله في السفر كان معروفًا لأهل الصين من عهد بعيد، فإنهم كانوا يهتدون به في أسفارهم إلى يابان والهند وجزيرة العرب، ولا يبعد أن اشتهاره في أوروبا كان كاشتهار صناعة الطب في كونه أخذ عن العرب؛ إذ لم يعرف شأنه فيها إلا بعد أن فتح المسلمون غوثا بإسبانيا، إلا أن العلم به لم يكن تامًّا، ويحتمل أن العرب أخذته عن أهل الصين، ويقال: إن علم هؤلاء به في أرجح الظن كان سنة ٢٦٣٤ قبل الميلاد، وهنا محل للبحث إلا أن اليسوعيين الذين جعلوا دأبهم التنقير عن علوم أولئك القوم وعن عادياتهم، وكذا كلابروت النمساوي العالم البارع، ومستر دافس، كلهم حكوا ما يدل على استعمال أهل الصين هذا الحجر في ذلك التاريخ.

ثم لما كانت الإفرنج تسافر إلى بلاد المسلمين مدة الحرب الصليببية كانوا يذكرون وجود هذا السر الغريب في تلك البلاد، وكان من جملتهم الكردينال فتري وفنسنت دوبوفاي، قيل: وكانت العرب تهتدي به في البر، ولم تشهر معرفة استعماله في أوروبا إلا في سنة ١٢٦٩، فأما الانتفاع به فلم يشهر إلا في القرن الرابع عشر، وأول من أجرى ذلك رجل من نابولي اسمه فيلافيوجبوجا، وقال آخر: إن حجر المغنطيس لم يشهد ذكره في كتب الإنكليز قبل أيام إدورد الثالث، وكان يسمى حجر السفر، وأول سفينة سارت بهدايته كان في سنة ١٣٣٨، أما رسم النقط فلم يعلم مخترعه، وزعم الفرنسيس أنه من مخترعاتهم، وأن رسم النقط الأربع الأصلية إنما هو رسم عما يقال له: «فلور دولي»؛ أي زهر السوسن.

ولكن هنا بحث فإن زهر السوسن إنما رسم عما يسمى بالعربية موسالا — لعلها مسلة — وكانت العرب تتخذها لدلالة الإبرة.

(١٣-٢٣) اختراع الكومباس

فأما اختراع أداة الإبرة المسماة عند الإفرنج بالكومباس، فإنه كان من رجل من فينيسيا يقال له: مركوس باولوس، وذلك في سنة ١٢٦٠، وبعضهم عزاه إلى فيلافيوجيوجيا المذكور، وزعم آخرون أنه كان معروفًا في الصين في سنة ١١١٥ قبل الميلاد، وكأن ذلك سهو، نعم إنه كان عندهم آلة تتحرك بنفسها مصوبة إلى الجنوب لهداية المسافرين برًّا وبحرًا فظنها الناس الآلة المعروفة، قال: وقد ثبت أن المذكور هو الذي استنبط تعليق هذه الإبرة كما نراها الآن، وذلك سنة ١٣٠٢، فأما وضع الصندوق لها وكيفية تركيبها به فمن اختراع أحد قسيسي الإنكليز ويقال له: وليم بارلو وذلك سنة ١٦٠٨.

ولنختم كلامنا على المعادن بذكر الألماس فنقول: إنه وجد في معدن هذا الجوهر ببرازيل حجر زنته ١٦٨٠ قيراطًا، وأرسل إلى ديوان البورتوغال فَقُوِّمَ بمائتين وأربعة وعشرين مليونًا «من الريالات»، وقَوَّمه بعضهم بستين مليونًا لا غير، وزنة حجر الألماس الذي عند قيصر الروسية ١٩٣ قيراطًا، واشترى ملك فرنسا حجرًا كانت زنته ١٠٦ قراريط، وفي سنة ١٨٥٠ جلب الإنكليز حجرًا من الهند زنته ٨٠٠ قيراط، إلا أنه لجهل الرجل الذي قطعه نقص حتى جاء ٢٧٩ قيراطًا وقدره كالبيضة، وقيمته مليونا ليرة، وفي هذه الأيام الأخيرة جلب حجر من برازيل زنته ٢٥٤ قيراطًا، يذهب نصفه في القطع.

(١٣-٢٤) سكك الحديد في بلاد الإنكليز

أما مصلحة سكك الحديد في بلاد الإنكليز فهي أعظم المصالح التي شغلت منهم خواطر الأغنياء والمستربحين والمستنبطين، فإن مجموع رأس المال الذي وضع فيها يبلغ مائة مليون ليرة، ومجموع رأس المال الذي وضع في أشغال القطن أربعون مليونًا، والذي في أشغال الصوف ثمانية عشر، والذي في الحديد أحد وعشرون، والذي في الحرير ستة عشر مليونًا، ومجموع رأس المال الذي وضع في أشغال الحديد في بلاد الدول المتحدة ثلاثون مليونًا.

ويحكى عن رجل من الإنكليز أنه كان في أول أمره بَزَّازًا خاملًا، فتعاطى أشغال هذه السكك فحصل له توفيق فيها ونجاح، وما زال يزيد نجاحًا حتى استغنى غنى لم يذكر مثله في التواريخ قط، فيقال: إنه صار يتولى أشغال خمسين ألفًا من الصناع يعملون تحت يده، قلت: والذي فاق في شهرة الغنى في التواريخ القديمة رجل من أهل رومية يقال له: كاسيليوس أزيدوروس، قيل: إنه ترك عند موته ٤١١٦ عبدًا و٣٦٠٠ ثور، و٢٠٠٠٠٠ ألف رأس من البهائم، وثلاثة ملايين ليرة، وحيث تسمع بأن رجلًا بمفرده غني جدًّا، فاحكم على كثيرين بأنهم فقراء جدًّا.

ثم إنه لما نَشَّم بعض المحترفين من الإنكليز في إنشاء سكك الحديد، ولهج بها المتكسبون، لم يكن أحد يصدق أنها تصل إلى ما وصلت إليه، بل كان كثير يستخفون بها ويسخرون ممن وجه همه إليها، فقد كتب في بعض صحف الأخبار منذ عشرين سنة ما نصه: «أما هؤلاء المصطرفون الذين يخيل لهم أن ينشئوا سكك الحديد في جميع جهات المملكة حتى يستغنى بها عن السفن والعجلات والعواجل والمحامل وغيرها مما يركب الناس فيه برًّا وبحرًا، فإنا ننزلهم — وتصوراتهم هذه التي هي أضغاث أحلام — منزلة من هو غير جدير بأن يشغل به الخاطر.»

وأول سكة أنشئت في البلاد المذكورة كانت في نيوكاستل وذلك في أوائل القرن السابع عشر، ولكن كانت قضبانها من خشب، وكان المقصود منها إنما هو نقل الفحم عليها من المرفأ، ثم أنشئت سكة أخرى في ويت هافن وذلك في سنة ١٧٣٨، وأعظم سكة أنشئت بعدها كانت في كلبروك دال في سنة ١٧٨٦، ثم كان أعظم السكك وأطولها سكة ليفربول ومنشستر بدئ بها سنة ١٨٢٦، وفتحت في سنة ١٨٣٠، ومن ذلك الحين شرعت جماعات كثيرة في إنشاء سكك متعددة في إنكلترة وفرنسا وبلجيك وغيرها، وفي سنة ١٨٢٤ كان الرَّتَل المسمى بالناقل يسير في الساعة ستة أميال، وفي سنة ٢٩ كان صنف آخر يسمى «الشاروخ» يسافر خمسة عشر ميلًا، وفي سنة ٣٤ كان صنف يسمى «طيار النار» يسير عشرين ميلًا، وفي سنة ٣٩ سار صنف يسمى: «نجم الشمال» سبعة وثلاثين ميلًا.

والآن فإن الناقل يسير سبعين ميلًا، وكان في مبدئها ينفق عليها من الفحم أكثر مما ينفق الآن بخمسة أضعاف، وقس على ذلك سائر المصاريف، وقد عُلِمَ من خلاصة مجلس الشورى المنوط به إقرار هذه المصلحة، أن الحصص الأصلية وما يلحقها من الاستقراض الخاص بجماعات سكك الحديد الكائنة في بريتانيا بلغت ثلاثمائة وستة وثلاثين مليونًا من الليرة، وبلغ عدد المسافرين في المملكة المذكورة في بعض السنين ٥٣٦٧٤٠٤ تحصل منهم، ومما أخذ أيضًا على البهائم والرسائل ٥٤٢٤٦٠٥ ليرات، وعدد مجموع سكك الحديد فيها بلغ مائتين واثنتين وعشرين سكة تجري أسلاك التلغراف في ثلثيها.

وفي سنة ١٨٥٠ تحصل من إيراد هذه السكك في جميع أوروبا ٢٣٣٠٠٠٠٠ ليرة، وكان نصف ذلك من إيراد سكك بريتانيا، وهذا جدول أطوال السكك المعروفة في الدنيا:
ميل
في بريتانيا ٧٨٠٣ إلى سنة ٥٤
في أمريكا ٣٨٠٠ إلى غاية سنة ٤٨
في جرمانيا ١٥٧٠ إلى غاية سنة ٤٨
في هولاند ٢٠٠ إلى غاية سنة ٤٨
في بلجيك ١٠٩٥ إلى غاية سنة ٤٨
في فرنسا ٢٢٠٠ إلى غاية سنة ٤٨
في إيطاليا ١١٥ إلى غاية سنة ٤٨
في الدنيمرك ١٠٦ إلى غاية سنة ٤٨
في كوبا ٨٠٠ إلى غاية سنة ٤٨
في الروسية ٥٢ إلى غاية سنة ٤٨
في هند الشرق ٥٠٠ إلى غاية سنة ٤٨
في مستعمرات الإنكليز ١٠٠٠ إلى غاية سنة ٤٨
والميل عبارة عن ١٨٦٠ يارد، واليارد عبارة عن نحو ذراع ونصف.٦ وفي سنة ٥٦ امتدت سكك الحديد في بريتانيا إلى ٨٠٥٤ ميلًا أنفق فيها ٢٨٦٠٠٠٠٠٠ ليرة: ومنها أكثر من خمسين ميلًا في صخور منقورة، ومساحة تلك الأميال ٥٥٠ ياردًا مكعبًا، ويوجد لهذه السكك خمسة آلاف مزجية، وهي الآلة التي يقال لها «إنجن»، وفي كل سنة تسير الأرتال ثمانين مليون ميل، ومصروف المزجيات من الفحم في كل سنة مليونا طن، وفي خدمة الجمعيات القائمة بهذه المصلحة تسعون ألفًا ما بين رئيس ومرءوس، وفي سنة ٥٤ كان عدد من سافر في هذه السكك أحد عشر مليونًا، واستفيد منهم أكثر من عشرين مليون ليرة، وهو نحو ثلث إيراد الدولة.

والمصروف من الحديد على تبديل القضبان والأدوات في كل سنة عشرون ألف طن، ويقطع أيضًا للوازمها نحو ثلاثمائة ألف شجرة، وكل رتل يحمل في مجمل الحساب مائتي شخص، وبلغ ما أعطي لأصحاب الأرض تعويضًا لهم عما أُخذ من أملاكهم نحو سبعين مليون ليرة، وأسلاك التلغراف ممتدة ٧٢٠٠ ميل، ويلزم لها من سلك الحديد ما طوله ٣٦٠٠٠ ميل، وعدد المستخدمين في التلغراف ثلاثة آلاف وكل واحد من خمسين من أهل إنكلترة يتوقف معاشه وقوام أمره على هذه السكك.

وقال آخر: بلغ الحاصل من إيراد سكك الحديد في بريتانيا في سنة ٥٧ ثلاثة عشر مليونًا، وذلك بحساب فائدة ٤ في المائة.

وقال آخر: كان في أواسط سنة ٦٠ «١٢٧٤٥٠» رجلًا مستخدمًا في سكك الحديد في جميع المملكة والمشروع فيها الآن يستخدم فيه ٥٣٩٢٣ فتكون الجملة ١٨١٣٧٣ وعدة المواقف ٣٦٠١.

ثم رأيت بعد ذلك في بعض صحف الأخبار أن طول سكك الحديد في مملكة بروسية بلغ في سنة ٥٩ «٣١٦٢» ميلًا، وأن رأس المال الذي عين لذلك ٤٤٠٨٠٠٠٠ ليرة، فيكون ١٣٩٤٠ ليرة على كل ميل، وبلغ عدد المسافرين في السنة المذكورة — ما عدا العسكر — ١٩٢٧٩٦٦٨، ومقدار البضائع التي نقلت فيها ١١٩٠٤٧٦١٠١٢ طنًّا، ومقدار ما تحصل منها ٥٣٩٩٤٤٠ ليرة، أعني ١٧٠٧ ليرات من كل ميل، هذا ما تيسر لي نقله من الكتب ومن صحف الأخبار.

وأقول إني سمعت من غير واحد أن أعظم سكة في إنكلترة هي التي يسافر بها من لندرة إلى برستول، أنفق في إنشائها نحو ستة ملايين ليرة، وإيرادها في كل شهر مائة وخمسون ألف ليرة، ثم إن الرَّتَل الذي يقف في عدة مواضع يسير في الساعة نحو عشرين ميلًا، فأما الرَّتَل المخصوص فإنه يسير أكثر من خمسين، وهو يمر كالبرق الخاطف، فإذا نظرت إليه هَالَكَ أمره، وربما وقفت له الأرتال البطيئة خشية المصادمة.

والمحسوب أن الجُعْل على كل ميل في المحل الأول قرش ونصف، وفي الثاني قرش، وفي الثالث نصف قرش، ومما مر تعلم أن منشئي هذه السكك جماعات يخرجون مالًا من ملكهم ويشتركون فيها دخلًا وخرجًا، فإذا أراد أحد منهم أن يبيع حصته فيها اشتراها آخر، ولباس المستخدمين فيها كلباس الشرطة بل أحسن، وفي طول السكة يقيمون رجالًا يتعهدون القضبان ويحافظون على تنظيف الطرق، فقد يتفق أن بعض الأعداء يكسر قضيبًا منها، فيكون في ذلك هلاك نفوس شتى.

ومما ينبغي أن يلاحظ هنا أن الأرتال الفرنساوية أقل عرضة للمصادمة والخطر من الأرتال الإنكليزية، فكل يوم تسمع في بلاد الإنكليز عن عَطَبٍ عرض لأحد الأرتال، ولهذا كانت الشيوخ والعجائز عندهم يأنفون من السفر فيها، ويؤثرون السفر في بعض مراكب البر على قديم عادتهم، وسبب كثرة هذه الأخطار عندي هو أن مديري المزجيات كغيرهم من أبناء جنسهم في الانهماك في شرب المسكرات، فيشربون وهم مباشرو الآلة حتى يعزب عنهم الرشد والصواب.

ففي سنة ٥٦ هلك في هذه السكك في بريتانيا مائتان وواحد وثمانون نفسًا وأصيب نحو أربعمائة، وذلك ما بين مجروح وأرب، وقس على ذلك خطر السفن، فقد تلف لهم في السنة المذكورة على سواحل المملكة فقط ألف وتسعمائة وتسع وخمسون سفينة، والمعلوم من مجمل الحساب أنه يفقد لهم في كل شهر مائتا سفينة، ومع ذلك فهم أغنى الناس جميعًا فتعجب.

(١٣-٢٥) أرتال الإنكليز والفرنسيين

وألاحظ أيضًا أن الإنكليز إذا عملوا شيئًا فإنما يراعون فيه وجه الكسب والمصلحة فقط، والفرنساوية يضيفون إلى ذلك راحة المسافرين ورونق المحل والتفاخر، فإن المحل الثاني في أرتال الإنكليز لا يشتمل إلا على مقاعد من خشب، إذا قعد عليها الإنسان بضع ساعات أَلِمَ غاية الألم، فأما عند الفرنساوية فإنها تكون شبه الأريكة، يقعد عليها المسافر ما قعد ولا يمل، وقس على ذلك البواخر، ومواقف الأرتال في فرنسا أحسن منها في إنكلترة غالبًا وأبهج، وفي بعضها مطاعم عظيمة يجد الإنسان فيها كل ما يشتهي، بخلاف مواقف الإنكليز؛ فإن ما في مطاعمها كريه، ولا سيما القهوة؛ فإنها عبارة عن حسا القطاني؛ ولهذا كان أكثر المسافرين من الإنكليز يتزودون من بيوتهم ما يلزم لهم مدة السفر، ويأكلون وهم قاعدون في العواجل، وقَلَّ منهم من يتغدى في المطاعم، وما أرى الحق إلا معهم، فإن تلك المطاعم فضلًا عن غلائها ربما أورثت الآكل هَيْضَة تمنعه عن السفر.

(١٣-٢٦) محل للمفقودات

وفي كل من هذه المواقف يكون محل للحاجات التي ربما ينساها المسافرون هناك لسبب العجلة أو الذهول، فتبقى هناك محفوظة حتى إذا علم صاحبها ردت عليه في الحال، وإلا أبقيت فيه سنتين، ثم تباع ويوزع ثمنها على خدمة الموقف، ولا سيما الذين أصيبوا منهم في أبدانهم، واتفق مرة لرجل أن نسي كَوَاغِدَ مالية بمائة وخمسين ليرة، فلما عرف اسمه ردت عليه، واتفق لي أيضًا أني كنت نسيت خُرْجًا في كالي، ولما استقر بي المقام في القرية تفقدته، وعلمت بأنه بقي هناك، فكتبت إلى مدير الموقف فيها، فلم يلبث أن أرسله إليَّ.

ويحسن هنا أن نذكر ما يناسب المقام مما أورده البخاري في باب اللُّقَطة من صحيحه قال: حدثني محمد بن بشَّار حدثنا غُنْدَرٌ حدثنا شُعْبَةُ عن سَلَمَةَ قال: سمعت سُوَيْدَ بن غفلة قال: لقيت أُبَيَّ بن كَعْبٍ — رضي الله عنه — فقال: «أخذت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي فقال: عرفها حولًا، فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرفها حولًا، فعرفتها، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته ثلاثًا، فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها.» ويُروى «استمتع بها» بحذف الفاء، قال ابن مالك في التوضيح فيه: «حذف جواب إن الأولى، وحذف شرط إن الثانية، وحذف الفاء من جوابها، فإن الأصل «فإن جاء صاحبها أخذها، وإن لم يجئ فاستمتع بها»، والتعريف: ذكر اللقطة والضالة وطلب من يعرفها.» انتهى ملخصًا من شرح شواهد التحفة الوردية للعلامة عبد القادر بن عمر البغدادي، فيكون مديرو المواقف على هذا آخذين بهذا الحكم إلا أن في الأمر بتعريف الضالة من الفضل ما فاتهم.

(١٣-٢٧) خلق الإنكليز وصفاتهم

أما خَلْق الإنكليز فالغالب على الرجال الشقرة وتوسط القامة مع الضلاعة والقوة وشدة العصب وزرقة العيون وصغر الأنوف، والظاهر أن الشقرة لا تتوقف على البرد وحده، وإنما أخص أسبابها الدم، فإن أهل جبل لبنان ليس لهم صفاء هذا اللون الذي يرى في هذا الجيل، والغالب في عليتهم امتداد القامة والرشاقة، ثم إن الحسن هنا في الرجال منقسم إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: في العسكر، فإنهم ينتخبون ممن حسن وجهًا واعتدل قدًّا، ويلحق بهم الشرطة. الثاني: في خدام الكبراء والأمراء، فإن السيدات يتنافسن في الغساني ولا يتناولن شيئًا إلا من يد مليح، وإن يكن الشيء المتناول قبيحًا. الثالث: في الكتاب الذين تستخدمهم التجار المثرون وأصحاب المحترفات والمثابات الحافلة؛ حيث يكثر تردد الخواتين للشراء وغيره، فإن ذلك أدعى إلى حملهن على الإسراف.

وما عدا هذه الأنواع الثلاثة فَقَلَّ أن تبصر مليحًا، فأما في باريس فلم ألحظ ذلك إلا في دكاكين اللحامين؛ حيث تنتاب الخوادم الشابات لشراء اللحم، والذي يظهر لي في الجملة أن رجال الفرنسيس أجمل من نسائهم ومن رجال الإنكليز، وأن نساء هؤلاء أجمل من رجالهم ومن نساء أولئك، ومن العجب أن الإنكليز قد يبلغ أحدهم السبعين ولا يخطه الشيب لا في رأسه ولا في عارضه، وإنما يغلب عليهم في هذه السن الدرم والدرد، أعني: سقوط الأسنان، وعندي أن أعظم أسباب الشيب في الأصل هو الهم والخوف من ظلم الولاة وذي الإمرة، فإن أحد الإنكليز إذا كان يملك مثلًا مليون ليرة لم يخشَ أن أميره بل ملكه ينفس عليه بذلك، لا بل يتباهى به ما شاء لاعتقاده أن غناه وغنى أمثاله موجب لغنى الدولة وشرفها، ولا يخشى أيضًا أن يتطاول عليه في حقوقه أحد ممن هو أعلى منه فإن الجميع في الحقوق متساوون، وأن القاضي والجرنال عتيدان لكل من الغني والصعلوك والنبيه والخامل، وحسبك أن بعض باعة الشراب أقام دعوى على دوك كمبريج ابن عم الملكة، فما وسعه إلا الحضور بين يدي القاضي.

ثم الغالب عليهم أيضًا الكلوح والعبوس، ولا سيما أهل القرى، وإن يكن جوهم أصفى من جو أهل المدن؛ وذلك لأن في المدن كثيرًا من الملاهي والملاعب ومن العازفين بآلات الطرب، فمتى سمعت الأم الموسيقى أخذت طفلها ورقصته عليها أو غنت له، فيدرب بذلك فيغرس فيه حب الطرب والخفة والبشاشة، فأما البلاد الخالية من ذلك فلا بد وأن ترى وجوه أهلها عابسة باسرة وطباعهم بليدة.

(١٣-٢٨) نساء الإنكليز

أما نساء الإنكليز فلونهن البياض المشرب بحمرة، وعيونهن شهل أو زرق في الغالب، وشعرهن أسود غالبًا وإن اشتهر خلافه إلا في حواجبهن فَقَلَّ أن تكون حالكة، وأسنانهن أحسن مما يظن في أمثالهن ممن رُبِّي في البلاد الباردة، وقد زين بسطاطا القوام، والذلف أي: صغر الأنف، والبلج وامتلاء الساعدين ولطف اليدين ومشق الأصابع، وبالعنق ورقة الشفتين وإسالة الخد، وشعر أهدابهن وحواجبهن لا كثير ولا قليل، ولا مزية لهن في الصلوتة على غيرهن، وهي أحسن نساء الإفرنج قاطبة صفاء لون ونعومة بشرة وأعضادًا وترائب وأعناقًا، وقد ذاكرت كثيرًا ممن رآهن ورأى غيرهن فكلهم فضلهن، إلا أنهن جد وطويلات الأقدام في الغالب، وغير سود الأجفان وأحداقهن غير مركبة فوق زئبق كما قال أبو الطيب وسبب الأول عندي تعرضهن للبرد في الصغر فإن ترائبهن لا تزال مكشوفة.

وفي الجملة فلم أرَ شيئًا يصدق على نساء هذه البلاد أكثر من قول صاحب القاموس: الشوهاء الجميلة والعابسة ضد، ولكن في جعل ذلك من الأضداد نظر. وجميع الإنكليز يعجبون بحسن الأسنان وهو أول ما يذكرون من الصفات المستحبة ويشبهونها بالدر كما نشبهها نحن، ويعجبني قول ابن النبيه فيها:

وما كنت أدري قبل لؤلؤ ثغرها
بأن نفيسات اللآلئ صغارها

وقد كرر هذا المعنى بقوله:

ولم أرَ قبل مبسمه
صغير الجوهر المثمن

إلا أنهم لا يخصون الفلج بالاستحسان ولا يشبهون العيون بالسيوف بل بالألماس ولا الجيد بجيد الغزال، وإنما يصفونه بالبياض وربما شبهوه بالمرمر، ولا يشبهون الثدي بشيء وإنما يصفونه بالامتلاء والاستدارة، ولا يتغزلون بالخال على أن النساء يضعن أمثاله أحيانًا، ولا بالهزمة في الخد وإنما يستحسنون النونة في الذقن، ولا يشبهون المرأة بالشمس ولا بالقمر بل بالنجم، وعندي أن أشوق شيء في الوجه الفم والعينان لكونهما يتحركان فيحركان الوجد، ولا أرى الحق مع من قال أحب منها الأنف والعينانا، بل الحق ما قاله الآخر: يا ليت عيناها لنا وفاها، ولعل الرواة حرفوا المصراع الأول أو لعل الراجز حكى واقعة الخال، ثم إن النساء في بلاد الإنكليز هن اللواتي يباشرن خدمة الديار غالبًا أما الرجال فلا يكونون في خدمة إلا عند الكبراء، وكثيرًا ما ترى جارية حسناء زاهرة تامة الأوصاف تخدم سيدة من السَّعَالي، وإذا طرقت الباب وخرجت الجارية لتفتحه حسبتها هي المخدومة وأدهشك جمال وجهها عن وجه سؤالها.

ولنساء القرى خصلة ذميمة وهي أنهن يشرقن بِنُخَامَتهن، وهذه تقابل خصلة نساء فرنسا في لحسهن أصابعهن بعد أكل الحلواء ونحوها، ويقابلها من خصال أهل المشرق التجشؤ وهو حباق المعدة، غير أن خصلة الفرنساويات أقل أذى؛ لأنها لا تكون إلا عقب الأكل ومدتها لا تطول، وجمع النساء اللاتي استخدمناهن كن يلمسن شعورهن ووجوههن وأيديهن وسخة، ويغسلن وجوههن وأعناقهن ويمسحنها بالخرق التي يمسحن بها آنية المطبخ.

والخصلة الأولى رأيتها في لندرة أيضًا، وقد سمعت أن نساء فرنسا المتظرفات لا يغسلن وجوههن بالصابون مخافة أن تَمْجُل بشرتهن، وإنما يغسلن بماء النخالة مع أن صابون فرنسا أحسن من صابون الإنكليز، ويقال: إن أهل فرنسا الأقدمين — وكان يقال لهم الغال — هم أول من عملوا الصابون في أوروبا، وكان الناس من قبل ذلك يغسلون ثيابهم بالماء فقط إما بأن يدعكوها بأيديهم أو بأرجلهم، ولم يعمل في لندرة قبل سنة ١٥٢٤، والمحسوب أن كل واحد من أهل بريتانيا يلزم له سبعة أرطال من الصابون في كل سنة، فعلى هذا يكون اللازم منه لأهل لندرة وحدهم تسعمائة طن، وجميع الإفرنج لا يغسلون أيديهم بعد الطعام غير أن الكبراء منهم يغمسون أصابعهم في صحاف يؤتى بها أمامهم على المائدة ثم ينشفونها من دون صابون، وربما تمضمضوا وألقوا فيها الماء من أفواههم بحضرة الضيوف، وكذلك تفعل النساء وهو عندي أقبح من عدم الغسل.

ومما يكره في نساء الإفرنج تربية أظافرهن حتى تأخذ حدها في الطول، وترك شعورهن في القفا منفشة مشعثة فمتى نزعت إحداهن غطاء رأسها رأيت شعرها كشعر المقشعر، وإن إحداهن تلعب بجرو كلب بحضرة الناس وربما نزا عليها ولحس ترائبها ووجهها.

ونساء الأكابر يستصحبن كلابهن في العواجل، وعندهن صنف من الكلاب يقعدنه في أحضانهن ويسمى كلب الحضن، وإني أحمد من نساء الإفرنج عمومًا، ومن نساء الإنكليز خصوصًا أنهن لا يستعملن الصبغ ولا التزجيج،٧ فكما خلقهن الله يبدون، ولا يتباهين بكثرة الحلي والجواهر، فغاية تصنعهن إنما هو في تصفيف شعورهن وتغيير ملابسهن بحسب الزي المستعمل.

فأما نساء الفرنسيس فإنهن أكثر زهوًا وعجبًا من جميع نساء الإفرنج، وقد كانت النساء هنا يرسلن على طلاهن سوالف مجعدة، تفعل ذلك منهن الطويلة الشعر عجبًا به، فصرن الآن يسوينه منسرحًا على أَقْوَادهن اقتداء بالملكة إلا ما ندر، ومثل هذه العادة في القلة عادة المرافد، وللنساء على الرجال مزيتان؛ علوية صيفية، وسفلية شتائية، فالأولى: اتخاذهن الظلل وقاية لهن من الشمس، أو لبرانيطهن خشية أن تتصل ألوانها، وهي في الواقع عبارة عن ظلل، والثانية: اتخاذهن القباقيب ذات الشُّسُوع في الشتاء، فتراهن يخضن بها الوحول والثلوج، وهي مصلصلة تحت أحذيتهن، وغطاء رءوسهن البرنيطة، وذلك مطرد في جميع البلاد بخلاف نساء فرنسا، فإن لكل نساء إقليم فيها غطاء مخصوصًا، وأكثر ما يهمهن من اللباس الجوارب والأحذية، فأما الثياب فالغالب أنها من الشيت، ومع ذلك فإذا كان للمرأة أربعة قفاطين منه فهي الحظية.

والحق يقال: إن نساء الإنكليز على غاية ما يكون من التقشف والقناعة، فإن أقل شيء من الملبوس يرضيهن، ومن المطاعم يكفيهن، ولا يستعملن الدخان ولا النشوق كبعض نساء الفرنسيس، ولا هن مثلهن أيضًا في كونهن ينكرن مزية الرجال على النساء، فمهما تكن المرأة شريفة من الإنكليز تعترف بأن الله تعالى خلق الرجال قوامين عليهن، وإذا أهديت إحداهن منديلًا أو حذاء أو نحو ذلك استعظمت الهدية، وبالغت في وصف محاسنها، وكررت الثناء عليك حتى تتوهم أنك صرت رابعًا لحاتم طي وهرم بن سنان وكعب بن أمامة، فأما إذا نظرن شيئًا من الجواهر النفيسة سواء أتحفن به أو لا فيا للعجب ويا لمنتهى الأرب، واستعظام الهدية — ولو قلَّت — صفة عامة لعليتهم وسفلتهم، فقد كانت سيدة ما تكرمت علينا بست ثمرات من الخرشف، فلما قابلتها في اليوم الثاني شكرتها على ذلك، فقالت: إني وزوجي أهديناها، فكأنها قالت: إن عليك أن تشكره أيضًا كما شكرتني، والحق يقال: إن ذلك في أكثر الأحوال أولى من سكوت العرب عن نطق كلمة واحدة تفصح عن الشكر.

وقد كنت أرى من النساء العُبْل الحسان ذوات البشر الناعم والغضاضة الرائعة من تنصب حر وجهها لحر الشمس في الصيف بأن تعزق الحقول وتحمل الأحمال الثقيلة، وتحصد وتبذر وتجمع المحصود وتحتطب وما أشبه ذلك، وفي شهر حزيران حين يقطع الحشيش ترى نساء كثيرة يجمعنه، وحين يحصدن الزرع لا يعملن بنص التوراة في سِفْر الأحبار، فإنهن يحصدن الأرض من تحته، ومع هذا الشقاء فلا تزيد أجرة المرأة في اليوم على نصف شلين، وهو بالنسبة إلى غلاء بلادهم بقيمة قرش عندنا، فكنت أقول في نفسي: ما أرخص الجمال في هذه البلاد، وما أقسى قلوب الرجال الذين يحوجونهن إلى هذا الابتذال، أو لعلهم يريدون صبغ هذا البياض النقي بوَرْس الشمس أو سُحْمَة الضباب.

فلو برزت سواعدهن يومًا
لشاعرنا لأنشد من ذهول
بربات الحقول يحق لي أن
أشبب لا بربات الحجول
ولو برزت ترائبهن ليلًا
لصدر الدولة القَرْم الجليل
لقال: خذوا حظايا الكُرج عني
فدى الصَّلِفَات عند ذوي الخمول

وفي الجملة، فلا شيء أرخص من الجمال في هذه الديار.

هذا؛ ولما كان لون البياض عامًّا في الرجال والنساء في هذه البلاد كانت المرأة السمراء محببة إلى الرجال جدًّا، والرجل الأسمر محببًا أيضًا إلى النساء جدًّا، وهذه الطائفة المعروفة عندهم باسم جبسس وهو صنف من نور بلادنا وغجر مصر لولا دناءتهم لكانت علية الإنكليز تصاهرهم، وذلك لسمرة لونهم وكحل عيونهم، وقد كان الدكطر «لي» متزوجًا من إحدى هؤلاء الجبسيات، رآها مرة فأحبها لسمرتها وأحبته هي لبياضه فوعدها بأن يتزوجها بشرط أن تتهذب في مذهب النصرانية، فأجابته إلى ذلك فتأهل بها.

(١٣-٢٩) النَّوَر في إنكلترة

ومن الغريب أن هذا الجيل يعيش في هذه البلاد عيشة النور في بر الشام سواء؛ إذ ليس لهم مقر معلوم للإقامة، فمرة يسكنون الغياض، ومرة الخِصَاص، وبعضهم يأوي إلى نحو هودج يجره حصان فيجعل فيه رحله وأثاثه وهكذا يطوف في البلاد، وإليهم تنسب سرقة الدجاج والخيل أو في الأقل أذنابها والإنباء عن البخت، ولهم لسان خاص بهم، ويقال لشيخهم ملك إلا أنهم يخالفون تنورنا بكونهم غير مولعين بالطرب والرقص، وما ذلك إلا لكونهم مولودين تحت رقيع الإنكليز الكالح، ولما كان هؤلاء يعنتونهم في السكنى تنصر منهم كثير، فإن قلت: كيف يبصرون البخت والإنكليز لا يعتقدون بهذه الأمور؟ قلت: إن عامة الإنكليز على غاية من الجهل، فعندهم من التفاؤل والتشاؤم ما عند عامة بلادنا كما سنبين ذلك بعد.

وعن بعضهم أن «هولا الجبسس هم إحدى عشائر مصر الذين خلعوا عنهم نير الطاعة للترك حين غزوا بلادهم، حتى إذا فشلوا تفرقوا في الأرض، فكان أول ما ظهروا في جرمانيا، وذلك نحو سنة ١٥١٧، وحيث كان الناس إذ ذاك على جانب عظيم من الوساوس والأضاليل، وظنوا بهم علم بصر البخت، رحبوا بهم في كل مكان، وفي سنة ١٥٦٠ نفوا من فرنسا ومن غيرها أيضًا، إلا أنهم لم يزالوا موجودين في كل مملكة، وفي أيام شارلس الأول قتل ثلاثة عشر شخصًا من الإنكليز لاختلاطهم بهم، وأخرب مأواهم في نوروود وذلك سنة ١٧٩٧، وعوملوا معاملة البطالين التائهين، وقبل سنة ١٨٠٠ كان منهم في إسبانيا أكثر من مائة وعشرين ألفًا، ولم يزل منهم في هذه البلاد جماعات كثيرة، ومع اختلاطهم بغيرهم من الأجيال فإنهم لم يحولوا عن عاداتهم وأطوارهم وسحنهم، فهم أشبه باليهود.» ا.ﻫ. وقال آخر: «إن أصلهم من الهند، وإنهم يتكلمون بلغة من لغاتها، وإن حقيقة اسمهم زنكان أو جنكان.» انتهى.

ثم إن تحقق الحسن في السمر أو السود في عين الرائي لا يمكن من قريب، فأما البيض فإذا رأيت صفًّا منهم عن بعد توهمتهم كلهم ملاحًا؛ لأن البياض — كما قيل — شطر الحسن.

ويمكن أن يقال إن ذلك بالنسبة إلى ألفة النظر، وروى ابن عساكر عن خالد بن سفيان أنه قال: «عمود الجمال الطول، وبرنسه سواد الشعر، ورداؤه البياض.» قلت: فعلى هذا فقد اجتمع في مؤنث جيل الإنكليز العمود والبرنس والرداء، وقد تمحل بعضهم لأن فضل السود بقوله:

رُبَّ سوداء وهي بيضاء عندي
فهي مسك إن شئت أو كافور
مثل حب العيون يحسبها النا
س سوادًا وإنما هي نور

وقال غيره:

يكون الخَالُ في وجه قبيح
فيكسوه المهابة والجمالا
فكيف يُلام عاشقها على من
يراها كلها في العين خَالَا؟!

وهذه كلها من مغالطات الشعراء، والحق ما قاله البهاء زهير:

اسمع مقالة صب
وكن بحقك عوني
إن المليح مليح
يحب في كل لون

وقال آخر:

قالوا: تحب السواد قلت لهم:
أحبه في الشعور والحدَق
قالوا: وتَهْوَى البياض قلت لهم:
في الوجه والمِعْصَمَيْنِ والعنُق

ثم لا يخفى أنه لما كانت أسباب الفساد في القرى الصغيرة صغيرة لم تكن النساء هنا مائلات إلى الفحش والفسق كما هو شأن المدن الحافلة، ولهذا كان عيش المتزوج في بلاد الفلاحين من هذا القبيل أهنأ من عيش المتمدنين.

(١٣-٣٠) نساء الإنكليز ونساء الفرنسيس

والذي أتحققه أن عيش المتزوجين من الإنكليز في كلا الموضعين وإن لم يكونوا يحتفون بأزواجهم ويكرمونهن أمام الناس كما تفعل الفرنسيس، إلا أنهم أكثر إحصانًا منهم لفروجهم، وأوفر مودة ووفاء لهن في الحضرة والغيبة.

هذا في حق الأزواج، فأما في شأن الرجال والنساء مطلقًا، فإن رجال الفرنسيس أرفق وأحفى، فإن أحدهم ليؤثر راحة المرأة أيًّا كانت على راحة نفسه، فإذا تبوأ مثلًا مقعدًا في سفينة أو رتل، ودخلت امرأة ولم تجد لها محلًّا فاضطرت إلى القيام، قام من موضعه وأجلسها فيه، وكذا لو وقع منها منديل ونحوه بادر حالًا إلى مناولتها إياه، وعندهم كلمة مخصوصة لمثل هذه الأفعال، أما الإنكليز فلا مبالاة لهم بذلك، وكنت كثيرًا ما أرى رجالًا منهم يضغطون النساء والأولاد حتى يسبقونهن إلى موضع يتَبَوَّءُونه، فإذا دخلت النساء ظللن قائمات، وحين يسافرون في الأرتال أو الحوافل يتخيرون أحسن المقاعد، وربما أداروا ظهورهم للنساء غلاظة وسوء أدب.

نعم إن نساء الفرنسيس أكثر تَكَيُّسًا وتظرُّفًا في الظاهر من نساء الإنكليز، إلا أن هؤلاء جديرات بالإكرام من عدة وجوه، وفضلًا عن ذلك فقد يقال: إن زيادة تكيس أولئك أصلها من زيادة الإكرام لهن، وإنما هو جفاء غريزي في طبع الرجال، حتى إن النساء اعتدن عليه، ولا يرين فيه نكرًا إلا إذا عاشرن الأجانب، وهذا هو ما تعنيه الإنكليز بقولهم: نحن خير من غيرنا بعولة، وغيرنا خير منا عشاقًا.

والفرنساوية يصفون نساء الإنكليز بأنهن عسر؛ أي يعملن بالشمال تعريضًا بكونهن لسن صنعًا كنسائهم، وهذا القول باعتبار صنعتي القلم والإبرة حق، فإن عامة الناس هنا لا يحسن الخياطة ولا التطريز ولا الكتابة، وإذا كتبت إحداهن رسالة شحنتها بالغلط والخطأ، مع أن لغة الإنكليز هينة المأتى بالنسبة إلى غيرها، ولكن هن معذورات في ذلك؛ إذ ليس في القرى مكاتب جيدة ومعلمون ماهرون، وربما اجتزئ عن المكتب بأن يتعلمن في الكنيسة يوم الأحد شيئًا من أصول الدين أو شيئًا من القراءة مما لا يُعبأ به.

وفضلًا عن ذلك فإن الولد متى أدرك وهو تحت حجر والديه لم يستغنيا عنه؛ لأنهما إما أن يستصحباه معهما إلى المزرعة ليعينهما على عملهما، وإما أن يبقى في البيت ليهيئ لهما طعامهما ويحفظ رحلهما وغير ذلك، فإن يكن والحالة هذه لوم على النساء فإنما هو على قاطنات المدن والقرى الجامعة، بل الرجال في هذه الأماكن لا يريدون إقبال نسائهن على القراءة والكتابة مخافة أن يشمخن عليهم كدأب نساء الفرنسيس، وما أحسن هنا ما قيل: «إن المرأة الفاضلة هي التي إذا قرأت خلتها لا تحسن العمل، وإذا عملت خِلْتها لا تحسن القراءة.» وعلم من الإحصائيات الرسمية أنه: «في سنة ١٨٥٥ كان عدد المتزوجين ٣١٥٠٤٧٠، فوجد في كل مائة امرأة أربعون قد وضعن على الطروس علامة الصليب بدل أسمائهن، ومن كل مائة رجل تسعة وعشرون رجلًا على تلك الصفة.» ا.ﻫ. قلت: والذين يعرفون أن يكتبوا أسماءهم ينبغي إسقاط ثلثيهم من عداد ذوي الدراية؛ فإن أكثرهم لا يحسنون كتب رسالة.

(١٣-٣١) عامة الإنكليز والكتاب المقدس

وهنا ينبغي أن يلاحظ أن عامة الإنكليز يقرءون التوراة والإنجيل بلغتهم، ولكن قَلَّ منهم من يفهمها، وقد جرى مرة ذكر ذلك بحضرة جماعة ادعوا بأنهم لا يفوتهم شيء من فهم الكتاب الأول، وأن سعادة بلادهم وغبطة أحوالها إنما تسببت عن ذلك، فقلت لهم: أما السعادة والغبطة فلست أباحثكم فيهما، ولا أسلم لكم بأنكم أسعد من غيركم، وأما الفهم فما أخالكم تفهمون ما تقرءون في التوراة، قالوا: سلنا عن شيء منها، فقلت: على شرط أن لا يسوءكم، قالوا: لا تخشَ من الإساءة فإن هذه البلاد بلاد الحرية، قلت: ما معنى الغُرْلة حين طلب شاول من داود أن يمهر ابنته مائة غلفة من أهل فلسطين، فمضى داود وقتل منهم مائتين وجاء بغلفهم إلى شاول؟ فقالوا: لا ندري، فقلت: بل لا تدرون أيضًا كيف أن الرجل يمهر المرأة، فإن عادتكم بخلاف ذلك: قالوا: بين لنا هذا، قلت: ها هنا نساء وأخشى أن أفسر لكم معنى اللفظة فتنقبض النساء، قالوا: إذا كان ذلك كلام الله فلا حرج، ففسرت لهم حينئذ معناها، فما كان من إحدى النساء إلا أن أخذت الكتاب ورمت به الأرض، وقالت: «معاذ الله أن يكون هذا الكلام كلام الله.»

(١٣-٣٢) نساء الفلاحين

أما الخياطة والوشي فقد تقدم أن نساء الفلاحين لا يلبسن سوى الشيت، فلا حاجة إلى تطريزه، وكل واحدة منهن خياطة لنفسها، وإذا خطن تحت يد تاجر فقلما تُوَفَّى أجرتهن، وما عدا ذلك فإن كثيرًا من الآلات التي اخترعها الإنكليز صارت تغني عن اليدين، فأما الطبخ فإنهم لا يتفننون فيه طبعًا؛ لأن أحب شيء إليهم منه إنما هو الشواء، فطباخهم فيه إنما هو النار، ولما كان وقتهم كله مصروفًا في العمل وتحصيل الكسب لم يكونوا يرون ضرورة لصرفه في تعدد ألوان الطعام، وفي الجملة فإن الإنكليز يحق لهم أن يقولوا: إن بلادهم منبت النساء، ومعدن الأزواج، بمعنى أن من تزوج إحداهن فقد هنأه العيش، وقرت عينه بما يراه من نظافة منزله مع الاقتصاد في النفقة وراحة البال من الأسباب الباعثة على الغيرة.

(١٣-٣٣) أخلاق الإنكليز وعاداتهم

أما أخلاق الإنكليز وعاداتهم فالواجب أن أمهد للقول فيها مقدمة وجيزة لإزالة الالتباس فيما يرد من بيان ذلك، فأقول: إن هذا الجيل ينقسم إلى خمس طبقات؛ الطبقة الأولى: الأمراء والوزراء والنبلاء وذوو المناصب السامية، ويلحق بهم الأساقفة. الثانية: الأعيان أو العلية، وهم الذين يعيشون من أرزاقهم وأملاكهم لا من معاطاة شغل أو حرفة، وليس لهم جلاء؛ أي لقب تعظيم. الثالثة: العلماء والقضاة والفقهاء، ويلحق بهم القسيسون والتجار أهل المراسلات. الطبقة الرابعة: التجار أصحاب الدكاكين والكتاب، وهم الذين يحتاجون إلى تحصيل معاشهم بالاحتراف والاصطراف، ولكن من دون ابتذال ماء الوجه. الخامسة: أهل الحرف والصنائع والعملة، ويلحق بهم الفلاحون وهم الجمهور الأكبر.

فعادات أهل الطبقة الأولى مباينة بعض المباينة للثانية، ولكن ليس بينها وبين الأخيرة من مناسبة أصلًا كما سيأتي، وعادات أهل الطبقتين الثالثة والرابعة متساوية لا اختلاف فيها إلا ما ندر، أما أهل الطبقة الثانية فإن لهم من وجه نزوعًا إلى الأولى بالنظر إلى العز والاستبداد، ومن وجه آخر ينزعون إلى الباقي بالنظر إلى الجنسية والألفة، والغالب على جميع هذه الطبقات حب الوطن والمباهاة بما عندهم من الصنائع والأحكام والإذعان للقوانين التي بنيت عليها معاملات دولتهم ودواوينهم.

ولما كان أصحاب الطبقة الأخيرة هم الجمهور الأكبر — كما ذكرنا — وهم الحريون بأن يقال لهم بريتانيون أو إنكليز؛ لكونهم بقوا على قديم أحوالهم وأطوارهم، ولم يعرفوا غيرهم من الأجيال لا بالمعاشرة ولا بالمطالعة؛ وجب أن نقدم ذكرهم أولًا، فنقول: إن أول خُلَّة يراها الغريب فيهم هي عدم اكتراثهم له، ونفورهم منه، فلا يفرحون لفرحه، ولا يحزنون لحزنه، بل لا يُعنَى أحد منهم بشأن جاره، ولا يهمه أمر غير أمر نفسه.

فكل ذي حرفة يقتصر على الاشتغال بحرفته مدة حياته، ولا يَتَطَالَل إلى معرفة شيء غيرها، فالفلاح مثلًا لا يعرف شيئًا إلا ما آل إلى الحرث والزرع، والقَين لا يدري مما يحدث في بلاده سوى ما يختص برواج سعر الحديد والطلب على الأدوات المصنوعة منه، وهلم جرًّا إلى المهندس والطبيب، وإذا استراح الرجل منهم ساعة قضاها بذكر ما عمل وما سوف يعمل، ويمكن أن يقال: إن بهذه الخصلة استتب عز دولة الإنكليز وعظمت شوكتها؛ لأن الرعية لا تعترض ذوي الأمر والنهي في تدبيرهم، ولا تتطاول إلى معرفة ما تقتضيه سادتهم وأهل شوراهم؛ فلذلك قلما يحدث عنهم شغب أو فتنة، بخلاف أهل فرنسا، فإن كلًّا منهم يتطفل على أولياء الأمر فيهم، وهذا هو السبب في كثرة العساكر هناك وقلتها هنا، فإن جميع ما في بلاد الإنكليز من العساكر لا يزيد على خمسة وعشرين ألفًا، فإذا قسمتها على عدد الأهلين وهو سبعة عشر مليونًا ونيف كان كأنه قطرة في بحر.

ولقائل أن يقول أيضًا: إن لذلك — أي لعدم الفتنة — سببًا آخر، وهو فقرهم المانع لهم من الاشتغال بغير ما يكسبهم القوت الضروري، فإن هؤلاء النحل العسالة في خلية الاجتماع الإنساني إنما يعملون — كما قال بعضهم — لتسمين الزنابير البطالة، وهم أطوع خلق الله لأولياء أمورهم فلو نهوهم عن أن يناموا مع نسائهم لانتهوا، ويمكن أن يقال أيضًا: إنهم لعدم اختلاطهم بغيرهم من الناس يحسبون أنفسهم وهم في هذه الحالة أسعد خلق الله، وأن جميع رسومهم وأحوالهم مستغنية عن التبديل والتغيير.

(١٣-٣٤) مصارف العسكر وجيوش أوروبا

وكيف كان فإن شقاءهم موجب لسعادة الدولة، وفقرهم زائد في غناها واقتصادها واستغنائها عن كثير من العساكر، فإن مصاريف العسكري الواحد هنا تبلغ في السنة مائة وسبعين ريالًا، وفي بروسية اثنين وستين، وفي الروسية ثمانية وستين، وفي أوستريا تسعة وسبعين، وفي فرنسا مائة وثلاثة عشر، أما في أميريكا فمائة وأربعة وثمانون ريالًا.

ويقال إنه يلزم لكل نفر من عساكر فرنسا وإنكلترة رطلان وربع رطل من الطعام، في كل يوم منها نحو ثلاثة أرباع خضرة والباقي لحم وخبز، فيبلغ ذلك في السنة ثمانمائة رطل، فإذا أضفت إلى ذلك مشروبه من الماء والقهوة والشاي والمسكرات يبلغ ألفًا وخمسمائة رطل.

ويقال أيضًا: إن أكثر ما تجهز عند الدول من الجيوش في العصر الحالي ما كان فيه لدولة إسبانيا مائة وخمسون ألفًا، ولبريتانيا ثلاثمائة ألف وعشرة آلاف، ولبروسية ثلاثمائة وخمسون ألفًا، وللدولة العلية العثمانية أربعمائة وخمسون ألفًا، ولأوستريا خمسمائة ألف، وللروسية خمسمائة وستون ألفًا، ولفرنسا ستمائة وثمانون ألفًا، وهم في هذا العصر أكثر وأول من كان عنده جيوش قائمة كما يرى الآن شارلس الثامن ملك فرنسا، وذلك سنة ١٤٤٥، وبه اقتدى شارلس الأول ملك الإنكليز، سنة ١٦٣٨، وحسب ذلك أولًا عند الإنكليز غير شرعي.

وبلغ مجموع العساكر الإنكليزية في سنة ١٨٥١ «١٧٨٦٤٥»، وبلغت مصاريفهم ١٣٧٢١١٥٨ ليرة.٨
وكانت العادة قبل حرب القريم أعني الحرب التي وقعت بين الدولة العثمانية ودولة الروسية في سنة ١٨٥١ أن يستخدم النفر من عسكر الإنكليز طول عمره، فكان كثير منهم يفتدون أنفسهم، وبعد خمس عشرة سنة يدعون بأن لهم حقًّا في أن يسرحوا، والآن فرض على المشاة خدمة اثنتي عشرة سنة، وعلى الفرسان خدمة عشرين سنة، ويوجد في عساكر الإنكليز نحو سبعة آلاف ومائة ضابط بشهرية وافرة، وللنفر من حرس المملكة نحو شلينين في كل يوم، ولكل من الفرسان شلين وثمن، وللمشاة شلين، وثمن رتبة أمير الألاي في الحرس تسعة آلاف ليرة، وذلك أن هذه المراتب في العساكر البرية معرضة للبيع عندهم، وهو من جملة الأحوال المختلة التي يجب إصلاحها، ومصاريف العساكر البرية تبلغ في السنة سبعة ملايين ليرة، ونحوها مصاريف البحرية ومصاريف ديوان المهمات الحربية ثلاثة ملايين.٩

(١٣-٣٥) من طبع الإنكليز

ومن طبع الإنكليز الرث وهو البلادة وقلة الفطنة، فلا تكاد أحداثهم تفهم شيئًا من كلام الغريب بينهم، بل الكهول أيضًا لا يعون ما يلقى عليهم إلا بعد الروية والتأمل، وشتان ما بينهم وبين الفرنساوية؛ فإن الحدث من هؤلاء يبتدر إلى الجواب كأنما قد درسه ودراه من قبل سؤالك إياه، ولو قلت: إن البريطاني القُحَّ ليس له من توعي العقل سوى نصف المكتسب ونصف الغريزي لما أخطأت، وتلك صفتهم من القديم؛ فقد روي عن شيشرون أنه قال: إن أبله الأسرى الذين جيء بهم إلى رومية هم الذين أخذوا من بريتانيا، والتمس من صديقه أطيقوس ألا يشتري فيما بعد منهم أحدًا، وذلك لبلادتهم وعدم أهليتهم لتعلم الموسيقى وغيرها من الفنون.

وروي أيضًا عن قيصر أنه قال: إن أهل بريتانيا جيل جاف متوحش أكثر ما يكون، وإن معظمهم لم يرَ الحنطة في عمره قط، وإن قوتهم إنما هو اللحم واللبن لا غير، ولباسهم جلود الحيوانات. ا.ﻫ. قلت: ليس معنى قوله: قوتهم اللحم أنهم كانوا يطبخونه، بل إنما كانوا يأكلونه نيئًا مملوحًا كما يظهر من رواية أهل التاريخ، فإنهم قالوا: إنه علم من دفتر حاكم نرثمبر سنة ١٥١٢ أن أهل الحاكم المذكور كانوا يقتاتون باللحم المملوح فكان جل طعامهم، وكذلك حشمه لم يكونوا يأكلون طول السنة سوى اللحم المملوح، وندر معه البقول أو الحبوب، فمن زعم أن «البيف ستك» — أعني شواء البقر المشرح — كان مستعملًا بإنكلترة من القديم فقد وهم، فإن هذا الغذاء المريء لم يعهد قبل شارلس الثاني؛ لأنه كان يحب الشواء من ظهر البقر.

قلت وإلى الآن هم يحبون هذا الشواء غير ناضج، وربما قطر دمه في الصحفة، ويستطيبونه على سائر ألوان الطعام، ولكن من رأى أهل جبل لبنان يقطعون الهبر من الضأن ويأكلونه نيئًا كف عن لوم الإنكليز.

هذا؛ ومع تكرر ذكر مدن الشام على مسامعهم من المنابر في كل يوم أحد، ومع كثرة قراءتهم للتوراة والإنجيل، فلا يكادون يعرفون أين موقع دمشق مثلًا من الإسكندرية، ولا يتذكرون شيئًا عن صور وصيدا وبيروت وجبل لبنان، مع أنها مكررة في الكتابين المذكورين بما لا مزيد عليه.

والظاهر أن مصر أشهر عندهم وعند الفرنسيس أيضًا من الشام، وقد سألني مرة في أكسفورد رجل له سَمْتٌ ورُوَاءٌ فقال: «من أي البلاد؟» فقلت: «هُوْ؟» ولفظة هو استفهام بلغتهم، فقال: «آه من هو!» معتقدًا أن هو اسم علم على مدينة، ثم قال: «أتعرف في هو فلانًا» وسمى رجلًا قلت: أنا لست من مدينة هو، وإنما أنت سألت سؤالًا مبهمًا يصلح لأن يخاطب به أي إنسان كان، فإذا أردت الآن أن تعرف اسم بلادي فهي سورية، فقال أحد الجلوس بعد طول تأمل: «هل سورية مدينة كبيرة؟» إلا أن بلادتهم هذه مقرونة بشيء من سلامة الصدر وخلوص النية، كما أن فطنة الفرنسيس مقرونة بالمكر والمحال، وكما أن عامة الفرنسيس يحسبون كل غريب فيهم من إسبانيا ولا سيما إذا كان أسمر اللون.

كذلك عامة الإنكليز يحسبون كل غريب فيهم فرنساويًّا سواء كان أسمر أو أسود، وسواء كان على رأسه طربوش أو طرطور، هذا؛ ولما كانت خلة الجهل أبدًا ملازمة للفظاظة والخشونة كان لهؤلاء القوم منهما الحظ الأوفر، فإنهم يحدقون في وجه الغريب، ثم يتبعونه بقهقهة ويسخرون منه، ولا سيما إذا لم يكن يحسن النطق بلغتهم، على أنهم هم أنفسهم لا يحسنون النطق بها، فكلامهم كله لحن وخطأ.

أما غناؤهم فلا يمكن لذي ذوق سليم أن يطرب به، وقد سمعت أغاني الفرنسيس وسائر الإفرنج فوجدت بعضها يطرب ويشجي؛ لأن فيها مدًّا وترجيعًا، فأما أغاني الإنكليز غير التي يتلقونها من الطليانيين والفرنساويين في الملاهي فكلها نبر ودرج.

ومن طبعهم أنهم لا يتزاورون ولا يسهر بعضهم عند بعض، وكيف يسهرون وهم إنما يرقدون في الساعة التاسعة، ويقومون صباحًا في الساعة الرابعة؟! كل ذلك حتى يأكلوا الفقع — أعني البطاطس — ويشربوا الفُقَّاع! وربما بقي الرجل سنين ولا يعرف جاره، وكذا أهل المدن.

وغاية محاورتهم إذا تلاقوا في الطريق أن يقول أحدهم: «طيب بطرس» فيقول الآخر: «طيب يوحنا»، وكنت إذا مررت بأحدهم يقول لي: «صباح حسن»، فأقول له كالصدى: «صباح حسن» وكنت أحسب ذلك تحية؛ لأن تحية الصباح عندهم «صباح طيب» فظننت أنهم يقيمون لفظة مقام لفظة، حتى سألت الدكطر «لي» فقال لي: «ليس ذلك من التحية في شيء، وإنما هو مجرد إخبار عن حسن الصباح.» وإذا اجتمع المتعارفان منهم وتساءلا فلا بد وأن يبتدئ أحدهما أولًا بوصف الهواء وصحوه أو برده، ثم يخبره بما عرض له من وجع في كتفه أو ثالول في رجله أو اختلاج في عينه، فيقول السامع: «يحزنني ذلك جدًّا» ومتى اجتمعوا للمنادمة — وذلك لا يكون إلا في القرى الجامعة — ملئُوا كوبًا كبيرًا من الجعة، وجعل كل منهم يكرع منه كرعة، ويدخن في قصبة من الطين ثم يبصق فيملئون المكان بصاقًا وقذرًا، وفي خلال كل محاورة يجددون وصف الهواء وذكر البرد، ولا يكاد أحدهم يضحك ضحكًا طبيعيًّا، وإنما هو عبارة عن قهقهة، ثم يعقبها الكتم والعبوس، فما كان الضحك منهم إلا قوة من القوى، فهم يكتمونه ما أمكن مخافة أن تخرج معه تلك القوة.

ومن طبعهم أيضًا أن لا يحترموا الشيخوخة من حيث هي شيخوخة، ولا تهاب الأولاد والديهم كما تهاب الأولاد عندنا؛ ولا يحن الوالدون أيضًا على أولادهم كما عندنا، ولذلك يقع كثيرًا أن الأب يقتل ولده، والولد يقتل أباه وأمه كما يأتي بيان ذلك، وقد يحدث عندهم مضاجعة الأب ابنته، وهو عند الفرنسيس أكثر، ولكن لم يبلغني أن ولدًا ضاجع أمه، وفي المدن الجامعة قد تتواطأ الأم وبنتها على الفحش والفساد، أو الأخت وأختها.

ومن منكر عاداتهم التي لا يمكن أن يحولوا عنها — مع علمهم بأن جميع الإفرنج خالفوهم فيها — حلقهم لحاهم وشواربهم، حتى إن عساكرهم لم تتحلَّ بالشوارب إلا في الحرب الأخيرة، فليت شعري كيف يرى وجه الجندي محفوفًا منتوفًا كوجه المرأة؟! ليت شعري أي حسن للشباب أكثر من الشوارب، وأي حلية وكمال للشيخ أكثر من اللحية؟! وإذا حسن للشاب حلق شواربه فلم لا يحسن حلق حاجبيه؟ وأغرب من ذلك أن القضاة وأولي الأمر فيهم إذا جلسوا لفصل الأمور وضعوا على رءوسهم شعرًا أبيض عارية، وأرخوا منه نحو ذَنَبٍ معقود على قُذُلهم، فأخبرونا أيها الناس كيف يكون الحسن والهيبة في ذَنَبٍ ولا يكونان في لحية؟ لعمري إن الشيخ بلا لحية وشوارب أشبه بالقرد منه بالإنسان، والشاب بلا شوارب أشبه بالأنثى والخنثى منه بالرجل، فإنها من علامات الرجولية ومما خلقه الله في الوجه من المحاسن الطبيعية، وإن يكن من عذر للعامة في حلق لحاهم فليس للقسيسين وغيرهم من أهل الكنيسة من عذر أبدًا، فإن رسل المسيح كانوا كلهم ملتحين، وكانوا يشربون عين الكأس التي يشربها هؤلاء، فكيف كانوا يفعلون؟

غير أني لا أقول بترك اللحية على حالها، فالأحسن أن تتحوف حتى تكون مستديرة، قال العلامة الشريشي: «وكان النبي يأخذ من لحيته من طولها وعرضها بالسواء، وكان عبد الله بن عمر يقبض على لحيته ويأخذ ما زاد منها على قبضته.» قال الحسن بن المثنى: «إذا رأيت رجلًا له لحية طويلة ولم يتخذ لحية بين لحيتين كان في عقله شيء.» قال الشاعر:

إذا عظمت للفتى لحية
فطالت وصارت إلى سرته
فنقصان عقل الفتى عندها
بمقدار ما زاد من لحيته

ونظر يزيد بن مزيد الشيباني إلى رجل ذي لحية عظيمة، وقد تلففت إلى صدره، وإذا هو خاضب فقال له: «إنك من لحيتك في مؤنة.» فقال: «أجل» ولذلك أقول:

لعمرك لو يعطي الأمير على اللِّحَى
لأصبحت قد أيسرت منذ زمان
إذن لشفتني لحية من عصابة
لهم عنده ألف ولي مائتان
لها درهم للدهن في كل جمعة
وآخر للحناء يبتدران
ولولا نوال من يزيد بن مزيد
لصوت في حاجاتها الجَلَمان

وقال يعقوب الكندي لجارية كان يهواها: «إني أرى فرص الاعتياضات من المتوقعات على طالبي المودات مؤذنات بعدم المعقولات.» فنظرت إليه وكان ذا لحية طويلة فقالت: «إن اللحى المسترخيات على صدور أهل الركاكات محتاجات إلى المواسي الحالقات.»

وكان المأمون جالسًا مع ندمائه ببغداد مشرفًا على دجلة وهم يتذاكرون أخبار الناس فقال المأمون: «ما طالت لحية إنسان قط إلا ونقص من عقله بمقدار ما طال من لحيته، وما رأيت عاقلًا قط طويل اللحية.» فقال له بعض جلسائه: «ولا يرد على أمير المؤمنين قد يكون في طول اللحى أيضًا عقل.» فبينما هم يتذاكرون هذا أقبل رجل كبير اللحية حسن الهيئة فاخر الثياب، فقال المأمون: «ما تقولون في هذا الرجل؟» فقال بعضهم: «رجل عاقل» وقال آخر: «يجب أن يكون هذا قاضيًا.» فقال المأمون لبعض الخدم: «عليَّ بالرجل» فلم يلبث أن أصعد إليه ووقف بين يديه فسلم، وأجاد السلام، فأجلسه المأمون واستنطقه فأجاد النطق، فقال المأمون: «ما اسمك؟» فقال: «حمدويه» قال: «والكنية؟» قال: «أبو علويه» ثم قال: «ما صنعتك؟» قال: «أنا فقيه أجيد مسائل الشرع.» فقال له: «نسألك مسألة» فقال الرجل: «سل عما بدا لك.» فقال له المأمون: «ما تقول في رجل اشترى شاة من رجل، فلما تسلمها المشتري ضرطت فخرج من استها بعرة فقأت عين رجل، فعلى من تجب دية العين؟» قال: فنكت بإصبعه في الأرض طويلًا ثم قال: «تجب على البائع دون المشتري.» فقال المأمون: «وما العلة التي أوجبت الدية عليه دون المشتري؟» قال «إنه لما باعها لم يشترط أن في استها منجنيقًا.» فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه، وضحك كل من حضر من الندماء، وأنشد المأمون:

ما أحد طالت له لحية
فزادت اللحية في حليته
إلا وما ينقص في عقله
أكثر مما زاد في لحيته

وكانت عائشة — رضي الله عنها — تقسم وتقول: «لا والذي زين الرجال باللِّحَى.» وجاء أنه قسم الملائكة، قلت: وأنا أقسم وأقول: لا والذي زين النساء بعدم اللحى. انتهى الكلام على اللحية، غير أنه علق بي منها شيء، وهو أنه ذكر في الصحاح ما نصه: «وفي الحديث أنه أمر أن تحفى الشوارب، وتعفى اللحى.» فكيف التوفيق بين هذا القول وبين قول الشريشي: إن النبي كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها بالسواء؟

ومن الإنكليز من يرد فوق أذنيه خصلًا من شعر رأسه، فترى عينيه بارزتين بين قرني شعر، وقذاله يشبه جبهة الثور الناطح، فأما اتخاذ العارية من الشعر الأبيض فأصله — فيما قيل — إن لويس الرابع عشر كان رديء الشعر، فاتخذ له عارية يستر بها عوار رأسه، وكان إذ ذاك شيخًا، فاقتدت به أماثل البلاد، وسرت هذه العادة السخيفة إلى الإنكليز وهم في أكثر الأشياء مقلدون للفرنسيس، وقد وَهَى استعمالها الآن بالنسبة إلى الأُوَل، إلا في دواع معلومة وأحوال مخصوصة، منها يوم مبايعة الملك أو تهنئته.

ففي ذلك اليوم تتحلى كبراء دولته بهذه العارية ويقابلونه بها، ومنها وقت جلوس القاضي لتنفيذ الأحكام الشرعية كما مر، وفي محال اللعب والملاهي حين يحاكي اللاعبون واللاعبات من سلف من الملوك والملكات ترى هذه العارية على رءوس الأحداث من الرجال والنساء، وكأنها تزيد الحسن حسنًا، فكأنها مصداق على قول الشاعر: «كل شيء من المليح مليح.» ثم لما أخذت هذه العادة في العقم نتج عنها ذرور الرماد الأبيض على رءوس خدمة الأمراء والعظماء، وأصل هذه أيضًا — فيما قيل — إن بعض المغنين كانوا يغنون في موسم صان جرمان بخارج باريس وبهم قرع، فكانوا يبيضون رءوسهم ليضحكوا الناس، ثم انتقلت هذه العادة — كغيرها من العادات — من العامة إلى الخاصة، وشاع استعمالها عندهم في سنة ١٦١٤، وفي سنة ١٧٩٥ جعل عليها ضريبة، وكانت حينئذ قد بلغت النهاية، فجعل على كل رأس جيني، ولم تزل إلى الآن.

والحاصل أن أعظم الأسباب التي تبقي استعمال هذه العادات السخيفة إنما هو حصول النفع منها لخزنة الدولة، فإنه حيثما وجد الربح وجد السداد والرشاد، ولو أن الديوان ضرب طَسْقًا على اللِّحى والشوارب لما وسع الناس إلا أن يقولوا: إن يد الرب على قلب الملك، ومن عادة العامة الملاكمة، ويقال لها «البوكس»، وفي محفوظي أن رفاعة بك — رحمه الله — ذكرها في قلائد المفاخر بلفظة «البوكسه»، وذلك إذا تخاصم اثنان أو تكاذبا فينزع كل منهما رداءه ويشمر عن ذراعه، ويصوب إلى وجه قرنه جمع كفه، ثم يأخذان في اللكام حتى يغلب أحدهما، وحينئذ ينهض الغالب المغلوب، ويأخذ بيده ويشربان الشراب كالمتوادين، والملاكمة للعامة بمنزلة المُسَايَفة للعِلْية، غير أن هذه محظورة يجب فيها الحد، وتلك مسكوت عنها، وقد كانت سابقًا بمنزلة الملهى في اجتماع الناس للتفرج عليها، وفي أواخر القرن الماضي كانوا يتعلمونها في المكاتب.

(١٣-٣٦) الإنكليز والتهافت على الشهرة

ومن طبع الإنكليز عمومًا التهافت على الشهرة والنباهة بين أقرانهم بأي سبب كان ولا سيما في أسباب المعارف والعلوم، فإن من يعرف منهم مثلًا بعض كلمات من اللغة العربية ومثلها من الفارسية أو التركية فإذا ألف كتابًا بلغته أدرج فيه كل شيء يعرفه من غيرها؛ ليوهم الناس أنه لغوي وما عليه أن يكتب تلك الألفاظ على حقها أو يخطئ فيها، وفي عنوان كتابه تعلق عليه جلاجل من الألقاب الطنانة، فيكتب له أنه من أعضاء جمعية كذا، وملخص كتاب كذا، ومحرر نبذه كذا، وخطيب مثابة كذا، وهلم جرًّا، ولو عصرت كتابه كله لما بللت منه صدى مسألة، وذلك لأنهم لا يأخذون اللغات عن أهلها، فمهما يخطر ببالهم في تأويلها يقذفوا به جزافًا من دون تحرج أن ينسبوا إليها ما ليس منها.

انظر إلى ريشردصون الذي ألف كتاب لغة يشتمل على لغته وعلى لغتي العرب والفرس، فأقسم بالله إنه لم يكن يدري من لغتنا نصف ما أدريه أنا من لغته، لا بل سَوَّلت له نفسه أيضًا أن ترجم النحو العربي، فخلط فيه ولفق ما شاء، فمثل للإضافة بقوله: «قدح فضة»، و«ملك كسرى»، و«رأس أمان» و«الغالب عجم»، و«غالب عجم»، و«كتاب سليمان»، و«نصرا عقبة»، وفسرها بأنها مثنى مضاف إلى العقبة و«نصروا عقبة»، «والنصرا عقبة»، و«النصروا عقبة».

وأورد حكاية من كتاب ألف ليلة وليلة عن ذلك الأحمق الذي قدر في باله أن يتزوج بنت الوزير، فلما بلغ إلى قوله: «ولا أخلي روحي إلا في موضعها» ترجمها بقوله: «لا أعطي الحرية لنفسي أي لزوجتي إلا في حجرتها»، وقوله أيضًا: «ولا أزال كذلك حتى تتم جلوتها» صحف «جلوتها»، «بجلدتها» فقال: «ولا أكف حتى يتم ذلها»، وعند قوله: «حتى يقول جميع من حضر» كتب في الحاشية «حظر»، وحضرة بمنزلة السمو في الإنكليزية، وقس على ذلك.

وإذا ترجم أحدهم كتابًا رقعه بما عَنَّ له، وسبكه في قالب لغته، فقد قرأت كثيرًا مما ترجم من كلامنا إلى كلامهم، فإذا هو مسبوك في قوالب أفكارهم مما لم يخطر ببال المؤلف قط.

وقرأت ترجمة منشور صدر من الملك في الحض على الجهاد من جملته: «ليس لعباد النبي من خلاص في هذه الدنيا ولا في الآخرة إلا بجهاد الكفار.» فانظر إن كان المسلمون يقولون إن النبي «معبود»، وما رأيت أحدًا تحرج من هذا التلفيق والافتراء والترقيع غير مستر صال الذي ترجم القرآن، ومستر لان الذي ترجم حكايات ألف ليلة وليلة، ومستر برسطون الذي ترجم خمسًا وعشرين مقامة من مقامات الحريري، أما الأول، فقد ذكر فلتير أنه مكث بين العرب سنين عديدة، وأخذ عنهم علم العربية حتى تهيأ له ترجمة القرآن، ولست من ذلك على ثقة؛ إذ الظاهر من مقدمته للترجمة أنه لم يخالط العرب، وكيفما كان فهو من المحققين. وأما الثاني، فإنه لبث في مصر وعاشر علماءها وأدباءها. وأما الثالث، فإنه كان قد سار إلى الديار الشامية واستصحب بعض أهاليها.

وما عدا هؤلاء الثلاثة فكما قال عقيل بن علقمة لعمر بن عبد العزيز — رضي الله تعالى عنه:

خذا بطن هَرْشَى أو قفاها فإنه
كلا جانبي هرشى لهن طريق

فإن أحدهم لا يبالي أن يؤدي معنى الترجمة بأي أسلوب خطر له، فلو قرأ سبًّا في كلامنا مثلًا بأن قال أحد السبابين لآخر «يحرق دينه»، ترجمه بأن دينه ساطع ملتهب من حرارة العبادة والغيرة، بحيث إنه يحرق جميع ما عداه من الأديان، أي: يغلب هو عليها فهو الدين الحقيقي القاهر، كما ورد أن الله نار آكلة. وهكذا فليس لعمري علم لغتنا عندهم سوى سبب يتوصل به إلى النتف من غيرها كالعبرانية والسريانية، فإن هاتين عندهم أهم وأنفع، وناهيك أن دخل مدرس العبرانية في كمبريج ألف ليرة في السنة، ودخل مدرس العربية سبعون ليرة فقط، ومتى عرف أحدهم شيئًا من لغتنا طابقه على غيره من تلك اللغة، واستخرج منه فائدة تختص بالمطابق عليه.

وقد جرى مرة بحضور الدكطر «لي» ذكر أحد النمساويين، فقلت: إنه ذو دعوى لكونه نظم أبياتًا في لغتنا وشهرها في كتاب مطبوع مع أنها كلها لحن وزخارف، فلو كان ذا أدب لما تكلف النظم من دون معرفة قواعده وهو بعيد عليه، بل على جميع الإفرنج الذين لم يأخذوا عن العرب، قال: «كيف ونحن ننظم الشعر باليونانية واللاتينية ولم نخالط أهلهما؟» قلت: ها هنا فرق، وهو أن هاتين اللغتين كالأصل للغتكم فتتعلمونهما على صغر، أما العربية فهي أجنبية عنكم، قال: «إن الإنسان ليمكنه أن يتعلم أي لغة شاء كما يتعلمها الطفل.» قلت: ما هذا مذهبي، وإني أعطي كتبي كلها لأي إفرنجي كان إذا نظم بالعربية بيتين صحيحين بليغين، قال: «أنا أنظم لك الليلة ثلاثة أبيات.» فلما قابلته في الغد إذا به قد ناولني رقعة كتب فيها:

ألَمْ تَرَ يا صاحِ بهذا علامة
بأن صار الأجنبي يجري كَرامة
وإن لم يكن هذا عَرُوضًا مُصَحَّحًا
فلا تُعطه أسفارك عامة
فإن كان ذا إذن صحيحًا وسالمًا
ستسلمه أجرًا أسفارك رامة

فلما قرأتها قلت له: فيها زخارف وخطأ، فسكت ساعة، ثم قال: أتدري ما الألف التي في قول امرئ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»؟ قلت: هي ألف التثنية عند بعض، فإن الشاعر خاطب صاحبين له، وذلك مستفيض في كلامهم، وعند بعض أنها مقلوبة عن نوع التوكيد، قال: «هذا كله تمحل وتعسف، وإنما هي مقلوبة عن الهاء من العبرانية، فإن اليهود يلحقون الهاء بفعلي الأمر والنهي دلالة على الطلب والتوسل.»

ثم بينت له بعد ذلك خطأ أبياته فما كان منه إلا أن قال: إن لغة العرب ليست مطبوعة كسائر اللغات، بل هي لغة مصنعة، متكلف فيها كثرة القواعد والضوابط، بخلاف لغة أوروبا، وطفق يبين أنه يجوز في اللغة اللاتينية أن تقام حركة طويلة مقام حركة قصيرة نحو أن تجري لفظة «ماد» مجرى «مد» وغير ذلك، ثم سألني: «كيف تفعلون ﺑ«أل» في قولك: «الدين» فإنه اجتمع فيها ثلاثة سواكن، وأنتم تقولون إنه لا يصح اجتماع ساكنين؟» فقلت: «أين السواكن الثلاثة هنا؟» قال: «الألف واللام والدال.» وقال لي يومًا: «أتدري من أين اشتقاق الزناء؟» فقلت: «لا»، قال: «من العبراني؛ فإن زنى فيها بمعنى باع، فكأن الزانية تبيع نفسها للرجل.»

ثم سألني مرة أخرى: «أتدري ما أصل المدة في نحو آمن؟» قلت «لا»، فقال: «هي ألف من السرياني.» وقرأ يومًا «قومًا بطالين»، فقال: «البطال عند الصوفية في ثاني مرتبة العابد» فقلت: الأولى البطل، وقال أيضًا إن «يومنا» في قول العرب إلى «يومنا هذا» من السرياني وهو «يومنان».

وقد جرى لي معه وقت الترجمة عدة مناقشات ومجادلات لا بأس بإيرادها هنا وإن طال بها الكلام؛ فإنها عنوان على معرفة القوم لغة الشرقيين وخصوصًا العربية، منها أنه كان يحاول استعمال كلمة هوذا في كل موضع يجدها في الأصل أعني العبراني، فإنه لا يمتنع فيها أن يقال مثلًا لأن هوذا أو وهو هوذا وكان هوذا رجل وكان يظن أن إذا في قولنا: خرجت وإذا زيد بالباب لا تغني مغناة هوذا، ومن ذلك أنه كان ينكر قولنا مثلًا أحد الرؤساء بدل رئيس، ومن ذلك أنه كان يريد المحافظة على الأصل بالإتيان بقائلًا بعد قال، فإنه يقال فيه قال قائلًا مع أن هذا التركيب في لغة الإنكليز منكر، ولذلك كنا نجد في توراتهم وتكلم قليلًا لا قال قائلًا، وفي مثل قولنا ضرب لهم مثلًا كان يبدل ضرب بقال؛ لأنه كان يترجم في عقله لفظ ضرب إلى لغته فلا يجد له معنى سوى إيصال الألم.

وكان يبدل علم اعتقادهم برأي اعتقادهم ويزعم أنها أبلغ في المعنى وأن الاعتقاد ليس بمرادف للإيمان، فإنه إنما ينظر إلى أصل اشتقاقه وهو العقد، وهو غير مفيد معنى الإيمان، وكان يبدل ماء البحر بمياه البحر وهذا لا محظور منه إلا أن تبديله هوس وجزم بأن قولك في السؤال ما يكون لنا، أبلغ من ما عسى أن يكون لنا، وأن من ثم التي يؤتى بها للسببية غير كثيرة الاستعمال ولا تسد مسد ولهذا، وكان يزعم أن لفظة المعجزات ليست من كلام النصارى حتى وجدناها في نسخة رومية.

ومن أشد وساوسه تجنبه للسجع والتركيب الفصيح غاية ما أمكن، وحتى إنه زعم أن ما في الترجمة من قوله: خرجتم إليَّ بعصي كلص سجع وحاول تغييرها فلم يقدر فتركها وهو آسف، وكذا وهمه في نلت خيراتك في حياتك، وفي وكان هناك قطيع من الخنازير كبير، فكان يقول هو من السجع الذي ينبغي مجانبته في كلام الله تعالى، وكان كلما رأى جملة تنتهي بالواو والنون أو بالياء والنون يقول: إنها مضاهئة لكلام القرآن فيبدلها، حتى إنه رأى هذه الجملة وهي: وأنتم على ذلك شهود، فقال: إن هذا الوقف يشبه وقف القرآن فمن ثم بدلها بقوله: وأنتم شهود على هذا، ووجد عبارة أخرى وهي: وما أولئك بعابرين من هناك إلينا، فقال: هذا التركيب فصيح فبدل عابرين بيعبرون، ولم أتعجب من تغييره وإنما تعجبت من أنه شعر بحسن هذا التركيب وزعم أن قولك مثلًا، وكان رجل اسمه فلان أخصر من قولك يسمى.

وكلما رأى في الأصل عبارة كثيرة الألفاظ مما لا داعي له قال: إن ذلك للتقوية، وإذا رأى فيه إجحافًا ولو مع إخلال المعنى، قال: إن فيه حذفًا للبلاغة، وكان يحاول أن يقال، واتفق أنه قال، واتفق أنه افتكر، فقلت له: هذه لا يصح استعمالها مع الأفعال التي لا تقتضي الندرة في الاستعمال، فلا يقال مثلًا جاءني فلان واتفق أنه جلس، فإنه لا ندرة في الجلوس بعد المجيء، فقال: وأين أنت من المحافظة على الأصل؟ والذي ظهر لي من أحواله أنه فضلًا عن كونه شديد التعصب للتوراة فإنه كان يتقي لوم خصمائه، فإنه كان ذا خصوم كثيرة إلا أنه لا حمق أكثر من أن يترجم من لغة إلى أخرى بعين الألفاظ والتراكيب؛ إذ لا يتصور بالبال أن لغة تطابق أخرى في التعبير، فكيف يمكن أن يقال بالعربية خرج الدخان من مناخر الله كما يقال بالعبرانية، أو أحشاء الله كما يقال باليونانية، وقد ذكرت ذلك لعدة من أهل المعارف منهم، وأنه من التعبير الغير اللائق بجلاله تعالى، فكلهم قاسه على وجه الله وعين الله ويد الله من دون فرق بين نسبة الأعضاء الحقيرة إليه وبين غيرها.

ومما أضحكني من الدكطر لي مرة أنه دعاني للغداء يومًا وكان ذلك في نحو الساعة الخامسة قبيل المغرب، فقلت له: قد تغديت في الساعة الحادية على ما اعتدته، فقال: هذا لا نسميه نحن غداء وإنما نسميه عجالة، فقلت: هذا عندك لأنك تتغدى وقت العشاء فأما عندي فهو الغداء بنفسه وعينه.

والدكطر «لي» هذا كان يدرس العربية في كمبريج، ولم يكن يحسن التكلم بها ولو بجملة واحدة، وكان ذا اجتهاد لا ملل معه، فكان يقعد على الكرسي للمطالعة أربع ساعات ولا يتحلحل عنه، وما أخال أحدًا غيره اشتهر بما اشتهر هو به في علم اللغات المشرقية، وتوظفه في كمبريج هو السبب الذي حداني إلى الحضور إلى هذه البلاد؛ لأن الجمعية لما استأذنت حاكم مالطة بواسطة وزير الأمور الخارجية في إحضاري لأجاور المُومأ إليه، ظننت أن مكثي يكون في تلك المدينة، وهي وإن تكن لا تشوق أحدًا للسكنى فيها غير من يقصدها للتفقه في الفنون، إلا أنها على كل حال أحسن من القرى، وذاك كنت أدريه من قبل، إلا أن البواعث الحالية والدواعي الكونية أوجبت على الدكطر «لي» أن يُعَدَّى عن وظيفته فيها، ويلزم قريته وأن يكون قطع أنف عرفجة يوم الكلاب سببًا في سجن مستملي جان بن بشر قاضي بغداد.

ولم يكن شيء يسليني في تلك القرية سوى ترقب الشهر الذي يسافر فيه الدكطر المذكور إلى برسطول لأسافر معه؛ حيث قدر عليَّ أن أكون معه في كل مكان وزمان، غير أن المذكور توفي وأنا بباريس، وأعفاني الله تعالى من السفر معه إلى تلك الدار، فعفا الله عنه بمنه وكرمه.

(١٣-٣٧) مع شيخ العربية في أكسفورد

ثم لما حان الذهاب إلى برستول مررت بأكسفورد، وقصدت أن أرى خزانة الكتب فيها، فسألت بواب المدرسة عن شيخ العربية ليهديني لها، فأخذ يطالع في فهرسة المعلمين فلم يهتدِ إلى اسمه، فقلت له: كيف وأنت ملازم لهم لا تعرفهم؟ فقال: إن شيخ العربية لا يدرس بنفسه ولا يقرأ، ولكن له قارئ فإذا قرأ القارئ شيئًا يأخذ الشيخ في شرحه، أي في توجيهه إلى وقائع تاريخية تتعلق بذلك الموضوع، وفي تطبيقه على بعض اللغات كما سأبين لك عن قريب، ثم بعد طول بحث ومعالجة اهتديت إلى دار الشيخ فقابلته وسألته أن يريني المكتبة تفضلًا وتكرمًا، فأجاب إلى ذلك وسرنا معًا.

وأول كتاب فتحه كان بالخط الكوفي، وإذا في أول الصفحة لفظة «ألا» فقرأها «الا» وفسرها أنها الله، فتعجبت كيف أنه انخدع فهمه لسمعه لأنهم جميعًا يلفظون اسم الجلالة مرَّققًا هكذا.

وسألني مرة أستاذ آخر: «أتعرف لم دلت «في» على الظرفية؟» فقلت: لا. قال: «لأنها مشتقة من الفم الذي أصله فوه.» وهكذا يخمنون ويخرصون على معاني المفردات والمركبات في لغتنا، وهاك مثالًا على علم هؤلاء الأساتيذ وعلى شرحهم لكتبنا تَطَفُّلًا، فتصور مثلًا أن قارئًا يقرأ على الشيخ قول أبي تمام:

هِمة تنطح النجوم وجَدٌّ
آلفٌ للحَضِيض فهو حضيض

فيقول الشيخ بلغته: «النطاح» مختص بالحيوانات التي لها قرون كالثور والتيس والوعل ونحوها وقد ذكر في التوراة مرات كثيرة، ويمكن أيضًا أن ينسب إلى ما ليس له قرن، فقد روى ليناوس — الذي قسم جنس الحيوان إلى سبعة أقسام — أن الحيوانات الجَمَّاء تتناطح بجباهها، وقد أطلقت العرب اسم الكبش على آلة من آلات الحرب، لما أنها تنطح الجدار، و«النجوم» معروفة، وقد كانت العرب تهتدي بها في أسفارهم قبل أن عرفت خاصية إبرة المغنطيس، ولما كانوا مشتغلين بالعلوم الفلكية والطبية لم يكن في أوروبا من يشم لها رائحة، ثم لما فتحوا إسبانيا أو جزيرة الأندلس وذلك سنة ٧٥٠، أخذ عنهم العلم بعض من الإفرنج، ومنهم سرى في سائر بلدان أوروبا، وكان انقراض الملك من قرطبة سنة ١٠٣١ بعد أن دامت العرب فيها أصحاب أمر ونهي وسيادة نحو مائتين وخمس وسبعين سنة.

أما الألف واللام التي في النجوم فهي أداة التعريف، وهي في الطليانية والإسبانيولية «أل» للمذكر و«لا» للمؤنث، واللغة اللاتينية ليس فيها أداة تعريف، فأما اليونانية ففيها عدة أدوات، ويوجد في لغتنا ألفاظ كثيرة مبدوءة بهذا الحرف، منها ما هو عربي وذلك نحو «الكنا» (الحناء)، «والكحل»، و«القائد»، و«الجبرة» (الجبر)، و«القرآن»، و«القلي»، و«القرثيم»، أو «الكرزيم»، ومنها ما هو من لغة أخرى، فأما اللغة الإسبانيولية ففيها من هذا النوع ألفاظ لا تعد، فأما عدم النطق باللام من النجوم فلكون النون من الحروف الشمسية.

ثم إن أول من قرر طريقة سير النجوم حول الشمس وسير القمر حول الأرض، ونسبة بعضها إلى بعض، وعلة المد والجزر والنور والجاذبية والاعتمادية، الفيلسوف إسحاق نيوطون، ولد في سنة ١٦٢٤ ومات سنة ١٧٢٧، وكان ذا جِدٍّ ومثابرة على العلم لا تنظر، أما قوله: «جد آلف للحضيض»، فالحضيض هنا معناه الأرض، من تسمية الكل بالجزء ووروده في التوراة كثير، وفحوى البيت أنه — أي الممدوح — ذو عناية بالأرض؛ أي بحرثها وإحيائها وإنشاء المدن فيها وتسوية الأحكام بين أهلها؛ لأن الأرض كثيرًا ما تذكر ويراد بها سكانها، وذلك أيضًا مستفيض في التوراة حتى إن هذا الممدوح صار أرضًا وخصبًا لقاصده.

فأما إن كان هذا الشيخ قد تلمذ لشيخنا الأكسفوردي المشار إليه فإنه يقرأ «الحديد» بدل الحضيض، وحينئذ فيكون تأويله عنده: وجد أي حظ أو أب، فإن الجد يذكر ويراد به الأب وبالعكس كما ورد في التوراة، آلف لاستعمال السلاح وقهر العدو، فإن الحديد يراد به السلاح كله، وهذا الاستعمال أيضًا وارد في التوراة، وهكذا يمشي على انعكاس البيت بهذا العَصْد هو وتلامذته، وبعد انقضاء ساعة ونصف على تأويل هذا البيت يقومون وهم سامدو الرءوس عجبًا وفخرًا، ويظنون أن شيوخ الجامع الأزهر والأموي والزيتونة هم دون هذا النِّحْرير الذي عرف مولد نيوطون ووفاته واستيلاء المسلمين على الأندلس، وقد استبد هؤلاء الأساتيذ بهذه الدعوى، بحيث إنهم لا يوظفون الغريب في هذه المدارس، وإنما يسمحون له بأن يعلم أشخاصًا على حدتهم، فلا هم يتعلمون حق التعلم ولا يأذنون لغيرهم في أن يعلموا حق التعليم، وهذا الداء فاشٍ أيضًا في مدارس فرنسا مع استتباب المصالح فيها.

ولا بد لشيخ العربية عندهم أن يكون مطلعًا على اللاتينية حتى إذا جهل شيئًا من تلك عمد إلى هذه، فقور منها رقعة.

(١٣-٣٨) كمبريج وأكسفورد

واعلم أن كمبريج وأكسفورد هما مدينتان في بلاد الإنكليز، كل منهما يحتوي على نحو عشرين مدرسة وألفي طالب، ففي الأولى تعلم الهندسة والرياضيات والإلهيات، وفي الثانية علوم الأدب والفقه والمنطق والفلسفة، إلا أن منطقهم ليس كمنطق المتقدمين في علله وتعليلاته، ولا يمكن التعلم فيهما إلا بنفقة زائدة، وما أحد يقصدهما إلا أولاد الكبراء والأغنياء، ولا سيما أكسفورد، فهناك ترى طالب العلم شامخًا بأنفه مصعرًا خده كأنما هو طالب ملك الصين والهند، وأكثرهم يصرف همه في ركوب الخيل واللذات وينبذ العلم ظهريًّا، فمتى حان يوم الامتحان عرف ما يريد الشيخ أن يمتحنه به من المسائل؛ إذ هي محصورة معدودة، فيجتهد في حفظها وترسمها، فإذا سردها عليه وأحسن سردها، أجازه بصك يذكر فيه أنه نال مرتبة المعلمين، وهي عندهم متنوعة.

ولكل من هذه المدارس أوقاف يعيش منها القسيسون الملازمون لها، ويقال لكل منهم «فلو» وربما كان أيضًا من غير القسيسين، فإن كل من نبغ في علم من العلوم أُجري عليه الرزق من الوقف، فمنهم من له مائتا ليرة في السنة، ومنهم من له أكثر ولكن بشرط أن لا يتزوج، فمتى تزوج انقطع عنه رزقه، إلا أنهم لا يتزوجون غالبًا إلا بعد أن يحصلوا على معاش من خدمة إحدى الكنائس، وفي يوم معلوم من كل سنة يحصل نزاع ولكام بين طلبة العلم وبين الأهلين، وربما غلبت فيه الطلبة على قلتهم، ويسمونه يوم «الكون والتون»؛ وذلك لأن الطلبة يلبسون ثوبًا أسود كالقفطان، ويقال له: «كون» والبلد بلغتهم «تون»، وفي كل من المدينتين مكتبة عربية، غير أن كتب أكسفورد أكثر، وعدة ما فيها من الكتب العربية وغيرها نحو ثلاثمائة ألف كتاب، وأعظم ما سرني فيها نزولي في محل كان يسكنه شكسبير، كذا قيل لي والله أعلم.

وفي مدة إقامتي كلها في كمبريج وهي أكثر من سنة، لم أسمع ولم أر من اللهو إلا قردًا وقرَّادًا يلاعبه، وكان القرد يضرب بالدف، والنساء والأولاد بل الرجال يجرون وراءه، ولم أرَ أحدًا منهم أعطاه شيئًا، ومرة أخرى رأيت امرأتين تعزفان بآلة طرب، فرميت لهما من الشباك بنصف شلين فاستكثرتاه.

ثم إن أكثر القائم بخدمة هؤلاء المدارس نساء وأكثرهن حسان، فتأتي المرأة في الصبح إلى محل أحدهم وهو في فراشه لتوقد له النار، وفي الليل تحضر له الشاي.

وكنت ذات ليلة عند أحدهم فأقبلت امرأة كأنها البدر الطالع، وقالت له: هل دعوتني يا سيدي؟ قال: لا، ثم دعاها لتحضر له الشاي، فتأملتها على النور وإذا هي نور آخر، وقد ذكرت ذلك لبعض المتورعين منهم، فأقر بأنه غير لائق، وإنما جرت به العادة ولا سيما أن هؤلاء النساء متزوجات ولا يذهبن إلى أزواجهن إلا عند نصف الليل.

وفي هاتين المدينتين عادة قبيحة في المبيع والشراء بخلاف عادة الإنكليز، وهي أن الباعة يبيعون الطلبة نسيئة، ويتقاضونهم ما هو فوق القيمة، فإذا أراد غريب أن يشتري شيئًا تقاضوه قيمة النسيء، إلا أن يكون الشاري عارفًا بأحوالهم فيقول: «إنما شرائي بالنقد.» وقَلَّ مَنْ يذكر له ذلك، وحيث كان هؤلاء الطلبة من ذوي الأيسار والإسراف كانت هاتان المدينتان أغلى من سائر بلاد الإنكليز.

(١٣-٣٩) تشاؤم الإنكليز وتفاؤلهم

أما ما عندهم من الطيرة والتفاؤل فقد ذكر صاحب الجرنال المسمى بأخبار العالم عدد ٦٧٤: أن الإنكليز يتطيرون من لقاء المرأة الحولاء ما لم تبادر بالكلام، فحينئذ تزول الطيرة، ومن السفر يوم الجمعة، وأن يكون المدعو في عيد الميلاد رابع عشر شخصًا، وأن يعارض سكينان وقت الغداء، وأن يمشي أحد تحت السلالم، وأن تبقى أغصان الميلاد في البيت بعد عيد «كندلماس» وإلا فإن إبليس نفسه يأتي ويأخذها.

قلت: أغصان الميلاد هي أغصان يقتطعونها ويزينون بها الغرف والبيوت ليلة عيد الميلاد ويقال لها «ميزلتو»، وهي عادة قديمة من عادات أعياد «الدرويدس»، وهم حكماء أهل بريتانيا في القديم وسيأتي ذكرهم.

قال: وإذا رمي بنعلين باليتين خلف من خرج من المنزل لمصلحة يرومها كان ذلك فألًا بنجاحه وتوفيقه، وهذا تستعمله خصوصًا علية الناس في بعض البلاد، ولا سيما عند الأعراس، وإذا قص الإنسان شعر رأسه مدة نمو القمر نما وجَثُل، ويتطيرون أيضًا من رؤية الهلال من شباك أو زجاج ونحوه، فإذا رأيته في الفضاء فاقلب ما في جيبك من الدراهم أو الفلوس، وتَمَنَّ خيرًا في الشهر القابل تنله، وأن يضع أحد ملحًا في صحفة غيره، وكذا لو قلب أحد وعاء الملح على المائدة، وأصل ذلك أن بعض المصورين الطليانيين صور العشاء الأخير ويهودا مبددًا للملح.

قلت: عادة أهل بلادنا إذا أبصروا الهلال أن يبرزوا له درهمًا ويقولوا: «جعلك الله شهرًا مباركًا.» فأما قلب الملح فهو عند العرب كناية عن الغدر والخيانة، وحفظه كناية عن حفظ حقوق المودة والعشرة، وقسمهم بذلك لتعظيمه، قال العلامة الخفاجي — وعليه قولي في خائن الإخوان:

لا يَعْرِفُ الخبزَ والمِلْحَ إذ
يأكل في غيبته لحم أخيه

كذا نقلته ولعله قال: «يأكل لحم الأخ في غيبته» ليتزن البيت، وإذا انقلب الكرسي برجل عزب كان دليلًا على أنه لا يتزوج في تلك السنة، وهو غريب، فإنهم شبهوا المرأة بالكرسي، وهو عين ما عنته العرب بقولهم: «قعيدة الرجل امرأته.» وإذا تأجج لهيب النار وسمع له حس، استدل بذلك على نزاع ونقار يقع بين أهل البيت، وإذا طارت جمرة من النار ووضعتها عند أذنك وسمعت لها صوتًا، دل ذلك على قبضك دراهم.

ورؤية نحو عسكر متقسم إلى أجزاء في قدح دليل على سفر طويل ومشاق، ووقوع سكين على الأرض دليل على قدوم غريب، وإذا عزم الإنسان على سفر وأكل نصف بصلة وترك الباقي كان دليلًا على عدم توفيقه، وحك العين اليمنى دليل على البكاء، واليسرى على سرور غير متوقع ومعه ضحك، وإذا اختلجت الشفة العليا وأحكت كان ذلك علامة على قبلة، أو الذقن فعلى لحم طري، أو النحر فعلى اتخاذ منديل، أو الأذن اليسرى فعلى مدح يثني عليك به أحد، وبعكس ذلك الأذن اليمنى، أو الأنف فعلى شيء يغيظك، وكأنه ملحوظ به معنى الأنفة من الشيء وهو غريب، أو الكف اليمنى فعلى قبض دراهم، أو أخمص الرجل فعلى مخاطبتك رجلًا أجنبيًّا، أو الكوع فعلى رقودك في غير فراشك، ووضع مفتاح البيت على مائدة ونحوها، مؤذن بالشؤم، فالأوْلى أن يعلق في مسمار أو وتد.

وإذا مات أحد وتيبست أعضاؤه حتى لم يمكن ليها كان الموت مفردًا وإلا فلا بد من أن يأتي على آخر، ونباح الكلب بما يشبه العواء تحت الشباك دليل على الموت، وكذا إذا حاولت هرة أن تدخل من الشباك، أو دبت الخنافس على الموقد، أو وقفت الساعة بحيث تكون نظيفة الآلات، وإذا عزم أحد على إدارة مصلحة وهبت الريح في غد يومه من الشمال، فإنه يفوز وينجح.

وإذا كسب دينارًا كسبًا هينًا بصق عليه ووضعه في كيسه، وهكذا يبصق عليه إذا كان أول دينار مكسوب صبيحة يومه، وإذا أهدى محب إلى محبوبه سكينًا أو مقصًّا فلا يلبثان أن يفترقا؛ فلا يقبل ذلك منه إلا أن يضعه على مائدة ونحوها أو أن يعطيه في مقابلة الهدية فلسًا، ووضع المنفخ على كرسي أو مائدة مورث للنزاع، وازدهار النار مساء دليل على قدوم صاحب المنزل مسرورًا، وعثار إنسان وهو مرتقٍ في الدرج يدل على الزواج، والإكثار من الضحك يعقبه البكاء، وصرف دينار بدراهم من دون قبض قطعة من الذهب دليل على إنفاق الدراهم عبثًا، وسقوط مشاطة شعر النساء في الماء يورث تساقط الشعر بخلاف ما لو وقعت في النار، والنظر في المرآة ليلًا مكروه إلا عند الاضطرار وهو مشهور عندنا أيضًا.

وابتلال ثياب المرأة وهي تغسل تطير بأن زوجها يصير سكيرًا، والشامة في العضد تيمن وبركة، وإذا احمر وجه الإنسان، كان علامة على أن أحد محبيه يذكره، وإذا شرق أحد بشيء قالوا له في معرض الكلام: «قد ارتكبت سرقة أو خيانة» ونحوهما، وهذا مستعمل أيضًا عند أهل الشام وهو طبيعي، وتأويلهم للأحلام قريب من تأويلنا، فالحلم بكلب دليل على صديق، وبحية أمارة على عدو، وبامرأة سيئة دليل على شر ومصيبة وقس على ذلك.

وفي أول ليلة من تشرين الثاني تشتري البنات جِلوزًا ويشوينه، ثم يكسرنه فإذا خرجت أول جلوزة مزوجة استبشرت صاحبتها بالزواج في تلك السنة، يفعلن ذلك ثلاث مرات وإلا فلا، ونحو منه أنهن يشترين رصاصًا ويذبنه في ملعقة من حديد ثم يفرغنه منها ضمن حلقة مفتاح إلى إناء فيه ماء، وكيفما تشكلت قطعة الرصاص في الإناء استخرجن منها فالًا على حرفة من يخطبهن، وفي تلك الليلة يملأن أفواههن ماء، ومعه شيء من حب شبيه بالحمص ويمتنعن من الضحك لئلا يخرج الماء ثم يخرجن إلى الطرق، وأول اسم يطرق مسامعهن فهو اسم الشخص الذي يقدم على الزواج، وحينئذ يمججن الماء.

وإذا شاء أحد أن يعرف إخلاص قلب إنسان عليه، يضع مفتاحًا في الإنجيل، ثم يربط الإنجيل بخيط على شكل الصليب، ويجعل حلقة المفتاح بارزة منه، ثم يتلو الآيتين السادسة عشرة والسابعة عشرة من الفصل الأول من سفر راعوث، فإذا دار المفتاح كان ذلك دليلًا على إخلاص قلب الشخص المضمر وإلا فلا، والزواج في شهر أيار شؤم، وإذا أراد أحد أن يفتح دكانًا أو يتعاطى مصلحة مهمة فلا يبدأ به يوم الجمعة، بل يوم الخميس أو السبت، وهذا التطير فاشٍ عند جميع رؤساء المراكب.

وفي السنة الكبيسة تلبس النساء ثوبًا أحمر تحت القفطان، وكلما أكثروا من أصناف الحلواء في رأس السنة زاد استبشارهم بخيرها وبركتها، وفي عيد الميلاد يصنعون نوعًا مخصوصًا من الحلواء يسمونه «كرسمس بودن» ويبقون منه شواية في الصوان تبركًا بها، وإذا مضى عليهم هذا العيد من دون أكل هذه الحلواء أوجسوا النغص والقلة سنتهم كلها، وإذا كانوا غائبين عن بلادهم ولم يقدروا على اتخاذها بعثوا إلى أهلهم يستهدون منها لُماظة فيبعثون لهم في كتاب بمثل قلامة الظفر، وفي ليلة ذلك العيد يوقدون شموعًا كثيرة ونارًا متأججة، ويزينون الغرف بتلك الأغصان التي تقدم ذكرها، ويظهرون الفرح والابتهاج، وإذا مشت امرأة من تحتها حق للرجال أن يقبلوها، وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر أيلول ويسمونه «ميكلمس» أي عيد ميكال يأكلون الوز.

وفي السادس من كانون الثاني يصنعون كعكًا مخصوصًا يسمونه كعك اليوم الثاني عشر، ومن أوهامهم أيضًا الاعتقاد بظهور روح الميت عند قبره، وهذا الوهم فاشٍ حتى عند عامة سكان المدن، فقد كنت أرى في كل ليلة بلندرة جمعًا عظيمًا واقفين عند إحدى المقابر لما شاع عندهم من أن روحًا تَرَاءَى فيها لبعض المارين في هيئة بشر بلباس أبيض، فأوجب انحشادهم هذا إحراق وجه المقبرة بالجير لنفي تردد الروح، أو لعله كان حيلة في منع اجتماع الطَّغَام؛ لأنهم حيثما اجتمعوا اجتمع الشر، ويوجد في لندرة موضع اسمه «هاتن كاردن» فيه عين ماء يزعمون أنه يجري منها دم في كل يوم عند نصف الليل، ولها قصة طويلة لا يمكن إيرادها هنا، ومن ذلك اعتقادهم بأنه متى احتضر شخص حضر في منزله روح يسمونه رصد الميت، فيسمع له قرع على الباب أو الحائط أو صوت نحو صوت جر السلاسل أو طنين الجلاجل، فإذا سمع ذلك منه ثلاث مرات كان الموت بعدها لا محالة.

ومن النوادر هنا أن رجلًا كان يماشي زوجته في بستان وهما يتحدثان، وفيما كان يكلمها أحست بكرب وانقباض، فقالت له: «تَنَحَّ عن هذا المكان فإني أظنه محضورًا.» فتنحى عنه، ثم سأل عنه بعد ذلك فعلم أنه عند تحادثهما كان بالقرب منهما رجل يقتل نفسه، وقرأت في بعض صحف الأخبار أن رجلًا قتل ولدًا صغيرًا فقُضي عليه بالموت، ولما سئل عن سبب قتله إياه قال: «كنت أريد أن أتخذ من جمجمته مصباحًا ساترًا حتى أدخل البيوت ولا يراني أحد.»

واتفق في بعض السنين أن ظهر في السماء نور أبيض امتد من المشرق إلى المغرب خفيف المر، وكان كأنه هباء، ثم انتشر في عنان السماء كله، وظهرت عقب ذلك حمرة في الأفق، ثم كثر وعظم، فطفق أهل الدار التي كنت فيها يبكون ويضجون ويستغيثون، فسألتهم عن سبب ضجيجهم، فقالوا: إنها آية على المعامع والحروب، فقلت: «كلا بل هي آية على فساد البطاطس.» فانقلب بكاؤهم ضحكًا، وكانت تلك السنة رابع سنة مشئومة على غلة هذا النبات في إرلاند فكان الناس في هاجس عظيم لذلك؛ لأن جل طعامهم بل طعام الإنكليز أيضًا إنما هو منه، ثم أعقب تلك الآفة حميات ووباء؛ فمات أناس كثيرون، ورثى لهم كثير من الدول، فجاءهم إمداد منها، وأمدهم مجلس مشورة الإنكليز بعشرة ملايين ليرة. واعلم أنه قد يتشاءم الإنسان من مكان أو زمان ويتفاءل بغيرهما، ويكون ذلك مجرد وهم، مثاله أن يكون في محل لم ينتفع فيه إلا بوعود وأماني فيمل منه، وينتقل إلى آخر، فتتحقق فيه أمانيه، فيرى أن ذلك من يمن الانتقال، مع أنه لو بقي في المحل الأول لصحت له.

وفي بلاد الفلاحين بل وفي المدن الجامعة أيضًا نساء يدعين علم المغيبات بطرق مختلفة، منها التأليف بين أوراق اللعب المزوقة، وذلك بأن تصف إحداهن منها ثلاثة صفوف، كل صف يشتمل على سبع ورقات ثم صفًّا رابعًا من خمس ورقات أو خمسة صفوف كل منها يشتمل على خمس ورقات، ثم صفًّا آخر من اثنتين، وتضمر أن إحدى المزوقات الحمر كناية عن امرأة، وإحدى السود كناية عن رجل أسمر، وتنسب لكل الورقات المنقطة خاصية من البخت وضده، وتقابلها بتلك المزوقات التي عليها الإضمار، ثم تستخرج من تلك المقابلة دلائل على ما يحدث بعبارة لا تخلو من الإبهام والتوجيه.

(١٣-٤٠) عرافات ومنجمون

وقد اتفق وأنا مقيم في بيت قسيس من فضلاء الإنكليز أن حضرت عنده امرأة من هؤلاء، فقال لي: «ها هي الشيطان.» وذكر الاسم بالعربية فقالت: «كلا، ما أنا شيطان بل مبصرة البخت.» فسألتها أن تبصر لي بختي فألفت بين تلك الأوراق ثم قالت: ستكون سببًا في تسفير رجل أسمر إلى بلاد بعيدة، وإن امرأتك تأخذ في سفر طويل، ويكون حديث في شأنك بعد مدة وتحصل على هدية من الألماس وتذهب إلى جماعة عظيمة، ويدعوك رجل من سادة الناس فتسافر إليه ويحصل توفيق لولدك وينال هدية، وأن امرأة سمراء تساعدك على نوال إربك، وأن رجلًا أسمر يستدعيك إليه، وتعدل امرأتك عن السفر، ويحدث لك سفر غير متوقع مع رجل أبيض وامرأتك تأخذ هدية، وأن رجلين أسمر وأبيض يشتركان في تسفير امرأة، وأن سيدة زهراء يكون لها مداخلة في أمرك ولك صديقة من النساء سمراء.

وقد وقع ذلك كله إلا هذه الثلاث الأخيرة فإني لم أتحققها، وكثيرًا ما تذهب النساء الممتهنات بالخدمة والممتحنات بالعشق إلى هؤلاء العرافات ويسألنهن عن أحوالهن ويعطينهن نصف ما تملك أيديهن، واتفق أن امرأة سافر عنها زوجها وانقطع خبره عنها مدة طويلة ثم بلغها خبر وفاته فتزوجت آخر، فلقيت عرافة فقالت لها العرافة: تعالي أخبرك بما لا تعلمين، ثم ذكرت لها من جملة كلام أن زوجها الأول حي وأنه عازم على الرجوع، فدخل الرعب في قلب المرأة فألقت نفسها في النهر، وقُدر لها أن بصر بها رجل كان على الشاطئ فبادر إليها وأنجاها من الغرق. وأخرى جُنَّت من تهويل عرافة عليها، فكانت تقول في حال جنونها مبصرة البخت الورق مبصرة البخت الورق.

ومنهن أيضًا من تبصر البخت برؤية الكف، وقد رأيت كتبًا مطبوعة في علم الكف والهيئة فيها من الأحكام نحو ما في كتبنا، ومنهن من تدعي إحضار الغائب وتشخيصه لعين السائل في مرآة ونحوها كما في مندل مصر، وفي أخبار العالم عدد ٦٩٤ من شاء أن يعلم ما يجري عليه في المستقبل من الشغل أو السفر أو الزواج أو تعاطي مصلحة فعليه أن يسأل المنجم داود ستلا المقيم في إدورد ستريت مادنلان بحيث يوقفه على يوم ميلاده وعلى جنسه ويرسل إليه اثنين وعشرين طابعًا، فإنه ينبئه بالتفصيل عن كل شيء سواء كان بالمكاتبة أو مشافهة.

وكذلك المنجم ملفيل وجوابه عن المسائل يكون نظمًا، وعلى السائل أن يرسل إليه اثني عشر طابعًا، وفيها من كان دأبه الشغل ومعه بعض شلينات ورام أن يتعلم حرفة مكسبة في أسبوع واحد فقط فعليه بالمنجم كورتني فإنه يهيئ له وجهًا للعمل بما عنده من القليل حتى يمكنه أن يكسب من بعد ذلك من ثلاث ليرات إلى عشر وهو على هيئته، وهذه الحرفة هي من أكرم الحرف وقد باشرها المنجم منذ سنين وغبط بها، فلذلك يعرضها على الطالبين بحيث يحرز منهم ثلاثين طابعًا.

وفي بعض الأخبار ما نصه قد صار أهل لندرة الآن جديرين بأن يكونوا ضحكة لأهل الريف لاعتقادهم بالسحر والشعوذة، ولم يبقَ من داعٍ إلى الذهاب إلى بلاد الفلاحين لنسمع أن النساء اللواتي لا عيب فيهن سوى الفقر والهرم يستطعن أن يمنعن البقرة عن الحلب، ويعطلن المزارعين عن أعمالهم، ويجرون الراقد من فراشه من غير أن يحس به، فإن هؤلاء المدجلات المدلسات يوجدن الآن في لندرة مع كونها معدن المعارف والنور، وليس المترددون عليهن من سفلة الناس بل من أهل النباهة والإيسار، وحسبك دليلًا على ذلك ما جرى منذ أيام في ديوان كلدهال حيث أحضر بعض الشرطة امرأة من هؤلاء لكونها كتبت رقاع وعيد وتهديد إلى بعض التجار من ذوي الشأن، قال: ولما دخلت حجرتها وجدت عندها أربع نساء مترديات باللباس الفاخر أحسبهن من بنات التجار، فلما سألتها عنهن قالت: إنما قصدنني لعلمهن بأني أبصر البخت.

وقال آخر: شكا بعض الناس إلى قاضي سري بأن أحد معارفه يسمع في الليل ضجيجًا وعجيجًا وضرب مطارق فلا يقدر أن ينام، قال: فلما سرت إليه سألته عما يقاسي، فقال: إن الناس يفيضون في حديث فلانة امرأة فلان، قلت: وما بينك وبين زوجها، قال: لا شيء إلا كلمات دارت بيننا منذ سنة، قلت: وما يصنع بك الآن، قال: يبعث إليَّ أناسًا يضربون بالمطارق ويضجون ويزأطون الليل كله فما يدعني أهجع ولا أحد من الجيران ينام، قلت: أتعرف أسماءهم؟ قال: نعم، ولكن زوج المرأة هو الذي يغريهم بهذه الأذية، قال: فأحضرت الزوج وأخبرته بشكوى الرجل، فقال: جزاء وأقل جزاء، قلت: كيف؟ قال: لأنه يأتي كل ليلة إلى بيتي ويخطف امرأتي من الفراش ويخرج بها من الشباك، ويضبطها عنده إلى الساعة الرابعة بعد نصف الليل ثم يأتي بها منهوكة مدهوكة، قلت: ألا تخجل من أن تقول هذا الكلام وأنت شيخ، وأني لما لقيتك آخر مرة قلت لي: إنها عليلة فهل أفاقت الآن؟ قال: «لا ما دام الرجل يخطفها فلن تفيق أبدًا.» قلت: «قل لي ما يفعل وعليَّ عقوبته؟» قال: «وأي عقاب لمن له تسعة أعمار كالهر؟» قلت: «هل رأيته عيانًا يأخذ امرأتك؟» قال: «لا، لأني أكون راقدًا.» قلت: «هلا ربطت يديها إلى عنقك حتى تستيقظ عند ذهابها؟» قال: «لن ينفع في هؤلاء الناس حذر.» قلت: «ما السبب الذي حملك على سوء الظن بهذا الرجل؟» قال: «ذلك الرجل المبارك الذي أراني وجهه؟» قلت: «من هو؟» قال: «هو الذي شفاها بعد أن عجزت عنها الأطباء.» قلت «كيف أراك وجهه؟» قال: «أخذ نعل فرس وأحماها حتى صارت كالجمر، ثم أغلق الشباك، ووضع النعل في ماء قذر، وقال لي: أي وجه ترى في الدخان؟ وأشهد أنه كان زوج المرأة … إلخ.»

(١٣-٤١) الجريمة في بلاد الإنكليز

فأما ما يحدث في بلاد الإنكليز من تسميم الأزواج بعولتهن، والوالدين أولادهم وقتلهم وبالعكس، ومن الانتحار أعني قتل الإنسان نفسه، فأمر يهول وشرحه يطول، نعم إن الانتحار يحدث أيضًا في غيرها وأعظم أسبابه العشق والحرمان، إلا أنه بالنسبة إلى هذه البلاد لا يذكر، ولنورد لك نبذة من ذلك؛ لتقيس عليها.

حكى صاحب أخبار العالم أن رجلًا ذبح ثلاثة أطفال له بالموسى في وقت واحد، وكان أصغرهم رضيعًا، ثم ذبح نفسه، فلما سئلت زوجته عن ذلك، قالت: «إني غادرته مع الأولاد سليمًا معافى، فلما رجعت وجدتهم ثلاثتهن جثثًا مطرحة وزوجي إلى جانبهم ولا أعلم سبب ذلك.» وزعم بعض معارفه أنه قتلهم خوف الإملاق.

ومنها أن امرأة شكيت عليها بأنها قتلت أصغر أولادها، فعند الامتحان علم أنها قتلت من قبله سبعة، وأنه كان الثامن مع أنها كانت تتظاهر بالصلاح والتقوى وتذهب إلى الكنيسة في كل يوم أحد، وتلازم دراسة التوراة، ولما سئلت عن ذلك قالت: «قد قتلتهم خوف الإملاق.» ومنها أن رجلًا كان له امرأة وأربعة أولاد منها، وكان الرجل والأولاد منتظمين في سلك جمعية، من أصولها أنه متى يمت أحد من أعضائها يدفع لوارثه خمس ليرات، فطمعت المرأة في نيل الدراهم، حتى سمت زوجها وكان ابن خمس وخمسين سنة، وأظهرت أنه مات حتف أنفه فقبضت المبلغ المذكور، ثم سمت ابنها الأكبر وله من العمر ست وعشرون سنة، فمات وقبضت المبلغ، ثم سمت الثالث وسنه إحدى وعشرون سنة، فمات وقبضت المال، ثم سمت الرابع فمرض واستُدْعِي بطبيب، فلما أتى الطبيب علم أنه مسموم، فعند ذلك حصل البحث والتفتيش ونبشت جثث إخوته وشرحت، فتحقق أنهم كلهم ماتوا مسمومين. ومنها أن بنتًا سمت أمها لتستولي على أمتعتها، ثم أحرقتها ولما كانت باركة على صدرها جعلت أمها تناشدها وتتضرع إليها أن تبقي عليها، فقالت لها البنت: «لقد عشت أكثر مما يحق لك أن تعيشي.»

ومنها أن قسيسًا من أهل الكنيسة المتفرعة اسمه فوزستر في مدينة دكنهام، كان يقضي الفرائض الدينية لإحدى النساء المخدومات، فلما رأته غير أهل لوظيفته صرفته فمرض فأُخذ إلى المستشفى ثم شفي ورجع إلى بيته، وكان له امرأة وولد سنه نحو ست سنين، فقامت المرأة صباحًا لتهيئ له الفطور، وتركت الولد مع أبيه في الفراش، ثم بعد قليل رأت زوجها خارجًا إلى الطريق، فلما أبطأ عليها ذهبت لتنظر ولدها، فإذا به مذبوح بموسى. ومن ذلك أن رجلًا ذبح ابنته وواراها في حفرة، ثم ذبح أخاها وواراه معها أيضًا، وظل يأكل بذلك السكين الذي ذبحهما به مدة، ثم عُلم أمره، ولما قُضي عليه بالقتل فرح جدًّا! ومن ذلك أن امرأة من لمبث قتلت طفلًا لها وله ثلاث سنين ونصف، وأخته وهي بنت سنة ونصف. ومنها أن امرأة ذبحت ابنها فلما سألها القاضي قالت: «إنما قتلته صغيرًا لينال سعادة السماء.» وهذا كافٍ.

ومن العجيب أن مجلس المشورة بلندرة قد أصدر أمرًا مبرمًا بعدم أذى الحيوان غير الناطق، وبتأديب من يرتكب ذلك أو تغريمه، وقد بلغ عدد الذين آذوا الحيوانات في العام الماضي ٤٦٤ شخصًا، وبلغت غرامتهم نحو ٥٧٤ ليرة، وأرسل منهم عشرة نفر إلى دار التأديب؛ إذ لم تقبل منهم غرامة.

ورُئِيَ مرة رجل من نبلاء الفرنسيس يغري كلبه بمطاردة هرة فغرمه الحاكم عشرين شلينًا. ومع ذلك فلم يهمه حظر بيع السم منعًا لهذا الشر المتفاقم على الحيوان الناطق، وأن الولد إذا أخذ حاجة ليرهنها وهو دون البلوغ أو دون خمس عشرة سنة لا يقبلها منه المرتهن، ولكن إذا ذهب إلى دوائي ليشتري سمًّا أو مسبتًّا باعه، على أن بيع السم في فرنسا ومالطة محظور على أي كان إلا بإذن من الطبيب، فكأن العجماوات أنفع للدولة من بني آدم، وما أرى لذلك سببًا سوى هذا الأصل الفاسد الذي يعبرون عنه بقولهم حرية المتجر، أو لزوم السم للفلاحين في قتل الهوام — كما سبق ذكره — إلا أن مراعاة الجانب الأقوى في الأمر الذي يكون منه مفسدة ومصلحة ألزم وأهم. وهذه الحرية في المتجر هي التي سهلت للناس أن يغشوا كل شيء من المأكول والمشروب، وكل ما يصح فيه البيع والشراء — كما سيأتي بيانه — حتى إن صاحب الذوق السليم يؤثر المقام في بلاد الهمج بحيث يذوق شيئًا مما تنبته الأرض على حاله على أن يمكث بين قوم يعلمون عدد نجوم السماء ورمل البحار، وهم مع ذلك يأكلون ما يضر البهائم فضلًا عن البشر، وكل شيء جاوز القدر أضر.

وأقبح من ذلك أنه كثيرًا ما يحكم القضاة أو الجوري على مرتكب القتل بالجنون إعفاء له من القصاص، فتذهب الحكمة سدى في وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ (البقرة: ١٧٩)، أو في القتل أنفى للقتل، و«الجوري» هم اثنا عشر رجلًا يقع عليهم الاختيار، فيجتمعون مع القاضي لفصل الدعاوى، وهم على قسمين خاص وعام، فالخاص مؤلف من الفقهاء وذوي الوجاهة لفصل الأمور الخطيرة، ولكل منهم ليرة على كل دعوى، والعام مؤلف من أصحاب الدكاكين والحرف لفصل الأمور الحقيرة ولا إيراد لهم، وقيل: إن كلًّا منهم يأخذ ثلثي شلين بحسب ما تقرر في السابق، أعني عند رسم هذا الأمر، ومن امتنع منهم عن الحضور لزمه غرامة.

وأصل الجوري عرف في أيام الصكصونيين؛ وذلك أنه كان حدث نزاع بين واحد من الإنكليز وآخر من أهل والس، فعين ستة نفر من هؤلاء وستة من أولئك للنظر في أمرهما، ثم أثبتت إقامة الجوري في المجلة التي يسمونها «مكنا كارتا» كأنها من أعظم أسباب العدل والحرية، وللقاضي أن يثبط الجوري عن الأكل والشرب، وأن يمنعهم النور إلى أن يتواطئُوا على فصل ما، وقد غرم بعضهم لوجود فاكهة في جيبه من دون أن يثبت عليه أكلها، واتفق مرة أن بعض المسافرين في سكة الحديد طلب أَرْشًا فحكم الجوري بأن يُعطى ربع يني وهو عبارة عن خمسة أفلس، فأنكر عليهم القاضي هذا الحكم، وأعادهم إلى النظر فيه فعادوا ولم تتفق كلمتهم حتى مضى عليهم أربع وعشرون ساعة لم يطعموا فيها شيئًا، ثم خرجوا وهم يتظلمون من الجوع.

قال صاحب التيمس: «ليس من العدل أن يترك الإنسان أشغاله ويأتي لسماع ما يحدث بين الرجل وامرأته من التنافر والتهاتر.» ا.ﻫ. فقد عرفت أن هؤلاء الذين يأتون لإجراء العدل هم أنفسهم مظلومون، وقد يكون حكمهم أيضًا على غيرهم زائغًا، فقد قرأت في جرنال التيمس أن امرأة اسمها إليصابت جان وود، عليها طلعة الحشمة والاعتبار، وعلى ذراعها طفل رضيع، ادُّعي عليها بأنها سرقت شيلينين ونصفًا في إحدى العواجل، فثبت عليها الذنب، وحكم عليها بحبس ستة أشهر. وفيه أن امرأة طاعنة في السن ثبت عليها أنها سرقت ساعة وسلسلة قيمتهما خمس ليرات، فحكم عليها بحبس ثلاثة أشهر مع الأعمال الشاقة.

وإذا كان للمدعى عليه خصم من أفراد الجوري فله أن يستبدله، فإذا تواطئوا جميعًا على الحكم بقتل واحد ودونوا ذلك في صك، قال القاضي للمحكوم عليه: «قد حكم عليك الجوري الذين هم من أهل بلدك بأنك مستوجب للقتل، فبموجب شرع هذه المملكة تؤخذ من هنا، ويجعل في عنقك حبل وتشنق إلى أن تخرج روحك، ثم تدفن مع أمثالك.» ا.ﻫ.

ويوم شنق المقضي عليه يكون فرجة للنساء، فيهرعن صباحًا من بيوتهن لمشاهدته، حتى تغص بهن الطرق، وهو دليل على شدة قلوبهن وجراءتهن، وقتل القاتل عندهم لا يكون إلا بهذه الصورة، وفي أحوال كثيرة يقوم التغريب مقامه، وإذا أذنب أحد في بلاد الفلاحين حبسه الشرطي إلى أن يمر القاضي بذلك فيقيم هناك مدة، وترفع إليه الدعاوى، وفي إنكلترة ووالس ستون قاضيًا، ونحو ستمائة دار للقضاء، وثلاث وثلاثون خزنة مال — وقد مر في أول الكتاب عَدد القضاة ومُرَتبهم — ومنع القصاص بالقتل في بعض الجرائر كان مما أحدثه سر روبرت بيل في سنة ١٨٢٤، ثم منع على أي جريرة كانت ثم عمل به في بعض الأحوال.

قال الفاضل غولد سميث إنه: «يوجد في بلادنا من المقضي عليهم في سنة واحدة أكثر مما يوجد في نصف أوروبا، فلا أدري هل سبب ذلك كثرة قوانيننا أو تعدي أهل بلادنا؟! ولعل ذلك مسبب عنهما معًا، فإن أحدهما ينتج الآخر.»

وفي بعض صحف الأخبار «إنا نرى الجرائر الآن قد تكاثرت، وسبب ذلك الدَّرء بالشبهات، فإن الذين يثبت عليهم القتل ونقب الديار يعاقبون بالنفي لا غير، فإذا انقضت مدتهم رجعوا شرًّا مما كانوا من قبل.» على أن المصروف على تغريب هؤلاء المنفيين في كل سنة يبلغ نحو أربعة وخمسين ألف ليرة، قال: وعدد أصحاب الجرائر التي دربوا فيها من قتل وسرقة مما يوجب سجنهم عليها نحو ثمانين ألفًا، وهو أكثر من عدد العساكر ومصروفهم ضعفا مصروف هؤلاء، قلت: وفيه نظر.

(١٣-٤٢) شرع الإنكليز

واعلم أن شرع الإنكليز هو أطول الشرائع أحكامًا وأكثرها قيلًا وقالًا وأوسع من علم العربية قلبًا وإعلالًا، فإن بعض الدعاوى التي تستدعي دهاء الفقهاء ومحالهم ربما يدوم خمسين سنة فأكثر، وقد أنفق مرة في دعوى أقيمت على رجل اسمه بالمر ٧٥٣٢ ليرة، وقد وقع بعد تحرير هذا الكتاب أن أقيمت دعوى على شاب من الأغنياء بعدم رشده حظرًا له عن التصرف في أملاكه، فلزم لإثبات ذلك إحضار شهود من الروسية وغيرها، فكان المصروف على كل ساعة مائة وستين ليرة، وبعد أن بلغ ستين ألف ليرة خرج الحكم برشده.

ويمكن تقسيم شرعهم إلى أربعة أقسام؛ الأول: ما تناقلوه من أحكام الرومانيين والنرمانديين والصاكصونيين الذين فتحوا بلادهم، ويدخل في ذلك أمور من قبيل العادة، وفي الحقيقة فإن جُلَّ عاداتهم سنة لهم، فما أجدرهم بأن يكون لهم من لغتنا لفظة الدين، فإنها بمعنى الديانة والعادة، فأرى أن أخلعها عليهم سواء قبلوها أو لا. الثاني: ما بني على العدل والإنصاف ومراعاة المصالح على وجه الاستحسان والترجيح؛ إذ لم يرد فيه نص ولم يجرِ فيه حكم، فإذا أمر من ذلك أحيل على محكمة العدل، فيحكم فيه القاضي والجوري بالرأي حسبما يترجح عندهم أنه الأصلح. الثالث: أحكام مجلس المشورة، وهي غير متناهية. الرابع: أحكام ديوان الكنيسة، وليس في شيء من هذه الأقسام أحكام على الطاهر والنجس وما يؤكل وما لا يؤكل، وعلى حيض المرأة ونفاسها وحدادها وعدتها وما أشبه ذلك.

ومع ذلك فيمكن أن يقال: إنه ليس أمر من الأمور المتعارفة إلا وهو مقيد بحكم من هذه الموارد الأربعة، حتى إنهم يكتبون في المناصع: «أصلح ثيابك قبل الخروج.» إشارة إلى أنه لا يزرر بنطلونه وهو في الشارع، أو أنهم يكتبون لا يلصق هنا أوراق تعريفات، بل أصحاب المطاعم أيضًا ينهمون إلى وضع شيء من الأحكام، فنجد أحيانًا لوحًا منصوبًا قد كتب فيه: «التسليم عند التسلم.» أي نقد الثمن عند وضع الأكل بين يدي الآكل، أو «لا يؤذن في استعمال الدخان هنا.» ونحو ذلك، ومتى كانت جريرة الجاني صغيرة، أجري الحكم عليها في الحال، وإن كانت بين بين، حبس إلى أن ينظر فيها، وحينئذ يرخص للمذنب في أن يطلب كفلاء يكفلونه، فيخرج من السجن ويتعاطى أشغاله، إلى أن يعاد عند بت الحكم؛ فإن لم يجد كفلاء بقي في السجن.

ومما يرى منكرًا من أحكامهم إجازة شهادة الأولاد دون البلوغ، غير أن القاضي يستحلفهم أولًا وينبههم على خطر اليمين والشهادة، هذا إذا كان في الدعاوى الصغيرة؛ أي التي لا توجب القصاص بالقتل، والويل ثم الويل لمن وقع في يد أحد من فقهاء الشرع، فإنهم أدهى خلق الله، ولا يعجزهم أن يصيروا الظلام نورًا والنور ظلامًا، ودونك مثالًا واحدًا مصداقًا لذلك وهو: أن بعض المتكيسين الذين يدلون بجمالهم دون مالهم عشق بنت أحد الأغنياء، وإذ كان يعلم أن الغنيين للغنيات والمقلين للمقلات خشي أن يخطبها من أبيها فيسفه، ويجبه، فتوسل إلى ذلك بواحد من هؤلاء الدهاة ووعده بصلة حسنة، فقال له: «سأتروى في أمرك فائتني غدًا.» فلما كان الغد أتاه الشاب، فقال له الفقيه: «أرأيتك لو شاء أحد أن يقطع أنفك ويعطيك عشرين ألف ليرة أفكنت ترضى؟» قال: «كلا ولو أعطيت ضعفيها.» فانطلق الفقيه لساعته إلى أبي البنت وخاطبه في أن يزوج ابنته من الرجل، فقال له: «كيف أصاهره وهو فقير، وليس له غير جماله؟» قال: «وعنده أيضًا جوهرة أعطي فيها بحضرتي عشرين ألف ليرة فأبى أن يبيعها.» فتغير الرجل عن إصراره وما زال به حتى أغراه بتزويج ابنته.

والبارع من هؤلاء الفقهاء لا يباشر دعوى من الدعاوى الخطيرة إلا إذا قبضت كفه على ثلاثمائة ليرة، فأما كتاب الصكوك فلما كان جعلهم بحسب السطور كانت عبارتهم مملة لما فيها من التكرار غاية الإملال، مثال ذلك: «باع زيد بن بكر داره الفلانية لخالد بن عمرو بكذا وكذا بيعًا خاصًّا مطلقًا، وأقر زيد بن بكر بأن داره الفلانية التي باعها لخالد بن عمرو بكذا وكذا، قد انتقلت من ملكه انتقالًا مطلقًا، وصارت في حوز خالد بن عمرو، فصارت دار زيد بن بكر والحالة هذه في تصرف وملك خالد بن عمرو ملكًا مطلقًا خاصًّا.» ويقع كثيرًا أيضًا في أحكامهم الديوانية مثل هذا التعبير الآتي: «إذا أخذ شخص أو أشخاص شيئًا أو أشياء من موضع كذا أو مواضع كذا وجب القصاص على ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص الذين أخذوا ذلك الشيء أو تلك الأشياء من ذلك الموضع أو تلك المواضع.»

وهذا ضد عبارة كتب الفقه الإسلامية، فإنها أخصر ما يكون حتى تحتاج إلى شرح وحاشية وفقيه يفسرها، وقد يقع التكرار في عبارة كتاب الصكوك في البلاد الإسلامية، وهم الذين يتعيشون من كتابتهم، ولقد تعجبت كثيرًا مرة من قراءة صك كتبه بعض كتاب المحاكم بتونس، مطلعه الأجل الوجيه الفاضل الموقر محمد بن الحاج أحمد، قال بترو المالطي النصراني: إنه أعطاه كذا وكذا، يعني أن المالطي ادعى على الأجل محمد بكذا، وإنما فصل هذا الكلام وجاء بهذا التركيب السخيف كراهة أن يذكر اسم المالطي قبل محمد، وهو من الهوس الذي يقضي إلى خرم قواعد العربية، وأكثر أحكام تونس على هذا المثال من اللحن والخطأ، وأقول في الجملة: إن عبارة كل الفقهاء فيها خروج عن قواعد النحو واللغة.

(١٣-٤٣) كلام الإنكليز ومكاتباتهم

أما كلام الإنكليز فإنه لما كان مورده اصطلاح اللغة وعرف التخاطب رأيت من الواجب أن أذكره بالتفصيل في فصل على حدة، أجعله خاتمة لهذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وإنما أقتصر منه على نبذة فأقول: إن تحيتهم في الصباح هي أن يقولوا صباح طيب، وفي المساء مساء طيب، ثم يردفوها بقولهم: «هَودُو يُودو» وترجمتها: «كيف تعملون أنتم تعملون؟» وهو سمة تنبئ عن مزيد ميلهم وتوقانهم إلى العمل، حتى إنه يوجد في لغتهم نحو عشرة ألفاظ مرادف العمل، وهو أكثر ما عندهم من المترادف، ولا يخاطبون بضمير المفرد إلا الباري تعالى أو في الشعر، وهو ضربة لازب عند طائفة من جنسهم يقال لهم: كويكرس، وسيأتي ذكرهم.

فأما عند الفرنسيس فاستعماله إنما هو في مخاطبة الإدلال، كأن يكلم المحب محبوبته أو الوالد ولده، وتحية هؤلاء بعد صباح الخير: «كيف أنتم تحملون أنفسكم؟» «وكلتا التحيتين لا معنى لهما» كما قال فلتير، ومتى خاطبت أحدًا من فلاحي الإنكليز وهو مُصغٍ إليك أبدى همهمة عند كل جملة، أعني قوله: «هم» فكأنها عندهم حرف بمعنى نعم، وعند كل فقرة تقضي بالاعتبار يقول: «آه».

وإذا هم خاطبوك نفضوا رءوسهم ولا يكادون يشيرون بالأيدي — كما هو دأب أهل مالطة وإيطاليا وغيرهم — وليس للهجتهم مطلقًا نغمة مطربة سواء تكلم بها جاهل أو عالم، أو ولد أو امرأة؛ إذ ليس في كلامهم مد ولا حركات طويلة، وأصوات الرجال من حناجرهم بخلاف اللغة الفرنساوية، فإن فيها غُنَّة تستحب من الأولاد والجواري جدًّا، وربما طرب لها من ليس يعرفها، ومع أن لغة الإنكليز من اللغات المستحدثة ولم تشهر إلا وأعقبها التمدن وطبع الكتب، فلكل أهل صقع عندهم كلام ولهجة خاصان بهم، فلا يكاد أحدهم يفهم من صاحبه شيئًا بمنزلة ما عند أهل الشام والمغاربة من الفرق.

ومن عادة النساء إذا كلمن أحدًا من الخاصة أن ينحنين له عند كل سؤال وجواب، وعادة الغلمان أن يضعوا أيديهم على رءوسهم، وكذا هي عادة الخادم مع مخدومه عند كل سؤال وجواب، حتى القسيسون أيضًا يرتاحون لهذه الدغدغة، وإذا خاطبوا أحدًا بكلام توبيخ وغيظ قالوا له: «سر» وهي بمعنى سيد، حتى إنهم يقولونها عند طردهم كلبًا ونحوه فيقولون مثلًا: «اخسأ يا سيد.»

وقد يستعملونها أيضًا لتعظيم المخاطب وإجلاله، ومن الغريب في هذه اللفظة أنها بالفارسية بمعنى رئيس ووافقها أيضًا في العربية لفظة السري، فلا أدري أي اللغات هي الأصل لها، والرجل يقول عن زوجته: «معلمتي»، والمرأة تقول عنه: «معلمي»، وإذا خاطب زوجته أحد من الخاصة بلفظة «مادام»، كان ذلك إشارة إلى تنافرهما، فخطاب الرضى إنما هو أن يقول لها «يا محبتي» أو «يا عزيزتي» وربما قالوا: «يا قلبي»، ولا يكادون يفهمون يا روحي ويا عيني، ويكثرون من ذكر الشيطان في حالتي التعجب والاستفهام فيقولون: «أين الشيطان كنت؟» ويضيفون لفظة «مان» بمعنى الرجل إلى كل شيء فيقولون للسقاء «واطرمان» أي رجل الماء.

ومن عادتهم في المكاتبة إذا أراد أحد من الأعيان أن يكتب إلى شخص يجهله أن يقول: «فلان يسلم على فلان، ويسأله عن كذا.» وفي المرة الثانية يكتب له: «سر» وفي الثالثة أو الرابعة: «دير سر» أي سيدي العزيز، وإذا خرق حجاب الكلفة بينهما كتب له «مي دير سر.» أي سيدي العزيز، وإذا استحكمت الألفة كتب له: «عزيزي الخواجة فلان.» فإذا طالت كتب «عزيزي فلان» ولهم عادة قبيحة حين يكتبون أسماءهم في آخر الكتاب مما عرف بالإمضاء، وذلك أنهم يكتبونها مُثَبَّجَة معماة بحيث لا يقدر أحد على قراءتها إلا من مرن عليها، فعلاج ذلك لمن يجهل الاسم أن يقطعه من الرسالة ويلصقه على ظهر المغلف ويرسله إليه حتى يبينه في المرة الثانية، وأصل ذلك أن من يكتب عندهم خطًّا حسنًا يُزَن بأنه معلم للصبيان أو كاتب عند تاجر، فأما من يعيش من أملاكه فلا يلزمه ذلك، ويقابله عندنا قبح عادة الذين يمضون أسماءهم ويهملونها عن الإعجام.

ولا أدري ما سبب هذه العادة الذميمة الموجبة للإبهام والالتباس، والظاهر أن منشأها الكبر أيضًا فإن المكاتب يظن أن اسمه قد بلغ من الشهرة والتنويه بحيث لم يحتج إلى إعجامه، والدليل على ذلك أنهم يكتبون تحت أسمائهم حرف الميم كناية عن معروف، وبما ذكرت لك من اصطلاح الإنكليز في افتتاح رسائلهم عرفت أنهم لا ينعتون المكتوب إليه بالأجل والماجد والأكرم والمفخم وغير ذلك إلا أنهم يطيلون غالبًا في الإمضاء فيكتبون: «أنا باق يا سيدي عبدك الأحقر المطيع» فلان، وقد تكون أحيانًا نوعًا من التهكم؛ وذلك إذا كان الكتاب مشتملًا على التوبيخ أو المناقشة، وعادة العرب بخلاف ذلك فإنهم يسهبون في افتتاح الرسالة، ويوجزون في الإمضاء، فإذا كتبت مثلًا: «الداعي» فلان أو «عبدكم» فلان كفى وأهل تونس والمغرب يكتبون: كاتبه فلان.

وكما اختلفت عادتنا وعادتهم في المكاتبة والخطاب، كذلك اختلفت في الزيارة واللقاء، فإنك إذا دخلت على أحد من أهل العربية احتفى بك غاية الاحتفاء، وإن لم يكن بينكما صلة أو معرفة، وعند الانصراف لا يزيد على أن يقول لك في أمان الله، وربما لم يقم لك، وإذا دخلت على إفرنجي أراك أنه مشغول عنك بما هو أهم من الزيارة، وسألك أن تسرع في عرض حاجتك، وعند انصرافك من عنده ينهض لك، ويرافقك إلى الباب، وعند الفرنسيس لا بد من أن يكلمك هناك كلامًا يوجب وقوفكما ولو دقيقة، إشارة إلى أنه لم يمل منك، وفي الجملة فليس من الإفرنج من يصدق عليه إذا طرقه طارق قول الشاعر:

فقلت له: أهلًا وسهلًا ومرحبًا
رشدتَ ولم أقعد إليه أُسائِله

أو قول الآخر:

سَلِي الطارق المُعْتَرَّ يا أم مالك
إذا ما أتاني بين قِدْري ومَجْزَري
أيُسْفِرُ وجهي أنه أول القِرى
وأبذل معروفي له دون مُنْكَري

قال النمري: «المعروف ها هنا القرى والإيناس وما شاكلهما، والمنكر ها هنا أن يسأله عن اسمه، ونسبه وبلده ومقصده، وكل هذا مما يجلب عليه حياء.»

ثم إن ما عبت الإنكليز به من الأخلاق والعادات مبني على اعتبار ما وصل إليهم من الفنون والعلوم، وعلى كثرة ما عندهم من الوسائل الجديرة بأن تصفي طباعهم عن غلاظة أسلافهم وتقدم بهم إلى الكمال، فإن ما يطبع عندهم من الكتب وصحف الأخبار وما يلقى عليهم في الملاهي والملاعب، لحري بأن يهذب أخشن الأجيال في أعظم المحامد، فأما من لم تصل إليه هذه الوسائل وبقي على الهمجية والأمية، فأحرى أن يرثى لحاله وباله من أن يلام عليها.

قال الشاعر المخزومي:

العَيْبُ في الخامل المغمور مغمور
وعيب ذي الشرف المذكور مذكور
كفوقة الظُّفْر تَخْفى من حقارتها
ومثلها في سواد العين مشهور

وقال آخر في المعنى:

قد تُخْفِضُ الرجل الرفيع دقيقة
في السهو فيها للوضيع معاذر
فكبائرُ الرجل الصغير صغائرُ
وصغائرُ الرجل الكبير كبائرُ

وقال العلامة الخفاجي:

كَمْ مِنْ عيوب لفتى عدها
سواه زينًا حسن الصُّنعِ
فنُكتة الياقوت مذمومة
وهي التي تُحمد في الجِذْعِ

(١٣-٤٤) وقفة وتعقيب

وكل ما أنكرته عليهم وافقني عليه من جال منهم في بلاد الشرق وجنح إلى التطبع بطباع أهلها، فكلهم يقر بأن هذه الأحوال التي اتصف بها عامة الإنكليز في هذا العصر عصر التأدب والتكيس شين وأي شين، وأنا أختتم هذا الإقرار بأن أقول: إن عامة الإنكليز هم دون عامة فرنسا أدبًا وكياسة، كما أن علية أولئك أفضل من علية هؤلاء، وسيعاد ذكر ذلك عند الكلام على أخلاق الفرنسيس. وأقول أيضًا في الجملة: إنه مع ما يظن أن دول الإفرنج تبغي تعميم المعارف لدى جميع رعاياها، فليس الأمر كما يظن؛ إذ ليس من نفع الدولة والكنيسة أن تكون العامة متكيسة ومتفقهة، ولا سيما عامة فرنسا: فإن معارفهم سبب لتخطئة الدولة ولهذا يقع فيها من التغيير ما لا يقع في غيرها.

(١٣-٤٥) ما يحمد من خصال الإنكليز

ويعجبني من الإنكليز خلال منها أنه ليس عندهم فضول وتكليف على الدخيل فيهم، بل ولا على من هو منهم، فلا يزورونه في غير وقت الزيارة، ولا يستعيرون منه، ولا يتعرضون لما يأتيه، فلو رأوه مثلًا مضطجعًا على قارعة الطريق لم يسألوه لأي سبب تفعل ذلك؟ بل ربما حسبوا أن أهل بلاده جميعًا يضطجعون مثله، وأن في ذلك مصلحة لهم، وإذا زارك أحدهم ورأى عندك مثلًا امرأة أو نساء، لم يهمه أن يسألك عن سبب زيارتهن مما لا بد منه في بلادنا، وكذا لو رأوك تماشي امرأة في الطريق أو تخاصرها، فكل منهم مشغول بهمه ومهموم بشغله، وإذا رأوا طبقًا مغطى لم يسألوا ما في هذا الطبق كما في الحكاية المشهورة ويمكن أن يقال: إن هذه الخلة هي صنو لأول خلة ذكرتها من معايبهم في كون كل واحد منهم لا يهتم إلا بشأنه، ولا غَرْو أن يكون بعض الخلال ممدوحًا من وجه ومذمومًا من وجه آخر.

ومن ذلك الجد في المساعي وعدم الشماتة وكراهية العبث الموجب للتنافر والعداوة، أو لنكاية الخصم في الكتابة، ولو كان عندنا بريد على الصفة التي هي عندهم، لكنت ترى في كل يوم أهاجي وأحاجي تلقى في البوسطة ويبعث بها كما يبعث بالرسائل، نعم إن عندهم يومًا مخصوصًا في السنة يتراسل فيه المعارف برسائل مزحية، ولكن من دون أذى وإيجاب تبعة، ومن ذلك عدم التهافت على الحسد، فإذا رأوا عندك مثلًا متاعًا نفيسًا لم يكن عندهم مثله لم ينفسوا عليك في إحرازه، ولا يقولون: يا ليت كان لنا مثله، وخصلة النفاسة والحسد قلما يخلو منها في بلادنا جسد.

ومنها أنهم يُضِبُّون على ما بهم، فلا يتظلمون ولا يجدفون؛ أي يستلقون عطاء الله، ولا يقولون: ليس لنا وليس عندنا، فكل واحد منهم يريك أنه مُستغنٍ عنك، ولا تكاد تسمع خادمًا يطعن في مخدومه، أو خادمة تعيب مخدومتها، وإن كانا يكابدان عندهما، أما في بلادنا فقلما تجد خادمًا راضيًا عن سيده، بل يعتقد أنه هو أولى بالسيادة، أو أن شرف مخدومه متوقف على بقائه عنده.

ومن هذا القبيل عدم بخس الناس حقهم، فإذا نبغ أحد فيهم في فن أو صنعة لم يجد من يتصدى لتجهيله وتخطئته حتى يوقفه عن تقدمه ويطفئ جذوة قريحته «ورب دوحة نشأت عن فرع»، لا بل يجد من ينشطه وييسر له أسباب العلم، أما في بلادنا فإذا نبغ أحد في شيء بادره حساده بقولهم: «هو مدَّعٍ، هو حمار، هو متطفل.»

ومن ذلك أنهم لا يتشبثون بأعقاب الأقاويل، ولا يأتون النميمة والغِيبة إلا قليلًا، فإذا سكن ما بينهم غريب وسمعوا عنه ما يكرهونه منه فلا ينقلون إليه ما سمعوا عنه بل لا يهمهم ما قيل فيه، وإنما يعاملونه بما يظهر لهم من حسن سيرته خلافًا للفرنسيس، فإنهم مثلنا في التعلق بقال وقيل، وفي الاستفحاص عن أحوال الجيران بل أهل البلد.

ولما كنت في باريس كنت أتردد على الكونت دكرانج ترجمان الدولة، لما كان عنده من البشاشة بالغريب ولين الجانب، وكان هو أيضًا يتردد عليَّ إذا لزمه ترجمة أو إنشاء رسالة بلغتنا، وإذ كنت أكلمه ذات يوم في مصلحة لي قال لي: «إني ليعجبني حسن تصرفك فينا ونزاهة نفسك؛ وذلك مما يدعوني إلى إجابة سؤالك، غير أني أنكر عليك شيئًا شاع عنك.» قلت: «اذكره لي حتى أتجنبه.» قال: «إن الناس يقولون: إنك قدمت إلينا جاسوسًا من طرف الإنكليز، وإذا كان ذلك حقًّا فلا يسعني إسعافك بحاجتك.» قلت: «بوُدِّي لو كنت جاسوسًا إذن ما كنت لأكلف أحدًا بشيء، فإن جاسوس الإنكليز يستغني بوظيفته عن أن يتوصل بأحد إلى نَوال أَرَبه.»

ولا شك في أن المُومأ إليه سمع عني ذلك، فإن من طبع الفرنسيس ولا سيما شرطة الديوان أن يتجسسوا عن أحوال الغريب بينهم، فإذا علموا أنه يعيش بلا حرفة يتعاطاها حكموا بأنه إما بأن يعيش من رزقه أو من حيلته، وحيث كانوا يعلمون أني لم أكن أتعاطى حرفة، ولست غنيًّا ذا عواجل وولائم، استنتجوا من هاتين المقدمتين أني جاسوس، ومثل ذلك لا يشغل به أحد من الإنكليز باله، فغاية ما يرومونه من الغريب أن يحسن تصرفه ويقضي دينه.

إلا أن من يسكن عندهم في القرى يلزمه من باب المجاملة والمخالقة أن يذهب إلى الكنيسة في يوم الأحد وإن نام فيها، فأما في المدن الجامعة فلا يلزمه ذلك، وقد شهر مرة في صحف الأخبار أن الملكة أهدت إلى بعض الجند منديلًا قد كف بكف ابنتها، فلم يعبأ بهذا الخبر أحد، ولا ظن بها أحد سوءًا، ولو شُهِر أمر مثل هذا في بلادنا عن أميرة لبقي شغل الخواطر والألسن أحقابًا، ومن ذلك كلامهم بصوت منخفض وهي صفة تكاد أن تكون من خصوصيات نسائهم، وفي بعض البلاد قد تسمع للنساء زعيفًا وزعيقًا كأصوات الجن، ومن ذلك حسن الترتيب والتدبير في الأشغال والمصالح والتوقيت للعمل، فلكل شيء عندهم وقت ولكل وقت شغل، فإذا اتفق أن زارهم أحد في ساعة الشغل، لم يتحاشوا أن يقولوا له مثلًا: «قد أنسنا بك ولكن علينا قضاء ما لا بد منه من المصالح، فلا تؤاخذنا وزرنا في يوم كذا.» فينصرف عنهم عاذرًا لا عاذلًا؛ لأنه هو أيضًا يعاملهم بمثل ذلك.

أما عندنا فربما تعطلت مصالح الإنسان بكثرة زواره، حتى يضطر أخيرًا إلى أن يحمل وسادته ويقول: «شفى الله مريضكم.» وهذه الصفة أي حسن الترتيب يظهر أثرها بزيادة من أهل الرئاسة والسيادة والإدارة منهم، فإن رجال الدولة إذا أرادوا أن يباشروا أمرًا من الأمور الجسيمة فإنما يباشرونه بغاية الإحكام والضبط، بحيث لا يوجب تغييرًا ما في الأحكام، ولا إزعاجًا بشيء على الرعية.

فإذا اضطروا مثلًا في وقت الحرب إلى تجنيد جيوش وتجهيز بوارج وذخائر، فلا يكون ذلك موجبًا لاضطراب الناس وتغيير أحوالهم أو لغلاء الأسعار، وإذا شاءوا أن يجعلوا على الناس ضريبة لسد مصاريف الحرب، أحيل ذلك على مجلس المشورة النائب عن الجمهور، ومعلوم أن الإنسان ليهون عليه أن يؤدي شيئًا على يد نائبه أكثر من أن يؤديه على يد غالبة قاهرة، وفي بعض البلاد إذا شرعت الدولة في تجهيز العساكر للحرب، رأيت جميع الناس يموجون في الأراجيف ويخوضون في التهاويل، فيظلم إذ ذاك القوي الضعيف، ويأخذ المرء بثأره من خصمه، وتختل أسباب التجارة، ويعدم الأمن بين المتعاملين؛ فتكون غائلة الحرب مشعورًا بها في داخل المملكة أكثر من خارجها، وقد كانت مدة إقامتي في هذه البلاد قبل حرب الروس مع الدولة العلية العثمانية وفي خلالها وبعدها، فلم يتبين لأحد فرق في شيء ما أصلًا.

ويلحق بذلك أن تحصيل لوازم المعاش في الصيف والشتاء يكون شرعًا، فلا يتعذر وجود شيء منها بأحد الموانع، وفي غير البلاد متى دخل الشتاء وهطلت الأمطار تعطلت الطرق وانقطع المجلوب من المأكول والمشروب، فترى كل واحد متجحرًا في بيته إلى أن تتيح له فرصة الخروج، فإذا لم يكن الإنسان قد حاكى النملة بأن اتخذ مؤنته في داره صيفًا هلك جوعًا.

ترتيب البوسطة وضبطها

ومن أعظم ما يئول إلى تنظيم الأمور ترتيب البوسطة وضبطها، ففي سنة ١٨٥٥ وضع في بوسطات لندرة وحدها ٤٦٠٠٠٠٠٠ مكتوب، أو أرسل إليها من بوسطات الممالك في سنة واحدة ١٠٠٠٠٠٠٠٠ ولم يسمع إلى الآن أن مكتوبًا واحدًا منها فُقِدَ، إذا كان صاحبه موجودًا، وسيأتي ذكر ذلك بالتفصيل عند ذكر لندرة وما فيها، وجُعْلُ كل مكتوب إذا أرسلته داخل المملكة نصف قرش ولا فرق في قرب المسافة وبعدها، وهذا المبلغ القليل تشتري به طابعًا مصمغًا وتلصقه على عنوان الكتاب.

وقد يبعث بهذه الطوابع من بلد إلى آخر في ضمن الرسائل بدلًا من الفلوس، فإذا سمع أحد مثلًا بذكر كتاب طبع حديثًا أرسل إلى بائع الكتاب ثمنه من هذه الطوابع، فإنها خفية خفيفة بخلاف ما إذا أرسل إليه ثلاثة شلينات مثلًا فإنها تثقل حجم الرسالة ولا يخفى أمرها، وإذا بعث أحد بمكتوب ولم يجد البريد صاحبها بحث عن المرسل والمرسل إليه، فإن تعذرت معرفة هذا رده إلى المرسل وإلا أبقي في البوسطة مدة معلومة ثم يحرق، وإذا شئت أن تبعث بكواغد مالية أخبرت صاحب البوسطة بذلك فيجعل على ظرف الكتاب طابعًا آخر إنذارًا للبريد من أن يطمع فيه فيفتحه.

وهناك طريقة أخرى وهي أن ترسل هذه الكواغد أنصافًا أعني أن تقطعها أنصافًا، وترسل في أول مرة نصفًا، فإذا جاءك علم وصوله أرسلت النصف الآخر، فيلصقها المبعوث إليه بالأخرى وينتفع بهما، وإذا اشتريت من تاجر ما قيمته نصف شلين فقط، وناولته كاغدًا بخمس ليرات، صرفه لك فورًا، وربما تزيد قيمتها في باريس وغيرها على قيمة الذهب، وذلك يدل على ما لبنك الإنكليز من المتانة والمكانة وتقليل أنواع النقود؛ أي كون النقود تقصر على ثلاثة أنواع أو أربعة من الأسباب الميسرة للمعاملة، بيان ذلك أن للإنكليز قطعة من الفضة تعرف بالشلين، ثم أخرى قيمتها شلينان وأخرى قيمتها شلينان ونصف، ثم نصف الشلين ثم ثلثه ثم ربعه ثم الليرة من الذهب ثم نصفها، فلو كان عندهم قطعة تساوي مثلًا شلينًا إلا قرشًا أو قرشين ونصف قرش أو سدس الليرة أو سبعها أو ثمنها حصل الغابن أو التوقف في الأخذ والعطاء، فيا ليت ذلك كان جاريًا في البلاد المشرقية.

وكذلك من ميسرات المعاملة كون نقود البلاد الأجنبية لا يتعامل بها في البيع والشراء في لندرة، وإنما يمكن صرفها عند بعض الصيارفة، ولا تغير لأسعار نقودهم قطعًا كما يقع في بعض البلاد، كما لا تغيير لأسعار البياعات، فإنك إذا أردت أن تشتري شيئًا من عند تاجر لم تجرِ العادة باستحطاطه من الثمن، ولا سيما إذا كان المبلغ زهيدًا، وبذلك يحصل راحة للبائع والشاري ونعمت العادة.

عدم التعنت على النساء

ومن ذلك عدم التعنت على النساء فيما لا يكون به مَثْلَبة للعرض، فإذا كان الرجل مثلًا غائبًا وجاء منزله فوجد رجلًا يحادث زوجته لا يتناولها بالهراوة أو القذع ويقول لها: «يا فاجرة يا عاهرة لا يجمعني وإياك مكان» من قبل أن يعلم سبب زيارة الرجل، فأما إذا عرف منها الخيانة فلا رحمة بعدها ولا أعذار، وإنما هما خطتان؛ إما سكين، وإما سم، وكثيرًا ما سمعت زوجة الرجل تقول للضيف بحضرة زوجها: «خذ يا عزيزي وهات يا عزيزي.»

شيوع الأمن

ومن ذلك الأمن في الخروج ليلًا من دون فانوس ولا باب يقفل على الساري والأمن للمسافر أيضًا في البلاد، فإن الإنسان ليسافر فيها ليلًا وهو في آمن حال وأصفى بال مما لو سافر في بلادنا نهارًا، وترى الولد يمشي في المدن الكبار وحده ليلًا ولا يخشى شيئًا، ولا هيبة لذوي المراتب والمناصب منهم أو للعسكر والشرطة عند المارين بهم، وإن البنت التي لم تبلغ عشر سنين لتسعى بعد نصف الليل، وتمر بالشرطة فكأنها مرت على بعض أقاربها، فتسألهم ويجاوبونها، وتسترشدهم بغير حشمة ولا انقباض فيرشدونها ويذهبون معها، وليس للشرطي حق أن يدخل بيت أحد، إلا بإذن الديوان لسبب خطير، ولا يأخذ غريمًا محقوقًا إلا من الطريق.

وفي البلاد الشرقية إذا كلمت المرأة بعض الشرطة أو العسس ليلًا لم يلبث أن يمد إليها يده، ويهتك حجابها، وهيهات أن ينتقم منه منتقم، وعندي أن عدم الهيبة والخوف على صغر هو الذي يورث جيل الإفرنج جميعًا الإقدام والجرأة على الأمور والكلام، ويزيدهم بسطة في الجسم والعقل، ويبطئ بهم عن الشيب والهرم، فإن إلقاء الرعب في قلب الصغير كلوافح الرياح العاصفة على الغرس، فمتى تمكن منه جعله بعد ذلك غير صالح للمساعي الجليلة.

وما عدا خوف الحكام والظلام ورؤساء الديانة في بعض البلاد الشرقية فإن الأمهات يزرعن في قلوب أطفالهن الخوف من العفريت والروح الشرير والخيال والظلام وغير ذلك؛ فتبت العادتان، ولولا أن أهل الشرق من طبعهم التسليم للمقدور، لما رأيت منهم أحدًا تصدق عليه صفة الرجولية، وقد صار الآن كتاب الأخبار في هذه الديار يلومون أرباب السياسة على قلة الأمن للماشين ليلًا في طرق لندرة، وسبب ذلك رجوع أولئك المنفيين كما ذكرنا، إلا أن هذا عارض يرجى زواله.

وكذلك فشا اللوم على خيانة البريد لعدم تسليم الرسائل، إلا أنه أيضًا من الأمور الطارئة.

صدق الوعد

ومن ذلك اختصارهم الكلام مع المخاطب إذا اعتمدهم بشيء، فإذا احتاج الصغير إلى الكبير في شيء قال له: «إني أرجو أن تكون من المحسنين إليَّ بتنويل طلبتي، فأكون لك من الشاكرين.» فهذا يغني عن قولنا: «يا بدر الكمال، ويا بحر النوال، يا من يلتجئ إليه العافون، ويحج إلى كعبة فضله العائذون، ويا من صيته طار في الآفاق، وملأ الألسن والأوراق، ويا من، ويا من …» فيكون جواب الكبير له بغير مَلْث: «سأبذل جهدي في مصلحتك وأخبرك.» فهذا يغني عن قولنا: على الرأس والعين حبًّا وكرامة، لا بد من ذلك فإن الخير مشترك، ونفعك من نفعي، والحال واحد حالة كون النية غير منعقدة على العمل، فأما إذا رأى المسئول نفسه غير قادر على أحساب سائله ونفعه قال له مصرحًا: «إن سؤلك فوق طاقتي فاقصد غيري.» ولكن متى وعد فلا بد من إنجاز وعده، فلا محال ولا مطال.

التريث في الأمور الخطيرة

إلا أنه لا ينبغي أن تفهم من هذا أن الأمور الخطيرة عندهم تبت في الحال، فإن لها من التوقيف والتعيين ما يعيا به صبر المنتظر؛ إذ لا يبرم عندهم أمر من أول وهلة، إلا أن يستفرغ فيه البحث والتروي، فعلى قدر ما يهون عليهم ارتجال المقال يصعب عليهم ارتجال الفعال، حتى إن ديوان المشورة لا يبت شيئًا إلا بعد استفراغ الكلام فيه، وإنما المراد أنهم لا يعدون بما لا نية لهم على وفائه كما يحدث في بلادنا، فيبقى الموعود رهين الأماني يُطْعَم المَلْث ويُسقى الوعود، ثم لا يحصل من بعد ذلك على شيء، فينتج منه التكذيب من قبل الموعود، والتنكيد من قبل الواعد، وفي الجملة فليس بين الإنكليز عُرْقُوب ولا أَشْعَب.

وعندي أن هذا الاختصار هو في أغلب الأحوال أساس للمصالح ووسيلة للنجاح، فإنه إذا كان أحد مثلًا معطلًا عن الشغل وطلب وظيفة من أحد الإنكليز، فإنه يكتب إليه كتابًا ويذكر له الشروط، فإذا أعجبه ذلك أجابه حالًا إلى سؤاله، وإلا قال له: لا يمكنني، فيسعى الرجل في تحصيل وسيلة أخرى.

أما عندنا فإذا طلب أحد من مخدوم وظيفة، قال له: «يا حبذا ليس غيرك أجدر بها، ولقد طالما بحثت عن رجل مثلك متصف بهذه الصفات، ولا سيما أنك أنصفت في الطلب، ولكن أمهلني ريثما أقضي وطرًا لي.» فيربطه بهذا الوعد، ثم تمضي مدة والرجل راكن إلى وعده، فإذا سأله مرة أخرى، مطله بحيلة أخرى إلى أن يقول له أخيرًا: «قد استخدمت غيرك»، أو قد استغنيت عنك.

إلا أن الإنكليز غالبًا قد فرعوا من هذا الأصل فروعًا لا تناسبه، منها أنهم يعاشرون من يكون له عنده مصلحة شهورًا وسنين، فإذا انقطعت أسباب المصلحة انقطعت العشرة، وإذا اشتريت من أحدهم بما قيمته ألف ليرة مثلًا دفعة واحدة فإذا رآك في غير حانوته لم يلتفت إليك، فلا يعرفك إلا في الدكان.

حفظ الأمانة

ومن ذلك — أي من الخصال المحمودة — الحرص على ما يؤتمنون عليه، فإذا سلمت لأحدهم مثلًا طرسًا فإنه يصونه عنده بمنزلة طرس نفسه حتى إذا استرجعته بعد سنين أعاده عليك كما تسلمه، بل ربما أزال عنه الوسخ ورده إليك نظيفًا، وقال لك وهو معتذر: «قد تجاسرت على أن أزلت الطبع عن الطرس، وأرجو أني لم أسئ فيما فعلت.» وقس على هذا سائر ما تأتمنهم عليه، وينضم إلى ذلك احترامهم للرسائل، فلا يفتح أحدهم كتابًا جاءه باسم غيره، بل يبذل جهده في إيصاله إليه، وإذا زارك منهم زائر فلا يمد يده ولا طرفه إلى ما بين يديك من الصحف، فإذا أراد أن ينظر في كتاب لم يلمسه إلا بعد أن يستأذنك.

وفي بلادنا إذا أعرت أحدًا كتابًا أعاره هو إلى آخر، والآخر إلى آخر، وهلم جرًّا، فربما لم يعد إليك منه عين ولا أثر، بل يرى نفسه أولى به، وإن لم يستفد منه إما لعدم قدرته على فهمه أو لكثرة أشغاله، بل القسيسون أيضًا لا يتورعون من هذا، وإذا شرفك بزيارته فأول ما يطمح نظره فإنما هو إلى أوراقك، وحالًا يمد يده ويخطف منها ما شاء، فكأنما هو جاسوس جاءك ليطلع على أسرارك لا ليأنس بحديثك.

عدم قبول المصانعة والرشوة

ومن ذلك أن أصحاب المراتب عندهم لا يقبلون المصانعة والرشوة من أحد لتنويل أربه، وإن عُلِم أنه ارتكب ذلك اقتص منه كما يقتص من السارق، ولم ينفعه أن يؤدي الرشوة التي أخذها مضاعفة، نعم إن المراتب هنا إنما تعطى غالبًا بالمحاباة والاستحباب، لا بالاستحقاق والاستيجاب، فإن الأمير إذا نوه بشخص من أقاربه أو معارفه عند ذي مرتبة وسيادة نفذت كلمته عنده، ولو أن شخصًا متصفًا بأحسن الأخلاق ومتحليًا بالعلم والفضل حاول بنفسه أن ينال تلك الرتبة لم يلتفت إليه، إلا أن هذا الداء عام في جميع الممالك.

ويلحق بما تقدم من تفضيل الاستحباب على الاستيجاب أن النفر من العسكر لا يمكن أن يرتقي إلى مرتبة ضابط، وإن ارتقى ألف حصن للعدو، وأبدى من الشجاعة والبراعة ما يقصر عنه قائد الجيش فهو نفر من يوم اكتتابه إلى يوم خروجه من الخدمة والحياة، وبعد أن يقضي خمسًا وعشرين سنة في الخدمة يعفى منها، ويعين له نحو أربعة قروش في اليوم، والأمير أمير من يوم ينزل من ظهر أبيه، إلى يوم يركب ظهر النعش، ثم يدوم ذكره كذلك إلى أبد الآبدين، فكأن ترتيب أصناف الناس عندهم بمنزلة ترتيب أعضاء الجسد؛ بمعنى أن لكل عضو خاصية ووظيفة لا يتعداها ولا تتعداه، فالرأس لا يزال رأسًا وإن سرى فيه الخَرَف والفند والعور والصمم والدرد، والقدم لا تزال قدمًا وإن هي أنجته وأنجت الجسم كله.

وهذا التخصيص من وجه آخر سديد رشيد؛ فإن ناظر الأمور الخارجية عندهم مثلًا ليس له حق في أن يدمق على ناظر الأمور الداخلية في شيء، وناظر مجلس المشورة ليس له جدارة بأن يحكم على أحد الباعة بشيء من محراب صرحه، وقس على ذلك.

فأما في بلادنا — حرسها الله — فإن ناظر المدابغ جدير بأن ينظر في جلود بني آدم ويصبغها بلون الدرة والسوط، أي يَسْبر ما هي عليه من الطراوة والنعومة، والمحتسب خليق بأن يزن أعمال عباد الله وأموالهم في بيوتهم، ويروز ما في عياب صدورهم من الخواطر والأفكار، وللحاكم أو للمطران أن يسقط حق المحق لحرف أسقطه في الكلام، وللضابط أن يبيت الناس في مضاجعهم، وللشرطي أن يقبض على أي شخص كان، ولضابط العسكر أن يخترط سيفه على أي عنق سنحت له، وللبطرك أن يحرم أي شخص كان من رعيته حتى لا يعود لأحد من أقاربه وأهل بلدته استطاعة على مخاطبته ومبايعته، وإلى من المشتكى وأين النصير؟! وأين المجير؟ فيا ليت شعري متى نصير نحن ولد آدم بشرًا كهؤلاء البشر؟! ومتى نعرف الحقوق الواجبة لنا وعلينا؟! أنخال أن معنى التمدن هو أن يكون الناس في مدينة وفيها ذئاب وسباع؟ كلا ثم كلا، جَيْر إن اجتماع الذئب والخروف في مرعى واحد ليوجب على اليهود أن يؤمنوا بأن المسيح قد جاء.

تدريب أولادهم على الأشغال

ومن ذلك تنشيط أولادهم إلى الأشغال، وتمرينهم على ما يكسبهم وإياهم الرزق الكافي، والمواظبة على الأعمال والصبر على ما يتعاطونه جل أو حقر، فإنهم لا يملون من السعي، ولا يرون في الكسل راحة، ولا يقول أحدهم: إني كبرت عن تعلم شيء، فلا يزالون دائبين كالنمل ما دامت فيهم نسمة تتحرك، ومع كل هذا التجلد والتحمل، فمتى ضيم أحدهم أو سقط شرفه أو مال نجمه فأهون شيء عليه نحر عنقه، وذلك عندي من جملة الأفعال المتناقضة في الطبع البشري، وجُلُّ سعيهم في شبابهم إنما هو لتحصيل ما يهنئهم في شيخوختهم، حتى يمكن لهم تربية أولادهم فلا يحتاجون إلى التكفف أو إلى ملازمة المستشفيات والملاجئ المعدة للعاجزين، وكل منهم يعمل بقول الشاعر:

قليل المال تُصْلِحه فيَنْمَى
ولا يبقى الكثيرُ على الفساد

فأما قول عروة بن أذينة:

لقد علمت وما الإسراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيُعْنِيني تَطَلُّبه
وإن أقمت أتاني لا يُعْنِيني

فإنه يعد عندهم من الأماني الفارغة الباعثة على التواني، غير أن حب التناهي غلط؛ فإن تعليق العبد توفيقه ونجاحه بالكلية على سعيه وكده لا يخلو من ازدراء بعناية المولى، وفيه — من وجه آخر — تقسية للقلب، فإن الإنسان — والحالة هذه — يهون عليه أن يفارق وطنه وسكنه لأجل المال، وهذا الداء فاشٍ أيضًا عند المثرين والموسرين هنا؛ إذ الغني منهم قد يكون له ابن وحيد فيبعثه إلى الهند أو غيرها طلبًا لوظيفة سامية، وربما فجع به بعد قليل، وهذا يعد من وجه أنه ناشئ عن كبر همة وسمو مطمح، ومن وجه لك أن تعده من الحرص والطمع، فَوَفِّق بينهما إن استطعت.

ويلحق بذلك أن الشيخ الفاني منهم إذا أراد مثلًا أن يبني بيتًا أو يأتي أمرًا فإنما يجعل همه في تحصيل المنفعة منه في المستقبل أكثر من الحاضر، وفي غير البلاد لا يبالي إلا بمنفعة الحال، ولا يكاد يتجه أمر يرجى منه نفع وصلاح إلا وتجردت له جماعة، فتجريه على وجه مرغوب ونحو مطلوب، وكلما اخترع أحد شيئًا قصد به غالبًا إحدى هؤلاء الجماعات إيثارًا لهم على أهل بلاده لعلمه بأنهم يعرفون أجرة العامل، فيعينونه على إجراء مرامه بما فيه نفع له ولهم.

ثم إنه وإن يكن قد غرس في طبع كل إنسان أن يحب وطنه ويفضله على غيره، ولا سيما إذا سافر إلى بلد هو دون بلده في طيب الهواء ورغد العيش وحسن الأحكام، إلا أن هذه الخلة تكاد أن تكون من خصوصيات الإنكليز فإنهم أيان يتغربوا يظلوا لَهِجِين بذكر بلادهم وما فيها من المحاسن واللذات، وقد رأيت كثيرًا ممن سافروا منهم إلى بلادنا وإلى مصر والغرب وباريس وغيرها، فأثنوا على تلك البلاد بشيء وافق طباعهم منها، إلا أنهم عند ختم الكلام يقولون: «لا شيء مثل إنكلترة القديمة.» وإنما يصفونها بالقدم لعدم تحول أحوالها وتغير عاداتها، كما أن أهل باريس يقولون: «ليس إلا باريس.» ومع ذلك فإنك لا تزال ترى الإنكليز طوافين في جميع البلاد، وراكبين متني البحر والبر معًا، ولكن لا تكاد ترى أحدًا منهم يسافر إلى البلاد الأجنبية لأجل أن يعلم التصوير أو الرقص والغناء كعادة غيرهم من الإفرنج، وإنما هو للتجارة.

أما الأمراء والأغنياء فإنهم يسافرون للتنزه وأحيانًا لأجل تخفيف المصاريف، فإنهم مهما يصرفوا في غير بلادهم فلن يبلغ ذلك نصف ما يصرفونه وهم في أوطانهم، ورب وليمة عندهم ينفق فيها نحو مائتي ليرة، فترى منهم في كل قصبة من بلاد أوروبا الوفا، ومتى رجع الإنكليزي إلى بلاده أنشد مع الشاعر:

فبَشَّرْتُ آمالي بمُلْكٍ هو الوَرى
ودارٍ هي الدنيا ويومٍ هو الدهر

ولا شيء يعجبهم مثل أن تمدح بلادهم وعاداتهم.

(١٣-٤٦) من طبع الإنكليز عمومًا

هذا؛ وإن من طبع الناس عمومًا إذا احتاجوا إليك أن يعزوك ويحتفوا بك، ويَرَوْكَ أهلًا لكل مكرمة، وإذا أنت احتجت إليهم استخفوك ورأوا فيك العجز والذل، إلا أن هذه الخصلة غالبة على الإنكليز جملة وتفصيلًا، فمن رام أن يكرم نفسه عندهم فليظهر لهم أنه مستغنٍ عنهم، ولا يعرض لهم في طلب شيء، ولا في استعارته، وبناء على ذلك يصاحبون من يصاحبون أيامًا وشهورًا وسنين، ولا يسألونه عن مقدار دخله وخرجه، ولا يريدون أن يسمعوا ذلك منه إذا ذكره، ومتى حللت هذه العقدة انقطع الحبل، فذلك عندهم من السر الذي لا ينبغي إفشاؤه إلا عند الضرورة المقتضية له.

وكذلك لا يسألونه عن معتقده ومذهبه، وعندنا متى تعرف أحد بذي مقام فأول ما يشنف سمعه به من المسائل قوله له: «من أي ملة أنت؟» فإذا لم يكن المسئول على ملة السائل سقط في عينه الشريفة أو بقي فيها كالقذى إن بقي محتاجًا إلى عشرته، فأما مسائل الإخوان والعشراء فأولها: «كم دخلك؟» وثانيها: «كم خرجك؟» وثالثها: «كم مرة تعترف في السنة؟» ورابعها: «هل تأكل البيض يومي الأربعاء والجمعة؟» إلى آخره.

ومن طبع الإنكليز أنه متى وثق أحدهم بإنسان وعرف منه الجد والاستقامة والأمانة يأتمنه على زوجته وبناته، فيذهبن معه ليلًا ونهارًا بلا مانع، ومن يحضر إلى بلادهم بوَصَاة من عند معارفهم احتفلوا به، وعدوه منهم، وصموا آذانهم بعد ذلك عن سماع ما يقال فيه من الذم، ولكن بشرط المحافظة على ذلك الأصل، وهو إظهار التشيع والاستغناء.

فأما إذا كان ذا بسطة في الجسم ومسحة جمال في الوجه فلا يعود يشينه شائن، ولا يزحزحه قادح وطاعن، ومتى دخل تحت حماية أمير منهم فقد دخل في ذمة السَّمَوْءَل، وفي حمى كُلَيْب، فهو يحامي عنه بكل ما أطاق، فهذا الدأب من جهة يعد من المناقب، ومن جهة أخرى لا يخلو من الذَّأْم، فإن المعتقد يصدق الموصى به ثقة بالموصي، وعدم تغيير اعتقاده فيه، وإن سمع عنه ما يشينه يترجم بفعله هذا وإصراره عن عصمته ومُحَاليَّة وطروء الغش عليه فيما قرر عليه رأيه ووطن نفسه، حتى لا يحتاج بعدها إلى ناصح ينصحه، ومنبه يرشده؛ فاسترسل في هواه إلى ما يعرضه لطعن العائبين، ونقد المنكرين، واللبيب من لا يركن إلى هواه ولا يثق بثقته، بل يشك في نفسه ويستريبها حتى يؤديه الشك إلى اليقين.

وبعد فهب أن ذلك الشخص الموصى به كان جديرًا بالمراعاة والإجارة وهو في بلاده، أو أول دخوله بلاد الإنكليز، فقد يحتمل أنه عند مشاهدته هؤلاء القوم على هذه الأحوال التي لم تكن تخطر له ببال قط تتغير أخلاقه، ويتلبس بصفات لا تشاكله، فقد عرفت كثيرًا ممن قدم إليهم من البلاد الشرقية وعليهم سمت الاستقامة وسمة النزاهة، فلما رأوهم على هذه الحال من التشوف إلى معرفة بلادهم، ومن ائتمانهم الغرباء على بناتهم وإكرامهم لهم لأجل التوصية التي قدموا بها، اتخذوا لهم ريشًا غير الذي جاءوا به، وانتحلوا لأنفسهم صفات ومآثر لم يكونوا يحلمون بها من قبل قط، فبعضهم قام في الناس خطيبًا يحكي ما علمه من أحوال بلاده، وبعضهم طمح إلى أن يتزوج فيهم من يكون عندها من المال ما يشري به أملاك أهل بلدته أو قريته، وبعضهم أخذ في التأليف وحشر نفسه في زمرة علمائهم، وكلهم ظن أن الإنكليز طعمة للملتهم ولقمة للملتقم.

وأول ما يخطر ببال الدخيل فيهم إذا كان عزبًا إنما هو أن يتزوج إحدى بنات الأعيان أو الأغنياء، ليستغني برزقها عن الهم والنصب، والتفكر في المنقلب، وفي الحقيقة فقد صدق فيهم مؤلف حاجي بابا، وهو أن الإنكليز إذا تعرفوا بغريب فلا بد من أن يرفعوا من قدره؛ لئلا يلحقهم من تعارفهم به وصمة تشينهم، فربما انتحلوا له لقب أمير أو سيد حتى يتوهم الرجل أنه في الواقع كذلك.

ومن طبع الإنكليز ولا سيما كبراؤهم أن ينفروا من الرخيص، وإن يكن نفيسًا، وأن يتهافتوا على الغالي، وإن يكن خسيسًا، وعلى ذلك يحكى أن رجلين كانا يتحدثان في هذا المعنى، فقال أحدهما لصاحبه: «ألا إني فاعل بهؤلاء القوم أمرًا يسخر منه كل من يسمع به.» ثم عمد إلى كيس وجعل فيه دنانير من ذهبهم، وقعد على قارعة الطريق، وجعل ينادي: «من أعطاني شلينًا أعطيته دينارًا من هذه الدنانير بدلًا منه.» فجعل المارون يتضاحكون منه، ويقولون: «لعمر الله ما قصد بذلك إلا غبن الناس.» فطفق يصرخ بأعلى صوته ويقول: «يا أيها الناس هاؤكم الذهب بدل الفضة، وعليكم بالنقاد.» فلم يكترث له أحد.

وأعرف بعض الجهلة كان يقرأ النحو على رجل من ذوي القناعة والنزاهة، ثم يعلم جماعة من أعيانهم ويتقاضى كلًّا منهم على تعليم ساعة واحدة نصف ليرة، فكان الناس يهرعون إليه، ويعرضون عن معلمه؛ لأنه كان يتقاضاهم ربع هذا المبلغ تذممًا وتورعًا، وإذا كان أحد مثلًا متوظفًا في وظيفة سنية وقصدوه أن يقضي لهم أمرًا أعطوه أضعاف ما يعطونه لمن ليس له شغل إلا قضاء تلك الحاجة بعينها، ومن كان معاشه من حرفة له وإن تكن تلك الحرفة عقلية لا يدوية، لم يكن له مقام من لا حرفة له، سوى الخرق والبطالة، وعلى هذا قال الفاضل كولد سميث: «إن الناس من شأنهم أن يستخفوا بالمعارف التي يتعيش منها.» وقد يتفق مثلًا أن يكون طبيب نطاسي، وآخر متطبب، فإذا كان لهذا عاجلة ودار رحيبة وخدم أقبلت عليه جميع الأمراء والعظماء، وأدبروا عن ذلك لكونه ممن يمشي على رجليه ما لم يؤلف كتابًا ويُظْهِر فيه براعته، فكم من ملكات جليلة تبقى في زوايا الخمول بسبب هذا الترجيح الزائغ، نعم إن زيادة شلين واحد في ثمن المتاع عندهم يوجب فرقًا عظيمًا، إلا أنه ليس من العدل أن تقاس الناس بالبياعات، فكم من عالم عاقل وليس عنده كتاب! وجاهل غبي ولديه أضابير كتب نفيسة.

ومن طبع الخاصة منهم أن يتجنبوا معاشرة العامة ما أمكن؛ ولذلك سببان أحدهما وهو المشهور عند الناس عظم الفرق الحاصل بين الفريقين في الأطوار والأخلاق، فإن العامة في هذه البلاد ليس لهم حظ من الكياسة كما عرفت مما مر بك، ولا تكاد خلائقهم وعاداتهم ترضي أحدًا من البشر ممن كان ذا ذوق سليم وطبع مستقيم، فالأوباشية ظاهرة عليهم في كلامهم وحركاتهم وتخيرهم للألوان وفي تصرفهم وغنائهم وضحكهم، ومعلوم أنه من يكون قد قرأ ودرى يستنكف من مخالطة أمثال هؤلاء، والسبب الثاني وهو ما خطر لي أن أصل علية الناس هنا من أجيال مختلفة، فإن الذين فتحوا هذه الجزيرة كانوا من فرنسا وشمالي أوروبا، ومعلوم أن هؤلاء الفاتحين هم الذين استولوا على أرض الجزيرة وعلى المراتب والألقاب الشريفة، وأن الإنكليز القُحَّ بقوا بينهم مُسَوَّدين مرءوسين، فبقي هذا الفرق في أعقابهم.

(١٣-٤٧) نبذة عن ملوك الإنكليز

قال فلتير: «إنه بعد وفاة ألفريد ملك إنكلترة وذلك في سنة ٩٠٠ اختلت أمور المملكة، وتضعضعت أركانها، فكان القتال مستمرًّا بين الصكصونيين وهم أول من غزوا الجزيرة، وبين الدانيزيين، ولما كان هؤلاء أعز وأقوى من الإنكليز، لم يكن لهم بد من أن يؤدوا إليهم ٤٨٠٠٠ ليرة لينصرفوا عنهم، وذلك في حدود الألف، قال: ثُم إن كانوت ملك الدانيمرك جار في حكمه على الإنكليز وبغى وطغى، وفي سنة ١٠١٧ أعناهم تحت حكمه، وعاملهم معاملة الأسرى، فكان الدانيزي إذا مر بالإنكليزي يلجئه إلى الوقوف إلى أن يمر.

فلما انقرضت ذرية المذكور عادت إلى الإنكليز حريتهم، فملكوا عليهم إدورد الصكصوني، وكان يلقب بالقديس المعترف، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه اعتزل زوجته عن كراهة لها ومات ولم يُعْقِب، وعند وفاته قام الأمير وليم دوك نورماندي يدعي بأن له حق الولاية عليهم، مع أنه لم يكن له حق بولاية النورماندي، إلا أن حقوق الولاية والملك حينئذ لم تكن في أوروبا كما هي الآن.

وكان من جملة دعواه أنه قال: «إني لما سافرت إلى جزيرة إنكلترة اجتمعت بالملك إدورد فجعلني ولي عهده، وإني أنقذت الملك هرلد من سجنه، فوعدني أيضًا بنقل الملك إليَّ.» ولما عرض ما نواه على أهل النورماندي وقع بينهم الخلاف في شأنه، فمنهم من أبى أن يساعد، ومنهم من رأى في ذلك مصلحة، ومن جملة هؤلاء الدوك فتزاسبورن، فإنه جهز معه أربعين سفينة، وأمده أيضًا حموه الكونت فلاندر بمال، وكذلك البابا أعانه، وحرم كل من يمانعه، فسافر حتى بلغ ساحل صاسكس، فلقيه هرلد ملك الإنكليز بالجيوش ونشبت الحرب بين الفريقين، فقُتِلَ هرلد وأخواه، وانهزمت الإنكليز أمام وليم، فزحف بالجيش نحو لندرة وهو ناشر علمًا كان قد باركه له البابا، فدخلت الأساقفة في طاعته، وأقبلت إليه القضاة بالتاج.

فلما استوى على سرير الملك أذل الدانيزيين وأهل الجزيرة وقهرهم أي قهر، وأحسن إلى أهل النورماندي الذين أعانوه، وأجرى عليهم أرزاقًا وأقطعهم إقطاعات جمة، فمن ثم كثرت هناك عيال النورمانديين الذين لم تزل أسماء ذراريهم معروفة بين الإنكليز، قال: وكان دخل هذا الملك أربعمائة ألف ليرة، وهي تبلغ بحساب الدراهم في زماننا هذا خمسة ملايين من ليرات الإنكليز.

قال: «ثم إن الملك المشار إليه أبطل ما كان عند الإنكليز من الأحكام والشرائع، وأقام شريعة النورمانديين مقامها، وأجبر أهل الدعاوى على أن يتداعوا بلغة قومه، وكذا كتب الصكوك والأحكام، فبقيت لغته مستعملة إلى عهد إدورد الثالث، وكانت تلك اللغة فرنساوية مختلطة بالدانيزية بعيدة عن الفصاحة بائنة عن البيان، وكان مما سنه الملك على الإنكليز إطفاء مصابيحهم في الساعة الثامنة من الليل، وذلك عند سماعهم صوت الجرس، إلا أن هذه العادة كانت جارية أيضًا عند غيرهم من سكان البلاد الشمالية، وكان البادئ بها أهل الكنيسة.» انتهى.

فقد علمت مما تقدم أن علية الإنكليز هم من الغرباء الذين فتحوا هذه البلاد، فإن قلت: «إذا كان الأمر كذلك، فما بالهم يخالفون علية فرنسا والدانيمرك في الطباع وفي كونهم — كما سبقت الإشارة إليه — كالزيت لا يختلطون بغيرهم أنفة وتكبرًا؟» قلت: وما بال جو الإنكليز لا يشبه جو فرنسا، أفَيُنْكَر أن للهواء تأثيرًا في الخَلق والخُلق معًا سواء كان في الحيوان الناطق وغير الناطق؟ فلو جئت أيها الهش البش الطلق المُحَيَّا الباسم الضاحك المقهقه إلى هذه البلاد وبقيت فيها شهرين أو ثلاثة لا تبصر الشمس إلا من وراء حجاب، لأغناك الخبر عن الخبر.

وحيث قد ترفعت الكبراء من الإنكليز عمن هو دونهم من أهل بلادهم وصار ذلك دأبًا لهم وطبعًا يرثه الولد عن والده، والخلف عن سلفه، جروا على ذلك أيضًا مع الغرباء ما لم يتبين لهم أنهم نظراؤهم في الهمة والمعالي، فمتى اعتقدوا ذلك منهم لم يأنفوا من معاشرتهم، والحق يقال: إنه لا مناسبة بين علية الإنكليز وسفلتهم بخلاف غيرهم، فإن الأمير عندنا مثلًا لا يفضل الناس إلا بإمارته لا بأخلاقه وآدابه ومعارفه؛ إذ جميع الناس في ذلك متساوون، وأيضًا فحيث كانت ألقاب الشرف عند الإنكليز قديمة وعزيزة كان لها عندهم إجلال وتعظيم يفوق الحد، حتى إن إعظام اللقب عندهم أعظم من إعظام الملقب به، فإن الشريف إذا مشى مثلًا في الشوارع مع عامة الناس لم يكترث له أحد، ولم يقم له قاعد، وقد يسوغ الطعن فيه والتنديد بمعايبه، ولكن لا يسوغ الازدراء بمنصبه وجلائه لا بالنطق ولا بالكتابة.

وما أحد من الإنكليز ينكر أنه بمجرد اتصاف الإنسان بجلاء يجب له التعظيم والتكريم، ومن أعظم شاهد على ذلك نصب ضابط البلد، فإنه قد يكون من أهل الحرف والصنائع، فمتى حصل على هذا الجلاء صار مساويًا للأشراف والسادات، حتى إن سائر الوزراء والأمراء يأكلون عنده ويجالسونه، وما ذلك إلا لمراعاة جلائه، ومتى عزل رجع إلى حاله، ولم يأكل معه أحد منهم، ولو جاء بالمن والسلوى، والكلام على كيفية نصبه وعزله سنذكره في وصف لندرة إن شاء الله تعالى.

وما أحد يرتقي هنا إلى درجة سامية عن ضعة إلا هذا الضابط، فأما الوزراء ورجال الدولة فكلهم متأصلون في المجد فلا يصح عندهم أن تبتذل المراتب العالية فيقلدها صبي حلاق أو خادم جزار، والشاهد الثاني أن بعض أهل بلادنا وغيرها يقدم عليهم وعليه برذعة لقب فيكرمونه غاية الإكرام، ويبوئونه مبوأ أسنى، ومقامًا أعلى، وهو مع ذلك لا يدري أن يفوه بمدحهم ولا بهجوهم، أما الفرنسيس فإنهم إنما يكرمون اللقب إذا كان جديرًا بالملقب، ومن كان ذا معارف وأخلاق حميدة عندهم أغناه ذلك عن حِلْس الجِلاء، ولا شك أن الفضل بغير جلاء خير من الجلاء بغير فضل.

وقد كنت ترجمت نبذة من لغتنا وبعض محاورة لأجل أن يطبعها بعض الوراقين بلندرة، فلما انتهى طبعها كتب في صفحة العنوان: إنها من تأليف فلان مدرس اللغة العربية بمالطة سابقًا، ومترجم جميع أسفار التوراة والإنجيل، ومؤلف كتاب الفارياق إلى آخره، فقلت له: «ما الموجب إلى ذلك كله؟» فقال: «إن الإنسان هنا إنما يعتبر بألقابه لا بأتعابه، وخلوًّا من تعديد الألقاب لا يباع كتاب.»

ولكل عيلة شريفة من هؤلاء الرءوس لباس مخصوص لِخَدَمَتِهِم وخِدْمَتِهِم، ولهم أيضًا لهجة مخصوصة فيها لجلجة في الكلام — أو كما يقال رخاوة حنك — حتى إن اللاعبين في الملاهي يحاكونهم بها ويسخرون منهم، ولهم أيضًا تَنَطُّس زائد في مراعاة جانب العرض، فإنهم لا يقبلون في مجالسهم من علم أنه عائش مع امرأة على وجه المتعة أو السفاح، وعند الفرنسيس لا حرج فيه، وكذلك لهم تشدد في الصدق فإنهم إذا عرفوا من أحد الكذب ولو مرة واحدة سقط اعتباره من أعينهم، ومع ذلك فهم أكثر الناس عرضة للتدجيل والخداع.

(١٣-٤٨) معاشرة علية الإنكليز لزوجاتهم

ومنها أن معاشرتهم لأزواجهم أشبه بمعاشرة الأجانب، فلا يأنس أحد بشيء من الدالة بينهما، فبينهما من التحشم والتكلف ما بين الغريب وأحدهما، ولا يقول السائد عن امرأته: «زوجتي قالت أو قرينتي» بل يقول: «قالت الست»، ولا يفتح رسائلها التي ترد باسمها ولا يتطالل إلى معرفة أحوالها، وإذا أتاها زائر رجلًا كان أو امرأة جلس معها من دون حضور زوجها، وإذا كانت في حجرتها لم يدخل عليها إلا بعد أن يقرع الباب، ومتى أرادت الخروج فلا تستأذنه، وإنما تشعره به إشعارًا ولها أن تستخدم من شاءت، وأن تذهب إلى الملاهي مع معارفها، سواء كان زوجها صحيحًا أو عليلًا في الفراش، وإذا زارهم أحد من معارفهم أو أصحابهم يأتمنونه على بناتهم ونسائهم فيخرج معهن ليلًا ونهارًا، والغالب أن يكون خروجهما أولًا إلى الكنيسة ليفتح لها كتاب الصلوات والإنجيل والتوراة، وهو من أعظم التأدب عندهم، ثم يعقبه الخروج إلى الملاهي ليفتح لها باب المخدع الذي تجلس فيه، ثم إلى المنتزه ليفتح لها باب الطريق أو باب العاجلة، وهكذا تتوالى الفتوح.

وليست هذه العادة عند الفرنسيس فإنهم لا يأتمنون على إناثهم ذكرًا، وقلما تخرج البنت هناك وحدها، أو تركب الخيل وتسابق الرجال كما تفعل مخدرات الإنكليز، ولعل ذلك هو بعض الأسباب الذي من أجله تراهن ممشوقات مهفهفات، فقَلَّ أن ترى فيهن بادنة، هذا ما عدا كشف صدورهن في الولائم، ورقودهن في النهار دون الليل الذي جعله الله سكنًا وراحة للبدن، وإذا تزوج رجل امرأة وكان عليها دين قبل الزواج وجب على الرجل أداؤه، وإنما يكون ولي مالها وملكها.

واعلم أن الرجل في عرف الشرع هنا هو ولي أمر المرأة، فلا يسوغ لها أن تبرم أمرًا خطيرًا من دون إجازته، إلا أن عرف العادة والاستعمال يوجب للمرأة كثيرًا من الحقوق، والإمرة على الرجال، فإن إخضاع النساء في كل مكان وزمان أمر صعب ولا سيما في المدن الكبار التي يباح لهن فيها الخروج والزيارات، فلا يسع الزوج إلا المياسرة والملاينة لامرأته.

وعادة النساء الكبراء هنا عند السلام أول مرة أن لا يسلمن باليد، بل بإشارة من الرأس، وفي المرة الثانية بمس الأنامل فقط، وفي الثالثة بنصف الأصابع وهلم جرًّا.

وينبغي لمن أكرمه الله عز وجل بزيارة أحد هؤلاء الأمجاد والماجدات ألا يذهب إلا في وقت الزيارة المعلوم، وهو بعد الضحى، وأن يكون مجملًا باللباس الفاخر، نظيف الثياب، حالقًا شاربيه، مرجلًا شعر رأسه، باردًا أظافيره، ماسحًا نعليه، ساترًا كفيه بجلد أبيض، فإن قولنا: «المرء بأصغريه» و«لا تكلمك العَباءة وإنما يكلمك صاحبها.» و«رُبَّ حُرٍّ ثوبه خَلِق.» لا محل له من الإعراب عندهم، وينبغي أيضًا أن لا يحدق فيما يراه من المتاع والأثاث، ولا يمسه بإصبعه، فإن كل ما يكون بالمجلس حرم، ولا يبتدرُ الرجل بالخطاب، ولا يكونُ سائلًا، فإذا كلمه مولى الدار ثلاث كلمات أجاب بثلاث، وإن زاد فليزد، ولا يلزُّه في الجلوس وإن مس كوعه فصلاة الاستغفار، ويندب المشي على البساط قورًا.

ومن العيب أن يذكر الإنسان بحضرتهن اسم رجله أو ساقه أو ظهره، وأقبح من كل قبيح أن يقول: «بطني»، حتى إن لفظة البطن بلغتهم مستهجنة، ومثله الفخذ، حتى من الحيوان، وفي بعض البلاد قد تقول المرأة إذا دعوتها للأكل: بطني ملآن ولا تستحي، ولا يحكي بحضرتهن موضعًا من جسمه، ويفرض أن لا يبصق، ولا يسعل ولا يمخط، ولا يفتخر، ولا يتجشأ — والعياذ بالله — ويندب أن لا يتنحنح، ويجب أن لا يشم منه رائحة الدخان، وأعرف سيدة كانت إذا شمت رائحته في ثياب زوجها سواء كان منه أو من غيره، أجبرته على نزعها.

وقد كان دعاني بعضهم إلى أن أزوره وأمكث عنده أيامًا ليسمع مني لفظ العربية وقال لي: «قد جئتك من مكان سحيق قصد أن تنزل عندي، ولك عليَّ كل ما يرضيك.» فقلت له: لكن ينبغي أن تعلم أني أتعاطى الدخان وأن نساء الإنكليز لا يسمحن به، فقال: «إن حول الدار بستانًا، فمتى أردت أن تدخن تمضي إليه.» فقلت في نفسي: هذا أول المباحث على العنت، ثم قلت له: «إذا طلبته في الليل فهل أقوم من الفراش وأحمل اللحاف إلى البستان؟» قال: «بل تدخن في حجرتك.» فأجبته إلى ذلك وسافرنا معًا فلما بلغنا منزله سلمت على زوجته، فكان أول ما خاطبتني به أن قالت: «طب نفسًا من جهة تعاطي الدخان، فإنا ننظف الحجرة منه كل يوم.» فاستدللت من ذلك أنه كتب لها قبل سفرنا في هذا الأمر الجلل.

وإذا زارهم أحد أول مرة، ولم يكن من معارفهم، فلا بد من أن يعطي الحاجب تذكرة مكتوبة باسمه، فيناولها الخادم سيده في صحفة من الفضة أو البلور، ولا يكاد يدخل عليهم زائران في وقت واحد، وقد يكون عند البواب دفتر يكتب فيه أسماء الزائرين في كل يوم، وفي الجملة فإن معاشرة هؤلاء الرءوس تتعب الرأس والرجل معًا، وتضيع كثيرًا من الوقت والمال، وربما دعاك أحدهم إلى غداء فقام عليك ذلك الغداء ثمن عشرة أغدية.

(١٣-٤٩) مما يحمد من نبلاء الإنكليز

ومما يحمد من هؤلاء النبلاء أنهم لا يضعون في أرديتهم سمات الشرف ويطوفون به في الطرق تهويلًا على العامة كما تفعل نبلاء فرنسا، وإنما يتحلون بها في أوقات معلومة، وكذلك الخواتين لا يتحلين بالحلي والجواهر إلا في الولائم والسهريات ونحو ذلك، ومن ذلك خطابهم خَدَمَتَهُم بالرفق واللين، وإن أظهروا عليهم العجرفة والعنجهية فالمخدومة تقول لخادمتها إذا أمرتها بأن تناولها شيئًا: «هاتي هذا الشيء إن أعجبك.» وبعد أن تأخذه منها تشكرها، وربما تباخلت عليها في الأكل والشرب وأرضتها بمثل هذا الكلام الطيب فيطيب خاطرها.

ومع هذا الرفق والملاطفة فلا تزال المخدومة متباعدة عن الخادمة ومظهرة لها فرق المقامين وتباين الشأنين، فلا تدل عليها بشيء، وإذا غضبت عليها فلا تكلمها بكلام يشف عن سفاهة وخروج عن حد الأدب، كأن تقول لها مثلًا: «يا فاجرة يا بنت الكلب» كما تقول نساء بلادنا عند أدنى باعث، أو أن تحرق عليها أسنانها، والعادة عندنا بخلاف ذلك فإن المخدومة تلعن الخادمة وتشحنها بحضرة الناس، ثم تلقمها وتعلفها وتنبسط معها في الكلام، وتستعين بها على تنفيذ هواها وتطلعها على أسرارها.

ويحمد أيضًا من عاداتهم أنهم إذا استخدموا شخصًا لسنة، وأرادوا صرفه لغير ذنب، نبهوه من قبل صرفه بثلاثة أشهر، وعند الفرنسيس ينبهونه من قبل بثمانية أيام، كذا في غالنياني، فأما إذا كان مشاهرة فينبهونه قبل صرفه بأسبوع، أو أدوا إليه أجرة الشهر، وصرفوه، ومن يستخدم في الميري أو عند جمعية وأبلى في خدمته، كان على ثَلَج من أن يزاحمه آخر على محله ولو بأجرة أقل، وكل هذه المحامد معدومة في بلادنا، فإن المخدوم يطرد خادمه بلا ذنب ولا مكافأة.

كبراء الإنكليز وغريب طباعهم

ولبعض كبراء الإنكليز طبع غريب لا أدري إلى أي شيء أنسبه، وهو أنه إذا باشر لهم أحد عملًا لم يخطر بباله أن خدمته له إنما هي عن حاجة ألجأته إلى إخلاق ديباجتيه، فيأتي عليه حين من الدهر من غير أن يسأله هل أنت محتاج إلى الدراهم أو لا؟ ولكن اسمح لي أيها المخدوم الأعز الأغر أن أترجم لك عن هذا الطلياني الذي يعلمك الألحان، وعن ذاك الفرنساوي الذي يعلمك الرقص والتصوير، وعن ذلك النمساوي الذي يعلمك فلسفة اللغات، فإني أخشى أن الأول يضيف إلى كل كلمة من لغتك حرف علة، والثاني ينقص منها الحرف الصحيح، والثالث يبدل ويقلب، فإنه يرى أن لغتك فرع من لغته، فلا يبالي كيف يؤدي إليك المعنى، فيشكل عليك فهمه، بل دعني أكلمك بلسان عربي مبين حتى يكون كتابي كله من نفس واحد، وما على صِمَاخك اللطيف الشريف من حروفه الحلقية من بأس.

فأقول: «أي لذة ترى لمعلمك منهم في مجيئه إليك تحت المطر والثلج من مسافة ساعة فأكثر، فيحوج إلى أداء شلين جعل الحافلة وإلى أن يضغط بين القاعدين فيه، ثم بعد أن يخرج منه سالمًا يمشي ربع ساعة فيوسخ الوحل نعليه، وتكسر الريح ظلته، ثم يأتي فيقرع الباب فيخرج خادمك إليه وينظر إليه، كالمستخف به؛ إذ يرى نعله قد ابتلت وظلته مفتوحة، فإنه قد نقل عنك بالإسناد أن كل من يعيش بيديه ويمشي على رجليه لا يكون «جنتل مان»؛ أي متخصصًا متصفًا بصفات الخاصة، ثم يعرض عليك ما أقدم الآتي إليك من دون أن يذكر اسمه، وإنما يذكر صفاته، بأن يقول: بالباب رجل مبتل النعلين مفتوح الظلة مشعث الرأس.

وحينئذ تأمره بأن يأذن له في الدخول، فأمعن النظر — هداك الله — يتبين لك أن من كانت هذه حالته كان جديرًا بأن يأخذ في غاية الشهر أجرته وحق عرق جبينه أو قرقرة أمعائه من البرد، لعمري ليس هذا دأب جيرتك الفرنسيس، فإنهم وإن لم يؤدوا أجرة العامل لهم كما تؤديها أنت إلا أنهم لا يغفلون عنه، فيعرضون عليه ما يلزمه قبل اللزوم أو عند وقته.» وأقبح من ذلك أنه إذا سأل العامل المعمول له من هؤلاء السادة أجرته انقبض منه واقشعر، ولا سيما إذا كان المبلغ قليلًا.

وهنا ينبغي أن أذكر أن الناس ما زالوا يروون عن الإنكليز أنهم إذا استخدموا مثلًا معلمًا أو غيره لا يسألونه عن أجرته أولًا وإنما يسألونه أخيرًا ويؤدونها إليه كما يطلب، وأنهم يوفونها أكثر من سائر من عداهم من الإفرنج، وأن العامل إذا اشتغل لهم بشيء ساعة ما من النهار أغناه ذلك عن التعب يومًا أو يومين، فينبغي أن تعلم أن الإنكليز كانوا من قبل اختراع البواخر أَنْخَى وأسخى منهم الآن، فإن مجيء الغرباء إلى بلادهم كان إذ ذاك نادرًا؛ فكانوا يحتاجون إلى أن يأخذوا عنهم ما ليس عندهم منه.

وكثير ممن قدم إليهم في ذلك الوقت مخرق عليهم، ولبس ورجع غانمًا، فأما الآن فما برحت الغرباء تتوارد إليهم من كل فج، وصاروا هم أيضًا يجولون في جميع البلاد ويطَّلعون على أحوالها، ويشهرون معلوماتهم فيها في الكتب وفي صحف الأخبار، فصاروا لا يخفى عنهم ما يناله الغريب في بلاده، وأصبحوا يشارطون ويستحِطُّون من الطلب، وصار عندهم كثيرون من الغرباء، فربما رضي أحدهم بأن يأخذ على شغل ساعة شلينًا واحدًا وما بين ذهابه وإيابه يضيع ساعة فأكثر.

وهذا الطمع في الاستغناء من الإنكليز قد غر كثيرًا من الناس، فاستفزهم من ديارهم حتى قاسوا في هذه البلاد من الجهد والعناء ما رضوا به من الغنيمة بالإياب، حتى إن أهل إرلاند مع قربهم من الإنكليز ومخالطتهم لهم يتركون بلادهم ويقصدون إحدى مدن الإنكليز، وعمدتهم تلك الأماني الفارغة، ويحكى عن أحدهم أنه قدم إلى لندرة على نية أن يصيب فيها الحظوة والسعادة، وكان فقيرًا جدًّا، فاتفق يوم دخوله أن عثر بدينار مرمي في الطريق فالتقطه ووضعه في جيبه، ثم لم يلبث أن اعترضه فقير فأعطاه الذهب، وقال: خذه مباركًا عليك فإني لأرجو أن أجد من ضربه كثيرًا.

(١٣-٥٠) تهكم الإنكليز من الإرلانديين

ولأهل إرلاند حكايات كثيرة مضحكة وأقوال متناقضة يرويها عنهم الإنكليز تهكمًا بهم، منها: أن امرأة قالت لرجل همَّ بأن يقعد على كرسي: «لا أقدر أن أستغني عن إحدى هذه الكراسي الفارغة؛ لأنها جميعها مشغولة.» وسأل رجل منهم رجلًا آخر: «هل رأيت أنحل من هذه المرأة؟» فقال: «لعمري لقد رأيت مرة امرأة لو أنها جعلت مع هذه ومع أخرى إليها، لكانت أنحل منهما معًا.» واشترى رجل ساعة بثمن غالٍ، فسأله بعض أصحابه عن سبب ذلك فقال: «إن لهذه الساعة فوائد عظيمة، منها أني متى أردت أن أقوم في الليل جذبت حبلًا بها فتطن فأسمع صوتها.» وقيل مرة لرجل: «قد اختُرع كانون يخف به نصف مصروف الفحم.» فقال: «إذن أشتري كانونين ليخف المصروف كله.»

وكتب بعضهم كتابًا من أميريكا إلى صديق له في بلاده يقول فيه: «أخبرك بأني قد انتقلت من المحل الذي أنا فيه الآن، ولولا ذلك لكنت كتبت إليك من قبل، وما كنت أدري قبل الآن أين يلقاك كتابي هذا، ثم إني أمسكت القلم اليوم لأبلغك خبر موت خالك الحي الذي مات بغتة بعد مرض طويل لازمه نحو ستة أشهر، وكان فيه يتلوى ويتشنج وهو في غاية السكون، ولا يتكلم بل كان يهذي ويلغو، ولست أدري سبب موته، غير أن الطبيب يظن أنه مات من المرض الذي اعتراه؛ لأنه بقي عشرة أيام نفساء، أما عمره فتعلمه أنت كما أعلمه أنا وهو خمس وعشرون سنة إلا خمسة عشر شهرًا، ولو أنه عاش إلى هذا الوقت لكان مات منذ ستة أشهر. «تنبيه» والآن أرسل لك عشر ليرات أرسلها لك والدك من دون معرفتي، وكانت أمك تريد أن ترسل إليك بقرة فلولا قرونها لضمنتها في هذا الكتاب، والمرجو منك أن لا تفض ختم هذا الكتاب إلا بعد قراءتك له بيومين أو ثلاثة، فإنك تكون عند ذلك أكثر استعدادًا لسماع هذا الخبر المحزن.»

(١٣-٥١) عودة إلى غريب طباع عليتهم

عود إلى ما كنا فيه، وقد يكون أحد هؤلاء العلية مديونًا لشخص، فيسافر إلى بلاد بعيدة من غير أن يؤدي إليه حقه، وقد يكون له وكيل أو صديق ولا يوكله عنه في ذلك، فإذا سأل الرجل وكيله عن سبب سفره قال له: «قد كان يريد أن يراك قبل ذهابه، لكن العجلة اضطرته إلى السفر بغتة، وقد صعب عليه ما جرى.» وهذه الخصلة أعرفها منهم في مالطة أيضًا، وليست ناشئة عن طمع في أكل الدين أصالة، وإنما هي عن عدم المبالاة والاكتراث، وعن الاعتماد على صدقهم ووفائهم وعلى مقتضيات «الجنتلمانية»، ولكن ما معنى «صعب عليه» هنا أو «حزن» أو «اكتأب» أو «كَمِدَ» أو «تَرِحَ»، أو كل مرادفها، وهو لا يدري متى يعود من غيبته، والرجل محتاج إلى أجرته أو ثمن حاجته.

ومن طبعهم أيضًا أن لا يسمعوا تظلم الغريب من أحدهم ولا سيما إذا كان المتظلِّم دون المتظلَّم منه، وإن كانوا يعلمون لهذا سابقة في الشطط على بعضهم، وإذا استلمحوا من الشكوى نورًا يريهم أن كل بشر مَظِنَّة للخطأ والقصور، فإنما يكون ذلك في جهة الشاكي لا المشكو منه، وهذه الخُلَّة من جهة هي صِنْو تلبثهم في اللوم على ما تقدم، ومن جهة أخرى هي من قبيل التعصب والزيغ.

ولهؤلاء الكبراء حب للسمعة يفضي إلى قسوة القلب، فإن أحدهم قد يهون عليه مثلًا أن يعطي الجمعيات الدينية ثلاثمائة ليرة في السنة، وإن كان لا يعلم بأي وجه من وجوه البر تُصرف، أو لأي مقصد تُستعمل، وإذا مرت به امرأة فقيرة حافية تحمل رضيعين، وعلى وجوههم سمة الانكسار والجوع، لم يختلج قلبه لأن يجود عليها بدرهم واحد؛ حيث يعلم أن المرأة لا دفتر لها تكتب فيه اسمه وتنشره على الملأ كما تفعل الجمعيات.

ومن طبعهم وطبع العامة أيضًا أنهم يشمئزون من أن يسمعوا من الغريب تعييب عاداتهم ومنكر أحوال بلادهم، وإنما ينبغي أن تنتظرهم حتى يخوضوا هم في ذلك، ولا شيء أسوأ عندهم من أن يفصل الغريب عن بلادهم وفي قلبه شيء عليهم.

(١٣-٥٢) نفوذ سيدات الإنكليز

واعلم أن للسيدات هنا نفوذ كلمة بالغًا جدًّا ولا سيما في الأمور التي يشم منها رائحة الديانة، والذريعة إلى إمالتهن وإرضائهن لمن حاول ذلك كما فعل بعض الطمعين، هي أن يقول لهن: «ما أعجب ما أرى من أحوال نساء هذه البلاد المباركة، وما هن عليه من حسن الأخلاق والفضائل الباهرة، فإن نساءنا يجهلن القراءة والكتابة ولا يعرفن ما يجب عليهن لله وللعباد، فمن أجل ذلك لا يحظين عند بعولتهن، فعيشة الرجل مع زوجته عندنا عيشة خصام ونقار ومقت ونغص ونكد وكمد، ألا ليتكن تتعطفن عليهن وتنشئن لهن مدارس لتربيتهن وتهذيبهن، فتكسبن بذلك الثواب من الله والثناء من الناس.»

وما أشبه ذلك من الكلام الحامل لهن على الاعتقاد بأفضلية أنفسهن، فينظرن إلى ذلك القائل نظر الرفيق الشفيق، وينزلنه منزلة رسول من الله لإنقاذ نساء بلاده من ورطة العَمَه والجهل، ويعتقدن أنه متى رجع إلى وطنه أذاع بين الناس محامدهن، وهو — أي ذلك الأصيل الذي فعل هذا والمقتدي به — قائل في نفسه: «ألا ما أهون خدعتكن عليَّ مع وجود أضابير كتب متنوعة في خزائنكن، ايم الله إن جميع ما عندكن من التحف والأسفار لا ينفعكن من دهائي شيئًا، فإن الدهاء ملكة غريزية في الإنسان لا تؤخذ عن الكتب.»

وهكذا ينوهن باسمه، ويصبح عندهن معزوزًا مكرمًا، فتدعوه واحدة للصبوح، وأخرى للغَبُوق، وكذلك إذا ألقى مثل هذا الحديث على أحد من أهل الكنيسة، فإن بين القسيسين والمرأة لا يعدم الإنسان هنا أن ينفذ مخاريقه، وإذا اجتمعا له كان ذلك من سعده، وإذا كان في خلال إطرائه هذا يتنهد ويزفر وتغرغر عيناه بالدموع، كان أَنْجَعَ وأبلغ، ثم ما عليه بعد ذلك أن يقهقه أو يحنبش فإن للضحك وقتًا وللبكاء وقتًا، وهذا التدجيل لا يغني عند الفرنسيس نقيرًا.

هذا؛ وإني سمعت من كل من عاشرته وقد عاشر الإنكليز أن يصفهم بالكبر والعجرفة، ولكن قبل إثبات هذه الدعوى ينبغي أن تعلم أن الكبر على أنواع؛ الأول: أن يكون ظاهر سحنة الإنسان منفرًا عنه ناظره لعدم طلاقة وجهه، فيظن الناظر إليه أنه لا يتكلف لمخاطبته، والثاني: عدم قبول النصح والافتئات برأيه وقوله وإن علم أنه غير مصيب، والثالث: أن يكون طلق المحيا لين الجانب، يرغب في مجالسة الناس، ولكن أول ما يبسط بساط الحديث بينك وبينه يطفق يعدد عليك محاسنه وفضائله وفواضله، ومآثره ومناقبه، فإذا كان مثريًا قال: «إني أنفق في الشهر كذا، وأتصدق على الفقراء بكذا، وكنت بالأمس مارًّا في طريق كذا، فسألني فقير شيئًا، وحيث لم يكن معي فلوس بذلت له دينارًا، وإني لا يبلى عندي شيء مما ألبسه، فإني أخلعه على هذا وذاك، وإن عندي من المتاع كذا، وكل يوم آكل كذا، وأضيف أناسًا وأقريهم الطُّرَف التي يعز وجودها في هذه البلاد، فإن لي عمالًا في البلاد الخارجية يبعثونها إليَّ في كل عام، أما الكتب فلم أُعْنَ بها إذ لست أملك فرصة للمطالعة لكثرة الشواغل والموانع.»

وإن كان جميلًا قال: «إن فلانة هامت في هواي، وتركت أهلها حبًّا بي، وآلت لتصحبنني أو تموت، وإن زوجة فلان أهدت إليَّ من التحف كذا، وأرسلت إليَّ من الرسل والرسائل كذا، وإن ابنة فلان دعتني إلى أن أخطبها وهي تملك كذا ولم أجبها، ولا أدري كيف ينتهى بها الحال؟ وإني مشفق من أن يلم بها عارض من الجنون، فأكون أنا سبب ذلك.» وهو مع كل هذا الإفجاس والجزاف بكذا مقبل عليك وباش بك ويزيدك إدناء من جنابه لكيلا يفوتك شيء من هذه الفوائد التي يلقيها عليك.

ومن كان قد قرأ بعض أشعار، وسمع من أهل العلم مثلًا أن الشعر منقبة سنية، تصدى إلى أي نظم كان، فإذا رأى طائرًا في الجو نظم فيه قصيدة، وإذا تزوج أحد في بلدة نظم فيه تواريخ، وإذا توفي أحد قال: «قد غاض بحر الكرم، ودكت أركان المعالي، وذوت رياض الفضائل، وأفل نجم الهدى، وخسف بدر المجد، وكسفت شمس الفضل.» ثم لا يزال يطلع في عاجله النبي إلياس حتى يصل إلى الفلك الأثير، ويعدد جميع ما هنالك من النجوم، وينتزع منها كفنًا لمرثيه، وما ذلك إلا حتى يقال عنه إنه شاعر.

ومنهم من إذا حفظ نادرة أو حكاية أو مسألة رأيته يتشدق بها في كل مقام ويضغطها بين كل مورد ومصدر، حتى يقال عنه ما شاء الله.

ومنهم ما إذا أطلعته على غلطة، أومأ إليك برأسه وقال: «قد فهمت قد فهمت.» فتقول له: «كيف تكتب المرة الآتية؟» فيقول: «لا أكتب غلطًا.» فتقول: «ولكن بيِّن لي كيف تجتنبه.» فيقول: «أكتب ما يكون صحيحًا.» فتقول: «أطلعني عليه» فيقول: «حين أكتب أعرف ما ينبغي أن يُكتب.» ولا يزال يكابرك تَصَلُّفًا وعنادًا حتى تمل منه.

ومنهم من يزورك، وأول ما يستقر به المكان يأخذ في أن يشكو من كثرة معارفه، ويتأفف من كثرة ما يُدعى إلى ولائمهم ومراقصهم، ويتسخط على الولائم والمولمين، مع أنه لم يحصل على معرفة هؤلاء المعارف إلا بعد استعمال وسائط لا تحصى، وهو يقول في قلبه: «أدام الله دولة هذه المآدب، وأعلى شأن الآدبين؛ فإنهم أنفع من الأدب والمتأدبين، وإني أذهب إليهم وأنال من أطايب طعامهم وشرابهم، وأَمْخرق عليهم، فتارة يضحكون من خزعبلاتي، وتارة يحبذونني، فأرجع إلى وكري خالي البال ممتلئ الأمعاء.» ومنهم من يكون له قفص خادم، فيدعوه أن يجوربه، ويلبسه نعله بحضرة الناس، ويكلفه أن يحمل دورقه ودواته وجبته وعصاه وقصبة دخانه، ويمشي وراءه كأنه حمار موقور، وذلك حتى يقول الناس: إن السيد ذو خدم وحشم.

ومنهم من يتواضع لجليسه وسامعه ويعتذر إليهما فيقول: «لا تؤاخذني يا سيدي بما تسمع مني من اللحن، فإني لم آخذ النحو عن أحد، ولم يطاوعني الوقت على أن أتعلم اللغة كما يجب، وإنما عرفت ما عرفت بالدربة والممارسة.» وهو عند ذلك ينتظر من سامعه أن يقول: «حاشا لك أن تلحن في شيء وأنت العلم المشار إليه بالعلم والبيان، وأقسم أني لم يطرق مسمعي شيء أبلغ من كلامك، فأنت قُسُّ الفصاحة وسَحْبَانُ البلاغة، وأنت الذي تروى عنه نوابغ الكلم، وتؤخذ عنه جوامع الحكم، فيا ليت لنا في بلادنا من يأخذ عنك هذه البدائع كي لا يضيع العلم من بيننا، فأدام الله وجودك، ومتعنا ببقائك السعيد، آمين.»

ومنهم من يقول: «إن شأني يا جماعة الخير أن لا أرى عليَّ لأحد دينًا أو لومًا أو منة، ولو بت وعليَّ لأحد درهم واحد لم تأخذني سنة ولا نوم، وقد طالما حاولت أن أغير طبعي هذا بطبع من طباع الناس فلم أقدر.» وهو مع ذلك يترقب جماعة الخير أن تقول له: «نعم هذا الطبع، لله سجاياك ما أكرمها! وخلائقك ما أعظمها! فيا ليت الناس جميعًا يقتدون بك.» ومنهم من إذا كتبت إليه كتابًا تسأله عن شيء، ضَنَّ عليك بجوابه؛ إذ يراك غير أهل له.

ومنهم من إذا رآك قد فتحت فاك للحديث معه، أو مع جليس آخر، ابتدر إلى قطع حديثك المفيد بأن يحكي حكاية سخيفة عن نفسه، أو عن أهله وخادمه، ومنهم من يماريك في الحق الصريح، ولا يذعن لبرهانك، وإن كان يعلم أنه دونك في الجدال، وآخر الكلام بينك وبينه هو أن يقول لك: «كذا كان رأيي، وهذا هو قصدي.» فيوهمك بذلك أنك كنت من الزائغين، وأنه من الراشدين، وذلك حتى يكون آخر الكلام إليه.

ومنهم من يجادلك ويعارضك فيما لا يورثه فخرًا ولا يكسبه ذكرًا، ولكن لمجرد إظهاره إياك غالطًا، فإذا سألك مثلًا: «كيف أنت؟» وقلت له: «بخير وعافية.» قال لك: «ما أراك تدري ما العافية، فإني لا أرى أثرها عليك.» فتقول له: «كيف وإني والحمد لله متمل بصحتي ويمرئني ما آكل وأشرب، ويهنئني منامي وجلوسي؟» فيقول: «ما هذا معنى العافية عند المحققين، وإنما هي أن تمشي منتصبًا غير لاوٍ على أحد أو شيء تراه عن يمينك ولا شمالك، موازنًا لخطواتك شامخًا بأنفك مصعرًا خدك.» إلى آخره، ولو جئته بجالينوس والفيروزآبادي ليطلعاه على حد العافية وتعريفها لم يقنع منك.

ومنهم من إذا غاب يومًا عن وطنه قال لمن يجهل حاله: «إن أبي كان رئيس المنشئين في الديوان، وعمي كان وزير الأمير، وخالي سميره، وإني إنما قدمت بلدكم للتنزه والتفرج.» وما أشبه ذلك. ومن هؤلاء المفجسين من إذا لم يجد مجالًا في نفسه للمدح افتخر بأبيه، أو جده، أو عمه، أو بداره، أو ببلدته، واعتقد أن كل شيء يضاف إلى ضميره يعجب الناس، وقد سمعت مرة واحدًا من هؤلاء المفتخرين يقول: «قد جرحت إصبعي بالأمس، فخرج منها دم أحمر قانٍ أعجب وعجب جميع الحاضرين.» ومنهم من يستفزه العسر والضنك إلى أن يغادر وطنه فيقصد أمير بلدة أو شيخ قرية، ويلثم يديه ورجليه ويتضرع إليه أن يُؤْوِيه أيامًا ريثما يجد مقامًا، فإذا رأيته والحالة هذه وسألته عن مقره أجابك بأن الأمير فلانًا دعاه إلى النزول بداره وأمسكه عنده، ولا يريد أن يطلقه كلفًا به.

ومنهم من يروعك بمخطته الشديدة، فتظن أن المكان تزلزل منها، أو بتجشئه الذي يسمع له صد، ومنهم من إذا حييته في الضحى شخَر وزمجر وفتل شاربيه وزفر، وأوهمك أن الوقت سحر لا ينبغي فيه اللقاء والسمر، وقس على ذلك من يزكي حرفته ويفتخر بصنعته إلى ما لا نهاية له، فإذا تقرر ذلك، فاعلم أن كبر الإنكليز هو من النوع الأول، وهو أنك تنظر فيهم الأنفة وكُلوح الوجه، ولكن متى خاشَبْتَ منهم أحدًا تبين لك أنه لا فخور ولا فيَّاش، فمن كان دخله في العام ١٠٠٠٠٠٠ ليرة، أوهمك أنه مثلك إذا كنت مثلي ذا هم في المعيشة ونصب، ومن يكون عنده ألفا كتاب مثلًا فإذا قلت له: ما أكثر كتبك! قال لك: «لعلي أسرفت في شرائها، وما كان ينبغي لي هذا» مع أنه لو قال لك: «إني قادر على شراء ضعفيها» لكان من الصادقين.

ومن كان منهم يحكي البدر جمالًا — كقول شعرائنا — لن ينبس بكلمة تدل على أنه فتن امرأة بحسنه، ومن يكن مضطلعًا بالعلوم والفنون، فإذا سألته عن شيء لم يجبك إلا بعد التروي، ولا ينسب إليه حل المشاكل واستخراج المجهول، وإذا سألته عن شخص يدعي العلم ويؤلف ما لا يرضى به العلماء، قال: «لعله استعجل فيما ألفه، ولم تمكنه مراجعته، وقد يكون مع المستعجل الزلل.» فلا يعيا عن أن يجد له عذرًا يستر به عيبه.

ومن يكن في أعلى المراتب لم يستنكف أن يجيب من يسأله أيًّا كان، فقد تبين لك أن كبرياء علية الإنكليز إنما هي في وجوههم أكثر منها في ألسنتهم وقلوبهم، وإن وسم الناس إياهم بالعجرفة مطلقًا ليس في محله، إلا أني لا أنفي عنهم الاتصاف بعزة النفس وترفيعها عن أن تذل لغيرهم، وهو من الخلائق المحمودة لدى جميع الخلائق، فأما كبر السفلة منهم فهو إبداء العبوس أيضًا مضافًا إليه عدم التأدب في الكلام والحركات ونبرهم في الخطاب وسوء الضحك واللقاء والمُنْقَلَب وهلم جرًّا.

(١٣-٥٣) أنواع الكذب

هذا؛ وكما اشتهر عن الإنكليز الكبر كذلك اشتهر عنهم الصدق، ولكن ينبغي أن تعلم أيضًا أن الكذب على أنواع؛ أحدها: نيئ مائع، وهو الذي اتصف به أهل البلاد المشرقية؛ وذلك كأن يعدك الإنسان بالحضور في الساعة الفلانية ثم يخلف، أو يعدك بقضاء حاجة وفي قلبه أن لا يقضيها، أو أن يسافر إلى إستانبول ويقول: إن مؤلف كتاب الساق على الساق قد ضغط بين عاجلتين فانكسرت ساقاه جزاء له بما عنون كتابه به، أو أن تكون قد أرسلت له كتابًا فينكر وصوله تملصًا من لومك له، أو أن يقول لك: «قد أطريت عليك البارحة عند فلان، فهو يبلغك السلام ويدعوك إلى منزله.» فإذا سرت إليه وجدت الأمر بالعكس، أو أن يقول: «قد نويت أن أسافر غدًا إلى المشرق.» ثم يسافر إلى المغرب، وغير ذلك مما لا يجدي نفعًا.

والثاني: كذب مطبوخ ناضج جامد، وهو ما تستعمله تجار الإفرنج، فيكتبون مثلًا على بضائعهم أنها من أنفس الأشياء، وأنها صنعت باختراع آلات جديدة أحدثت عن طول تبحر في علم الهندسة والكيمياء، وأن لُحْمَة هذا الثوب من الهند وسداه من الصين، أو أنه سلطاني أو ملكي أو أميري أو وزيري أو مَوْلَوِي ونحو ذلك، فهذا الشعار لا تأنف الإنكليز من أن تتردى به لجر منفعة به إليهم، بل هو المراد عندهم من التمدن، وإذا علموا أن جيلًا أمهر منهم في شيء نسبوا إليه ذلك الشيء الذي يصنعونه هم ترويجًا له، والثالث: كذب متبل حريف محرق، وهو التغرير والنميمة والإفساد بين محبين أو خليلين لؤمًا وحسدًا، وهذا أيضًا يكاد أن يكون من خصوصيات بعض المشرقيين.

(١٣-٥٤) نظرتهم إلى الغني

ثم إن الغني وإن يكن شأنه أن يجتذب إليه قلوب الناس في جميع الأمصار والأعصار، وأن التجمل باللباس يورث المرء هيبة وجلالًا حيثما كان، وعلى ذلك قول بعضهم: «لقد اجتهدت في أن أنظر إلى الغني بالعين التي أنظر بها إلى الفقير، فلم أقدر.» أو كما قال الفاضل كولد سميث: «إن الغنى مرادف الحرية في كل مكان.» إلا أن الغني عند الإنكليز شعار على الجدارة والاستحقاق لكل شيء، فالغني عندهم يمكن له أن يرفع دعواه إلى مجلس المشورة، ويطلق امرأته لعلة الزناء حقيقة أو ادعاء، والفقير لا يمكنه، وله أيضًا جدارة بأن يكون ضابط البلد، ومن أعضاء مجلس المشورة المؤلف من نواب الأقاليم، وأن يشتري وظيفة من الديوان في العساكر البرية، فيكون قائد مائة أو ألف أو عشرة آلاف، وأن يدخل في المنتديات — أي الكلوب — وهناك يجتمع بالعظماء وذوي الشرف.

فإذا رأوه على تلك الحالة لم يتلبثوا أن يدعوه إلى منازلهم، فإن كان عزبًا خطب إليهم إحدى بناتهم أو أخواتهم، أو كان متزوجًا زوج ولده من إحداهن، فاستقطر بأنبيق ديناره دمهم الشريف في دَنِّ نسبه — ويا لها من غبطة — وله أن يتوسل إلى نجي صاحب الملك بالهدايا والطرف، فيستنزل له وعل جلاء شريف من شرفه ولو كان يهوديًّا، وله استطاعة على أن يستعمل أمهر فقهاء الشريعة في تبرئته إن كان معيبًا ومدعى عليه، أو استخلاص حقه إن كان مدعيًا، فيصيرون له النور ظلامًا والظلام نورًا، وأن يستخدم كتاب الحوادث فيشيدون بذكره وينوهون بمناقبه، وأن يستخدم أحذق الأطباء لحفظ صحته العزيزة، وأن يحضر طعامه وشرابه من جميع البلدان القاصية إنماء في بدنه وتصفية لذهنه، وأن يضع أولاده في أحسن المكاتب، إلى غير ذلك من المنافع التي لا يحوزها الغني في بلادنا، ومن ليس له غنى في هذه البلاد فلا يحسبن نفسه من الناس.

هذا؛ وقد جرت العادة في كل مكان بأن السعيد الغني لا يزال يبدو للناس فتى، فإذا مات وهو ابن خمسين سنة مثلًا أسفوا عليه، وقالوا: «وا حسرتاه فقد مات عَبْطة، ولعل بعض حساده قد سمَّه.» وكذا لو تزوج في ذاك السن أو سافر، استحسنوا فعله، ولو أنه لحمقه كان يصيف في مشتى، ويشتو في مصيف مدة طويلة، ثم جعل المصيف مشتى، والمشتى مصيفًا لقال للناس: «إن رأي هذا السعيد ما زال رشيدًا، فإن الزمان قد انقلب والحال حال.» فكل شيء يليق به، بخلاف الفقير الشقي، فإنه إذا مات وهو كهل قالوا: «لا بد لمثله أن يموت.» وإذا سافر أو تزوج عرَّض نفسه لاستهزاء الناظر والسامع به.

(١٣-٥٥) منافع العلم

وما قلته في منافع الغنى هنا لا ينفي منافع العلم على الإطلاق؛ فإن من برع عندهم في علم وإن كان وضيع النسب فلا يعدم أن يرى من يرفعه من خموله ويستفيد بعلمه، غير أن العلم عندهم لا يكون بمعرفة قواعد النحو والصرف أو بنظم قصائد، وإنما هو مطالعة اللغتين اليونانية واللاتينية، ومعرفة أدبهما، ومعرفة التاريخ والفلسفة والهندسة والرياضيات، فمن حصَّل ذلك فقد قبض على مفتاح الرزق، ومن اخترع شيئًا مفيدًا فقد استغنى به؛ وذلك إما أن يبيعه لأحد من الأغنياء بجُعْل وافر، وإما أن يستبد بصنعه؛ فلذلك كان العلم في أوروبا دائمًا مورد الاستنباط والابتكار، بل كثير منهم يحرزون به لقب الشرف.

(١٣-٥٦) ميراث الكبراء والنبلاء

ومن عادة الكبراء والنبلاء أن لا يورثوا جلاءهم وأملاكهم إلا للابن البكر، فإن شاء أعطى إخوته، وإن شاء حرمهم، ففي هذه الحالة يلتزم الأهلون أن يقوموا بكفايتهم، وإذا كان البكر مسرفًا فبذر أموال أبيه، اشترى له أصحابه أو أهل البلاد ولإخوته وظائف من الدولة، أو تبعثهم إلى البلاد الخارجية، والحكمة في توريث البكر دون غيره هو إبقاء الجلاء في العيلة، وصون ناموس البيت، وإذا تقدم الابن بنت بقي له حق اللقب والوراثة، هذا إذا كان التراث عقارًا، فأما إذا كان حصص مضاربة مثلًا أو أشياء متنقلة، قسم بين الإخوة.

(١٣-٥٧) ما يحمد من الكبراء ويذم

ومما يحمد من الكبراء ومن ذوي المراتب السامية هنا أنهم لا يتداخلون في التجارة، ومن منكر عاداتهم أنه إذا دخل أحد على جماعة من هؤلاء العلية، ولم يكن يعرف منهم غير واحد فقط، لم يسلم إلا عليه، ما لم يعرفه بهم صاحبه، ويقول له في شأن كل منهم هذا فلان، إلا أن هذا التعريف لا يلبث أن يصير تنكيرًا، فإن من تعرفه في المجلس لا يلتفت إليك إذا رأيته في الغد في محل آخر، فأما إذا دخل على قوم ولم يكن يعرف منهم أحدًا فلا يحيي مطلقًا، بخلاف عادة الفرنسيس، فإن من يدخل على جماعة أيًّا كانت يضع يده على رأسه أو ينزع برنيطته احترامًا لهم، وكذلك إذا خرج وإن لم يكن يعرفهم.

ومن تعرف عند الإنكليز بأحد أفراد العائلة مثلًا، وتردد عليه، فإن لم يُعَرِّفه بأبيه وأمه وإخوته فلا يسلم عليهم إذا رآهم داخلًا، فلا يلام على تركه ولا يحمد على فعله.

وإذا استخدم أحد جارية ولقي أباها وأمها لم يسلما عليه، هذا؛ وقد تقدم أن الغني يمكن له أن يطلق امرأته برفع دعواه إلى مجلس المشورة، فإن الطلاق من الأمور الصعبة هنا، ولا يمكن رفع دعوى مثل هذه إلا بمصاريف وافرة لا تنقص عن أربعمائة ليرة، إلا أنه بعد تحرير هذا الكتاب أبيح الطلاق للعامة من دون مصاريف، فإن مجلس المشورة رأى ذلك أصلح للرعية، وهو الرأي الأسَدُّ.

وبقي هنا أن نقول: إن رؤية الزوج زوجته مع رجل أجنبي في حجرتها تكفي في أكثر الأحوال لإثبات الزناء من دون «رؤية الميل في المكحلة وأربعة شهود عدول»، كما يقتضيه الشرع الإسلامي، وهذا من دون هذا الوجه سديد، فإن الطلاق لما كان في الشرع مباحًا، ضيق على الرجل في إثبات الزناء على زوجته، وحيث كان محظورًا في شرع النصارى إلا لأجل الزناء، فيسمح للرجل في إثبات الزناء عليها بمجرد خلوتها مع الرجل.

(١٣-٥٨) بيع الزوجات

ومن الغريب هنا أنه قد جرت العادة عند العامة بأن يبيعوا نساءهم بيعًا لعدم إمكان طلاقهن، وصورته أنه إذا شعر الرجل بأن زوجته تحب آخر، عرض عليها الانتقال إلى محبوبها، فإذا تراضيا أخذها وباعها له بمحضر شهود، وقبض منه ما يؤذن بصحة البيع، وتخلص بعد ذلك من تبعتها.

وفي أخبار العالم ما نصه:

رجل باع زوجته في حانة لرجل بخمسة شلينات ونصف، وقبض الثمن بحضرة شهود، وذهب بها المشتري، ولما كان الغد ندم زوجها على ما فعل، واستقال في البيع فلم يُقَلْ. وذكر أيضًا فيه «أن توماس داي تزوج امرأة في سنة ١٨٤٩، فأساء عشرتها، فتركته وعلقت برجل من سكوتلاند اسمه روبرتصن، ففاوض زوجها على أن يشتريها منه، فاجتمعا ذات يوم في حانة، وباعها له الزوج بحضرة شهود بنصف «بنت» من الجن تقاسموه جميعًا.» وفيه أيضًا «أن توماس ميدلطون باع زوجته ماري ميدلطون لفيليب روستنسن بشلينين وربع من الجعة، وتراضيا على الافتراق الدائم ما داما حيين.

وهذه العادة وإن تكن غير مباحة في أحكام الدولة، إلا أنه مسكوت عنها كما سكت عن إباحة الزناء للمومسات، فإن الزناء هنا معلوم لأرباب الأحكام لكنه غير مباح، وكثيرًا ما يقوم السم مقام هذا البيع، فإن التخلص من الأزواج به أكثر منه بالطلاق أو البيع.

(١٣-٥٩) من عاداتهم في الزواج

ومن عادتهم في الزواج أن البنت لا تتزوج إلا من كان مساويًا لها في السن أو كان أكبر منها بسنتين أو ثلاث، وفي ذلك شطط؛ إذ لا يخفى أن المرأة متى بلغت الأربعين سنة لم يبق فيها من القوة والنشاط ما يبقى في الرجل ولا سيما إذا كانت منتاقًا، نعم إن النساء هنا لا يعجل فيهن الهرم، فإن من يكون سنها ثلاثين سنة تبدو كمن سنها عشرون في بلادنا، غير أن هذه الصفة تراعى أيضًا في جهة الرجال أيضًا، وفي بلادنا لا تثريب على من بلغ الخمسين أن يتزوج بنت عشرين، وهذا يندر هنا جدًّا إلا لسبب عظيم، وذلك كأن يكون الرجل أشرف من المرأة وأغنى، فترغب فيه لتشاركه في شرفه وغناه؛ إذ كانت هاتان الصفتان عند الإنكليز أفضل من جميع المناقب ولا سيما إذا روعي في ذلك مصلحة تربية الأولاد، وفي هذه الحالة فلا مانع أيضًا من أن يكون الزوج شيخًا قحلًا لعلمها أن حرارتها لا تلبث أن تذهب ببرودته فتستولي على الميراث.

وإذا خطب أحد امرأة ثم بدا له أن يعدل عن الزواج لغير موجب شرعي، غرم لها مبلغًا عظيمًا، ولا حرج على اليهود أن يتزوجوا من النصارى، وللأب أن يجبر ابنته على الزواج بمن شاء، إذا لم تبلغ حد الرشد، وهو عندهم ٢١ سنة، وبعده ليس له عليها من إمرة إلا بالمعروف والنصيحة، ولكن كثيرًا ما تهرب البنت من تحت حجر أبيها وتتزوج من شاءت وإن حرمها من الميراث، وإذا خرجت من حجره بعد بلوغ رشدها لم يبقَ لوالديها استطاعة على ردها، ووصية الموصي قبل بلوغ ذلك السن لا يعمل بها.

وللذكر أن يعقد الزواج عند بلوغه أربع عشرة سنة، وللبنت عند اثنتي عشرة، وما دام الولد دون سن الرشد فعلى الوالد أن يقوم بنفقته، وبعد ذلك لا يلتزم بها، وإذا تزوج الولد قبل هذا السن فلأبيه أن يحرمه من ميراثه، ومتى تزوجت المرأة انتقل جميع ملكها إلى حوز بعلها، ولكن لها أن تستدين على اسمه، ويجبر هو على وفاء دينها.

ولا يحل للرجل أن يتزوج أخت زوجته، وقد كان لرجل زوجة وله منها عدة أولاد، فلما حضرها الموت أقسمت على زوجها أن يتزوج أختها بعد موتها؛ لتربي أولادها، فتزوجها، فلما عُلم ذلك في ديون الحكم فرق بينهما، فسألت من أخبرني بذلك عن سبب هذا الحظر؛ لأنه غير مبني على مصلحة، وقلت: «إن كان تحريمه ورد في التوراة، فقد ورد فيها تحريم أمور كثيرة استحلتها النصارى فلأي سبب أضربتم عن تلك، وتمسكتم بهذه فقط؟» فقال: «المصلحة في ذلك هو أن لا يتوصل رجل واحد إلى إحراز جهازين من بيت واحد.» فقلت: «ولكن الفقراء يتزوجون من غير جهاز ولا ميراث.» فقال: «إن الشرع هنا ملحوظ فيه مصلحة الكبراء.»

ولا بد أن تشهر الخطبة في الكنيسة ثلاث مرات متوالية في الآحاد، وإذا مست الحاجة إلى الزواج بدون إعلانها غرم الرجل ضعفي النفقة، وهي في الغالب خمس ليرات.

أما في سكوتلاند فإن الزواج يتوقف على شاهدين فقط؛ فلذلك كان كثير من الإنكليز يذهبون إلى هناك ليتزوجوا ثم يرجعوا، ويقال: إن مجلس المشورة يهم بأن يعين إقامة أحد وعشرين يومًا هناك قبل الزواج تقليلًا من استعمالها، ومن تزوج امرأة زوجها حي غَرِمَ ونكل، وللمرأة المتزوجة عند الإنكليز احترام أكثر من غيرها وإن تكن أصغر سنًّا من غير المتزوجة، فإذا خرجن من مجلس إلى موضع الأكل مشت المتزوجة قبل تلك، وأجلست في أحسن موضع، ولا بد للمتزوجة أن تلبس خاتم الزواج في بنصر يدها اليسرى، ومن لم يكن لها خاتم لم تحسب متزوجة وإن كان لها خمسة بعول.

ومن الغريب أنه عند عقد الزواج يُلَقِّن القسيس الرجل أن يقول للمرأة حين يضع الخاتم في إصبعها: «بهذا الخاتم أتزوجك وبجسمي أخدمك» ولا معنى للباء في قوله: «بهذا» لأن الخاتم ليس آلة للزواج، ولفظة «أخدمك» لا يفهمها أحد من العامة بهذا المعنى، وعند تناول طعام العرس تلبس العروس ثيابًا بيضًا، وتقعد النساء على المائدة وعليهن برانيطهن، وعادة الأغنياء منهم أن يعتزل الرجل بعروسه بعد عقد الزواج، فيقيم معها شهرًا في خلوة عن الشغل والأهل والأصحاب، وتسمى هذه المدة عندهم «قمر العسل»، ولا يكاد المُثْري يتزوج إلا مثرية مثله، وإذا تزوج الرجل امرأة ووضعت عنده بعد شهر أُلزِم بتبني الولد وتربيته وإن يكن من غيره، وكذا لو علم أنه عائش مثلًا مع مومسة وولدت ولدًا، ومن ثبت عليه أنه افتض بكرًا فولدت منه أجبر على أن يؤدي إليها في كل أسبوع شلينين ونصفًا في الأقل، إلى أن يبلغ الولد تسع سنين، أما الافتضاض قسرًا فيعاقب عليه بالتغريب والنفي، وكان يعاقب عليه في عهد وليم الأول بِسَمْلِ العينيْنِ، وفي عهد الصكصونيين بالموت.

(١٣-٦٠) ما يحمد من تربية أولادهم

ومن العجيب أن الوالدين من الإنكليز إذا كانا قبيحين تأتي أولادهم ملاحًا، فإذا دام هذا الإسناع حقبة فلا يرى فيهم بعد من قبيح، والظاهر أنهم أحسن تربية للأولاد من غيرهم، فإنهم يغسلونهم بالماء البارد في كل يوم إذا كانوا أقوياء، أو بالفاتر إذا كانوا ضعفاء، ولا يقمطونهم حتى يمتنعوا من الحركة كما يفعل في بلادنا، وإنما يشدونهم بحزام فقط، وبعد نصف سنة يعودونهم على الأكل الخفيف مع اللبن، فلا تأتي سنة على الطفل إلا وهو يلتقم كل شيء، ولا يكاد طفل يُحْدِث في ثيابه أو يفحم من البكاء كما يكون عندنا، غير أني كثيرًا ما رأيت الأمهات هنا يسقين أطفالهن المِزْر أو شرابًا غيره لينمينهم، ويطعمنهم أيضًا الفاكهة والدسم، ويدخلن بهم في الزحام، وأماكن الخصام واللكام، ومما يحمد من تربيتهن أنهن يكلمنهم بالكلام المتعارف من دون لثغة ولا كسر كما تفعل نساء بلادنا، بل ربما حكين لهم حكايات وهم لا يعقلون، ويخاطبنهم بما يخاطبن به من يفهم، ويُلَقِّنَّهم أشياء كثيرة تعودهم على الفهم من صغر.

والذي ظهر لي أن أطفال الإنكليز أذكى وأزكن من أطفالنا، وبعكس ذلك المراهقين، وفي الحقيقة فإن الأم في بلاد الفلاحين لا تربي إلا ولدها البكر، والباقون تربيهم إخوتهم الأكبر فالأكبر، وفي الجملة فإن نساء الإنكليز مناتيق جدًّا، واتفق أن امرأة ولدت اثني عشر توءمًا وثمانية فذوذ.

قال في أبجدية الأوقات: «حدث غير مرة أن امرأة تلد أربعة أولاد في بطن واحد، فأما ولادة خمسة فلم يحدث إلا مرتين، إحداهما في أوستراليا سنة ١٧٧٣، والثانية في لندرة سنة ١٨٠٠.» قال: «وفي سنة ١٧٨٣ جعل شبه ضريبة على ولادة الأولاد، فكان على الدوك أداء ثلاثين ليرة، وعلى أحد العامة أداء شلينين.» ا.ﻫ. ويعجبني لطف الأولاد هنا ولا سيما حين تكون ثيابهم قصيرة وسيقانهم ظاهرة في أوان البرد.

(١٣-٦١) عاداتهم في الجنازة

وعادتهم في الجنازة أن يبقوا الميت أسبوعًا في البيت قبل دفنه، وعند إخراج جنازته يشيعها رجال يلبسون على رءوسهم مناديل سوداء معقودة فوق برانيطهم، ولكل ميت حداد معلوم، ولكل دفنة سعر، ولكن لا يخمشون عليه وجهًا ولا يشعثون شعرًا، وإذا أبقيت الجنازة في محل عند المقبرة ليلة واحدة أُدي عليها خمسة شلينات زيادة على الرسم المعتاد، فقلت لمن طلب مني ذلك: إن الحي يرقد على فراش وثير ليلة ويوسخه، ولا يؤدي أكثر من شلين واحد، فكيف تطلب على طفل في تابوته خمسة؟ فقال: «إن بين الحي والميت فرقًا.»

أما الكبراء فإنهم يبقون جنازتهم أكثر من أسبوعين إشارة إلى أنه غير جدير بأن يفارق هذه الدنيا، ومن الغريب أنه إذا مات أحد منهم غريبًا فلا بد من أن يعيدوه إلى وطنه ليدفن فيه، فيا ليت شعري ما نفع الميت لبلاده، أو ما نفع بلاده له؟! ولا يدفن ميت إلا بشهادة الطبيب الذي عالجه أو أجهز عليه، وذلك لكثرة ما يقع عندهم من القتل بالسم.

والواقع أن الفرنسيس أكثر احترامًا للجنازات من الإنكليز؛ فإنهم يمشون وراءها أيًّا كانت وهم خاشعون حاسرو الرءوس، وحين تكون في البيت يوقدون حولها الشموع ليلًا ويجعلون لها حارسًا.

(١٣-٦٢) عاداتهم في العيادة

ومن عادتهم في العيادة أن يستعضلوا داء المريض لأهله أيًّا كان، ويلقوا في قلوبهم الرعب بقولهم مثلًا: «إن فلانًا مُنِيَ بهذا الداء منذ أيام فمات، فإنه داء معضل ولا سيما في هذه الأيام.» فكنت كثيرًا ما أتذكر ما حُكي عن ذلك الرجل وقد مرض، فعاده بعض أصحابه وقال له: «ما تشتكي؟» قال: «وجع الركبة» قال: «إنها والله كانت علة أبي فمات منها.» وإذا أصيب أحد بما يخاف منه العدوى فلا يعودونه أصلًا، وقد كان لي طفل أصيب بالسعال، فلما كنت أذهب إلى منزل الدكطر «لي» على عادتي كانت زوجته تتجنب مواجهتي، فساءني ذلك أولًا؛ حيث لم يكن يخطر ببالي أن السعال يحمل من المبتلى به وينقل إلى صدور الجيران، فلما علمت عموم ذلك هان عليَّ، مع أن الدكطرية المذكورة كانت على غاية من الورع.

والظاهر أن جميع الإفرنج يجزعون عند المصيبة ولا يفوضون أمرهم إلى الله، وإن تلبسوا بالعبادة واتصفوا بالجراءة على أنهم لا يكادون يفجعون بموت أحد إلا ويتناسونه، فالاستسلام لقضاء الله إنما هو من خصوصيات المسلمين، وكفى بلفظ الإسلام دليلًا عليه، وفي هذه القرى لا يوجد أطباء ولا دوائية، وإنما يكون ذلك في بعض البلدان المجاورة لها، حتى إن ما يوجد هناك منهم إن هو إلا نفاية، فلو سكن أحدهم في إحدى المدن الجامعة لما نال بعلمه رغيفًا.

(١٣-٦٣) عاداتهم في المآدب

وعادتهم في المآدب أن تجلس الضيوف على المائدة، وتجلس صاحبة الدار في الصدر، وتأخذ في أن تقطع لهم شرائح اللحم رقيقة، وتناول الصحفة للخادمة فتضعها الخادمة أمام الآكل، ولو حصل خمس حصص من تلك الشرائح لما شبعت، والإكثار من أكل الخبز عندهم مظنة الهمجية، وقد أَدِبْت مرة عند أحد أعيانهم، فلما جلسنا على المائدة أخذت الفوطة ووضعتها على حجري، وكانت كسرة الخبز مخبأة فيها، فوقعت وأنا لا أدري، واستحييت أن أطلب غيرها، وهم ظنوا أني تنكلزت في بلادهم، فلما تحركنا للقيام إذا بالكسرة لاصقة بنعلي، فتذكرت حينئذ قصة ذلك السائل الذي طرق باب بخيل فرمى له بكسرة خبز أخت كسرتي هذه التي انتعلتها، فأخذها وتأملها، ثم طرق الباب مرة أخرى، فقال له صاحب الدار: «قد أعطيناك فلِمَ لا تنصرف؟» قال: «قد أعطيتموني هذا الدواء، ولم تقولوا لي كيف أستعمله.» وإذا كان على المائدة لونان من الطعام أو ثلاثة كأن يكون مثلًا شواء من البقر ودجاج، خيرتك الست أيهما تريد، فإذا تناولت من لون سقطت شفعتك من الثاني، وندر أن تعطيك منهما كليهما، ولا يمكن أن تعطيك شيئًا — أو بالحري من شيء — إلا إذا استطلعت رأيك فيه أولًا.

ولا يمكن للمدعو أن يمد يده إلى زجاجة الخمر ويصب منها في قدحه، بل لا بد من أن ينتظر السائد أو الست أن يعرضا عليه، وكذلك سائر المأكول والمشروب، ويحزنني أن أقول: إني كثيرًا ما رأيت صاحب المنزل يقطع للضيوف اللحم، ثم يستكثره عليهم، فيضع في صحفته ما استكثره، فربما امتلأت من تلك القطع، وكنت أرى المدعويين معي يتكلفون الأكل تكلفًا، ويتبلغون بما لا يكاد يكفي الصبي، فيبقى ثلاثة أرباع الطعام كما هو، وإذا برد عندهم اللحم المطبوخ فلا يأنفون من أكله كذلك أسبوعًا، فلهذا ترى المُحضر على المائدة كثيرًا بالنسبة إلى مقدار الآكلين وكمية أكلهم، وقد سألت المرأة التي كنت نازلًا عندها ذات يوم فقلت لها: «نشدتك الله إلا ما صدقتني، هل أنا من الأكَّالين المفرطين؟» قالت: «لا بل من المقتصدين.» قلت: «قد دعيت غير مرة ورأيت الجماعة المدعويين معي لم يأكلوا جميعهم قدر ما أكلت أنا مرتين.» فقالت لي: «إن الدعوة هنا إنما هي صورة فقط، فإن المدعويين يأكلون في بيوتهم قبل أن يحضروا الوليمة.» فأخذني العجب من ذلك، وطفقت أفكر في مخالفتهم في ذلك لعادتنا، فإن المدعوين عندنا كلما أكثروا من الأكل زاد سرور الداعي بهم، لاعتقاده أنهم أحبوا طعامه، وإذا قلت لواحد من الإنكليز إن فلانًا دعاني إلى الشاي، قال لك: إنه هو كثير الفضل، وما أشبه ذلك، هذا عند الوسط من الناس.

فأما عند العظماء والزعماء فإن الخادم يطوف على الحاضرين بآنية الشراب ويخيرهم أي نوع يشربون، وربما شربوا المزر أولًا، ثم قليلًا من الخمر، حتى إذا فرغوا من الأكل قامت النساء وانفردن في مقصورة، وبقيت الرجال على المائدة، وحينئذ تتداول كئوس الشراب والمناقلة على النقل بغير محاشاة، وربما قضت الرجال ساعة أو ساعتين على الشرب والنقل، وساعة من قبلها على الطعام، وإنما تقوم النساء خوف أن ينهمك أحد الجلوس في الشرب فينطق بما لا يليق، ولا بد في الموائد الحافلة من وضع السمك المسلوق أولًا، فأما الشوربة فهي عبارة عن حسا الفلفل، وقد رأيت على هذه الموائد البطاطس، يأتون بها في صحاف مفضضة، وتحتها فوط من الكتان الرفيع، فلم أدرِ ما المراد بهذا الاحتفال والتنطس فإن الخسيس خسيس حيثما كان، والكلب كلب وإن طوقته ذهبًا، وإذا فرغ الآكل مما لديه ولم يرد الزيادة، وضع السكين والشوكة متوازيين، وإذا شرب الشاي وضع الملعقة في الفنجان.

وعند صف أدوات الشاي تقوم الست أيضًا وتجلس في الصدر، وتسأل من حضر: «هل تريد أن تشرب شايًا؟» فيقول: «نعم، إن شئت.» فتقول: «أتشربه مع السكر؟» فيقول: «نعم، إن شئت»، فتقول: «ومع الحليب؟» فيقول: «نعم، إن شئت.» فتقول: «وتأكل نصف هذه الكعكة؟» فيقول: «إن شئت» فتقول: «وربع هذه الفالوذة؟» فيقول: «إن شئت» وكلما أكرمته بإحدى هذه المركبات قال: «إني أشكرك»

وبالجملة فإن الدعوة عندهم ضرب من الأسر، وقد أدبني أو أدب طربوشي أحد الوجوه في كمبريج إلى أن أشرب الشاي معه، فقال: «هل لك في أن تشرب الشاي معنا في إحدى الليالي ولكن بعد ثلاثة أسابيع؟» قلت: «نعم» حتى إذا سرت إليه، لم أجد على المائدة غير الصنف المعتاد منه، مع أني كنت أظن أن توقيت تلك المدة إنما كانت لجلبه من بعض البلاد، وإذا كانوا مجتمعين في مجلس وأرادوا الخروج إلى محل المائدة، أخذ الرجل بذراع زوجة غيره وأجلسها على الكرسي، وأخذ غيره بذراع زوجته، وإذا بقيت واحدة بغير زبون كان ذلك داعيًا لخجلها.

ومن عادة النساء على الموائد أن يكشفن عن صدورهن وأكتافهن وأنصاف أعضادهن، وهذه المواضع أحسن ما يُرى فيهن، ومن عادة العجائز أن يتزين بما لهن من الحلي والجواهر والشعر العارية، وليس ذلك من عادة البنات قبل زواجهن، فترى البنت الباهرة بجنب أمها السعلاة عطلًا، وتلك متبجحة بالقلائد والخواتم والأسورة والسلاسل، إلا أنهن في غير الولائم والسهريات لا يتحلين بشيء، ومن الأدب عندهن أن يأكلن وأكفهن مستترات بالجلد الأبيض، ويمضغن ما يأكلنه مضغًا خفيًّا، فإن فتح الفم للالتقام وشدة لَوْك الملتقم من أكبر العيوب.

والذي يظهر لي أن نساء الريف بالنسبة إلى برودة قطرهن وصحة أبدانهن قليلات الأكل جدًّا، ومع ذلك تراهن عُبْلًا سمانًا بخلاف نساء لندرة، وقلما تأكل إحداهن شيئًا من دون شراب معه، أو تشرب من دون أكل، وربما تغدى أحدهم بغير شراب، فإذا فرغ شرب الشراب وحده، وعامة الإنكليز يطبخون طعامهم بلا ملح، وإنما يملحونه عند الأكل، ويكثرون من الأباريز منتهى الإكثار، ولا سيما الفلفل والخردل، فإن أحدهم ليضع في صحفته ملعقة من كل منهما.

والفلاحون يأكلون الحلواء قبل الطبيخ، فهم في هذه كالترك، ويشربون الحليب بالملح والفلفل، وبعضهم يخلط الدقيق بقليل من السكر ويأكله، وقد دعاني بعضهم إلى أن أشرب معه القهوة، وكان يأكل معها فجلًا ورشادًا، فعرض عليَّ، فأبيت فتعجب من ذلك. ومع افتقار هؤلاء الفلاحين وشدة احتياجهم إلى أشياء كثيرة للدفء مما نستغني نحن عنه في بلادنا، وكذلك كإيقاد النار للاصطلاء مدة ثمانية أشهر في السنة، وكلبس الجوارب والشعار من الصوف، فقد ألفوا شرب الشاي ألفة شديدة، حتى لم يعد ممكنًا لهم أن يستغنوا عنه، فيقال: إن مصروفهم منه في العام يبلغ نحو ثلاثين مليون رطل، ومصروف جميع الممالك يبلغ نحو اثنين وعشرين مليونًا، وقد جلب منه في العام الماضي سبعة وثمانون مليون رطل.

وأول ما عُرِفَ هذا النبات في أوروبا كان من أهل هولاند فإنهم جلبوه من الهند، وذلك في سنة ١٦١٠، وكان استعماله أولًا في غاية الندرة، فكان يباع الرطل منه من ست ليرات إلى عشر، ثم لما استقرت جمعية الهند في تلك البلاد صاروا يجلبونه منها، فرخص سعره وكثر استعماله، وضَرْبُ المكس عليه في أميريكا حين كانت ملحقة ببلاد الإنكليز كان من بعض الأسباب التي هيجت الأهلين إلى النزاع والحرب، وقد حاول الإفرنج تنبيته في بلادهم فلم يتهيأ لهم، وجميع الأطباء يقولون: إن شرب الشاي غير نافع، بل مضر ضررًا بليغًا بمن في عصبهم استرخاء، ولا شيء أقر لعين صاحبة العيلة من الإنكليز من أن تشرب الشاي مع أولادها بقرب الموقد ولا سيما إذا كانت مغلاة الماء تغلي ويسمع لها نشيش والبخار صاعد من بلبلتها، وهذا هو أوفر الهناء الذي يعبرون عنه بلفظة «كمفورت».

ثم إن الإنكليز عمومًا يفتخرون «بالهسبيتاليتي» وهي قِرى الضيف وبر الغريب، والحق يقال: إنهم في ذلك أكرم من الفرنسيس، وخصوصًا أهل الرُّسْتاق دون أهل المدن الجامعة، فإن همهم بتحصيل الكسب شاغل لهم عن الكرم، إلا أن مآدبهم منغصة بكثرة التحشم والتكلف الذي لا معنى له.

وقد جرت العادة في المآدب الحافلة أن يشربوا الشراب على ذكر مشاهيرهم وزعمائهم، أو كما يقولون «على صحتهم» أو بالحري يشربون صحتهم، قال فلتير: الظاهر أنا إنما نشرب الشراب لأجل صحتنا لا لأجل صحة غيرنا.

وكانت عادة اليونانيين والرومانيين أن يشربوا ويقولوا كلامًا يكون داعيًا لأن يشرب غيرهم معهم لا أن يقولوا: «إنا نشرب على صحة فلان.» وكانوا يشربون في الأعياد تذكارًا لإحدى الحظايا، ومن هنا جرت العادة عند الإنكليز الذين يحبون تجديد كثير من عادات الرومانيين أن يشربوا على ذكر إحدى الخواتين، ويقال لها: «طوست»، وقد يقع الجدال بينهم والمناقشة هل تلك الست جديرة بذلك أو لا.

ومن الأمور المهمة عندهم أن يشربوا على ذكر ولي العهد الذي له حق في الملك، فإن ذلك دليل على كون الشاربين من حزبه، قال برون أسقف كورك — وكان ممن يكرهون الملك وليم: «بوُدِّي لو كنت أسد جميع تلك الزجاجات التي شربت لمجد هذا الملك.» وفي سنة ١٧٠٢ كتب منشورًا إلى أهل إرلاند يعلن فيه بأن الشرب على ذكر الملوك معصية كبيرة ولا سيما بعد موتهم؛ لأن ذلك مناقض لأمر المسيح بقوله: «اشربوا هذا لذكري.»

وكذلك برين البرسبيتاريان ألف كتابًا كبيرًا نهى فيه عن الشرب على ذكر أحد من المسيحيين، وحذا على حذوه كثيرون من أهل إنكلترة وفرنسا، غير أن مؤلف يوحنا غزى في هذا الباب لا يعلو عليه مؤلف، قال: «وذلك كله من العبث.» ا.ﻫ.

قلت: وكانت العادة أنهم إذا شربوا على اسم امرأة طرح الشارب شيئًا من ثيابه، فيلتزم جميع الحاضرين أن يفعلوا فعله، فلما كان ذات يوم شرب أحد الأمراء على اسم محبوبته، وطلب من الحلاق أن يقلع له ضرسًا نخرًا، فاضطرت أصحابه أن يقتدوا به.

وفي بعض صحف الأخبار حكاية عن رجل فرنساوي أنه قال: «قد حضرت أنا ورفيقي إلى الغداء إن صح أن يقال لتلك الصحاف غدا، أما أولًا: فلأنه لم يكن معه شوربة، ثم ترادف علينا قطع من لحم البقر وقدر من لحم الضأن، ثم وضعت البطاطس أمامنا على طبعها وعلى حالها وعوضًا عن التوابل، كان لكل من الجلوس صحفة فيها سمن مسلي، فشق عليَّ هذه الحال التي رأيتها أول دخولي بلاد الإنكليز، وقلت في نفسي: ألا إن هؤلاء القوم لَحْميُّون لا يعرفون إلا اللحم، ثم جالت الأفكار والخواطر في رأسي، وقلت: ليت شعري ما سبب تفردهم بخصال لم يشاركهم فيها غيرهم من النفخة التي تظهر فيهم، ومن عدم دربتهم في الرقص، وغلاظة أصواتهم في الغناء والتخاطب، وكُلوح سحنهم الناعسة؟ وعن ذلك كله كنت أقول في الجواب: «إنما هو لحم بقر، إنما هو لحم ضأن»، ثم دعيت إلى لون من الطعام نوهوا به باسم «بست لك»، وهو اسم طالما طرق مسامع أهل بلادنا، وكنت متشوقًا إلى أن أعرفه فلما كشف الغطاء عنه، ونظرت إليه إذا هو لحم مشرح شرائح رقيقة، ومتبل بالبصل، فصرخت متعجبًا، لعمري إن هو الذي نسميه «بيفتك»، فلما قلت هذا تضاحكت الجلوس ولا سيما واحدة من الخواتين كانت تتكلم بلغتنا، ثم قالت: إن اسم هذا اللون معناه: «بخت آكله» تفننًا في التسمية لا في المأكول.» ا.ﻫ.

وقال آخر: «ما شيء بأعجب من رؤية ولائم الإنكليز التي تذكر الناظر بالولائم التي ذكرها أوميروس؛ إذ ترى قطعًا جزيلة جدًّا من لحم البقر المشوي، وشاة بأسرها على طبق، وحيتانًا ضخامًا على مائدة طويلة ملآنة من القناني والأقداح والظروف، فتجلس الضيوف وعليهم الثياب السود، وهم رزان ساكتون متحلمون، كأنهم حول جنازة ووراء الزعيم رجل يقال له: «طوست ماستر»، وهو الذي عليه أن يفتتح الكلام، حتى إذا ناجاه الزعيم قال بصوت جهير: «أيها الكرام إني عمدت إلى طوست ولا أشك أنكم تنعمون بقبوله.» فتتحرك الجلوس من همدتهم، ويقومون بأجمعهم كما تحرك شيئًا بآلة ويجيبون دعوته، فإذا شربوا برز ثلاث جواري كاشفات عن ترائبهن من وراء حجاب، ويأخذن في العزف بالبيانو، ولا يزال الطوست يدور ويعاد إلى أن يحل محله.»

(١٣-٦٤) جهل الإنكليز بالطبخ

ومن العجيب أن جيلًا متقدمًا في المعارف والصنائع كالإنكليز لا يعرفون أن يطبخوا اللحم بالبقول، وإنما يطبخون كلًّا منها على حدته، أما البقول فإنما يسلقونها سلقًا وهي عبارة عن اللفت والكرنب والجزر، وشيئًا آخر من هذه النباتات الريحية. وسلطان المائدة إنما هو البطاطس؛ إذ لا تتم آدابها إلا بها، وربما اجتزأ الفلاحون بها عن كل ما عداها حتى عن الخبز، وقد يحشون بها رقاق الخبز، ويطبخونها في الفرن، فتسد مسد كل شيء، وأهل إرلاند يتخذون منها خبزًا، أما اللحم فأحب شيء إليهم منه الشواء، وهذا من وجه يصلح لمن أَلِفَ الأسفار؛ لأن المسافر حيثما كان في الأرض يجد لحمًا ونارًا، بخلاف من سافر منا وقد ألِف ألوانًا شتى من الطبيخ، فلا يزال لهجًا بهذا وذاك، فيتنغص عيشه وعلى ذلك قولي:

كأني أنا والفيل صِنْوانِ فرقا
سوى أنني ضَرْبٌ وذلك بادنُ
فإن له نابًا يحين لأجله
وإني لسني كل حين لحائنُ

إلا أن اللوم موجه على المستوطنين وأصحاب المطاعم والفنادق الذين يجهلون من أنواع الطبخ ما يعرفه أفقر الناس في البلاد المشرقية، حتى إنهم لا يعرفون أن يقلوا البيض بالسمن، ولا يطبخون العدس ولا الحمص ولا الفول ولا غير ذلك من القطاني إلا الرز، فإنهم يسلقونه سلقًا ثم يصبون عليه الحليب، وأكثرهم يتقزز من الزيت، ولا يدري ما طعمه، على أنهم يأكلون الدم مخلوطًا بالشحم، ويتخذون منه أيضًا نوعًا من الفصيد.

ومن العجيب أنهم لا يعافون من أكل اللحم المنتن وغيره، فإن الأرنب والغزال لا يأكلونهما إلا بعد خنقهما بنحو ثلاثين يومًا، وقد دعيت غير مرة إلى موائد الموسرين، وشممت فيها جَخَر الأرنب، وعلى ذلك قولي:

ويأتون بالأرنب المُسْبَطِر صحيـ
ـحًا كما كان يُطْمر طَمْرَا
بأذنابه وبأسنانه و
بأظفاره وهو يَفْغَرُ ثغرا
وفي وجه كل الضيوف له
ذَنَبٌ شائلٌ ودُبْر تَعَرَّى
ووالله بالله تالله إني
شممت له جَخَرًا ليس حَزْرَا

وكذلك الفراخ والطيور لا يطبخونها إلا بعد خنقها بأيام، ويقولون: إنها إذا بقيت أيامًا كثيرة بعد خنقها يزيد لحمها مراءة وطيبًا، والدليل على ذلك أن الآكل منها يكفيه قليل، بخلاف ما لو أكلت وهي طرية، والحق يقال: إن لحم البقر عندهم لا يؤكل إلا بعد ذبحه بيوم أو يومين، وذلك لكثرة دمه، ولا حرج على بيع المنتن من اللحم والسمك، والفج من الأثمار والفاسد من كل شيء، وعندهم صنف من الجبن يستطيبونه على غيره لكونه مدودًا، وكنت ذكرت يومًا لأحد فضلائهم قضية أكلهم الأرنب منتنًا فقال: «لا تعد تذكر لفظة منتن؛ فإنها قبيحة تشمئز منها المسامع.» فقلت: «ما دمتم أنتم تأكلون المنتن، ولا تشمئزون منه فلست بمنفك عن أن أذكره، وهذا كتحشمكم من أن تذكروا في كتبكم ضخم أرادف المرأة مع أن نساءكم النحيفات يعظمن عجائزهن بما لا مزيد عليه من الحشايا والمرافد مما لو فعلته الفواجر عندنا لخجلن، فأنتم حييون من الاسم ووقحون على الفعل، إن هذا لغريب.» فضحك هو وزوجته.

وقالت لي مرة إحدى النساء المخدومات: «ما أطيب العيش في بلاد النمسا لولا أني أكره شيئًا من طبخهم.» فقلت: ما هو؟ وقد توقعت أن تقول أكلهم الأرنب منتنًا، وإذا بها قالت: «إنهم يطبخون الفراخ بُعَيد ذبحها.»

وشكوت ذات يوم لمخدومة طول استمراري على صنف واحد من الطعام، فأرسلت إليَّ خادمها في اليوم القابل يقول: إن سيدتي تدعوك إلى الغداء، فلما توجهت قالت لي: «إني سمعتك بالأمس تشكو من الطعام فصنعت لك اليوم ما يعجبك.» فلما هيئت المائدة قدم عليها أرنب بآذانه وذنبه، وإذا به منتن ذفر يملأ ذفره الخياشيم، فتعوذت بالله، وقلت ما قال ذلك الظريف: «إن عمر هذا الحيوان بعد موته أطول منه في حياته.»

والظاهر أن الإنكليز يحبون الأرنب وصورته؛ فقد دخلت مرة دار الصور في كمبريج مع الدكطر «لي»، فكان أول ما وقع نظري عليه صورة ملكة من ملكات إسبانيا على هيئة الاضطجاع عريانة وثمنها أربعة آلاف ليرة، وإلى جانبها صورة أرانب وصياد، فجعلت أنظر إلى صورة الملكة، وجعل هو ينظر إلى صورة الأرانب، ويستدعيني إلى ذلك.

ثم إنه ما عدا جهل الإنكليز بالطبخ واقتصارهم على لونين أو ثلاثة من الطعام، فإن الإنسان لا يجد عندهم شيئًا من الطعام والشراب خالصًا، أما الخبز فإنهم يخمرونه بنوع يستخرجونه من المزر ويخلطونه بالبطاطس والرز والفول والهرطمان والذرة والشب، وفي كل رغيف يوجد نحو عشرين حبة من الشب، وبملح الصفر والطين وجبس باريس وسحيق العظام، وبجزأين آخرين.

وفي بعض صحف الأخبار أن رجلًا أكل جبنًا فمرض، فاستدعي بالطبيب، فلما حضر عرف أن الرجل مسموم، وأن الجبن كان ملونًا بالأناتو، وهذا الأناتو خُلِطَ بشيء من القرمز وهذا أيضًا خُلِطَ بالسيلقون، وأما القهوة فيخلطونها بالهندباء والقمح والهرطمان ودقيق البطاطس والفول وبمُحَرَّق السكر وعكر القهوة واللفت وجذر الفوة، وبجزأين آخرين، وأما السكر فمخلوط بالرمل والطين ودقيق القمح والبطاطس والنشا وبأجزاء أخرى من جملتها هامة يقال لها «أكاري».

وأما الحليب فنصفه أو ثلثاه ماء، كذا وجده الدكطر هلياك، وملون بصنف يقال له أناتو، وهذا الصنف مركب من القلي وملح الصفر والملح والسرنج وبستة أجزاء أخرى، تدقيق وعند النظر ترى فيه مخ الشاة والجبس والدقيق والنشا وعصير اللوز والصمغ وجزأين آخرين، وأما البيض فإنهم ينقعونه في الصيف حين يكون ثمنه رخيصًا في برميل مليء جيرًا وماء، ثم يخرجونه في الشتاء ويبيعونه بسعر الغريض فيأتي مسيخًا ويتولد فيه طعم جيري مضر بالمعدة، وعلامة المنقوع منه أن يكون أبيض ناصعًا لكنه خشن الملمس.

وأما اللحم فينقعونه في الدم، وأما المزر فمخلوط بخمسة وعشرين جزءًا من جملتها الأفيون والملح والرب والسكر والفول وملح الطرطير ومحرق البرقان والزنجبيل والأفسنتين والعسل وملح الحديد وملح الكبريت ومحرق قشر السرطان، وأما الخمر فمخلوطة بأكثر من خمسة عشر جزءًا من جملتها الماء والعرقي وعصير القمح وشراب التفاح وعود برازيل ومحرق السكر والرصاص، وأما التبغ فمخلوط بالزيت والملح والرب والسكر والماء والراوند والبطاطس والكرنب والنطرون والرمل، وبستة وعشرين جزءًا أخرى، لطعمه ولونه، وقس على ذلك النشوق والخردل والزيت والصابون والخل، مع أن هذا الأخير يستقطر من نوع من الشجر، وقيل: من المزر، فهؤلاء الناس الذين حكمهم كحكم سائر الناس في كونهم ترابًا وإلى التراب يعودون قد خالفوهم في أنهم يأكلون التراب ويشربونه، فحيا الإله عصا المحتسب.

وهذا الطمع لقنهم أن يتخذوا نبيذًا من جميع الفواكه من أشهره نبيذ التفاح، وقد كان عندهم في السابق بمنزلة الخمر في التنافس فيه، فكانوا يسقونه الضيوف كما تسقى الصهباء.

ثم أعود فأقول: إنه لا غرو أن يستطيب هؤلاء القوم ما ألفوه؛ فإن «العادة — كما يقال — خامس طبيعة» أَوَليس أن هنود لويزانيا يأكلون نوعًا من التراب الأبيض بالملح بدل الخبز، وهنود أرنوكوكو يأكلون أيضًا نوعًا من الطين اللزج الأبيض، والزنج يستطيبون نوعًا من الثمر على الخبز. أما الأمراء والأغنياء من الإنكليز فإنهم يستخدمون طباخين فرنساويين ويتلذذون بأنواع من الألوان، ويعجبني من مأكلهم طبخ الفاكهة الطرية واليابسة في العجين، وذلك غير معروف لأهل مصر والشام، وهو من بعض ما تعلمته الإنكليز من الفرنساويين، حتى صار عامًّا لغنيهم وفقيرهم، وأكثر أسماء الطبيخ عندهم منقول من اللغة الفرنساوية، وعندي أن اشتهار الأطعمة الفاخرة في الشام إنما عرف في زمن معاوية، فإنه كان يتأنق في الطعام، ثم نقلت إليهم ألوان كثيرة من العجم كما يظهر ذلك من بقاء أسمائها عندهم.

(١٣-٦٥) صلاة الإنكليز وعباداتهم

ثم إنه من رسوم الكنيسة المتأصلة أن تقام الصلاة فيها يوم الأحد ساعتين في الصباح، وساعة ونصفًا في المساء، وإن لم يحضر فيها غير ثلاثة نفر، فتسمع في خلال ذلك من تكرير الأدعية والابتهالات ما يذهب بالصبر، وبعد ذلك يقوم القسيس ويخطب فيهم، وأكثر الفلاحين يذهبون إلى الكنيسة حياء من جيرتهم، أو خوفًا من القسيس؛ لأن قسيسي هذه الكنيسة لهم سطوة نافذة على الرعية، ومتى قامت الصلاة نعسوا أو تناعسوا، وقد بلغني أن أحد هؤلاء الخطباء لما شرع مرة في الوعظ التفت فرأى الناس نائمين، فغضب لذلك وقال: «بئس السامعون أنتم لكلمة الله، إنكم إن لم تسمعوها فستحسون بها.» ثم رفع التوراة من أمامه، وضرب بها بعض النائمين حتى انتبهوا.

وفي يوم الأحد لا يعملون أدنى عمل، حتى إن أكثرهم لا يطبخ، ومنهم من يتحرج من حلق شعره فيه، أو من كتب رسالة، وقد أردت مرة أن أنزل في بيت عجوز، فأول ما اشترطت عليَّ به كان عدم الطبخ يوم الأحد، وعندي أن أصل ذلك البخل منعًا للزيارة والاجتماع.

ويحكى عن رجل أنه سرق بقرة، فثَقِفَ يوم الأحد، فقال للشرطي: «لولا حرمة هذا اليوم لما أعياني التملص من يدك.» ويوم الأحد في جميع البلاد الكاثوليكية الرومانية هو يوم الحظ والتزاور، أما في هذه البلاد فهو يوم الانقباض والكآبة، وهو في سكوتلاند أكثر قبضًا وكآبة.

ولا بد من أن يكون في كل بيت توراة وإنجيل وكتاب صلوات، فيقعد رب البيت ويحمل بعض أولاده على القراءة منها، ويقضون النهار كله في القراءة والترتيل من الزبور وغيره، وفي سماع الصلاة في الكنيسة، ولا يكاد صاحب عيلة يجلس على المائدة للطعام من دون أن يصلي أولًا أو يجعل بعض أولاده يتلو دعاء ما — وكذلك عقب الطعام — ومن أمكنه أن يستعمل في هذا اليوم آنية وظروفًا غير التي يستعملها في سائر الأيام، عُدَّ ذلك من الاحترام والتوقير لليوم.

والغالب على الإنكليز عمومًا مراعاة الفروض الدينية، إما عن تعبد أو لمصلحة، فإن الطبيب مثلًا إذا علم منه أنه لا يحضر الصلاة، أو ليس عنده كتب دينية في بيته، أو كان قليل الاحترام لأهل الكنيسة، فضلًا عن كونه يجادلهم، قَلَّ اعتباره عند ذوي الوجاهة، وقل نفعه من حرفته، وجل المؤلفين من الإنكليز يستشهدون بكلام من التوراة والإنجيل ترويجًا لبيع الكتاب حتى إن «بلير» بنى معظم أساليب البلاغة والبيان في كتاب المعاني على عبارات من التوراة.

وهذا الرئاء والتدليس قلَّ أن يوجد في الفرنسيس، فإن من كان منهم قليل الدين انقطع عن الكنيسة أصلًا، والمؤلف منهم إذا كان غير ذي اعتقاد بالتوراة لا يستشهد بها في شيء، ولا يكون ذلك باعثًا لكساد حرفتهما.

أما أهل الكنيسة المتفرعة فهم أشد تحمسًا وتصلبًا من أولئك، فقد يعظون الناس في الطرق والحقول، ويوزعون في البيوت كتبًا ورسائل دينية، وكذلك يفعلون في المدن الغناء، وربما منعتهم الشرطة من الوعظ علانية لئلا تجتمع عليهم الأوباش، فيكون من اجتماعهم ما يوجب النزاع.

ويذهبون إلى كنائسهم ثلاث مرات في يوم الأحد، ولا يعوقهم عن ذلك برد ولا ثلج ولا مطر، والقاطنون منهم في أماكن منفردة يقصدون الكنائس القريبة، وجميع القسيسين في بلاد الإنكليز يكلفون خدمتهم وضيوفهم حضور الصلاة في ديارهم صباحًا ومساء، وقبل تناول الطعام وبعده لا بد من تلاوة صلاة أو دعاء، وإن غاب القسيس قامت امرأته في ذلك مقامه.

(١٣-٦٦) كهنة الإنكليز وكنائسهم

واعلم أن الكنيسة المتأصلة مؤلفة من مطرانين؛ أحدهما: مطران كنتر بوري، ودخله في العام خمسة وعشرون ألف ليرة، وهو ثاني صاحب الملك في الرتبة والمنزلة، والثاني: مطران يورك، ودخله خمسة عشر ألفًا، ومن خمسة وعشرين أسقفًا وظيفة كل منهم من أربعة آلاف ليرة فصاعدًا، ومتى عجز أحدهم عن القيام بخدمته، رتب له ألف ليرة، وقد كان لأسقف برهام ستة عشر ألف ليرة، ولما انزوى في قصره عين له نصف المبلغ، وتحت ذلك مراتب متعددة؛ الأولى: «جانسيلر»، ثم «الدين»، ثم «الأرشيديكن» أي رئيس الشمامسة، ثم «البريبندري»، ثم «القانوني الأكبر والقانوني الأصغر»، ثم «الفيكار»، ثم «الركطر» وعدتهم بموجب آخر تعريف بلغت ١٢٣٢٧، وعدة كنائس البروتستانط بلغت في سنة ١٨١٨ «١١٧٤٢».

وفي القرن السابع كان للأكليروس كلمة نافذة حتى على الملك، وفي سنة ١٨٥٤ بلغ ما جمع لنفقة كنائس إنكلترة وحدها في سنة واحدة ٣٠١٥٤٠ ليرة، ولمساعدتها ١٦٤٧٧١، فتكون الجملة ٤٦٦٣١١، وفي سنة ١٦٠٤ استعفى منهم ألفان من وظائفهم كراهية أن يمضوا أسماءهم على كتاب الصلوات المشتمل على تسع وثلاثين عقيدة.

ولهذه الكنيسة حق في أن تأخذ العشر من سائر الكنائس، بل ومن اليهود أيضًا، وطالما تظلم أهل الكنيسة المتفرعة من أداء العشر لها فلم يُجْدِ ذلك نفعًا، ولا تسمح للكنيسة المتفرعة أو لغيرها بوضع أجراس، وإذا اضطر أحد من المتفرعين إلى زواج مثلًا أو معمودية أو غير ذلك من الفرائض الدينية وطلب من قسيس المتأصلة أن يقضي له ذلك حالة كون قسيسه غائبًا لم يجبه إلى مطلوبه، وقد بلغني أن رجلًا مات وكان حال حياته مذبذبًا في عقيدته فتنازع قسيسا الكنيستين على أيهما يدفنه، وطال ذلك بينهما حتى أَرْوَحَ الميت.

ويمكن أن يقال: إن الكنيسة المتأصلة هي ديوان من بعض دواوين الدولة، فإن كلمة ركطر القرية أبلغ نفوذًا وفاعلية من كلمة ضابط البلد، وليس شرطي الديوان في قريته إلا من بعض أتباعه، وإذا زاره أحد الفلاحين فلا يأذن له في الجلوس، فهو على هذا جدير بأن يقال له: دهقان القرية أو شيخ البلد، وربما بلغ دخله ألف ليرة، فترى له أحسن الديار وعنده خدمة، وعاجلة فاخرة، وخادم يسوقها، وعلى برنيطته شريطة من ذهب كخدمة الأمراء، ثم إذا صعد المنبر وعظ المساكين المحتاجين إلى القوت الضروري بالزهد في الدنيا وتجنب شهواتها.

ولا يمكن إقامة دعوى في ديوان أحد الأساقفة إلا بمصروف وافر، فلهذا يتأتى أن يعيش الرجل مع امرأة عيشة المتعة والسفاح إلا إذا صدر له حكم من ديوان الأسقف من دون نفقة وذلك نادر، وهذه الكنيسة هي مثل الدولة في أنها لا تروم تغيير شيء من رسومها وتراتيبها وأحكامها، فإن قسيسيها يتلون في كتاب الزبور وبعض فصول من التوراة والإنجيل وهي مخالفة لما في أيديهم الآن منها؛ وذلك لأن كتاب الصلوات جرى استعماله عندهم قبل ترجمة التوراة، فلما شرعوا في ترجمتها وجدوا أن ما أدرج فيه كان مخالفًا للأصل فأبقوه على خلله، ومن يوم شرعوا في التأليف تجد اسم يسوع على نسق واحد في جميع كتبهم وكلامهم وهو «جيسس» إلا في موضع واحد من كتاب الصلوات المذكور، فإنه فيه «جيسو» فكأنه في اللاتينية مجرور، وكلما طبعوا نسخة من هذا الكتاب حذفوا السين في ذلك الموضع.

ولا بد من أن يكون في كل قرية في بلاد الفلاحين كنيسة للمتأصلة، وإن لم يكن فيها دكان لبيع أهم ما يكون من المأكول والملبوس، ولا بد أيضًا من أن يكون لها برج يلزقها لوضع الأجراس، فمنها ما يكون له أربعة أجراس، ومنها ما يكون له ستة، أو اثنا عشر، وضربهم بها مطرب، ولا سيما على بعد، وهم يدعون بأنه ليس من يجاريهم في هذه الصنعة فإنهم أتقنوها غاية الإتقان، حتى إنها تكاد أن تعد من فنون صنعة الإيقاع.

وأكبر جرس في الدنيا جرس «كرملين» أو «كرميلان»، وهي قلعة مدينة المسكوب زنته ٤٤٣٧٧٢ رطلًا، وقيمة جوهره ٦٦٥٦٥ ليرة، ولما شرع في سبكه تبرع كثير من الناس بالفضة والذهب فخلطا معه، ثم يليه جرس كنيسة صانت إيفان في المدينة المذكورة، زنته ١٢٧٨٣٦ رطلًا، وزنة جرس كنيسة رومية ١٨٦٠٧، وجرس قصر فلورانس ١٧٠٠٠، ونحوه جرس أكسفورد، وزنة جرس كنيسة صان باول بلندرة ١١٤٧٤، وفي هذه السنة وضع جرس في برج مجلس المشورة بالمدينة المذكورة زنته ٣٦٠٠٠.

قال فلتير: «إن بلاد الإنكليز هي بلاد المذاهب والنحل، فالإنكليزي يذهب إلى السماء من أي طريق شاء، ولكن وإن يكن ممكنًا لكل واحد منهم أن يعبد الله ويخدمه على الوجه الذي استحسنه، إلا أن دين الدولة هو الوسيلة للتمول ونوال الوظائف والمراتب السامية، فلا يمكن لأحد أن ينال وظيفة في إنكلترة وإرلاند ما لم يكن على مذهب الكنيسة الأسقفية، وهذا الحظر جعل جل ذوي الوجاهة والنباهة من حزبها، ثم إن أكليروس هذه الكنيسة قد اقتدوا بالكنيسة الكاثوليكية في سنن كثيرة، وخصوصًا في أخذ العشر من الرعية، وفي النهم إلى التآمر عليهم؛ لأن ركطر القرية إن هو إلا بابا لو استطاع، إلا أنهم أكثر حشمة وعفة من قسيسي فرنسا، وأخص أسباب ذلك هو كونهم يتربون في أكسفورد وكمبريج بعيدين عن فساد المدن الكبيرة.» قلت: لعله حين كتب ذلك كان إكليروس فرنسا على غير ما نراهم في هذا العصر، فإنهم الآن قدوة في الفضائل والمحامد.

وكذا يوجه قوله: «بعيدين عن الفساد»؛ فإن هاتين المدينتين الآن فيهما من البغايا ما يكفي أهلهما وغيرهم معهم، ولو قال: إن أخص أسباب ذلك هو كون قسيسي الإنكليز يباح لهم الزواج لكان أولى، قال: «ولا ينتدبون إلى رتب الكنيسة إلا إذا بلغ أحدهم من العمر ما لا يكون له فيه نهم.» قلت: حد القسيس أن يكون بالغًا من العمر أربعًا وعشرين سنة، ومتى عرف فضله وعلمه بعد ذلك يرقى إلى درجة الأسقفية من دون تعيين سن.

(١٣-٦٧) التوجه إلى برستول

وهنا فليفرح الوادُّون، وليكمد الشامتون، فإن الدكطر «لي» عزم على التوجه إلى برستول ليقضي فيها وظائفه الكنائسية مدة شهرين، ولكن ليس بعد أن نعيته إلى القارئين والسامعين؛ ومن ثم وجب عليَّ أن ألحق به، ففصلت من تلك القرية المشئومة إلى لندرة، ومنها إلى المدينة المذكورة، فبلغتها في نحو خمس ساعات، في خلالها وقف الرَّتَل في عدة مواقف، وكان قد أخبر صاحبة المحل بقدومي وحالي، وأوصاها بأن تطبخ لي طبيخًا فرنساويًّا؛ أي أن يكون كثير البقول قليل اللحم، فلما كان المساء أحضرت لي طعامًا مطبوخًا من دون ملح على عادتهم، لكنها احتفلت بي غاية الاحتفال، حتى استحييت من أن أذكر لها الملح.

وفضلًا عن ذلك، فإن فرحي برؤية الأسواق والديار والعواجل أَنْسانِيه، ثم لما قابلت الدكطر «لي» في الغد سألني عن الطعام، فقلت له: إنه كان بغير ملح، قال: «كيف ألم تحضر معك ملحًا على المائدة؟ فلِمَ لمْ تملحه أنت؟ فإنها خشيت أن تضع فيه ما تعافه.» فقلت: «لو أحضرت لي اللحم نيئًا لكنت أطبخه بأنفاسي، وأملحه بدموعي، وكان خيرًا من عادتكم هذه المنغصة.» قال: «لا بأس بين لها المرة الثانية قدر ما تريده من الملح تفعل.» ثم لمت صاحبة المنزل على طبخها الطعام غير مملوح، فقالت: «هذا دأبنا، أرأيت ذلك المخلل الذي أكلته البارحة؟ لو أنك أعطيت زوجي خمسين ليرة لما أكله مع أنه كان خسًّا بالخل.»

وبينما كنت ذات يوم جالسًا معهم على المائدة؛ إذ دخل طفل لها وهو وسخ الثياب والطلعة، فقال لها زوجها: «لم تغادرين الولد وسخًا هكذا؟» فقالت: «قد غسلته هذا الصباح، ولكن طبعه أن لا يدع شيئًا من ثيابه نظيفًا.» ثم لجَّا في الكلام فما أشعر إلا والست قامت، وجاءت بالمكنسة لتضرب زوجها، فهرب من قدامها، فأقبلت تجري وراءه وهو هارب، فلما لم تلحقه غشي عليها من شدة الغضب، فتداركها الرجل بالعرقي وبغيره حتى أفاقت، مع أنها كانت من أهل الصلاح وكان زوجها بمنزلة نصف قسيس.

(١٣-٦٨) وصف مدينة برستول

ثم إن برستول هي من المدن القديمة لا بهجة لها ولا رونق، وهي ضيقة الطرقات قذرتها، وليس لها مماشٍ رحيبة ولا ساحات فسيحة ولا مقاعد ولا متنزهات، ولا محال للقهوة أو الحظ سوى ملهى واحد، وعدد أهلها مائة وخمسون ألفًا، وقلَّ فيها وجود غريب، وبيوتها الجديدة حسنة، فأما القديمة فلا تصلح لشيء، فإن صفحها شبه زاوية منفرجة، يبدو منه تسنم سطوحها، وتجد بين البيت والبيت من فرق خلاء تنبو عنه العين، ونساؤها يشبهن نساء الفرنسيس في استدارة الوجه، ولها نهر صغير فيه بواخر وغيرها مسافته نحو سبعة أميال يأتيه الجزر والمد في اليوم مرتين، ومنه تسافر البواخر إلى والس، وقد شرع في بناء جسر عليه من حديد ولم يتم لكثرة مصروفه، وعند هذا الجسر كانت محلة للرومانيين لما افتتحوا بريتانيا، وقد بقي من آثارهم حائط كانوا يتَتَرَّسون به، قال مؤلف أبجدية الأوقات: «كان بناء برستول في سنة ٣٨٠ قبل الميلاد، وكانت تعد من المدن المحصنة واسمها في القديم «كاير بريتو» أي مدينة البريتانيين.» انتهى.

واتفق بعد نزولي في ذلك المحل أن قدم القاضي ونزل فيه، وفي الغد حضر نحو أربعين رجلًا من شرطة البلد واصطفوا لدى الباب، ووقف اثنان ينفخان في أبواق من فضة، ثم جاء ضابط مترديًا بلباس أحمر، وكان القاضي قد لبس أيضًا لباسًا أحمر وعلى رأسه شعر عارية أبيض، فدخلا في عاجلة نفيسة، وقف عليها رجلان لابسان كسوة مزركشة بالذهب كما هي عادة خدام الأمراء، ثم دخل معهما رجل حامل سيفًا طويلًا في كعبه صورة تاج، وله ثلاثمائة ليرة في العام لحمل السيف، ثم ذهيوا إلى دار الحكومة وكان عن شمال العاجلة ثمانية من الشرطة يحملون عصيًّا من فضة رءوسها كالمباخر، واثنان يحملان مزاريق قد غشيت أعاليها بالفضة، وفي كل سنة يحتفلون به هذا الاحتفال، فإن القاضي لا يستقر في البلدة، وإنما يأتي إليها أربع مرات في السنة لفصل الدعاوى الخطيرة في أيام معدودات، وفي مدة غيابه ينوب عنه أناس في فصل غير المهم.

وفي برستول كنيسة للطائفة المعروفة بالكويكرس — والسين علامة الجمع — وهم صنف من النصارى إلا أنهم لا يعتقدون بالمعمودية ولا بالقربان، ولا يقرءون الإنجيل في كنائسهم ولا صلوات معينة، وليس لهم شعائر معلومة ولا قسيسون كما للنصارى، وإنما أتقياؤهم هم المتقدمون فيهم، ومعابدهم عبارة عن بيوت لا فيها فرش ولا محاريب ولا مذابح ولا كتب ولا صور ولا منابر، ويقولون: إن التدين لله لا يكون مُرْضِيًا إلا بالروح، فجميع الرسوم والتكليفات والفرائض عندهم لغو، ويقولون: إن المسيح نفسه كان كويكرًا، وإنه لا يجب تأدية العشور لرؤساء الكنائس، ويبقون ساكتين إلى أن يوحى إلى أحد منهم في زعمهم، فيلقي ما أوحي إليه في بضع دقائق، وهو واقف، فإذا فرغ قعد واستراح.

وقد ذهبت مرة إلى معبدهم فاجتمع فيه نحو مائة وعشرين نفسًا، جلست النساء في الجانب الأيمن على دكك عليها زَرابي، وجلست الرجال على الأيسر على دكك متقابلة من دون زرابي، وجلس في صدر المحل أربعة رجال وثلاث عجائز على دكة عالية، وجلس دونهم خمس عجائز وثلاثة رجال، وبقوا كذلك صامتين ساعة وربعًا، ثم قام رجل من أصحاب الدكة العليا الذين كانوا أقرب إلى الوحي وألقى على الناس كلامًا وجيزًا نحو خمس دقائق، معناه أن رضوان المولى هو بأن يكون عقل العبد منجذبًا إليه، وأنه سيأتي أيام يعين فيها بعض الناس بعضًا بالإرشاد والهداية، وأن جزاء كل إنسان منوط بعمله وما أشبه ذلك، ولم يذكر في كلامه اسم المسيح ولا اسم روح القدس.

وبعد نحو ربع ساعة قامت عجوز من أصحاب الدكة الثانية، فقام جميع الحاضرين وحسرت الرجال عن رءوسهم، فإنه لا حرج على من ظل مُقَلْنسًا في المعبد، وأخذت تصلي بصوت مرتعش مختلج نحو خمس دقائق، فذكرت اسم المسيح ولم تذكر روح القدس ثم انفضوا.

وشعار هذه الطائفة هو أن رجالهم يلبسون جُبَبهم مثنية على أعناقهم من دون أطواق، وأن النساء يلبسن برانيط طويلة من قدام حتى تغم وجوههن وخصوصًا العجائز، وهي غالبًا من الحرير، وثيابهن من لون واحد، ومن مذهبهم أنهم يجتنبون مواضع الحظ واللهو والسكر، وأن لا يحلفوا بيمين ما وَلَوْ في مجلس القاضي، ولا يرون في الحرب خيرًا وحسبك بالسفراء الذين ذهبوا منهم إلى قيصر الروس عند ابتداء الحرب دليلًا، ومن شأنهم الاقتصاد في النفقات، وأن يساعد بعضهم بعضًا، وقد كانوا في الزمن القديم عرضة للاضطهاد والطرد، ولكنهم الآن آمنون، ولهم بعض خصائص منها إذا تكلموا مع شخص أيًّا كان خاطبوه بلفظ المفرد بخلاف عرف اللغة، وإذا حضر أحدهم مجلس الملك حضر بكسوته الاعتيادية من دون وضع شعر عارية، ولا ينزع برنيطته بيده، وإنما ينزعها عنه آخر، ويخاطبون كل واحد بلفظة يا صاحب، ولا يتنافسون في الألقاب والنعوت، ولا يجودون بها على أحد ولا يحدون على ميت، وعندهم أن النساء في الفضائل والمناقب كالرجال، وعدد هذه الطائفة في برستول أكثر من عشرة آلاف نفس، ولا يكاد يوجد بينهم فقير.

قال الفيلسوف فلتير: لطائفة الكويكر معابد كثيرة في لندرة أعظمها الموضع المسمى «منيومنت»، زرته مرة مع مضيفي فاجتمع فيه نحو أربعمائة رجل وثلاثمائة امرأة، وكانت النساء ساترات وجوههن، وعلى رءوس الرجال برانيط كبيرة، والجميع سكوت، فجزت بينهم، ولم يرفع أحد طرفه للنظر إليَّ، وبعد صمت نحو ربع ساعة قام أحدهم وحسر عن رأسه، ثم بعد أن أبدى بعض زفرات بعضها من فيه وبعضها من منخريه، ألقى على الحاضرين جملًا مشوشة مضطربة زعم أنها من الإنجيل، فلا هو ولا أحد غيره فهم منها شيئًا، ولما فرغ من ذلك انصرفت الجماعة فسألت مضيفي: «ما بال حكمائكم يرضون بهذا الهذيان؟» فقال: «إنا مضطرون إلى أن نرخص فيه؛ لأنا لا ندري هل الشخص الذي يقوم للخطبة يكون قيامه بوحي من الروح أو الحماقة فنصغي إلى ذلك ونحن صابرون مرتابون، بل نرخص أيضًا للنساء في الكلام، وقد يتفق أن يوحى إلى اثنين أو ثلاثة في وقت واحد، فمن ثم يقع ضجيج ولغط في بيت الله.» فقلت: «أليس فيكم إذن قسيسون؟» قال: «لا وإنا لنجد أنفسنا بدونهم في حال أحسن.» ثم تلا من كتاب ما معناه أن الله تعالى لم يرضَ أن نعين أحدًا لقبول روح القدس في أيام الآحاد إخراجًا لسائر المؤمنين منه، ثم قال: «الحمد لله على أنا نحن دون سائر الناس لا قسيسين لنا، ولم نترك ولدنا عند مرضع إذا كان عندنا لبن يغذوه.»

قال: «وانتشار مذهبهم كان في إنكلترة سنة ١٦٤٢، وذلك عندما ظهر فيها ثلاثة مذاهب أو أربعة أضرمت فيها نار الحرب بين الأهلين تعبدًا لله تعالى، فقال إذ ذاك رجل اسمه جورج فوكس من كورة يقال لها «ليسستر»، وكان ابن رجل نساج للحرير، فأخذ يعظ الناس وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكان أميًّا حميد السيرة، لكنه كان معتوهًا فكان يلبس جلدًا من رأسه إلى قدمه، ويطوف من قرية إلى أخرى مقبحًا على الحرب وعلى أهل الكنيسة، ولو أنه ذم العسكر وحدهم لما كان لقي ما يخاف منه، إلا أنه لما كان ذمه موجهًا إلى رؤساء الدين، لم يلبث أن قبض عليه وأحضر بين يدي قاضي دربي وهو على ذلك الزي وقلنسوته الجلد على رأسه، فبادره أحد الجند بلكمة على خده، وقال: «قبحًا لك، ألم تعلم أنه ينبغي لك أن تحضر بين يدي القاضي حاسر الرأس؟» فأدار له فوكس خده الثاني، والتمس عليه أن يلكمه لكمة أخرى حبًّا بالله.

ثم تقاضاه القاضي يمينًا قبل أن يسأله فقال: «إني لن أتخذ اسم الله بالباطل أبدًا.» فغاظ ذلك القاضي حتى أرسله إلى دار المجانين في دربي؛ فسار وهو يحمد الله على ذلك، فلم يَأْلُ المأمورون بجلده جهدًا، فكان فوكس يتضرع إليهم أن يزيدوه من هذه النعم لصلاح نفسه فما ردوا طلبته، ولكنهم عجبوا منه، فأخذ حينئذ يعظهم وينذرهم فتضاحكوا منه أولًا، ثم أصغوا إليه وارتاحوا لقوله، وصدقه كثيرون منهم، ثم لما أخرج من السجن جعل يطوف في البلاد ومعه اثنا عشر رجلًا ممن تمذهبوا بمذهبه وهو يذم أهل الكنيسة، فعرض نفسه أيضًا للجلد مرة بعد مرة، فلما أُخذ يومًا إلى موضع النكال ألقى على الحاضرين خطابًا بغاية الحماسة، فهدى منهم إلى مذهبه خمسين نفسًا واستمال الباقين إلى محاماته حتى أنقذوه من تلك الورطة، وجعلوا بدله القسيس الذي تسبب في معاقبته.

ثم استمال أيضًا بعضًا من جند كرومول، فأنكروا الحرب وأبوا اليمين، فأمر أن يقبض عليهم؛ إذ لم يكن يريد أن فرقة من الناس لا تَحُضُّ على القتال، فقبض عليه وملئت السجون منهم، إلا أن شأن الاضطهاد أن يزيد في عدد الدخلاء، فزادوا ثباتًا في معتقدهم، وآمن لهم السجان أيضًا، والذي زاد في هذه الشيعة — فضلًا عما ذكر هو — أن فوكس كان يعتقد بأن له سرًّا يمكنه من التكلم بما يخالف عادة البشر، فأخذ يرجف ويرتعش ويَتَأَوَّى، ويكظم نفسه ويتنفس الصعداء، فلم يلبث أن صار له دربة بالوحي عظيمة، حتى لم يعد يقدر على الكلام إلا به، وكانت هذه أول منحة أفادها لتلاميذه، فأسرعوا في محاكاة إمامهم في تغيير السحنة والارتعاش عند هبوط الوحي عليهم جهد المستطيع، ومن ثم سموا «كويكرس» أي مرتعشين.

أما العامة فإنهم نبذوهم، واتفق مرة أن قال فوكس لأحد القضاة جهرًا بحضرة جمع كبير: «احذر لنفسك يا صاح، فإن الله يعاقبك سريعًا على اضطهادك الأطهار.» وكان هذا القاضي مولعًا بالشراب وكان يسكر في كل يوم، فاعتراه بعد يومين فالج أودى به، وكان يهم إذ ذاك بأن يمضي حكمًا بحبس بعض الكويكرس، فخلج قلوب الناس أن موته كان سببًا من اضطهاده الرجل الطاهر لا عن إدمانه على الشرب، فصار هذا الموت الفجائي سببًا في اجتذاب كثير من الناس إلى مذهب الرجل أكثر من ألف موعظة وألف ليَّة، فلما رأى كرومول عددهم يتزايد في كل يوم رغب في أن يستميلهم إليه، فعرض عليهم المال فأبوه، فقال يومًا: «لعمرى إن هذا الدين هو الدين الوحيد الذي لم نستطع أن نغلبه بالمال.» ثم صاروا عرضة للاضطهاد في عهد كرلوس الثاني، ليس لأجل الدين ولكن لامتناعهم عن أداء العشر للأكليروس ولخطابهم القضاة «بأنت»، ولامتناعهم من اليمين التي يوجبها الشرع.

وفي سنة ١٦٧٥ قام رجل من أهل سكوتلاند اسمه روبرت باركلي، وقدم للملك معذرة عن الكويكرس، وهي من أحسن ما كتب في هذا الباب؛ إذ لم يرتكب فيها شيئًا من التمجيد والإطراء، وإنما أودعها الكلام الحق والنصح السديد، وكتب في آخرها: «إنك قد ذقت الحلو والمر، والنعيم والبؤس، فإنك طردت من البلاد التي ملكت فيها، وشعرت بثقل الظلم، فكان ينبغي لك أن تعلم أن الظلم مقت عند الله والناس، فإن كان قلبك لا يلين بعد تلك المحن والخيرات، ونسي الله الذي لم يَنْسَكَ في بؤسك، فإن إثمك يكون أعظم، وهلاكك أشد، فإياك من الإصغاء إلى ما يطريك به أهل ديوانك، بل اصغَ إلى صوت الضمير الذي ليس من شأنه الإطراء ولا التمليق. من صاحبك الأمين وأحد رعيتك روبرت باركلي.»

وأعجب من ذلك أن هذه الرسالة مع كونها صدرت من رجل خامل الذكر، فقد نجعت في قلب الملك، حتى كف الاضطهاد عنهم، وفي هذه الأثناء ظهر وليم بن النبيه، وبث مذهب الكويكرس في أميريكا إلى أن قال: «وليس لأهل المذهب في إنكلترة أهلية لأن يكونوا من أهل مجلس المشورة، ولا أن يتولوا المناصب العمومية لامتناعهم من اليمين مما لا بد منه في الأمرين، فجل كسبهم المال إنما هو من التجارة، وحيث كان غنى الأولاد إنما هو من كد والديهم كان لهم مطمح إلى كسب الشرف والأزرار والقفازين، ويستحيون من أن يقال لهم كويكرس فيذهبون مذهب البروتستانط ليكونوا في عداد أهل السمت والطراز … إلخ.»

وفي برستول أيضًا كنيسة لليونيتاريين، ومعناها الموحدون، يعتقدون بوجود إله واحد فقط، وأن عيسى المسيح إنما كان بشرًا، وأنه إنما قيل له: ابن الله من قبيل التعظيم، كما قيل أيضًا لسليمان ابن داود، وهم في البلد أصحاب وجاهة وثروة.

وفيها أيضًا زمرة تسمى شيعة سويدنبرغ، اعتقادهم أن الله واحد أحد، وأنه ظهر في ناسوت المسيح، وأن جسم المسيح هو المراد بقولهم الابن، وأن اللاهوت هو الذي يقال فيه: إنه الأب الخالق، وبالجملة فإن المسيح هو عندهم الابن وروح القدس ومظهر اللاهوت، ومنشئ هذا المذهب رجل جرماني ظهر منذ ستين سنة تقريبًا.

ومن شططهم أنهم يُؤَوِّلون كل لفظة وردت في التوراة بمعنى غير الظاهر، فيُؤَوِّلون لفظة سورية مثلًا بالعلم والمعرفة، وخيل مصر بالمنعة، والجبل بالحماية، وقد ألف سويدنبرغ في ذلك مؤلفًا ضخمًا لا يكاد القارئ يختمه في بضع سنين، ومن كلامه لما كان للكلمة استعمالات كثيرة، وكان المسيحيون الأولون سذجًا يفهمون كل شيء على ظاهره، فرقوا اللاهوت، فجعلوه ثلاثة أقانيم، فاعتقد به كذلك من خلفهم إلى أن قال: لأنه ما أحد يدخل السماء وهو يعتقد بثلاثة آلهة.

وفي برستول مرقب فيه مقصورة عالية مظلمة لها كوة في أعلاها مرآة، يقع عليها نور الشمس فترتسم ضواحي المدينة به على مائدة لها سطح مجوف، فيرى الناظر فيها النهر والشجر والرجال والنساء والماشية، فيخل له أنه بينهم، وقيل: إن رجلًا رأى في هذه المائدة زوجته تماشي رجلًا وهو يقبلها فعرفها، فلما رجع إلى داره خاصمها خصامًا أوجب الفراق.

وكانت صاحبة المحل الذي نزلت فيه مولعة بالمزمرة، وهي إمرار اليد على وجه إنسان حتى يغيب عن الإدراك، وهي نسبة إلى رجل نمساوي اسمه مزمر، فاشتقوا منه فعلًا، يقال: مزمره أي عالجه بإمرار اليد؛ وذلك أنهم يعتقدون أن في بعض الأجسام خاصية تؤثر في غيرها على مقتضى ما ينويه المؤثر، وقد سمعت من الست المذكورة أن بعض الأطباء مزمر خادمة له حتى خَثَرَت نفسها، ثم لمس من رأسها مبعث الأنفة والمدافعة، وقال لها: «أنت دميمة» فقالت: «لا بل أنا أحسن خلق الله وجهًا.» ثم لمس مبعث الكرم، فقالت: «بالباب مسكين خذوا هذا الدرهم وأعطوه إياه.» ثم لمس مبعث الغضب فجعلت تهيج وتشعث شعرها، فأراد أن يرجعها إلى حالتها، وارتاب في استطاعته على ذلك فلم يقدر، وبقيت الجارية كذلك هائجة مضطربة؛ وذلك لأنك إذا أثرت في شخص وأحلته عن حالته وشئت رده لزمك أن تعتقد اعتقادًا يقينًا بأنك مستطيع عليه.

فلما تبين له عجزه استدعوا بطبيب آخر، فحاول أن يخرجها من قوة تأثير الأول بواسطة الإمرار فلم يتم له ذلك بالكلية، وإنما أضعف منها أثر الأول إضعافًا، فباتت على تلك الحالة، ولما أصبحت خف ما بها ثم شفيت، ويقال: إنه إذا أمر الشخص المؤثر فيه بقتل إنسان قتله، أو بقضاء حاجة قضاها دون تلبث، حتى إنه ليفعل ما فيه ضر نفسه، وإنه يدل على أشخاص وأماكن لم يكن رآها من قبل وينعتها كما هي.

واتفق أن جارية الست المذكورة أصابها ورم في وجهها عن وجع ضرس، فأجلستها على كرسي ومزمرتها حتى غشيها سبات، ويبست جوارحها، فأخذت سيدتها تنفخ عليها، وما زالت بها حتى شفتها بالمرة، ومرة أخرى أجلستها أمامي ثم لوت يديها إلى صدرها ثم أمرت يديها على وجهها، فما لبثت أن غمضت عينيها، فأمرتها أن تمشي من ذلك المحل إلى غرفة، فمشت وعيناها مغمضتان، وسيدتها ممسكة بها خيفة أن يصدم رأسها شيء، فلما وصلت قالت المخدومة: «أين تريدين القعود، على الكرسي أم على الأريكة؟» فقالت: «بل على الكرسي.» فقالت لها: «لك ذلك» فجلست، فسألتها عن أي شيء يشتغل فلان به، فقالت: «هو ناظر إلى ساعته.» قالت: «كم الساعة الآن؟» قالت: «الحادية عشرة وربع» فنقلت إصبعها إلى موضع آخر من دماغها وقالت: «أخطأت» فقالت: «بل خمس دقائق بعد الظهر.» ثم أمرتها بالغناء فغنت ثم بالضحك فضحكت، ثم سألتها عن خادمة لها كانت قد ذهبت صباح ذلك اليوم إلى أمها، ماذا تصنع؟ فقالت: «إنها الآن تكلم أمها في شأنك، وتطلب منها أن تكلمك لتعفيها من المزمرة، وإنها تتمنى أن تراك مرة تمزمرين أحدًا.» فلما رجعت الخادمة في الغد سألناها عن ذلك فأجابت بما ذكر، ثم إنها نفخت عليها وأمرت عليها يديها صعدًا فأفاقت.

وهذه الخاصية قد شهرت في فرنسا جدًّا وأشد الناس إنكارًا لها أهل الكنيسة والأطباء، فإن الاعتقاد بها يوجب الشك في النبوة ويصدف المرضى عن الأطباء، وسأذكر في وصف باريس ما جرى بيني وبين إحدى هؤلاء النساء وفي هذا القدر الآن كفاية.

(١٣-٦٩) رحلة إلى بعض جبال والس

ثم سافرت من برستول قصد أن أرى بعض جبال والس فينشرح صدري؛ لأن بلاد الإنكليز كلها كما ذكرت سابقًا عبارة عن حقول ومروج، وهي وإن تكن ناضرة إلا أنه لا شيء يبعث على إدارة الفكر وإجالة الخاطر كرؤية الأماكن المختلفة نحو أن يكون فيها سهل وجبال وآكام وأودية وغياض فكلما تعددت المناظر للعين كثرت الخواطر في الذهن، وتنوعت الهواجس في الصدر.

فسافرت في الباخرة فبلغت فرضة تسمى «نيوبورت» أي المرسى الجديد في نحو ساعتين ونصف فبت هناك تلك الليلة، وفي الغد سألت عن أقرب الجبال، فقيل لي: «إذا طلعت هذه العقبة ظهر لك.» فطلعتها ودللت على جبل يسمى «لندوغو» وهي كلمة والسية؛ لأنه لا يوجد في لغة الإنكليز كلمة تنتهي بحرف الواو، فسرت إليه ماشيًا؛ إذ لم أجد راحلة تبلغني إليه.

فكنت أسأل المارين عن مقدار بعده فكان بعضهم يقول: سبعة أميال وبعضهم خمسة وبعضهم ستة، فسألت عن بلدة أستريح فيها فَدُلِلْتُ على قرية بعضهم يسميها مدينة، وبعضهم قرية، وبعضهم بلدًا، وهي عبارة عن ستين بيتًا، فسألت عن مطعم فدللت على بيت مشهور عندهم، فأردت أن آكل بيضًا لعدم وجود اللحم والسمك عندهم، فقلت لصاحبة المحل: «إني أريد بيضًا.» فقالت: «لأي سبب؟» قلت: «للأكل» فقالت: «ما ثَمَّ بيض في هذا الأوان.» مع أنه كان في الصيف، فألححت عليها فبعثت من طَوَّف في القرية حتى جاء ببيضتين بعد الجهد، فقلت: «اقليهما بالسمن»، فلم تفهم فأعدت عليها الكلام، فقالت: «تريد أن تكسر البيض في السمن؟» قلت: «نعم» قالت: «فما يكون هذا إغلاء؟» قلت: «بل هو قلي.» قالت: «هذا مما لم أفعله في عمري قط فصفه لي.» قلت: «تضعين المقلاة أولًا على النار، ثم تصبين فيها السمن حتى يذوب، ثم تكسرين البيضتين فيه، وأنا أتولى بعد ذلك أمرهما.» قالت: «فالأولى أن تتولاه من الآن وتقليهما كما تشاء.»

وإنما أوردت هذه الواقعة إشعارًا بجهل هؤلاء القوم أدنى أنواع الطبخ، والمتفننون منهم يقلون البيض بمائه ومن تحته لباب الخبز، ثم إن هذا الجبل، وإن يكن منظره في الحقيقة مما تسرح فيه العين وينشرح به الصدر بالنسبة إلى بلاد الإنكليز المحتتنة، إلا أنه بالنسبة إلى بلادنا يعد دكًّا أو أكمة.

واعلم أن أهل والس هم أهل شجاعة وبسالة، وهم الحريون بأن يقال لهم: بريتانيون، فإنهم لم يبرحوا في منعة، ولهم لغة خاصة بهم، إلا أن كبراءهم وأغنياءهم يتكلمون بالإنكليزية، ولكثرة مكاتب الإنكليز فيها الآن أقبلوا على تعلم لغتهم، غير أن لغتهم الأصلية لم تزل مستعملة، وهي تشتمل على بعض حروف الحلق كاللغات المشرقية، ويقال: إنها تشبه لغة أهل بريتون من فرنسا أو إنها هي بعينها.

والتمدن والتأدب عند الفلاحين هنا أقل منهما عند فلاحي إنكلترة، وقد كانت بلادهم في الزمن القديم مستقلة بنفسها، وأول من ألحقها بحكومة الإنكليز كان إدورد الأول، وذلك في سنة ١٢٨٢ عند موت أميرهم «لويلن»، لكنهم بقوا بعدها يحاولون الاستقلال إلى أن رزق الملك المشار إليه ولدًا في سنة ١٢٨٤ فسماه من دهائه أمير والس وبقي هذا اللقب خاصًّا بولي العهد في بيت الملك، ويقال: إن الملك حين سمى ابنه أمير والس حمله على ذراعيه، وقال لرؤساء والس بلغتهم: «أخ دين» ومعناه هذا بلديكم وملككم، فصارت هذه الكلمة شعارًا يكتب على ترس أمير والس إلى يومنا هذا.

وفي أبجدية الأوقات أن أهل والس كانوا يسمون قديمًا «صلتس» وهم أسلاف البريتانيين، وكانوا أول من سكن بريتانيا، ولفظة «بريتانيا» تشمل إنكلترة وسكوتلاند ووالس، وكانت تسمى «البيون» وهم إلى الآن يأنفون من أن يقال لهم: إنكليز.

ثم اتحدت «والس» بإنكلترة، وعدت منها بأمر مجلس المشورة، وذلك في سنة ١٥٣٥، فأما إرلاند فإن إلحاقها بإنكلترة كان في سنة ١٨١٠.

(١٣-٧٠) العودة إلى برستول

ثم رجعت إلى برستول، وتعرفت بأحد أفاضل الإنكليز الذين أولعوا بحب اللغات لا للتفاخر ولا للتكسب، ويقال له: دكطر «جون نيكلسن»؛ وإنما لقب بدكطر؛ لأنه كان درس الفلسفة في بلاد النمسا ونال هذه الدرجة، فإن لفظة الدكطر يوصف بها كل من الطبيب والرباني والفيلسوف على حد سوى، وكان قد تعلم أيضًا لغتنا، ولكن لم يكن سمعها قط من أهلها، فلما كنت أنشده منها كان يطرب غاية الطرب، فدعاني إلى أن أزوره في محله الكائن في بلدة بنريث من شمالي إنكلترة، فلما رأيت أن مسامرته غنم وإجابته حتم وعدته بذلك، ثم لما فرغت مدة الدكطر «لي» من برستول عزم على الرجوع إلى القرية المشئومة، فسافر قبلي بأيام، فسرت لأرى بلدة «باث» فبلغتها في نحو عشرين دقيقة، فأول ما دخلتها رأيت امرأة تغني وغلامًا يضرب بالسنطير المعروف عندنا، ولكن على ألحانهم، فسألت بعضًا عن اسم الآلة فلم يعرفها، فسألت العازف به، فقال اسمه: «دلسمر» وهو من اللاتينية مشتق من الحلاوة.

(١٣-٧١) في «باث» و«جلتنهام»

و«باث» هذه بلدة ظريفة، بناؤها من الحجر، وموقعها بين أودية ناضرة وتلال بهيجة، وهي مشهورة بماء معدني يُستحم فيه؛ ولهذا سميت باثا أي حمامًا، وهي مقر الكبراء والأغنياء ولا سيما المتقاعدين من الضباط وغيرهم ممن كانوا في الهند، وأهلها ينفرون من الغريب ويسلقونه بألسنتهم، وكذا هي سائر بلدان الإنكليز غير المطروقة من الغرباء.

ثم رجعت إلى برستول وسافرت إلى جلتنهام، فبلغتها في ساعتين، وهذه المدينة معدودة عند الإنكليز من أظرف المدن لحسن بنائها — فإنه من الحجر — ولنظافة طرقها وكثرة الأشجار في ضواحيها، ولكن ليس فيها محال للهو والقهوة ولا مطاعم حسنة، وقد أردت أن أتغدى في الظهر فلم أجد شيئًا عتيدًا فاضطررت إلى الشواء من الضأن واشتُرِط عليَّ أن لا أدخن.

(١٣-٧٢) من كلوستر إلى أكسفورد

ثم أردت أن أسافر إلى أكسفورد، فقيل لي: إنه لا يمكن ذلك إلا إذا رجعت إلى كلوستر، فعدت ولما دخلت البلد إذا بزحام وخلق كثير، فسألت عن سبب ذلك، فقيل لي: إنه عيد استئجار الخادمين والخادمات، وذلك أن المخدوم يستأجر خادمه إلى أجل، فلا يمكن للأجير أن يخليه إلا لأسباب، ومع هذا الزحام والضجيج فلم يكن من شيء يُرنى إليه إلا بنتًا كانت تمشي على خشبتين.

وهذه البلدة هي محل صنع الحديد، وهي قديمة قذرة كاظمة للقلب، ثم اجتزت بعدة بلدان منها استورد فيها معامل الجوخ ثم إلى أكسفورد — وقد تقدم ذكر ذلك — ثم إلى القرية، وكنت قد استأجرت بيتًا فيها يشتمل على أربعة مساكن، وفرشته على قدر ما اقتضى الحال على «متمكن غير أمكن» واستخدمت رجلًا يزرع في مَبْقَلَتِه ما لا بد منه من البقول أولها البطاطس، وأخذت أتشاغل بذلك تنفيسًا للكرب وتسلية للهم، فلم ألبث أن فجعت بولد لي، وحيث لم يكن في القرية ولا فيما يليها طبيب يوثق بعلمه — فإن المتطببين في بلاد الفلاحين إنما هم نفاية أطباء المدن — أشفقت على الباقي فرحلت من القرية قاصدًا لندرة، وغادرت البيت كما هو.

وكان عليَّ بادئ بدء أن أكلم كاتب الجمعية وأخبره بما أصابني، فلما قابلته غلبني النحيب والبكاء حتى انقطعت عن الكلام، فاستعظم ذلك مني على سني، فإن الإنكليز قلما يبكون على فائت، ثم لما أعلمته بالسبب وشكوت له ما لاقيت في القرية، وأني أخشى أن أموت قبل نجاز الترجمة رأى أن الإبقاء على حياتي هو الصواب، وأن الأوفق لي وللتوراة أن أمكث في كمبريج؛ لأكون غير بعيد عن الدكطر «لي».

واتفق مدة مكثي في لندرة أن وقع ضباب كثيف دام سبعة عشر يومًا حتى احتجنا في بعضها إلى إيقاد المصباح نهارًا لتهدي أيدينا إلى أفواهنا، فرأيت الجلاء أجلى وأولى، فمن ثم سرت إليها فبلغتها بعد نحو أربع ساعات، وهذه المدينة لا ملهى بها ولا حظ سوى مشاهدة المدارس والأساتذة والمتعلمين، وهم من التكبر والصلف بمكان إخوانهم طلبة العلم في أكسفورد، وبعد وصولي بيوم جرى النزاع واللكام ما بين أهل المدارس وأهل البلدة كما جرى في أكسفورد، وفيها تعرفت ببعض فضلاء الإنكليز ممن عنوا بالعربية، منهم الفاضل مستر وليمس الذي هو الآن مدرس فيها، والفاضل مستر برسطون الذي ترجم خمسًا وعشرين مقامة من مقامات الحريري إلى الإنكليزية.

ومنهم الفاضل مستر جون برطون قرأ عليَّ جزءًا من المقامات، وكان الذي عرفني به يهوديًّا كان يعلمه لغته، وأنه غاب عنه مدة فسألني عنه تلميذه ذات يوم، فقلت: «لا أدري أين هو؟ وإنما لاح لي من سيماء وجهه حين جاءني أن في أماقيه شرًّا.» ثم لم يلبث أن شهر عنه في البلد أنه كان يضاجع بنته وهي دون العشر سنين، وكان ذلك دأبه معها مدة مديدة، فحكم عليه بالنفي المؤبد، وقد أَدِبْتُ عند أحد أعيانهم وهو أحد أعضاء مجلس المشورة العام، وإذ كنا واقفين في المجلس نتحادث لمحت من بين القيام شخصًا يهم بأن يدنو مني ليكلمني، فدونت منه، فقال لي: «قد طالما أردت أن أسالك عن شيء في بلادكم، فهل تمن عليَّ بالجواب؟» قلت: «ما هو؟» قال: «إذا برك الجمل أيستطيع أن يقوم وحده؟» قلت: «لو سألتني عن الظعائن لأخبرتك، فأما الجمل فلا أدري.»

(١٣-٧٣) إلى بلدة الدكطور نيكلسن

ثم لما حان وقت تعطيل المدارس قبل عيد الميلاد، تذكرت ما وعدت به صديقي الدكطر «نيكلسن»، فمن ثم سافرت إلى لندرة، ومنها إلى دارنكطون، فبلغتها بعد نحو اثنتي عشرة ساعة قاسيت فيها من البرد والتعب ما لم أقاسه في عمري كله، وهنا ينبغي أن يلاحظ أن السفر في سكة الحديد وإن يكن أسرع وأسهل، إلا أنه في بلاد الإنكليز معنت مكمد؛ لأن الغريب لا يجد من الركاب من يدل عليه بحرمة السفر والتعب فيكالمه، فترى كل واحد بيده صحيفة الأخبار يطالعها مساء سفره كلها.

وإذا وقف الرَّتَل لا يجد شيئًا من المأكول والمشروب ما يفثأ تسخُّطه، وليست القهوة عندهم إلا ماء دَخِن سخن؛ ولهذا كان أكثر الإنكليز يسافرون النهار كله ولا يأكلون شيئًا من حوانيت المواقف، وإنما يتزودون الطعام والشراب من ديارهم، وهو في الحقيقة أولى، فأما مواقف فرنسا فإن فيها كل ما ألفه الإنسان في بيته، على أن باعة المأكول والمشروب في بلاد الإنكليز أشد خلق الله شططًا؛ فإنهم يتقاضون على فنجان قهوة الدخن نصف شلين.

ثم سافرت من دارنكطون في الساعة الثامنة صباحًا فوصلت إلى بنريث في الحادية بعد الظهر، ومررنا في خلال ذلك بعدة قرى ومدن، من أعظمها برسطون، سكانها نحو مائة ألف نفس، وهي مدينة شغل ومتجر، شهيرة بملتقى الأرتال فيها، يمر بها في كل يوم أكثر من مائتي رتل، وهو عبارة عن صف عواجل متناسقة بعضها إلى بعض، وكان البرد وقتئذ عارمًا والثلج متساقطًا، فلما بلغت بنريث سألت عن مقام الدكطر «نيكلسن» فأرشدت إليه لكونه شهيرًا في البلد، فلما رآني رحب بي غاية الترحيب، وأنزلني في داره خير منزل، وأكرمني بما لا مزيد عليه فجزاه الله عني خيرًا.

ثم إن إقليم بنريث حسن جدًّا؛ لأنه يحوي جبالًا وأودية، وأعظم جباله هل فلن، ارتفاعه نحو ثلاثة آلاف قدم، وهو مخصوص بمعادن الفحم، وأهل البلد نحو سبعة آلاف، وفي أول يوم من أبريل حشدت الناس في الطرق ومعهم أعلام وآلات طرب، فسألت صديقي عنها، فقال: إن جمعية هنا تسمى جمعية ألاد من شأنهم أن يجتمعوا في كل ثلاث سنين مرة لمواساة بعضهم بعضًا، فيصنعون وليمة في هذا اليوم ويتلون ما تقرر عندهم من الترتيب، ثم ينصرف كل منهم إلى محله، ومثل هذه الجمعيات في بلاد الإنكليز لا يعد ولا يحصى، وأهل ذلك الصقع يلتحفون بِشَمْلة على أكتافهم لِلتَّدَفُّؤِ، ونعال فلاحيهم من خشب، وعيشهم أجهد من عيش غيرهم، وأنحسهم من يعمل في المعادن.

(١٣-٧٤) التوجه إلى سكوتلاند

ثم عنَّ لي أن أسافر إلى سكوتلاند لأرى قاعدتها، وهي أيدنبورغ؛ إذ كنت غير بعيد عنها فودعت مضيفي، وسافرت إلى ليفربول فوصلت إليها بعد سفر نحو ست ساعات، وهذه المدينة هي من أعمر مدن إنكلترة بعد لندرة ومنشستر، فلا يزال مرساها مشحونًا بالسفن وسفنها مشحونة بالبضائع، ومنه تسافر إلى جميع الأقطار، وهي تقابل مرسيلية في فرنسا، كما أن منشستر تقابل ليون في كونها ذات معامل للحرير والثياب، ولندرة تقابل باريس.

(١٣-٧٥) ليفربول ومنشستر

وفي ليفربول عدة ملاهٍ وملاعب وحوانيت بهيجة وأبنية حسنة، من أعظمها المحل الذي يقال له: قاعة البلد، وأهل المدينة لا يسخرون من الغريب وذلك لكثرة اختلاطهم بالغرباء، وكان افتتاح سكة الحديد بينها وبين لندرة في سنة ١٨٣٨، وطول قبوتها ميل وربع، وكانت في الزمن القديم محل صيد للسمك، ثم صيرها الملك هنري الثامن محلة لاجتماع العساكر وتجريدهم منها لفتح إرلاند.

ثم سافرت منها إلى منشستر فبلغتها في نحو ساعة، وهذه المدينة أشهر مدينة في الدنيا بكثرة المناسج والأنوال، وعدد الصناع فيها نحو ثمانين ألفًا، فإذا اعتبرت أن معظم الآلات يدور بالبخار ظهر لك أن هذا القدر يقوم مقام أربعمائة ألف صانع، قال الفاضل ماكولي: إن منشستر هي أعظم مدينة لأشغال القطن والنساجة، وكان القطن مذ خمسين سنة يجلب إليها من أزمير وقبرس، وجملة ما ورد إليها في غاية القرن السابع عشر لم يبلغ مليوني رطل.

أما الآن فإن هذا القدر لا يكفي لعمل ثمان وأربعين ساعة، فانظر إلى هذا الفرق العظيم الذي نشأ عن قوة البخار حتى إنه جعلها تفوق في الثروة والغنى على قواعد أوروبا جميعًا وذلك نحو برلين ومدريد وليسبون، وكان أهلها إذ ذاك نحو ستة آلاف، ولم يكن فيها مطبعة ولا عاجلة، والآن فيها مائة مطبعة وعشرون صانعًا للعجلات. ا.ﻫ. قلت: وقد جلب إليها في السنة الماضية ٥٦٠٠٠ عكم أو بالة من الحرير، ومن القطن ٢١٠٠٠٠٠ عكم، ويقال: إن جميع محصول الدنيا من هذا الصنف الأخير يبلغ أربعة ملايين في السنة، سبعة أجزاء منها تحصل من أميريكا، والجزء الثامن من سائر البلاد.١٠

(١٣-٧٦) معامل بريتانيا وصادراتها

وجملة المعامل الموجودة في بريتانيا بموجب خلاصة حديثة العهد ٥١٧٧ منها ٤٤٣٢ في إنكلترة ووالس، و٥٣٠ في سكوتلاند، و١٥٥ في إرلاند، وعدد ما يدار من الأنوال بالبخار ١٣٧٧١١، وما يدار بالماء ٢٣٧٢٤، وجملة عدد المستخدمين فيها من الذكور ٢٧٣١٣٧، ومن الإناث ٤٠٩٣٦٠، الجملة ٦٨٢٤٩٧.

وفي جميع المملكة ٤٦٠ معملًا للحرير و٤١٧ معملًا للكتان، و٥٢٥ معملًا للحبك، و١٥٠٥ معامل للصوف، و٢٢١٠ للقطن، وفيها — أي في معامل القطن — من الصناع وغيرهم ٣٧٩٢١٨، وفي معامل الصوف ٧٩٠٩١، وفي معامل الحبك ٨٧٦٩٤، وفي الكتان ٨٠٢٦٢، وفي الحرير ٥٦١٣٧.١١ وبلغ ثمن ما أرسل من هذه البلاد من منسوجات القطن في ثلاث سنين أحدًا وثلاثين مليون ليرة ومن الصوف عشرة ملايين، فأما قيمة جميع ما أرسل من بلاد الإنكليز فقد بلغ في سنة ١٨٥٦ نحو ١١٦٠٠٠٠٠٠١٢ ليرة، وقيمة ما يبعث من فرنسا في كل سنة من الأمتعة المصنوعة والمصوغة تبلغ ١٠٠٠٠٠٠٠٠ فرنك، وقيمة جميع ما يخرج من مملكة بريتانيا من اللوازم المتجرية وغيرها تبلغ في السنة نحو ٥١٢٠٠٠٠٠٠ ليرة.

وفي سنة ٥٦ بلغ قيمة المبعوث من بلاد الإنكليز في مدة أحد عشر شهرًا ١٠٥٨٤٥٠٠٠ ليرة، زاد على سنة ٥٥ عشرة ملايين، ثم وجدت في الإحصائيات أن قيمة المجلوب إلى بلاد الروسية بلغت في سنة ١٨٦٠ ١٠١٧٧٢١٨٣ روبلًا، وكل روبل عبارة عن أربعة فرنكات، وقيمة الخارج منها بلغت ٥٢٨٥٤٠٢١، وبلغت قيمة المجلوب إلى أوستريا في السنة المذكورة ٢٢٩٢٣١٤٧٢ فلورين، وكل فلورين عبارة عن فرنكين ونصف، وبلغت قيمة الخارج منها ٣٠٦٨٤٩٧١٦ وبهذا تعلم الفرق.

ويوجد محل في إرلاند يخص أحد الإنكليز فيه أربعة آلاف شخص مستخدمين في عمل القمصان يصنعونها بأدوات النار، وهذا القدر بمنزلة سبعة آلاف شخص، فأي فرق يرى الآن في بلاد الإنكليز وقد صارت تمد جميع أقطار الدنيا بمصنوعاتها، وتكسو الناس والحيوان والديار بمنسوجاتها بعد أن كانت تبعث الثياب إلى هولاند لتصبغ هناك وتعاد إليها لتبيعها، وبعد أن كانت تنتظر أحد الفارين من فرنسا وغيرها أن يأتي إليها ويبث فيها صنعة من الصنائع، فإن هذا الديباج الذي يسمونه «داماسك» أصل صنعه كان في دمشق، ثم حاكاهم فيه أهل هولاند، وفي سنة ١٥٧١ هرب منهم جماعة بسبب ظلم الأمير ألفا وجوره عليهم فجاءوا إلى بلاد الإنكليز وصنعوه فيها.

(١٣-٧٧) نبذة عن تاريخ صناعة النسيج

قال مؤلف المخترعات العجيبة: «أما صنعة النسيج فقد كانت معروفة في بلاد الصين من قبل أن عرفت في أوروبا بدهر طويل، والغزل عندهم والنسج والصبغ إنما هو من شغل النساء، وأول من صنع ثياب الصوف في بلاد الإنكليز رجلان قدما من برابان، ثم قدم من هولاند صباغون وبزازون وصناع للحرير وشهروا هذه الصنائع بين الأهلين، وذلك في سنة ١٥٦٧، والذي جلب من الكوكاو من الهند الغربية في سنة ٥٢ بلغت قيمته ٤٣٤٩٠٥١ ليرة، والمخزون من الشاي في عامنا هذا بلغ سبعة وثمانين مليون رطل ونصف مليون، ودخل من التبغ في أحد عشر شهرًا ٢٩٧٧٦٠٨٢ رطلًا يصرف منها أكثر من ثمانية ملايين في العام، وبلغت قيمة ما أرسل من الشريط والقيطان من شهر كانون الثاني إلى شهر تشرين الثاني ٣٣٠٨٣٣٩ ليرة.

وإذا نظرنا إلى أحوال إنكلترة مذ القديم وجدنا أن ملابس أهلها إنما كانت من جلود الحيوانات، وأن ثياب زعمائهم لم تكن إلا من الكرباس الخشن كأنما هو مسح، حتى إن الفرسان الذين تُنَوه بهم التواريخ كانوا إذا نزعوا عنهم الدروع اللماعة يشف عنها ثياب الجلد، فلما عرف النسج في الأعصر المتأخرة كان الغزل كما لا يخفى من صنع النساء، وبقي الحال على ذلك دهرًا طويلًا إلى أن قيض الله أرك ريت، وألقى في روعه استنباط آلة للغزل تكون دائمة الحركة، فوفق إلى ذلك ونجح ما أمكن.»

وقال آخر: «ولد أرك ريت في سنة ١٧٣٢، وبقي إلى سن ٣٦ من عمره خامل الذكر مشتغلًا بالحلاقة ولم يكد يحصل من حرفته شيئًا زائدًا على قوت يومه، إلا أنه كان ذا فكر ثاقب في جر الأثقال، فما زال يعمل فكره في اختراع آلة الغزل حتى تسنى له ما قصده، ولكن بعد صعوبات شتى، فلما اشتهر مخترعه أجازت له الدولة، أن يستبد بمنافعه إلى مدة مديدة فأنشأ معملًا في دربي، ولم تمضِ عليه مدة حتى أحرز أموالًا طائلة، وطار ذكره بين الناس، فحدث باستنباطه هذا في أشغال النسج تغيير عظيم من تنقيص الصناع وترخيص سعر الثياب.» ا.ﻫ.

وحُكي عنه حكاية غريبة، وهي أنه ذهب إلى بعض أعمال إنكلترة وأوهم أهلها أن الدولة جردته لأن يقص شعورهم ليسلموا من عدوى البلاء الذي كان فشا بين جيرتهم فانقادوا له فلم يبقَ إلا من قص شعره وأتحفه به، فأخذ تلك الخصل وصبغها، وانتفع بها انتفاعًا جزيلًا.

قال بعض العلماء من الإفرنج: «لولا استنباط أرك ريت لما استطاعت دولة الإنكليز أن تقاوم نابوليون الأول مدة خمس وعشرين سنة حتى قهرته في آخر الأمر وقصرته في جزيرة صانت هيلان.»

وأول من أتقن صنعة نسج الحرير في إنكلترة جماعة هربوا من فرنسا إلى لندرة، وذلك سنة ١٢٨٦، وأصل جلب الحرير المصنوع إلى بلاد اليونان كان من بلاد فارس، وذلك في سنة ٣٢٥ قبل الميلاد، وعرف في رومية في أيام طيباريوس، وحرم على الرجال دون النساء، وأول من لبس ثوبًا منه هليوغابالوس — أحد قياصرة الرومانيين — وذلك في سنة ٢٢٠ للميلاد، وكان ثمن الحرير أولًا في قيمة الذهب وزنًا بوزن، وكان يظن أنه ينبت من الأرض كشجر القطن.

وفي القرن السادس جلب دود القز من الهند إلى أوروبا، وفي سنة ٧٨٠ أهدى شارلمان حلة منه إلى آفا ملك مرسية، وفي سنة ١١٣٠ حرَّض روجر ملك صقلية رعيته على عمله، فكانوا يربون دود القز ويغزلون الحرير وينسجونه، ثم اشتهرت صنعته في إيطاليا وإسبانيا وجنوب فرنسا، وذلك في سنة ١٥١٠، وفي سنة ١٥٨٩ كثَّر هنري الرابع دوده وشجره في جميع المملكة، وفي سنة ١٢٨٦ لبس بعض نساء الأشراف من الإنكليز حُبرًا منه.

وقال فلتير: «لم تقم أمة قوية في التجارة والحرب بعد انقراض قرطاجنة كما قامت دولة فينيسيا، حتى صارت قدوة في ذلك، نعم إن دولة البورتغال جازوا إلى الهند من عند الرجاء الصالح، وظلوا حينًا من الدهر ولاة سواحلها وأولي شوكة في أوروبا، وإن ولايات أميريكا المتحدة صارت أيضًا دولة محاربة رغمًا عنها حتى عادلت دول أوروبا، وإن فينيسيا وأمستردام وقرطاجنة حازوا من قبلهم من العز والمنعة ما شغل الألسن بالمدح والثناء، إلا أنهم جميعهم عملوا كما يعمل الناس في عصرنا هذا، في أنهم بعد أن حصلوا الثروة بالتجارة اشتروا ضياعًا وأملاكًا وأخلدوا إلى الرفاهية والراحة.»

فما أحد ابتدأ أن يكون محاربًا حتى يكون في آخرته تاجرًا إلا الإنكليز، فهم وحدهم الجديرون بهذا النعت، فإنهم حاربوا أحقابًا طويلة من قبل أن يعرفوا الحساب، ولما انتصروا في وقايع أغنيكورت وكرسا وبوستيروس لم يكونوا يعلمون أنهم يقدرون بعدها على تجارة الحبوب أو على صنع الجوخ العريض، فإن ذلك لهم أنفع من تلك النصر.

لا جرم أنه لا شيء يغني الأمة ويشيد عزها كمعرفة الصنائع والتجارة؛ إذ لولا التجارة لما كانت لندرة تفضل باريس في السعة وكثرة السكان، ولما قدروا على أن يبثوا في البحر مائتي سفينة حربية ويجروا الرزق العميم على الممالك المتواطئة معهم، ألا ترى أن لويس الرابع عشر لما ألقى الرعب في قلوب أهل إيطالية، واستولت جيوشه على صافوي وبيدمنت، وكادوا أن يستولوا أيضًا على طورين، لم يكن بد للأمير يوجين من أن يتوجه إلى أطراف جرمانيا لإنجاد دوك صافوي؟ ولكن لما لم يكن له مال يمكنه من أن يفتح بلدًا أو يضبطه، اضطر إلى الاستعانة بتجار الإنكليز، فأجابوه إلى ذلك فورًا وأقرضوه في نصف ساعة خمسة ملايين فرنك، فاستخلص بها طورين وقهر الفرنسيس وردهم عنها مقهورين، ثم كتب إلى الذين دانوه: «أيها السادة، إني قد تسلمت منكم مالًا وقد أنفقته فيما يرضيكم.»

فكان كلامه هذا حاملًا للإنكليز على الكبر والافتخار، وله على أن ينزل نفسه بمنزلة روماني، وهو به خليق، على أن أصغر أولاد صاحب المملكة عند الإنكليز لا يأنف من أن يكون تاجرًا، فإن أخا اللورد طونسند آثر أن يكون تاجرًا في الستي على أن يقلد وظيفة في الديوان، ولما كان اللورد أرفورد متوليًا تدبير المملكة كان أخوه منشئ معمل في حلب، ولم يشأ أن يرجع إلى وطنه، بل مات هناك، وهذا الدأب الذي أخذ الآن في الندور كان يعد عند أمراء جرمانيا من المنكرات، فلم يقدروا أن يفهموا كيف يكون ابن صاحب المملكة داخلًا في سلك التجار، مع أنهم هم كلهم سادة، ولكن كم قد رأينا منهم من كبير يوصف بلقب السمو، وليس له ملك ولا ثروة غير هذا الجلاء والكبر الأميري.

(١٣-٧٨) الفرنسيس والألقاب

أما في فرنسا فإن كل واحد يمكنه أن يصير مركيزًا، وكل من يقدم إليها من البلاد الأجنبية وآخر اسمه ينتهي بحرفي «اك» أو«ايل»، وعنده مال ينفق منه، فإن له أن يقول ليس لي من نظير، وما أحد من بابتي، وينظر إلى التاجر بعين التهاون والاحتقار، فإذا سمع التاجر أن الناس يعيبون حرفته ويشينونها اعتراه الخجل، ولكن ليت شعري أي الرجلين أنفع لدولته أسيد، يعرف بالتفصيل متى يقوم ملكه ومتى ينصرف إلى مرقده، ثم يتخذ لنفسه مظهر عظمة وأبهة، وهو مع ذلك يرضى لنفسه خطة ذل وعبودية بانتظار الوزير في قصره، أم تاجر يقعد في مخدعه ويبث منه أوامر إلى سورات وحلب ليغني بلاده ويسعد أهلها؟

قلت: ومدح فلتير التجارة ليس قدحًا في العلوم والمعارف، وإنما هو تحريض على اتساع دائرة التمدن، وشتان ما بين تجار الفرنسيس وبين تجار البلاد المشرقية، فإن هؤلاء لا يحسنون الكلام إلا في المكيول والموزون، ولا يعرفون أن يكتبوا سطرًا واحدًا من دون غلط، فهذه الحال ينكرها فلتير، وكل ذي ذوق سليم.

(١٣-٧٩) منشستر قديمًا وحديثًا

ثم إن منشستر هذه كانت في القديم مقامًا للدرويدس، وكان لهم فيها هيكل ومذبح قيل له باللغة القديمة: «ميين» أي حجر، وصارت قبل الميلاد مقرًّا للهمج فبنوا فيها قلعة سميت «منسنيون» أي مضرب الخيام، ثم تصحفت على المتأخرين، فقالوا للمدينة: «منشستر»، وهؤلاء الدرويدس كانوا في القديم كهان جرمانيا وفرنسا وبريتانيا وحكماءهم، وكانوا في هذه الأخيرة ينتخبون من أكرم العيال، فكانوا يشتغلون بالعلوم ومعرفة الفرائض الدينية، ويعبرون كلام الآلهة ويفصلون الدعاوى الخطيرة ويتولون تدبير الجيش.

ولما غزا قيصر هذه الجزيرة قابلوه بالجيوش والبسالة ذبًّا عن الوطن، فنقم عليهم ذلك بعض ولاة الرومانيين، فاستأصل شأفتهم.

وفي هذه المدينة أسواق ظريفة وحوانيت بهيجة، وفيها تعرفت بالفاضل الكريم عبد الله أفندي الأدلبي قنصل الدولة العلية، ولم يكن لتعارفنا من سبب سوى حمرة رأسينا، فإنه أول ما رأى طربوشي أقبل إليَّ متبسمًا باشًّا ودعاني إلى منزله من دون أن أبرز إليه كتاب وصاة على عادة القوم، ولم يكتفِ بهذا حتى أخذ عنوان مقامي في كمبريج قصد أن يبعث إليَّ بهدية من طرف المدينة، وقد فعل جزاه الله خيرًا، وله مساعٍ عند الدولة المشار إليها محمودة وذكر حسن عند أهل البلدة وعند أهل الشام أيضًا.

(١٣-٨٠) التلغراف وأنواعه

وفيها رأيت محل التلغراف، وهو على نوعين؛ الأول: المتعارف وهو شبه الساعة الدقاقة في وجهها إبرة من فولاذ، موضوعة تحت نصف حلقة وفوقها مسماران صغيران من عظم، قد رسم فوقهما الحروف الهجائية — والغالب أن يكون في كل صفحة إبرتان — فمتى حرك الإبرة السلك المتصل بها من وراء الصندوق، طرقت على كل من الوتدين، ولكل حرف طرق معلوم، فالألف مثلًا لها طرقتان على وتد واحد، وللباء ثلاث، اثنتان على وتد وواحدة على آخر وهلم جرًّا.

والثاني: وهو ما اخترع بعده، فكان أوفق وأسهل، وهو آلة كالدولاب، فيها قلم دقيق من فولاذ مركب من أجزاء كيماوية ويمر من تحته سير رقيق من ورق مركب أيضًا فيرسم عليه خطوطًا سودًا، هي في عرفهم حروف، وهناك أيضًا آلة كمنوال الحائك ذات أسنان دقيقة بارزة منه، يمر من تحتها الورق، فترسم عليه خطوطًا، وقيل: إنه يوجد آلة ترسم الحروف المكتوبة كما يرسمها كاتبها سواء حتى لو كتب أحد بالعربية شيئًا أدته كما هو، وهذه الآلة لم أرَها.

وأكثر الآلات استعمالًا في بلاد الإنكليز إنما هي الإبرة، وفي بلاد أميريكا الدولاب، وبكل منها يصل الخبر من لندرة إلى أيدنبرغ وهي مسافة ثلاثمائة ميل في ثانية، وسواء كانت المسافة طويلة أو قصيرة فالتأثير واحد، فأما تحريك الأسلاك فإنه ينشأ عن الخاصية الجاذبة من وضع صفيحة من النحاس وقطعة من التوتيا توضعان في الماء، فيخرج منها روح يسري في السلك المماس لهما، ومنه إلى الأسلاك التي ترى عيانًا في الطريق، وقد تراها ممتدة في الهواء بجانب سكة الحديد، وربما كانت عشرة فأكثر، وربما بلغ الخبر بعضها إلى مكان وبعضها إلى مكان آخر، وسواء كانت سافلة أو عالية أو على خط مستقيم أو منحرف فلا يتخلف حكم الخبر بها، وقد ثبت بالتجربة أنها تصح تحت الماء كما تصح في الهواء.

وهذه المصلحة يتكفل بها جماعة على حدتها، والفائدة منها عامة للجميع ولا سيما الدولة والتجار، فإنه إذا أريد الاستخبار عن أمر مهم علم في دقيقة واحدة، وإذا هرب القاتل من بلد إلى آخر عرف شأنه قبل وصوله، وجُعْلُ نحوِ عشرين كلمة نصفُ ليرة.

ثم لما قرَّ بي المقام في لندرة طلبت من مدير التلغراف أن يأذن لي في رؤية الآلات وموضع النحاس والتوتيا، فورد إليَّ الجواب منه بأنه يكره أن يريها الغرباء ولا سيما الأجانب كل الكراهية، ولكن إذا كتبت إليه الجمعية في ذلك يرضى، حتى إذا فعلت بعث معي من أرانيها جملة وتفصيلًا.

فأول ما رأيت هو الموضع الذي فيه التوتيا والنحاس، وهو عبارة عن موضع مظلم كالنفق فيه موائد كثيرة من خشب ذات بيوت صغيرة مقسمة، تشتمل على هذين الجوهرين وقد غمرت بالماء ومعهما ملح الكبريت وسلك الحديد، وهذا السلك متصل بالسلك الظاهر في الهواء كما تقدم آنفًا، أما التوتيا فتنحل على طول المدى وتتلاشى، وأما النحاس فيزيد.

ثم أريت موضعًا في الحائط مغشى بالخشب، يشتمل داخله على أجزاء، وخارجه على نحو مسامير بارزة منه، فجاء الرجل بقطعتين من الفحم وأدناهما من مسمار، وإذا بنور بهي ساطع خرج من طرفيهما، ومن هذا التقابل في الجاذبية تخرج ألوان عديدة زهية، يبدونها أحيانًا في الملاهي بما يقصر عن وصفه القلم، ولما وضعت إصبعي على مسمارين منها أحسست بارتعاش وجاذبية أخدرت مفاصلي فرفعتهما حالًا.

ثم صعدنا إلى الموضع الذي تتلقى فيه الأخبار من كاتب ديوان التلغراف؛ وذلك أنه إذا أراد أحد أن يبعث خبرًا كتبه وسلمه للكاتب أو أملاه عليه مشافهة، فيدونه الكاتب في رقعة ويجعلها في ظرف ويسد أعلاه، ثم يضعه في نحو صندوق، فتدفعه القوة الكهربائية إلى موضع يكون عنده غلام واقف، فيأخذه ويسلم الرقعة إلى قيم الآلة المعدة لتبليغ الخبر، فإن كان يراد توجيهه مثلًا إلى باريس سلمه إلى قيم آلة باريس وهلم جرًّا.

ثم دخلنا موضع الآلات وهي على الصفة التي رأيتها أولًا، غير أني رأيت التبليغ هنا على يد النساء لا الرجال، وكيفية ذلك أن تقعد المرأة على كرسي وتمسك بيدها مقبضًا من خشب وتحركه حركات مطابقة لاصطلاح الحروف فيتحرك السلك المشرب من روح التوتيا والنحاس، فيحرك الإبرة في المحل المبلغ إليه الخبر على حسب حركات اليد، وترى البنت تحرك هذه الآلة كما يحرك العازف يده على آلة الطرب بغاية ما يكون من الخفة.

وبينما كان الرجل يكلمني أمام آلة؛ إذ رأينا الإبرة تطرق على المسمارين، ثم حركت البنت المقبض وسكتت، ثم تحركت الإبرة أيضًا، وكان ذلك بأسرع من أن ينطق المتكلم بعشر كلمات، فقال لي الرجل: «أتدري ما سبب حركة الإبرة مرتين؟» قلت: «لا» قال: «قد ورد خبر من ويانه يراد تبليغه إلى ليفربول فبلغته البنت وجاءها خبر بوصوله.» فبقيت مدهوشًا متحيرًا، وأخذت أفكر تفكيرًا مضطربًا في كيف أن هذا العلم الحري بأن يدعى من العلوم الإلهية لكونه غير متناهٍ لم يكشف سره من قبل الآن حين كان النحويون يجيزون ستة عشر وجهًا في الصفة المشبهة، ويمنعون وجهين، ويختلفون في وجه،١٣ وحين كان العمر يضاع في التعليل والاعتراضات والتجويز والترجيح، كما أشار إليه العالم الأديب الشيخ أحمد المسيري بقوله يمدح خديو مصر على إنشاء مدارس للعلوم الرياضية:
فهذا الفخرُ في وجهِ المَعالي
وليس بضَرْبِ زيدٍ وجهَ عمرو

إذن لصرف خواطر القوم إلى الاشتغال بما هو أهم وأنفع، فإن وصول الخبر من قاعدة مملكة أوستريا إلى ليفربول في أقل من ثانية، أنفع من تجويز عشرين وجهًا في مسألة واحدة، وهذا هو سر الكيمياء الذي يتعلمه الإفرنج الآن لا لتحويل الحديد ذهبًا، أو الآنك فضة، فإن سميته بالإكسير فأنت صادق، والحاصل أن الخبر يبلغ بهذه الآلة مسافة بعيدة كما يبلغ مسافة ميل على السواء، وعدة الآلات في هذا المحل نحو خمسين، وعدة المستخدمين فيه مائة وثلاثون.

قال مؤلف كتاب المخترعات العجيبة: «لم يكن يخطر ببال أحد من المتقدمين أنه يمكن إيصال فكر من بلد إلى آخر مسافة مئات من الأميال بثوانٍ قليلة، وأن من يكون واقفًا في لندرة يمكنه أن يخاطب آخر في أيدنبرغ ويتلقى منه الجواب كأنهما جالسان في غرفة واحدة مع أن بينهما مدى ثلاثمائة ميل.»

فلا جرم أن التلغراف إنما هو أكبر العجائب التي كشفت في عصرنا هذا، فإن السارق مثلًا يذهب في أحد الأرتال السريعة وهو مسرور بسرقته وفراره من يد الشرطة، ويطمع في أنه إذا بلغ إلى إحدى المدن الغناء يخفي أثره عن غريمه ويضيع خبره في دخوله بين الناس، فيعمد إلى رتل يمر مسافة خمسين ميلًا في الساعة، ويكون خبره قد تقدمه في السلك الذي يراه بعينه مرة عن يمينه ومرة عن شماله، ويكون الشرطي قد عرفه بسَمْته وسِمَته وصفاته، وعرف الرَّتَل الذي سافر فيه، فما يكاد يخرج منه إلا وهو آخذ بتلابيبه، فيبقى «اللص» مدهوشًا مبهوتًا لا يدري أين يقصد، ثم تفتش صناديقه وأوعيته، ويستخرج منها المسروق، ويرسل هو إلى الحبس، فمن ثَمَّ كانت فوائد هذه الأسلاك من أعظم الأسباب المؤيدة لإقامة الحق وتشييد سنن الشرع وتنفيذ أحكامه، ولو كان إيصال الخبر على هذا الوجه قد عرض على مسامع أهل القرون الخالية لعدوه من الخزعبلات المفتعلة، إلا أن هذه العملية لم تنشأ عرضًا أو بغتة، بل بعد إعمال فكر وجهد روية في مُدَد متعاقبة.

وأصل ما أدى أهل الحكمة والفلسفة إلى هذا الاستنباط كان استعمال فرنكلين الأميريكاني للطيارة المعروفة، ومذ حينئذ خطر ببال المتبحرين في العلوم أنه لا يبعد عن الإمكان إيصال خبر بواسطة أداة إلى بعض الأماكن الشاسعة.

قلت: ولد فرنكلين المذكور في مدينة بوستان من أميريكا في سنة ١٧٠٦، وكان في مبدأ أمره خامل الذكر، ثم اشتغل بالعلوم وحسنت حاله، وما زال يترقى في المعالي حتى صار من أهل السياسة، وذهب إلى باريس وحظي عند رجال الدولة حظوة عظيمة، حتى إنهم لما بلغهم خبر وفاته لبسوا عليه الحداد، وله مؤلفات عديدة. ا.ﻫ.

فأما خبر طيارته فهو أنه صعدها في يوم ذي دَجْن، وكان قد ربط مرستها إلى وتدين، وأناط بها مفتاحًا فلما غشيها الغمام وجد بعض خيوطها قد تنفش وتجافى عن بعض منتصبًا فأدنى بُرْجُمته من المفتاح فأحس بشرار البرق.

قال: وفي سنة ١٧٨٧ أجرى لوموند السكوتلاندي عملية تقرب من هذا الكشف، وفي سنة ١٧٩٤ نصب ريزر تلغرافًا يمكن استعماله، وإن كان أقل نفعًا وإتقانًا من المستعمل الآن، فكان التبليغ فيه خاصًّا بالسلك، والعمل كله للشرارة الكهربائية، وكان السلك يجعل في موضع مظلم وحوله صفائح من القصدير، عليها حروف مرسومة وقد ركزت على صفائح من زجاج، فإذا طار الشرر على هذه ليجري في السلك، أضاء الصفائح فتمكن به قراءة الحروف.

ثم قام فولتي وحسن هذه العملية بعض التحسين، ثم رونالدس من همرسميث وأرستد من كوبنهاغن وشويجر وموينك ودافيس وأراغو وغيرهم، وكل منهم زاد شيئًا وحسن شيئًا.

وفي سنة ١٨٢٧ قام الدكطور «كوك» و«ويتسطون» وأخذا رخصة من الدولة لإجراء هذه العملية، وفي سنة ١٨٣٩ استعمل التلغراف كما نراه الآن في سكة الحديد المسماة السكة الغربية الكبيرة، وهو الذي يبلغ الخبر بواسطة طرق الإبرة على المسامير، وأخبرني من يعرف ويتسطون أنه هو الذي اخترع آلة الطرب المسماة «كنشرتينو»، وآلة أخرى من نوع النظارات، ثم اخترع الدكطور «سطنبيل» من مونيش آلة تنقط الحبر على ورق، وعلى قدر ترتيب النقط يكون فحوى المنطوق، وفي سنة ١٨٤٠ اخترع ويتسطون هذا المنوال الذي يدور ويرسم الحروف، وفي سنة ١٨٤٣ نصب مستر وود الأسلاك على دعائم، وكانت من قبل تحت الأرض، وهي غير مماسة لها، بل هي نافذة من حلق من الفخار، وبذلك سهل نصب أسلاك غليظة من الحديد بدل النحاس، فنقصت المصاريف نحو النصف، وهذه الأسلاك تجري في ثلثي سكك الحديد الممتدة وليس من بلد عامر إلا وتصل إليه الأخبار بها. ا.ﻫ.

وقال صاحب أبجدية الأوقات: «أول من خطر بباله إنشاء التلغراف المعروف الآن كان الدكطور «هوك» وذلك سنة ١٦٦٤، وقيل: إن موسيو أمنتونس هو أيضًا مخترعه في ذلك التاريخ، إلا أنه لم يجرِ استعماله إلا في سنة ١٧٩٣، وقيل: إن موسيو ساب هو أول من اخترع التلغراف الذي استعمله الفرنسيس في تلك السنة، وفي سنة ١٧٩٦ نصب سلكان فوق ديوان الأميرال.» ا.ﻫ.

قلت: كانت ولادة روبرت هوك في سنة ١٦٣٥، ووفاته في سنة ١٧٠٢، ويقال: إنه هو أول من اخترع آلة لتقويم حركة الساعة، وأتقن كثيرًا من الآلات الهندسية، وفكر في الجاذبية الأرضية، واستنبط في الرياضيات والفلكيات والطب والكيمياء أشياء كثيرة، وكان شرسًا حسودًا؛ نازع نيوطون أنفس مخترعاته.

(١٣-٨١) من منشستر إلى أيدنبرغ

ثم سافرت من منشستر إلى أيدنبرغ قاعدة سكوتلاند، وهي مدينة بهيجة جدًا مبنية من الحجر الصلب على عدة نَجَوَات، وهي شطران: أحدهما جديد والثاني قديم، أما القديم فإن دياره عالية جدًّا فقد تشتمل الدار على ثماني طبقات، إلا أن فيه أزقة قذرة ضيقة جدًّا، وأما الجديد فإنه يشتمل على طرق واسعة وديار حسنة وحوانيت عظيمة ومبايت للمسافرين رحيبة، وفيه مدرسة جامعة تحوي نحو ستمائة طالب، وهي شهيرة بعلم الطب، وفيها مكتبة موقوفة تحوي ثمانين ألف كتاب ما عدا كتب خط اليد، وهناك قبة جليلة فيها تمثال سر ولطرسكوت شاعرهم الشهير، ولها مَرْقَب عالٍ مطل على الخليج الداخل من البحر، وسعته عدة أميال، وهذا المطل يكاد أن يكون كمطال جبل لبنان، وقد كان الفاصل بين الشطرين خليجًا والآن جعل ممرًّا للأرتال.

أما أرض سكوتلاند فهي دون أرض إنكلترة في الخصب والريع وذلك لكثرة الجبال فيها، إلا أن أهلها أصحاب جد ودأب في الصنائع، وشأنهم التغرب في جميع البلاد، فهم كأهل حلب في سورية، وكل سنة يهاجر منهم أكثر من ثمانية عشر ألفًا، وهم أكثر شقرة وصهوبة من الإنكليز، وعدتهم نحو ٣٠٠٠٠٠٠ ولهم لغة خاصة بهم غير أن لغة الإنكليز غلبت عليهم الآن، وحاكمهم منهم، ولكنه تحت طاعة الدولة، وهم أشد تحمسًا في الدين من الإنكليز، فإن أصحاب الفنادق يضعون في كل غرفة للمسافر كتابي العهد القديم والجديد، وكثيرًا ما ترى نساء يبعن الفاكهة في الطريق وبين أيديهن كتاب الإنجيل، وقد طالما حاولت أساقفة الإنكليز إقرار كنيستهم فيها وجعلها الأصل، كما فعلوا بإرلاند فقابلهم الأهلون بأشد الإباء والتمنع، مع أن أهل إرلاند أكثر من ٧٠٠٠٠٠٠؛ وسبب ذلك أنه لما اتحدت سكوتلاند بإنكلترة — وذلك في سنة ١٧٠٧ — كان من جملة الشروط التي اشترطوها أن تبقى رسوم كنيستهم ومناسكها كما كانت، فأقرتهم الدولة على ذلك إلى يومنا هذا، وهم مثل الإنكليز في كونهم يشفنون الغريب؛ فإني حين كنت أمر في الطريق كان يجري ورائي جمع غفير من الرجال والنساء والأولاد ينظرون إلى طربوشي ويعجبون، حتى اضطررت مرة إلى أن أتوارى منهم في دكان.

وقد رأيت في هذه المدينة القصر الذي كانت تسكنه الملكة ماري إستوارت المشهورة بالجمال والنجابة، وهو في خفض من الأرض، وفيه شاهدت صورتها وسريرها الذي كانت تنام عليه، وصورة الطلياني الذي اتهمت بحبه وهو يقاربها في الجمال، وصورته باقية في الموضع الذي قُتل فيه غِيلة، وسببه فيما قيل إنه لما كان يعزف لها بالكنارة ذات ليلة إذ هجم عليه زوجها من باب خفي فقتله عند الباب الخارج، ولم يزل أثر الدم على الخشب القريب من العتبة، ثم رأيت صورتها أيضًا في القلعة التي حبست فيها بعد أن اتهمها حسادها بالفحش، وهي أجمل من صورتها في القصر، ولما كانت محبوسة هناك أخذها الطلق فولدت جامس الأول، وهو الذي صير مملكتي سكوتلاند وإنكلترة مملكة واحدة.

وشاهدت أيضًا في القلعة تاج الملك والسيف والصولجان والنيشان وخاتمًا من ذهب فَصُّه ياقوتة أكبر من الفولة، والشباك الذي تدلت منه فنَجَت وهو عالٍ جدًّا.

وفيها أيضًا كنيسة صغيرة يقال: إنها أول كنيسة أقيمت فيها فرائض النصرانية في تلك البلاد وكانوا حينئذ يرمونها، وهذه القلعة مبنية على صخر ارتفاعه ثلاثمائة قدم.

فأما ما كان من أمر الملكة ماري ففي محفوظي أنها بعد أن يئست من المُلْك بعد وقائع طويلة جرت بينها وبين أعدائها، فرت من دار المملكة، وكتبت إلى ابنة عمها — وقيل أختها إليصابت ملكة الإنكليز تستجير بها — فكتبت إليها أن «أقدمي عليَّ ولك الأمان.» فلما قدمت عليها أضمرت لها شرًّا حسدًا لها على جمالها ومحاسنها، فصدق المثل حين قال: «إن من الحُسْن لَشِقْوة.» ثم تجنت عليها أمورًا كثيرة، من جملتها أنها قتلت زوجها؛ فأودعتها السجن، ثم خفرت ذمتها معها، ونقضت عهدها، وعقدت عليها مجلسًا، حكموا بقتلها فقُتلت، ومع أن الإنكليز ينوهون باسم الملكة إليصابت لإجارتها مذهب البروتستانط، فلا ينفون عنها هذا الغدر الشنيع الذي رضيته لنفسها بعد التأمين، فهو طبع يصدأ به ذكرها على ممر الدهور.

ومن قرأ قصة الملكة ماري وهي مسجونة وما لقيت من الضر والنكد فلا يملك عبراته عليها، ولعمري إنه لم يشقني شيء إلى رؤية سكوتلاند غير صورتها وقصرها وذكر أيامها.

قال بوليه: إن ماري ملكة سكوتلاند هي بنت يعقوب الخامس ملك سكوتلاند، ولدت في سنة ١٥٤٢، ومات أبوها بعد ولادتها بثمانية أيام، وفي سنة ١٥٥٧ تزوجت دوفان فرنسا، ثم صار ملكًا باسم فرنسيس الثاني، ومات عنها بعد سنة ونصف، فرجعت إلى سكوتلاند، إلا أن تمسكها بديانة الملة الكاثوليكية جعلها بغيضة لدي الأهلين، وفي سنة ١٥٦٥ تزوجت ابن عمها هنري لمجرد جماله فقط، وكان يغار عليها من داود ريزيو الطلياني كاتب سرها؛ فقتله بمرأى منها، وفي سنة ١٥٦٧ هلك هو فاتهمت بقتله، وبعد ثلاثة أشهر تزوجت كونت بوثول، ولم تتدبر في العواقب، حيث كان اتهم بأنه أجهز على زوجها فشغب عليها فعلها هذا أهل المملكة، وألزموها أن تعدى عن مذهبها، ففرت والتجأت إلى ابنة عمها الملكة إليصابت وذلك في سنة ١٥٦٨، وحيث كانت إليصابت تحسدها على جمالها ألقتها في السجن ثماني عشرة سنة، ثم تجنت عليها أنها غاوت جماعة من الكاثوليكيين على إهلاكها، فقضت عليها بالقتل، فماتت وهي متجلدة، وكانت توصف في عصرها بالكياسة والظرافة والفصاحة، وبأنها أجمل النساء، وعند وداعها فرنسا قالت كلامًا بليغًا.

قلت: وجدت في بعض التواريخ أنها نظمت في هذا المعنى أبياتًا بالفرنساوية، وترجمتها كما يأتي: «وداعًا يا فرنسا الأنيقة، يا بلادي التي هي عندي الأعز، والتي رشحت صباي، وداعًا يا فرنسا، وداعًا يا أيامي الغراء فيها … إن الفلك الذي فصل حبي لم يحمل إلى هنا سوى شطري، ولقد بقي لك الشطر الآخر ملكًا لك، وسأتركه لمودتك حتى يتذكرك الآخر.»

وقال آخر: قتلت ولها من العمر ٤٤ سنة وشهران، ولما قدمت إلى بلاد الإنكليز كان سنها خمسًا وعشرين سنة، وقال بوليه: وماتت عن ولد، ملك على سكوتلاند باسم جامس السادس، وعلى بلاد الإنكليز باسم جامس الأول، وقد ألف العالم شلر على قتلها تمثيلية من أبلغ ما يكون. ا.ﻫ.

قال بعض من شاهد أيدنبرغ وكلاسكو من الإنكليز: إن للقسيسين ولفقهاء الشرع في أيدنبرغ يدًا طويلة وكلمة نافذة، فإن الناس تنقاد لهم في أكثر الأمور، ولا يكاد الناظر يترسم البيع والشراء إلا في حوانيتها بخلاف كلاسكو، ومن يقم فيها فكأنما هو مقيم في الريف، وذلك لصفاء هوائها عن الدخان، ومن كل جهة منها يستنشق نسيم البحر، وهي مبنية من حجارة منيعة باقية على الدهر، ويمكن أن يقال: إنه ليس في الدنيا كلها مدينة مثلها على هذا الوضع الأنيق، أما أهلها فما برحوا محافظين على عاداتهم ورسومهم القديمة، وهي مخالفة لعادات الإنكليز جدًّا.

(١٣-٨٢) كلاسكو مدينة المعامل

أما كلاسكو فإنها أعظم منها في التجارة، فإنها كلها عبارة عن معامل للثياب المنسوجة وغيرها، وهي إن تكن أقل تجارة من منشستر إلا أن في هذه بيوتًا كثيرة ومحترفات عديدة تختص بتلك، أما تجارتها وأشغالها في الحديد فعظيمة إلى الغاية، وأما في إنشاء المراكب والآلات من الحديد فمن الطراز الأول؛ فإنك ترى حولها أتاتين عديدة لا تزال متأججة حتى كان ذلك القطر قطر جحيمي، وحتى يخيل للناظر أن خاطر الإنسان يرتاح إلى النار والدخان وإلى طقطقة المطارق ارتياحه إلى المكث في صقع من إيطالية وإلى رؤية الرياض واستماع أصوات العيدان، وكأن هؤلاء الدخانيين لا يحسدون أحدًا سواهم ممن يسكن في الريف المريع، ولا يبالون بما تقوله الشعراء في وصف المروج الناضرة والجداول المترقرقة وغير ذلك من مسارح النظر الأنيقة، فما قاله ملطون حكاية عن الشيطان حين هبط إلى دركات الجحيم واستسلم إلى ما قدر عليه، ورضي بما طرأ عليه هناك من شواغل حياته الجديدة وهو: «كن يا شر لي خيرًا» إنما هو صفة هؤلاء الناس لا تتعداهم، فإنهم يتبجحون بكثرة مواقدهم وتكاثف دخانهم، وكأن المدينة حالة كونها تفيء بعمد من النار ليلًا وبعمد من الدخان نهارًا، تذكرة تذكر الناسي بخروج بني إسرائيل من مصر.

ولا شيء أعجب هنا من أن يرى الرائي تعدد الألواح فوق حوانيتها، وهي التي تكون عنوانًا على اسم التاجر وحرفته، فإن التاجر في لندرة يكتفي بوضع لوح واحد فوق حانوته، فأما الطبقة التي فوق الحانوت فإنها تكون غالبًا مقرًّا لعياله، أما في كلاسكو فإنك ترى حانوتًا فوق حانوت، ومخزنًا فوق مخزن، بل أعظم الحوانيت هي التي تكون فوق الطبقة الأولى، وقد تكون الدار كلها عبارة عن مخزن بضائع، وأينما تذهب لتشتري شيئًا يُقَلْ لك: اطلع فوق.

قال واني: أكره شيئًا من قسيسي سكوتلاند، وهو أنهم لا يزالون يطوفون في البلاد مجتدين بدعوى أنهم ينفقون ما يجمعونه في وجوه البر وإنشاء الكنائس، وجل من يقع غرضًا لهم ذوات الثروة من النساء. ا.ﻫ.

(١٣-٨٣) العودة إلى كمبريج وترجمة التوراة

ثم عدت إلى كمبريج، وبعد أن أنهيت ترجمة التوراة، وذلك في أقل من عشرين شهرًا، سرت إلى لندرة وفاوضت كاتب الجمعية في ذلك، فقال: «إن كنت تقيم في هذه البلاد فإن الجمعية تعين لك شيئًا في مقابلة تصحيح الطبع.» فقلت: «على شرط أن أقيم بباريس، ويبعث إليَّ بالمطبوع إلى هناك فأصححه، فإني طالما هممت بأن أتعلم اللغة الفرنساوية لما أني أرى في كتب الإنكليز جملًا وعبارات منها مما يحرض على تعلمها.» فقال: «لك ذلك» فمن ثَمَّ كتبت إلى كاتب حاكم مالطة أخبره بأني عدلت عن الرجوع إليها، ثم تأهبت للسفر إلى باريس، وأعددت خيشومي للغنة، وخَلَدي للفتنة ودريهماتي للمحنة.

وهنا أودع القارئ وعبراتي منحدرة وزفراتي متصاعدة وأعده وعد من يراعي قديم الصحبة، ويحفظ أكيد القربة، بأني أصف له باريس عند استقراري فيها أتم وصف من دون إسهاب ولا حذف، فإني جعلت هذه الرحلة مرتبة على الأوقات وأخليتها في الجملة عن الاستطرادات.

ولكن ينبغي قبل ذلك أن أفيده فائدة تتعلق بالتوراة مما يعز وجوده في غير هذا الكتاب، فأقول: إن أول من ترجمها من اللغة العبرانية إلى اليونانية هم الاثنان والسبعون حبرًا في عهد برثولومي فيلادلفيوس بالإسكندرية، وذلك في سنة ٢٧٧ قبل الميلاد، قيل: وأتموا ترجمتها في اثنين وسبعين يومًا، وكان كل اثنين منهم في صومعة، وعين على كل منهما ترجمتها بأجمعها، فلما فرغوا منها وجدت جميع النسخ لم تختلف إحداها عن الأخرى لا في كلمة ولا في حرف.

وأقدم توراة بيد النصارى هي الموجودة في الفاتيكان برومية، كتبت في القرن الرابع، وقيل: الخامس، ونشرت في سنة ١٥٨٧، والثانية هي الموجودة في متحف الإنكليز المسمى بريتش ميوزيوم، أهداها أحد بطاركة الروم إلى شارلس الأول، وقيل: إنها نسخت في حدود التاريخ المتقدم ذكره، وأقدم توراة عند اليهود هي الموجودة في توليدو بإسبانية وذلك نحو سنة ١٠٠٠ بعد الميلاد، وجملة ما في التوراة من الأسفار ٣٠، ومن الفصول ٩٢٩، ومن الآيات ٢٣٢١٤، ومن الكلمات ٥٩٢٤٩٣، ومن الحروف ٢٧٢٨١٠٠، وقد تكررت فيها الواو العاطفة ٣٥٥٣٥ مرة، والعدد الحادي والعشرون من الفصل السابع من سفر عزرا يشتمل على الحروف الأبجدية كلها، وجملة ما في الإنجيل من الأسفار ٢٧، ومن الفصول ٢٦٠، ومن الآيات ٧٩٥٩، ومن الكلمات ١٨١٢٥٣، ومن الحروف ٨٣٨٣٨٠، وقد تكرر فيه حرف العطف ١٠٦٨٤ مرة.

وكان طبع التوراة باللغة الإسبانولية في سنة ١٤٧٨، والجرمانية في سنة ١٥٢٢ والإنكليزية في سنة ١٥٣٤، والفرنساوية في سنة ١٥٣٥ والمسكوبية في سنة ١٥٨١، والرومية في سنة ١٦٣٨، والتركية في سنة ١٦٦٦، والبورتوكيزية في سنة ١٧٤٨، والطليانية في سنة ١٧٧٦، والفارسية في سنة ١٨١٥، ووجدت في بعض الكتب — ولست منه على ثقة — أن التوراة ترجمت إلى العربية في القرن الخامس.

١  وفي سنة ١٨٨٠ بلغ عدد سكانها نحو ٣٠٠٠٠٠٠ نفس.
٢  في هذه السنين تقدمت أميريكا تقدمًا غريبًا حتى بلغ عدد سكانها الآن ٥٢٠٠٠٠٠٠ نفس.
٣  وفي سنة ١٨٨٠ صار طول سكك الحديد في أميريكا ٩٠٠٠٠ ميل، وإيراد الدولة في السنة المذكورة بلغ ٣٣٣٠٠٠٠٠٠ ريال، والمصاريف بلغت ٢٦٠٠٠٠٠٠٠ ريال، وعدد دواوين البوسطة بلغ ٤٠٨٥٥ فانظر إلى هذا الفرق وتعجب.
٤  وفي سنة ١٨٧٨ بلغ مقدار الفحم الحجري الذي استخرج في فرنسا ١٧٠٩٦٥٢٠ طن.
٥  وفي سنة ١٧٨٩ بلغت قيمة القصدير المصنوع الذي أرسل من إنكلترة إلى الخارج ٣٥٠٠٠٠٠ ليرة.
٦  منذ تأليف هذا الكتاب ازدادت السكك الحديد في أوروبا ازديادًا عظيمًا، ففي إنكلترة وحدها بلغ طولها لغاية سنة ١٨٨٠ مسافة ١٨٠٠٠ ميل كلفت ٧١٧٠٠٣٤٦٩ ليرة، وحملت من الركاب في ظرف سنة واحدة نحو ٦٠٠٠٠٠٠٠٠ نفس، وفي أميريكا بلغ طول السكك المذكورة ٨١٧٢٥ ميلًا، وفي إيطاليا ٥٠٩٨، وفي جرمانيا ١٩٧٧٣، وفي فرنسا ١٣٨٧١ بلغ إيرادها في السنة المذكورة ٣٦٢٣٥٤٠٨ ليرات إنكليزية، وقس على ذلك ازدياد السكك في بقية ممالك أوروبا.
٧  التزجيج: تنحيف الحواجب.
٨  وفي سنة ١٨٨١ بلغ عدد عساكر إنكلترة المستوطنين فيها ٦٠٠٠٠ نفر، وجملة عساكرها النظامية الذين فيها وفي الخارج أيضًا ما عدا عساكرها بالأقطار الهندية ٣٠٧٠٠٠ نفر، وهذا العدد قليل بالنسبة إلى قوة عساكر بقية الدول.
٩  وفي سنة ١٨٨٠ بلغت مصاريف العساكر البرية ١٥٥٤١٣٠٠ ليرة إنكليزية، ومصاريف العساكر البحرية ١٠٤٩٢٩٣٥ ليرة.
١٠  علم من إحصائيات دولة إنكلترة أن مقدار القطن الذي جلب إلى إنكلترة من الخارج بلغ في سنة ١٨١٥ ٩٩٠٠٠٠٠٠ رطل إنكليزي، وفي سنة ١٨٢٥ بلغ هذا المقدار ٢٢٩٠٠٠٠٠٠، وفي سنة ١٨٤٠ بلغ ٥٩٢٠٠٠٠٠٠، وفي سنة ١٨٥٠ ٦٦٣٥٧٦٨٦١، وفي سنة ١٨٦٠ ١٣٩٠٩٣٨٧٥٢، وجلب إليها في سنة ١٨٧٩ ١٤٦٩٣٥٨٤٦٤. ومقدار ما خرج منها إلى الخارج بلغ ١٨٨٢٠١٨٨٨ رطلًا.
١١  في سنة ١٨٧٤ بلغ عدد المعامل في إنكلترة ووالس وسكوتلاند وإرلاند ٧٢٩٤ معملًا، وعدد المستخدمين والصناع فيها ١٠٠٥٦٨٥ منهم ٣٩٤٠٤٤ ذكور و٦١١٦٤١ إناث.
١٢  بلغت قيمة جميع البضاعة التي خرجت من إنكلترة إلى الخارج في سنة ١٨٧٩ ١٩١٥٣١٧٥٨ ليرة.
١٣  تفصيل مسائل الصفة المشبهة ثماني عشرة؛ حَسَنٌ وَجْهه؛ بِرَفْعِ وجهه ونصبه وجره، وحَسَن الوجه؛ برفع الوجه ونصبه وجره، وحسن وجه؛ برفع وجه ونصبه وجره، والحسن وجهه؛ برفع وجهه ونصبه وجره، والحسن الوجه؛ برفع الوجه ونصبه وجره، والحسن وجه؛ برفع وجهه ونصبه وجره، ووجهان من المسائل ممتنعان؛ أحدهما: الحسن وجهه بجره، والثاني: الحسن وجه بجر وجه، واختلف في حسن وجهه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤