ماؤها وهواؤها

إنَّ ماء زحلة هو من نهر البردوني «البارد» الذي ينفجر من مغارة إلى غربي قرية قاع الريم في السفح الشرقي من جبل صنين، وتلك المغارة طبيعية بديعة المنظر تتدلى من سقوفها وجدرانها حُليمات من المتجمدات المائية والرواسب الكلسية، فتكوِّن فيها مشجرات حجرية أشبه بأشجار المرجان في البحر، إلا أنها بيضاء وتنضب بعد أن تذوب الثلوج، وذلك في تموز أو بعده بقليل. ولا يخفى أنَّ خزَّانات الماء في الجبال العالية هي من الثلوج التي تملأ النخاريب والأخاديد والمغاور، وتنساب في الشقوق الصخرية متخللة الأتربة إلى أن تصادف منفذًا لها، فتنفجر منه أنهارًا وينابيع ومترشحات.

على أنَّ مياه البردوني ليست جميعها من تلك المغارة، ولكن في عقيق «مجرى» النهر كثيرًا من الينابيع والمترشحات التي تنصب فيه، فتبقى مياهه جارية بعد ذوبان الثلوج عن القمم العالية في صنين. وكذلك على عدوتي النهر مثل ذلك، وجميعه يترشح إليه فيكوِّن جدولًا صيفيًّا لا تنضب مياهه إلا نادرًا في سني الجفاف الشديد وقلة الأمطار والثلوج. ولا تزال مثل هذه الينابيع تمده بمائها إلى أن يصب في نهر الليطاني١ قرب مرج عرجموش (الفيضة)، ومسافة ما بين مخرجه ومصبه نحو أربعة وعشرين كيلومترًا. والمشهور أنَّ مياه هذا النهر كانت موزعة على المدينة القديمة «التي يترجح أنها كانت في محلة البساتين»، وعلى ضواحيها مثل الكرك وتل شيحا وعلِّين وغيرها، لما ظهر من القساطل الخزفية العظيمة المتينة والأقنية المتوزعة في أنحاء الوادي في سفوحه وأسناده ومرتفعاته وليس ذلك بغريب؛ لأن الأقدمين كانوا يبنون مدنهم قرب المياه، وينتفعون بها لإنماء الزروع والغراس، وهم أشد حرصًا منا اليوم على الزراعة واستثمار الأرض. وقد جرَّت منذ القديم قناتان على ضفتي النهر يسميهما العامة «السكر» وذلك للاستقاء منهما، ولإدارة الطواحين المشيدة على الجانبين. وقلما دخلت مياه النهر بيتًا ووزعت عليه.
ولو كانت هذه المياه في أوروبة أو أميركة، لكان دخان المعامل التي تديرها يحجب نور الشمس والشلالات الطبيعية التي تتخذها الصناعة لتوليد الكهربائية ونحوها تملأ العين جمالًا، وتستقدم السياح٢ من أطراف المعمور للتمتع بجمالها الطبيعي. والحدائق التي تنبت على مجاري المياه من أجمل متنزهات الدنيا، ولكن الطبيعة هي العامل في بلادنا، أما يد الصناعة فلن تزال مغلولة. على أنَّ نيل الامتياز الوطني بتوليد الكهربائية من هذا النهر للتنوير وتسيير القطارات، هو من تباشير الآمال حققها الله بالأعمال.

ومما لا يجب على المؤرخ أن ينساه، هو تهافت الناس على الاستقاء من المياه الجارية، مع كثرة ما يرمى فيها من القمامات (الكناسات)، ويغسل فيها من الثياب الملوثة بالأمراض العضالة ونحو ذلك، اعتقادًا أنَّ المياه الجارية لا تحمل أقذارًا، فتفشت الحميات وبعض الأمراض، وانتقلت بالعدوى لوجود جراثيمها في مياه الشرب. ولولا ما في هواء المدينة من المناعة؛ لكانت موباة يتجافى الناس عن النزول في ربوعها.

على أنَّ هذا الخطر قد زال والحمد لله منذ أخذت شركة المياه٣ بجر نبع الزُّويتينة الواقع قرب قرية حزرته على العدوة الجنوبية، في متوسط ما بين وادي العرايش وقاع الريم المقابلتين لها، وهو ينبجس من سفح الوادي على علو ثلاثين مترًا عن مجرى النهر. وقد قُدَّر ذلك الينبوع الغزير بنحو أربعين ألف متر، حصر معظمها في نفق (تونل) طوله أربعة أمتار ببناء متين وخزَّان منيع، وبُدئ بعمله في صيف سنة ١٩٠٧، وجرَّت المياه من الينبوع الأصلي إلى الخزَّان الكبير الواقع على رابية فوق دير النبي إلياس (الطوق) على بعد ١٨٠٠ متر بقساطل حديدية ضخمة. وقد كان تدشين هذا الخزَّان في أول آب سنة ١٩٠٧، وتم توزيع المياه على جانبي المدينة وحوش الزراعنة في شهر تشرين الأول سنة ١٩٠٩م، وهذه المياه ممتازة بصفائها وعذوبتها وبرودتها. ولكن لن يزال بعض الخلل في قساطلها وخزَّانها؛ إذ تنقطع في أيام المطر الكثير ويتعكر صفاؤها. ولعل المفوَّض البلدي يتوفق إلى تمهيد هذه العوائق. وقد بلغ ما وزع من هذه المياه على المدينة نحو ألف متر حتى الآن (أول سنة ١٩١١).

أما ينابيعها المنفردة عن النهر والتي في ضواحيها ومشارفها فأشهرها بل أنفعها للصحة عين الدوق، وموقعها على تلة في غربي المدينة على العدوة الشمالية حيث مزرعة عين الدوق، وتوصف مياهها للضعفاء لجودتها. وتحتها على ضفة النهر الشمالية عين الدويليبي، نسبة إلى أسرة الدويليبي الموجودة إلى الآن في المدينة، وهي تجري بميزابين غزيرين متقنة البناء، فخرَّبها سيل خريف سنة ١٩٠٩. ثم عين البخاش نسبة إلى أسرة موجودة فيها إلى عهدنا، وهي على ضفة النهر الجنوبية فوق نزل الصحة. ثم عين القرداحي (وتسميها العامة عين القرداح)، وهي في أعلى الكروم فوق دير القديس إلياس (الطوق) على طريق المتن العمومية. وتحتها عين أخرى قد جرَّ بعضها إلى الدير المذكور وإلى الكلية الشرقية.

ثم عين المزرعة في الكروم، وعين البقر، وعين علِّين وهي قديمة على تلة المدينة الجنوبية فوق سراي الحكومة قرب أطلال علِّين، ثم عين الدخن فوق السراي في سفح التلة، ومن تلك الجهة استنبطت عين وجرَّت إلى باحة السراي. وتحت البيادر فوق النهر عين القسيس، ومقابلها في حوش الزراعنة عين الغصين نسبة إلى أسرة فيها، وفوقها عين مقصود نسبة إلى أسرة فيها، وموقعها في منخفض تلة الحمَّار الغربي. وعلى تلة فوقها إلى غربيها عين الفلفلة ووراءها بئر هاشم،٤ وهي نبع صيفي قد احتفرت قديمًا. ذلك عدا ينابيع أُخر في أنحاء المدينة، مثل فوَّار شبوع نسبة إلى أسرة باقية فيها الآن، وهو في خندق أبي كحيل الذي يفصل حارة الراسية عن حارة المعالفة أو سيدة النجاة على الطريق العام. وعين المعراوي نسبة إلى أسرة في المدينة، وقد جرت إلى دير الآباء اليسوعيين. وكلها عذبة باردة هاضمة؛ فضلًا عن بعض ينابيع لا تصلح للشرب، مثل عين الصنان بدار المرحوم عبد الله مسلم في الحارة السفلى (التحتا)، وهي معدنية المياه فيها محلول الكبريت. وعين الفيكاني في محلة جعيران فوق الجسر القديم وغيرها، ومن يحفر في المدينة إلى عمق عشرة أمتار يستخرج المياه. وفيها آثار آبار قديمة كثيرة فضلًا عن الحديثة.

وفي محلة البيادر قرب سراي الحكومة غدير تجمَّع فيه مياه المطر، فتبقى إلى منتصف الصيف أو آخره، فيمثِّل بركة بديعة المنظر كأنها المرآة أو صفحة البلور النقية تنبسط حولها البيادر، التي هي أشبه بمرج مرصع بالنبات والأزهار. وفي هذه البقعة يتنزه الزحليون في الشتاء وأول الربيع، إلى أن يشتد الحر فيتحولون إلى الصفة في غربي المدينة. وفي هذه الجهة يضرب السياح سرادقاتهم (صواوينهم)، ومن هنا تنجلي المدينة للناظر بأجمل مشهد طبيعي يملأ العين، فتنبسط له النفس فضلًا عن جمال هذه البركة التي ترى فيها المدينة وجهها، فهي لها كالمرآة أو كما قال ابن تميم:

لقد قابلتنا بالعجائب بحرةٌ
مكمَّلة الأوصاف والطول والعرض
كأن الذي يرنو إليها بطرفه
يرى نفسهُ فوق السماء وهو في الأرض
ولما كان موقع لبنان بين الدرجتين ٣٣ و٣٥ من العرض كان أشبه بالبلاد المعتدلة الحارة،٥ ولكن الأمكنة التي تقرب من الجبل تلطف الثلوج حرارة صيفها ويرطب سدى (ندى) الليل جوَّها، وهكذا موقع مدينة زحلة، فإنها بين اللبنانين الشرقي والغربي منحرفة إلى هذا، فلما تشتعل رءوسهما شيبًا وتتعمم قممهما بياضًا يتلطف جو ما يجاورهما ولا سيما هذه المدينة، فيصير هواءُها جافًّا كثيرًا؛ ولذلك توجد في إقليمها (مناخها) مناعة ضدَّ الأوبئة والأمراض العضالة، ولو اعتنى الأهلون بقوانين الصحة؛ لكانت أفضل موافقة للأجسام منها الآن.

ومن المقرر أنَّ هواء المدن النقي هو ما كان على ارتفاع ٢٥ قدمًا عن أسواقها المزدحمة بالسكان، وزحلة ترتفع عن النهر نحو مائة متر، ويعلو معظم بيوتها عن الأسواق نحو سبعين قدمًا، وهي منضدة بعضها فوق بعض، بحيث تنكشف للشمس وينفسح فيها مجرى الهواء؛ فلذلك ترى الصحة فيها جيدة جدًّا، وهي أشبه بدمشق والقاهرة بجفاف هوائها، ولكنها تفضلهما بتوسطها بين جبلي صنِّين والكنيِّسة المتعميين بالثلج في أكثر أيام السنة، ومقابلتها للبنان الشرقي (أنتيلبنان) المكلل ببياض المشيب.

فالخريف فيها جيد في بعض السنين، حتى يكاد يضاهي الربيع بطيب هوائه واعتدال مطره، ولكنه قد يكون طورًا رطبًا فتكثر الحميات، وتارة جافًّا فتكثر النزلات الصدرية كجفافه في العام الماضي سنة ١٩١٠م، ورطوبته في السنة التي قبلها سنة ١٩٠٩م، حتى إنَّ السيول خرَّبت كثيرًا من المدينة على جانبي النهر فاستنهر، وقد تنقطع السيول كما جرى في خريف السنة الماضية ١٩١٠، ولم يتساقط المطر والثلج إلا في منتصف كانون الثاني من السنة الحالية ١٩١١.

وصيفها جميل، لكنَّ الشمس في أثناء النهار ترسل أشعتها عموديًّا على هذا الوادي المسوَّر بالتلال إلا من شرقيه، فتنحصر حرارتها فيه كأنها في محترق عدسية (زجاجة محرقة)؛ فضلًا عن أنَّ الشمس تنعكس عن مشارف المدينة البيضاء التربة (التي ليس فيها ظلٌّ يلطف الحر. أما الكروم فلا ساق لها منتصبة لترمي ظلًّا)، فتشتد فيها حمارَّة القيظ حتى تصهر الأدمغة، ولما تميل الشمس إلى المغيب يكون الأصيل فيها لطيفًا والنسيم بليلًا، فيخرج الناس زرافات ووحدانًا إلى المتنزهات مزدحمين في طرقها حتى بعض ساعات من الليل الذي يكون في الغالب رطبًا بليلًا.

وشتاؤها قد يكون باردًا كثير الثلوج قارص الهواء جدًّا، كما كان قبلًا منذ سنين، وكما هو في هذه السنة. وقد يكون معتدلًا كما في غيرها. وقد تكتسي مشارف المدينة حلة بيضاء ترسل أهدابها إلى حضيض الوادي، فتطول إقامة الثلج ولا سيما في الضفة الجنوبية، فيحفظها الجمد (الجليد). وقد تمزِّق الشمس ذلك الرداء الأبيض، ويساعدها المطر فتتعرى المدينة وضواحيها منه، ولكن يبقى مطلًّا عليها من بعيد كالرقيب الخائف والمحب المكروه. على أنَّ الهواء الشمالي لا يكثر هبوبه فيها، لما حصنتها به الطبيعة من التلال والآكام التي تسوِّرها، وفي هذا تلطيف لبردها الشديد في بعض السنين. ولكن كثرة الحطب والفحم الخشبي في الأيام القديمة، مما كان في المدينة أو جلبه البعلبكيون والبقاعيون ليباع في أسواقها، كان يخفف قرص البرد بوقيده، فلما قلَّ في أيامنا الحاضرة استبدل بالفحم الحجري وفحم كوك واستعيض عن المواقد (الكوانين) بالمصطليات (الوجاقات).

ومع كل ما ذكرنا، فقلما تصل درجة الميزان المئوي (السنتغراد) إلى ما تحت الصفر بكثير في الشتاء، وقلما ترتفع إلى ما فوق ٣٠ درجة في إبَّان اشتداد الحر، فمعدَّل درجة البرد ٨ والحر ٢٠ في الظل. وتعصف في المدينة أحيانًا الزوابع وتثور الأعاصير منتهية إليها من السهل، فتندفع عليها بقوتها وتصدم منفرجها إلى أن تنتهي إلى مآخير الوادي ومنقطعه، فتدور في أنحائها وتثير الغبار، ولكنها لا تدوم طويلًا. ومما تمتاز به زحلة أنه لا يتراكم فيها الضباب في أثناء السنة، مثلما يحدث في مشارف لبنان الساحلية التي تطل على البحر.

ولو كانت روابيها ومشارفها مشجرة؛ لكانت ظلال أشجارها تلطف حرارة الصيف وتحسن الهواء وتجمل مناظر الربيع وتعدل الأمطار والثلوج، فلا تنصب عليها السيول الجارفة ناقلة الأتربة والصخور حتى تخرَّ منها مرافض الأودية وتتخرَّب البيوت والعقارات؛ بل كانت التربة تتشرب الأمطار شيئًا فشيئًا وتنفذ في جذور الأشجار، فتخزنها في حياضها الطبيعية وتتوازعها الأرض مستفيدة منها خصبًا وافرًا. وقد عُرف بالتعديل أنَّ المطر الذي يجود الغابات لا يسيل منه إلا ستة أعشاره، والأربعة الباقية تخزن إلى حين الحاجة، فضلًا عن أنَّ الأهلين يستفيدون من الأشجار ماديًّا، فيكثر لديهم الحطب ويتوفر الوقيد وتكثر الأخشاب والألواح للنجارة ونحوها.

أما الربيع فقد يكون في بعض السنين باردًا لكثرة الثلوج والأمطار، ولكنه في الغالب بديع لكثرة المياه والمتنزهات، مع جفاف في الهواء يبعث في الجسوم نشاطًا، وهو يتميز تميزًا ظاهرًا ويقوِّي الأبدان؛ فلذلك تجد الزحليين أقوياء البنية صحيحي الأجسام مفتولي العضلات، تترقرق على وجوههم مياه العافية، وتشفُّ وجناتهم عن قوة الدم في أبدانهم.

ومن غريب ما يؤثر من جودة الإقليم في زحلة صفاء الجو ليلًا، حتى إنك ترى السماء عريانة معظم السنة، والكواكب نيرة متوقدة وصورها ماثلة بأحسن مظاهرها الفتانة، حتى إنَّ مذنب هلِّي الذي ظهر في الصيف الماضي كان بديع الطلعة فيها؛ ولذلك اتخذ الآباء اليسوعيون مرصدًا في سفح تلة كساره الواقعة على المنقلب الجنوبي من تلة المدينة الجنوبية بإدارة الأب برلوتيِّ الفلكي الفرنسي المشهور منذ ثلاثة سنوات، وهو مبنيٌّ بأمكنة متفرقة على آخر طرز حديث، مجهز بالآلات اللازمة، وذلك لأن الرصد في هذه الجهة يكون على أتمِّ وضوحه؛ لقلة الأبخرة التي تعكر صفاء الجو، ولجفاف الهواء الذي لا تحول رطوبته بين المراقب (التليسكوبات) والكواكب المرصودة، ولهذا وصفتُ هذا الجو الجميل بقولي في ليلة صافية الأديم:

يا حسنها من ليلة لما انجلت
كسيَ المحاسن جوُّها العريان
فالكائنات تنام في مهد الدجى
ورقيبها هو كوكبٌ يقظان

ولقد حسن هواء المدينة الآن اتخاذ القنوات لفضلات أقذارها، وتجفيف غاب عميق وقلة مستنقعاته، واعتناء الأهلين بالكنس والرش. ولم تكن هكذا في القديم حتى دهمها الطاعون مرارًا وأفنى كثيرًا من سكانها، وكان آخر عهدها به سنة ١٨٢٨م، ولما حدث أول هواء الأصفر في دمشق هرب سكانها إلى زحلة في صيف سنة ١٨٤٨م؛ فأصيب من الزحليين ثلاثة، ونقلت إليهم العدوى في ٢٦ آب ومات منهم اثنان. وفي اعتقاد سكانها ومجاوريهم أنَّ الهواء الأصفر لا يتفشى فيها؛ ولذلك كثر المختلفون إليها في كل وباء يجتاح سورية ومصر.

ومن محسناتها أنَّ الخطاف (السنونو) يأتيها في الربيع والصيف، فيلتهم البعوض الذي يكثر في جوار النهر ويكف أذاه. وعلى الجملة فالمدينة صحية طيبة الهواء لذيذة الماء، فيها مناعة ضد الأمراض حتى لا يؤثر فيها أشدها فتكًا تأثيره في غيرها.

هوامش

(١) الليطاني منبعهُ من نبع العلَّيق ونبع بَرَدى قرب قرية السعيدة تجاه بعلبك، ومن هناك يجري متخللًا سهل بعلبك فالبقاع، ويصب فيه بعض الجداول والأنهر ولا سيما الغزير من عين الجر، ثم يفتح منفذًا صخريًّا عند سحمر ويحمر في آخر البقاع، فيكوِّن هناك جسرًا طبيعيًّا بديعًا ويصب في البحر المتوسط ويسمى عند مصبه بنهر القاسمية؛ لأنه يقسم بين لواء عكاء ولواء صيداء، وسماه الرومان واليونان لاونتوس ومنه حرِّف الليطاني ومعناه الحرم واللعنة. وقيل إنه محرَّف عن رتنو وهو اسم البقاع باللغة المصرية القديمة، وسماه العرب نهر ليطه، وطول مجراه مائة وخمسون كيلومترًا، وقلما تستقي منه الأرض التي تجاوره. وفيه أسماك لذيذة يصطادها الأهلون ولا سيما الزحليون.
(٢) إنَّ لبنان للمصريين والسوريين أشبه بسويسرة للأوروبيين، وقد قدَّر بعضهم أنَّ إيطالية تربح سنويًّا من السياح نحو ١٣ مليون ليرة إنكليزية. وسويسرة نحو خمسة عشر مليونًا وقد بلغ عددهم فيها سنة ١٩٠٦ نحو خمسة عشر ألفًا. ومصر تربح ممن يتقاطرون لمشاهدة آثارها نحو مليوني ليرة. ولكن لبنان وسورية لا يربحان إلا قليلًا من هذه القيم لعدم الاعتناء براحة السيَّاح واستمالتهم إليها، ولصعوبة النقل ونحو ذلك، ومع كل هذا فكان المصطافون في لبنان من مصر وغيرها نحو ١٥ ألفًا سنة ١٩٠٦.
(٣) في عهد دولتلو نعوم باشا متصرف لبنان الأسبق؛ سعت شركة أجنبية بجر المياه إلى بيوت زحلة وبعد أن خططها المهندسون اختلفت الشركة مع الأهلين فزادت عليهم النفقة؛ ولذلك أبوا قبول الماء؛ فغرم الأهلون بنحو ١٥٠٠ ليرة. ثم اتفقت الحكومة مع الخواجات فرنسيس راهبه وإسكندر جاويش بعقد تاريخه ٧ نيسان سنة ١٣٢٣ مالية على أن يكون ثمن المتر ١٣ ليرة فرنسوية أربعة أقسام (أقساط) ثم زادت نفقة المتر إلى ١٥ ليرة مع دفع مصاريف نقل المياه من المحل العمومي إلى البيوت.
(٤) إنَّ بئر هاشم إلى الشمال الغربي من المدينة على بُعد ثلاثة أرباع الساعة، بقضاء المتن الأعلى من لبنان نسبت إلى هاشم العجمي القيسي شيخ جبَّة المنيطرة من لبنان؛ الذي جاء كرك نوح ملتجئًا إلى الأمراء الحرفوشيين الشيعيين حكام بعلبك فغدروه وقتلوه ورموه في هذه البئر التي فوق الكرك فنسبت إليه، وذلك في أثناء سنة ١٥٣٤م.
(٥) إنَّ مناخ لبنان أشبه بمناخ إسبانية وإيطالية فالليالي فيه أبرد من النُّهر (النهارات) والفصول متميزة، ومعدل الشتاء تسعون يومًا ومعدل الحرارة صيفًا عشرون درجة وشتاءً اثنتا عشرة، ولا سيما في الأمكنة التي على علو ثمانمائة متر إلى ألف وأعظم حرارة نحو سبع وثلاثين درجة وأعظم برد أربع تحت الصفر. والاعتدال في زحلة ظاهر للعيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤