الفصل الخامس

المتوسطات: قوس قزح الأبيض

تصنع المتوسطات حيلتَين؛ الأولى أنها تخلط المُكوناتِ المختلفةَ للحياة معًا في بوتقةٍ واحدة. قد تعمُّ الفوضى العالم، ولكنه يبدو هادئًا فورَ احتساب المتوسطات. متوسط الأجور، ومتوسط أسعار المنازل، ومتوسط العمر المتوقَّع، ومتوسط معدل الجريمة، ومتوسطاتٌ أقلُّ وُضوحًا مِثل متوسط معدل التضخم … كل هذه المتوسطات تدخل في مُكوناتها ارتفاعات وانخفاضات. تأخذ المتوسطات التجارِب البشرية الفوضوية كلها، التي يكون بعضها مُرتفعًا وبعضها مُنخفضًا، وبعضها هنا وبعضها هناك، وبعضها يكاد يخرج من الرسم البياني، ثم تُطحن كلُّ هذه البيانات معًا وتُخرج لنا رقمًا واحدًا. فهي تُسطح النِّهاد وترفع الوِهاد لتُخبرك بارتفاع مساحة من الأرض كما لو كانت مُستوية.

ولكنها ليست مُستوية. وإذا نسيت أمر التنوع الكامن وراء كلِّ متوسط فإنك تُخاطر بالوقوع في المشاكل؛ إذ ستكون عندئذٍ كرَجلٍ غرِق في نهرٍ سمِع أن متوسط منسوب مياهه يصل إلى ركبتَيه فحسب. إذن فالحيلة الأولى تحمل في طيَّاتها مشكلة؛ إذ تكبح الخيال عن تصور حقيقة مُزعجة، وهي حقيقة أن العالم هو مزيجٌ من العناصر غير المُتساوية.

أما الحيلة الثانية، فهي أن المتوسطات يُنظر إليها باعتبارها هي الحالةَ الطبيعية في حين أنها قد تكون حالةً شاذة. قد تبدو شبيهة بالجميع في حين أنها قد لا تكون أي شخص على الإطلاق. ترمز إلى ما هو عادي، مع أنها قد تتشكَّل بفعلِ ما هو استثنائي. قد تُغْريك لتظنَّ أنها في الوسط، في حين أنها قد تكون أبعدَ ما يكون عنه. يعتمد فهمُ ما وراء المتوسط على محاولة تصوُّر العناصر المختلفة التي يمزجها معًا. تتَّضح هذه الفكرة من خلال صورتَين؛ اللون الأسود/البُنِّي الكثيف الذي يتركه الأطفال عند لهوهم بعُلَب الطِّلاء هو إلى حدٍّ ما متوسط — لألوان الطبيعة — ومن نافلة القول أن هذا المتوسط تلخيصٌ خادع لمنظر الطبيعة. «الأبيض، في المتوسط»، هو ما كنَّا سنراه إذا مُزِجت كل ألوان قوس قزح معًا، ثم وزَّعناها بالتساوي. ولكن هذا يُفرغ من الأصل كلَّ ما هو مهم — التنوع السحري للألوان. كلما رأيت مُتوسطًا، تذكَّر أنه «قوس قزح أبيض»، وتخيَّل طيف الألوان المُتوهِّجة الذي يُخفيه.

•••

في خطاب «حالة الاتحاد» الأخير في ولايته، وتحديدًا في يناير عام ٢٠٠٨، حاجَج الرئيس جورج بوش الابن مؤيدًا استمرارَ التخفيضات الضريبية التي طُبِّقت منذ عام ٢٠٠١، وكان زعمه حينئذٍ أنه يتحدث بِاسم عنصر مهم في المجتمع الأمريكي، وهو دافع الضرائب المتوسط.

قال في خِطابه: «إن لم يتصرف الكونجرس، فستُلغى معظم الإعفاءات الضريبية التي طبَّقناها خلال السنوات السبع الماضية.» وأضاف أن ١١٦ مليون دافع ضرائب أمريكي سترتفع الضرائب المستحَقَّة عليهم بقيمة ١٨٠٠ دولار في المتوسط.

وكان ذلك صحيحًا تقريبًا. فالتشريع الأوَّلي الذي يقضي بالتخفيضات الضريبية كان له تاريخُ انتهاء. وإذا لم يُجدد، فستنتهي التخفيضات وسترتفع الضرائب. ووَفقًا لحسابات مركز السياسات الضريبية — وهو مؤسَّسة بحثية مستقلة — كان متوسط الزيادة المتوقَّعة في الضرائب ١٧١٣ دولارًا، وهو رقمٌ قريب إلى حدٍّ كافٍ من القيمة التي ذكرها الرئيس، وهي ١٨٠٠ دولار. وبذلك فإن المُواطن الأمريكي العادي لن يُلام إذا خاطَب نفسه قائلًا: كان الرئيس يقصدني أنا.

وليس هذا صحيحًا في الحقيقة. قد يريد بوش للأمريكيين أن يظنُّوا أنه يقصدهم بالفعل، لكنه لم يكُن يقصدهم على الأرجح. فنحو ٨٠ في المائة من دافعي الضرائب كانوا سيخسرون أقلَّ من ١٨٠٠ دولار، ومعظمهم كانوا سيخسرون أقل من ذلك الرقم بكثير. أي إن أكثر من ٩٠ مليون من ١١٦ مليون دافع ضرائب لم تكُن ضرائبهم ستزداد بهذا القدر. قد يبدو للكثيرين — بالحَدْس — أن الأمر مُستحيل. فكيف يمكن أن يكون كلُّ هؤلاء الأشخاص — وبكل هذه الزيادة عن نصف العدد — تحتَ المتوسط؟ أوَليس المتوسط مُرادفًا للعادي؟

وقد عاد ذلك الارتباك على الرئيس بالفائدة. فلما كان مُعارضًا لزيادة الضرائب، فقد أراد للرقم أن يبدوَ كبيرًا لأكبر عدد مُمكن من الناس، وجعلهم يتصوَّرون أن التجرِبة التي سيمرُّ بها الناس في الظروف العادية هي زيادة الضرائب بقيمة ١٨٠٠ دولار، في حين أن واحدًا فقط من كل خمسة أشخاص هو من كان سيدفع هذا المبلغ.

كيف فعل بوش الابن ذلك؟ استخدم طريقة خلط الأمور في بوتقةٍ واحدة. فقد وضع كلَّ دافعي الضرائب في خليطٍ واحد، من كانسي الشوارع إلى مُديري صناديق التحوط الذين يملكون اليخوت. قد تُخاطب نفسك قائلًا: لا مشكلة في ذلك. لكن الأكثر ثراءً أثرياء لدرجة أنك تستطيع تخفيفهم بملايينَ من أصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة، وسيظلُّ المزيج الناتج، حسنًا، ثريًّا.

على الرغم من أن هذا المتوسط يشمل الجميع، فإنه لا يُمثل الشخص العادي. تذكَّر الطُّرفة التي تحكي أن أربعةَ رجال كانوا في حانة ثم دخل عليهم بيل جيتس. فهتف الأربعة متهلِّلين.

فسألهم: «لماذا ابتهجتم؟» فتمالَك أحدُهم زِمام نفسه وردَّ قائلًا: «ألا تعلم ما فعلتَه بمتوسط دخولنا لتوِّك؟»

أو فكِّر في امتلاك كل الناس تقريبًا لأكثرَ من متوسط عدد الأقدام. ذلك لأن قليلًا من الناس لديهم قدمٌ واحدة فقط، أو ليس لديهم أيُّ أقدام، وهكذا نرى أن التأثير الطفيف لأقليةٍ قليلة هو مع ذلك قويٌّ بما يكفي لجعل المتوسط الكلِّي أقلَّ قليلًا من قدمَين. وبذلك فإن من لديه قدمان لديه في الحقيقة عددٌ أكبر من المتوسط من الأقدام. لا تهمل ما يدخل في تكوين المتوسط أبدًا، ولا تنسَ أن تأثير عاملٍ واحد أو جزء واحد من الخليط قد يجعل للمتوسط كلِّه قيمةً مُفاجئة وربما مُضلِّلة.

يقسم الرسم المُقابل دافعي الضرائب إلى مجموعات، في كل مجموعة ٢٠ في المائة من دافعي الضرائب، ويُبين الزيادة في عبء الضرائب على كل مجموعة. نجد أن الزيادة في الضرائب على المجموعة الوُسطى التي تُمثل ٢٠ في المائة من الإجمالي لن تكون ١٨٠٠ دولار، بل ٨٠٠ دولار. وسيكون متوسطُ الزيادة على المُنتمين إلى الخمس الأدنى ٤١ دولارًا في المتوسط. يمكننا أن نرى أن أربعًا من المجموعات الخمس — أي نحو ٨٠٪ من دافعي الضرائب — سيدفعون أقلَّ من المتوسط. يمكننا أيضًا أن نرى ما يرفع قيمة المتوسط، ألا وهو العمود الطويل الذي يُمثل دخل فئة اﻟ ٢٠ في المائة الأكثر ثراءً.

fig6
شكل ٥-١: من يدفع ماذا؟

إذا نظرنا إلى هذه المجموعة الأخيرة بمزيدٍ من التفصيل، فسنجد أن اﻟ ٠٫١ في المائة الذين يتربَّعون على قمة الرسم كلُّ واحد منهم سيدفع مبلغًا إضافيًّا هو ٣٢٣٦٢١ دولارًا. يجني هؤلاء دخولًا ضخمة جدًّا، فهُم شديدو الثراء، ويدفعون الكثير من الضرائب، لدرجة أنهم يتسبَّبون في رفع المتوسط إلى قيمٍ تزيد كثيرًا عما ينطبق على الأشخاص الآخرين.

وليس المقصود هنا أن نُجادل في ميزة التخفيضات الضريبية بوجهٍ عام أو كيفية تنفيذ الرئيس بوش لها. لكن المقصود أن نسترعيَ الانتباهَ لما يحدُث عندما تُقدَّم باستخدام المتوسط. وقد فعل الرئيس الشيء نفسَه عند تقديم التخفيضات الضريبية؛ فقد روَّج لها باستخدام متوسط المزايا التي ستعود بها على كل الأمريكيِّين الذين يدفعون الضرائب، في حين أن معظم المزايا كانت تعود على مَن يدفعون القدرَ الأكبر من الضرائب. ومرةً أخرى — وقد تُوافق على ما نؤكِّد عليه — نجد هنا انحيازًا يُخفيه المتوسط.

هذا شأن المتوسطات؛ عندما تُحاول أن تُخبرنا بشيء عن مجموعة بأكملها، فإنها قد تُخفي السِّمات المهمَّة لأجزاء هذه المجموعة. ولا يقتصر ذلك على المجالات الاقتصادية التي يُستشهد فيها بالمتوسطات كثيرًا، ولكنه ينطبق أيضًا على أي وصف لتجارِبَ عادية، ولنأخذ مثالًا مُثيرًا للدهشة: الحَمل.

•••

في أوائل سبتمبر من عام ٢٠٠٥، كانت فيكتوريا ليسي حُبلى وتأخَّر وضعُها. كان من المفترَض أن تضع وليدها في ٢٦ أغسطس. ولما تأخَّر وضعها لمدة أسبوعَين وبات الحمل يُثير جنونها، أصبحت تبدأ كل يوم وهي ترجو أن يكون هو اليومَ المنتظَر، ثم بعد مرور ساعات طِوال بدون أن يحدُث شيء، كانت تُوطِّن النفس على أنها ستنتظر إلى يومٍ آخر. وأخذَت تسأل نفسها: «أهناك خَطبٌ ما؟ لماذا يعجز جسمكِ على وضع الطفل في التاريخ الذي من المفترَض أن يضعه فيه؟»

ولكن ما هو ذلك التاريخ؟ يُعطي الأطباء الأمهات المستقبليات تواريخَ تقديرية؛ نظرًا إلى أن الطبيعة تقضي بأنْ لا سبيل إلى التيقُّن في هذا الشأن، ويعتمد هذا التقدير على متوسط مدة الحمل. ولكن كم يبلغ متوسط مدة الحمل؟ الإجابة المُحبِطة أن المتوسط الرسميَّ لمدة الحمل أقصرُ مما ينبغي أن تكون على الأرجح.

سُجِّل في المملكة المتحدة عام ٢٠٠٥ عددٌ من حالات ولادة أجنَّة حيَّة بلَغ ٦٤٥٨٣٥ حالة، فهل يُعقل أن تكون كل تواريخ الولادة المحدَّدة سلفًا مُضلِّلة؟ من المؤكَّد أن بعض هذه التواريخ كانت صحيحةً بالصدفة؛ وذلك لسببٍ بسيط هو تبايُن أوقات الحمل، ولكن هل صحَّ منها كلُّ ما كان يمكن أن يكون صحيحًا؟ تتأكد لدينا فكرةُ العلم غير الدقيق عندما نعرف أن المتبَع في فرنسا هو إعطاء التاريخ الأقصى للوضع، وليس التاريخ المتوقَّع، ويكون هذا التاريخُ متأخرًا عمَّا يُحدد في بريطانيا بنحو عشَرة أيام. وضعت فيكتوريا طفلتها ساشا، في ولادةٍ طبيعية آمنة غير محفَّزة، بعد التاريخ المحدَّد لها بأسبوعَين، بتاريخ ١٠ سبتمبر ٢٠٠٥.

تُحتسب تواريخُ الولادة في المملكة المتحدة أوليًّا بمرور ٢٨٠ يومًا من اليوم الأول لدورة الطَّمث الأخيرة. وقد استقرَّ رأي الأطباء البريطانيين على هذا الرقم لأسباب؛ منها أنه بدا صحيحًا، ولكنهم تأثَّروا كذلك برأي أستاذ هولندي في الطب يُدعى هيرمان بورهافا، قال عنه صامويل جونسون: «المُحتفى به بشدة، والمأسوف عليه في جميع أروقة العلم في العالم.»

كتب بورهافا منذ ٣٠٠ عام تقريبًا أن مدة الحمل معروفة تمامًا بِناءً على عددٍ من الدراسات. لم تصِلنا هذه الدراسات، لكن نتائجها وصَلتْنا. ولا تزال النتائج معروفةً حتى يومنا هذا، وقد صدَّق عليها مُدرسون مؤثرون، واجتمع عليها رأيُ كتب دراسة الطب منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا. فضلًا عن ذلك، يعرف البعض ما يُسمى بقاعدة نيجيل، المُستندة على كتابات فرانز نيجيل عام ١٨١٢، التي ذكر فيها أن الحمل يستغرق عشَرة أشهُر قمرية من بعد دورة الطمث الأخيرة، وهو ما يؤدي بنا إلى النتيجة نفسِها؛ ٢٨٠ يومًا. ولا يزال الجميع تقريبًا في المملكة المتحدة يتَّفقون على صحة مدة اﻟ ٢٨٠ يومًا؛ أي إنها المتوسط.

غير أن المتوسطات قد تخدع. يترنح الثَّمِل أثناء مشيِه في الشارع، وينتقل من رصيف إلى الآخر مثل البندول، فيكون متوسطُ مَساره هو مركزَ الشارع وبين الخطَّين الأبيضَين، في حين تمرُّ المَركبات من جانبه بالضبط بسرعة. ففي المتوسط، سيبقى حيًّا. أما في الواقع، فسوف تدهسه إحدى الحافلات.

تُغيِّب المتوسطات التباينَ عن الذهن، رغم أنه قد يكون في مكانٍ ما ضِمن متوسط عمق النهر تباينٌ ذو عمقٍ قاتل، وقد يكون على توزيع حركة الثَّمِل مناطقُ تصادُم يُخفيها متوسط مسار حركته. القيمة العظيمة التي تحملها المتوسطاتُ هي أنها تُلخِّص قدرًا كبيرًا من المعلومات لتُسهل التعامل معها وهي نفسُها السبب الذي قد يجعلها مُضلِّلة جدًّا.

إليك تشبيهًا آخرَ، العالم يُشبِه حَساءً تتباينُ مُكوناته تباينًا كبيرًا. المتوسط هو المذاقُ الذي نشعر به ويُخبرنا كيف تمتزج المكونات. هذا مهم، لكن لا تنسَ أن بعض المكونات لها نكهةٌ أقوى من المُكونات الأخرى، وهذه النكهات الأقوى قد تَطغى على المكونات الأخرى المُضافة إلى الإناء. إذا أردنا تجنُّب الخروج بفكرة أن الثُّوم هو متوسط طعم الخضراوات الإنجليزية، فعلينا أيضًا أن نعرف الوصفة كلَّها. فالمتوسطات تمزج الآثار التي يتركها العالم الأثْرى أو الأغرَب في إناءٍ كبير واسع مع كل المكونات الأخرى، وتخلط النكهات لتُحول المكونات كلها إلى شيء قد ينطبق على معظم الناس أو لا ينطبق على أحدٍ منهم.

إذا استصعبت تطبيق ذلك على الأرقام، فما عليك إلا أن تتذكر أن أيَّ متوسط قد يحتوي على نكهاتٍ قوية هو الآخر، كالأرقام التي تُشوه المتوسط، أو الأرقام المخالفة للمعتاد. فكِّر مرةً أخرى في تأثير العدد الصغير من أصحاب القدم الواحدة على متوسط عدد الأقدام للفرد بوجهٍ عام.

ما الذي يجري إذن في تجارِب الحمل المختلفة؟ وعلى وجه الخصوص، ما الذي يحدُث عند الأطراف؟ هناك حقيقتان عن الحمل تدلَّان على أن المُتوسط البسيط لمدة الحمل سيكون مُضلِّلًا. أولًا: بعض الأمهات يلِدنَ قبل الأوان. وثانيًا: لا يُسمح لأيِّ حُبلى تقريبًا بأن تتجاوز الموعد المحدَّد لوضعها بأكثرَ من أسبوعَين بدون اللجوء إلى استحثاث المخاض. حالات الولادة المبتسَرة تخفض المُتوسط، في حين ترفعه حالات تأخُّر الوضع، لكننا نتدخل تدخلًا جسديًّا لمنع تأخُّر وضع الأطفال بأكثرَ من أسبوعَين. فيؤدي هذا الاختلالُ في التوازن — الناتج عن احتسابنا لحالات الولادة المبتسَرة مع منعِنا لحالات تأخُّر الوضع المفرِط — إلى خفض المتوسط عما كانت ستستقرُّ عليه إرادة الطبيعة لولا تدخُّلنا. ولا نقصد هنا المطالبة بالسماح باستمرار مُدَد الحمل إلى ما لا نهاية، ولكنَّنا أردنا أن نُعطيَ لمحةً عما يحدُث في عملية الحساب.

قد نقول إن حالات الولادة قبل الأوان بمدةٍ طويلة يتعيَّن ألا تكون جزءًا من حسابنا للاحتمال الأرجح. فمعظم حالات الولادة لا تحدُث قبل الأوان بمدةٍ طويلة جدًّا؛ أي إنه إذا قال طبيب لامرأة: «التاريخ الذي حدَّدتُه لكِ جرى تقديمه عِدَّة أيام نظرًا إلى أن بعض حالات الولادة تحدُث قبل الأوان، لكن هذا ليس مرجَّحًا في حالتك»، فقد يحقُّ لها أن تردَّ قائلةً: «لا أريد التعديل على التاريخ المحدَّد لولادتي بسبب شيء ليس مرجَّحًا أن يحدُث لي، أريد التاريخ الأرجح لولادتي.» للممارسات الطبية الحاليَّة دورٌ جزئي في تحديد المتوسط — فالأرقام التي وصلنا إليها جاءت جزئيًّا من خلال التدخل الطبي — وهكذا يُصبح للقول بأن متوسط مدة الحمل ٢٨٠ يومًا طبيعةٌ دائرية؛ أي إن هذا هو ما نفعله لأنه يعتمد على المتوسط، وهذا هو المتوسط لأسباب منها ما نفعله.

يؤدي المزجُ بين النتائج عند الأطراف إلى الحصول على مدةِ حمل يقلُّ احتمال دِقَّتها عما إذا كنَّا لن نمزج هذه النتائج. ففي دراسةٍ حديثة هي الأكبر من نوعها، وُجِد أن الغالبية من بين ٤٠٠٠٠٠ امرأة في السويد لم يكنَّ قد وضعنَ أولادهن بعدُ عندما مرَّ على حملهن ٢٨٠ يومًا — فمعظم حالات الحمل استمرَّت مدةً أطول. وبحلول اليوم رقم ٢٨٢ تقريبًا، كان نصف المواليد قد وُلدوا (المتوسِّط الحسابي)، لكن تاريخ الولادة الأكثر تَكرارًا (الوسَط الحسابي)؛ وبذلك فهو الأرجح لأي امرأة في هذا التوزيع، كان بعد مرور ٢٨٣ يومًا.

إذا لم تكُن معظم النساء قد وضَعن أولادهن قبل أن يتجاوزنَ المَوعد المحدَّد لهن بيومَين على الأقل، وفي الوقت ذاتِه كان الاحتمال الأرجح أن تتأخر النساء في الوضع بثلاثة أيام؛ إذن فهناك سؤالٌ بديهي يفرض نفسَه: هل يُعتبر ذلك تأخرًا في الوضع حقًّا؟

لا لومَ عليك إن وجدتَ الأمر مُلتبسًا. ومع ذلك هناك حقيقةٌ لا مِراء فيها، أكَّدتها كلُّ الدراسات الحديثة، وهي أن المدة الأرجح لوضع الأمهات المستقبليات أولادَهن هي بعد مرور ٢٨٣ يومًا على الحمل. وهذا النوع من المتوسط — الذي يُعرف بأنه النتيجة الأكثر تَكرارًا أو شيوعًا — يُعرف بالمِنوال، وليس من المعروف لماذا لا يُفضَّل على غيره في هذه الحالة. وفي الواقع، وجدَت الدراسة السويدية الأخيرة أنه حتى الوسط الحسابي — على بساطته — لم يكُن في الحقيقة ٢٨٠ يومًا، بل ٢٨١.

لم يكُن ذلك ليكتسبَ أهمية تُذكَر (ففارقُ يوم أو يومَين أو ثلاثة قد يكون مُحبطًا أحيانًا، لكنه في حالات الحمل العادية لا يكون مهمًّا من الناحية الطِّبية في هذه المرحلة) لولا أن هذه الأرقام تدخل في الحسابات التي تُحدِّد موعد استحثاث المخاض صناعيًّا. فكثيرًا ما يجري استحثاث مخاض النساء في هذا البلد، ويُشجَّع عليه أحيانًا، بعد مرور سبعة أيام على التاريخ المحدد للوضع. وهذا يرفع احتمالية إجراء ولادة قيصرية لدرجةٍ كبيرة — والولادة القيصرية لها مخاطرُها الخاصة — وهذا قد يُعتبر بالنسبة إلى البعض نهايةً مُحبطة جدًّا لمدة الحمل.

عندما يزعم أطبَّاء التوليد أن استحثاث المخاض يعود على النساء بنتائجَ أفضل من ترك الحمل يستمرُّ مدةً أطول قليلًا، فإن ما يُخفونه حينئذٍ هو أن أحد الطُّرق التي يستخدمونها لقياس هذه «النتائج الأفضل» هو أن يسألوا النساء ما إذا كان شعورهنَّ أفضلَ بعد أن حُلَّت مشكلةُ تأخُّر الوضع. فأنت إذا أخبرتَ شخصًا أن هناك مشكلة، فمن الطبيعي أن يشكرك على حلِّها. أما إذا كان الشخص يعرف أن المشكلة لا تعدو كونها نتيجةَ حسابات خاطئة، فقد يختلف شعوره تجاه المسألة برُمَّتها.

تمزج المتوسطات كلَّ الأشياء معًا. وهذا ما يجعلها مُفيدة، ويجعلها أحيانًا خادعة. إذا علِمنا ذلك، كان من السهل أن نتجنَّب أسوأ الأخطاء. كل ما تحتاج إليه هو أن تتذكر أن تسأل: «ما النكهات المُميزة التي قد تختفي في هذا المزيج؟ وماذا قد يحتوي الإناءُ غير ذلك؟ وإذا أخبروني أن قوس قزح يكون لونه أبيضَ في المتوسط، فما الألوان التي أُخفيَت؟»

علينا إذن أن نتوخَّى الحذر عندما يُقدَّم لنا متوسط باعتباره تلخيصًا لأشياء مُتفرقة. قد يكون من المفيد أن يتجنَّب الصحفيُّون والساسة وغيرهم استخدامها باعتبارها مُرادفًا لعباراتٍ مِثل: في المنتصَف تقريبًا (إلا إذا كان الوسيط هو المقصود)، وأن يتجنَّبوا استخدامها باعتبارها مُرادفًا للمُعتاد أو الطبيعي أو المعقول، وأن يتجنَّبوا استخدامها حتى باعتبارها بديلًا لقولهم «معظم الناس»، إلا إذا كانوا على ثقةٍ أن هذا هو ما يقصدونه. فالمتوسطات قد تختلف عن كلِّ هذه الأشياء.

«الوسط» مكان زلقٌ على أي حال. فمُصطلح «أمريكا الوسطى»، شأنه شأن مصطلح «إنجلترا الوسطى»، هو مصطلح يُحبُّه الساسة والصحفيون. والمصطلحان مُرتبطان بالقيم الاجتماعية والأخلاقية والمصاعب الاقتصادية التي يُعاني منها المُواطنون الشُّرفاء، الذين ليسوا من الأغنياء ولا الفقراء، لكنهم الكادحون، ويُقصد بهم الأُسَر في الأغلب، ويُوصفون نوعًا ما، وبحكم العادة وعلى نحوٍ غامض، بأنهم في الوسط. وهم من الناخبين الذين يستهدفهم المرشَّحون في الانتخابات من كل الأحزاب السياسية، وتزداد جاذبيتهم في هذا الشأن بفعل ربطهم بفكرة الطبقة الوسطى، وهي مجموعة تدَّعي الغالبيةُ العظمى من الناس في المملكة المتحدة الانتماءَ إليها. تبيَّن من مسح أُجرته المؤسسة الأمريكية للضرائب أن أربعة من كل خمسة أمريكيين يعتبرون أنفُسهم من «الطبقة الوسطى». ويعتبر اثنان في المائة فقط من الناس أنفُسهم من «الطبقة العليا».

اختصارًا، لقد ازدحم الوسط بشدة. وهذا ما يُفضِّله الساسة على وجه الخصوص، بحيث يؤدي أيُّ مقترَح يُقدَّم باعتباره مُفيدًا ولو لجزءٍ صغير من الطبقة الوسطى أو إنجلترا الوسطى أو المُواطن المتوسط إلى إذكاء شعور بالدفء والود لدى كل السُّكان تقريبًا، وجعلهم يشعرون أنهم في صميم اهتمامات المرشَّح. وبهذا المِعيار، نكون كلنا الآن في الوسط.

ومهما كانت فائدة هذه المتوسطات باعتبارها وصفًا للقيم، فلا فائدة لها باعتبارها تصنيفًا لموضع الناس على طيف الاختلافات في الدخول والظروف الاقتصادية.

في الولايات المتحدة، الأُسرة التي تقع بالفعل في الوسط من حيث توزيع الدخول «ما يُعرف بالوسيط» تجني دخلًا قدرُه ٤٨٠٠٠ دولار (أي ٢٤٠٠٠ جنيه إسترليني) قبل خصم الضرائب (في عام ٢٠٠٦). (إذا وُجد في الأسرة شخصان يجني كلٌّ منهما دخلًا، يجمع الإحصائيون الدخلَين ويُطلِقون على الإجمالي اسم دخل الأسرة.) تجني الأُسر التي تنتمي إلى اﻟ ٢٠ في المائة الوسطى دخلًا يتراوح بين ٣٨٠٠٠ دولار تقريبًا (١٩٠٠٠ جنيه إسترليني) ونحو ٦٠٠٠٠ دولار (٣٠٠٠٠ جنيه إسترليني). وتجني الأُسر التي تنتمي إلى اﻟ ٦٠٪ الوسطى — إذا وسَّعنا دائرة النظر — ما يتراوح بين ٢٠٠٠٠ دولار (١٠٠٠٠ جنيه إسترليني) و٩٧٠٠٠ دولار (٤٨٥٠٠ جنيه إسترليني).

فهل يصحُّ أن تنتميَ كل هذه الأُسر إلى نفس الفئة الاقتصادية والاجتماعية؟ ما العوامل المشتركة بين أُسرتَين إذا كان دخلُ إحداهما خمسةَ أمثال دخل الأخرى تقريبًا؟ في ٢٠٠٧، قال جون إدواردز، مرشَّح الحزب الديمقراطي للرئاسة، إن الأُسر التي تجني ٢٠٠٠٠٠ دولار (١٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني) تُعتبر من الطبقة الوسطى أيضًا. وتجاوزت هيلاري كلينتون هذا الحد عندما قالت إن دخل الأسرة في الطبقة الوسطى ارتفع ليصلَ إلى ٢٥٠٠٠٠ دولار (١٢٥٠٠٠ جنيه إسترليني). والحقيقة أن ٢٥٠٠٠٠ دولار في العام تجعل الأُسرةَ من ضِمن اﻟ ٣ في المائة الأكثر ثراءً، وتتجاوز أربعة أمثال دخل الأسرة التي تنتمي حقًّا إلى الطبقة الوسطى، وتُمثِّل اثنَي عشر مثلًا لدخل بعض الأُسر التي تنتمي إلى اﻟ ٦٠ في المائة في الوسط. عندما تصبح المفاهيم مطَّاطةً إلى هذا الحد، فالأحرى بها أن تنتميَ إلى كتب الأبطال الخارقين الهَزلية.

يعتمد مفهومنا عن الوسط، وعما هو متوسط، على من يُحيطون بنا من الجيران أو الزملاء. قد نُخطئ بالاعتقاد أن ما يُعتبر عاديًّا في مكاننا عاديٌّ في كل مكان، حتى لو كنا نعيش في قصرٍ فاخر في كنسنجتون.

يتأثر رأينا في مستوى دخلِنا تأثرًا كبيرًا بإحساسنا بأن هذا الدخل ليس مميَّزًا، حتى إذا كان مُرتفعًا للغاية مقارنةً بغيره. وهذا يدل على سوء تقديرنا لطَيف الدخول، وأننا لا نُدرك على النحو الصحيح ما يُعَد عاديًّا. معظم التعليقات الإعلامية عن الطبقة الوسطى من الناحية الاقتصادية تفتقد إلى أبسط فكرة عن موقعها الصحيح.

في الانتخابات العامة لعام ٢٠٠٥، وجد زعيم الديمقراطيين الليبراليين تشارلز كينيدي نفسه يتحاشى فكرة متوسط الدخل تَحاشيَه لنَصْل سيف الحقيقة المُصلَت دفاعًا عن المُواطن العادي.

كان حِزبه قد عرَض فكرة التخلِّي عن ضريبة المجلس، والاستعاضة عنها بضريبة الدخل المحلي. بحيث يدفع البعض — وهم أغنى الأغنياء — أكثرَ من غيرهم، ويدفع المُنتمون لمعظم الفئات الأخرى أقل. ثم جاء السؤال الحتمي: كم يبلُغ حدُّ الدخل الذي يبدأ من عنده تطبيق ضريبة الدخل المحلِّي؟ ولما تلعثمَ تشارلز كينيدي ولم يعرف الرقم الدقيق، أزكمت رائحةُ القصة الصحفية السانحة أُنوفَ الصحفيين الذين حضروا المؤتمر الصحفي. وعندما جاءت الإجابة مكتوبةً على ورقةٍ صغيرة من أحد المستشارين، دشَّنَت بحضورها أصعبَ حملة انتخابية خاضها الديمقراطيون الليبراليون؛ إذ كانت أكثر بقليل من ٤٠٠٠٠ جنيه إسترليني للأسرة.

المشكلة أن هذا الرقم تبيَّن أنه ضِعف متوسط الرواتب تقريبًا. ويتَّضح ذلك بالمثال الذي تداولَته كل المصادر الإخبارية: إذا كان هناك إطفائيٌّ يتقاضى راتبًا متوسطًا ويعيش مع مُدرسةٍ تتقاضى راتبًا متوسطًا، فإنهما سيتكبَّدان ضرائب أكثرَ وفقًا للنظام الجديد الذي يقترحه الديمقراطيون الليبراليون.

فجأةً أصبح مسار الحملة الانتخابية لتشارلز كينيدي محفوفًا بالمخاطر، واتَّسمَت الأسئلة والتغطية الصحفية بنبرةٍ ساخطة، من قبيل: أي عدل ذاك الذي يحمله نظامٌ يستهدف من يتقاضَون الرواتب المتوسطة؟ إذا كانت التكلفة ستَزيد على أصحاب الرواتب المتوسطة، فكيف يُعقَل الزعم بأن معظم الناس سيكونون في حالٍ أفضل؟ الديمقراطيون الليبراليون يضربون إنجلترا الوسطى إذن؟ وما إلى ذلك.

قد تكون هناك أسباب وجيهةٌ أخرى لمعارضة هذه السياسة، إلا أن تصوراتٍ مغلوطةً كثيرة عن الفكرة شاعت، وكوَّنَت أساسًا للانتقادات الموجَّهة لها — أصحاب الرواتب المتوسطة — ولذا كان من الصعب معرفةُ أين نبدأ.

كما كان الحال فيما يتعلَّق بالحمل، أو بالتخفيضات أو الزيادات الضريبية الأمريكية، نجد الأمر نفسَه فيما يتعلق بالدخول؛ المتوسط ليس في المنتصف، وهناك أشخاصٌ أكثر على أحد الجانبَين مقارنةً بالجانب الآخر. فالأسرة التي بها فردان يتقاضى كلٌّ منهما راتبًا متوسطًا لا تتوسط توزيع دخول الأُسر، بل تنتمي إلى الربع الأعلى في حقيقة الأمر؛ وإذا كنت على دراية بنطاق توزيع الدخول ولا يخدعك الراتب الأكبر الذي يتقاضاه صحفي يُعلق على الأحداث في إحدى الصحف الوطنية، فستُدرك أن هذه الأسرة تتمتَّع بثراءٍ نِسبي. وهذا لسببَين؛ الأول أنه في هذه الحالة تجاوز المتوسط المنتصف بكثير بفعل عدد صغير نسبيًّا من الدخول البالغة الارتفاع؛ والثاني أنه من غير المُعتاد أن يكون كِلا الزوجَين يَجني راتبًا متوسطًا. ففي معظم الحالات، عندما يكون راتبُ أحد الزوجَين متوسطًا، يجني الآخر راتبًا أقلَّ بكثير. قد يُفاجئُنا أن نعرف أن إطفائيًّا ومُدرسة يعيشان معًا يتمتعان بثراءٍ نِسبي، هذا إن لم نعلم مستوى دخول الأشخاص الآخرين، وفي أي موقع من توزيع الدخول يقعان، وإذا تجاهلنا طيف الدخول.

الشكل التالي يُبين توزيع الدخول في المملكة المتحدة، تحديدًا دخول الزوجَين اللذَين يعيشان معًا ولا يُعيلان أطفالًا — إجمالي دخل الزوجَين معًا. نجد أن نِصف هؤلاء يبلُغ صافي دخلِهم (بعد الضرائب والفوائد) أقلَّ من ١٨٨٠٠ جنيه إسترليني (وهي قيمة الوسيط)، لكن المتوسط لدخل المجموعة قيمته ٢٣٠٠٠ جنيه إسترليني، وقد ارتفعت قيمة المتوسط بسبب عدد قليل نسبيًّا من الدخول الشديدة الارتفاع. أي إن معظم الأزواج تقلُّ دخولهم عن المتوسط بنسبةٍ تزيد على ١٨ في المائة. وتتخطَّى قيم الدخول الأعلى حدودَ الرسم البياني؛ إذ لو أردنا استيعابها لاستلزم ذلك تمديدَ الرسم من جهة اليمين حتى يتخطى أقصى يمين الصفحة بعِدَّة أقدام. ويبلُغ الدخل الأكثرُ شيوعًا نحو ١٤٠٠٠ جنيه إسترليني، وهو أقل من المتوسط بنسبة ٤٠ في المائة. يزيد عدد المُنتمين إلى الفئة المذكورة الذين تقع دخولهم في هذا المستوى عن عدد من يقع منهم في أي مستوًى آخر. وإذا اعتُبرت هذه صدمة، فالسبب فيها هو شيوع متوسط أكبرَ بكثير وكثرة الاستشهاد به. يبدو أن بريطانيا الوُسطى توجد أينما أرادها الساسة وأرادتها وسائل الإعلام؛ إذ يستحضرونها لتبرير أفكارهم المُتحيزة، بصرف النظر عن الحقائق الاقتصادية أو طبيعة الحال الفعلية.

fig7
شكل ٥-٢: من يجني ماذا؟

•••

في صورةٍ خيالية ذاعَ صِيتها، تخيَّل اقتصاديٌّ هولندي اسمُه جان بين مَوكبًا يسير فيه سكانُ العالم أجمعين، يزداد فيه طولُ قامة كل فرد منهم كلما زاد ثراؤه؛ أي إن طول قامة الفرد يتناسب طرديًّا مع ثروته. فالشخص ذو الثروة المتوسطة سيكون متوسطَ الطول. ويبدأ الموكب بالأشخاص الأفقر «والأقصر» وينتهي بعد ساعةٍ من الزمن بالأغنى (والأطول).

لا نرى أيًّا من السائرين في الموكب قبل مرور عشرين دقيقة. فكلُّ شخص من السائرين في الموكب حتى هذه النقطة إما أن تكون لإجمالي مُمتلكاته قيمةٌ سالبة (أي إن ديونه تفوق ممتلكاته) وإما أنه لا يمتلك أيَّ ثروة على الإطلاق؛ لذا فلا طول له. وتمرُّ ثلاثون دقيقةً كاملة قبل أن نبدأ في رؤية أقزام يبلُغ طولهم نحوَ ست بوصات.

ويستمر الأقزام في التقدُّم. وبعد ثمانٍ وأربعين دقيقة نبدأ في رؤية أول شخص متوسط الطول ومتوسط الثروة، بعد أن يكون قد مرَّ في الموكب أكثرُ من ثلاثة أرباع سكان العالم.

إذن، ما الذي يؤخِّر المتوسطَ إلى هذا الحد بعد مرور الأغلبية؟ الإجابة يحملها الأشخاص التَّالون في الموكب. كتب بين: «في الدقائق القليلة الأخيرة، يلوح العمالقة في الأفق … فمنهم مُحامٍ متوسط النجاح، يبلُغ طوله ثمانيَ عشرةَ قدمًا.» ومع اقتراب انقضاء الساعة، نرى القِلَّة القليلة الذين يتذيَّلون الموكب يبلُغون من الطول ما تتعذَّر معه رؤيةُ رءوسهم. وفي آخر الموكب، وَفقًا لما يقول بين (وفي وقت لم تكُن ثروات بيل جيتس ووارن بافيت قد وصلَت إلى ذروتها)، نرى جون بول جيتي. طولُه شاهق، ربما يبلُغ عشَرة أميال، وربما ضِعف ذلك.

واحدٌ فقط من أصحاب الملايين بمقدوره نقلُ المتوسط بعدة مئات من الفقراء، وواحد فقط من أصحاب المليارات قد ينقل المتوسط أكثرَ من ذلك ألف مرة. فتأثير هؤلاء شديد لدرجةٍ تجعل ثروة أكثر من ٨٠ في المائة من سكان العالم أقلَّ من المتوسط.

في الخطاب اليومي، يُقصد بكلمة «متوسط» وصف الشيء بالانحطاط أو وضاعة الشأن. أما فيما يتعلق بالدخول، فالمتوسط مرتفعٌ نسبيًّا. يُشوِّه الاستعمالُ الدارج للكلمة — ببلادته وسطحيَّته ووقعِه الذي يكاد يكون مهينًا — الاستعمال الإحصائيَّ الذي قد يكون مُرتفعًا أو مُنخفضًا أو مُتوسطًا أو حتى غيرَ ذي دلالة، حسَب التوزيع. إذا قُدِّر لفكرةٍ واحدة أن تبقى عن المتوسطات، فلتكُن هذه الفكرةُ أن المتوسطات ليست بالضرورة قريبةً من المنتصف، ولا تُمثل الشيء المُعتاد، وأن الأماكن التي يُسمِّيها الساسة ووسائل الإعلام «المنتصف» قد تكون شديدةَ البعد عنه. لقد كثر الخلطُ بين هذه الأفكار منذ وقت طويل جدًّا. وحان الوقت لفصلها بعضها عن بعض. وعلينا أن نطَّلع على شيءٍ مما تسبَّب في ذلك الخلط لكي نفهمَ العلاقة الحقيقية.

•••

كان لدى الكاتب وعالم الحفريات ستيفن جاي جولد سببٌ خاصٌّ يدعوه لاستكشاف ذلك. ففي عام ١٩٨٢، جرى تشخيصه بسرطان الظهارة المتوسطة — وهو أحد أنواع السرطانات النادرة الشديدة الخطورة — وذلك في أوج مسيرته العملية الحافلة وفي حين كان يعول طفلَين صغيرين، وسُرعانَ ما علِم بأن المرض عصيٌّ على العلاج وأن المدة الوسيطة لبقاء مَن يُكتشف لديه المرض على قيد الحياة بعد اكتشافه ثمانية أشهُر. ولاحقًا كتبَ أنه لما علِم ذلك بلع ريقَه من الصدمة وجلس ذاهلًا خمسَ عشرة دقيقة.

وقال إنه بعد ذلك بدأ يُفكر في الأمر. وكان ذلك إيذانًا ببدء قصة إحصائية وصفها بالمُثرية والمُنقذة للحياة.

الوسيط هو نوعٌ آخر من المتوسط، وهو يعني القيمة التي تتوسط قيم التوزيع، فيكون نِصف القيم أعلى منها ونصفها أسفلَ منها، وهو ما يُسمِّيه جولد وآخرون النزعة المركزية. والمعنى في هذه الحالة أن نِصف مَن يُشخَّصون بسرطان الظاهرة المتوسطة يموتون في غضون ثمانية أشهُر.

مِثل هذا الرقم له وطأةٌ شديدة. لكن يجدُر بنا هنا ذِكر السِّمة الرقمية الأخرى التي تنطبق على المتوسطات من كل الأنواع، وهي أنها ليست محدَّدةً ودقيقة، ولا تُعبِّر عن جوهرٍ أفلاطوني من نوعٍ ما، وهي كذلك — كما فهِمها ستيفن جاي جولد، لحُسن حظِّه — ليست كِياناتٍ مُصمَتةً لا تتحوَّل. بل المتوسطات فكرةٌ مجرَّدة كلاسيكية، وتكمُن الحقائقُ الفعلية في التوزيع الذي تنبني عليه، أو كما قال جولد: «… في عالمنا الحقيقي بظلاله وتبايناته وأطيافه».

كتب جولد إيجازًا: «ننظر إلى المتوسط والوسيط باعتبارهما «حقائقَ» بحتةً، وننظر إلى التباين الذي يسمح بحسابها باعتباره مجموعةً من القياسات المُتحولة وغير الكاملة». والحقيقة أنه على قدرِ ما قد يكون في الوجود من حقائقَ بَحتة، فإنها في التباين، وفي ألوان قوس قزح الفردية النابضة، وليس في المتوسط المجرَّد الذي يجعل قوس قزح كلَّه أبيضَ اللون.

مرةً أخرى، لكي نفهمَ هذا المتوسط، علينا أن نسأل عن محتوى التوزيع. والجزء الأول من الإجابة مباشر: نِصف المشخَّصين بالمرض لا يعيشون أكثرَ من ثمانية أشهُر بعد التشخيص، لكن النصف الآخر من الأشخاص يعيشون مدةً أطول، ونظرًا إلى التشخيص المُبكِّر للمرض عند جولد، فقد خمَّن أن احتمال انتمائه إلى النصف الأخير كان مُبشرًا.

أما الجزء الثاني من الإجابة فهو أن الوسيط الذي تبلُغ قيمته ثمانيةَ أشهُر لا يُخبرنا بشيء عن المدة القُصوى التي قد يعيشها المُنتمون إلى النصف الأخير الذين يعيشون أكثرَ من ثمانية أشهُر بعد التشخيص. هل الثمانية الأشهُر هي نصفُ ما يتبقَّى من الزمن في هذا العالم حتى لأوفرِهم حظًّا؟ أم إن الحد الأقصى لا وجود له، على عكس الحد الأدنى؟ في واقع الأمر، كان للتوزيع ذيلٌ امتدَّ على يمين الرسم البياني عدةَ سنوات بعد الوسيط، نظرًا إلى أن المنحنى — كما يُسميه الإحصائيون — متَّجِه إلى اليمين. فإذا عاش الشخص الذي شُخِّص لديه المرض أكثرَ من ثمانية أشهُر، فلا يمكن معرفة إلى متى قد يعيش.

تنفَّس جولد الصُّعداء عندما فهِم التوزيع الكامن وراء الوسيط، وكتب: «لم يكُن عليَّ أن أدَع كل ما أفعل على الفور وأتبع أمر إشعياء الذي جاء فيه: نظِّم شُئون بيتك لأنك لن تَبْرأ، بل حتمًا تموت؛ فقد كان لديَّ الوقت للتفكير والتخطيط والمقاومة.» وشاءت الأقدار أن يظلَّ جولد على قيد الحياة، ليس لثمانية أشهُر فقط، بل لعشرين عامًا أخرى، وعندما جاء أجلُه بالفعل عام ٢٠٠٢، كان ذلك نتيجةَ سرطان لا صلة له بالسرطان الذي أصابه قبل ذلك بعشرين عامًا.

يكمُن التوزيع المَعيب نفسُه وراء متوسط عمر الفرد في سوازيلاند «إيسواتيني الآن»، فالمتوسط هو الأقلُّ في العالم وَفقًا لإصدار ٢٠٠٧ من كتاب حقائق وكالة الاستخبارات المركزية والمؤشرات الاجتماعية للأمم المتحدة؛ إذ يبلُغ المتوسط ٣٢ عامًا للرجال و٣٣ عامًا للنساء. وهو رقمٌ مُنخفض إلى حدٍّ يُثير الذُّعر. لكن ٣٢ عامًا ليست سنًّا معتادةً للوفاة — فمعظم من يظلُّون على قيد الحياة إلى هذا العمر يُواصلون العيش من بعده مُددًا أطول — الأمر ببساطةٍ أنه من أجل حساب المتوسط، يجب جمع كلِّ الأرقام مع الأرقام الصادمة لمن يموتون وهم أطفالٌ رُضَّع. وبذلك ينخفض المتوسط نظرًا إلى ارتفاع معدَّل وفَيات الأطفال في سوازيلاند. ونتيجةً لذلك، يقف الرقم المعبِّر عن متوسط الأعمار بوصفه لافتة على الطريق بين وجهتَين لا تُشير إلى أيٍّ منهما. ولا يعبر عن أيٍّ من مدَّتَي الحياة اللتَين يُمكننا أن نعتبرهما الأكثرَ اعتيادًا، بل يبدو كمزيج لا يُسمِن ولا يُغْني من جوع بين احتمالٍ كريه للغاية وآخرَ يحمل قدرًا أكبرَ من الأمل؛ أي إنه حلٌّ وسطٌ إحصائي لا يصف إلا قلةً قليلة من الناس. يُمكن فهم متوسط عمر الفرد في سوازيلاند على نحوٍ أفضل بأن نقول إنه إما أن يكون سنواتٍ قليلة وإما أنه لا يختلف كثيرًا عن متوسط أعمارنا. فالاحتمالات مستقطَبة للغاية، والمتوسط يمزج القطبَين معًا.

•••

هل نتجنَّب المتوسطات فحسب؟ كلَّا، فعلى الرغم من كل المخاطر المُرتبطة بها، أحيانًا نكون في حاجة إلى رقم يُعبر عن مجموعةٍ كاملة. والمتوسطات قد تكون كاشفة. وتعتمد الاستفادة منها على تحديد المجموعة التي تُفيدنا. إن ما نُحاوِل معرفته في معظم الأحيان التي نجد أنفُسنا فيها نبحث عن متوسطٍ مُتعلق بحقائقَ حياتية اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية هو ما ينطبق على معظم الناس، أو في معظم الأحيان، أو ما هو شائعٌ أو معتاد في مجموعةٍ معيَّنة. وما ذكرناه آنفًا هو غيضٌ من فيض الأسباب التي تجعل المتوسط يقف قاصرًا عن إمدادنا بأيٍّ من هذه المعلومات، وكل ذلك مَردُّه إلى عدم الانتظام الذي تتَّسم به نواميسُ الحياة. لكن إذا افترضنا أننا مُتصلِّبو التفكير نأبى إلا أن نعرف، فلا مَفرَّ من أن نوقِن بالآتي: رغم كل جهودنا لتحديدِ ما يكون الحالُ عليه في متاهات التوزيع المُبهَمة، لا نزال في حاجة إلى التوصل إلى كلمات للتلخيص. وفي بعض الأحيان يكون تلخيص المُعتاد أكثرَ ما نريد معرفته عن مدى نجاح سياسةٍ ما أو فشلها.

ولنا في قوائم انتظار المستشفيات مثالٌ جيِّد. كانت الحكومة قد وضعت هدفًا هو ألا يُضطرَّ أحدٌ إلى انتظار إجراء أي عملية أكثرَ من ستة أشهُر (ستة وعشرين أسبوعًا). ويوشك هذا الهدفُ أن يتحوَّل إلى هدفٍ أصعب بكثير، وهو أن يكون الحدُّ الأقصى للانتظار ثلاثةَ عشر أسبوعًا من إحالة المُمارِس العام، وفي ذلك استمرارٌ للتركيز المُتعمد على طرَفٍ واحد من طرَفَي التوزيع، ألا وهو الطرَف الذي ينتظر فيه الناس أوقاتًا طويلة. يومًا ما كانت قوائمُ الانتظار تمتدُّ وتطول، وكان من المُمكن أن ينتظر الشخص سنواتٍ لتلقِّي العلاج، لكن ذلك الانتظار أصبح الآن ينتهي فوريًّا، وأصبح هناك حدٌّ أقصى لمدة الانتظار للجميع. وهذا يُذكِّرنا باكتساب أجزاء معيَّنة من التوزيع — دون جميع الأجزاء الأخرى — أهميةً سياسية.

نتيجة لهذه السياسة، لم تنفكَّ الحكومة تقول إن أوقات الانتظار في انخفاض (جاء في بيان صحفي لوزارة الصحة في يوم الأربعاء المُوافق ٧ من يونيو ٢٠٠٦: «أوقات انتظار العمليات أصبحت أقصرَ من أي وقت مضى»)، وكان صحيحًا بالفعل أن أطوَل مُدَد الانتظار أصبحت أقصرَ بكثير. لكن مُدَد الانتظار الأطول — مع الإقرار بكونها مشكلةً حقيقية — ليست سوى نسبةٍ صغيرة من العدد الإجمالي لحالات الانتظار. لم يُضطر الكثيرُ من الأشخاص في أي وقت مضى إلى الانتظار مدةً أطوَل من عامَين، وفي المقابل، تلقَّى الملايين من الأشخاص الرعاية في غضون شهور قليلة. في هذه الحالة قد نريد أيضًا أن نعرف — على وجه اليقين — ما يحدُث بوجهٍ عام فيما يتعلق بأوقات الانتظار، وماذا يحدُث لكل الأشخاص الآخرين، ليس فقط لحالات الانتظار المُطوَّل، بل أيضًا لحالات الانتظار لمُددٍ عادية؛ أي لمن كانوا في كل الأحوال بَعيدين عن الحدِّ الأقصى لمُدَد الانتظار. فقد أخذت الحكومة جزءًا واحدًا من التوزيع وتحدَّثَت عنه كما لو كان مُمثلًا لكل الحالات. فكيف يمكننا أن نجد تدبيرًا يُحقق درجةً أكبر من الرضا؟

الإجابة المُثلى في هذه الحالة هي أن نسأل عمَّا يحدُث لمريضٍ تقع مدة الانتظار المقرَّرة له في منتصَف مُدَد الانتظار من حيث الطول، وتحديدًا عند النقطة التي ينتظر فيها نِصف المرضى لمُددٍ أقصر، وينتظر نصفُهم الآخر مُددًا أطول، وهو نوعٌ من المتوسطات يُطلَق عليه الوسيط، وهو ما استُخدم في قصة ستيفن جولد. لا شك أن هذه الأرقام مُختلطة، وتكون مُذهِلة في بعض الحالات. وحتى مع ذلك، لن يأخذ هذا المثالُ الوسيط لكل المرضى في البلد، لكنه سيُحدد الوسيط للعديد من المجموعات الكبيرة.

وقبل أن ننظُر في هذه الأرقام، سنُطبِّق على العملية الحسابية المستخدَمة للتوصل إلى أوقات الانتظار إجراءً إضافيًّا. سنستبعد ممارسةً يبدو أنها زادت شيوعًا في السنوات الأخيرة يجري فيها إعادة احتساب أوقات الانتظار من البداية لأسبابٍ تبدو انتهازيةً في أحيانٍ كثيرة (انظر الفصلَين الثالث والسادس فيما يتعلق بالعدِّ والأهداف). وهذه الممارسة مسموحٌ بها لكن تسهُل إساءة استخدامها — حيث يتَّصل بك موظَّفو المستشفى ليضربوا لك مَوعدًا قبله بيومٍ واحد، فلا تتمكَّن من الحضور، فيبدَءون احتساب مدة انتظارك من البداية. بمجرَّد أن يُستبعد هذا السلوك للتمكُّن من عقد مقارنة عادلة بين مُدَد الانتظار منذ خمس سنوات ومُدَد الانتظار الآن، ونرى ما يكون من شأن المريض العادي، وليس فقط من ينتظرون للمُدد الأطول، تظهر لنا نتائج كاشفة.

فعلى سبيل المثال، في إحدى المناطق المشمولة بخدمات أحد صناديق الرعاية الأولية التي تناولناها بالدراسة (أواخرَ عام ٢٠٠٦)، وجدنا أن أوقاتَ انتظار مرضى الصدمات والعظام العاديِّين ارتفعت من ٤٢ يومًا إلى ١٠٢. وفي منطقةٍ أخرى وجدنا زيادة من ٥٧ يومًا إلى ١٤١ يومًا. ووجدنا في منطقةٍ ثالثة زيادةً من ٦٣ يومًا إلى ١٢٧ يومًا.

لم تشذَّ عن ذلك أوقاتُ انتظار مرضى الأنف والأذن والحنجرة، حيث وُجِد أن المريض العاديَّ في ٦٠٪ تقريبًا من صناديق الرعاية الأوَّلية كان عليه أن ينتظر مدةً مُساوية للمُدد التي كانت غالبةً منذ خمس سنوات أو أكثر من ذلك. وفي تخصُّص الجِراحة العامة، أظهرت أرقام أكثر من نصف صناديق الرعاية الأولية أن المريض العاديَّ ينتظر مُددًا تزيد عن المُدد التي كانت غالبةً منذ خمس سنوات. وفي عدد من الحالات، ولو لم تُمثل هذه الحالاتُ أغلبيةً في المناطق التي تناولناها بالدراسة، وجدنا ارتفاعًا في الوقت المُستغرَق لبدء تلقِّي ٧٥ في المائة من المرضى للعلاج. وأخيرًا، في مارس ٢٠٠٨، داهمت الصدمة وسائلَ الإعلام في المملكة المتحدة عندما اعتُرف رسميًّا بأن مدة الانتظار الوسيطة ارتفعت في كل التخصُّصات ولكل الحالات من ٤١ يومًا إلى ٤٩ يومًا.

•••

والشاهد من تحليلنا أنه ليس من المنطق في شيءٍ أن يُزعم أن أوقات الانتظار قد طالت أو قَصُرت بدون تحديد «أوقات انتظار مَن؟» وتحديد المجموعة المستهدَفة. فالأرقام لا تتحرَّك في الاتجاه نفسِه للجميع، وفي بعض الفئات الكبيرة من التخصصات العلاجية، وليس في كل الفئات، يُظهر الوسيط الحسابي أن معظم المرضى أصبح عليهم الانتظار مُددًا مُساوية للمُدد التي كانت غالبةً منذ خمس سنوات، أو لمُددٍ أطوَل.

من المهمِّ أن نعرف ما حدث لمُددِ الانتظار الأطول، ومن المنطقي أن نقول إن تقصيرها يُعَد نجاحًا يَجني ثمارَه هؤلاء المرضى، غير أنه من غير المنطقي أن يُقال إن هذه الحالات وحدها تدلُّ على ما إذا كانت «أوقات الانتظار قد قصرت». فهذا غيرُ صحيح. وإذا أردنا أن نعرف ذلك، فلا بديل عن استخدام نوع من المتوسطات، والأفضل من بينها في هذه الحالة هو الوسيط.

على ذِكر ذلك، وجَدنا أن معظم المستشفيات التي طُرحت عليها الأسئلة لم تتمكَّن من إخبارنا بما يحدُث للمريض العادي «الوسيط»، ووردَتْنا هذه البياناتُ من مصدرٍ آخر — منظمة دكتور فوستر — كان على اطِّلاع على الإحصائيات المرحلية الأصلية للمستشفيات والقدرة على تحليل البيانات داخليًّا.

إذا وجدت أي متوسط، فاسأل دائمًا: على أي مجموعة ينصبُّ اهتمامنا؟ فرُبما عندما نسأل عن متوسط الدخل، فإننا لا نريد أن نعرف عمَّن يَجْنون دخولًا طائلة، بل نريد أن نعرف عن الدخول الأكثر شيوعًا. وربما كانت هناك ألوانٌ غريبة أخرى في المتوسطات الأخرى لا نريدها في الخليط، بينما توجد ألوانٌ نريدها. المهم أن تعرف ما الذي سيدخل في حساباتك وما الذي سيخرج منها، وأن تتأكد من أنك قد صنعتَ الخليط الذي تُريده. المتوسطات فكرةٌ مجرَّدة مُفيدة، لكنها فكرةٌ مجرَّدة في نهاية المطاف. إذا نظرنا إليها بدون أن نعرف مصدرها، فستُضلِّلنا. المتوسط متوسط، ولكن، متوسط لأيِّ مجموعة من الأشياء؟ تذكَّر الألوان النابضة والمتنوعة للحياة الحقيقية. تذكَّر قوس قزح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤