الفصل الثاني عشر

الارتباط: فكِّر مرَّتَين

هذا يُسبِّب ذاك. اضغط على جهاز التحكم عن بُعد وستتغيَّر القناة. اغرس البَذرة تُنبت. إذا طلعت الشمس يُصبح الجو أدفأ. الجنس يؤدِّي إلى الحمل والإنجاب.

يتمتَّع البشر (والحيوانات أحيانًا) بقدرةٍ مُذهِلة على إدراك تسبُّب شيءٍ ما في شيءٍ آخر، وهذا يستوجب منَّا شكر الله؛ إذ إنه من الأمور الحيوية للبقاء.

لكن هذا الإدراك كثيرًا ما يُخطئ تمامًا. فمن كثرة تطبيق البشر لهذه العلاقة، ينشأ لديهم ميلٌ دائم لرؤيتها في كل مكان، حتى إذا لم تكُن موجودة. فقد نرى كيف يتزامن شيئان، فنقفز إلى استنتاج أن أحدهما يُسبِّب الآخر، وخاصةً عندما يبدو أن هناك اتِّساقًا بين الأرقام والقياسات.

وتلك هي المغالطة الأقدم على الإطلاق، التي تقول إن الارتباط يُثبِت السببية، بل هي المغالطة الأشدُّ عنادًا أيضًا. لاحَظ الباحثون النابهون مؤخرًا أن أصحاب الوزن الزائد يعيشون مدةً أطوَل من النحيفين؛ ولهذا استنتجوا أن الوزن الزائد يُطيل العمر. فهل هذا صحيح؟ سنرى بأنفُسنا.

كيف نُدرِّب الغريزة التي تُفيدنا في أغلب الأحيان على التعامل مع المواقف التي لا تُفيدنا فيها؟ ليس بأن نَكْبحها — فهي عبقرية في عملها — ولكن بعدم السماح بتوقُّفها. لا تطمئنَّ إلى أول ما يتبادر إلى ذهنك؛ أي التفسير الأسهل أو الذي يجول بالذهن أكثرَ من غيره. لا تفعل مثل كلب بافلوف وتنسب الفضلَ في جلب الطعام إلى الجرس الذي تَقرعه، بل دع لُعابك يَسِل في فمك، وتريَّث قليلًا. اترك غريزةَ استكشاف العلاقة السببية نشِطة في بحثها عن التفسيرات، وعندئذٍ ستعود عليك بالنفع.

•••

الموسيقى الصاخبة تُسبب حَب الشباب. وإلا كيف يمكن تفسير الكارثة الجِلدية التي تبدو على كلِّ من يضع في أُذنَيه سماعةً يمكن سماع الصوت الصادر منها على بُعد خمسين خطوة؟

هذه نكتةٌ سخيفة. فهناك العديد من الأسباب المُمكنة لظهور حَب الشباب، حتى لدى مُحبي موسيقى الميتال الصاخبة، والأسباب الأرجح هي هرمونات المراهقة والنظام الغذائي. الارتباط — أي العلاقة الظاهرية بين شيئين مُنفصلَين — لا يُثبِت العَلاقة السببية؛ فالتصادف الظاهريُّ بين شيئَين لا يعني بالضرورة أن أحدهما يُسبب الآخر. من المفترَض ألا يكون ذِكر ذلك ضروريًّا، لكن ذِكره ضروري بالفعل، كلَّ ساعة في اليوم.

إذا فهِمتَ الارتباط على سبيل الخطأ باعتباره علاقةً سببية، تكون قد تجاهلتَ إحدى القواعد الأساسية في علم الإحصاء. عندما نكتشف مغالطةً منطقية من هذا النوع كامنة وراء ادِّعاءٍ ما، يَصعُب علينا تصديقُ أن أحدًا ما قد انخدعَ بها. ثم يأتي اليوم التالي فننخدع بمغالطة من نفس النوع بالضبط ونقول إن ما ندَّعيه تؤيِّده أدلةٌ دامغة. سهولة الوقوع في خطأ التفكير بهذه الطريقة مُذهِلة. مِرارًا وتَكرارًا يقيس شخصٌ ما تغييرًا طرأ على العنصر (أ)، ويُلاحظ تغييرًا آخر طرأ على العنصر (ب)، فيُعلِن أن أحد التغييرَين يُسبب الآخر.

قيِّم منطق هذا الادِّعاء: ترتفع درجة الحرارة، ويتآكل خطُّ ساحل نورفولك؛ إذَن فالاحترار العالميُّ يُسبب تآكل خط ساحل نورفولك.

أو منطق هذا الادِّعاء: ترتفع درجة الحرارة، وأحد أنواع الضفادع آخذٌ في الانقراض؛ إذَن فالاحترار العالمي يقتل الضفادع.

وماذا عن هذا الثالث: ترتفع درجة الحرارة، ويزداد عدد حالات الملاريا في الأراضي المُرتفعة في شرق أفريقيا؛ إذَن فالاحترار العالميُّ يُسبب زيادة حالات الملاريا في الأراضي المُرتفعة في شرق أفريقيا. وهو المطلوب إثباته.

هل أقنعَتك هذه القصص الصحفية الواردة في المحطات والصحف المرموقة؟ ينبغي ألَّا تقتنع؛ فكلُّها أخطاء ناتجةٌ عن الخلط بين السببية والارتباط، وقد صعَّبت معقوليتُها (على الأقل بالنسبة إلى البعض) كشفَها. والمعقولية كثيرًا ما تكون جزءًا من المشكلة؛ فهي تُشجِّعنا على تخطِّي مرحلة الإثبات الأكيد، وتسمح لغريزة العلاقة السببية بأن تستقرَّ أسرعَ من اللازم، فنُخاطب أنفُسنا قائلين: «هذا يبدو معقولًا؛ فلا بد أنه صحيح.» هل هذا صحيح؟ لا، هذا خطأ.

في كلِّ هذه الحالات، لاحَظ الناشطون في حملات حماية البيئة أنه عند تغيُّر قياسٍ واحد هو مُتوسط درجة الحرارة العالمية، يتغير قياسٌ آخر، مِثل: موضع خط الساحل، أو عدد الضفادع، أو عدد حالات الملاريا. فقد جمَعوا بين هذه الحقائق واستنتجوا على وجه اليقين أنهم توصَّلوا إلى الاستنتاجات الصحيحة من الأسباب المؤدية إليها، وتوصَّلوا إلى ما أسمَوه هم أدلةً أكيدة ونُفضِّل نحن أن نُسمِّيَه حالاتٍ كلاسيكيةً من العبث بالمنطق الجدير بالتشكيك الشديد، إن لم يكُن بالسخرية. كل هذه الادعاءات دُحِضت بالبحث الصارم الجدير بالتصديق، كما سنرى.

ويَجدُر الذِّكر ها هنا أن هذا الفصل لا يُقصَد به إنكارُ تغيُّر المناخ. فعلينا الحذر من الوقوع في مغالطةٍ أخرى، وهي القائلة بأنه نظرًا إلى أن الناشطين يخرجون أحيانًا بادِّعاءاتٍ زائفة عن التأثيرات، فلا وجود لأي تأثيرات. فهذا أيضًا ليس صحيحًا. وجدير بالذِّكر أن بعض مُنتقِدي الاحترار العالمي يرتكبون أبشعَ أشكال السفسطة العددية. الشاهد أنه حتى في هذه الحالات التي يقتنع بها الناس بشدة — وربما أكثر من غيرها — فإنهم ينجرفون إلى الإدراك الخاطئ.

إذَن فما سنَعرِضه هنا هو دليلٌ إرشادي يُوضِّح نوعًا من أنواع الخطأ في التفكير، وهو خطأٌ مُتكرِّر في الحالات الصعبة، تُعطيه الأرقام دفعةً قوية. إذا قُلنا إن ضفدعًا نادرًا آخذٌ في الانقراض بسبب الاحترار العالمي، يبدو ذلك معقولًا، لكنه يفتقد إلى التفاصيل التي تؤيِّده، وسيكون الادِّعاء أقوى إذا أضَفنا بعض القياسات وقُلنا إن الباحثين يعتقدون أن العَقد الماضيَ الذي سادت فيه درجاتُ حرارةٍ قياسية قد تسبَّب في انخفاضٍ نِسبته ٦٠ في المائة في عدد الضفادع ذات النِّقاط الحمراء التي تتَّخذ من الأشجار مَوئلًا لها.

دَع قناعاتك الشخصية جانبًا إن استطعت، واتبَعنا للتوصُّل إلى القصد؛ لا يُهمُّنا هنا إلا طريقةُ تجنُّب اعتبار الارتباط — على سبيل الخطأ — عَلاقةً سببية. تَعلَّم كيف يُمكنك ذلك، وعندئذٍ ستَتمكَّن — مهما كان الجانب الذي تميل إليه — من الاقتراب مما هو أهمُّ من القناعات؛ الفَهم.

يُعَد هذا الميل إلى الخلط بين السببية والارتباط خطرًا غريبًا؛ فهو (أ) معروف جيدًا وكَثُر التحذير منه، ومع ذلك فإنه (ب) يتكرَّر كثيرًا بلا نهاية، ويُغْري البعضَ أن يقول إن (أ) يُسبِّب (ب). ويتَّسع نِطاق انتشار هذا الخطر إلى ما يتخطَّى نطاق الجدل حول المناخ بكثير، ويَجدُر القول إن اكتشافه أسهل في أمثلةٍ مِثل هذه:
كلما كبر حجم أيدي شخصٍ ما زادت قدرتُه على القراءة؛ لذا علينا أن نُطبق تمريناتِ إطالة للأيدي في المدارس.
في اسكندينافيا، يزداد احتمال رؤية طيور اللَّقْلق على أسطُح المنازل التي تعيش فيها أُسرٌ أكبر. إذَن فطيور اللقلق تُسبِّب إنجاب الأطفال.

•••

ويكون اكتشاف الخلط أصعبَ في هذه الحالة:

الأطفال الذين يتأخَّر ترتيبهم في السن بين إخوتهم يكون أداؤهم في اختبارات المدرسة أضعف. إذَن فترتيب مَولد كل شخص يُحدِّد درجة ذكائه.

•••

أما في الحالتَين التاليتَين، يكون الخلط مَثارًا لجدلٍ شديد:

يُعاني المُصابون بالتصلُّب المُتعدِّد من قُرَح في الدماغ؛ فإذا منعنا القُرَح يُمكِننا منع المرض (أي إن القُرَح تُسبِّب المشكلة).

•••

وهنا:

الفتَيات اللاتي يَرتَدن مدارسَ مخصَّصة للفتَيات فقط يُبلِين بلاءً أفضل من أداء الفتَيات اللاتي يَرتَدن المدارس المختلطة؛ لذا فالمدارس المخصَّصة للفتَيات فقط أفضل لهن.

•••

العامل الذي يبدو أنه هو ما يُحدِّد مدى سهولة الكشف عن أخطاء الخلط بين السببية والارتباط في أغلب الأحيان هو سرعة تبادُر تفسير أفضلَ إلى الذهن؛ فالتفكير في البدائل المعقولة يُبطئ الاستنتاجات ويبثُّ بُذور التشكيك. ومع ذلك فالخيال قد يأخذك إلى حدودٍ بعيدة (على الرغم من أن البحث عن المزيد من البيانات أيضًا يُفيد).

الأسئلة الآتية تُعَد مُحفِّزاتٍ جيدةً للخيال: ماذا أيضًا ينطبق على المجموعة أو المكان أو الأرقام التي تُهمُّنا؟ ما الأشياء الأخرى المشتركة بينها؟ ماذا أيضًا مما نعرف قد يُساعِدنا في تفسير الأنماط التي تظهر لنا؟ وهكذا يُمكِن استخدام غريزة إدراك العلاقة السببية استخدامًا مُفيدًا؛ أي بأن نمدَّها إلى ما يتخطى أول إجابة جاهزة.

من أين يبدأ خيالنا؟ بأكثر الأمثلة التي لدينا فكاهةً. حكاية وجود ارتباط بين حجم أيدي الأطفال والقدرة على القراءة صحيحة، ولكنها صحيحة لأن …

ببساطة لأن قدرتنا على القراءة تتطور مع نموِّنا؛ لأسبابٍ يتعلق معظمُها بنُضج الذكاء والتعليم، ومع تقدُّم العمر يكبر حجم اليدَين. يرتبط كِبرُ حجم اليدَين بتحسُّن القدرة على القراءة، لكن السبب يَكمُن في مكانٍ آخر؛ ومن ثَم لا داعيَ لتمارين إطالة اليد.

ثم يأتي ادِّعاء العلاقة بين طيور اللقلق والرضَّع. وهذه حالةٌ أصعب؛ لأن التفسير الحقيقيَّ تخمينُه أصعب، فبالفعل يوجد عددٌ أكبر من طيور اللقلق على أسطُح المنازل التي بها أُسرٌ أكبر. ولكن أين تكمُن العلاقة السببية حقًّا؟ ربما لأن مَنازل الأُسر الأكبر تكون أكبرَ من غيرها، وتكون مساحةُ سطحها أكبر …

في كلٍّ من الحالتَين يوجد عاملٌ ثالث يَثبُت أنه التفسير الحقيقي، وهذا العامل الثالث هو العمر في الحالة الأولى، وحجم المنزل في الثانية. وهذه طريقةٌ تقليدية يتسلَّل بها إلى الأذهان الخلطُ بين السببية والارتباط. حيث يتغيَّر شيئان في الوقت نفسِه، لكن السبب وراء ذلك يكمُن في شيءٍ ثالث.

والآن بدأنا نفهمُ كيف يَحدُث الأمر، فماذا عن الحالات الأخرى التي أصبح كلٌّ منها خبرًا مُتداولًا؟

المُصابون بالتصلُّب المُتعدد لديهم قُرَح في الدماغ. وكلَّما تطوَّر المرض زادت القُرَح سوءًا. ولكن هل تُسبِّب القُرَح الإعاقةَ المُتزايدة المعروفة عن المرض؟ هذا التفسير معقول — وقد اعتُقدَت صِحته لسنواتٍ عديدة — وعندما اكتُشف عقارٌ يُسمَّى بيتا إنترفيرون وبدا أنه يحدُّ من القُرح، بدأ استخدامه أملًا في أن يُبطئ المرض.

لم تكُن هناك سوى طريقة واحدة للتأكُّد من الفرضية، وهي دراسة حالة المرضى لسنواتٍ عديدة لمعرفة سرعة تطوُّر المرض بالمقارنة بعدد القُرح واستخدام عقار بيتا إنترفيرون. وعندما صدَرَت النتائج عام ٢٠٠٥، كانت باعثةً على الاكتئاب المَرير؛ فالمرضى الذين تناولوا عقار بيتا إنترفيرون تقلُّ لديهم القُرَح بالفعل، لكن حالتهم لا تكون — في المتوسط — أفضلَ ممن لم يتناوَلوا العقار. ويبدو أن تفاقُم الأعراض الأخرى استمرَّ بالوتيرة نفسِها في المجموعتَين. وتبيَّن أن للقُرح أثرًا للتصلب المتعدِّد، وليست سببًا فيه، وقال الباحثون — في تشبيهٍ لاذع — إن عقار بيتا إنترفيرون لم يزِد تأثيرُه على تأثير وضع لاصق على جرح بدون علاجه.

أما ترتيب ميلاد الشخص بين إخوته وعلاقة ذلك بمستوى الذكاء، فهذه أيضًا حالةٌ صعبة. في هذه الحالة أيضًا، نجد أنه كلَّما تأخَّر ترتيبُ ميلاد الشخص بين إخوته، ساءت نتائجه في اختبارات الذكاء؛ فالأبناء الذين هم أول من وُلِد لأبوَيهم يُبْلون بلاءً أفضل بالفعل، ويليهم في ذلك ثاني مَن يُولَدون لأبوَيهم، وهكذا، ولا يحدُث هذا دائمًا، ولكن في أغلب الأحيان، وهناك تفسيرٌ معقول لذلك (احترس!) وهو كما يلي: كُلَّما زاد عددُ الأبناء في الأسرة، قلَّت الرعاية الأبوية التي يتلقَّونها؛ فأول من يُولَدون لأبوَيهم يَحظَون بالكثير من الرعاية، وثاني مَن يُولَدون لأبوَيهم ربما يَحظَون بنصف المِقدار، وهكذا. وهذا تفسيرٌ قابل للتصديق، لكن هل يعني ذلك أنه تفسيرٌ صحيح؟

لنُجرِّب اختبارَ الخيال: ماذا أيضًا يَحدُث مع التأخُّر في ترتيب الميلاد بين الإخوة؟ للابن الثالث أو الرابع مثلًا، أو حتى السادس أو السابع، الواضح تمامًا في هذه الحالة أننا أصبحنا الآن ندرس أسرةً كبيرة. وماذا نعرف عن الأُسَر الكبيرة؟ أحدُ الأشياء التي نعرفها هي أنها تميل لأن تكون من طبقةٍ اجتماعية واقتصادية أدنى. فالأشخاص الأفقر يميلون لإنجاب المزيد من الأطفال، ونعلم أيضًا أن أبناء الأُسَر الأفقر يُبْلون — لأسبابٍ عديدة — بلاءً أسوأ. أي إنك كلما تأخَّر ترتيب ميلادك بين إخوتك، زاد احتمال كون أسرتك أفقرَ من غيرها، ولا يحدُث ذلك دائمًا بالطبع، ولكن هل يصحُّ هذا بمعدَّل يكفي لاعتباره تفسيرًا لما يحدُث في المتوسط؟

ليست الأدلة حاسمةً في هذا الصدد، ولكن الإجابة هي: «على الأرجح»؛ نظرًا إلى أنه بالنظر إلى ترتيب ميلاد الأطفال في الأسرة الواحدة، يتبيَّن أيضًا أن أحدًا لم يتوصَّل إلى نمطٍ لمستوى الأداء متَّسِق اتساقًا لافتًا؛ فآخر من يُولَد للأسرة نفسِها — في حدود معرفتنا — يتساوى احتمال تفوُّقه في اختبارات الذكاء تمامًا مع الأول.

الخلط بين السببية والارتباط في هذه الحالة ناتجٌ عن محاولة تفسير ما يَحدُث في العديد من الأُسر (الأُسر الأغنى والأصغر تُبلي بلاءً أفضل، والأُسر الأكبر والأفقر تُبلي بلاءً أسوأ)، ثم ادِّعاء انطباقه على ترتيب ميلاد الشخص بين إخوته في الأسرة الواحدة. يبدو الأمر معقولًا (مرةً أخرى نُكرِّر هذه الكلمة)، ويبدو أنه اعتقادٌ شائع، لكن أغلب الظن أن الاعتقاد خاطئ.

الادِّعاء التالي: النوع الاجتماعي وعَلاقته بالمستوى الدراسي. صحيحٌ أن الفتَيات اللاتي يَرتَدن مدارسَ مخصَّصة للفتَيات يتفوَّقن دراسيًّا على غيرهن. ولكن هل يُثبِت ذلك العلاقة السببية؛ بمعنى هل يُثبِت أن التعليم في مدارس مخصَّصة لنوعٍ اجتماعي دون الآخر هو ما يُسبِّب النتائج الأفضل في الاختبارات؟ (وسنتغاضى هنا عن التأثير على التعليم الاجتماعي؛ فهو مفهوم له علاقة بالتقاليد لدرجةٍ يتعذر معها القياس.) باختصار، هل عدم وجود الصِّبية هو ما أحدثَ ذلك التأثير؟

من جديد، علينا أن نستخدمَ خيالنا لنسأل عن الأشياء الأخرى التي تنطبق على الفتَيات اللاتي يَرتَدن المدراس المخصَّصة للفتَيات فقط. يجب ألا نكفَّ عن البحث عن العلاقة السببية، وألا نكتفيَ بالارتباط الواضح ونعتبره السبب الذي نبحث عنه. أول ما ينطبق على هؤلاء الفتَيات هو أن آباءهن يكونون على قدرٍ من الثراء؛ فمعظم هذه المدارس ليست مجَّانية. وماذا عرَفنا من المثال السابق عن المستوى الاجتماعي والاقتصادي وعلاقته بالمستوى الدراسي؟ عرَفنا أن العائلات الأكثر ثراءً — لأسبابٍ ما — أطفالهم يُبْلون بلاءً أفضل في الدراسة. ثانيًا: المدراس المخصَّصة لأحد الجنسَين دون الآخر تتَّسم إدارتها بالانتقائية في أغلب الأحيان، وتميل إلى قبول الفتيات الأكثر تفوقًا من البداية. ولذا ليس من المُفاجئ أن المدارس المخصَّصة لأحد الجنسَين دون الآخر يتفوَّق مُستواها عن غيرها؛ فهي تَقبَل فتَياتٍ أكثر تفوقًا ممن تَقبَلهن المدارس الأخرى، وينتمين إلى أُسرٍ أكثر ثراءً. وبهذا نجد أنهن يُفترض أن يتفوَّقن على غيرهن لأسبابٍ عديدة، وكل هذا بدون أن ننظر في تأثير التدريس على يد مُدرِّسات إناث، دون الذكور.

فكِّر في الإحصائي الذي يُطلَب منه أن يُجيب عن هذا السؤال، فيُضطرُّ إلى العثور على طريقة لتحليل نتائج المدارس ليُخلِّصها من تأثير الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للطلاب أو من انتقاء الطلاب حسَب قدراتهم ليتمكَّن من عزل تأثير النوع الاجتماعي وحده. وبقدرِ ما يستطيع القيام بذلك، اجتمعت الآراء الإحصائية على أنه عند تطبيق هذه الاعتبارات يتبيَّن أنْ لا فارق يظهر.

هناك بالفعل أدلة على أن الفتَيات يَمِلن إلى اختيار المواد الدراسية بدرجةٍ أقل قليلًا من التحفُّظ في المدارس المخصَّصة للفتَيات فقط، ومن المؤكَّد تقريبًا أن ذلك سيُناسب بعض الطالبات — وهو ما قد يكون سببًا كافيًا لرغبتك في ضمِّ ابنتك إلى إحدى هذه المدارس — لكن لا يمكن أن نتوقع أن يكفيَ ذلك لضمان تحقيق الطالبات لنتيجةٍ أفضل في الاختبارات بوجهٍ عام مما كنَّ سيُحقِّقنها في مدرسةٍ مختلطة تَقبَل طلابًا على نفس المستوى من القدرات.

والآن، إذا لم تكُن حساسية هذه الموضوعات قد ولَّدت قدرًا من النُّفور صرَف عنا القُراء، فرُبَّما يُمكنُنا الالتفاتُ إلى واحد من أكثر الموضوعات حساسيةً على الإطلاق؛ تغيُّر المناخ.

أولًا: الملاريا في شرق أفريقيا. لقد كان معروفًا منذ وقتٍ طويل أن درجات الحرارة المنخفِضة في المناطق المُرتفعة تحدُّ من انتشار الملاريا. فهي تُثبِّط نموَّ الطُّفَيل في البعوض. وقد كانت جمعية «تير فاند» واحدةً من الجمعيات الخيرية العديدة التي توصَّلَت إلى أدلة على زيادة انتشار الملاريا في المناطق المُرتفعة في شرق أفريقيا، وعزَتها إلى تغيُّر المناخ.

سرَت بعضُ الأقاصيص، منها — على سبيل المثال — قصةُ رجل من الأراضي المُرتفعة فقدَ أرضَه وأصبح يعيش في فقر بسبب تعرُّضه للَّدغ وإصابته بالملاريا وعجزه عن مواصلة العمل في الأرض، فخسِر الأرضَ واضطُرَّ إلى العمل لردِّ ديونه.

لكن عندما درَس الباحثون السجلَّات عن كثَب، لم يجدوا ما يؤيِّد حدوث ذلك. كان منهم الدكتور ديفيد هاي، وهو عالمُ حيوان من جامعة أوكسفورد، الذي قال عن سِجلَّات هذه المنطقة والفرق بينها وبين المتوسطات العالمية: «المناخ لم يتغيَّر؛ لذا لا يمكن تحميله مسئوليةَ التغيرات التي تطرأ على الملاريا.» وقال زميله ديفيد روجرز، أستاذ علم البيئة، إن بعض المجموعات استجابت لما حدَث بأن أقرَّت بأنه لم يحدُث أيُّ تغيير في حالة المناخ في المتوسط، لكنها دفعَت بوجود تغيير في مدى التبايُن الذي يتَّسم به المناخ. وهذه أُطروحةٌ ذكيَّة، في ضوء عِلمنا أن المتوسطات يمكن أن تُخفيَ الكثير من التباين. فتواصلَت الدراسة، ولم يتمَّ التوصل إلى تغييرٍ جذري في مدى التباين أيضًا. واستنتج الباحثون أن زيادة مقاومة العقاقير تفسير أرجح لهذه الزيادة الملحوظة في عدد إصابات الملاريا. وفي هذه الحالة، لم يكُن هناك حتى ارتباط على المستوى المحلِّي، بل افتُرض وجود صلة بين ما يحدُث للمناخ عالميًّا، وبين انتشار المرض محليًّا.

كتبت عالمة الأنثروبولوجيا ماري دوجلاس أن الناس اعتادوا إلقاءَ اللائمة على الكوارث الطبيعية في الأشياء التي لا تُعجِبهم. لكن الربط الذهني بين شيئَين يعتبر كلٌّ منهما «سيئًا» لا يعني أن أحدهما يُسبِّب الآخر.

كانت الضحية الأولى المزعومة لتغيُّر المناخ هي الضفدع الذهبي الجنوب أمريكي. قال أحد النشطاء: «من المحتمل أن الضِّفدع الذهبي لم يَعُد له مكانٌ يعيش فيه الآن سِوى الذاكرة.»

ويُقرُّ جيه ألين باوندز، الذي يعمل في مُختبَر المحافظة على الضفدع الذهبي في كوستا ريكا، بأن الضفادع تأثَّرَت بمرضٍ فطري يُسمى «كايتريديومايكوسيز»، لكنه يقول: «هذا المرض هو الرَّصاصة، وتغيُّر المناخ هو البندقية.»

والحقيقة أن الفِطْر لا يحتاج إلى درجاتِ حرارة مُرتفعة، وأنه يقتل الضفادع في نطاق من درجات الحرارة يتراوح بين ٤ درجات و٢٣ درجةً مئوية. لكن ألان باوندز لم يقتنع بذلك؛ فهو يقول: «ما كنَّا لنضعَ هذه الافتراضية لو لم يكُن هناك نمطٌ واضح إلى هذا الحد.» ويعتقد معظم العلماء أن تغيُّر المناخ سيَقضي على معظم الأنواع. ولا يتَّضح في هذه الحالة ما إذا كان تغيُّر المناخ قد فعل ذلك بالفعل.

•••

من المرجَّح أن يُسفِر تغيُّر المناخ عن ارتفاع مَناسيب البِحار. وارتفاع مستوى سطح البحر قد يُسبب تآكل السواحل. وهناك ميلٌ إلى مراقبة تآكُل السواحل ولوم تغيُّر المناخ عليه، كما يحدُث في الكثير من التقارير الإخبارية التلفزيونية، التي لا تخلو أيضًا من مقاطع دِرامية لمنازل تتأرجح على حوافِّ الجروف.

يتميَّز المُشاركون في حملة «أصدقاء الأرض» بدرجةٍ أكبر من الحرص. فرغم قلقهم البالغ على التأثيرات المستقبلية لتغيُّر المناخ على تآكُل السواحل، تقول إن التآكل يحدُث بمعدل متر تقريبًا في العام منذ ٤٠٠ عام في أجزاء من شرق أنجليا: «هذا التآكل الذي حدث على مرِّ القرون هو نتيجة لعملياتٍ طبيعية، منها ارتفاع منسوب مياه البحر بسبب تحرُّكات الأرض. ومع ذلك، يبدو أن معدل التآكل قد ازداد في السنوات الأخيرة في بعض النقاط على امتداد الساحل. والأسباب لم تُفهَم بالقدر الكافي، لكن بالإضافة إلى العمليات الطبيعية والارتفاع في منسوب البحر، يُعتقد أن المصدَّات الساحلية الصُّلبة لها دورٌ في ذلك. فمن المفارقة أن مُحاولاتنا للاحتماء من ارتفاع منسوب البحر ربما تؤدِّي في الحقيقة إلى تفاقُم مشكلة تآكُل السواحل.» وعندما تتوخى مجموعة «أصدقاء الأرض» الحذر، فالأحرى أن يُفكر الصحفيُّون أيضًا مرَّتَين.

ويُعَد فضُّ الاشتباك بين السببية والارتباط في تغيُّر المناخ مهمةً بالغةَ الصعوبة، وعلى الرغم من أن تغير المناخ قد يُسبب تفاقمًا شديدًا في تآكُل السواحل في المستقبل، يصعُب ادِّعاء إحداثه فارقًا في هذا الصدد حتى الآن، «على الرغم من أن البعض يزعمون أن العواصف الساحلية قد اشتدَّت بسبب تغيُّر المناخ وأنها تسبَّبت في تآكل السواحل». لكن الحقيقة أن وتيرةَ ارتفاع منسوب البحار كانت أسرعَ في النصف الأول من القرن العشرين منها في النصف الثاني.

عندما يُوافق دليلٌ بسيط هَوانا، نميل إلى تصديقه. وحتى بالنسبة إلى غير المُهتمِّين، يبدو هذا النوع من الاستنتاجات جذَّابًا؛ وذلك بسبب الكسل. فهو لا يتطلب الكثيرَ من التفكير، حيث تُوفر إدانة أقرب الأسباب المشتبَه فيها الوقت، والأحرى حينئذٍ أن تتَّجه الرِّيبة إلى مصدر الشر المعروف سلفًا. وحتى إذا بُذِلت العناية الفكرية الواجبة، تحدُث الأخطاء، كما حدث في حالة عقار بيتا إنترفيرون ومرض التصلُّب المُتعدد. وخلال التجارِب الطبية على العقاقير الجديدة، كان من المُعتاد أن يُسجَّل كلُّ ما يحدُث لأي مريض يتناول عَقارًا تجريبيًّا والقول بأن العقار قد سبَّب للمريض «أعراضًا جانبية»، هكذا كانت تُسمى؛ فعندما كان يُلاحَظ أن شخصًا ما أصابه صداع أو رشحٌ كانت هذه «الأعراض الجانبية» تُطبَع على جانب عُبوة الدواء إلى الأبد. أما هذه الأيام، فقد تحوَّل المسمَّى إلى «الأحداث الضارَّة»؛ لتوضيح أن هذه «الأحداث» ربما لم يكُن لها علاقة بالدواء.

يُعَد عدم الاطمئنان إلى سببٍ ما باعتباره السببَ الحقيقي عادةً بنَّاءة وضمانةً تَقي من الانخداع. ورغم أن الارتباط لا يُثبِت العلاقة السببية، فإنه كثيرًا ما يكون إشارةً مُفيدة تدفع إلى البدء في طرح الأسئلة، لا إلى الاكتفاء بالإجابات السهلة.

غير أنَّ هناك أمرًا ينبغي الانتباه إليه؛ فقد يُصادفك هنا أو هناك ميلٌ إلى إهمال كلِّ النتائج الإحصائية باعتبارها خلطًا بين الارتباط والسببية، فكأنَّ هناك هِراوةً تخيُّلية — حسَب وصف أحد النُّقاد — تمنعُك من تصديق أي أدلة. لكن علينا أن نميز بين الربط السببيَّ الذي يحدُث كثيرًا لأسبابٍ سياسية، وبين الدراسات الإحصائية المُتماسكة. ففي هذه الأخيرة، يتمُّ التوصل إلى النتائج بمحاولة استبعاد كل الأسباب المُمكِنة الأخرى بالسيطرة على أيِّ اختبار أو تجرِبة أو عيِّنة بإحكام؛ وبمحاولة منع أيِّ تحيُّز قدرَ المُستطاع، والحرص على أن تكون العيِّنات عشوائية بقدر الإمكان. فليست الاستجابة الصحيحة أن نُهمل أيَّ علاقةٍ إحصائية، بل أن نميز بين ما كان منها نتيجة لتفكيرٍ عميق، وبين ما لم يكُن محسوبًا.

وختامًا، ماذا عن الارتباط المذكور في أول هذا الفصل بين الوزن الزائد وطول العمر؟ صحيحٌ أن البيانات المأخوذة من الولايات المتحدة الأمريكية تُظهر أن أصحاب الوزن الزائد يعيشون مدةً أطوَل قليلًا من النحيفين. ولكن ما هو العامل الثالث الذي يدحض الرابط السببيَّ بين اكتساب الوزن الزائد وبين زيادة سنوات العمر؟ المرض من الاحتمالات المُمكِنة. فعندما يمرض الناس بشدة، كثيرًا ما يُصبحون شديدي النحافة. وليست النحافة ما يُسبِّب لهم الموت في هذه الحالة، لكن موتهم الوشيك هو ما يُسبِّب نحافتهم. فإذا أخذنا مصيرهم المنتظَر في الاعتبار تتغير نتائج الدراسة.

وهذا الجدل لا يزال بعيدًا عن الحسم. أهو نزاعٌ فنِّي؟ نعم، لكن الأهم من ذلك أنه نزاعٌ خيالي وإنساني. لست بحاجة إلى دورةٍ تدريبية في الإحصاء لتُدرِك أن شديدي المرض كثيرًا ما يفقدون الوزن. يُمكِننا جميعًا أن نرتكب أخطاءً في إدراكنا للعلاقة السببية، ويُمكِننا جميعًا اكتشاف هذه الأخطاء. فقط فكِّر مرَّتَين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤