الفصل الثامن

أخذ العيِّنات: الشرب من خرطوم إطفاء الحريق

العدُّ عمليةٌ خادعة في أغلب الأحيان. فهي في الحقيقة لا تتمُّ بشكلٍ كامل. فمئاتٌ كثيرة من الأرقام التي تُطبَع وتُبَث كلَّ يوم لا تؤدي وظيفتها على أكمل وجه، وذلك على نحوٍ روتيني.

ولِنعرفَ قيمة هذه الأرقام، علينا أولًا أن نعرف كيف تم التوصلُ إليها. لكنَّ قليلين هم مَن يعرفون كيف يمكن التوصلُ إلى الأرقام، حتى المهمة منها مِثل حجم الاقتصاد أو التجارة، والربح الذي تُحققه الشركات، وتدفقات السفر والسياحة، وإنتاجية المملكة المتحدة، ومعدل التضخم، ومستوى التوظيف … فضلًا عن الأرقام المُثيرة للجدل مِثل عدد قتلى حرب العراق، وحالات مرض نقص المناعة المكتسَبة/الإيدز، وأعداد المهاجرين، وغير ذلك.

تقلُّبات هذه الأرقام هي المادة الخام للأخبار، لكنها لا تُعَد حصرًا دقيقًا للواقع. بدلًا من ذلك، لا يُحصى إلا القليل من المفردات، بافتراض أنها تُمثل الباقيَ، ثم تُضرب في العدد الذي يُناسب البلد بأكمله.

هذه هي العيِّنة، وهي أساس الملايين من الإحصائيات، قد يُصورها شاعرٌ كقطرة مياه تنعكس فيها صورةُ العالم كله، بل نأمُل أن تنعكس فيها. لكن المفردات القليلة التي يجري إحصاؤها يجب أن تعكس الفئة كلَّها وإلا فشل المَسعى كلُّه؛ أي مفردات ينبغي إحصاؤها إذَن؟ إذا أسأت الاختيار خرجَت النتيجة مُنحازة، وأصبحت المرآةُ مَعيبة، ولا يتضاعف إلا الخطأ في الكثير من الحقائق الرئيسية عنا وعن بلدنا واقتصادنا.

•••

تم تداوُل تحذيرات صريحة من قبيل: ممنوع لمس مَقابض الأبواب، ممنوع المصافحة، ممنوع الخروج، افرك يدَيك مرةً، ثم أخرى، وانتشرَت صور مُقبضة تُظهِر المرض وأماكنَ العمل المهجورة وعنابر المستشفيات المُقفَلة. ووصلت الأرقامُ إلى مستوياتٍ مُرعِبة.

عمَّ الوباء وسائلَ الإعلام البريطانية، ولطَّخ القيءُ — أو ذِكرُه — صفحات الصحف. لُوحِظت الحالة لأول مرة في صحيفة «ديلي تيليجراف»، وكانت من الشدة لدرجة أن معظم الصحف والمحطات استسلمَت لها في غضون أيام قليلة، فطفحَت منها الصور الفظيعة نفسُها.

وفي هذه الظروف العصيبة، لا يوجد إلا علاجٌ واحد؛ أن يُنصح مَن طالهم الوباء بقوة بأن يتحقَّقوا من مصادر بياناتهم. والغريب أن أحدًا منهم لم يفعل، وهكذا بات التساؤل حول ما إذا كان الجمهور نفسُه يتعرض لوباءٍ حقيقي شأنًا تافهًا لا يكاد يلقى اهتمامًا.

كان ذلك في شتاء ٢٠٠٧-٢٠٠٨، وكان المرض هو عدوى فيروس النورو، وكان يُعرف أيضًا باسم الأنفلونزا الشتوية أو القيء الشتوي، وبدا أن عددًا صادمًا من الناس قد وقَعوا ضحيةً له. ذكرَت صحيفة «ديلي تيليجراف» أن العدد بلَغ ٣ ملايين. وذكرَت صحيفة «ديلي إكسبرس» ٣٫٥ ملايين. وقالت صحيفة «صن» ٤ ملايين. وقد يتخيَّل المرءُ من هذه الأرقام الصادمة أن عددًا كبيرًا من الموظَّفين الذين يحملون مساندَ الورق كانوا يقِفون على نوافذ دورات المياه ليُسجِّلوا عدد من يتقيَّئون.

ومن الواضح أن عدد الحالات لم يجرِ إحصاؤه بأي شكل سليم من الأشكال. إذ لم يتوجَّه للأطباء من المُصابين بفيروس النورو إلا القليلون. كما أن عدد الحالات التي أُكِّدت بالفحص المَعملي كان أقل. تزول أعراض فيروس النورو «الذي لا علاج له» في بضعة أيام. وفي الحقيقة، لم يكُن بمقدورِ أحدٍ أن يعرف عددَ من أُصيبوا بالفيروس، وبالفعل لم يتمكَّن أحدٌ من ذلك، لكنهم توصَّلوا إلى أرقامٍ إجمالية مُقلِقة من خلال تقدير استقرائي استند إلى عيِّنةٍ واحدة.

يجب أن تكون العيِّنات كبيرةً بما يكفي لكي تُعَد ممثِّلة لباقي المجتمع. ولذا فمن المؤكَّد أن لا أحدَ قد يُجري التقدير الاستقرائيَّ استنادًا إلى عيِّنة من فردٍ واحد على سبيل المثال. أما في حالتنا، فالحقيقة أن العيِّنة — التي هي كلُّ ما كان مُتاحًا من البيانات عن معدل انتشار فيروس النورو — كانت تتكون من ٢٠٠٠ حالةٍ حدثت في أكتوبر ونوفمبر وديسمبر من عام ٢٠٠٧ وتم تأكيدها مَعمليًّا. استنتاج وجود ٣ ملايين أو ٤ ملايين حالة من ٢٠٠٠ حالة يُعَد قفزةً كبيرة، لكن وسائل الإعلام أفادت أنه مُقابل كل حالة مسجَّلة توجد ١٥٠٠ حالة أخرى في المجتمع، وهو رقم حصَلتُ عليه من وكالة حماية الصحة. وهذا جعل الحسابات واضحةً في الظاهر: ٢٠٠٠ حالة مؤكَّدة × ١٥٠٠ = ٣ ملايين.

لكن وكالة حماية الصحة حثَّت أيضًا على توخِّي الحذر، وقالت إن نسبة الحالات المؤكَّدة إلى الإجمالي ينبغي ألا تُفهم حرفيًّا، وقد يطرأ عليها أيُّ تغيير لعدد من الأسباب؛ منها زيادة حساسية تقنيات التشخيص. وقد تتغير أيضًا درجة استعداد الناس للتوجُّه إلى الأطباء لعلاج هذا المرض. إذَن فنسبة ١:١٥٠٠ غير موثوق بها من البداية، ولكنَّنا سنعرف إلى أي مدًى لا يمكن الوثوق بها في السطور الآتية.

بدأ الأمر فيما يُعرَف بدراسة الأمراض المِعوية المعدية التي أُجريَت بين عامَي ١٩٩٣ و١٩٩٦. وهذه الدراسات يتوخَّى القائمون عليها الحذرَ فيما يُعلنونه عادةً. حيث يُدرك الباحثون أن هناك قدرًا كبيرًا من الشك في الأرقام التي يجدونها في أي مجتمع، وأن هذه الأرقام قد تختلف من مكان إلى آخر ومن وقت إلى آخر. ويُحيطون الأرقام بفواصل الثقة التي تطرَّقنا إليها في الفصل السابق. وكما يُوحي المصطلح، تهدف فواصلُ الثقة هذه إلى الإيحاء بما إذا كان الرقم مما يمكن أن يضَعوا ثقتَهم فيه، أم أنه من الأرقام التي لا نثق في أن تقترب حتى من الصواب. والقاعدة العامة هي أن فواصل الثقة كلما اتَّسعَت بيَّنَت أن الرقم مشكوك به بدرجةٍ أكبر، وكلما ضاقت دلَّت على أن الرقم أكثر مِصداقية.

تذكَّر أن التقدير كان أن كلَّ حالة مسجَّلة تُساوي «نحو» ١٥٠٠ حالةٍ إجمالية. فماذا عن كلمة «نحو» هذه التي سبقَت الرقم؟ كم كان اتساعُ فواصل الثقة الخاصة بفيروس النورو؟ للتيقُّن بنسبة ٩٥ في المائة من الوقوف على الرقم الصحيح، جاء في دراسة الأمراض المِعوية المعدية أن حالةً واحدةً مُثبَتة معمليًّا قد لا تُساوي أكثر من ١٤٠ حالة في المجتمع … وقد تُساوي ما يصل إلى ١٧٠٠٠ حالة. يا لها من درجة من اللايقين!

هذه الأرقام تعني أنه مُقابل الألفَي حالةٍ المثبَتة في المَعمل في شتاء ٢٠٠٧، قد يكون عددُ الحالات الموجودة في المجتمع ما بين ٢٨٠٠٠٠ حالة و٣٤ مليون حالة (أكثر من نصف إجمالي سكان المملكة المتحدة)، هذا بالإضافة إلى احتمال نِسبتُه ٥ في المائة أن تكون القيمة الحقيقية خارج هذه التقديرات ذاتِ النطاق الشديد الاتِّساع. ذكر القائمون على الدراسة في مَعرِض ذِكر النتائج التي توصَّلوا إليها بأسلوب دورية «بريتيش ميديكال جورنال» المتحفِّظ: «كانت هناك درجةٌ عالية من اللايقين الإحصائي في هذه النسبة.» ولنقُلها بأسلوبٍ أوضح: لم تكُن لديهم أدنى فكرة. وذلك لسببٍ وجيه هو أن عدد الحالات المؤكَّدة مَعمليًّا في تلك الدراسة، أي عدد مَن ثبتت إصابتهم بفيروس النورو، وهو العيِّنة التي استند إليها حسابُ نسبة ١:١٥٠٠ كان في الحقيقة … ١.

كان هذا من الأرقام البعيدة كلَّ البُعد عن الصواب. والأنكى أن ثلاثة أرباع الألفَي حالةٍ المسجَّلة في «الوباء» الذي انتشر شتاء عام ٢٠٠٧ كانت لمرضى كانوا في عنابر المستشفيات بالفعل، حيث يُعرف أن المرض ينتشر بسهولة بين مجموعة الأشخاص المستقرِّين نسبيًّا في ذلك المُحيط المُغلَق. أي إن هذه الحالات ربما لم تُقابلها في العالم الخارجي سوى حفنةٍ قليلة من الحالات، إن وُجِدت. فإذا أُصيب عشرةُ مرضى في أحد عنابر المستشفيات بهذا الفيروس، فهل يعني ذلك أن هناك ١٥٠٠٠ حالة جديدة أخرى في المجتمع؟ ربما يعني أنه قد لا يكون هناك غير هذه الحالات العشر الموجودة في العنبر.

قبل منتصَف يناير من عام ٢٠٠٨ كان الحديث عن وجود وباء قد اختفى تمامًا، حيث تبخَّر الارتفاع الظاهري في عدد الحالات (كان وصول عدد الحالات الجديدة إلى ٢٠٠٠ حالة في الأشهُر الثلاثة الأخيرة من عام ٢٠٠٧ يُمثل تضاعفًا لعدد الحالات مقارنةً بالمدة نفسِها من العام السابق، لكن لم يكُن هناك في الواقع ضعفُ عدد الحالات المسجَّلة، فقد كانت الذروة قد جاءت ومضَت قبل ذلك؛ مما يعني أن إجماليَّ عدد حالات الفصل لم يختلف كثيرًا عن الفصول الأخرى). لكن كل ذلك لا يُغيِّر كثيرًا من المشكلة الكُبرى — وهي أننا ليس لدينا إلا فكرةٌ طفيفة للغاية عن علاقة العيِّنة بباقي السكان، وليس لدينا أي فكرة على الإطلاق عن التغير الذي يطرأ على هذه العلاقة؛ ولذا فلا يمكننا القطع — في غياب مصدر آخر للأدلة الأكيدة — بما إذا كان هناك شلَّالٌ كاسح من الحالات المرضية، أم حفنةٌ قليلة منها.

•••

الغالب أن القيء لا يُعَد من الموضوعات التي تعتمد على العيِّنات، لكن بعض الموضوعات التي يحتدم الجدلُ حولها حتى يبلُغ مداه تعتمد على العيِّنات. على سبيل المثال، كانت إحصائيات الهجرة في بريطانيا في صيف عام ٢٠٠٧ مادة للسخرية والتندُّر؛ إذ رُوجعت عدةَ مرَّات، وفي كل مرة كانت النتيجة أعلى من المرة السابقة. فقد صُدِم الصحفيون والساسة وربما بعضٌ من الجماهير لمعرفة أن الإحصائيات كانت (أ) غير دقيقة، (ب) لم يجرِ جمعها، بل أُنتِجت بأخذ عيِّنة وإجراء التقدير الاستقرائي بِناءً عليها.

ينبغي ألا يكون في أي الأمرَين مُفاجأة. ولمعرفة السبب، انضمَّ إلينا في جولةٍ قصيرة سنجتاز فيها القناة الإنجليزية ذَهابًا وإيابًا، حيث يبدأ خطُّ إنتاج إحصائيات عابري البحر بمجموعة من المسئولين المجتمعين على رصيف دوفر في برد الصباح الباكر. وظيفتهم هي العد، ويعتمد عليها الكثير من الأشياء؛ فما يكتبونه على الورق سيكون بذرةً لاستنتاجاتٍ جريئة سيَصل إليها أشخاصٌ آخرون، يرى بعضهم أننا بحاجة إلى المزيد من العُمال لكي تزدهرَ بريطانيا، في حين يرى آخرون أن هذا يُهدِّد أسلوب الحياة البريطانية. إنهم يُعدُّون المهاجرين، أو على الأحرى يأخذون عيِّنات منهم.

كل ما يسمعه الجمهور أو يعرفونه عن مسئولي الإحصاء على الحدود هو الرقم الوحيد الذي يصل إلى عناوين الصحف؛ في ٢٠٠٥ كان صافي عدد المهاجرين نحو ١٨٠٠٠٠ شخص، أي نحو ٥٠٠ في اليوم. وفي بعض الأحيان تُضاف إلى ذلك بعضُ التفاصيل عن المكان الذي جاءوا منه، وأعمارهم، وما إذا كانوا عُزابًا أم يَعُولون أطفالًا، وما إلى ذلك.

ومن ناحيةٍ أخرى، يرى مسئولو المسح الدولي للمسافرين يوميًّا حقيقةَ العملية البسيطة ظاهريًّا المُتبعة في إنتاج هذه الأرقام، ألا وهي الاعتماد على التقريب والمواءمات. فهُنا يعرفون جيدًا مدى سهولة تشكيل الناس، خاصةً المسافرين. والأهم أنهم لا يأخذون إلا عينةً صغيرة جدًّا منهم.

يبدأ إنتاج إحصائية المهاجرين العابرين للبحر في يومٍ يغلب عليه اللونُ الرمادي يَشرع فيه أفرادُ فِرق المسح المتَّشِحون بسُتراتٍ زرقاء موحَّدة في عبور القناة بنشاطٍ بين ركاب العبارات، وينتقلون من مكتب الإعفاء من الرسوم الجمركية إلى أماكن استحمام سائقي الشاحنات، باذلين قُصارى الجهد للتوصُّل إلى تصوُّر للتفاصيل الشديدة التعقيد لكيفية عبور الأشخاص للحدود والأسباب التي تدعوهم إلى ذلك. وتكمُن المشكلة في أنه في سبيل معرفة ما إذا كان المسافرون يَفِدون إلى البلاد للاستقرار فيها أو يُغادرونها بلا نيَّة للرجعة، أو قَدِموا إليها لقضاء إجازة، أو خرَجوا في رحلة لشراء الكحوليات المُعفاة من الضرائب، أو لتمضيةِ عامٍ يفصل بين سنوات الدراسة يبدَءونه من كاليه ويختمونه في ريو، يصعُب تصوُّر أي بديل لسؤالهم عن ذلك مباشرةً. وهكذا فحشودُ الناس المُرتحلين بين أرجاء العالم، بحثًا عن حياةٍ جديدة أو هربًا من القديمة، أو طلبًا للعمل أو الزواج أو التقاعد المُريح، وسواءٌ نظرتَ إليهم باعتبارهم عبئًا أتى ليُثقِل كاهل بريطانيا أو عقولًا فذَّة تسرَّبت منها، يُقيَّدون في السِّجلَّات — حال اختيارهم السفر بالبحر — وهم يتلكَّئون بالقُرب من ماكينات البيع، أو يَلُوكون الكرواسون، أو يقصدون دورات المياه.

فقد يُنادي أحدُ المسئولين: «يا صاح! أنت يا من ترتدي البنطال القطني! نعم، الواقف بجوار قارب النجاة! ما وِجهة سفرك؟» وهكذا يستكشفون اتجاهات هجرة البشر ومسارات طموحاتهم.

وقد لا يجري الأمر على هذا النحو، ليس فقط لأن المهمة قد تكون أصعبَ من ذلك كثيرًا. فأعضاء فِرق المسح الدولي للمسافرين لا سُلطة لهم — إذ لا يُضطرُّ أحد للإجابة عن أسئلتهم — كما أنهم يلتزمون باعتبارات التهذيب إلى أقصى حد، وإلا لما صلَحَت لهم هذه الوظيفة. وعلاوةً على ذلك، لا يُمكنهم إحصاء الجميع وطرح الأسئلة عليهم، فالوقت لا يكفي لذلك؛ لذا فإنهم يأخذون عيِّنات من المسافرين، ويُراعون أن يكون الاختيار عشوائيًّا بقدر المُستطاع؛ لتَلافي خطر التركيز على عشرين شخصًا يحتفلون بانتهاء عزوبية أحدهم بمعاقرة الشراب — مثلًا — ثم استنتاج أن كلَّ من على متن السفينة يفعلون مِثلهم.

لذا فقَبْل المغادرة بقليل، يقِف المسئولون أعلى ثماني مجموعات من الدرَج، وفي عِدَّة مَصاعد تؤدِّي إلى سطح السفينة بينما يتقاطرُ المسافرون إلى متن السفينة، ويكتبون وصفًا لعاشر كل تسعة من المسافرين في مِلف، فمن الرُّكاب مَن يحملون حقائب الظهر، ومنهم اللاجئون، ومُرتدُو البِذْلات، ومن يبدو عليهم عدم الاكتراث، آمِلين أن يَجِدوهم لاحقًا لاستجوابهم برِفق. حيث يكتبون مثلًا: رجل طويل، مُلتحٍ، يرتدي قميصًا مكتوبًا عليه: «راكبو الأمواج يفعلون ذلك واقفين». هذا الشخص يسهُل العثور عليه لاحقًا، فليس من المحتمل أن يُغيِّر ملابسه؛ فتغيير الملابس يُعطل الأمور في بعض الأحيان.

عندما صعِد بضع مئات من فِتيان الكشَّافة إلى متن السفينة في طريقهم إلى المخيَّم الكشفي العالمي، اطمأنَّ فريق المسح إلى افتراض أن الوسيلة المُثلى للتفريق بينهم هي لون حلقة منديل الكشَّافة، حتى تبيَّن لاحقًا أن المخيَّم الكشفي منح كلًّا منهم حلقاتٍ جديدةً مُتطابقة. لم يُعفِهم كونُ الفِتية جميعًا متَّجِهين إلى المكان نفسِه وعائدين من المكان نفسِه من التزامهم بالسؤال. ويُعَد خطر الإرهاق من عدِّ حلقات الكشَّافة خطرًا مِهنيًّا مُرتبطًا بكل أنواع الإحصائيات.

تنطلق العبارة في رحلتها، ويَشرع فريق المسح مُعتمدًا على الوصف المسجَّل للمسافرين، في تتبُّع طرائدهم، آمِلين أن يكونوا جميعًا من الناطقين بالإنجليزية.

يقول أحدهم: «أبحث عن سيدةٍ كبيرة الحجم ترتدي جونلةً حمراءَ مزيَّنةً بزخارف بيزلي ووشاحًا أزرق. أعتقد أن تلك هي؛ الجالسة على المشرب تطلب شراب الجين والحامض.»

وهكذا يُعثَر على الطريدة، فيَهرع المسئول إلى محاصرتها بمنتهى الأدب: «معذرةً، أنا أُجري مسحًا دوليًّا للمسافرين. هل يمكنك التكرمُ بالإجابة عن بضعة أسئلة؟»

فترد: «بكل تأكيد.» أو ربما تكون أقلَّ كِياسةً فتقول: «كلا، أنا مشغولة يا عزيزي.» وهكذا يفلت من التدوين خبر هجرة إحدى المُمولات البارزات في المدينة. نحو ٧ في المائة من الناس يرفضون الإجابة. في حين يُفصح البعض بصراحة عن نيَّتهم المجيءَ إلى البلاد أو الرحيلَ عنها إلى الأبد، ثم يُغيِّرون رأيهم، فيَهرُبون بعد ثلاثة أشهُر، لأسبابٍ تتعلق بالطقس أو الطعام.

تُجري فِرَق المسح الدولي للمسافرين حواراتٍ مع نحو ٣٠٠ ألف شخص في العام، على متن السُّفن أو في المطارات. وفي عام ٢٠٠٥، كان سِتمائة أو سَبعمائة من هؤلاء المسافرين مُهاجرين، وهي نسبةٌ ضئيلة يُمكِن من خلالها تقديرُ إجمالي تدفُّقات المهاجرين في الاتجاهَين بالمئات أو الآلاف من الناس (رغم أنه قد بدأ مؤخرًا تدعيمُ بيانات المسح الروتيني بمُسوحٍ إضافية تُجرى في مطارَي هيثرو وجاتويك مصمَّمةً خصوصًا لتحديد هُويَّة المهاجرين). وقد وُصف هذا النظام بأنه «غير كافٍ ولا أملَ يُرجى منه» على لسان ميرفين كينج، مُحافظ بنك إنجلترا — المسئول عن وضع أسعار الفائدة الذي يَملِك سببًا قويًّا للرغبة في معرفة حجم قوة العمل.

وفي المطارات أيضًا تكون العينة مَعيبة إلى حدٍّ يُثير الضحك. ففي نوفمبر من عام ٢٠٠٦، أفادت الأدلة التي قدَّمها ميرفين كينج إلى اللجنة المختارة للخِزانة بأنه رغم وصول معدَّلات الهجرة في أوروبا الشرقية إلى ذروتها، فقد كانت التقديرات مُنخفضةً إلى حدٍّ مُدهش، حيث قال: «ليست لدينا طريقةٌ دقيقة بما يكفي لقياس أعداد الهجرة، سواءٌ الإجمالية أو الصافية.»

وأضاف: «في ٢٠٠٣، أعتقد أن عدد رِحلات الرُّكاب بين المملكة المتحدة وبولندا كان نحو ٥١٦٠٠٠ رحلة. وذلك في الاتجاهَين. وكانت كل هذه الرِّحلات تقريبًا (٥١٥٠٠٠ رحلة) متجهةً إلى جاتويك أو هيثرو أو مانشستر. وخلال العامَين التاليَين ارتفع عدد رِحلات الرُّكاب بين المملكة المتحدة وبولندا من ٥١٦٠٠٠ رحلة إلى ١٫٨ مليون رحلة. وكانت كلُّ هذه الرحلات الإضافية تقريبًا متجهةً إلى مطارات غير هيثرو وجاتويك ومانشستر. لماذا يُعَد ذلك مهمًّا؟ لأن معظم الأشخاص الذين يُوزِّعون استبيانات هيئة المسح الدولي للمسافرين كانوا يتركَّزون في مطارات هيثرو وجاتويك ومانشستر.» وأضاف السيد كينج أنه خارج هيثرو وجاتويك ومانشستر، كان عدد المسافرين على خطوط الطيران في ٢٠٠٥ الذين «قالوا صراحةً في مسح المسافرين الدوليِّين: «نعم، أنا مُهاجر وافدٌ إلى المملكة المتحدة» ٧٩ شخصًا.»

لا يسَعُ المرءَ إزاء ذلك إلا أن يتخيَّل الصورة التي تصعُب مقاومتها التي يُعاني فيها مسئولو المسح الدولي للمسافرين من نسخةٍ مطوَّلة من أفاعيل السيد هولو — الشخصية السينمائية الشهيرة — حيث ينظُر القائمون على إحصاء المسافرين في أحد الاتجاهات في حينِ يتسلَّل مليون شخص من ورائهم. ولا مجال الآن للجزم بما إذا كان عليهم توقُّعُ هذا التغير في نمط تدفُّق المسافرين أم لا، لكن ما حدث يُظهِر لنا بجِلاءٍ كيف تُحيل الاتجاهاتُ الجديدة العيِّناتِ القديمةَ إلى التقاعد.

هذا هو الإحصاء في العالم الفِعلي. ليس علمًا، وليس دقيقًا، بل إنه، مع كامل الاحترام لمن يُمارسونه، عبث. تعمُّق في دارسة طريقة جمع البيانات، وأغلب الظن أن تجد شيئًا مُثيرًا للقلق إلى حدٍّ ما؛ الفوضى والارتباك البشريَّين، والحظ، والأحكام الشخصية، وهامش خطأ يظلُّ قائمًا على الدوام عند الاكتفاء بأخذ عيِّنة من الإجمالي الفعلي، ثم تعليق الآمال على هذه العيِّنة وتعميمها بكل بساطة على ما يتخطَّاها. مهما كان ضمير القائمين بالإحصاء يقِظًا، يظلُّ الشيء الذي يتم إحصاؤه صعبَ الإحصاء دائمًا، وذلك في معظم مجالات الحياة. يندُر أن يكون افتراضنا صحةَ عملية الإحصاء حقيقيًّا، بل لا يمكن أن يكون حقيقيًّا في أغلب الحالات؛ ولذا فإن سيطرتنا على العالم من خلال الأرقام هي في الحقيقة أضعفُ بكثير مما نظن.

ولا يعني ذلك أن عملية العد أو الإحصاء مَضْيعة للوقت. فرغم ما يَعتوِر البيانات من عيوب، فهي عادةً أفضل من عدمها؛ قد لا تكفي، لكن التطوير لا يتحقَّق دائمًا بدون بذْل كُلفة باهظة في سبيله. النقطة الأهم هي أن نُدرِك اللايقين الكامن في هذه الأرقام، وأن نتعامل معها بالحذر الواجب لها، بدلًا من التشكيك. قليلون هم مَن يُدرِكون كم من البيانات العامة تأتي من عيِّنات. تكفي نظرةٌ سريعة إلى الصفحة الرئيسية لموقع الإحصائيات الوطنية على الإنترنت، وأي بيانات تحملها عن أي شيء متعلِّق بالاقتصاد أو السكان أو المجتمع، لنكتشف كمًّا من المعلومات يستند معظمُه إلى العيِّنات، ونكتشف أيضًا أن واحدةً فقط مما عليه من إحصائيات هي التي اعتمدت على حصرٍ شامل:

تُظهر إحصائياتُ أسماء الأطفال لهذا العام تغيرًا كبيرًا في أسماء الفتَيات؛ فقد تقدَّم اسما أوليفيا وجريس لينضمَّا إلى جيسيكا في المراتب الثلاث الأولى. وظلَّت الأسماء جاك وتوماس وجوشوا في صدارة أسماء الفِتيان الأكثر شيوعًا، كما كان الحال في الأعوام الماضية.

•••

تُسجَّل الأسماء وتُحصى بالكامل، شأنها في ذلك شأن الرقم التقديري لإنفاق الحكومة وإيراداتها. ولكن في يومٍ عشوائي — يوم كتابة هذه السطور مثلًا — يكون كلُّ ما هو مسجَّل — وهناك العشرات من الإحصائيات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية — مُعتمدًا على عيِّنة. ويكون حجم عيِّنة الكثير من الإحصائيات الروتينية — كالتضخم أو تأثيرات التغيرات في الضرائب أو المنافع على سبيل المثال — حوالَي ٧٥٠٠٠ أسرة، أو نحو ١ / ٣٠٠٠ من العدد الفعلي للأُسَر في المملكة المتحدة.

ولا مفرَّ من ذلك. فقد يستغرق الأمر عُمرًا لإحصاء أحداثِ حياة شخصٍ واحد، فهناك الكثيرُ من الأشياء لعدِّها، والقليل من الأشياء التي يُمكن عدُّها عمَليًّا. مهما كانت جهود إحصاء الحقائق المهمَّة مُكلفة أو مُزعجة أو مُتعبة، لا يمكن أن تُجديَ نفعًا بدون أخذِ العيِّنات. ولكن عملية أخذ العيِّنات لها أخطارٌ كامنة، وعلينا أن نعرف مدى انتشارها باعتبارها مصدرًا للأرقام اليومية، وكيف يحدُث الخطأ فيها.

•••

بدأ الإحصاء الوطني للقنافذ عام ٢٠٠١. ولما كانت القنافذ أقلَّ تعاونًا من جماهير البشر العازفين عن التَّعداد، فإنها تخفض رءوسها دائمًا للاحتماء. في البرِّية، ما من طريقةٍ موثوقة لإحصاء أعداد القنافذ غير تجميعها حيةً أو ميتة، أو اقتحام موائلها، وتركيب حلقات على أقدامها تحمل رقمها، وهو ما لا يفي بالغرض.

يُقال إن أعداد القنافذ في تناقُص. فكيف عرَفنا ذلك؟ يمكننا أن نسأل حُراس الصيد عن عددِ ما رأوه منها في الآونة الأخيرة — أي هل ازدادت أم قلَّت في العام الماضي — ويمكننا أن نطرح الأسئلة نفسَها في استطلاعاتٍ عامة للرأي. عندئذٍ ستكون الإجاباتُ ذاتيةً وقولية، لكننا نريد بياناتٍ تتَّسم بقدرٍ أكبر من الموضوعية، فماذا نفعل؟

عام ٢٠٠٢، جرى توسيع نطاق مسح القنافذ ليُصبح مسح ثدييات الطريق. قد يقول أحد الصغار المُحبين للقنافذ إن هذا المسمَّى الجديد يوحي بحلٍّ رديء. يجري المسح في يونيو ويوليو وأغسطس من كلِّ عام، حينئذٍ تكون الثدييات في حالة حَراك، ويمكننا أن نُحصيَ عددَ ما يظلُّ على قيد الحياة منها بعدِّ ما تدهسه المَركبات منها ويلتصقُ بالأسفلت. كلما زاد عدد القنافذ في البرية، زاد عددُ ما سيتشمَّم طريقه إلى الهلاك منها، هكذا كان منطق المسح. فإذا كان عدد القنافذ صغيرًا، فسيَندُر عددُ ما يُعثَر عليه منها بهذه الطريقة، أما إذا كان كبيرًا، فسيُعثَر على عددٍ أكبر.

اكتشِف الخطأ في هذه الطريقة: هل يجري إحصاء عدد القنافذ أم الكثافة المرورية؟ فحتى إذا كان عدد القنافذ ثابتًا، إذا زاد عدد السيارات زادت معه حالات الدهس. أو كما قال المُستمعون الأكثرُ نباهةً لبرنامج «مور أور لِس»: هل يمكن الاستدلال بتراجُع عدد الحيوانات التي تُدهَس على الطريق على تطوُّر نوع من القنافذ أكثرَ ذكاءً ووعيًا بالمرور، لا يُكوِّر جسمه عند رؤية الخطر أو سماعه، بل يمشي على قوائمه بدلًا من ذلك ويُواصل العيش بدون أن ترصده فِرقُ المسح؟ أو ربما تسبَّب تغيُّر المناخ في تغيرات في دورة حياة القنافذ السنوية، فقلَّ احتمال خروجها إلى الطريق في الأشهُر الثلاثة المذكورة.

يُخبرنا مسح ثدييات الطريق الأخير أن متوسط الأعداد في إنجلترا وويلز قد انخفض في كل عام أُجريَ فيه المسح عن سابقه، وأن الأعداد في اسكتلندا كانت في العام الماضي أقلَّ بكثير منها في بداية إجراء المسح. أما في إنجلترا، فقد بلَغ الانخفاضُ أقصاه في المنطقة الشرقية ومنطقة شرق ميدلاندز وفي الجنوب الغربي، ولا يعرف أحد سببًا لذلك.

ويتلخَّص الدرس المُستفاد من المسح في أننا كثيرًا ما نبذل جهودًا كبيرة — ورغم ذلك فهي غيرُ كافية — لجمع المعلومات الكافية للحصول على إجابةٍ معقولة عن أسئلتنا، وأن هذه المعلومات ستظلُّ مع ذلك عُرضةً للتفسيرات الخاطئة، وعُرضة لأن تكون مستنِدةً إلى عيِّنات غير جيدة. ومع ذلك، ورغم كل العيوب الممكنة، يظلُّ هذا أفضلَ ما يمكننا فِعله في الظروف الراهنة. في أحيانٍ كثيرة لا نتوقَّف لنُفكر في إجابة للسؤال: «كيف توصَّلوا إلى هذا الرقم؟» لقد غرَّنا التوفر الدائم للبيانات حتى ظننَّا أنها تُجمع بسهولة. لكن الحقيقة بعيدة تمامًا عن ذلك. لا تفترض أن هناك وسيلةً سهلة تُوفر لنا إجابةً أكيدة. بل إنه من النادر أن نعرف الإجابة الكاملة؛ لذا نبحث عن طريقة لمعرفة جزء منها، ثم نُطلِق العِنان للاستنتاجات والتخمين. نأخذ عيِّنةً صغيرة من الكل الكبير بما فيه من بياناتٍ غزيرة ممكنة، ونُطلِق العِنان للآمال؛ فنحن حينئذٍ كمن يُحاول الشُّرب من خرطوم إطفاء الحريق.

بل إن الشرب من خرطوم إطفاء الحريق أسهل نِسبيًّا من جمع العيِّنات للإحصائيات. وتكمُن المشكلة في كيفية التأكد من أن القليل الذي ستتمكَّن من ابتلاعه مِثل الباقي كله. إذا كان كل ما يخرج من الخرطوم ماءً فلا مشكلة، ولكن ماذا لو كانت كلُّ قطرة مختلفةً عن القطرات الأخرى بشكلٍ ما؟

يُعَد التمثيل الدقيق للكل عقبة كَئودًا يسعى القائمون على جمع العيِّنات للإحصائيات جاهدين لاجتيازها، ويفشلون في ذلك في أغلب الأحيان. فماذا لو كانت عيِّنة القنافذ المدهوسة بالكامل أقليةً كان الهلاك مصيرها المحتوم أصلًا، وكانت القنافذ الهاربة أغلبيةً تطوَّرت عنها وفاقتها عددًا بفارقٍ كبير؟ لو كان هذا هو الحال لكان ما لدينا مجرَّد إحصائية مغلوطة لعدد القنافذ التي تُكوِّر نفسها وتتدحرج (الآخذة في التناقص) دون القنافذ التي تجري على قوائمها (الآخذة في التزايد). لا شك أن هذا من غير المرجَّح، وأنه محضُ افتراض، لكن كيف يُمكننا التيقن؟

•••

غير أن هذا الانحرافَ الكامن في العينات ليس افتراضيًّا فحسب. فهو ينطبق من وقت إلى آخر — على سبيل المثال — على بعض الإحصائيات المهمة إلى حدٍّ يؤهِّلها إلى تصدُّر عناوين الأخبار، مِثل نمو الاقتصاد البريطاني.

يُعوِّل كلٌّ من بنك إنجلترا، ووزارة الخِزانة، والساسة، ومجتمع الأعمال بأكمله، فضلًا عن رابطات المُحلِّلين الاقتصاديِّين، على صحة الإحصائيات الخاصة بنمو الاقتصاد البريطاني، التي تتكفَّل هيئة الإحصائيات الوطنية بجمعها بنيَّةٍ طيِّبة وبصرامة وإصرار لا يَفتُران. حتى إن الحكومات لَترتعدُ لذِكر هذا الرقم الذي يُعَد أساسًا لكل التنبؤات الاقتصادية، ومِقياسًا لنجاح اقتصادنا، وسِجلًّا يُوثَّق فيه الازدهار أو الركود.

وهذا الرقم أيضًا يعتمد على عيِّنة. والأدهى أن هناك أدلةً كافية على أن هذه العينة في المملكة المتحدة متحاملةٌ على أجزاء الاقتصاد البريطاني المحتمل أن تنموَ أسرع من غيرها. ومن تَبِعات ذلك أننا في السنوات العشرة الأخيرة ظننَّا أن أداء بلادنا مُتدنٍّ بالمقارنة بأداء الولايات المتحدة، في حين أننا ربما كنا نُبلي بلاءً أفضلَ من الولايات المتحدة، لا أسوأ منها.

ففي المملكة المتحدة، يصعُب اكتشافُ نموِّ أي شركة ناشئة قبل أن نرى تقاريرها الضريبية. إذ يمرُّ وقتٌ طويل، ربما عامان تقريبًا على نشر أول تقديرات للناتج المحلِّي الإجمالي، قبل أن ينعكس نموُّ الشركة الجديدة في الأرقام الرسمية. لذا لا تعكس الإحصائياتُ الأولى للناتج المحلِّي الإجمالي الجانب من الاقتصاد الذي من المرجَّح أن يفوق كل الجوانب الأخرى في سرعة نموِّه، وهو الشركات الجديدة ذات الأفكار الجديدة، التي تفتح أسواقًا جديدة. وقد أدَّى ذلك مرَّاتٍ عديدةً في الماضي إلى إعلان معدَّلات للنمو الاقتصادي في المملكة المتحدة تقلُّ عن الواقع بنحو نصف في المائة. وعندما يكون معدَّل النمو السنوي نحو ٢٫٥ في المائة، يُعَد النصف في المائة فارقًا كبيرًا.

لكن هذا الخطأ لا يُعزى إلى تعمُّد أو قلة كفاءة، بل قد لا يكون هناك مفرٌّ منه. فأحد البدائل التي قد يُلجأ إليها إذا لم تكُن البيانات الخام مُتاحةً هو التخمين. وأن نسأل أنفُسنا: ما سرعة النمو المُمكن — إن وُجِد — للأجزاء الناشئة من الاقتصاد؟ وعندئذٍ قد نستند إلى ما شَهِدناه سابقًا ونُخمِّن أن نصفًا في المائة من الناتج المحلِّي الإجمالي قد يكون تقديرًا معقولًا للرقم الصحيح، لكن هذا التخمين يعتمد على افتراض أن الأداء السابق سيظلُّ كما هو دون تغيير، وهو تخمينٌ ينطوي على مخاطر، كما يعلم أيُّ مستثمر. يرى رئيس الهيئة البريطانية للإحصائيات أنه من المُناسب أن نُحصيَ ما يُمكننا أن نعرفه بالمنطق، وليس ما نتكهَّن بشأنه، ولكن هذا يعني أن الخروج بعدد أقلَّ من الواقع أمرٌ مرجَّح (لكنه ليس حتميًّا).

في الولايات المتحدة يعتمدون على التخمين، وبعد ذلك يُراجعون تقديراتهم في تاريخٍ لاحق عندما تتوفَّر البيانات الواقعية، وعادةً ما يتبين أن الواقع أقلُّ من تقديراتهم بفارقٍ يكون في أحيانٍ كثيرة كبيرًا. وقبل أن يتوفر الرقمُ الأكثر دقةً يكون قد فات الأوان بالطبع على أن يترك الرقمُ الجديد لدى العامة انطباعًا كبيرًا؛ فقد استقرَّ في وجدان الجميع بالفعل أن الولايات المتحدة تجري كأرنب برِّي في حين تزحف المملكة المتحدة كحيوان الكسلان. لكن الأوان لم يفُتْ على هذه البيانات. لقد شكَّلت العيِّنات آراءنا، وعيِّناتنا دائمًا ما تكون مُنحازةً على نحوٍ يصعُب علاجه بدقة إلا في وقتٍ لاحق، وقبل أن يَحين هذا الوقت اللاحق يكون الجميع قد فقدوا اهتمامهم بإحصائيات عن أحداثٍ مرَّت عليها مدةٌ تُقارب السنتَين. في عام ٢٠٠٤، كنا نظنُّ أن معدَّل النمو في المملكة المتحدة ٢٫٢ في المائة (معدل ليس سيئًا، لكنه ليس عظيمًا)، في حين كان معدَّل النمو في الولايات المتحدة ٣٫٢ في المائة (معدل رائع). وبعد مراجعاتٍ لاحقة، تبيَّن أن معدَّل النمو في المملكة المتحدة يبلُغ ٢٫٧ في المائة، ومعدل النمو في الولايات المتحدة ٢٫٧ في المائة أيضًا. ورُوجعت إحصائيات معدل نمو الاقتصاد الأمريكي في الأشهُر الثلاثة الأخيرة من ٢٠٠٦، الذي كان التقدير الأوَّلي له ٣٫٥ في المائة، فتبيَّن أنه ٢٫٢ في المائة بنهاية مارس ٢٠٠٧، وهو فارقٌ ضخم.

ولكن ما البديل؟ من البدائل أن نُحصيَ كلَّ شيء؛ أي أن نحصُر كلَّ الأعمال التِّجارية بأحجامها المختلفة في كل لحظة تُبرَم فيها صفقةٌ جديدة. وهذا في استطاعتنا تقريبًا إذا كنَّا مستعدِّين لتحمُّل عبء هذه البيروقراطية الإحصائية وتكلفتها. فنحن نُحصي بعضًا منها بالفعل بهذه الطريقة، لكن الواقع العمليَّ يستلزم بعض الانتقائية في ذلك.

تُعَد المعركة الإحصائية التي تدور بين الحياة باعتبارها خُرطومًا لإطفاء الحريق من جانب، وبين جامعي العيِّنات وهم كالقابضين بأصابعهم على فناجين الشاي ليَملَئوها من الخرطوم على الجانب الآخر، معركةً غير مُتكافئة. والحقيقة أنه من المُذهل أنَّ بمقدورنا إحصاءَ القدر الذي نستطيع إحصاءه، وبهذا المستوى من الدقة. لكن أفضل ما يُمكننا فِعله هو أن نُدرك حدود قدرتنا، وأن نتعلم كيفية اكتشاف الحالات التي تُغفِل فيها عيِّناتنا شيئًا ما.

•••

تُعَد حالاتُ مرض نقص المناعة البشرية/الإيدز من الطوارئ العالمية، ويستحيل حصرها بالكامل. قدَّر برنامج الأمم المتحدة المشترك لفيروس نقص المناعة البشرية (وهو الوكالة الدولية المسئولة عن إحصائيات المرض وعن تنسيق الجهود للتعامل معها) أن عدد الحالات حول العالم يبلُغ ٤٠ مليون شخصٍ عام ٢٠٠١. ومن المعتقَد أن الرقم قد ارتفع منذ ذلك الحين وأنه أصبح الآن (وَفقًا لتقرير البرنامج لعام ٢٠٠٦) ٣٣ مليون شخص. هذا صحيح، لا خطأ في الأرقام، فهذه «الزيادة» كانت من ٤٠ مليونًا إلى ٣٣ مليونًا؛ فقد بدأ المنحنى الصاعد في الهبوط، ومع ذلك فهناك ظلالٌ كثيفة من الشك تُحيط بهذه الأرقام.

يكمُن تفسير هذه المفارقة في العيِّنات. فقط أقرَّ الباحثون بأن عيِّناتهم (التي جيء بالكثير منها من عيادات التوليد في المدن) كانت مُنحازة. وتبيَّن أن النساء الحوامل كنَّ انعكاسًا مشوَّهًا لمدى شيوع الأمراض المنقولة جنسيًّا عند باقي المجتمع؛ وذلك لأن … أيُمكِنك تخمين السبب؟ لأن جميع النساء الحوامل قد مارَسنَ الجنس بدون وسائل وقاية. والمشكلة الأخرى أن المناطق الحضَرية ربما كان معدل العدوى فيها أعلى من المناطق الريفية.

لكن هذه العيِّنة كان جمعُها سهلًا على الأقل. فعندما تكون المهمة صعبةً والحصر الكامل مُستحيلًا، تكون سهولةُ الجمع مهمة. ولكن صورة العالم التي تعكسها هذه المرآةُ مشوَّهة تشوهًا غريبًا، حيث يُمارِس الجميع الجنس، وبدون وسائل وقاية. في حين أن الطريقة الجديدة والمطوَّرة تشمل بياناتٍ تستند إلى مُسوح لجميع السكان، كلما أمكن ذلك.

يعتقد القائمون على برنامج الأمم المتحدة للإيدز أن التقديرات السابقة كانت أعلى من الواقع، وقد راجَعوها في ضوء مسوح أخرى. واستقرَّ رأيهم أن الحالات الآن أكثرُ من أي وقتٍ مضى. فهل يمكننا أن نثِق في أسلوبهم الجديد في جمع العيِّنات؟ الأرقام محلُّ جدل يدفع بها صعودًا وهبوطًا؛ إذ يعتقد البعض أنها أقلُّ من الواقع، ويعتقد آخرون أنها أعلى منه، وسيظلُّ هذا الجدل مُحتدمًا على الدوام. كل ما يمكننا هو مواصلة إعمال خيالنا في البحث عن كل ما يُشوِّه الصورة التي تعكسها مرآة العيِّنة فلا يجعلها انعكاسًا صحيحًا للواقع.

ومن الجدير بذِكرٍ عابرٍ أن القائمين على برنامج الأمم المتحدة للإيدز يعتقدون أن المشكلة بلَغَت ذروتها في معظم الأماكن، وأضافوا أن من الأسباب التي لا تنفكُّ ترفع الأرقام ارتفاعَ معدل النجاة. فليست كلُّ الزيادات في عدد من يُعانون مرضًا ما غيرَ مرغوبة، ففي بعض الأحيان تُمثل هذه الزيادات الأشخاصَ الذين كان المرضُ سيقتُلهم لو أُصيبوا به في الماضي لكنهم على قيد الحياة الآن؛ ولذا يوجد عددٌ أكبر منهم.

ومع ذلك، لا تطعن الشكوك الدائرة حول دقة الأرقام أو ما تُمثله في الاستنتاج القائل بأننا بصدد كارثة إنسانية؛ فبرنامج الأمم المتحدة للإيدز يعتقد أن مليونَي شخصٍ ماتوا بسبب مرض نقص المناعة البشرية/الإيدز في العام الماضي، ومن المعتقَد أنه كان هناك ٤ ملايين حالة جديدة حول العالم. وفي بعض الحالات، يبدو أن التقدم الذي أُحرِز سابقًا في تقليل الأرقام قد استحال تراجعًا. وهذه الأرقام التي لا شكَّ أنها لا تزال خاطئةً بطريقةٍ ما — أي أقل من الواقع أو أكثر منه — لا بد أن تكون بعيدة جدًّا عن الصواب، وإلا كانت مُفزِعة بحق.

يبدو أن التقارير التي تحمل إلينا هذه الإحصائيات تميل إلى إفراد إحصائية بعينها. لكن عملية جمع العيِّنات غالبًا ما تكون صعبةً لدرجة أننا نُحيط نتائجها بهوامش كبيرة من الشك. لا تزعم آخِرُ الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة أن ٣٨ مليونًا هو الرقم الدقيق، بل يقولون إن الرقم الصحيح يقعُ على الأغلب بين ٣٠ مليونًا و٤٨ مليونًا، وإن الرقم الأرجح يقع في المنتصَف بين هذَين الرقمين تقريبًا. لاحظ أن أحد هذين الرقمين يفوق الآخر بنسبة ٦٠ في المائة. ولا يعتبر القائمون على نقل الأخبار هذا النطاق من الشك مهمًّا، بل يميلون إلى الاكتفاء برقمٍ واحد. ولكن عندما تفتح العيِّنات المجالَ لهذا القدر من الشك، يندُر أن يكون رقمٌ واحد كافيًا.

•••

أما الإحصائيات التي تفُوق إحصائيات مرض نقص المناعة البشرية/الإيدز فيما يُثار حولها من الجدل فهي إحصائيات حرب العراق. سكان العراق أقلُّ من نصف سكان بريطانيا. وفي أكتوبر من عام ٢٠٠٦، قدَّر فريق من جامعة جونز هوبكينز في بحثٍ نُشِر في دورية «ذا لانسيت» أن عدد مَن ماتوا بسبب الغزو/التحرير الأنجلو-أمريكي للعراق يبلُغ نحو ضِعف من فقدَتهم بريطانيا في الحرب العالمية الثانية؛ إذ بلَغ عددُ ضحايا العراق ٦٥٠٠٠٠ شخص، مقارنةً بنحو ٣٥٠٠٠٠ مدنيًّا ومُقاتلًا فقدَتهم بريطانيا في الحرب العالمية الثانية؛ أي إن نحو ضعف العدد من القتلى سقطوا في بلدٍ سكانُه (٢٧ مليون نسمة) لا يزيدون بكثير عن نِصف سكان بريطانيا عام ١٩٤٠ (٤٨ مليون نسمة).

ومن بينِ القتلى البالغ عددهم ٦٥٠٠٠٠ شخص، اعتُقد أن ٦٠٠٠٠٠ كانوا ضحيةً مباشرة لأعمال العنف، وهذا الرقم كان التقدير المتوسط في نطاقٍ تراوَح بين ٤٠٠٠٠٠ و٨٠٠٠٠٠ شخص. ويتبيَّن بالمقارنة مع الحرب العالمية الثانية أن هذه الأرقام كبيرة جدًّا. وكان الأثر السياسي الذي خلَّفته كبيرًا إلى الحدِّ نفسه، كما احتدم الجدل بشدةٍ حول دِقَّتها.

وبالطبع كان الرقم مُستندًا إلى عيِّنة. فقد زار فريقا مسحٍ خمسين موقعًا اختيرَ عشوائيًّا، وكان في كل مَوقع نحوُ أربعين منزلًا؛ أي إن الإجماليَّ كان ١٨٤٩ منزلًا، كلٌّ يضمُّ في المتوسط سبعة أشخاص (١٣٠٠٠ شخص تقريبًا). وسئل شخصٌ من كل منزل عن حالات الوفاة التي حدَثت في الأربعة عشر شهرًا السابقة للغزو، وحالات الوفاة في المرحلة التالية للغزو. وفي ٩٠ في المائة من الوفَيات التي كانوا يُبلغون بها كانوا يطلبون رؤية شهادات الوفاة، وعادةً ما كان يُستجاب لهم.

كانت الأرقام أكبرَ بكثير من التي توصَّلَت إليها هيئةُ حصر قتلى العراق (الذي كان في ذلك الحين قد خلص إلى أن الرقم هو ٦٠٠٠٠ شخص)، وهي هيئةٌ تستخدم تقريرَين إعلاميَّين مُنفصلين عن قتلى الحرب قبل أن تعلن نتائج حصرها (وهو حصرٌ فِعلي، وليس عيِّنة)، وكانت كذلك تُحاول ربط الأرقام بالأسماء. ولكن نظرًا إلى أن الحصر كان سلبيًّا، فمن المرجَّح جدًّا أن يكون أقلَّ من الواقع، وهو ما أقرَّ به القائمون على الحصر.

ولكن هل من المرجَّح أن تكون نتيجة الحصر خاطئةً لدرجة أنها لا تُمثل إلا ١٠ في المائة من الرقم الحقيقي؟ جذبت طريقة جمع عيِّنات الرقم الأكبر الانتباه. ولأنها كانت عيِّنة، فقد تعيَّن أن تُضرب كلُّ حالة وفاة مسجَّلة في ٢٢٠٠ للتوصُّل إلى رقمٍ يُمثل العراق كلَّه. ولكن إذا كانت العينة خاطئةً على أي حال، وإذا افترضنا — كمثالٍ يصعُب تحقُّقه — أن قتالًا داميًا اندلعَ في حيٍّ صغير مُنعزل عنيف في العراق، وخلف ٣٠٠ قتيل، وإذا كان كل هؤلاء القتلى في إحدى المناطق التي شمِلها المسح، ولم يقع في أي مكان آخر في العراق قتيلٌ واحد، لَظلَّ الرقم النهائي الناتج عن المسح ٦٥٠٠٠٠ شخص، في حين كان الرقم الحقيقي ٣٠٠.

وبالطبع لم تكُن العينة فاسدةً بهذه الطريقة، ولا إلى هذه الدرجة، ولكن هل كانت فاسدة بطريقةٍ أخرى؟ وهل كان الخطأ الذي وقع — كما اقترح النُّقاد — أنه جرى جمع عيِّنات عددٍ أكبر من اللازم من المَنازل المُطلَّة على الشوارع الرئيسية التي كانت التفجيرات وعمليات القتل فيها أكثرَ شيوعًا، ولم تجمع عددًا كافيًا من العيِّنات من المناطق الريفية الأهدأ؟ هل فعل القائمون على المسح أيَّ شيء يُكافئ ما فُعِل عند جمع قتلى الحرب الألمان، حيث جرى حصرُ قتلى دريزدين وإغفال قتلى منطقة بافاريا الريفية؟

من رأيِنا أنه إذا صحَّ أن المسح الذي أُجريَ في العراق أنتج رقمًا مضلِّلًا (من المؤكَّد أن يكون الرقم «خاطئًا» بمعنى أنه ليس دقيقًا، لكن المشكلة الكبرى هو أن يكون الرقم «مضلِّلًا»)، فالأرجح أن يكون ذلك بسبب مشكلة كالَّتي سنُناقشها في الفصل التالي — المتعلق بجودة البيانات — وليس بسبب سوء العيِّنة. أي إن ما يُطلِق عليه الإحصائيون «تصميم» العيِّنة كان غبيًّا أو مَعيبًا على نحو لم يكُن واضحًا. لكن من المناسب تمامًا أن ندرُس هذا التصميم، أو أي عيِّنة، لاكتشاف أوجُه القصور أو الحيَد.

ولكي نُنفِّذ ذلك بإتقان، فالمطلوب في المقام الأول هو التمتع بقدرٍ من الخيال، والصبر في دراسة التفاصيل. وأن نسأل: ما نوع الفساد الذي تسلَّل إلى العيِّنة؟ وما السِّمات المميِّزة للناس التي جعلَت القلة الذين تصادف إحصاؤهم لا تُمثل البقيَّة؟

•••

فحتى البيانات التي يبدو أنها تصف كلًّا منا شخصيًّا عُرضةٌ للفساد. لا شك أنك تعرف طفلك الرضيع. ولكن كيف لك أن تعلم ما إذا كان ينمو نموًّا سليمًا؟ الإجابة البسيطة والمزعِجة هي أن هذا يعتمد على معنى النمو «السليم». ففي المملكة المتحدة، يتحدد ذلك بكُتيِّب به مخططاتٌ تُحدِّد طول قامة الرضيع ووزنه ومحيط رأسه، فضلًا عن وجود زائر صِحي يكون في بعض الأحيان مُفرِطًا في الإصرار على المكان الذي ينبغي أن يكون الرضيعُ قد وصل إليه على المخطَّط. ويُعَد التباين بين الرُّضَّع من حيث طولُ القامة وقِصرُها ووزن الجسم تعزيةً بسيطة للآباء القلِقين للعديد من الرُّضع الذين لا يبلُغ طولُ قامتهم خطَّ الوسط في المخطَّط. وهذا القلق في حدِّ ذاته لا داعيَ له، حتى إذا كان هناك ما يُشجِّع عليه. فكل ما يعنيه خطُّ الوسط هو أن نِصف الرُّضع سيَنمون بوتيرةٍ أسرع، في حين سيَنمو النصف الآخر بوتيرةٍ أبطأ. فخط الوسط ليس هدفًا، وبالطبع ليس اختبارًا يجتازه الأطفال الرضَّع أو يُخفِقون فيه.

لكن هناك مشكلةٌ أخرى. فمن الذي يُحدِّد أن هذه هي الوتيرة التي ينمو بها الرُّضع؟ وإلى أيِّ دليل يستند ذلك؟ عادةً ما يكون الدليل عيِّنة. ولكن مَن هم الأفراد الذين تضمُّهم هذه العيِّنة؟ مجموعةٌ مُتنوعة من الأطفال من المفترَض أن تُمثل النطاق الكامل للتجرِبة الإنسانية. هل في ذلك أي خطأ؟

الحقيقة أن هناك خطأً بالفعل. فوَفقًا لمنظمة الصحة العالمية، لا ينبغي أن يكون لكلِّ الأطفال الرُّضع — باختلاف ظروفهم — مكانٌ في العيِّنة. فالمنظمة تريد تضمين الرُّضع الذين يتغذَّون بالرضاعة الطبيعية واستبعادَ من يتغذَّون بالرضاعة الصناعية. وكان هذا الشرط مهمًّا لأن الرُّضع الذين يتغذَّون بالرضاعة الصناعية ينمون بسرعةٍ أكبر قليلًا من الذين يتغذَّون بالرضاعة الطبيعية، لدرجة أنه بعد مرور سنتَين، نجد أن الرضيع الذي كان عندما وُلِد في منتصف المخطَّط وتلقَّى رضاعةً طبيعية قد أصبح ينتمي إلى أدنى ٢٥ في المائة من الرُّضع وفقًا للمخطَّطات الحالية.

لو رُوجِعت المخطَّطات وَفقًا لرغبة منظمة الصحة العالمية، لتجاوز الرُّضع الذين كانوا يُعَدون في السابق متوسِّطي الوزن ممن تلقَّوا رضاعةً صناعية خطَّ المنتصف، ولَاعتُبر وزنهم كبيرًا إلى حدٍّ ما، ولاحتلَّ الرُّضع الذين يتلقَّون رضاعةً طبيعية مكانَ الفريق الأول في المنتصَف.

إذَن فمنظمة الصحة العالمية تريد للمخططات أن تُرسيَ عُرفًا — مؤكِّدةً تفوُّق إحدى طريقتَي الرضاعة على الأخرى من حيث القيمة — وقد اختارت العينة بما يتماشى مع هذا الغرض. ويقول مسئولو المنظَّمة إن هذا تحيُّز مبرَّر ضد ممارسة سيئة، لكنه تحيُّز في نهاية المطاف، وهو بهذا يُحول المخطَّط من كونه مخطَّطًا وصفيًّا إلى مخططٍ توجيهي عن طريق تغيير العيِّنة فحسب.

•••

وَفقًا لما تشتمل عليه العيِّنة، قد تُغيِّر الكثير من الأمور دلالتها الظاهرة. هل اختار القائمون على هذا البحث بشكلٍ ما عددًا أكبر من الأشخاص الأكبر سنًّا، أو الأصغر سنًّا، أو المتزوجين، أو المتعطلين عن العمل، أو الأطول قامة، أو الأغنى، أو الأسمن، وهل يَزيد أو يقلُّ احتمال كونهم من المدخِّنين أو سائقي السيارات، أو الإناث أو الآباء، أو اليساريين، أو المُتدينين، أو الرياضيين، أو المُصابين بالذُّعر المرَضي … إلخ، مقارنةً بمن سِواهم من المجتمع ككلٍّ، أو في أي سمةٍ أخرى من ملايين السمات التي تُميزنا، إلى الحد الذي يُحدِث فارقًا ما؟

في إحدى الحالات الشهيرة تبيَّن أن عيِّنة من ناخبي الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة كانوا أقلَّ رضاءً عن حياتهم الجنسية من أتباع الحزب الجمهوري، حتى تذكَّر شخصٌ ما أن النساء بوجهٍ عام يبلُغ أن مستوى رضائهن عن حياتهن الجنسية أقلُّ من الرجال، وأن عدد ناخبات الحزب الديمقراطي أكبرُ من عدد ناخبات الحزب الجمهوري.

قد يتسرَّب الانحراف «فساد العيِّنة» إلى مجتمع العيِّنة بطُرقٍ تُساوي في كثرتها عددَ الاختلافات الممكنة بين الناس في المعتقدات أو العادات أو أسلوب الحياة أو التاريخ أو الخواصِّ البيولوجية. أجْرَت إحدى المجلَّات مسحًا لقُرائها فوجدت أن ٧٠ في المائة من البريطونيين يؤمِنون بالقصص الخيالية، لكن اسم المجلة كان «بارانورمال آند ستار جيزرز مانثلي» (وهي تعني بالعربية مجلة الغرائب وتأمُّل النجوم الشهرية). فشراء المجلة في حد ذاته يعني أن قرَّاءها أكثر قابليةً للإيمان بالقصص الخيالية من عموم البريطونيين الذين انسحبَت عليهم استنتاجاتُها بسهولة.

لا مفرَّ من حدوث الفساد بشكل أو بآخر، سواءٌ كان مقصودًا أو ناجمًا عن إهمال أو عن صدفة، في العديد من العيِّنات الخاصة بالمسوح التي تُجريها المجلَّات، أو المسوح التي تُستخدم باعتبارها حيلةً تسويقية وتتماشى نتائجُها عادةً مع الهدف المطلوب. ولِتكتشف ذلك بنفسك من خلال عينة — لم نتمكَّن من القطع بكونها تُمثل الجميع أم لا — جرِّب الآتيَ واختبِر خيالك وفكِّر في الأوجه الممكنة المختلفة لفساد العينة. كل الإحصائيات الآتية وصلت إلى مكتب روري سيلان جونز، مُراسل الأعمال الخاص بهيئة الإذاعة البريطانية، خلال أسبوع أو أسبوعَين من صيف ٢٠٠٦.

  • كشف أحدُ المسوح أن الأمهات الجُدد يُنفِقن ٤٠٠ جنيه إسترليني في المتوسط على ملابس الأطفال الصغار.

  • الشاي هو المشروب الليليُّ المفضَّل للرجال والنساء.

  • تُظهر البحوث أن ٥٢ في المائة من الرجال في المدن يُقرُّون بارتداء جَوربَين غير مُتطابقين مرةً واحدة على الأقل في الأسبوع (مسحٌ أجراه مَتجر لبيع الجوارب بالتجزئة على الإنترنت).

  • تُفضل ٦٠ في المائة من النساء رؤية عيوب طفيفة في هيئة المشاهير، في حين يُفضل ٧٦ في المائة من الرجال في المملكة المتحدة رؤية صور المشاهير خالية من العيوب (مسحٌ أجْرَته شركة لمساحيق التجميل وقناة تلفزيون عالية الدقة).

  • أكثر من ٢٠ مليونًا من مُلَّاك المَنازل البريطانيِّين أنفقوا أكثر من ١٥٠ مليار جنيه إسترليني على تجديدات تفتقد إلى الذوق قلَّلَت قيمة منازلهم (نورتنا بهذه المعلومة شركةٌ للتأمين على المنازل).

يقلُّ احتمال فساد العيِّنة في المسوح المصمَّمة بعناية التي تستهدف عشوائية العيِّنة التي تؤخَذ من المجتمع، والتي لا يكتفي القائمون عليها بطرح الأسئلة على أول ٦ أشخاص يُقابلونهم. لكن المسوح التي تطرح أسئلةً سخيفة فتجمع إجاباتٍ سخيفةً ليست وحدها التي يتسرب إلى عيِّنتها الفسادُ من كل اتجاه مُضمِرًا لها الشرَّ ومُقحِمًا قدَمه في فُرجة الباب ليُهدِّد سلامة النتائج.

مرةً أخرى نُكرِّر أن المرء قد يميل إلى التخلِّي عن كل الإحصائيات المعتمِدة على العيِّنات باعتبارها فاسدةً تمامًا وعديمة القيمة. لكن فساد العيِّنة خطرٌ محتمل وليس نتيجةً حتمية. وإدراك وجود هذا الخطر ليس إفراطًا في الشك، بل إنه ما يسعى إليه أيُّ إحصائي يستحقُّ الاحترام.

وكما أسلفنا، لا مَفرَّ من جمع العيِّنات؛ فالأشياء التي نريد إحصاءها كثيرة إلى حدٍّ يتعذر معه الإحصاء الدقيق. لنأخذ مثالًا مُتطرفًا، ولنفترض أنَّ هناك شيئًا لا يمكن حصره ومع ذلك نريد إحصاءه على أي حال، كم عدد الأسماك في البحر؟

إذا صدَّقتَ العلماء، لكانت الإجابة أن عددها غير كافٍ؛ فالبحار خاوية لدرجة أن بعض أنواع السمك لا يُمكنها التكاثر لاستبدال الأعداد المفقودة منها. أما إذا صدَّقت الصيَّادين، لكانت الإجابة أنه لم يزَل هناك من السمك ما يكفي لقيام صناعة صيد ناجحة. ويعتمد قرارُ السماح باستمرار هذه الصناعة على عدد هذه الأسماك. ولما كان ذلك مُستحيلًا، فالبديل الوحيد هو جمع العيِّنات.

عندما زار فريقُ برنامج «مور أور لِس» سوقَ السمك اليومية في نيولين، كورنوول، كانت الآراء هناك مجتمعةً على أن كمية الأسماك التي يجري اصطيادها أكبرُ مما كانت عليه منذ مدةٍ تتراوح بين اثنَي عشَر عامًا وخمسة عشر عامًا. وقال الصيَّادون: «لا نُصدِّق الأدلة العِلمية.»

كان العلماء قد أخذوا عيِّناتٍ عشوائيةً من سمك القد ولم يجِدوا الكثير منها. واعتقد العاملون بصناعة الصيد أن العلماء أغبياء. قال أحد مُمثِّلي صناعة السمك: «إذا أردتَ عدَّ الخِراف، فلا تبحث عنها في أي مكان عشوائي من البَر، بل اذهب إلى الحقل الذي فيه الخِراف.» بعبارةٍ أخرى، كان آخِذو العيِّنات يبحثون في الأماكن الخاطئة. وإذا أرادوا أن يعرفوا عددَ الأسماك الموجودة، يجب أن يذهبوا إلى الأماكن التي توجد فيها الأسماك ثم يَعدُّوها. وعندما ذهب الصيَّادون إلى هذه الأماكن، تمكَّنوا من اصطياد كَميات وفيرة منها.

يُوصي المجلس الدولي لاستكشاف البحار بأن تكون حصةُ اصطياد سمك القد من بحر الشمال صفرًا. وتتجاهل مصايدُ الاتحاد الأوروبي هذه النصيحةَ باستمرارٍ خلال الجدالات التي تدور سنويًّا حول تحديد المستويات المناسبة من إجمالي كَميات الصيد المسموح بها، وفي ٢٠٠٦، سمحَ الاتحادُ الأوروبي بكَمية صيد هي ٢٦٥٠٠ طن.

هل جمَع العلماءُ العيِّنات على النحو الصحيح؟ الإجابة الأرجح هي نعم، وبالطبع لا نعني بذلك أن العيِّنات اتَّسمت بدقةٍ مُتناهية، ولكن الأهم أنها لم تكُن مُضلِّلة. فبينما تُبحِر قوارب الصيد مسافاتٍ أطوَل وأوقاتٍ أطوَل لاصطياد الكمية ذاتها، لا يفعل القائمون على المسوح ذلك. بل يبحثون لمدةٍ قياسية عادةً ما تكون نصف الساعة. كذلك فإنهم لا يُطوِّرون مُعدَّاتهم كما يفعل الصيَّادون التِّجاريون لتعظيم كمية الصيد. وفيما يتعلق بما إذا كانوا يبحثون في الأماكن الخاطئة، وبالمنطق السطحي الذي يقضي بالذَّهاب إلى حيث توجد الأسماك، ففي ذلك تجاهلٌ لاحتمال زيادة عدد الأماكن التي لم يعُد فيها سمك، ويُعَد في حدِّ ذاته نوعًا من الخطأ في العيِّنة. فالذَّهاب إلى حيث يوجد السمك لإحصائه يُشبه رسم صورة لحمار بعد رسم ذيله.

صيَّادو السمك — شأنهم شأن الصيَّادين جميعًا — يبحثون عن طَريدة. ولا يدل عثورهم عليها واصطيادُهم إياها على عدد السمك الموجود بقدرِ ما يدل على مدى براعتهم في الصيد. لذا تُعتبر عيِّنات العلماء دليلًا أفضل بكثير على عدد السمك الموجود في البحر من كمية الأسماك التي يصطادها الصيَّادون الكادحون.

وللتنبُّه إلى كل هذه المُلهيات، يجب أن تتَّسم عملية جمع العيِّنات بالصرامة والخيال الواسع بما يكفي لكشف كلِّ أنواع الأخطاء في العيِّنة. وفي نهاية المطاف، قد تظلُّ عملية جمع العيِّنات مَعيبة، لكنها تُخبرنا بأشياء رائعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤