الفصل الرابع

التقلبات: الرجل والكلب

هيِّئ نفسك لمعرفةٍ حقيقة جذرية، حقيقة تُباغت أي جدال سياسي فتُغير مساره، باستطاعتها دحضُ أي زعم تتفاخر به الحكومات. هل أنت مستعدٌّ؟ الأرقام تتقلب صعودًا وهبوطًا.

هذه هي الحقيقة. لا يتطلب ذلك تدخُّل أي شخص للتسبُّب في هذا التقلُّب. لا حاجة إلى سياسة بعينها. ففي مسار الحياة الطبيعي، تحدُث الأشياء. لكنها لا تحدُث كثيرًا بانتظام أو بالمعدَّلات نفسِها. قِس أي شيء — تقريبًا — مما يحلو لك، وستجد أنه يزداد أيامًا وينقص أيامًا أخرى. ترتفع الأرقام وتنخفض. هذا سَمْتها ودَيدنها.

لا شك أنك كنت تعلم ذلك. وربما اعتقدت أن من يُمسِكون بزِمام السُّلطة يعرفونه أيضًا. ولكن هل يعرفون ذلك حقًّا؟ إنهم يصدحون قائلين: «نحن فعلنا ذلك.» كلما تحرَّكت الأرقام في الاتجاه المأمول، ويبدو عليهم التغافل عن إمكانية ارتفاع الأرقام أو انخفاضها على أي حال.

اللَّبس بين التقلُّبات التي تحدُث صدفة وبين نتائج السياسات الجديدة قد تكون له نتائجُ وخيمة؛ فهو يعني عدم فهم ما يُفيد بالفعل؛ ومن ثَم إنفاق الأموال على ما لا يُجدي نفعًا، وإمساكها عما يُفيد.

ولتجنُّب هذه المشكلة، تخيَّل رجلًا يصعد مُرتفَعًا ومعه كلبٌ مربوط بزِمامٍ طويل قابل للامتداد. لا يمكنك أن ترى الرجل، والظلام يعمُّ المكان، لكن طَوق الكلب مُشِع، فتُراقب الكلب وهو يرتفع وينخفض، ويتوقف وينعطف. كيف تتأكد من أن الرجل يصعد أم يهبط أم يمشي جانبيًّا؟ وكيف تعرف سرعته؟ وعندما يُغير الكلب اتجاهه فهل يعني ذلك أن الرجل قد غيَّر اتجاهه أيضًا؟ عندما ترى الأرقام ترتفع أو تنخفض، اسأل دائمًا: أهذا بفعل الرجل أم الكلب؟

•••

إذا تسلَّقت المرتفَعات في نزهة أو عمل في أمريكا فقد تظهر على غلاف إحدى المجلات الشهيرة مثل «بيزنس ويك» أو «سبورتس إلاستريتد». هذا إن لم تكُن مؤمنًا بالخرافات وسعَيت ألا يراك أحد.

يستحقُّ الخجل المُفاجئ عند المشاهير تفسيرًا، وهذا التفسير موجود بالفعل. بئسَت هذه المجلَّات. فإذا كنتَ ممن يُصدقون في هذه الأشياء — والكثير يُصدقون فيها — فاعلم أن أيَّ شخص يجرؤ على الظهور على غلافها يستحثُّ الصدفة على أن تنقلب عليه وتنال منه.

عددٌ كبير من الأشخاص الذين يظهرون على أغلفة المجلَّات — وكذلك الشركات التي تُذكَر على هذه الأغلفة — يُراوغهم النجاح بعد ذلك؛ فالشركات التي كان الترابُ يومًا ما يستحيل بين أيديها ذهبًا تفقد سِحرها، ويأفُل نَجمُ ألمعِ الرياضيِّين. أصبحت هذه الظاهرة تُعرَف الآن باسم نحس غلاف «سبورتس إلاستريتد».

تحدَّثت المجلة نفسُها عن ذلك في عام ٢٠٠٢ في موضوع قائلةً: «الملايين من القُراء المؤمنين بالخرافات والعديد من الرياضيِّين يعتقدون أن الظهور على غلاف مجلة سبورتس إلاستريتد هو قُبلة الوفاة»، وذكَرت أن ظهور ٩١٣ حالةً من النحس من بين ٢٤٥٦ عددًا من المجلة هو «سوء حظٍّ واضح أو تراجُع في المستوى بعد الظهور على غلاف المجلة في ٣٧٫٢ في المائة من الحالات.» كان إيدي ماثيوز لاعبَ كرة قاعدة في الدوري المُمتاز ظهر على غلاف العدد الأول عام ١٩٥٤. وبعد أسبوع تعرَّض لإصابة في يده غيَّبَته عن سبع مباريات. وانكسر عُنق بَطلة في التزلُّج، وانتهى عِدَّة لاعبين فائزين بهزائم مُذلَّة أمام خصومٍ أدنى مكانةً، فضلًا عن أمثلةٍ أخرى عديدة للحظِّ التعِس المُفاجئ.

أهذا غريب؟ من وجهة نظرٍ إحصائية — لا سحرية — لا نعتقد ذلك. يستند رأيُنا إلى مبدأ مُعارِض بسيط مُفاده: حال الأشياء يتأرجح صعودًا وهبوطًا.

عند البحث عن تفسيرات للتغيير، تسهُل المبالغة في تفسير التقلبات الطبيعية ونِسبتها إلى سببٍ خاص مِثل النحس. لا حاجة للسِّحر، ليس المطلوب إلا أن نعرف أنه إذا تميَّز موسمٌ رياضي بعددٍ من الأهداف المُذهِلة، فمن النادر أن يتكرَّر ذلك في الموسم الذي يَليه، أو أن المُتزلِّج الذي يخوض في أكبر عدد من المخاطرات هو الذي يقترب أكثر من غيره إلى الفوز، ولكنه يقترب من الكوارث أيضًا. إذا كنت في حالة من «الصعود» وظلِلتَ فيها ما يكفي لتظهرَ على غلاف مجلة شهيرة، فقد يعني ذلك أنك في القمة، ولا طريق من القمة إلا إلى الأسفل. عندما يمتدُّ زِمام الكلب إلى الحد الأقصى فيشتدُّ عليه، فإنه في أغلب الحالات يجري عائدًا. هذا هو الأمر برُمَّته. أغلب الظن أن هذا النحس هو ما يُسمِّيه الإحصائيون الارتدادَ إلى الوسط. فإذا كانت الأمور في مدةٍ ما بعيدةً عن المُعتاد، فالمتوقَّع هو أن تكون الخطوة التالية لها الاقترابَ مما هو مُعتاد أو مألوف؛ فبعد مدة من الحظ السعيد جدًّا، قد تكون الصدفة تُعدُّ العُدَّة للانتقام، سواءٌ ظهرتَ على غلاف المجلة أم لا.

وعلى نفس المِنوال، عندما تبلُغ الأحوال أسوأ ما يمكن، يكون الغالب أن تعود إلى اتجاه التحسُّن. جاء على غلاف مجلة «بيزنس ويك»: «إنه عالم من أسعار الفائدة المُنخفضة جدًّا جدًّا جدًّا»، وذلك في إشارة إلى تكلفة الاقتراض في مارس ٢٠٠٧، ثم ما لبِثت أسعار الفائدة أن ارتفعت ارتفاعًا كبيرًا، لكن ذلك لم يحمل من الكوميديا ما حمَله غلافُ أحد الأعداد في عام ١٩٧٩ الذي كان يتنبأ ﺑ «نهاية الأسهُم»، عندما سجَّل مؤشر داو جونز ٨٠٠ نقطة. وفي يناير ٢٠٠٨ سجل المؤشِّر ١٢٥٠٠ نقطة. تناولت مجلة «إيكونوميست» ميل الأرقام إلى العودة إلى الاتجاه المُعاكس، حيث اعترفَت بأنها كانت قد تنبَّأت في أواخر تسعينيَّات القرن العشرين أن ينخفض سعرُ برميل البترول إلى خمسة دولارات، ومع ذلك تخطَّى سعر البرميل ١٢٠ دولارًا في عام ٢٠٠٨.

تحدو بنا مِثلُ هذه الأمثلة إلى افتراض أن أي شيء تُوصي به مجلةٌ مُتخصصة في الأعمال التِّجارية يُعتبر دليلًا أكيدًا يُرشدنا إلى فعلِ نقيضه؛ ذلك أن ما تُطالعنا به هذه المقالات الصحفية يستند في الأغلب إلى أحدثِ ارتفاع أو انخفاض، بدلًا من أن يستند إلى الميل إلى التقلُّب الذي يُعَد أكثرَ موثوقية. ومن المؤسِف عدمُ وجود دليل أكيد على الإطلاق في عالم الأعمال، فيما عدا دراسة واحدة أُجريَت في ٢٠٠٧، بعنوان «هل تُعَد المقالات الصحفية التي تتصدر أغلفة المجلات مؤشِّراتٍ مُعاكسةً فعَّالة؟» أعدَّها أكاديميون من جامعة ريتشموند ونُشِرت في دورية «فاينانشال أناليستس جورنال»، وقد تناولت العناوين الرئيسية للمقالات الأساسية التي تصدَّرت مجلات «بيزنس ويك» و«فورتشن» و«فوربز» منذ عشرين عامًا. ووجدت الدراسة أن «المقالات الصحفية الإيجابية عادةً ما تُشير إلى نهاية الأداء الاستثنائي، والأخبار السلبية عادةً ما تُشير إلى نهاية الأداء السيِّئ».

يقودنا الكشف عن نحس أغلفة المجلات إلى نقطةٍ مُمتعة، ولكنها تنطوي على مبالغة في الوقت ذاتِه. فليس كلُّ ما يرتفع أو ينخفض يفعل ذلك بتأثير الصدفة. في الواقع، قد تكون هناك أسبابٌ كامنة لا علاقة لها بالصدفة «ولا السحر». ولكن عندما نسأل: «لماذا حدث ذلك؟» يكون الجواب المحتمل الذي يجري تجاهلُه كثيرًا هو أن الصدفة هي ما تدفع الأمور إلى الارتفاع أو الانخفاض، كما يحدُث في تجمُّعات الإصابات السرطانية.

•••

الأمر ليس مُمتعًا فحسب. تخيَّل أن تتبع نظامًا غذائيًّا قِوامُه الكريمة المخفوقة وعُلبتا سجائر في اليوم لأربعين عامًا. المرجَّح في هذه الحالة هو أن تكون شرايينك في هذه الحالة مبطَّنة تمامًا كالنِّعال المكسوَّة بالفرو. وثَمة أزمةٌ قلبية في طريقها إليك.

هذا هو شأن الأزمات القلبية؛ تحدُث نتيجة تراكمات مضى عليها وقتٌ طويل وأسباب يرتبط أغلبها بما يحدُث طوال العمر، فمنها أسبابٌ جينية، ومنها ما له صلة بالنِّظام الغذائي، وكثيرًا ما يُسهِم فيها التدخين والتوتُّر وعدم ممارسة التمارين الرياضية — كلها أسبابٌ معروفة وشائعة — والضرر التراكمي. وتبلُغ الحكاية ذروتها في يوم يكون الشخص قد تناول فيه غَداءً دسمًا، أو شاهَد مباراةً مُثيرة على التلفاز، عندئذٍ لا يصل إلى عضلات القلب كَميةٌ كافية من الأكسجين، ثم …

إلا إذا كنت تعيش في بلدة هيلينا الصغيرة في مونتانا. ففي هذه البلدة — ووَفقًا لدراسةٍ باتت ذائعة الصِّيت — عُزِي الكثير من الأزمات القلبية لأسباب لا تقتصر على عادات الفرد، ولكنها تشمل جزئيًّا عاداتِ المُحيطين به أيضًا. فاستنشاق دخان السجائر الذي يَعلَق بالهواء — وهو ما يُعرَف بالتدخين السلبي — كثيرًا ما يكون السببَ الرئيسي. أو على الأقل هذا ما ذاع.

كانت الدراسة التي أُجريت في هيلينا مُذهلة. فقد تبيَّن منها انخفاضٌ نِسبته ٤٠ في المائة في حالات الأزمات القلبية التي ترِد إلى المستشفى المحلِّي عندما حُظِر التدخين في الأماكن العامة لمدة ستة أشهُر، مقارنةً بعدد الحالات في ستة أشهُر سابقة لمدة الحظر. وعندما انتهت مدة الحظر، ارتفع عدد الأزمات القلبية مجدَّدًا. ونُشِر البحث في دورية «بريتيش ناشونال جورنال».

ويجدُر بنا هنا أن نذكُر أن أحدًا منا لا صلة له بأي جماعة أو حملة تؤيد التدخين أو تُعارضه. وكلانا لا يُدخِّن، ولا يريد استنشاق دُخان الآخرين، لكن تفضيلاتنا الشخصية هذه، لا تُخفي مشكلةً تعتري دراسة هيلينا، ألا وهي تجاهُلها للتقلُّب الطبيعي للأرقام بين الارتفاع والانخفاض بفعل الصدفة.

ولكن هل للصدفة أن تُفسِّر انخفاضًا نِسبته ٤٠ في المائة لم يلبث أن ارتفع بعد ذلك مباشرةً إلى الرقم الأصلي؟ على غِرار الحال فيما يتعلَّق ببؤر الأمراض، يُهرَع الناس للبحث عن المعنى كلما ارتفعت الأرقام أو انخفضت. ويسألون عما سبَّب ارتفاعها أو انخفاضها. وهو السؤال الصحيح الذي ينبغي طرحه، بيدَ أن إجابته قد تُخيِّب الآمال. فالصدفة تُغيِّر الأرقام ارتفاعًا أو انخفاضًا تمامًا كما تُغيِّر ارتفاع الأمواج التي تتواتر على الشاطئ. فقد تتضخَّم الأمواجُ فترتطم بشدة، وأحيانًا تصغُر فتَتَتابع في تموُّجاتٍ صغيرة. هذا التتابع من الارتفاعات والانخفاضات غير المُنتظمة والتضخُّم والتضاؤل هو ما نُسميه بمفعول الصدفة. ولهذا التتابع — شأنه شأن الصدفة — أسباب. لكن هذه الأسباب أعقدُ وأكثر تشابكًا من أن نُميزها. تخيَّل هذه الأمواج أرقامًا ترتفع أحيانًا وتنخفض أحيانًا. أسهل خطأ قد يرتكبه المرء هو أن يرى موجةً كبيرة أو رقمًا كبيرًا فيفترض أن الأمور في ازدياد. لكننا جميعًا نعلم أن الموجة الكبيرة قد تأتي في أوقات الجزر. وليست هذه بعُصارة فِكر عميق. إنما هي أمورٌ يعلمها الجميع مِن مشاهداتهم في الحياة. ما ندفع به هنا هو أن ما هو معروف في الحياة يُستخدم في صورة أرقام. ينبغي التحرُّر من ذلك الشعور الذي ينتاب البعض إزاء الأرقام فيجعلهم يحسبونها غريبةً عن التجرِبة البشرية أو غير مفهومة أو عصية عليهم، أو لغة لن يتحدَّثوها أبدًا. فالأرقام تعمل بِناءً على مبادئ نستخدمها ونألَفُها جميعًا بسهولةٍ طَوال الوقت. وهكذا يمكننا أن نفهم بسهولة أن الرقم الذي يرتفع لحظيًّا — سواءٌ أكان يُعبِّر عن معدَّل الحوادث أم أي شيء آخر — قد يحدُث خلال اتجاه الأمور إلى الانخفاض، شأنه شأن الأمواج الكبيرة. فقياس قمَّة واحدة وصلت إليها الأرقام، وافتراض ارتفاع المد بناءً عليها، هو خطأ يُرتكَب بالفعل في عالم السياسة، رغم بساطته. يُفترض أن القِمم التي تصِل إليها الأرقام تُخبرنا بكل ما نحتاج إلى معرفته، وهو أن وراء هذا الارتفاع سببًا جوهريًّا هو تصرفٌ قُمنا به أو سياسةٌ نفَّذناها، في حين أن الصدفة وحدها هي التي أدَّت إلى الارتفاع اللَّحظي للأرقام. هل هذا واضح؟ يصعُب تصوُّر أن تحتاج السياسة أحيانًا إلى استقاء الدروس من المُتفرِّجين على الشاطئ، لكن هذا صحيح. فلِكي تُقيِّم دِقَّة التفسير، ليس المهمُّ هو حجمَ الموجة على الإطلاق، بل المد، أو حتى ارتفاع البحر. الموجة تَلفِت النظر، لكن عليك أن تنظر إلى ما حولها قبل أن تتأكَّد من وُقوفك على التغيير الحقيقي أو الذي سيستمر، وأنك لم تتشبَّث بما لا يعدو كونَه إحدى صنائع الصدفة. إن لم تفعل ذلك، فقد يصعُب عليك التمييز بين الأسباب والنتائج من جانب، والضوضاء المحيطة من جانبٍ آخر.

ولكن بالعودة إلى السؤال المِحوري، هل يصلُح ذلك باعتباره تفسيرًا لدراسة هيلينا؟ يُبين الرسم البياني التالي الوفَيات الناتجة عن الأزمات القلبية في مقاطعة لويس آند كلارك، بمونتانا. يعيش نحو ٨٥ في المائة من سكان المقاطعة في هيلينا. وما يرصُده الرسم هو الوفَيات الناتجة عن الأزمات القلبية، وليس من يدخلون المستشفيات للعلاج منها، لكنها أفضل بيانات أمكنَنا العثور عليها عن مدةٍ طويلة بالقدر الكافي قبل أن يدخل حظر التدخين حيِّز النفاذ في يونيو ٢٠٠٢. ظهر هذا الرسم لأول مرة في دورية «بريتيش ميديكال جورنال»، وقدَّمه براد رودو، أستاذ الباثولوجيا في كلية الطب بجامعة ألاباما.

تبرُز من الشكل البياني نقطتان؛ الاتجاه إلى الأسفل «انحسار المد»، وتقلُّب الأرقام في هذا الاتجاه «الأمواج». وعندما تنخفض الأرقام بحِدَّة في عامٍ واحد، يكون من المتوقَّع أن تتَّجه بعد ذلك إلى الارتفاع. نرى انخفاضاتٍ تتراوح بين ٣٠ و٤٠ في المائة في بعض الأعوام عن الأعوام السابقة لها، وهي أعوام ١٩٨٠ و١٩٨٨ و١٩٩٢ و١٩٩٤ و٢٠٠١.

fig4
شكل ٤-١: معدَّل الوفَيات نتيجةً لاحتشاء عضَلة القلب الحادِّ بين الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن ٣٥ عامًا، مرتَّبًا حسَب السن، مقاطعة لويس آند كلارك، مونتانا، ١٩٧٩–٢٠٠١.

في مستشفى سانت بيترز بهيلينا، كان عدد المُصابين بالأزمات القلبية الذين دخلوا المستشفى خلال مرحلة الدراسة صغيرًا، حيث كان مُتوسِّط العدد خلال مدة الحظر أربعةَ أشخاص في الشهر، وستة أو سبعة أشخاص في مدةٍ سابقة. ومن الجدير بالذِّكر أن القسم الأكبر من الانخفاض حدث خلال النصف الأول من مدة الحظر، وأن الأرقام عاودت الارتفاعَ في النصف الثاني منه. لذا فقد أصاب القائمون على الدراسة عندما توخَّوا الحذر في استنتاجهم أن إنفاذ قوانين حظر التدخين في أماكن العمل والأماكن العامة «قد يكون» مُرتبطًا بتأثيرٍ ما على الإصابة بأمراض القلب (وقد وضعنا عبارة «قد يكون» بين أقواس للتأكيد عليها).

هل أدَّى حظر التدخين في الأماكن العامة في هيلينا إلى تقليل الأزمات القلبية بنسبة ٤٠ في المائة؟ نشكُّ في ذلك. بل إن ذلك يُذكِّرنا بالكلب الملول الذي يحوم حول الرجل، لا بالرجل نفسِه. فقد كانت المعلومات الإحصائية حول الدراسات المُجراة على تأثير هذه الحظور حول العالم قليلة. وأكَّدَت دراسةٌ جرى تداوُلها على نطاقٍ واسع في اسكتلندا، واعتمدت على عيِّنة من المستشفيات أن حظرًا مُماثلًا فُرِض هناك قلَّل عدد حالات دخول المستشفيات بسبب الأزمات القلبية بنسبة ١٧ في المائة، وهو ما يُعتبر تغييرًا كبيرًا آخَر. حتى أظهرت البيانات الرسمية عن كلِّ من دخلوا المستشفيات أن الانخفاض كانت نِسبته ٨ في المائة تقريبًا، وكذا فقد كان الاتجاه في الآونة الأخيرة قبل الحظر يَنزِع إلى الانخفاض بنسبة ٥ أو ٦ في المائة، وفوق هذا وذاك فقد حدث قبل ذلك بسبع سنوات انخفاضٌ نِسبته ١١ في المائة. يُصعِّب وجودَ عِدَّة مبادرات أخرى في السنوات القليلة الأخيرة ترمي لتقليل الأزمات القلبية في اسكتلندا الجزمُ بتأثير الحظر هناك، إن وُجد أي تأثير. ومع ذلك لن نُفاجأ إذا علِمنا أن تأثيره كان أقلَّ بكثير مما ادَّعاه الباحثون، ونتوقع أن يتَّضح ذلك بمرور الوقت.

كان مرورُ الوقت سيُعتبر اختبارًا جيدًا لمعرفةِ ما إذا كان الانخفاض شبيهًا بالكلب الملول — أي صدفة أو تقلُّب قصير المدى إلى الأعلى أو الأسفل — أم إنه تغييرٌ حقيقي، لولا أن الحظر في هيلينا رُفع بعد ستة أشهُر. وأفادت تقارير بأن حظرًا فُرِض في كاليفورنيا — واقترن بزياداتٍ كبيرة في الضرائب على التبغ، وحملة على التدخين — تصادف مع انخفاض في الوفَيات الناتجة عن الأزمات القلبية يفوق أيَّ مكان آخر في الولايات المتحدة بنسبة ٥ أو ٦ في المائة، لكن هذا كان الإجماليَّ التراكميَّ لمدة تِسع سنوات. والآن قارِنْ ذلك بالزعم بحدوث انخفاض نِسبتُه ٤٠ في المائة في عدد الأزمات القلبية نتيجةَ حظرٍ مدته ستة أشهُر وحده؛ وذلك استنادًا على عددٍ قليل من الحالات.

•••

عادةً ما يغيب هذا التنوع الحتمي في الأرقام عن الفهم؛ إذ يُسارع الناس إلى التفسير المُفرِط لما يكون — في أحيانٍ كثيرة — من صنائع الصدفة. من الأمثلة المُثيرة للجدل وغير الواضحة إلى حدٍّ ما كاميراتُ مراقبة السرعة المثبَّتة على جوانب الطُّرق. هذه الأجهزة قاتلة؛ فهي تقتل فُرَص الحوار إن لم تقتل احتماليات التكدُّس المروري. إذا عارضتَها اتُّهمت بالرغبة في قتل الصِّبية الصغار أثناء لهوهم، وفي الانطلاق بلا ضابطٍ بين المناطق السكنية بسرعة ٩٠ ميلًا في الساعة. وإذا أيَّدتَها اتُّهمت بكراهيتك لحريات الآخرين وهوَسك بالتحكُّم، بل وبجهلك الفاضح بواقع المنظومة المعيبة. يُصوَّر المُعارِضون كمُتهرِّبين من المسئولية المدنية لا يكترثون لشيء، بينما يُتَّهم المؤيِّدون بأنهم يريدون لسائقي المَركبات أن يتكبَّدوا الغرامات حتى يتركوا عملهم على الطريق وتمتلئ خزائن الشرطة بأموالٍ ضريبة خفيَّة. جاء في عدد ١٠ أغسطس ٢٠٠٦ من صحيفة «ديلي تيليجراف»: «وجد أحد المسوح أن ١٦ في المائة من الناس يؤيدون التدمير غير القانوني لكاميرات مراقبة السرعة على يد عصابات الاقتصاص».

كتب لوك تراينور – ليفربول ديلي بوست

كشفت أرقامُ أمس عن أن كاميرات مراقبة السرعة في ميرسيسايد ضبطَت أشخاصًا يقودون سياراتهم بسرعة ١٣٤ ميلًا في الساعة. ففي إحدى الحالات ضُبِط سائق وهو يقود سيارته بسرعة ١٣٤ ميلًا في الساعة في منطقةٍ تبلُغ السرعةُ القُصوى بها ٥٠ ميلًا في الساعة؛ أي إنه كان يقود بما يقترب من ثلاثة أمثال السرعة القُصوى، وذلك في طريق إم ٦٢ بالقرب من حانة روكيت. وخلال ستة أشهُر ضُبِط ١١٦ قائد مَركبة وهم يقودون بسرعةٍ تتجاوز ٧٠ ميلًا في الساعة في منطقةٍ تبلُغ السرعةُ القُصوى فيها ٣٠ ميلًا في الساعة.

وهنا قد تنطلق ثلاثُ صيحات تأييد لكاميرات مراقبة السرعة، ولكن …

كتب فيليب كاردي – صن
توقيف سائق قاد بسرعة ٤٠٦ أميال في الساعة

أُصيب قائد السيارة بيتر أوفلين بالذهول عندما تلقَّى إشعارًا بتجاوزه سرعة القيادة القُصوى، جاء فيه أن إحدى الكاميرات المثبَّتة على جانب الطريق ضبطَته يقود بسرعةٍ مُذهِلة بلغَت ٤٠٦ أميال في الساعة. كان فلين، وهو مُدير مبيعات، يقود سيارة من طِراز بيجو ٤٠٦ في ذلك التوقيت، وقال: «نادرًا ما أُسرعُ في القيادة؛ لذا فمن المؤكَّد أني سأطعن في ذلك الادِّعاء.»

عندما تعلو الأصوات الساخطة من الجانبَين، تُصبح المناقشة العاقلة محفوفةً بالمخاطر، ولكن لماذا يدور الجدل أصلًا؟ فمن المفترَض أن يسهُل التوصُّل إلى الرأي السديد بِناءً على الأرقام؛ هل تقع المزيد من الحوادث في وجود الكاميرات أم في غيابها؟ تبدو الإجابة سهلة؛ ففي المُجمَل ينخفض عدد الحوادث عند تثبيت الكاميرات، وأحيانًا يكون الانخفاض كبيرًا.

بيانٌ صحفي من وزارة النقل، ١١ فبراير ٢٠٠٣

أعلن وزير النقل أليستير دارلينج اليوم عن تراجُع معدَّل الوفَيات والإصابات الخطيرة بنسبة ٣٥٪ على الطُّرق التي تعمل فيها كاميرات مراقبة السرعة. وتأتي النتائج من تقريرٍ مستقلٍّ عن خُطة تجريبية مُدتها عامان سُمِح فيها لثماني مناطق بإعادة استثمار بعض عوائد غرامات تجاوُز السرعة المقرَّرة لتثبيت المزيد من الكاميرات والتوسع في استخدامها.

قال وزير النقل أليستير دارلينج: «يُظهر التقرير بوضوحٍ فعاليةَ كاميرات مراقبة السرعة. فقد انخفضت السرعات وانخفض معها عددُ الوفَيات والإصابات … وهذا يعني أنه من الممكن إنقاذُ حياة المزيد من الأشخاص وتجنُّب المزيد من الإصابات. من الواضح أن الإسراع في القيادة خطير، ويُسبب الكثير من المُعاناة. أتمنَّى أن يؤكِّد ذلك على الرسالة التي مُفادها أن كاميرات مراقبة السرعة تهدف لمنع الإسراع في القيادة وجعل الطُّرق أكثرَ أمانًا. فإذا لم تُسرِع في القيادة، فلن تُوقَّع عليك الغرامة.»

أفادت الوزارة أن ذلك الانخفاض في الوفَيات والإصابات الخطيرة الذي بلَغَت نِسبته ٣٥٪ يُعادل إنقاذ ٢٨٠ شخصًا، ومنذ ذلك الحين زاد عددُ الكاميرات. فهل انتهى الأمر عند ذلك؟ ليس تمامًا. فهناك استثناءات؛ ففي بعض المواقع ارتفع عددُ الحوادث بعد تثبيت كاميرات مراقبة السرعة. لكن لا تحسم هذه النتائج الاستثنائية القليلة الجدل، نحتاج إلى معرفةِ ما يحدُث عند أخذ كلِّ الأمور في الاعتبار؛ ففي هذه الحالة لم يزَل هنالك انخفاضٌ كبير.

قد يبدو التحفظُ الثاني معقَّدًا، لكنه بسيطٌ من حيث المبدأ؛ فغاية المراد هي التمييز بين الأمواج والمد، أو بين الكلب والرجل، «وهو أمرٌ فضَّلَت وزارة النقل تجنُّبه لعدد من السنوات». فعلى غِرار الأمواج، يرتفع وينخفض معدَّلُ حدوث الأشياء في هذا العالم، بدون أن نعرف الكثيرَ عن الأسباب الكامنة وراء الارتفاع أو الانخفاض؛ فقد تحدُث زيادةٌ هذه المرة، وانخفاضٌ في المرة التالية، وارتفاعٌ في أسبوع، ثم انخفاض في آخَر، كل ذلك بمحض الصدفة. والناس على وجه الخصوص لا يتصرفون بانتظامٍ تام. ولا يُقسِّمون أنفُسهم إلى فئاتٍ مُتساوية، ولا يستيقظون أو يأكلون أو يخرجون أو يستقلُّون الحافلة أو يتعرضون لحادث في الوقت نفسِه ولا على أوقاتٍ مُتساوية. فعددُ من يفعلون أيًّا من هذه الأمور في أي وقت محدَّد لا ينفكُّ يرتفع وينخفض.

وبالطبع كنا نعرف ذلك بالفعل. فإحصائيات الحوادث في أي موقع بعينه من المرجَّح أن ترتفع وتنخفض من وقت إلى آخر؛ لأن هذا دأبها؛ قد يقع حادثٌ خطير في شهرٍ ما، ثم يمرُّ الشهر التالي بدون أن يقع حادثٌ مُماثل. الحالة التي لو تحقَّقت لكانت غريبةً هي أن يتساوى عددُ الحوادث تمامًا في أي مكان محدَّد خلال مدة اثنَي عشَر شهرًا. حُسنُ الحظ وسوء الحظ هما ما يُحدِّدان الإحصائيات في أغلب الأحيان، كما تعلو الأمواج وتنخفض.

يشتدُّ وقعُ هذه الحُجة عندما نُدرك أنه — بافتراض ثبوت كل المُتغيرات — إذا كانت الأرقام في الآونة الأخيرة أكبرَ من المُعتاد، فالأرجح أن يكون تغيُّرها القادم انخفاضًا لا ارتفاعًا. فبعد الموجة الكبيرة كثيرًا ما تأتي موجةٌ أصغر، والكلب يذهب في اتجاه ثم إلى الاتجاه الآخر. لو وقع حادثَا تصادمٍ عنيفان في شهرٍ ما على طريقٍ عادي، لكان من المُفاجئ ألا تهدأ الأمور بعد ذلك، ما لم يكُن في الطريق عيبٌ واضح.

إذا طبَّقنا هذا المبدأ على حوادث الطُّرق، يكون له معنًى نُوضحه بالآتي: ثبِّت كاميرا لمراقبة السرعة في موقعٍ كانت الأرقامُ قد ارتفعت فيه لتوِّها؛ أي على قمةِ موجةٍ كبيرة — عادةً ما يتزامن ذلك مع بدء تثبيت الكاميرات بِناءً على الاعتقاد بأن طُرقًا بعينها تُمثِّل مشكلة — وستجد أن الأرجح أن يكون التغير التالي في عدد الحالات انخفاضًا لا ارتفاعًا، سواءٌ أكانت كاميرا مراقبة السرعة موجودةً أم لا. فالقمة تتحوَّل إلى قاع، فتنخفض إحصائيات الحوادث، وبهذه البساطة، تبدأ الحكومة في الترويج لنجاحها.

تُظهِر لنا تجرِبةٌ بسيطة كيف أن الصدفة المحضة يمكن أن تُنتِج ما يُشبِه الأدلة التي تؤيد فعالية كاميرات مراقبة السرعة، ولن تتطلب التجرِبةُ أكثر من رميِ النَّرد. لكن قبل أن نصِف التجرِبة، يجدُر بنا أن نُوضِّح رأينا خشيةَ أن نُرمى بالتطرف في اتجاه أو غيره. بِناءً على الأدلة الإحصائية، الأرجح أن معظم كاميرات مراقبة السرعة تُقلِّل الحوادث بالفعل، ومن المرجَّح أيضًا أن بعضها لا يفعل ذلك، وذلك وَفقًا للمكان الذي تُثبَّت فيه. أي إنه من المرجَّح أن تأتيَ بفائدةٍ ما، بيدَ أن البعض — بما في ذلك الحكومة — يُبالغون في تقدير هذه الفائدة مبالغةً شديدة. ولم يؤخَذ في الحُسبان تأثيرُ سَحب دوريات الشرطة والاستعاضة عنها باستخدام الكاميرات المثبَّتة على جانبَي الطريق على مخالفات القيادة الأخرى مثل القيادة تحت تأثير الكحول — وهو تأثيرٌ يصعب تقديره للغاية. (انظر أيضًا الفصل السابع المتعلق بالمخاطر.)

لنعُدْ إلى التجرِبة: ابحث عن مجموعة من الناس — عدد طلاب الفصل الدراسي العادي قد يكفي، وقد يكفي أقلُّ من ذلك — واطلب من كل شخص أن يتقمَّص دور مسافة من الطريق، كما فعلنا مع مجموعةٍ من الصحفيِّين الزملاء. وليختَر كل مُشاركٍ ما يريد من الطُّرق؛ طريق إيه ٤٢ الذي يمرُّ بآشبي دي لا زوش، أو طريق بي ١٧٦٤ إلى دونكاستر، كلها طُرقٌ عادية تمامًا. وبعد ذلك، يرمي كلُّ مشارك النرد مرَّتَين ويجمع الرقمَين اللذين سيظهران. يُمثِّل المجموع عدد الحوادث على كل طريق. وهكذا ستجد أنه بمحض الصدفة، يحدث على بعض الطُّرق عددٌ أكبر من الحوادث مقارنةً بالطُّرق الأخرى، كما يحدُث في الحياة الواقعية عندما يحدُث بالصدفة أن تُفلِت المكابح أو يتشتَّت انتباه السائق في لحظةٍ ما على سبيل المثال. في مجموعتنا التي كان قوامها عشرين صحفيًّا مُتطوعًا تقريبًا استهدفنا بعد التجرِبة الأولى الطُّرقَ التي بدَت بؤرة للحوادث، وذلك بتحديد كل من كان مجموع رقمَيه ١٠ أو ١١ أو ١٢. وأعطَينا لكلٍّ من هؤلاء صورةً فوتوغرافية لكاميرا مراقبة السرعة، وطلبنا منهم رميَ النرد من جديد، مرَّتَين أخرَيين. ما النتيجة؟ كان لصور كاميرات مراقبة السرعة مفعولٌ فوري. إذ لم تتكرَّر نفس الأرقام الكبيرة لدى أيٍّ ممن أمسكوا بصور كاميرات مراقبة السرعة.

قد يعترض شخصٌ ما بحُجَّة أن ما استُخدم في التجرِبة كان مجرد صور للكاميرات وليست الكاميرات الحقيقية، وقد يزعم بِناءً على ذلك أن التجرِبة لا تُثبت شيئًا. لكن الشاهد هو أنه إذا وُضعت صورة أو حتى حصاة على الرصيف على جانب موقع بؤرة حقيقية للحوادث، فإن فعالية الحصاة أو الصورة ستكون مُساويةً لفعالية الكاميرا، والسبب البسيط هو أن الارتفاع والانخفاض في عدد الحوادث كان بفعل الصدفة، تمامًا كما قد تظهر الستة عند رمي النرد بفعل الصدفة أيضًا. فقط لأننا وضعنا الكاميرات «أو صور الكاميرات، أو الحصاة» في مكانٍ شاءت المصادفة أن يكون عدد الحوادث فيه مُرتفعًا في الآونة الأخيرة، فمن المرجَّح جدًّا مهما فعلنا أن ينخفض عدد الحوادث بفعل المصادفة. ويبدو الأمر كما لو كان لنا علاقة بما حدث. بينما في الحقيقة، كلُّ ما فعلناه هو أننا ركِبنا الموجة ثم نسَبنا إلى أنفُسنا الفضلَ فيما صنعَته الصدفة.

استبعد باحثو وزارة النقل في أول الأمر فكرةَ الارتداد إلى الوسط — التي تعني أنه عندما يكون رقم قد وصل إلى قمة أو قاع مؤخرًا، فالمرجَّح أن تكون حركتُه القادمة في اتجاه العودة إلى الوسط — وذلك على الرغم من طعننا في أرقامهم. في الرسم البياني الآتي، يرتفع معدَّل الحوادث وينخفض كما تفعل الأمواج في الحياة الفعلية. تخيَّل أن تُثبَّت الكاميرات في أماكنها عند الزمن أ، الذي تصادَف أن يكون معدَّل الحوادث فيه مُرتفعًا، ثم لُوحظ انخفاض المعدَّل إلى ب. كان هذا سيحدُث على أي حال، لكن نظرًا إلى وجود الكاميرات، فمن السهل الادعاءُ أن الكاميرات هي التي تسبَّبت في الانخفاض. وهذا هو ما فعلته وزارة النقل بالفعل. وبعد الادعاء لمدة عامَين أن الكاميرات أنقذَت حياة عدد كبير من الأشخاص، انخفضت تقديراتُ فوائد الكاميرات انخفاضًا كبيرًا عام ٢٠٠٦ عندما جرَت للمرة الأولى محاولةٌ لاحتساب مِقدار الدور الذي لعِبته ظاهرةُ الارتداد إلى الوسط في ذلك، ونالت الصدفة أخيرًا حقَّها المهضوم.

fig5
شكل ٤-٢: النجاح بالصدفة.

وحتى بعد المراجعة ظلَّت أرقام وزارة النقل غيرَ مُرضية؛ فقد كانت نتيجةً لمزيجٍ غريب من التعريفات وبعض العمليات الحسابية المُتخبِّطة. كان من الضروري أن تُصحَّح الأرقام الواردة في البيان الصحفي الوزاري بعد طعننا فيها. لكنها بعد أن تواضعت في زعمها كانت على الأرجح أقربَ قليلًا إلى الحقيقة.

سِتون في المائة من إجمالي الانخفاض الذي شهِدته الأماكن التي ثُبِّتت فيها كاميرات مراقبة السرعة في عدد الأشخاص الذين يتعرَّضون لحوادث تصادُم مُميتة أو خطيرة أصبح يُعزى إلى الارتداد إلى الوسط، وكذا فقد نُسِب ١٨ في المائة من الانخفاض إلى ما يُسمى بتأثيرات «الاتجاه»؛ أي إن عدد الحوادث كان آخذًا في الانخفاض في كل مكان، بما في ذلك الأماكن التي ليس بها كاميرات، وذلك بفعل أسباب منها على سبيل المثال تحسينُ مُخططات الطُّرق ومواصفات الأمان في السيارات. ولم يترك ذلك — بعد مراجعة الوزارة للأرقام — إلا نحو ٢٠ في المائة من الفوائد الظاهرة لكاميرات مراقبة السرعة لتُنسَب بالفعل إليها، مع أن هذا الرقم — هو الآخر — يُعَد مَحلًّا للجدل.

هناك خياران لمراقبة تيَّار الحوادث في الأماكن التي تُثبَّت فيها كاميرات مراقبة السرعة بدلًا من الانشغال بالموجة المُنفردة، وهما: (أ) الانتظار حتى نشهد عددًا كبيرًا من الموجات ترتفع وتنخفض، وهو ما يُعتقَد الآن أنه انتظارٌ يدوم خمسَ سنوات في حالة كاميرات مراقبة السرعة، (ب) ألَّا يبدأ القياس من القِمم وحدها، بل تؤخَذ الكثير من القياسات ويجري اختيار نِقاط عشوائية للقياس. وبمزيدٍ من البساطة، يُمكننا أن نتذكَّر أن هناك قدرًا كبيرًا من المصادفة في هذا الأمر.

وللسياسة العامَّة حول العالم تاريخٌ صادم بحقٍّ من الجهل بما إذا كانت المنافع التي تزعم تحقيقها في أمثلةٍ قليلة يكثُر الاستشهاد بها قد تحقَّقت بالكامل بمحض المصادفة أو حُسن الطالَع، أم إنها — السياسة العامَّة — قد أحدثَت بالفعل الفارقَ الذي تزعمه. ففي وزارة الداخلية على سبيل المثال، وجَد تقريرٌ صدرَ في أوائل عام ٢٠٠٦ يتناول الأدلة على فعالية سياسة مكافحة معاودة ارتكاب الجرائم أنه لم تصل أيُّ سياسة إلى المِعيار المطلوب من الفعالية المُثبتة؛ لأن الكثير من السياسات لم تستبعد الآثار الممكنة للمصادفة عند حصر الارتفاع أو الانخفاض في عدد الجرائم التي يرتكبها الخاضعون لعدة أنظمة. وهذا لا يعني ألَّا شيء يُجدي نفعًا، بل يعني أننا لا نعرف ما الذي يُجدي نفعًا لأننا لم نستطع التمييزَ بين الرجل والكلب. رد مستشارٌ رفيع في وزارة الداخلية — وكان عالمًا بالألاعيب الخبيثة للصدفة وقدرة الأرقام على الخداع بسهولة — على الوزراء الذين سألوه عما يُجدي نفعًا في منع معاودة ارتكاب الجرائم بقوله: «ليس عندي أدنى فكرة.»

هل يمكن أن تعمل الحكومة على هذا النحو بالفعل؟ بدون أي تدقيقٍ إحصائي، وبلا إدراك لتأثير الصدفة والحظ؟ الإجابة أن هذا ما يحدُث كثيرًا بالفعل.

في المملكة المتحدة، لم يبدأ التغيُّر في هذا الميل إلى تجاهُل الحاجة إلى التحقُّق الإحصائي إلا مؤخرًا، وذلك بالتقبُّل البطيء — الذي كثيرًا ما يكون على مضض — لحاجتنا إلى أكثرَ من مجرَّد رواية معقولة (موجة واحدة) قبل أن نُقرر سياسةً جديدة للتعامل مع معاودة ارتكاب الجرائم، أو لطُرُق التدريس، أو للرعاية الصحية أو لأي وظيفة أخرى من وظائف الدولة. الساسة من أكثر الناس تصلبًا في الرأي، يتعللون أحيانًا بضغط الوقت والتكلفة والتوقعات العامة لتبرير استحالة إجراء التجارِب العشوائية المُنتظمة التي تُميز بين خطوط النمر الحقيقية والخطوط الوهمية، ويبدو أن السبب يكون أحيانًا عدمَ اهتمامهم أو عدم فهمهم، ولكن بشكل أو بآخر، فإنهم يسعَون إلى بناء سياساتهم على ما هو أكثرُ من الحظ والقصة الجيدة؛ وبذلك يقعون — إما بإرادتهم أو رغمًا عنهم — ضحيةً للصدفة.

وإليك مثالًا آخرَ سنتناوله بمزيد من التفصيل في فصلٍ لاحق. تتأرجح نتائجُ اختبارات المدارس انخفاضًا وارتفاعًا من عام إلى آخر. بل إنها في واقع الأمر تتقلب لدرجة أن جداول ترتيب المدارس تتغير كلَّ عام تغييرًا كبيرًا. لكن، هل ما يؤدي إلى هذه الارتفاعات والانخفاضات هو طُرقُ التدريس المتَّبَعة في المدارس؟ أم إن الفارق يُعزى إلى التقلُّبات من عام إلى عامٍ لاحق في قدرات الطلاب التي تقيسها الاختبارات؟ يبدو الاحتمال الأخير أرجح، وربما توقَّعت ذلك؛ الأمر الذي يبدو أن له اليدَ العُليا في تحديد نتائج اختبارات المدارس هو طبيعة الدارسين فيها. في واقع الأمر، تخضع نتائج أي مدرسة في أي عام لحظِّ الدارسين فيها لدرجة أن ضوضاء الصدفة تكون أشبهَ بالزئير الزاعق في نسبةٍ تتراوح بين ثُلثَي وثلاثة أرباع المدارس ككلٍّ، ولا يمكننا أن نسمع الصوت الهامس للتأثير الفعلي أو للسبب الخاص؛ ومن ثَم لا يُمكننا القول بأي قدر من الثقة إن هناك أيَّ فارق على الإطلاق يُحدِثه أداء المدارس نفسها. تُعقِّد الصدفة القياسات لدرجةٍ تحدو بالبعض إلى أن يعتبر القياسات عديمةَ الجدوى. ونحن لن نقترب من هذا الحد من المبالغة. لكننا نُقرُّ بأن هناك بياناتٍ تُنشر بانتظامٍ تُعطي انطباعًا زائفًا بأن هذه الموجات هي انعكاس للمستوى التعليمي للمدرسة نفسِها، وتتحدث عن التغيرات في الأداء من عام إلى آخر كما لو كانت مؤشراتٍ واضحةً للتقدم.

أهذا مدٌّ آخِذ في الارتفاع أم موجة فحسب؟ أهو الرجل أم الكلب؟ أهي خطوطٌ وهمية أم نمرٌ حقيقي؟ يمكننا التيقُّظ، بل نحن بحاجة إلى التيقُّظ، لكننا سننخدع من جديد. أقلُّ ما يُمكننا فِعله هو أن نُقرر أن نُصعب على الصدفة خداعنا. ويبدأ ذلك بمعرفةِ ما تستطيع الصدفة فِعله، ويسهل ذلك إذا كبَحْنا اندفاعنا الغريزيَّ لإطلاق الأحكام، واحترسنا من النمر الوهمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤