شبهة الخرافة

وهنا نعود مرة أخرى إلى سؤالنا الذي افتتحنا به هذه الكلمة، فنسأل المترددين والمعطِّلين: إذا كان التدين على هذه الحالة التي وُجِد بها غير حسن في تقديركم، فيكف يكون الحسن؟ وكيف تتصورونه ممكنًا على نحوٍ أقرب إلى العقل وأيسر في الإمكان؟

وكأننا بهم يقترحون دينًا لا يركن إليه إلا النُّخبة المختارة من كبار العقول الذين لا تتسرب الخرافة إلى مداركهم في عصرٍ من العصور، كائنًا ما كان موقع ذلك العقل من درجات التقدم والحضارة.

هذا، أو يقترحون دينًا يتساوى فيه كبار العقول وصغارهم تساويًا آليًّا لا عمل فيه لاجتهاد الروح وتربية الضمير واستفادة المستفيد من كفاح الحوادث وتجارب الحياة.

هذا، أو يقترحون دينًا يتبدل في كل فترة تبدلًا آليًّا كلما تبدلت معارف الأمم في مختلِف الأزمنة أو مختلِف البلدان.

ومهما نسترسل في تصور المقترحات التي تخطر للمترددين والمعطلين، فلا نخال أننا منتهون إلى مقترَح يرونه ويراه غيرهم اقرب إلى التصور وأيسر من الدين في تاريخه المعهود؛ فإن أطوار التدين كما نشأت من أقدم عصورها إلى اليوم لا تزال أقرب إلى المعقول من كل مقترَح ذكرناه على ألسنتهم بين هذه الفروض.

فالنخبة المختارة من كبار العقول لا تحتاج إلى تعاليم الدين كما تحتاج إليه طوائف البشر من الجهلاء أو صغار العقول، وقد يتنزه أبناء النخبة المختارة عن الخرافة في آونة محدودة، ولكنهم لن يتنزهوا عنها في كل آونة مع التسليم بتطور العلم وتطور الإدراك الذي يستفيد من جملة العلوم.

أما أن يتساوى الناس تساويًا آليًّا في كشف حقائق الكون، من أول عهد البشر بالتدين إلى آخر عهدهم المقدور لهم من الحياة الأرضية؛ فإنما هو نكسة بهم إلى حالة لا فرق بينها وبين أحوال الجماد أو أحوال الآلات التي لا عمل فيها لاجتهاد الروح ولا لتربية الضمير.

وأما أن تتبدل العقائد في كل لحظة تتغير فيها مُدرَكات العلوم ومُدرَكات المعرفة على العموم، فتلك حالة نحاول أن نتصورها في أطوار الجماعات فلا نرى أنها قابلة للتصور في جماعة واحدة تعيش من أسلاف إلى أخلاف مئات السنين، أو ألوف السنين، اللهم إلا إذا تصورنا عقول هذه الجماعة وضمائرهم في صورة الصفحات التي تنقلب صفحة بعد صفحة حين تعرض على قرائها وهم يريدون تقلبها أو لا يريدون.

كل هذه الصور يقترحها من يشاء، ولا يكلف نفسه أن يتمادى مع صورة منها في التخيل، أو يعالج تطبيقها في الواقع إذا استطاع، وما هو بمستطيع.

ونكاد نقول عن نشأة التدين بين جماعات البشر كما نشأ في عالم الواقع: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، لولا أننا نرى أن الزمان المتطاول قد يمكن فيه اليوم ما لم يكن ممكنًا بالأمس، وقد يمكن فيه غدًا ما ليس بممكن في يومنا هذا ولا في الأيام التي سلفت، وقد يمكن فيه عند قوم في العصر الواحد ما يتعذر على آخرين في العصر نفسه … إلا أننا ندين بقول القائلين: «إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان» إذا نظرنا إلى تطور الدين نظرة تحيط بأطواره كلها في جميع الأزمنة وبين جميع الأقوام.

وينبغي أن نذكر أن التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية لازمتان من لوازم الشعور الديني لا تنفصلان عنه، ولا يتأتى لنا أن نفهم ظواهره وخوافيَه ما لم نكن على استعداد لتفسير هذا التعبير وقبول ذلك الإيمان.

ولسنا نقبل التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية ترخُّصًا مع الدين وحده برخصة لا نلتمسها مع سائر المدركات الحسية أو النفسية؛ لأننا نعلم أن التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية لازمتان من لوازم تكوين الإنسان في مدركات حسه ومدركات نفسه، على اختلاف الأساليب ومَعارض الإدراك.

فأي إدراك للإنسان أصدق عنده من إدراك العِيَان؟ وما هي حقيقة هذا الإدراك إن لم يكن في صميمه تعبيرًا رمزيًّا نضع له من الأسماء ما ليس بينه وبين الواقع مطابقة غير مطابقة الرمز للحقيقة التي ترمز إليها؟ فنحن نسمي الألوان بأسمائها، ثم نرجع إلى حقائقها فلا نعلم لها حقيقة في الواقع إلا أنها ذبذبات كما يقال في أمواج الأثير، ولا نعلم للأثير من حقيقة في الواقع غير أنه — كما يقال — فرض نقول به؛ لأننا لا نريد أن نقول بفرض العدم أو بفرض الفضاء والخلاء.

ومن أمثلة العقيدة الإيمانية التي نلمسها في كل حيٍّ أو نلمسها في كل مولودٍ أن الآباء والأمهات يحبون ذريتهم ولا يقبلون بديلًا منها، ولو كان البديل خيرًا من تلك الذرية وأجمل منظرًا وأفضل مَخْبَرًا وأدعى إلى الغِبطة والرجاء. ولا بقاء لأنواع الأحياء إذا قامت الأبوة على عاطفة غير هذه العقيدة الإيمانية التي يرتبط بها قِوام الحياة، ولا يختلف اثنان في وصف هذا الحنان الأبوي بالمغالاة إذا أردنا أن نجرد الحياة من صواب العاطفة أو صواب العقيدة، ولا ندين فيها بغير صواب العقول.

فإذا وجب علينا أن نقبل التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية في مدركات الدين، فنحن لا نترخص مع الدين وحده بهذه الرخصة الشائعة عندنا — نحن بني الإنسان — في جميع مدركاتنا، بل نحو نسوِّي بين رخصة الدين ورخصة الحس ورخصة العقل في هذه اللغة الحيوية التي ينطق بها كل حي مع اختلاف الظروف والعبارات.

على أننا لا نبتغي بدعًا من العقل إذا ميَّزنا الدين برخصة لا تساويها رخصة قط فيما تدركه الحواس أو تدركه العقول؛ لأن مدركات الدين تشمل أصول الوجود وأسرار الخليقة، وتتطلع إلى بواطن الغيب كما تتطلع إلى ما وراء هذا العالم المحدود كلما ارتفعت بها أشواقها إلى سماء الكمال المطلق: كمال الخالق المبدع لجميع هذه المخلوقات.

فإذا قبلنا من عقولنا وحواسنا أن نقنع بالتعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية في إدراك خليقة محدودة من هذه الخلائق التي لا عداد لها، فإنه لَمِنَ الشَّطَط أن نَسُوم العقل إدراكًا للحقيقة المطلقة يخلو من الرموز ويتجرد من عنصر الإيمان.

•••

ولنكن واقعيين مع الواقعيين في كلامنا عن مشكلة الدين؛ فإننا كنا إلى الآن في هذه الفاتحة عقليين، نحتكم إلى البرهان في محاسبة الدين ومراجعة الشبهات التي تواجه المترددين والمعطِّلين ويواجهون بها عقائد الأديان على الإجمال.

فماذا لو أضفنا إلى حجة العقل حجة الواقع من تجارب التاريخ وتجارب الحاضر في شئون الجماعات الإنسانية، وشئون كل فرد من بني الإنسان على حِدَة بينه وبين جماعته أو بينه وبين نفسه؟

إن تجارب التاريخ تقرر لنا أصالة الدين في جميع حركات التاريخ الكبرى، ولا تسمح لأحد أن يزعم أن العقيدة الدينية شيء تستطيع الجماعة أن تلغيَه، ويستطيع الفرد أن يستغنيَ عنه في علاقته بتلك الجماعة أو فيما بينه وبين سريرته المطوية عمن حوله، ولو كانوا من أقرب الناس إليه، ويقرر لنا التاريخ أنه لم يكن قَطُّ لعامل من عوامل الحركات الإنسانية أثر أقوى وأعظم من عامل الدين، وكل ما عداه من العوامل المؤثرة في حركات الأمم فإنما تتفاوت فيه القدرة بمقدار ما بينه وبين العقيدة الدينية من المشابهة في التمكن من أصالة الشعور وبواطن السريرة.

هذه القوة لا تضارعها قوة العصبية، ولا قوة الوطنية، ولا قوة العرف، ولا قوة الأخلاق، ولا قوة الشرائع والقوانين؛ إذ كانت هذه القوة إنما ترتبط بالعلاقة بين المرء ووطنه، أو العلاقة بينه وبين مجتمعه، أو العلاقة بينه وبين نوعه على تعدد الأوطان والأقوام؛ أما الدين فمرجعه إلى العلاقة بين المرء وبين الوجود بأسره، وميدانه يتسع لكل ما في الوجود من ظاهر وباطن، ومن علانية وسر، ومن ماضٍ أو مصير، إلى غير نهاية بين آزالٍ لا تُحصى في القدم وآبادٍ لا تُحصى فيما ينكشف عنه عالم الغيوب؛ وهذا — على الأقل — هو ميدان العقيدة الدينية في مَثلها الأعلى وغاياتها القصوى وإن لم تستوعبها ضمائر المتدينين في جميع العصور.

ومن أدلة الواقع على أصالة الدين أنك تلمس هذه الأصلة عند المقابلة بين الجماعة المتدينة والجماعة التي لا دين لها أو لا تعتصم من الدين بركن ركين، وكذلك تلمس هذه الأصالة عند المقابلة بين فرد يؤمن بعقيدة من العقائد الشاملة وفرد معطَّل الضمير مضطرِب الشعور يمضي في الحياة بغير محور يلوذ به، وبغير رجاء يسمو إليه، فهذا الفارق بين الجماعتين وبين الفردين، كالفارق بين شجرة راسخة في منبتها وشجرة مجتثَّة من أصولها، وقلَّ أن ترى إنسانًا معطل الضمير على شيء من القوة والعظمة إلا أمكنك أن تتخيله أقوى من ذلك وأعظم إذا حلت العقيدة في وجدانه محل التعطل والحيرة.

•••

وبعد، فنحن نختم هذه الفاتحة — كما بدأناها — بالتنبيه إلى غرضنا من هذه المناقشة الوجيزة لشبهات المترددين والمعطِّلين على التدين في أساسه، فنقول في ختامها — كما قلنا في مستهلها: إننا لا نحسب أن مناقشةً من المناقشات في هذا الموضوع الجَلَلِ تحسم الخلاف وتختم المطاف، ولكننا نطمع بحقٍ في الإبانة عن مواطن الضعف من تلك الشبهات، ونعلم أنها أضعف من أن تقتلع أصول العقيدة الدينية من الطبيعة الإنسانية، وأنها تتهافت تباعًا كلما استحضر الباحث في خَلَده شرائط الدين المعقولة التي تلازمه حتمًا في رأي المؤمن بدينٍ من الأديان، وفي رأي المنكر لجميع الأديان على السواء.

فمن شرائط الدين اللازمة أن تدين به جماعة يمتد أجلها وراء آجال الأفراد، وتتعاقب فيها الأجيال حقبة بعد حقبة إلى أمد بعيد؛ فلا يُؤخذ على الدين إذنْ أنه يناسب هذه الأجيال حيث تأخرت كما يناسبها حيث تقدمت على مر الزمان مع تطور العلم والحضارة.

ومن شرائط الدين اللازمة أن تدين به الأمة في العصر الواحد على تفاوت أبنائها في المعرفة والسَّجِيَّة والرأي والمشرب؛ فلا يُؤخذ على الدين إذنْ أن يدخل فيه حساب العالم والجاهل، وحساب الرفيع والوضيع، وحساب الطيب والخبيث، وحساب الذكي النابغ والغبي الخامل.

ومن شرائط الدين اللازمة أن يريح الضمير فيما يجهله الإنسان — ولا بد أن يجهل — من شئون الغيب وأسرار الكون؛ لأنها الشئون والأسرار التي لا يحيط بها عقله المحدود، ولا تُبديها له ظواهر الزمان والمكان؛ فلا يؤخذ على الدين إذنْ أن يتولى تقريب هذه الأسرار الأبدية بأسلوب المجاز والتشبيه، أو بأسلوب الرمز الذي تدركه العقول البشرية على مقدار حظها من الفطنة والنفاذ إلى بواطن الأمور وخفايا الشعور.

ومتى توفَّرت النفس على تسليم هذه الشرائط اللازمة لكل دين من الأديان، فقد وجب على العارفين أن يضطلعوا بالتوفيق بينها وبين مطالب الجماعة ومطالب الزمن ومطالب السريرة في أعماقها؛ حيث تتصل بعالم الغيب وعالم الشهادة صِلاتها التي لا تنقطع لمحة عين.

•••

وظاهر من سياق الكلام عن الدين في هذه الفاتحة أننا نعني به التدين على إطلاقه، ونريد أن ندل على أصالته في حياة الفرد وحياة الأمة، ومتى عرفنا للتدين أصالته في كلتا الحياتين منذ ألوف السنين، فليس ما يمنع أن يكون بين الديانات التي آمن بها البشر قديمًا وحديثًا ديانة أفضل من ديانة، وعقيدة أقرب من عقيدة إلى الكمال.

وإنما تَفضُل الديانة سواها بمقدار شمولها لمطالب الروح وارتقاء عقائدها وشعائرها في آفاق العقل والضمير، وكذلك كانت الديانة الإسلامية — كما آمنا بها — ملة لا تفضلها ملة في شمول حقائقها وخلوص عباداتها وشعائرها من شوائب الملل الغابرة.

وذلك هو موضوع هذا الكتاب فيما عرضه من حقائق الإسلام، وفيما يعرض له من أباطيل المفترين عليه.

إن بعض العقائد ليصيب النفس بما يشبه داء الفصام؛ لأنه يقسم الشخصية الإنسانية على نفسها، ويمزق الضمير الحائر بين نوازع الجسد ونوازع الروح، وبين سلطان الأرض وسلطان السماء، وبين فرائض السعي وفرائض العبادة. وشمول العقيدة الإسلامية هو الذي يعصم ضمير المسلم من هذا الفصام الروحاني، وهو الذي يعلمه أن يرفع رأسه حين تَدُول دولته أمام المسيطرين عليه، وهو الذي يحفظ كيان الأمم الإسلامية أمام الضربات التي تلاحقت عليها من غارات الفاتحين، أو غارات الحروب الصليبية، أو غارات الاستعمار والتبشير.

وشمول العقيدة الإسلامية هو الذي حقق للإسلام ما لم يتحقق لعقيدة غيره من تحويل الأمم العريقة التي تدين بالكتب المقدسة إلى الإيمان به عن طواعية واختيار، كما آمنت به الأمم المسيحية والمجوسية والبرهمية في مصر وسوريا وفارس والهند والصين.

ولقد عُزِيَ انتشار الإسلام في صدر الدعوة المحمدية إلى قوة السيف، وما كان للإسلام يومئذٍ من سيف يصول به على أعدائه الأقوياء، بل كان المسلمون هم ضحايا السيف وطرائد الغشم والجبروت. وإن عدد المسلمين اليوم بين أبناء الهند والصين وإندونيسيا والقارة الأفريقية لَيبلغ تسعة أعشار المسلمين في العالم أجمع، وما روى لنا التاريخ من أخبار الغزوات الدينية في عامة هذه الأقطار ما يكفي لتحويل الآلاف المعدودة — فضلًا عن مئات الملايين — من دين إلى دين.

ولقد عُزِيَ انتشار الإسلام بين السُّود من أبناء القارة الإفريقية إلى سماح الإسلام بتعدد الزوجات، وما كان تعدد الزوجات بالأمر الميسور لكل من يشتهيه من أولئك السُّود المقبلين على الدين الإسلامي بغير مجهود، ولكنهم يجدون الخمر ميسرة لهم حيث أرادوها وقد حرمها الإسلام أشد التحريم، فلم ينصرف عنه السود؛ لأنه حال بينهم وبين شهوة الشراب التي قيل: إنها كانت شائعة بينهم شيوع الطعام والغذاء.

إنما شمول العقيدة الإسلامية دون غيره هو العامل القوي الذي يجمع إليه النفوس ويحفظ لها قوة الإيمان، ويستغني عن السيف وعن المال في بث الدعوة كلما تفتحت أبوابها أمام المدعوِّين إليها بغير عائق من سلطان الحاكمين والمتسلطين.

•••

قلنا في باب العقيدة الشاملة من كتابنا عن «الإسلام في القرن العشرين»:

ويبدر إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولا بد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات؛ فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة قبل أن يطلع على حقائق الديانة ويتعمق في الاطلاع.

ومن المحقق أن إدراك الشمول من الوجهة العلمية لا يتأتَّى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة في وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بين الديانات، وبخاصةٍ في شعائرها ومراسمها التي يتلاقى عليها المؤمنون في بيئاتهم الاجتماعية.

ولكن الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته، ويكفي أن يَرى المسلم مستقلًّا بعبادته عن الهيكل والصنم والأيقونة والوثن، ليعلم أنه وحدة كاملة في دينه، ويعلم من ثَمَّ كل ما يرغبه في ذلك الدين أيام أن كان الدين كله حكرًا للكاهن، ووقفًا على المعبد، وعالة على الشعائر والمراسم مدى الحياة.

لقد ظهر الإسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم، وواجه أناسًا من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود إلى حالةٍ كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة، ولاح للناس في القرن السابع للميلاد خاصةً أن المتدين قطعة من المعبد لا تتم على انفرادها، ولا تحسب لها ديانة أو شفاعة بمعزل عنه؛ فالدين كله في المعبد عند الكاهن، والمتدينون جميعًا قِطَعٌ متفرقة لا تستقل يومًا بقوام الحياة الروحية، ولا تزال معيشتها الخاصة والعامة تَثُوب إلى المعبد لتتزود منه شيئًا تتم به عقيدتها، ولا تستغني عنه مدى الحياة.

لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة، سواءٌ في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب، إلى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة.

فلما ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه؛ يصلي حيث يشاء، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد من الكهان، وهو مع الله في كل مكان، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله (البقرة: ١١٥).

ويذهب المسلم إلى الحج، فلا يذهب إليه ليغتنم من أحدٍ بركةً أو نعمة يضفيها عليه، ولكنه يذهب إليه كما يذهب الألوف من إخوانه، ويشتركون جميعًا في شعائره على سنة المساواة بغير حاجة إلى الكهانة، وقد يكون السَّدَنَةُ الذين يراهم مجاورين للكعبة خُدَّامًا لها وله، يدلونه حين يطلب منهم الدلالة، ويتركهم إن شاء؛ فلا سبيل لأحد منهم عليه.

فإذا توسع قليلًا في العلم بشعائر الحج، علم أن الحج لا يَفرض عليه زيارة قبر الرسول، وأن هذه الزيارة ليست من مناسك الدين، وأنها تحية منه يؤديها من عنده غير ملزم، كما يؤدي التحية لكل دفين عزيز محبوب لديه، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ (الكهف: ١١٠).

وقرأ فيه: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ (الشورى: ٤٨).

وقرأ فيه: قُلْ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (النور: ٥٤).

وقرأ فيه: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ (ق: ٤٥).

وقرأ فيه: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية: ٢٢).

وقرأ فيه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبأ: ٢٨).

وقرأ فيه آيات لا تخرج في وصف الرسالة عن معنى هذه الآيات.

•••

مر بنا أن فساد رجال الدين كان من أسباب انصراف أتباعهم عن دينهم ودخولهم أفواجًا عقيدة للمسلمين.

مثل هذا لا يحصل في أمة إسلامية فسد فيها رجال دينها؛ فما من مسلم يذهب إلى الهيكل ليقول لكاهنه: خذ دينك إليك فإنني لا أومن به؛ لأنني لا أومن بك، ولا أرى في سيرتك مصدقًا لأوامرك ونواهيك أو أوامره ونواهيه.

كلا، ما من رجل دين يبدو للمسلم أنه صاحب الدين، وأنه حين يؤمن بالله يؤمن به لأنه إله ذلك الرجل الذي يتوسط بينه وبين الله، أو يعطيه من نعمته قوامًا لروحه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ ۖ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (فاطر: ١٣–١٥).

نعم، كلهم فقراء إلى الله، وكلهم لا فضل لواحدٍ منهم على سائرهم إلا بالتقوى، وكلهم في المسجد سواء، فإن لم يجدوا المسجد فمسجدهم كل مكان فوق الأرض وتحت السماء.

إن عقيدة المسلم شيء لا يتوقف على غيره، ولا تبقى منه بقية وراء سره وجهره، ومن كان إمامًا له في مسجده فلن ترتفع به الإمامة مقامًا فوق مقام النبي صاحب الرسالة؛ النبي يبشر وينذر، ولا يتجبر ولا يسيطر، ويُبلِّغ قومه ما حُمِّل وعليهم ما حملوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

ومنذ يسلم المسلم يصبح الإسلام شأنه الذي لا يعرف لأحد حقًّا فيه أعظم من حقه، أو حصة فيه أكبر من حصته، أو مكانًا يأوي إليه ويكون الإسلام في غيره.

كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح، ولا يعاني هذا الفصام الذي يشق على النفس احتماله ويحفزها في الواقع إلى طلب العقيدة، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (القصص: ٧٧)، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا * مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (الأحزاب: ٣-٤).

فإذا كانت العقيدة التي تباعد المسافة بين الروح والجسد تعفينا من العمل حين يشق علينا العمل، فالعقيدة التي توحد الإنسان وتجعله كُلًّا مستقلًّا بدنياه شفاءٌ له من ذلك الفصام الذي لا تستريح إليه السريرة إلا حين يُضطَر إلى الهرب من عمل الإنسان الكامل في حياته، وحافزٌ له إلى الخلاص من القهر كلما غلب على أمره ووقع في قبضة سلطان غير سلطان ربه ودينه.

ومن هنا لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر؛ لأن الأمر في الإسلام كله لله: بَل لِلهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا (الرعد: ٣١)، وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (البقرة: ١١٥)، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (الشعراء: ٢٨).

وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين وهو قادر على تطويع قيصر بأمر الله، وهذا التطويع هو الذي أوجبته العقيدة الشاملة، وكان له الفضل في صمود الأمم الإسلامية لسطوة الاستعمار وإيمانها الراسخ بأنها دولة دائلة، وحالة لا بد لها من تحويل.

وقد أبت هذه العقيدة على الرجل أن يطيع الحاكم بجزء منه ويطيع الله بغيره، وأبت على المرأة أن تعطيَ بدنها في الزواج لصاحبها وتنأى عنه بروحها وسريرتها، وأبت على الإنسان جملة أن يستريح إلى «الفصام الوجداني» ويحسبه حلًّا لمشكلة الحكم والطاعة قابلًا للدوام.

إن هذا الشأن العظيم — شأن العقيدة الشاملة التي تجعل المسلم «وحدة كاملة» — لا يتجلى واضحًا قويًّا كما يتجلى من عمل الفرد في نشر العقيدة الإسلامية؛ فقد أسلم عشرات الملايين في الصحارى الإفريقية على يدي تاجر فرد، أو صاحب طريقة منفرد في خلوته لا يعتصم بسلطان هيكل ولا بمراسم كهانة، وتَصنع هنا قدرة الفرد الواحد ما لم تصنعه جموع التبشير ولا سطوة الفتح والغلبة؛ فجملة من أسلموا في البلاد التي انتصرت فيها جيوش الدول الإسلامية هم الآن أربعون أو خمسون مليونًا بين الهلال الخصيب وشواطئ البحرين الأبيض والأحمر، فأما الذين أسلموا بالقدوة الفردية الصالحة فهم فوق المائتين من الملايين، أو هم كل من أسلم في الهند والصين وجزائر جاوة وصحارى إفريقية وشواطئها، إلا القليل الذي لا يزيد في بداءته على عشرات الألوف.

•••

وينبغي أن نفرق بين الاعتراف بحقوق الجسد وإنكار حقوق الروح؛ فإن الاعتراف بحقوق للجسد لا يستلزم إنكار الروحانية ولا الحد من سبحاتها التي اشتُهرت باسم التصوف في اللغة العربية أو اشتُهرت باسم «الخفيات والسريات» في اللغة الغربية Mysticism؛ إذ لا يُوصف بالشمول دين ينكر الجسد، كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح، وقد أشار القرآن الكريم إلى الفارق بين عالم الظاهر وعالم الباطن في قصة الخضر وموسى — عليهما السلام — وذكر تسبيح الموجودات ما كانت له حياة ناطقة وما لم تكن له حياة: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (الإسراء: ٤٤)، وأشار إلى هذه الأشياء بضمير العقلاء، وعلم منه المسلمون أن الله أقرب إليهم من حبل الوريد، وأنه نور السماوات والأرض، وأنه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الحديد: ٣). وحسب المرء أن يتعلم هذا من كتاب دينه، ليبيح لنفسه من سبحات التصوف كل ما يُستباح في عقائد التوحيد، ولعله لم يوجد في أهل دين من الأديان طرق للتصوف تبلغ ما بلغته هذه الطرق بين المسلمين من الكثرة والنفوذ، ولا وجه للمقابلة بين الإسلام وبين البرهمية أو بين البوذية — مثلًا — في العقائد الصوفية؛ فإن إنكار الجسد في البرهمية أو البوذية يخرجها من عداد العقائد الشاملة التي يتقبلها الإنسان بجملته غير منقطع عن جسده أو عن دنياه.

وحسب المرء أن يُرضيَ مطالبه الروحية ولا يخالف عقائد دينه ليوصف ذلك الدين بالشمول، ويبرأ فيه الضمير من داء الفصام.

كذلك يخاطب الإسلام العقل ولا يقصر خطابه على الضمير أو الوجدان، وفي حكمه أن النظر بالعقل هو طريق الضمير إلى الحقيقة، وأن التفكير باب من أبواب الهداية التي يتحقق بها الإيمان: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا (سبأ: ٤٦)، كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (البقرة: ٢١٩).

وما كان الشمول في العقيدة ليذهب فيها مذهبًا أبعد وأوسع من خطاب الإنسان روحًا وجسدًا وعقلًا وضميرًا بغير بَخْس ولا إفراط في مَلَكة من هذه المَلَكات.

وفي مشكلة المشكلات التي تعرض للمتدين يعتدل المسلم بين الإيمان بالقدر والإيمان بالتَّبعة والحرية الإنسانية، فمن عقائد دينه: إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ (نوح: ٤)، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ (فاطر: ١١)، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (آل عمران: ١٤٥)، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا (النساء: ٨١).

ومن عقائد دينه أيضًا: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: ١١)، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (هود: ١١٧)، وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (الشورى: ٣٠).

وليس في الإسلام أن الخطيئة موروثة في الإنسان قبل ولادته، ولا أنه يحتاج في التوبة عنها إلى كفارة من غيره. وقد قيل: إن الإيمان بالقضاء والقدر هو علة جمود المسلمين. وقيل على نقيض ذلك: إنه كان حافزهم في صدر الإسلام على لقاء الموت وقلة المبالاة بفراق الحياة. وحقيقة الأمر أن المسلم الذي يترك العمل بحجة الاتكال على الله يخالف الله ورسوله؛ لأنه مأمور بأن يعمل في آيات الكتاب وأحاديث الرسول: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة: ١٠٥)، بل حقيقة الأمر أن خلاصة ذلك كله موقوف عليه، وأن إيمانه بحريته وتدبيره لا يقتضي بداهة أن الله — سبحانه — مسلوب الحرية والتدبير.

وأصدق ما يُقال في عقيدة القضاء والقدر إنها قوة للقويِّ وعذر للضعيف، وحافز لطالب العمل وتَعِلَّةٌ لمن يهابه ولا يقدر عليه، وذلك دَيْدَنُ الإنسان في كل باعث وفي كل تَعِلَّةٍ؛ كما أوضحنا في الفارق بين أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المَعَرِّيِّ وهما يقولان بقول واحد في عبث الجهد وعبث الحياة.

فأبو الطيب يقول عن مراد النفوس:

ومراد النفوس أهون من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى

ثم يتخذ من ذلك باعثًا للجهاد والكفاح، فيقول:

غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا

والمعري يقول: إن التعب عبث لأنه لا يؤدي بعده إلى راحة في الحياة، ولكنه يعجب من أجل هذا لمن يتعبون ويطلبون المزيد:

تعب كلها الحياة فما أعـ
ـجب إلا من راغبٍ في ازديادِ

وعلى هذا المثال يقال تارة: إن عقيدة القضاء والقدر نفعت المسلمين، ويقال تارة أخرى: إنها ضرتهم وأوكلتهم إلى التواكل والجمود. وصواب القول أنهم ضعفوا قبل أن يفسروا القضاء والقدر ذلك التفسير، وتلك خديعة الطبع الضعيف.

وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول؛ لأنها تشمل الأمم الإنسانية جميعًا، كما تشمل النفس الإنسانية بجملتها من عقل وروح وضمير.

فليس الإسلام دين أمة واحدة، ولا هو دين طبقة واحدة، وليس هو للسادة المسلَّطين دون الضعفاء المسخَّرين، ولا هو للضعفاء المسخَّرين دون السادة المسلَّطين، ولكنه رسالة تشمل بني الإنسان من كل جنس وملة وقبيلة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (الإسراء: ١٠٥)، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (الأعراف: ١٥٨)، قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (البقرة: ١٣٦)، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (المائدة: ٦٩).

فهذه عقيدة إنسانية شاملة، لا تخص بنعمة الله أمة من الأمم لأنها من سلالة مختارة دون سائر السلالات لفضيلة غير فضيلة العمل والصلاح: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: ١٣).

وفي أحاديث النبي — عليه السلام — أنه: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»

وليس للإسلام طبقة يُؤْثرها على طبقة أو منزلة يُؤْثرها على منزلة؛ فالناس درجات، يتفاوتون بالعلم، ويتفاوتون بالعمل، ويتفاوتون بالرزق، ويتفاوتون بالأخلاق: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (المجادلة: ١١)، لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ (النساء: ٩٥)، وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ (النحل: ٧١)، هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الزمر: ٩).

•••

وإذا ذكر القرآن الضعف، فلا يذكره لأن الضعف نعمة أو فضيلة مختارة لذاتها، ولكنه يذكره ليقول للضعيف إنه أهل لمعرفة الله إذا جاهد وصبر وأنِف أن يُسخِّر لُبه وقلبه للمستكبرين، وإلا فإنه لمن المجرمين: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (سبأ: ٣١-٣٢)، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (القصص: ٥-٦).

وما من ضعيف هو ضعيف إذا صبر على البلاء، فإذا عرف الصبر عليه فإنه لأقوى من العُصْبة الأشداء: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال: ٦٦).

فما كان الإله الذي يدين به المسلم إله ضعفاء أو إله أقوياء، ولكنه إله مَن يعمل ويصبر ويستحق العون بفضل فيه، جزاؤه أن يكون مع الله، والله مع الصابرين.

بهذه العقيدة الشاملة غلب المسلمون أقوياء الأرض، ثم صمدوا لغلبة الأقوياء عليهم يوم دالت الدول وتبدلت المقادير، وذاق المسلمون بأس القوة مغلوبين مدافعين.

وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تُعهَد في دين آخر من الأديان الكتابية؛ فإن تاريخ التحوُّل إلى هذه الأديان لم يسجِّل لنا قط تحولًا جماعيًّا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرِّضَى والاقتناع؛ إذ كان المتحولون إلى المسيحية أو إلى اليهودية قبلها في أول نشأتها أممًا وثنية على الفطرة لا تدين بكتاب، ولم تعرف قبل ذلك عقيدة التوحيد أو الإله الخالق المحيط بكل شيء، ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين كتابي غير الإسلام، وإنما تفرَّد الإسلام بهذه المزية دون سائر العقائد الكتابية؛ فتحولت إليها الشعوب فيما بين النهرين وفي أرض الهلال الخصيب وفي مصر وفارس، وهي — فارس — أمة عريقة في الحضارة كانت قبل التحوُّل إلى الإسلام تؤمن بكتابها القديم، وتَحوَّل إليه أناس من أهل الأندلس وصقلية، كما تَحوَّل إليه أناس من أهل النوبة الذين غَبَروا على المسيحية أكثر من مائتي سنة، ورغَّبهم جميعًا فيه ذلك الشمول الذي يجمع النفس والضمير، ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان، ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرائع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع.

وإبراز هذه المزية — مزية العقيدة الإسلامية التي أعانت أصحابها على الغَلَب وعلى الدفاع والصمود — هو الذي نستعين به على النظر في مصير الإسلام بعد هاتين الحالتين، ونريد بهما حالة القوي الغالب وحالة الضعيف الذي لم يسلبه الضعف قوة الصمود للأقوياء، إلى أن يحين الحين ويتبدل بين حالتي الغالب والمغلوب حالته التي يرجوها لغده المأمول، ولئن كانت حالة الصمود حُسْنَى الحالتين في مواقف الضعف، مع شمول العقيدة وبقائها صالحة للنفس الإنسانية في جملتها وللعالم الإنساني في جملته، لَيكونن المصير في الغد المأمول أكرم ما يكون مع هذه القوة وهذا الشمول.

في هذه العجالة عن شمول العقيدة الإسلامية إلمامة كافية لمقصدنا في هذا الكتاب الذي نود أن نستقصيَ فيه كل ما يُستقصى عن حقائق الدين في حيز هذه الصفحات.

أما المزايا التي امتازت بها عقائد الإسلام وأحكامه، فنحن مفرِدون لها ما يلي من فصول الكتاب الأربعة، وهي مبدوءة بفصل عن العقائد، ويليه فصل عن الحقوق، وفصل عن المعاملات، وفصل عن الأخلاق والآداب.

ووجهتنا التي نتجه إليها في هذه البحوث:
  • أولًا: أن الإسلام يوحي إلى المسلم عقيدة في الذات الإلهية، وعقيدة في الهداية النبوية، وعقيدة في الإنسان لا تعلوها عقيدة في الديانات ولا في الحكمة النظرية أو الحكمة العملية.
  • وثانيًا: أن أحكام الإسلام لا تعوق المسلم عن غاية تفتحها أمامه أشواط العلم والحضارة.
  • وثالثًا: أن في الإسلام زادًا للأمم الإنسانية في طريق المستقبل الطويل يواتيها بما فيه غنًى لها حيث نضبت الأزواد من وِطاب العقائد الروحية أو تكاد.

وباسم الله نتجه في وجهتنا، وعلى هدًى من الإيمان بالله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤