خاتمة

نختتم بهذه الكلمة فصولًا كتبناها عن حقائق الإسلام وأباطيل خصومه في العصر الحاضر. ونحن نعلم أن هذه القوة الروحية الخالدة في مفترق طريق وعرة تقف لديها لتثبت وجودها في مستقبلها بعد أن أثبتت وجودها في ماضيها.

ولقد وقف الإسلام مرات في مثل هذا المفترق أمام خصومه منذ قيام الدعوة المحمدية، وصمد لحملات عنيفة كهذه الحملات التي يشنها عليه خصومه في العصر الحاضر، ولكنها على أكثرها كانت من قبيل الحملات المادية — أو الحربية — التي شنها منافسوه من أرباب الدولة والسلطان، وقلَّ أن وقف الإسلام طويلًا أمام قوة يحفل بها لأنها تتصدى له من الوجهة الروحية؛ إذ كانت القوى الروحية التي تصدت له فيما مضى تنظر إلى ماضيها فتلمس فيه الفارق بينها وبينه، ولا تأمن عاقبة الجولة في هذا المجال، وهي مجردة من عدة الدولة والسلطان، وكانت من جانبها مشغولة بخصوماتها ومنازعاتها بين نِحَلِهَا ومذاهبها، تتجرد للحملة عليه إلا أن تتأهب للغلبة عليه بقوة السلاح!

أما حملات العصر الحديث فأهونها — فيما نرى — حملات الدولة والسلطان، وهي الحملات التي شنها عليه الاستعمار، ثم ظهر منها بعد حين أنها لم تقتل فيه قوة المقاومة، ولم تمنعه أن يصمد لها في ميدان البأس والحيلة، فكان صمود الإسلام لمحنة الاستعمار آية من آيات القوة الروحية التي تُسعد المعتصمين بها حين تخذلهم قوة السلاح وقوة السياسة وقوة العلم وقوة المال. ولو لم يكن في هذه العقيدة الخالدة سر أعمق جدًّا من أسرار العقائد الشائعة لَمَا اعتصم المسلمون منها بمعتصم نافع أمام هذه القوى المتضافرة عليها مجتمِعات.

ولنا إذنْ أن نقول — على ثقة — إن القضية الروحية بين الإسلام والاستعمار قضية بلغت حلها المأمول أو كادت أن تبلغه؛ فهي قضية مفروغ منها في هذا القرن العشرين.

ولنا منذ الساعة أن نقول على ثقة إن حملات الخصوم الذين يهاجمون الإسلام صائرة إلى هذا المصير. إلا أننا ننظر إلى قوى معروفة من الجانبين، ونرى أن فرصة الإسلام في هذه الجولة خليقة أن تبعث في الصدور أملًا أكبر من الأمل في مجرد الثبات والصمود، وبخاصةٍ حين نذكر أن العدة التي يعتد بها خصوم الإسلام في حملاتهم عليه هي عدة سلبية لا يعتمدون فيها على حجتهم وبيِّناتهم كما يعتمدون فيها على ضعف العقائد عامة في عصر المادية الطاغية على العقول والضمائر؛ فهم ضعفاء يجردون الحملة على الإسلام لظنهم أن الشبهات المادية زلزلته من داخله، وفتحت بين أهله ثغرة ينفذ منها المهاجم وإن ضعف وضعفت معه حجته وبيِّناته، فإذا انكشفت هذه الرغوة عن زبدتها وعرضت قوى الإسلام وقوى خصومه عرضًا يناسب هذا العصر الحديث، فالذي يتقدم هو الإسلام، والذي يرتد أو يذعن للحقيقة هو الخصم المستعد للإنصاف.

•••

يتلقى الإسلام أشد الحملات في العصر الحاضر من منكريه لأنهم يحترفون التبشير بدين آخر، أو من منكريه لأنهم ينكرون جميع الأديان.

وكلا الخصمين لا يستطيع أن ينال من الإسلام إذا وزن بميزان واحد، وأخذ بمعيار واحد فيما يؤيده من دعواه، وفيما يُنكره من دعوى الإسلام.

لا يستطيع المبشر المحترف أن ينال من الإسلام بما يدَّعيه عليه من التحريف والتشويه للأديان التي سبقته، فإن الإسلام في الإله وفي النبوة وفي الخير والشر وفي حقوق الإنسان أرفع وأصلح مما جاءت به الأديان التي سبقته إذا وُزنت كلها بميزان واحد يأخذ هنا بما يأخذ هناك. وليس في عقائد الإسلام ما يعتبره المنصف نكسة إلى الوراء أو يعتبره تطورًا في عقيدة تترقى مع الزمن حسبما يعرض لها من الظروف والملابسات؛ فإن من هذه العقائد — كالعقيدة في رب العالمين — ما ينقض عقائد الشرك وعقائد العصبية والاستئثار، ويصدر من بيئة مشحونة بمفاخر العصبيات والسلالات، وإنه لَمن تعسف القول أن يقال إنها هي البيئة التي يتطور فيها الإيمان بإله القبيلة ليصبح إلهًا واحدًا يؤاسي بين الشعوب والقبائل، يحاسبها بأعمالها ولا يحاسبها بآبائها وأنسابها، أو بما سلف من خطايا الآباء والأسلاف.

ومن ينكر النبوة على صاحب الدعوة لعلة من العلل الماجنة التي يتمحلونها، فهو مرغم على إنكار نبوات كثيرة يتقبلها ولا يشك في مصدرها السماوي ومعاذيرها المقبولة عند الله.

والمؤمنون بالعهد القديم يؤمنون بما جاء فيه عن داود — عليه السلام — ويؤمنون برضوان الله عنه واختصاصه بالبشارة الإلهية من ذريته، ويقرءون ما جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الثاني عن قصة داود مع القائد «أوريا» وزوجته التي بنى بها بعد تعريضه للقتل وهو في خدمته يهجر داره، ويجازف بحياته لمحاربة أعدائه.

يقول راوي القصة كما جاءت في الإصحاح الخامس عشر من كتاب صموئيل الثاني:

… قال داود لأوريا: أقم هنا اليوم أيضًا وغدًا أطلقك. فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده، ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره، وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح كتب داود مكتوبًا إلى يؤاب وأرسله بيد أوريا وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت. وكان في محاصرة يؤاب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه … فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات رجلها ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له أبناءً. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب …

فمن كانت هذه القصة في عقيدته لا تغض من النبوة ولا تدعو إلى إنكارها، فليس له أن يُنكر نبوة رسول الإسلام لِمَا يتعلل به من أحاديث زواجه ولو صح منها كل ما يدعيه، وهو غير صحيح، وليس له — وهو يزن النبوات بميزان واحد — أن يستنكر النبوة على صاحب رسالة ترتقي بالعقيدة الإلهية وبالرسالة النبوية ذلك المرتقى الذي لا يخفى على بصير يفتح عينيه ولا يغمضهما بيديه.

أما الذين يحملون على الإسلام من غير المتدينين، فهم جماعة الماديين الذين ينكرون الإسلام لأنهم ينكرون جميع الأديان، ويرفضون وجود الله فيرفضون الإيمان بصدور شيء من الأشياء من عند الله.

وآفة هؤلاء الماديين ضيق الأفق العقلي أو ضيق حظيرة النفس في حالتَي التصديق والإنكار.

فهم ينكرون الرسالة النبوية؛ لأنهم لا يقدرون على تصوُّرها في غير الصورة التي يرفضونها، ولعلهم يلذ لهم أن يتصوَّروها على هذه الصورة لأنها تتمشى في طبائعهم مع شهوة الإنكار التي تتسلط على عقول المسخاء، ولا سيما المسخاء من أدعياء العلم والتفكير.

ولا يُراد من هؤلاء أن ينبذوا العقل ليدركوا حتى حق الإسلام، ولكن يُراد منهم أن يوسعوا أفق العقل؛ فيعلموا من ثَمَّ أن العقل لا يمنعهم أن يدركوا حق الإسلام، بل يمنعهم أن يقبلوا عقلًا أنه وحي من عند الله.

فمن حقائق العقل والعلم أن الشكوك لا تُبطل فرضًا من الفروض إلا إذا كانت قاطعة في بطلانه، ولا يجوز فيها الأخذ بأحد الرأيين المختلفين … فما هي شكوكهم التي يوردونها على الإسلام فتمنع أن يكون دينًا صالحًا، أو تمنع أن يكون دينًا من عند الله؟!

لا يجوز أن يُنكروه لِمَا فيه من التعبيرات الرمزية؛ لأن التعبيرات الرمزية متمثلة في كل حاسة من حواس الأحياء، متمثلة في شعوره الوجداني وشعوره الذي يُعوِّل فيه على البصر أو على الخيال.

ولا يجوز لهم أن ينكروه لأن الجهلاء يفهمونه كما يفهم الجهلاء كل شيء؛ فكل حقيقة كبرت أو صغرت لا بد أن يفهمها الجهلاء فهمًا يخالف ما يفهمه منها العارفون وذَوُو البصر والدراية.

ولا يجوز لهم أن ينكروه لأن العصور المتعاقبة تتدرج في فهمه والنفاذ إلى سره؛ فهكذا ينبغي أن تتدرج العصور في النفاذ إلى سر الدين الذي تدين به أجيال بعد أجيال، وهكذا يكون الخطاب في الأديان؛ لأنها لا تدين النفوس إذا توجه بها الخطاب اليوم ليلغى بعد يوم من الأيام.

فإذا وجد الدين الصالح فلن يكون في وسع العقل أن يتصوره في غير هذه الصورة من التعبيرات الرمزية، ومن اختلاف العلماء والجهلاء في فهمه، ومن تفاوت الاستعداد له على حسب الاستعداد بين الأجيال والأمم. وإنه لعقل بديع ذلك العقل الذي يُنكر الشيء ثم لا يستطيع أن يتصوره حقًّا إلا على الصورة التي أنكرها!

ونحن لم نكتب فصول هذا الكتاب لنبشر بالإسلام هؤلاء الماديين المتعطشين إلى إنكار كل معنًى شريف من معاني الحياة البشرية، ولكننا كتبناه للمتدين المنصف الذي يستطيع أن ينظر إلى دينه وإلى هذا الدين نظرة واحدة، وكتبناه أولًا وآخرًا للمسلم الذي يتلقى حملات خصوم الإسلام من المتدينين وغير المتدينين، ليعلم أنه خليق أن يطمئن إلى حقائق دينه في هذا العصر سواء نظر إليها بعين العقل أو بعين الإيمان، وأنه خليق أن يواجه الغد بما يؤمن به من عقائد دينه ومعاملاته وحقوقه وآدابه وأخلاقه، فلا يعوقه عائق منها أن يُجاريَ الزمن في المستقبل إلى أبعد مجراه.

وإذا وفى المسلم بأمانة الشكر وعرفان الجميل، فلا ينسى أنه مدين لهذا الدين الحنيف بوجوده الروحي ووجوده المادي في حاضره الذي وصل إليه بعد عهود شتى من عهود المحنة والبلاء، ولولا قوة بالغة يعتصم بها المسلم من هذه العروة الوثقى لَضاع بوجوده الروحي ووجوده المادي في غمارٍ يمحوه ولا يُبقي له على معالم بقاء … ومن حق هذا الدين عليه أن يسلمه إلى الأعقاب قوة يعتصم بها العالم في مستقبله بين زعازع المحن التي ابتُليت بها الإنسانية في هذا الزمن العصيب … لعله من نصيب هذا الميراث في غده القريب أن يكون مصداقًا لنبوءة الإسلام بحكمته جل وعلا في خلق عباده شعوبًا وقبائل متفرقين، ولعل هذا الدين القويم الذي دعا أول دعوة إلى رب العالمين أن يكون دين الشعوب والأمم متعارفين متسالمين مسلمين، ولا تكونن أمانة الدين يومئذٍ سياسة حسنة نخدم بها — نحن المسلمين — حاضرنا ومصيرنا، بل هو الإيمان بإرادة الله كما تتجلى لخلقه يؤديها كل من عرفها بمقدار ما عرف منها، وسيذكرها كل من ينجو بها من أمم العالم؛ فيذكر الرسالة الإلهية التي تُفتتح باسم الله الرحمن الرحيم وتُختتم بحمد الله رب العالمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤