مقدمة

تَزخَر الأخبار والسياسة والحياة بالأرقام. إنها — شئنا أم أبَينا — اللغة الشائعة لعالم اليوم، ومن يتحدَّثْها تكُن له السيادة. فهي سريعة وعصرية، وكثيرًا ما تبدو لها الغلَبة على الحقيقة.

وللأسباب نفسِها، نجد أنها أيضًا مكروهة. فقد تُربِك العقول بدلًا من إنارتها، وتُرعب النفوس بدلًا من إرشادها، وكثيرًا ما يُساء استخدامها وتصبح محلًّا للرِّيبة في نهاية المطاف.

وللأرقام دورٌ شديد الوقع، دائم التحول، يلفُّه غموضٌ مُخيف. كيف نتلمَّس طريقنا خلالها إذن؟

أولًا: استرخِ …

•••

جميعنا نَعلَم أكثرَ مما نظنُّ أننا نَعلَمه. وصدِّق أو لا تُصدِّق؛ تَجارِبنا الشخصية هيَّأتْنا لفهم الأرقام تهيئةً بديعة. هذا هو المبدأ الأساسي الذي ينبني عليه هذا الكتاب؛ ليس على القُرَّاء أن يرتعدوا خوفًا ولا أن يمتعضوا في ازدراء، فقط إذا أدرَكوا قدْرَ ما يَعلمونه بالفعل.

الأرقام تُفهِمنا العالم، ولولاها لَبدا لنا اتِّساعه وتعقيده عَصيَّين على إدراكنا. لا شك أن لها حدودَها، لكن لا مثيل لنفعها في بعض الأحيان، وفي بعض المهام. هذا إن استُخدمت على النحو الصحيح.

ورغم المخزون الوفير من الخداع والفضائح الذي ستحمله السطور التالية، فليس الغرض أن نقدح في الأرقام في حد ذاتها. تحمل الإحصائيات أكاذيبَ عادية، وأكاذيبَ لَعينة، هذا مؤكَّد، لكن احتقار الأرقام ليس الحل. لأن ذلك يستتبعه التخلِّي عن كل ما تُحاجج به في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، ويطعن في كلِّ سببٍ يدفعك إلى الحب أو الكُره.

هدفنا ها هنا أن نُعيد الأرقام إلى أرض الواقع، ولن نقتصر في سبيل ذلك على كشف الخدع المستخدَمة في المجال العام — كالعدِّ المُتكرِّر، والرسوم البيانية المُخادِعة، وتواريخ البداية المُغرِضة، والمقاييس المُضحِكة — فقد كشَفَت تقارير سابقة عن هذا النوع من الخداع، على الرغم من أن هناك ما سيَبهَر القارئَ في الحكايات القادمة؛ ولا على الاعتماد على الأساليب الإحصائية الغريبة، رغم أنها كثيرًا ما تكون رائعة. ولكننا بدلًا من ذلك سنَعرِض كلَّما أمكن صورًا من الحياة — منها الشخصي، والمستمَدُّ من الخبرات والمحفِّز للخيال — لنخوضَ في جوهر الأمور المهمة مباشرةً. كل شيء بين يدَينا بالفعل، لدينا جميعًا بالفعل قدرٌ كبير من الإلمام الأساسي بالمبادئ التي تحكم كيفيةَ عمل الأرقام. ونرى أن هذا الإلمام يمكن أن يُشارِك بقدرٍ منه حتى من كانت الرياضيات بالنسبة إليهم لغزًا مُستغلقًا.

لكن البساطة لا تعني التفاهة؛ فالأرقام البسيطة تُساعد في الإجابة عن الأسئلة المُلحَّة. هل نعلم قدْرَ الدَّخل الذي يَجنيه الناس والدُّيون المستحَقَّة عليهم؟ من هو الغنيُّ ومن هو الفقير؟ هل تُساوي تلك النفقات التي تعهَّدَت بها الحكومة شيئًا في حقيقة الأمر؟ من سيعيش ومن سيموت بِناءً على أهداف الحكومة؟ وهل جداول الدوري صادقة؟ هل تُنقِذ كاميرات مراقبة السرعة حياةَ الناس؟ ماذا عن ذلك المسح الذي يرصُد جرائم المُراهِقين، الواحد من الأربعة أشخاص الذين يفعلون هذا الشيء، أو زيادة الخطر على النساء اللاتي يَفعلنَ ذاك بنسبة ٦ في المائة، والتضخُّم، وقتلى حرب العراق، وحالات الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسَبة «الإيدز»، والمقارنة بين بلد وآخَر، وتراجُع مخزون الثروة السمكية، وخطر الإصابة بالسرطان، وقنبلة معاشات التقاعد الموقوتة، وميزانية خدمة الصحَّة الوطنية، والهَدر، وأوقات الانتظار، وديون العالم الثالث، وديون المملكة المتحدة، وتوقُّعات الاحترار العالمي؟ يندُر أن يجد المرءُ هذه الأيام موضوعًا ليس فيه قياسات، وكميات، وتنبؤات، وتصنيفات، وإحصاءات، وأهداف … أرقام على كلِّ شكل؛ وهي في كل مكان، وكثيرًا ما يُطعَن فيها. فإذا كنا جادِّين حِيالها، ولو بأقلِّ قدرٍ ممكن، فعلينا أن نفهمها جيدًا.

وهذا يعني الاستعانة بنُقَّاد مُتغطرِسين. ولذا يستسهل الكثير من الناس عدم الثقة في أي أرقام، ويميلون إلى التقليل من شأنها بدلًا من محاولة فَهمها. عندما أخبرَنا أحدُ الكُتاب البارزين أنه قد اكتفى بما سمِع من أرقام وشكرَنا عليها — والحقيقة أنه لم يفهمها ولم يرَ سببًا يدعوه إلى محاولة فهمها — بدا لنا أن اعتراضه ليس إلا قِناعًا يستر خوفه. تمسَّك بأفكاره المسبقة أو بما كان لديه بالفعل من إحصائياتٍ موثقةٍ مبعثرة، فما كان منه إلا أن ضرب بالأدلة عُرْض الحائط؛ خشيةَ أن يتبين منها ما يُعكر صفوه. وهذا التصرف يدفع ثمنَه الجميعُ عندما يُسفِر عن سياساتٍ خاطئة، وحكوماتٍ سيئة، وأخبارٍ مُبهَمة؛ وبذلك تُهدَر الفُرَص، وتفسُد حياة الناس.

ويجدُر بنا مواجهة تحدٍّ آخر، وهو القول بأنه إذا لم تُوضِّح الأرقام الحقيقة الكاملة توضيحًا مُباشرًا، فإنها جميعًا لا تَعْدو كونها آراءً. وهذا القول يغرس في الأذهان توقُّعاتٍ غيرَ معقولة عنها. من الأشياء القليلة التي يُمكِننا قولها مُتيقِّنين منها أن بعض الأرقام الواردة في هذا الكتاب خاطئة. أما من يبحثون عن اليقين فرُبَّما كان عليهم تركُ الحياة الواقعية وراء ظهورهم. فالجميع يَخْطون بتؤدة في استكشافهم لعالم الأرقام، وما من رقم يُنير مدارك مَن يعلمه على الفور؛ فالحياة ليست هكذا، ولا الأرقام.

يلوم آخرون المُحاسِبين المُنكبِّين على الإحصاءات على نوع من الاختزال الصارخ، ويعتقدون أنهم يفوقون غيرهم علمًا بحِدَّة أذهانهم وحسَّاسيَّتهم. وتكون لرأيهم هذا بعضُ الوجاهة في بعض الأحيان، غير أن الرأيَ المُعاكِس يتفوق في أحيانٍ أخرى مُكافئة. إن معظم الإحصائيِّين يُدرِكون حدود أي محاولة إنسانية لتلخيص الحياة في صورة بيانات — فقد حاوَلوا ذلك بأنفسهم، على أي حال. فالإحصاء أبعدُ ما يكون عن التجميع الجافِّ للحقائق، وإنما هو علم محاولة فَهم الحقائق قدْرَ الإمكان. ولا يفوقه أيُّ علم آخر في الأهمية، وأغلبُ المُتخصِّصين فيه مُستكشِفون ذَوو عبقرية فذَّة. لكن الآخرين الذين يتلقَّفون الأرقام على غير هدًى، مُتأثِّرين بغطرستهم أو بثِقتهم الزائدة، هم من تخصم سذاجتُهم من وعيِهم.

علينا إذن أن نمتنع عن النقيضين؛ الارتياب والخوف من جانب، وتقديس الأرقام من الجانب الآخر، ولْنَشرع في فعل ما نستطيع. وما نستطيع فِعلَه كثير.

معظم ما سيرِدُ بين دفَّتَي هذا الكتاب يستخدمه الجميع ويفهمونه بالفعل في جانب من جوانب حياتهم؛ فجميعنا نُطبِّق المبادئ، ونفهم الأفكار بالفعل. فعلى سبيل المثال، كلنا نُدرِك أنه من الحُمق أن يرى المرء موجةً كبيرة فيحسبها مدًّا مُرتفعًا للبحر، ولما كنا نُدرِك ذلك — وقد يُفاجئنا أننا نُدركه — يُمكِننا أن نُحلِّل الآراء القائلة بأن كاميرات مُراقبة السرعة تُنقِذ حياة الناس أو تُقلِّل الحوادث. لا شك أننا في حياتنا الواقعية نرى كيف تتبعثر حبَّات الأرز، ونظرًا إلى أننا نرى ذلك بأنفُسنا، يُمكِننا أن نفهم الأرقام المُتعلقة بالبؤر السرطانية. نرى الحيوية في ألوانِ قوس قزح، ونعلم ما سيفوتنا إن مزَجْناها معًا ليتحوَّل قوس قزح إلى شريطٍ أبيض رتيب يخطُّ السماء. معرفتنا بذلك تُمكِّننا، كما سنرى، من إدراك ما يُخفيه المُتوسط الحسابي فضلًا عما يكشف عنه — على سبيل المثال، مُتوسطُ الدخل. يعلم الكثيرون من تَجارِبهم السابقة تكلفةَ رعاية الطفل؛ لذا يُمكِنهم إدراكُ ما إذا كان الإنفاق الحكومي على رعاية الأطفال كثيرًا أو قليلًا. كل شخص منا أوضح وأفضل مِقياس للحكم على السياسات التي تستهدفنا. نحن نعرف هذه الأشياء. وكلٌّ منا يُمكِن أن يكون مِقياسًا لكيفية عمل الأرقام. غاية القصد أن نربط بين ما قد يعلمه أي شخص بما قد يبدو الآن غامضًا، وأن نربط بين الأرقام وبين صور الحياة وتجارِبها، وعندئذٍ سيُصبح ما كان يبدو في السابق محيِّرًا ومَهيبًا — إذا فعلنا المطلوب منا — واضحًا جليًّا.

ما سيرِدُ في هذا الكتاب لن يردَ في أي مقرَّر دراسي، وحتى اختيار الموضوعات وترتيبها سيبدُوان للمُتخصِّصين غريبَين، فضلًا عن طريقة تقديمها. وهذا جيِّد. فهذا كتابٌ ينظُر إلى الأمور من وجهة نظر مُستهلِك الأرقام. وهو قصير ومُباشر. يبدأ كلُّ فصل فيه بما نراه لُبَّ الموضوع؛ مبدأٌ ما أو صورةٌ حيَّة. انفضْ عن ذهنك أيَّ توتُّر أو غموض، واغرس فيه تلك الأفكار بدلًا منهما، وأبقِ كلَّ فكرة في ذهنك أثناء قراءتك، واكتشِف كيف ستنطبق عمليًّا على القصص التي سنرويها. ونأمُل أن نُنير بذلك طريق الوضوح والثقة.

ارتباط القوة بالإيذاء والانتهاك لا يقتصر على عالم الأرقام، لكن هذا الارتباط من الممكن أن ينفصم، ومن الممكن أن يُصبح الضعفاء أقوياء. إليك الطريقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤