نباتاتها وحيواناتها

كانت المدينة قديمًا كثيرة الغابات المشتبكة والأدغال، تنبت فيها أشجار السنديان السوري والعفص والبطم والسماق والدردار (بمعنى الشائك) والرمان والجوز والدلب، وغير ذلك من نباتات المنطقة الجبلية. وفي أعاليها ينبت البقل الذي هو من خصائص جبال الألب في أوروبة، وكانت مشارفها تظللها الأشجار الغبياء والمتعرشات الغنَّاء، حتى لا يكاد المارُّ يقطعها بدون أن يقطع بعضها شأن لبنان وسورية في الأيام القديمة؛ أيام كانت يد الإنسان لا تتحامل على الطبيعة بفئوسها، ولا تصليها نارًا آكلة. فكان الداخل في هذه المدينة لا يكاد يرى للشمس أثرًا إلا من خلال الأوراق، ولا يعرف للماء منسابًا إلا من خريرها الذي هو أشبه بأنة الجريح من الحصى البلورية. وقد تصورت هذا المشهد الفتَّان الطبيعي، فقلت فيه مشطرًا أبياتًا للإمام ابن الوردي الشاعر المشهور وهي:

«فيه دوح يحجب الشمس إذا»
نظرت فيه ويخشى من رَقَب
أوقف الإنسان حينًا بعد ما
«قال للنسمة جوزي بأدب»
«طيره معربةً عن لحنها»
إذ تربَّت في مغانٍ للعرب
وقَّعت بالعود أنغامًا بها
«تطرب الحيَّ كما تحيي الطرب»
«مرجهُ مبتسمٌ مما بكت»
عينُ مزنٍ تشتكي مرَّ الوصب
زهرُهُ قد فاح لما جُررَّت
«سحبٌ في ذيلها الطيبُ انسحب»
«فيه روضاتٌ أنا صبٌّ بها»
وهي ترنو لمناجاتي كصبْ
أصبح العيش لديها رغَدًا
«مثلما أصبح فيها الماء صبْ»
«نهره إن قابل الشمس ترى»
ومض برقٍ لاح حالًا وذهب
ولمن يدنو بدت صورتهُ
«فضةً بيضاء في نهر ذهب»

وقد أُحرقت هذه الغابات مرارًا، ولا سيما لما هاجم الأكراد زحلة في سنتي ١٧٧٧ و١٧٩٣م كما سيجيئ، وفي منتصف القسم الأول من القرن التاسع عشر الماضي لم يبق لها من أثر، ولا سيما بعد أن ولع الناس بغرس التوت والكروم ونحوها.

وأشجارها اليوم معظمها الحوَر،١ وهو على جانبي النهر وفي الأماكن الرطبة، فإذا كثر والتفَّ سُمي مجموعه غيضة وجمعها غياض، وخشبه يتخذ للجوائز (الجسور) والروافد (ما يوضع فوق الجسور في السقف) ونحوهما، وهو ممشوق قويٌّ على حمل الأثقال والرطوبة، ومن خواصه أنه لا ينحني ولا ينقصم بسرعة مثل الصنوبر وغيره، وتجارتهُ مهمة كما سترى.

وفيها بقايا الزيتون القديم، وكان كثيرًا في بلاد البقاع وبعلبك التي سماها الأقدمون أَهراء (حواصل) رومية، ولا سيما بستان قرب دير القديس إلياس الطوق، وفي بعض جهات من المدينة.

وفيها التوت ويكثر في البساتين فوق مرج عرجموش (الفيضة)، وعلى ورقه يربى دود الحرير، وقد يكون حسن النتاج في بعض السنين، وأما ما يربى منهُ في المدينة ففيالجهُ (شرانقهُ) أفضل مما يُربى في البساتين لجودة الهواء وجفافه.

وفيها يكثر الزيزفون، وهو عطريُّ الرائحة يتخذ زهره لمداواة السعال ونحوه. أما الفواكه فكثيرة أهمها التين والخوخ والمشمش والرمان والتفاح والإجاص والجوز واللوز وأفضلها العنب، وهو مشهور معروف يُحمل إلى جميع الجهات وألذ أنواعه التفيفيحي، وهو أشبه بالتفاح منظرًا وطعمًا، ويكون أبيض وأحمر يدوم طول السنة إذا وقي من الثلج والجمد (الجليد)، وأكثره من المتعرشات التي تغرس في الدور والفسحات. وأما النوع العبيدي فكثير لذيذ يصلح للعصر وللزبيب، ومثله الصوريُّ في الكثرة والدربلي والجبيلي والمقصاص «وهو الذي يسمى في غير زحلة بالمرْوَيَح». ومن أنواعه الجيدة الزيني وعنب المير «الأمير» والقاري وقرن الوعل وبيض الحمام ومخ البغل والعاصمي وخدود البنات، ومعظمه من المتعرشات. أما الأسود اللون منه فأجوده المريمي والصبيغ إلى غير ذلك، وجميعهُ لذيذ الطعم جميل المنظر يصدق عليه قول الشيخ أحمد البربير:

«زحلة حازت» عنبًا
يُضرب فيه المثلُ
كأنه لآليءٌ
يصان فيها العسلُ

ويباع هذا العنب للأكل ويصنع منه الزبيب ولا سيما من الدربلي، ويعصر الخمر ويستقطر الكحول (العرق) من الأنواع الأُخر.

أما بقولها ونباتاتها فكثيرة، ومن الأولى الكرنب والملفوف والخيار والقثَّاء والباذنجان واللفت والخس والرشاد والفجل والبنجر (الشوندر) والجزر والقرَّة والجرجير وغيرها. ومن الثانية الزوفي والخطمية وحي العالم اللاكوني والكثروم الخطي الورق والسميرنيوبسس السوري، كما في نبات سورية وفلسطين للدكتور پوست الأميركي. ومن رياحينها الورد وهو كثير عطري يستقطر ماؤه والبنفسج والبابونج والنرجس والإقاح والزعفران وشقائق النعمان وغيرها، وبعد جرِّ المياه إليها كثرت الأزهار والنباتات والأشجار الإفرنجية.

ويزرع فيها من الحبوب الحنطة والشعير والرَّطْبة (الفصفصة أي الفصة) والقطاني، وفي القديم كان يزرع حب الدخن. ولن تزال عين الدخن قرب سراي الحكومة دليلًا على ذلك. وكذلك كانت تزرع الحشيشة (القنَّب الهندي) التي تستعمل في مصر للسكر والتنباك والتبغ وغيرها. وعلى الجملة فإنك تجد فيها نباتات السهل والوادي والجبل، وأنت لا تشعر أنك انتقلت من منطقة إلى أخرى بتغيير في الإقليم.

وكان فيها قديمًا أيام كانت الغابات تظللها والحِراج تشتبك في واديها وسفوحه وأسناده ومشارفه؛ كثير من السبع والنمر والضبع والفهد والعقاب والنسر والحدأة (الشوحة) والبازي والصقر، فانقرضت بانقراضها وبقي الدب والخنزير البري والغزال. ثم قلَّ اليوم وجودها، أما الذئب وابن آوى والنمس والقنفذ والخرَّز (الأرنب البري) والغرير فكثيرة.

وقد اشتهرت قديمًا بتربية الخيول وتأصيلها وترويضها، ولكنها اليوم لا عناية لأهلها بذلك إلا نفر منهم. ويكثر الجاموس والبقر الضخم الجثة في بساتينها، وكذلك البغال والجمال والحمير، وهي قوية الأبدان. ويربى فيها الغنم والماعز وغيرهما من الدواجن. ومن الطيور التي تقتنص في ضواحيها الحجال والسماني والزرزور واليمام (الترغل) والحمام والوروار والقطا، ويكثر فيها الدوري والسنونو معششًا في الطنوف (السفارات) والصفارِّية أو التبُشر، وتسميها العامة «الصفراية» والصِّفْرد (أبو الحن) وغيرها. ويوجد فيها قليل من النحل، وأفضله عسلًا ما تربى في أعالي المدينة إلى جهة الجبل وكذلك دود القز. ويوجد في غياضها دجاج الأرض (الشكَّب) والفرِّي وبعض الطيور المائية، كالأوز والبط وغيرها مثل الغَرْغِر (ديك الحبش) والدجاج الأهلي والكركي «الرهو» والبجع «العراق»، وغير ذلك من الطيور القواطع والأوابد. وفي ضواحيها القبرة والثُّليجي (سن المنجل) والهدهد، ومن الصوادح الحسُّون «الشويكي الجوي» والشويكي البرِّي والخضَيري، وهي ممتازة برخامة ألحانها، وفيها حيَّات وضباب (حراذين) وسام أبرص (أبو بريص)، ولكن العقارب لا أثر لها فيها.

هوامش

(١) الحَوَر في اللغة الفصحى بتحريك أوله وثانيه والعامة تُسكن الثاني. وهو شجر طويل ممشوق مستوٍ جيد الخشب يُتخذ للسقوف ونحوها، ولون جذعه رمادي ضارب إلى البياض واستنباته في المحال الرطبة أفضل من الجافة، وتتخذ فسائله (شتلاته التي تغرس) من أغصانه، وهو كثير في مدينة زحلة وله دخل وافر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤