الفصل الثاني

الحجم: مسألة شخصية

بسِّط الأرقام تتَّضح، ووضِّحها تمنحك سلطةً يعزُّ نظيرها. لذا فلتبدأ أبسطَ بدايةٍ مُمكِنة، ابدأ بسؤال لا تكاد براءته تُصدَّق:

«هل هذا الرقم رقمٌ كبير؟»

لا تصدَّنك عن هذا السؤال سذاجتُه الظاهرة؛ فليس هذا السؤال مَحلًّا للاستخفاف. قد يبدو تافهًا، لكنه يُعبِّر عن أكثر المُشكِلات التي تعتري طريقةَ إنتاج الأرقام واستهلاكها تعرضًا للاستهانة بها، وأكثرها عُمقًا في الوقت ذاته. الأصفار على يمين أي رقم كثيرًا ما يجري التفاخر والتبجُّح بها للإبهار أو الإنذار، لكنها لا تعني شيئًا بمفردها. يخشى الشَّغوفون بالسياسة السؤال عن الحجم على وجه الخصوص؛ ذلك أن جهلهم بالإجابة في أغلب الأحيان هو سرُّهم الذي يحرصون على عدم البوح به. فالإدراك الشديد للنِّسبة والتناسب هو المهارة الأولى — والغريب أنها الأكثر تعرضًا للإهمال — لكل من عنَتْ له مُجرَيات الأمور شيئًا.

من حُسنِ الحظ أن الجميع لديهم الوسيلة المُثلى لإدراك النسبة والتناسب البشري أنفُسهما.

•••

يُناهز دانييل آديرلي السابعة والستِّين من عمره. وهو محظوظ لبقائه حيًّا، وَفقًا لصحيفة «ديلي تيليجراف»: مثَّل عيشُه في دوركينج العامَين السابقين خطرًا عليه يفوق الخطرَ الذي يتعرض له الجنود على الجبهة في أفغانستان.

ولا يعني ذلك أن دوركينج فخٌّ مُميت، لكن الأمر أن مقالة صحفية نُشرت في الصفحة الأولى لصحيفة «ديلي تيليجراف» في نوفمبر ٢٠٠٥ أوردت خُططًا حكومية لرفع سن التقاعد للرجال من ٦٥ إلى ٦٧ عامًا. وذكرت الصحيفة أنه إذا سُنَّ هذا القانون، فإن واحدًا من كل خمسة رجال وصَلوا إلى السن التي كان من المفترَض أن يتقاضَوا فيها المعاش التقاعديَّ حسب سن التقاعد السابقة ستُوافيهم المَنيَّة قبل أن يتقاضَوا بنسًا واحدًا حسَب السِّن الجديدة. مئات الآلاف سيُحرَمون من المعاش التقاعدي بسبب فرق السنتَين.

واحد من كل خمسة. أهذا رقمٌ كبير؟

في عام ١٩٩٧، أعلنت حكومة حزب العمَّال أنها ستُنفِق ٣٠٠ مليون جنيه إسترليني إضافية على امتداد خمس سنوات لإنشاء مليون دارٍ جديدة لرعاية الأطفال.

٣٠٠ مليون جنيه إسترليني. أهذا رقْمٌ كبير؟

وفي عام ٢٠٠٦، تبيَّن أن خدمة الصحة الوطنية على شفا عجز في الميزانية قدرُه زُهاء مليار جنيه إسترليني.

مليار جنيه إسترليني. أهذا رقمٌ كبير؟

الإجابة عن السؤال الأول هي نعم؛ فموت واحد من كل خمسة رجال في سن الخامسة والستين في غضون سنتَين رقمٌ كارثي يبثُّ الرعب في نفوس كل رجل في الخامسة والستين، رقم مُرتفع لدرجةٍ مشينة من المؤكَّد أنها كان من المفترَض أن تحدوَ بأحد العاملين في صحيفة «ديلي تيليجراف» إلى أن يسأل نفسه: هل يمكن أن يكون ذلك صحيحًا؟ ربما إذا انتشر الطاعون من جديد، أما إذا استُبعدت هذه الاحتمالية فلا حاجة إلى الكثير من التفكير لإدراك أن التقرير كان عبثيًّا. يندُر أن يجول هذا التفكير حتى في أكثر العقول الصحفية حِدَّة.

وَفقًا للإحصائيات الوطنية (www.statistics.gov.uk)، يموت نحو ٤ في المائة من الرجال الذين بلَغَت سنُّهم الخامسة والستين في العامَين التاليَين، وليس ٢٠ في المائة. وبالفعل يموت ٢٠ في المائة من المواليد قبل سِن السابعة والستين، وليس بين الخامسة والستين والسابعة والستين. الفَهم الخاطئ لرقمٍ ورَد في جدول — وهذا ما يبدو أن الصحفيين قد وقعوا فيه — هو خطأ يُغتفَر، أما ما يصعُب غفرانه فهو ألا يتساءلوا ما إذا كان الرقم منطقيًّا أم لا، وَفقًا للمشاهدات اليومية. فإذا كان التقرير صحيحًا، يُفترض أن يزداد عدد الرجال الذين يموتون في سِن الخامسة والستين والسادسة والستين عن المعدَّل الطبيعي بمائة ألف رجل. أي أن يتساقطوا صَرْعى في أرجاء ملاعب الجولف. لكن مع أخذ كل الأمور في الاعتبار، نعتقد أن دانييل ربما يحتفل بعيدِ ميلاده الثامن والستين.

الرقم التالي: تخصيص حكومة حزب العمال مبلغ ٣٠٠ مليون جنيه إسترليني لإنشاء دُور رعاية للأطفال. لم يبدُ أن أحدًا من المُهتمِّين بالشأن العام — لا إعلاميين ولا ساسة — ارتاب من كِبَر المبلغ. وكان الوجه الوحيد لطعن المعارضة في هذه السياسة هو مدى الحكمة في إهدار كل هذه الأموال العامة على فكرةٍ مُبتدَعة.

إذن، هل يُعَد تخصيص ٣٠٠ مليون جنيه إسترليني لإنشاء مليون دار رقمًا كبيرًا؟ اقسِمه على عدد الدُّور وسيُعطيك ٣٠٠ جنيه إسترليني لكل دار، ثم اقسِمه على خمسة لتعرف قدرَه في كل سنة، «تذكَّر أن المبلغ مقسَّم على خمس سنوات»، وسيُعطيك ٦٠ جنيهًا إسترلينيًّا في العام. اقسِم الستين جُنيهًا إسترلينيًّا على أسابيع السنة التي عددها ٥٢ أسبوعًا وسيكون الناتج ١٫١٥ جنيه إسترليني في الأسبوع. هل يمكنك أن تجد حضانة لرعاية الأطفال مقابل ١٫١٥ جنيه إسترليني في الأسبوع؟ ربما في بعض المناطق الريفية في الصين.

ناقشت جميع الفئات السياسية والإعلامية في بريطانيا السياسة كما لو كان إيجاد حضانة لرعاية الأطفال بهذا السعر الأسبوعي مُمكِنًا. لكن لا بد أن الحكومة عندما أعلنت عن «إنشاء» المليون دار كانت تعني شيئًا آخَر غير «دفع ثمن» (ولا ندري إن كانت تُمانع في أن يُساء فَهم إعلانها ذاك)، ربما كان ذلك الشيء الذي عنَتْه من قبيل «تخصيص مبلغ صغير لإقناع أشخاص آخَرين بدفع ثمنها». ومع ذلك ضجَّ التناول الإعلامي بأحاديث عن الصفقة. هل يعلم المُنخرطون في النِّقاش العامِّ معنى كلمة «كبير»؟ لا يبدو ذلك، ولا يبدو أنهم حتى يُبالون بجهلهم بمعناها. عندما سألنا رئيسَ أكبر مؤسَّسة إخبارية بريطانية عن سبب إغفال الصحفيِّين للسُّخف في هذا الإعلان، أقرَّ بالسخف في الإعلان، لكنه قال إنه لم يكُن مُتأكدًا من أن هذه مهمَّتهم. أما بالنسبة إلى بقيَّتنا، فيسهُل لدرجةٍ كبيرة أن نتحلى بذكاءٍ أكبر من ذلك. فبادئ ذي بَدء، عندما يستخدم أحدٌ رقمًا في المرة القادمة، لا تفترض أنه قد سأل نفسه حتى السؤال الأبسط. هل يمكن أن يكون سؤالٌ بسيط لهذه الدرجة العبثية مِفتاحًا لفهم الأرقام والسياسات المعتمدة عليها؟ نعم، في أحيان كثيرًا.

أما المثال الثالث الخاص بالعجز في خدمة الرعاية الصحية بقيمة مليار جنيه إسترليني، فقد استجلب إداناتٍ واسعةَ النِّطاق باعتباره دلالة على التأزُّم وسوء الإدارة، وربما اعتُبر بدايةً نهاية آخر هَدْر كبير لأموال دافعي الضرائب بهدف إثبات نجاح نظام الدولة. لكن هل كان رقمًا كبيرًا؟

كان العجز المتوقَّع عند كتابة هذه السطور قد انخفض إلى نحو ٨٠٠ مليون جنيه إسترليني؛ أي إلى نحو ١٪ من ميزانية خدمة الصحة. لكن إذا كان ذلك يعني أن خدمة الصحة الوطنية ليست على ما يُرام، فماذا عن باقي الحكومة؟ مُتوسط الخطأ الذي ترتكبه وزارة الخِزانة عند التنبؤ بعجز ميزانية الحكومة قبل أن يحدث بعام يبلغ ٢ في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي. أي إن خدمة الصحة الوطنية في واحدة من أسوأ حالاتها كان أداؤها بالنسبة إلى المستهدَف في ميزانيتها أفضل مرَّتَ من أداء الحكومة ككلٍّ. معظم الشركات الكبرى تعتبر الاقتراب من تحقيق هدف مالي بفارق أقلَّ ١٪ دقةً إدارية شبيهة بالسحر. ولو علِم القائمون عليها بالتفكير في اتخاذ إجراءات تصحيحية جذرية من أجل مَبلغ صغير إلى هذا الحدِّ لضحِكوا ساخرِين، فهم يعلمون أن أي تحسُّن عن ذلك يتطلب العلم بالغيبيَّات. يبلُغ إنفاق خدمة الصحة الوطنية على الفرد ١٦٠٠ جنيهًا إسترلينيًّا في السنة (في عام ٢٠٠٧)، واحد في المائة منها يساوي ١٦ جنيهًا إسترلينيًّا، وهو أقلُّ من تكلفة زيارة واحدة لممارس عام (حوالَي ١٨ جنيهًا إسترلينيًّا). لا شك أنه كان هناك سوءُ إدارة في خدمة الصحة الوطنية في ٢٠٠٦، ومن ضِمن العجز الإجمالي فيها، كانت هناك تفاوتاتٌ بين صناديق خدمة الصحة الوطنية المختلفة، ولكن بالنظر إلى حجم المنظَّمة المَهول، هل كان العجز يُعَد أزمةً تحكُم على المنظَّمة بأكملها بالهلاك؟ كثيرًا ما يكون أهم سؤال ينبغي طرحه عن أي رقم هو السؤال الأبسط، ولَشدَّ ما ستندهش إن أدركت نُدرة طرحه.

كلما رسم صحفي أو سياسي صورةً للتعاطف والجِدِّية، واستشهد بالأرقام المجرَّدة الأكيدة، وتحدَّث عن الآلاف أو الملايين أو المليارات من هذا الشيء أو ذلك التي ستُنفَق أو تضيع، تُخصَم أو تُفقَد أو تَزيد أو تقلُّ أو تتأثر أو تتحسن أو تُضاف أو تُدَّخر، يجدُر بنا طرح السؤال البريء: «وهل هذا رقمٌ كبير؟»

في هذا الفصل، ستكون الستة رقمًا كبيرًا، ولن يكون التريليون رقمًا كبيرًا، مع أننا لن نلجأ إلى علم الفلَك في الأمثلة، لكننا سنستقيها من التجرِبة البشرية العادية. المِقياس البشري هو ما يُنسى كثيرًا عندما يتجاوز الحجم حدًّا معيَّنًا، ومع ذلك فهو الأداة المُثلى لفهم معنى الأرقام. وليس هناك شيءٌ صعب في ذلك على الإطلاق. لأنه مِقياسٌ موجود لدينا جميعًا.

على سبيل المثال، طلبنا من الناس أن يختاروا من بين إجابات متعدِّدة المبلغَ التقريبيَّ الصحيح الذي أنفقَته الحكومة على الرعاية الصحية في المملكة المتحدة في ذلك العام (٢٠٠٥). وتراوحَت الخيارات بين ٧ ملايين جنيه إسترليني و٧ تريليونات جنيه إسترليني، وتباينَت إجابات الناس بالمِثل. ونظرًا إلى أن الإجابات الخاطئة تعني أن الناس قد قلَّلوا أو أفرطوا في تقدير المبلغ الحقيقي بمُعاملٍ رياضي يتراوح بين ١٠ و١٠ آلاف، فإنه من المُحبِط أن نُدرِك فداحة خطأ الكثيرين منهم في التقدير. وكان الرقم الصحيح في ذلك الوقت نحو ٧٠ مليار (٧٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠) جنيه إسترليني.

يصعُب على بعض الناس إدراكُ قيمة أي عدد ينتهي اسمه بالحروف «… ليون» أو «… ليار»، ويكاد المرء يشعر بانفجار الدوائر الكهربية للعقول من فَرْط الجهد الذي تبذله عند ذِكر أي رقم يزيد عن مَبلغ الراتب السنوي العادي أو الرهن العقاري. لو كانت الميزانية الكلية لخدمة الصحة الوطنية ٧ ملايين جنيه إسترليني، لقاربت سعر منزل كبير في بعض المناطق الخاصة في لندن (أي إنه من الصعب بعض الشيء أن يكفيَ ذلك الرقم لإنشاء مستشفًى جديد)، ولكانت قيمة نصيب الفرد من الإنفاق على الرعاية الصحية ١٢ جنيهًا إسترلينيًّا في العام. فما قدرُ الرعاية الصحية التي يُمكِنك أن تحصل عليها نظير ١٢ جنيهًا إسترلينيًّا في العام؟ أما لو كان إجمالي ميزانية خدمة الرعاية الصحية ٧ تريليونات جنيه إسترليني، لبلَغ أكثر من ستة أمثال حجم الاقتصاد كله، ولتجاوَز نصيب كل فرد من الإنفاق على الرعاية الصحية ١٢٠ ألف جنيه إسترليني. عندما أخبرنا الناسَ أن اختيارهم ٧ ملايين جنيه إسترليني يعني أن يكون نصيبُ الفرد السنوي من الإنفاق على الرعاية الصحية ١٢ جنيهًا إسترلينيًّا، عدَل بعضهم عن اختيارهم الأول، واختاروا بدلًا منه خيارًا أكبر بكثير هو ٧٠ مليون جنيه إسترليني (أي ١٢٠ جنيهًا إسترلينيًّا للفرد). لِكَم زيارةً للمُمارِس العامِّ يمكن يكفي هذا المبلغ؟ ولِكَم عمليةَ زراعة قلب؟ لقد نسِي هؤلاء الناسُ مدى ضِخَمهم. ولْندَع الجوانب الاقتصادية جانبًا، كل ما هو مطلوب في هذه الحالة هو قدرةٌ إدراكية موجودة لدينا جميعًا ليتنا نستخدمها؛ القدرة على إدراك النسبة والتناسب في أنفُسنا.

الملايين والمليارات … إذا بدَت كالشيء نفسه، مجرَّد شيء غامض يظهر في أخبار المساء، فالأغلب أن سبب ذلك الافتقاد لحجمٍ نِسبي يُناسِب مقاييس البشر. لذا فمن الحِيَل المُفيدة أن تتخيَّل هذه الأرقام كثوانٍ. المليون ثانية تُساوي ١١٫٥ يومًا. والمليار ثانية تُساوي ٣٢ عامًا.

إذا كان ٣٠٠ مليون جنيه إسترليني رقمًا صغيرًا للغاية، ونسبة ١ من كل ٥ كبيرةً للغاية، فكيف نعرف ما الصغير وما الكبير؟ (الأول رقم والثانية نسبة، لكنَّ كلَيهما يقيس الكميات.)

أول نقطة ينبغي أن نُوضِّحها هي أن عدد الأصفار على يمين الرقم لا تُفيدنا بشيء، وهذا أمرٌ واضح للغاية للكثيرين، حتى ولو اختار البعض أن يتجاهلوه لأسبابٍ خاصة بهم. الحَصانة من الانبهار بأرقامٍ مِثل مليون ومليار هي شرطٌ أساسي لفَهم الأرقام المستخدَمة في النِّقاش العام. في السياسة والاقتصاد، تسُوق معظم الأرقام على يمينها أصفارًا لسببٍ بسيط هو أن هناك عددًا غفيرًا من الناس وكَمِّياتٍ مَهولةً من الأموال في اقتصاد بلد كامل مِثل المملكة المتحدة يُنتج أكثرَ من ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني في العام، ويبلُغ عدد سكانه ٦٠٠٠٠٠٠٠ نسمة. تزداد الأصفار بازدياد الرقعة. ينبغي أن يستقرَّ في ذهننا في كل الأحوال أنه ما من رقم أيًّا كان وبصرف النظر عن وَقعِه على النفس يُعتبر كبيرًا أو صغيرًا بدون أن نعرف عنه المزيد. جاء في إعلانٍ صدَر مؤخَّرًا وأثار الكثير من الضجَّة أنه سيُنفَق ١٠ ملايين جنيه إسترليني لدعم تعليم الموسيقى والغناء في المدارس الابتدائية، وهذا الإعلان يستلزم هذا السياق على الأقل: أن هناك نحوَ ١٠ ملايين طالبٍ يرتادون المدارس، نِصفهم تقريبًا في المدارس الابتدائية. أي إن العشرة الملايين ستُخصَّص لخمسة ملايين طفل؛ ففي أي شيء تحديدًا ستُستخدَم هذه الأموال؟

كل ذلك يقودنا إلى حلٍّ سهل، لمَّحنا إليه من قبل، وهو أن الطريقة المثلى لفَهم ما وراء أي رقم هو تقسيمه وقياسه على أنفُسنا. يُعَد استنتاج كِبَر العدد من كثرة أصفاره استسهالًا إذا تجنَّبناه فلن ينقُصنا سوى إجراء العملية الحسابية البسيطة الآتية: اقسِم العدد الكبير على عدد الناس الذين من المفترَض أن يتأثَّروا به. كثيرًا ما يُسهِّل ذلك التعاملَ مع أي عدد إلى حدٍّ كبير، ويُقلِّله إلى حدٍّ يُسهِّل على أي شخص فَهم معناه في نهاية المطاف، بحيث يتمكن أيُّ شخص من أن يتساءل: «أسيَظلُّ هذا الرقم كبيرًا إذا فكَّرتُ في حِصَّتي منه؟»

حسنًا، هل يُعَد ١٫١٥ جنيه إسترليني مَبلغًا كافيًا لدفع تكلفة رعاية الطفل لأسبوع؟ هذا تساؤل يسهُل عليك حسمُه. هل ستكفي ٣٠٠ مليون جنيه إسترليني لإنشاء مليون مكان إضافي لرعاية الأطفال على مدار خمس سنوات؟ يبدو ذلك أصعب، مع أنه السؤال نفسه. لا يُعَد تسهيل السؤال الصعب مهمةً صعبة على الإطلاق من الناحية الفنية، لا يتطلب ذلك إلا التحلِّيَ بالثقة والخيال الكافيَين لذلك.

عند سماع أرقام مُتعلقة بالدولة كلها، قد لا يتمكَّن البعض من إجراء القياس الشخصي على النحو الصحيح؛ شخصه المُتواضع الذي يَجني دخلًا مُتوسطًا في مُقابل ٣٠٠ مليون جنيه إسترليني. لكن المَبلغ ليس كلُّه مِلكًا لك. ولِيَكون الرقم شخصيًّا يجب تحويله إلى حجمٍ شخصي، لا أن يُكتفى بمقارنته برصيد الشخص المُعتاد في البنك. إن من يرتكب هذا الخطأ هو — إلى حدٍّ ما — كمن يرى المُدرِّس يصل إلى الفصل حاملًا كيسًا من الحلوى ولا يُدرِك أن نصيب كل طالب منه قطعةٌ واحدة. لكن الانخداع برقم لا يخلو من البهرجة هو خطأٌ يُرتكب كثيرًا. فأكبر شطيرة قد تكون أصغرَ من اللازم إذا كان نصيب كل فرد منها الفُتات.

من الأرقام التي تُساعد في إجراء هذه العملية الحسابية هو رقم ٣٫١٢ مليارات (٣١٢٠٠٠٠٠٠٠)، وهو حاصل ضرب عدد سكان المملكة المتحدة (٦٠٠٠٠٠٠٠)، في عدد أسابيع السنة البالغ ٥٢ أسبوعًا. وناتج الضرب هذا يُساوي تقريبًا ما تحتاج الحكومة إلى إنفاقه سنويًّا لتكون بذلك قد أنفقت جنيهًا إسترلينيًّا واحدًا على كل شخص في المملكة المتحدة في الأسبوع. اقسِم الرقم الوارد في أي إعلان عن الإنفاق العام على ٣٫١٢ مليارات لتعرفَ قيمة ذلك الرقم الأسبوعية إذا جرى تقسيمه علينا جميعًا.

قد تُثير الحاجة إلى ذِكر أيٍّ من هذه الأشياء اندهاشَ بعض القُرَّاء، لكن الحاجة إليها قائمة، واللائمة في ذلك على من يُمسِكون بزِمام السُّلطة. يستند جزءٌ من حُجَّتنا في ذلك على أن السبيل لتجنُّب الانخداع بالكثير من التُّرَّهات التي تملأ المجال العام كثيرًا ما يكون واضحًا، بل واضحًا لحدٍّ يُثير الضحك في بعض الأحيان، وكلما زادت بساطة العلاج، كانت الحاجة إلى ذِكره أكثرَ إثارةً للرثاء. وبطبيعة الحال، ليست كلُّ الحالات نمطيَّة إلى هذا الحد، ولا ينبغي تقسيم كل الأرقام بالتساوي؛ فعلى سبيل المثال، قد تستهدف بعض الأرقام فئاتٍ بعينها أكثرَ من غيرها. وهذا مبدأٌ آخَر — بسيط لكن مهم — سنتطرَّق إليه لاحقًا. أما في الوقت الراهن، فيجدُر بنا التأكيد على إمكانية تكوين فَهمٍ أفضل عن أي رقم إذا قسمناه على المُتأثِّرين به أولًا.

وليس الغرض من أيٍّ مما سلف أن نُشجِّع التشاؤمية والشك في الآخرين، بل أن نعرف كيف نُكوِّن معرفةً أفضل. ومن الجدير بالذِّكر أن عدم فَهم الأرقام ليس كالغش. الأرقام تُضلِّلنا بالفعل لأن الناس يُحاوِلون خداعنا، هذا لا شكَّ فيه، ولكنها تُضلِّلنا أيضًا لأنها في حد ذاتها مُلتبِسة، يجرفها حماسُها لإثبات القضية التي تخدمها حتى تتخلَّى في سبيل ذلك عن المعقولية. ربما كانت فكرة قسوة توني بلير ورِفاقه مع كبار السن الذين أفنَوا عمرهم لكسب لُقمة عيشهم بشرف قد تملَّكَت من صحفيِّي صحيفة «ديلي تيليجراف» الذين كتبوا عن وفاة مستحقِّي معاشات التقاعد، فسمحوا لهذه الفكرة التي بدَت لهم صائبةً أن تُوجِّه حساباتهم.

وهذا الارتباك الذي يُصيب الأذكياء بفعل حجم الأرقام والنِّسب هو السبب الذي يجعل مُروِّجيها في أحيانٍ كثيرة أقلَّ فهمًا لها من جمهورهم، والفريقان لا يَفهمانها جيدًا؛ وهو ما يُكسِب الأسئلة — مهما بلَغَت بساطتها — مشروعيَّتَها. الحجم يهم. ومن الغريب أن نُضطرَّ إلى محاولة إقناع الناس بإيلائه المزيد من الاهتمام، بيدَ أن ذلك الاهتمام الذي نطلبه اهتمامٌ من نوعٍ مُهمَل، فبدلًا من الاكتفاء بالانحناء احترامًا لرقم له حجم ووَقعٌ كبير، نُصرُّ على قياسه بالمِقياس البشري.

•••

يُهمَل حجم الأرقام في حالة بعينها أكثرَ من الحالات الأخرى؛ عندما يحمل معه الخوف. في هذه الحالة لا حاجة إلى ادِّعاء كِبَر الرقم على الإطلاق، يكفي وجودُ خطرٍ ما بأي نسبة.

ولْنَفهم ذلك، ونفهم معه الأفكار التي تدور بالأذهان فيما يتعلَّق بالسُّمِّية أو السُّم فتُهيئ لصاحبها أنه مُميت على الدوام ولو كانت كميته تُقاس بالميكرون، لنفكر في صدمةٍ تُصيب الرأس. إذا كانت مصدر الصدمة قُبلةً طبَعتَها على جبين طفلك يندُر أن تكون مؤذِية، أما إذا كان مصدر الصدمة عارضةً مَعدِنية هوَت من فوق سطح أحد البنايات، لَبلَغت شدة الضرر أقصاها. من الواضح أن الصدمات التي تُصيب الرأس تختلف في تَبِعاتها حسَب قوتها، ومن الواضح أيضًا أنها لا تُلحِق أيَّ ضرر على الإطلاق ما دامت شدتها أقلَّ من مستوًى محدَّد. إذا طُلب من قُرَّاء هذا الكتاب أن يتحمَّلوا صدمةً على الرأس، فإننا نأمُل ألا يكونوا وحدهم مَن سيسألون: «ما شدتها؟»

المبدأ الأساسي القائل بأن درجة الضرر تعتمد على القَدْر الذي تعرَّض له الناس من خطرٍ معيَّن هو مبدأ يُطبِّقه الجميع بدون تفكير كلَّ يوم مرَّاتٍ عديدة. غير أنهم يَستثنون السُّمِّية من ذلك. فالمخاوف المُتعلقة بالطعام والبيئة حالةٌ شاذَّة تُقارِب الرُّهاب، كثيرًا ما يجري الإبلاغ عنها، وكثيرًا ما تُقرأ بلا اهتمام بالنسبة والتناسب على الإطلاق، وتُصاحبها أقوالٌ مُناظِرة لعبارة: «صدمات الرأس مُميتة، وَفقًا لإحدى الدراسات.»

لنتأمَّل العبارة السابقة ونفهم صِلتَها بالموضوع. تتباين تأثيرات صدمات الرأس حسب شدتها. ما الذي حدث لهذا المبدأ الأساسي في ٢٠٠٥ إذن عندما أخبرنا شخصٌ ما أن البطاطس المطهوَّة تحتوي على مادةٍ سامَّة تُسمَّى الأكريلامايد؟

يُستخدم الأكريلامايد في الصناعة — فضلًا عن أنه يَنتج عن خلط مجموعة من السُّكريات والأحماض الأمينية خلال الطهي — ومن المعروف أن التعرض لجرعاتٍ معيَّنة منه يُسبِّب السرطان للحيوانات وتلفَ الأعصاب للبشر. بدأت المخاوف من هذه المادة في السويد عام ١٩٩٧ عندما لُوحظ أن عددًا من الأبقار التي كانت تشرب مياهًا ملوَّثة بكَمِّياتٍ كبيرة من الأكريلامايد الصناعي تترنَّح كما لو كانت مُصابة بجنون البقر. وكشفت أبحاثٌ سويدية لاحقة أُعلنت نتائجها في ٢٠٠٢ عن وجود الأكريلامايد في مجموعةٍ كبيرة من الأطعمة المطهوَّة.

يُعتقد أن البشر يستهلكون في المتوسط أقلَّ من ميكروجرام من الأكريلامايد لكل كيلوجرام من وزن الجسم في اليوم «بالرغم من تبايُن نتائج الدراسات». وهذه الكمية تُمثِّل ١ من الألف من الجرعة المرتبطة بحدوث زيادة طفيفة في حالات السرطان عند الفئران. قد يستهلك بعض البشر أكثر من ذلك، ومع ذلك نجد أن معظم الدراسات الوبائية تُشير إلى أنهم لا تزداد احتمالية إصابتهم بالسرطان عن أي شخص آخر.

كثيرًا ما يُضاف المِلح بسخاء إلى البطاطس، خاصةً عندما تُعَد على شكل شرائح أو أصابع. فالمِلح ضروري للبقاء، وفي الوقت ذاته سامٌّ لدرجة أن كميةً أقل مما تحتويه ملَّاحة المائدة تكفي لقتل طفل رضيع. تبلُغ الجرعة القاتلة المُتعارَف عليها من المِلح ٣٧٥٠ مِلِّيجرامًا لكل كيلوجرام من وزن الجسم، «وهذه الكمية هي ما وُجد أنها تكفي لقتل ٥٠ في المائة من مجموعة فئران التجرِبة، ويُرمَز لهذه الكمية بالرمز LD50». بالنسبة إلى رضيعٍ وزنه ٣ كيلوجرامات، تُساوي هذه الكمية ١١ جرامًا؛ أي أكثر قليلًا من مِلعَقتَين صغيرتين من المِلح. فهل أُبلِغَ أحدٌ عن أن رش مِلعقتَين صغيرتين من الملح على شرائح البطاطس قد يؤدي إلى الوفاة؟ ما يُقال في حقيقة الأمر لأسبابٍ مختلفة هو أنه يجب أن ننتبهَ للكمية التي نستخدمها منه. النصيحة التي يُمكِن أن نُسديَها بلا انفعال هي أن يكون المرء مُتعقِّلًا. فحتى الزرنيخ يبدو أن إضافة كمية قليلة منه إلى الطعام تُفيد في الحفاظ على الصحة.

لماذا هذا التشدُّد بشأن كميات الأكريلامايد إذن؟ ربما كان السبب الذي ساعَد في انتشار الذُّعر هو الاقتران بين سببَين؛ هما الارتياب من كل خطر مُتعلق بالصحة، وأن هذه المادة لم يُسمَع بها من قبل. لو كان الصحفيُّون قد فكَّروا في الأرقام ذات الصلة، لربما ظل الخوف في الحدود المعقولة؛ فكمية الأكريلامايد المرتبطة بالزيادة الطفيفة في خطر إصابة الفئران بالسرطان تُبين من أحد التقديرات أنها تتطلَّب استهلاك نحو ٣٠ كيلوجرامًا من البطاطس المطهوَّة — وهو ما يُكافئ من ثلث إلى نصف وزن الإنسان العادي تقريبًا — كلَّ يوم عدةَ سنوات.

عندما تذكُر عناوينُ الصحف كلمة السُّمية، فعلى القارئ النابه الذي يُدرك أن معظم الأشياء سامَّة إذا استُهلكت بجرعاتٍ معيَّنة أن يسأل: «بأي كمية؟» المياه تُبقيك حيًّا، إلا إذا أفرطتَ في الشراب، فعندئذٍ قد تُصاب بتسمُّم المياه، وهو التحذير الذي يُوجَّه لمُتعاطي عقار الإكستاسي العطاشى. فقد لاقت الطالبة ليا بتس حتفها بعد أن تناولت عقار الإكستاسي ثم شرِبَت أكثر من ستة لترات ونصف من المياه في التسعين دقيقةً التالية لذلك.

ولهذا السبب نجد أن كل علماء السموم يتعلَّمون الشعار التاليَ من أول كتاب كان مقرَّرًا عليهم: السُّمِّية حسَب الجرعة. وهذا لا يعني إمكانية الاستهانة بأي حديث عن خطر التسمم، وإنما ببساطةٍ أن نُشجِّع إجراء الاختبار نفسه الذي نُطبِّقه على الحالات الأخرى، وهو اختبار النسبة والتناسب البشريَّين. واصل طرح السؤال الرائع: «ما حجم ذلك الشيء أو قدرُه؟» مع القياس على نفسك.

ومع ذلك، فهناك استثناءات. حالات حسَّاسية الفول السوداني مثلًا قد تكون قاتلةً حتى لو كانت الكميات صغيرة، ولن يُفيد معها القول إن من يُعاني من هذه الحساسية عليه أن يُفكِّر في الكمية. في غير ذلك من الحالات، لا تعتبر كلمة «السُّمِّية» مرادفةً لكلمة «الذُّعر»، ولو عُوملت كذلك.

•••

من الحالات الأخرى التي يجري فيها التقليل من شأن الحجم التقاريرُ الصحفية عن الجينات. ففي هذه الحالة، عادةً ما تُخبرنا العناوين الصحفية بأن الباحثين اكتشفوا «الجين المسئول عن كذا» أو «الأصل الجينيَّ لكذا» أو «الجين المُرتبط بكذا». ويميل الناس إلى الحديث عن هذه الجينات كما لو أنها تكشف عن سرِّ الحياة. فعلى الأقل نفترض أن الجينات تُعطينا الدلالة الأكيدة على هذا الشيء أو ذاك.

في بعض الحالات — مثل التليُّف الكيسي — يُطابق هذا الافتراض الحقيقة الفعلية. فإذا كانت لديك الطفرة الجينية فأنت مُصابٌ بالتليُّف الكيسي؛ وإذا لم تكُن لديك، فلستَ مُصابًا به. هذا مثال من الواقع على حتميةٍ جينية دقيقة بنسبة ١٠٠٪.

غير أن هذا يُعَد الاستثناءَ لا القاعدة. ففي حالاتٍ أكثر، كل ما يُستفاد من اكتشاف «الجين المسئول عن كذا» هو أن هناك جينًا تزداد احتمالية وجوده لدى المُصابين بحالةٍ ما عن احتمالية وجوده لدى غير المُصابين بها. أي إن هذا الجين ليس كلافتاتِ الطريق التي تُشير إلى أحادية اتجاه السير، بل لا يَعْدو كونَه تشجيعًا على سَلكِ منعطَفٍ ما عِوضًا عن آخَر. هذا ما يجعل المسألة في أحيانٍ كثيرة مسألةَ حجم. أما السؤال الحرِج الذي لا يكاد يلقى إجابة على الإطلاق في التغطيات الإخبارية فهو: «أي درجة من التشجيع؟»

على سبيل المثال: إذا كان عليك تخمين عدد المُصابين بالتصلُّب المُتعدد الذين يحملون «الجين المسئول عن» التصلُّب المُتعدد، فقد تميل إلى الإجابة بأنهم جميعًا يحملونه، وإلا فكيف أُصيبوا بهذه الحالة المرَضية؟ وفي الحقيقة، أظهرت دراسةٌ أُجريَت لتحديد الجينات المسئولة عن التصلُّب المُتعدد — وكشفت عن جينَين مسئولين عن المرض — أن أحد الجينين المسئولين عن المرض موجود لدى ٨٧ في المائة من المُصابين بالتصلُّب المُتعدد. لكن ١٣ في المائة من المُصابين بالتصلُّب المُتعدد ليس لديهم «جين التصلُّب المُتعدد».

إذا سُئلتَ عن عدد من لديهم «الجين المسئول عن» التصلُّب المُتعدد ولكنهم غير مُصابين به، قد تُعمِل عقلك وتردُّ بأن وجود الجين يعني وجود نزعة أو استعداد للمرض، وليس دليلًا أكيدًا على حدوثه؛ لذا فإن محظوظين قليلين لن يُصابوا بالتصلُّب المُتعدد رغم وجود الجين المسئول عنه لديهم. وفي الواقع، وجدَت الدراسة نفسُها الجينَ نفسَه في ٨٥ في المائة من الناس الذين لم يُصابوا بالتصلُّب المُتعدد أبدًا.

أما الجين الآخر المسئول عن التصلُّب المُتعدد، فهو موجود لدى ٧٨٫١ من المُصابين بالمرض، وموجود أيضًا لدى ٧٥ في المائة من غير المُصابين به. وهذه الفروق حقيقية — حسَب رأي الباحثين — ولكنها صغيرة. لا تختلف احتمالية إصابة أي شخص بالتصلُّب المُتعدد تقريبًا إذا كان لديه الجين المسئول عنه أو لم يكُن لديه، وهي احتماليةٌ مُنخفِضة جدًّا في الحالتَين. يُعتقد أن معدَّل انتشار التصلُّب المُتعدد في إنجلترا وويلز هو ١٠٠ إلى ١٢٠ مُصابًا من كل ١٠٠٠٠٠ شخص، ويبلُغ في أيرلندا الشمالية ١٦٨ مُصابًا من كل ١٠٠٠٠٠ شخص، وفي اسكتلندا ١٩٠ مُصابًا من كل ١٠٠٠٠٠ شخص. فهو مرضٌ نادر، ولا يَزيد احتمال إصابة من يحملون «الجين المسئول عنه» به إلا بدرجةٍ قليلة جدًّا.

مُتلازمة تملمُل الساقَين هي من الحالات الأخرى التي اكتُشف مؤخَّرًا «جينٌ مسئول عنها». وجَدت ثلاث دراسات أُجريَت في ثلاثة بُلدان أنَّ جينًا محدَّدًا يبدو أن له دورًا جزئيًّا في حدوث المتلازمة. ولكن، ما حجم هذا الدور؟ وجدت إحدى الدراسات أنه موجود لدى ٨٣ في المائة من المُصابين بالمتلازمة و٧٦ في المائة من غير المُصابين بها. وأفادت دراسةٌ أخرى بأن هاتَين النسبتين تبلُغان على التوالي ٧٦ في المائة و٦٨ في المائة. في حين خرجَت الثالثة بالنسبتَين ٧٧٪ و٦٥٪ على التوالي. مرةً أخرى، الفروق أقلُّ مما قد نتوقع. أي إن الجين له دور، مع أنه دورٌ صغير على الأرجح. وكما قال أحد النُّقَّاد، إنه قد يكون من الأدقِّ أن نقول إن الجين له علاقة بشيء له علاقة بشيء آخر له صلة بمتلازمة تملمُل الساقَين.

والأمر سيَّان في حالة الرَّبو. حيث اكتُشف مؤخَّرًا «جينٌ مسئول» عن الرَّبو موجود لدى ٦٢ في المائة ممن يُعانون من المرض، ولدى ٥٢ في المائة من الأشخاص الذين لا تظهر عليهم أعراضه. أي إن وجود الجين لدى أيِّ شخص أو عدم وجوده لا يُغيِّر احتمالية إصابته بالربو إلا قليلًا.

لبعض الجينات تأثيرٌ أكبر. ففي بعض الحالات المرَضية، يكون لمجموعة من الجينات دورٌ في حدوث المرض، حيث يُسهِم كل جين بتأثيرٍ طفيف في زيادة الاحتمالية، ولكنها معًا تُحدِث فارقًا ملحوظًا. ولكن عند قراءة التقارير المُثيرة عن الاكتشافات الجينية الجديدة، في كم منها يوجد حسُّ النسبة والتناسب؟ وفي كم منها نجد أن النسبة والتناسب اعتبارٌ تنبغي مُراعاته؟ المقارنة بين تأثير الطبيعة الجينية من جانب وتأثير البيئة والتنشئة من جانبٍ آخر لُعبةٌ شائقة. لكن علم الأحياء لا يقتصر في الغالب على الأسود والأبيض. بل ينبغي أن يكون من السهل إبرازُ ظلال الرمادي.

•••

ربما تكون قد اقتنعتَ الآن بوجاهة سؤالنا البسيط، وبأن الحجم مهمٌّ ولو ندرَ الاهتمام به، وبأن الأصفار العديدة المتراصَّة على يمين أي رقم لا تُخبرنا بشيء. لنُقيِّم اقتناعك هذا من خلال رقم عملاق: ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠، أو تريليون جنيه إسترليني، حيث نُسمِّي العدد الذي يظهر على يمينه هذا العدد من الأصفار تريليونًا وَفقًا للاتفاقية الاقتصادية الدولية. تخيَّل لو كان هذا الرقم هو مجموعَ الديون المستحَقَّة على الشعب البريطاني. لا تجزع من ضخامة الرقم الظاهرة، بل تشجَّعْ واسأل: هل هذا رقمٌ كبير؟

هذا ما ظنَّته معظمُ الصحف عندما وصلنا إلى هذا الرقم في عام ٢٠٠٦، بل إن بعضها أبرزَه في الصفحة الأولى. والإجابة أن كون إجمالي الديون تريليون جنيه إسترليني يُمثل اليوم قيمةً كبيرة أم صغيرة هو أمرٌ مُختلَف عليه بشدة. صحيحٌ أنه عندما تخطَّت قيمة الديون هذا الرقم باتت الأعلى على الإطلاق، لكننا نستطيع القول بثقةٍ شديدة إن قيمة الديون ستتخطَّاه مرةً أخرى، بل مرَّاتٍ أُخَر، ففي أي اقتصاد مُتنامٍ، يُعَد كسر الأرقام القياسية حتميةً لا مَفرَّ منها. أوحت التقارير الصحفية بالمُفاجأة، لكن التضخُّم ونموَّ الاقتصاد معًا من شأنهما التسبُّب في زيادة العدد الكلِّي للجنيهات الإسترلينية الموجودة في بريطانيا بنسبة ٥ في المائة تقريبًا كل عام. أي إن عدد الجنيهات الإسترلينية في الاقتصاد يتضاعف كلَّ خمسة عشر عامًا. فإذا زاد عدد الجنيهات المُكافئة لقيمة كل شيء آخر، فهل من المُفاجئ أن يَزيد أيضًا عدد جنيهات الدَّين؟

فلتدَعْ عنك هذا الإحساس بالصدمة من هذا الرقم؛ فما بعَثه في نفسك إلا مصدرٌ زائف، وجرِّب مع الرقم أحدَ أسئلتنا البريئة البسيطة: كيف يُقسم هذا الرقم؟ الإجابة المتوقَّعة هي أنه لن يُقسم بالتساوي. ولن يقع القسم الأكبر من العِبء على مُدمني التسوُّق النمطيِّين الذين يحملون الكثير من بطاقات الائتمان التي بلَغَت مديونيَّتها الحدَّ الأقصى، فهم لا يُمثِّلون إلا جزءًا صغيرًا جدًّا من هذا التريليون. الحقيقة أن الأغنياء في المقام الأول هم مَن يَدينون بالقسم الأكبر من هذه الديون، ولطالما كان الحال كذلك، وكثيرًا ما تأخذ ديونُهم شكلَ الرهون العقارية التي يُستعان بها لدفع ثمن مَنازل قيمتُها آخذة في التزايد؛ مما يعني أيضًا أن هؤلاء يمتلكون كميةً مُتزايدة من الأصول يُمكِنهم اللجوء إليها لسداد دَينهم إذا اضطُرُّوا إلى ذلك.

لنفهم غرابة الحديث عن الدَّين بالنبرة التي تُستخدَم في ذلك كثيرًا، طبِّق ذلك على ديونك الخاصة، وانظر كيف سيكون حالك. أولًا: بكم كنتَ مَدينًا عندما كنت في الخامسة عشرة من عمرك؟ أربعة جنيهات وعشرين بنسًا، وكنت مَدينًا بها لأخيك، يا لحصافتك! وبكم كنتَ مَدينًا عندما أصبحتَ في سن العمل؟ ماذا؟ أزادَت ديونُك؟ يُفترض أن يكون ذلك قد جعلك أسوأ حالًا، ربما في بداية انزلاقك الطويل والصادم إلى الإسراف في سنِّ مُنتصَف العمر. وإذا لجأتَ نتيجةً لذلك إلى الرهن العقاري، فلا بد أن تكون ديونك قد وصلَت إلى رقمٍ قياسي! لا بد أن هذه كانت أكثر مراحل حياتك بؤسًا وفقرًا، وأنك اشتقتَ إلى ظروفك المالية عندما كنت في الخامسة عشرة من عمرك.

أغلب الظن أن هذه ليست الوسيلة المُثلى للنظر إلى الدَّين، حتى لو كانت مُتماشيةً مع التقاليد الإعلامية المقدَّسة التي تقضي بمعاملة أي زيادة في الدَّين باعتبارها دليلًا على الهلاك الوشيك. فزيادة الدَّين غالبًا ما تكون انعكاسًا لزيادة القدرة على الاقتراض نظرًا إلى زيادة القدرة على سداد مَبالغ أكبر. هذه تجرِبة شخصية نمطية تسهِّل التنبؤ بصورةِ ما يجري على الصعيد الوطني.

الدَّين مشكلة تُضِر بمن لا يستطيعون تحمُّل تكلفته، ويبدو أن المزيد من الناس يجدون أنفُسهم بالفعل في هذا الوضع، لكن هذا ليس له إلا صلةٌ ضعيفة بالتريليون جنيه إسترليني؛ فمعظم هذا الرقم لا يدلُّ على الفقر بقدرِ ما يدلُّ على الثروة. فبينما يُمكن أن تُشكِّل الديون في الحالات القصوى مشكلةً خطيرة للحكومات والشركات والأفراد، فإنها أيضًا قد تكون دليلًا على قوة الاقتصاد وسلامته. قد يرى البعض أنه من الجنون أن تُستخدَم هذه الحُجَّة بعد «أزمة الائتمان» لعامَي ٢٠٠٧ / ٢٠٠٨. لكن هذه المشكلة كانت نتيجةً لقرارات الإقراض والاقتراض الخاطئة، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، نتجَت عن إقراض الأموال لأشخاص لم يكُن من المحتمَل أن يتمكَّنوا من السداد. كانت هذه الحماقة من المؤسَّسات المالية الكبيرة لافتة ومُضرَّة، لكنها ليست دليلًا على ضرر الاقتراض بوجهٍ عام؛ فالإقراض غير المسئول هو الضار.

•••

من الطُّرق الأخرى للتفكير في الأمر أن نقول إن ديونك تكون أكبرَ من اللزوم فقط إذا لم يكُن بإمكانك سدادُها. لكن كم عدد التقارير الإخبارية عن ديون المملكة المتحدة التي تتناول أيضًا ثروةَ المملكة المتحدة؟ الغريب أنها لا تُذكَر أبدًا، رغم أنها من أُولى الاعتبارات التي يضعها الجميع في الحُسبان. اعتدنا على أن نُطلِق على هذه الطريقة مدرسة إنرون في التقارير الإخبارية. قد يتذكر القُرَّاء أن شركة إنرون للطاقة تفاخَرَت بأصولها واختارت أن تُغفل الحديث عن ديونها، فكان الانهيار المُدوِّي مصيرَها. تَتبَع التقارير الإخبارية عن الحالة المالية العامة الأسلوبَ نفسَه بشكلٍ معكوس، فتصدح العناوين الإخبارية بالحديث عن الدَّين، في حين تُغفل الحديث عن الثروة أو الدخل. ولهذا السبب، ثِق بما يُعرَف أنه ينطبق على الأفراد، وأجرِ الحسابات الشخصية التي يُجريها أي فرد، ثم طبِّقها على الصعيد الوطني. وهذا يُظهر (انظر الرسم البياني) أن الثروة الشخصية في ازديادٍ مُستمر وكبير في السنوات الأخيرة. في ١٩٨٧، بلَغ إجمالي الثروات الشخصية لكل الأُسر في المملكة المتحدة أربعة أمثال الدخل السنوي للبلد كله. وبحلول عام ٢٠٠٥ بلَغَت الثروة ستة أمثال الدخل الوطني السنوي. ولم يكُن الحال في العشرين سنةً الماضية تقريبًا أفقر، بل كان أكثرَ ثراءً إلى حدٍّ لافت. وتأخذ هذه الثروة صورةَ منازل ومعاشات تقاعُد وأسهُم وحسابات في البنوك وجمعيات التشييد، ويتباين توزيعها بشدة، حيث يتركَّز معظمها لدى الأغنياء، كما تتركز لديهم معظم الديون. ويعكس قسمٌ من هذه الزيادة نموًّا في أسعار المنازل، وبعض الزيادات في أسعار الأسهُم، لكن لا شك أنه مع نمو الاقتصاد ونمو الدخول معه، فقد زادت المدَّخَرات والثروات أيضًا. الدَّين آخذ في الزيادة، لكن الثروة أيضًا آخذةٌ في الزيادة بوتيرةٍ أسرع بكثير.

fig2
شكل ٢-١: الثروة والدَّين في المملكة المتحدة، بمضاعفات الناتج المحلي الإجمالي.

حتى إذا نظرنا في فئة الدَّين التي يُقال إنها تخرج عن السيطرة إلى حدٍّ شديد الخطورة — وهي الديون الشخصية غير المؤمَّنة (ومنها مديونيات بطاقات الائتمان) — فسنجد أن قيمتها باعتبارها نسبةً مما يُتاح لنا إنفاقه — أو ما يُسمى بالدخل المنزلي القابل للإنفاق — ظلَّت ثابتةً في السنوات الخمس الأخيرة (التي ارتفعت قبلها قليلًا). ومجدَّدًا نجد أن هذه المديونية أيضًا لا تتوزع بالتساوي، وتُمثِّل مشكلة بالنسبة إلى بعض الناس أكثرَ من الآخرين؛ ولهذه الأسباب تحديدًا ليس من المنطقي أن نستشهد بهذا الرقم الإجمالي كما لو أن له أيَّ معنًى على الإطلاق بالنسبة إلى من هم في أصعب الظروف المالية.

كيف نعرف من التجرِبة الشخصية أن قيمة الديون قد لا تكون رقمًا مُرعبًا للدرجة التي تبدو بها؟ بالتفكير في دورة حياتنا الشخصية واقتراضنا. كلما ازددنا غِنًى أقبلنا بسعادة على اقتراض المزيد من الأموال، لكن خطر الاقتراض يقلُّ حينئذٍ بدلًا من أن يزيد. ومع اتضاح كل ذلك يسهُل أن نفهم أن زيادة الدَّين قد تعني زيادة الثروة لدى السكان بوجهٍ عام. ففي الأساس، نستخدم الطريقة نفسها التي استخدمناها سابقًا؛ نقسم الرقم على المُتأثِّرين به، بدلًا من أن نُركِّزه حيثما يصنع قصةً مُثيرة. من ثَم، ينبغي أن نُوزِّع القدرَ الأكبر منه على الأثرياء، ونُوزِّع قدرًا أقلَّ بكثير على الفقراء. وللتأكيد، إذا وُزِّع تريليون جنيه إسترليني من الدَّين بين كل السكان يكون نصيب الفرد منه أقلَّ بقليل من ١٧٠٠٠ جنيه إسترليني، ويُقابل هذا الرقمَ ثروةٌ يزيد مُتوسطها عن ١٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني.

•••

ليس الدَّين في المملكة المتحدة وحده ما يُمكِن إخضاعه للنسبة والتناسب البشريَّين. ففي قمة جلين إيجلز التي انعقدت في صيف عام ٢٠٠٥ — خلال ترؤُّس المملكة المتحدة لمجموعة الدول الثمانية — أعلن مستشار الخِزانة جوردون براون عن إلغاء ٥٠ مليار دولار من ديون البُلدان النامية. يبدو ذلك سخاءً، ويُفيد البُلدان النامية، لكن ما مدى ذلك السخاء من وجهة نظر مجموعة الدول الثمانية؟ هل هو رقمٌ كبير بالنسبة إلينا؟

مثَّلت الخمسون مليار دولار قدرًا كبيرًا من الديون. وعندما ألغَتها الدول الثمانية الكبار لم تتخلَّ في الحقيقة إلا عن الأقساط السنوية التي كانت ستتلقَّاها — وعادةً ما تكون بأسعار فائدة تفضيلية — وتبلُغ قيمتها ١٫٥ مليار دولار في العام. كانت هذه هي الكُلفة الفعلية، وهي أقلُّ بكثير من الرقم المُعلَن. وإذا حوَّلت المليار ونصف دولار إلى الجنيه الإسترليني فسيبدو الرقم أصغر؛ إذ سيُصبح ٨٠٠ مليون جنيه إسترليني بسعر الصرف القائم ذلك الحين. لا يزال ٨٠٠ مليون جنيه إسترليني في العام مَبلغًا كبيرًا، لكن تذكَّر القياس الشخصيَّ للأرقام الذي طلبناه منك. من حُسنِ الحظ أن عدد سكان الدول الثمانية الكبار هو ٨٠٠ مليون نسمة تقريبًا. أي إن قرار قمة جلين إيجلز سيُكلِّف كلَّ شخصٍ يعيش في مجموعة الدول الثمانية جنيهًا إسترلينيًّا واحدًا في العام. وحتى ذلك ينطوي على مُبالَغة؛ فالحصة الكُبرى من هذه الأموال ستأتي من ميزانيات المساعدات لدى الحكومات، وهذه الميزانيات كانت ستزداد على أي حال، لكنها الآن ستُحوَّل لتمويل قرار قمَّة جلين إيجلز؛ مما يجعل أدقَّ تقدير للتكلفة التي ستزيد على كل فرد منا نتيجةً لقرار قمة جلين إيجلز — التي لم نكُن لنتكبَّدها لولاه — تُساوي الصفر تقريبًا.

•••

وأخيرًا، لننظر إلى الطرَف الآخر من المِقياس، لننظر إلى رقم من خانةٍ واحدة، رقم صغير جدًّا؛ سِتَّة. لا بد أنَّ حسَّ التشكيك لدَيك قد نشِط الآن، وأنك مُتردِّد في تصديق كلام أي شخص أو تكوين أي رأي مباشرةً، وأنك تريد أن تعرف المزيد عن السياق. هكذا يجب أن يكون عليه تفكيرك. الستة التي نَعنيها هنا هي درجات التباعد الستَّة المُحتفى بها التي يُقال إنها تفصل بين أي شخصَين على الكوكب. حسنًا، هل تُعتبر الستة هنا رقمًا صغيرًا؟

وفقًا لموقع ويكيبيديا، طُرحت الفكرة للمرة الأولى في قصةٍ قصيرة صدَرَت عام ١٩٢٢ تُسمَّى «السلاسل» للكاتب المجَري كارينثي فريجيز. لكن عالم اجتماع أمريكيًّا يُدعى ستانلي ميلجرام هو من أصبح اسمُه مُرتبطًا بالفكرة المقترَحة عندما زعم عام ١٩٦٧ أنه أثبت عمليًّا أن ستَّ خُطوات من المعارف تكفي بكل تأكيد للربط بين أي شخصَين في الولايات المتحدة. وأطلق على أطروحته اسم «نظرية العالم الصغير».

استعان ميلجرام بنحو ٣٠٠ مُتطوع أطلقَ عليهم اسم «البادئين»، وطلب من كلٍّ منهم أن يُرسِل طردًا شبيهًا بجواز السفر مُوشًّى بشعارٍ ذهبي إلى شخصٍ غريب يكون عادةً — وليس دائمًا — في مدينةٍ أخرى. وسُمِح لهم بالاستعانة بأي وسيط يعرفون اسمه الأول فقط، بحيث يبحث الوسيط عن وسيطٍ آخر يفعل الشيء نفسه بحيث يقتربون من الهدف المُرسَل إليه في كل خطوة. كل ما كان لديهم ليَستعينوا به في توصيل الطرد هو اسم المُرسَل إليه ومَسقط رأسه ومهنته وبعض الأوصاف الشخصية، لكن بلا عنوان. فقال ميلجرام إن ٨٠ في المائة من الطرود وصَلَت إلى وجهتها فيما لا يزيد عن أربع خطوات، وإنها كلَّها تقريبًا وصلت في أقلَّ من ست خطوات.

تحوَّلَت القصة إلى ما يُشبِه الأسطورة. وفي عام ٢٠٠١، أثارت الظاهرة اهتمامَ عالمة نفس من جامعة ألاسكا تُدعى جوديث كلاينفلد، فشرَعَت في دراسة أوراق بحث ميلجرام. وكان ما وجدته — على حد قولها — مُثيرًا للقلق؛ أولا: أن دراسةً أوَّلية لم تظهر في التقارير حقَّقَت نسبة نجاح أقلَّ من ٥ في المائة. ثانيًا: أنه في الدراسة الأساسية أكثر من ٧٠ في المائة من الطرود لم تصل إلى وجهتها، وهو معدَّلُ فشل يُثير الشكوك في الأطروحة كلِّها على حد قولها. وقالت: «قد يكون الأمر صحيحًا، لكن هل يمكن القول إن الطرود وصلت في أقلَّ من ٦ خطوات في حين أن ٧٠ في المائة منها لم يصل على الإطلاق؟» علاوةً على ذلك، وفي نقد للدراسة أوثقَ صلةً بسؤالنا، تقول إن المُرسِلين والمُستقبِلين كانوا من المستوى الاجتماعي نفسِه، وإنهم كانوا ممن يَجْنون دخولًا تفُوق المتوسط؛ ومن ثَم فمِن المرجَّح أن يكون جميعهم ممن لهم الكثير من المعارف المُتشعِّبة.

الستة إذن قد تكون رقمًا صحيحًا أو خاطئًا، ولم يحدُث قط أن أُعيدَ تنفيذ الجزء الأساسي في التجرِبة، ولكن إنْ صحَّ الرقم على أي حال، فهل كان سيُعتبر رقمًا صغيرًا؟ يُمثِّل الدَّفع القائل بسهولة امتداد خيوط التعارف بين المُتشابهين من الناس دليلًا وحافزًا. فهو يُشجعنا على أن نُفكر في أن عدد الخطوات ليس وحده ما يُهم، بل حجم كل واحدة منها أيضًا. فإذا كانت كل خطوة كبيرة جدًّا، فستكون الستة رقمًا ضخمًا للغاية.

وجدت دراساتٌ أخرى — منها ما أجراه ميلجرام بنفسه، وضمَّنته جوديث كلاينفلد في تلخيصها لمِلفَّاته الشخصية — أنه في حالة مرور الطرود بأشخاص من أعراقٍ مُختلفة، كان معدَّل اكتمال التجرِبة ١٣ في المائة، وارتفع هذا المعدَّل إلى ٣٠ في المائة في حالة كون البادئين والمُرسَل إليهم من سكان نفس المنطقة الحضَرية. ووجدت دراسةٌ أخرى أنه عندما بدأت الخطوة من بادئٍ مُنخفِض الدخل إلى هدفٍ مُرتفع الدخل، بدا معدَّل اكتمال التجرِبة صفرًا. إذ لم يكُن إيجاد الروابط عبر المستويات الاجتماعية المختلفة بالسهولة نفسِها.

قالت جوديث كلاينفلد نفسُها: «قد يمكن الربط بين أمٍّ تتلقَّى إعانةً حكومية ورئيس الولايات المتحدة عبر سلسلة بها أقلُّ من ست حلقات؛ فمسئول ملفِّها الاجتماعي قد يعرف رئيس إدارته بالاسم الأول، ورئيس الإدارة قد يعرف عمدة شيكاغو، والعمدة قد يعرف رئيس الولايات المتحدة. ولكن هل يعني ذلك شيئًا من وجهة نظر الأم التي تتلقَّى الإعانة؟ … اعتدنا الحديث عن الستة باعتبارها رقمًا صغيرًا، ولكن في الدوائر الاجتماعية التي لا تكفُّ عن الحركة، قد تكون الستة رقمًا كبيرًا بالفعل من الناحية العملية.»

عادةً ما تكون الستةُ عددًا صغيرًا؛ في حينِ أنه عادةً ما يُعَد المليار عددًا كبيرًا. لكن الافتراضات الجاهزة لن تَصلح لتقييم الحجم. بل ينبغي أن نُخضع الرقم للنِّسَب البشرية ذاتِ الصلة. تبدو في إمكانية الاتصال بالرئيس عبر ست خطوات سرعةٌ، لكن فلْيُحاول الناسُ قطع هذه الخطوات الست. فقد يكون بينهم بَونٌ شاسع. والمليار جنيه الإسترليني إذا قُسمت على المملكة المتحدة قد تكون أشبهَ بحفنةٍ صغيرة من العملات المعدنية ذات الفئات الصغيرة، أو ٣٢ جنيهًا إسترلينيًّا للفرد كلَّ أسبوع. نحتاج إلى التفكير قليلًا، وأن نتأكد من أن الرقم قد جرى قياسه بمقياس التجرِبة البشرية. وعندئذٍ يُمكننا استخدام المقياس الشخصي، وسيُحدث ذلك فارقًا كبيرًا. أفضل وسيلة لتحفيز التفكير هي طرح السؤال الذي يضبط افتراضاتنا — مهما بدت بساطته — ألا وهو: «هل هذا رقم كبير؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤