قِدمها وآثارها

إذا لم يكن في زحلة من الآثار القديمة الضخمة مثلما يوجد في جوارها، ككرك نوح ونيحا وغيرهما، فليس ذلك بنافٍ عنها أنها مدينة قديمة عاصرت العبادات الوثنية الأولية، وشاهدت الأساطير الخرافية. أما آثارها فإنها درست لأسباب، أهمها قلة الحجارة في هذا الوادي ومشارفه السفلى، فاتخذت حجارة تلك الأبنية للبيوت الحديثة، وهكذا طمرت المدينة القديمة بزحل الأرض عليها من الأسناد والروابي ونحو ذلك من الفواعل الطبيعية، ولا سيما الزلازل التي خرَّبت بلادنا مرارًا حتى في الأيام الأخيرة، ولا يزال اسم سيدة الزلزلة في زحلة شاهدًا على هذه المؤثرات، وكذلك اسم «زحلة»، فضلًا عن اجتياح الغزاة لهذه البقعة وتخريب هياكلها.

وإذا رجعنا إلى التواريخ القديمة واستقرينا أساطيرها وتقصينا في البحث عن العبادات، نستشف من ورائها ما يدلُّ على أنَّ زحلة كانت من المدن التي احتفلت احتفالات وثنية، وضجت للمعبودات الخرافية؛ لوقوعها في سورية المجوَّفة (كيلوسيري) ولوجود نهر غزير المياه فيها، والهياكل كانت تُبنى على ضفاف الأنهار وقرب الينابيع، كما هو الحال في معظمها إن لم نقُل في كلها بلا استثناء. وكثرة كرومها التي اتخذت خمورها لاحتفالات ديونيس أو باخوس كما سيأتي.

ولقد اعتقد كثير من المؤرخين القدماء أنَّ إحدى الجنان الأرضية في هذا السهل الأفيح بين الجبلين لبنان الغربي والشرقي (أنتيلبنان)؛ ولذلك كثرت فيه مدافن الأجداد الأولين، مثل نوح وشيت وهابيل وقايين ويوشع وإيليا وغيرهم من الأولياء والأنبياء. وتابعهم في هذا الرأي مؤرخو العرب من مسلمين ومسيحيين، حتى إنَّ الدويهي كبير مؤرخي الطائفة المارونية قال في تاريخه المطبوع في بيروت صفحة ١١٦ ما نصه: «ولما طرد من الفردوس آدم سكن جبل حرمون (الشيخ)، وسكن أولاده شرقي الفردوس في البقعة، وبنوا قلعة بعلبك واستنبطوا الطبول والزمور وكانوا قومًا جبابرة. وتدل على ذلك مدافن هابيل وقايين وشيت التي هي بالقرب منها.»

وروى الأب بطرس مرتين اليسوعي في تاريخ لبنان، الذي عرب قسم منه وطبع في بيروت صفحة ١٣٥ما يؤيد هذا الرأي، إذ قال: إنَّ الأب بلنشه اليسوعي سمع السيد أغناطيوس العجوري مطران زحلة الكاثوليكي يقول: «إنَّ إبرشية زحلة تسمى بإبرشية الفردوس؛ لأن بعض التقليدات القديمة تعين الفردوس الأرضي في هذه الأمكنة.» وذكر بعض علماء الإنكليز ما يؤيد بناء بعلبك قبل الطوفان بقوله: «إنَّ البهموت — وهو حيوان أضخم من الفيل انقرض بالطوفان — هو الذي نقل حجارتها الضخمة على ظهره لما بناها قايين معقلًا يتحصن به من أعدائه.» وقال آخرون: إنَّ بردى محرَّف الفردوس، وكذلك الفرزل١ في ضواحي زحلة. ويقال: إنَّ قبر جدنا آدم في قرية تسمى الزبداني،٢ وقبر قايين في قرية تسمى قطنا٣ قرب دمشق. وقبر هابيل فوق قرية سوق وادي برَدَى٤ المعروفة قبلًا باسم آبل إلى هابيل. وقبر نمرود جبار الصيد في قرية كفر حوار٥ في ضواحي دمشق. وقبر شيت في قرية النبي شيت٦ في بعلبك. وقالوا إنَّ دمشق٧ معناها شارب الدم؛ لأن قايين قتل فيها أو في ضواحيها أخاه هابيل. وأنَّ بيت لهيا٨ كانت منزلًا لحواء وآدم جدَّينا الأولين. وأنَّ حرمون٩ «جبل الشيخ» معناه اللعنة. وكذلك الليطاني نهر سورية المجوفة بمعنى الحرم؛ إشارة إلى لعنة قايين الذي كان أول جانٍ في العالم، وذلك عندهم سبب قحط الجبل الشرقي، حيث اقترف فيه أول قتلٍ عمديٍّ طمعًا في الدنيا وحسدًا.
ولم يقف الزاعمون عند هذا الحد؛ بل تجاوزوه إلى ما بعد ذلك العهد العريق في القِدم. فقالوا: إنَّ الطوفان حدث في هذه البقعة؛ ولذلك ترى تأثيره الهائل في ما يحدق بها من الأودية الغائرة والجبال الناشزة والمستحجرات الحيوانية المائية في الأسناد والمشارف والقمم إلى غير ذلك. وإنَّ نوحًا بنى سفينته في الجبل الشرقي من الأرز الذي كان يظلل قمم لبنان وأسناده وسفوحه. ومن زيتون هذه الجهة الكثير منذ القديم، أخذت الحمامة التي أطلقها غصنًا علامة غيض المياه. وأنه امتطى غارب السفينة من عين الجر١٠ «عنجر»، وإنَّ السفينة استقرت على جبل سنير أو القلمون١١ «بلاد الشرق»، واستقرارها كان قرب الزبداني. وإنَّ قبر نوح هو في الكرك١٢ بضواحي زحلة. وقال ابن حوقل — من مؤرخي المسلمين: إنَّ قبر حبلة ابنة نوح على مقربة من قرية عرجموش١٣ (قرب الفيضة). وقال الدمشقي: إنه يوجد قرب كرك نوح ينبوع يسمى «تنور الطوفان»؛ لأن مياهه تخرج من الأرض صُعُدًا، وقرب العين شجرة دلب ذات جذع وأغصان شامخة كبيرة إلى غير ذلك من المزاعم التي دعم بها القائلون آراءهم.
وفوق كل ذلك تطرَّقوا إلى القول بأن نوحًا أول ما غرس الكرمة في قرية صيدنايا؛ ولذلك كثرت الكروم في سفوح الجبلين الشرقي والغربي. ومن أدلتهم على الطوفان في هذه الجهة أنَّ البقاع ومعظم بلاد بعلبك مستنقعات، عرفت قديمًا باسم عميق لكثرة سباخها، وسماها أبو الفداء بحيرة عميق. ولن يزال هذا الاسم في بقعة خاصة جففت مؤخَّرًا باسم عميق.١٤ واستطرد إلى أنَّ قلعة بعلبك هي برج بابل، وأنَّ فيها مقام إبراهيم الخليل ودير إلياس النبي، وأنه في هذه الجهة ذبح كهنة البعل.١٥ وأنَّ اسم الشام نسبة إلى سام بن نوح، وكذلك قرية حام١٦ منسوبة إلى ابنه حام. وأنَّ التلال التي في هذا السهل كانت لبناء القرى عليها بعد حدوث الطوفان؛ تخلصًا من أبخرة المستنقعات وغمق المياه. وأنَّ عين البقر١٧ فوق زحلة في الكروم تذكار البقر التي كان آدم يحرث عليها، وكانت تربى فيها إلى غير ذلك من التخرُّصات والأوهام.
ولا خفاء أنَّ أقدم من سكن هذه الجهات هم الآراميون المنتسبون إلى آرام بن سام بن نوح، وبقيت سلائلهم ردحًا طويلًا مستعمرة هذه السهول الخصيبة، قاطنة سفوحها الكثيرة ورباها البديعة وجبالها الظليلة، فنشروا فيها عباداتهم الوثنية التي عمَّت جميع أقطار سورية ومصر وما يجاورهما. ويقال إنَّ أول معبود وثنيٍّ أقامه الأشوريون تمثال الجبار نمرود على الأرجح، وكان اسمه الباعل أو البعل أو البعليم ومعناه الرب أو المتسلط، وعرف باسم المشتري «جوبيتر» والشمس، فشاعت عبادته وأقيم له أعظم هيكل في مدينة بعلبك، لن تزال أطلاله أفخم الآثار القديمة وأضخمها وأتقنها صنعةً وأدقها نقشًا، وكان ذلك بعد الطوفان بنحو ثلاثمائة سنة. ومصغرات ذلك الهيكل هي في جوار زحلة في قرية حوشبيه١٨ ونيحا،١٩ فلا يبعد إذن أنه كان في زحلة أو مشارفها هيكل قديم لهذا المعبود. وكلمة «علِّين» التي هي إحدى مشارف المدينة في جنوبيها فوق كساره، نفس كلمة «بعليم» التي رأيتها في بعض الأوراق القديمة «بعلين» منذ قرن ونصف، وفيها آثار تدلُّ على قدمها وأطلال نقلت حجارتها، وهناك أطلال دير القديس موسى لا يزال المسيحيون يزورونه، وهو بلا مراء بقية دير قديم محول عن معبد وثني، كما هو الحال في كثير من معابد بلادنا. ومن معبودات الأقدمين «نابو» أو عطارد، وله هيكل في قرية قصر نبا٢٠ التي هي في منعطف المنقلب الشرقي من جبل لبنان الغربي، على مقربة من زحلة. و«شيما» المعبودة اللبنانية في القرن الثاني والثالث للميلاد، ولها هيكل في قرية بيت شاما٢١ قرب زحلة أيضًا. و«هدرناس» الإله الآرامي، وهيكله في قرية نيحا المذكورة قد عبثت به الزلازل، فبعثرت حجارته الضخمة؛ فضلًا عن الهياكل الكثيرة المحدقة بهذا السهل الأفيح لكثير من الآلهة الوثنية، من مثل هيكل قرية ماسة٢٢ المشيد لزحل «ساترن» وهيكل عين الجر.
وفي بقايا أسماء القرى في هذه النواحي آثار المعبودات. فإن عيتنيت٢٣ إحدى قرى البقاع، مركبة من كلمتي «عنت وتنيت»، وهما اسم واحد لآلهة أشورية سموها سميرام أيضًا، عُبدت في عسقلان وأنحاء سورية، أو أنها مركبة من كلمتي عنت الأشورية، وتنيت الآلهة الفينيقية؛ لامتزاج العبادتين معًا في هيكل عفت آثاره اليوم. وعيثا٢٤ الفخار ربما كانت تحريف عنت هذه. ومثلها عيناتا قرب اليمونة٢٥ مقابل بعلبك. وجب جنين٢٦ يترجح أنها مركبة من كلمتي «جب» بمعنى بئر و«جينون»، وهي اسم معبود مصري كان من بنيها المرِّيخ (مارس) إله الحرب. ويونين٢٧ من بعلبك مركبة من كلمتي «يو» الإله الكلداني، ومعناه الفينيقي نور، قيل إنها أخت البعل، وكان لها هيكل على شاطئ بحيرة اليمونة. وأونين ومعناه أبو البعل أو أنها محرَّفة عن هذه فقط، فقالوا في «أونين» يونين، إلى غير ذلك من الأدلة. وحبذا لو قام بين ظهرانينا من المؤرخين المحققين الواسعي الاطلاع على اللغات القديمة، من يمحص أسماء المدن والقرى ويحلل معانيها، فإنها كالطبقات الصخرية في علم الجيولوجية، ترشد إلى حقائق راهنة، وتؤيد العلم الصحيح.
وإن شئت أنَّ ترى في أصل كلمة «علين»٢٨ رأيًا آخر أدل على أن المدينة سُميت باسم هيكل زحل، فراجع العبادات القديمة، تجد كلمة «عليون» أي أيل، والعلي من معبودات الآراميين والفينيقيين، ويسمى أيضًا بعل وكرون وأدونيس وتموز. وهو أبو السماء والأرض وخليفة أيون الأشوري، هلك في محاربة الوحوش الضارية، وشاعت عبادته عند المصريين واليونانيين والرومانيين، ولا سيما في مدينة جبيل ومشارفها في لبنان، حتى سمي نهر إبراهيم باسم «أدونيس». وتحريف عليون إلى كلمة علين جاء عن تقديم الواو على الياء في لهجة العامة، فقالوا «علوين»، ثم أدغموا تخفيفًا في اللفظ على عادتهم، فصارت الكلمة علِّين. ومما يؤيد هذا الرأي أنَّ من سلالة عليون هذا «داجون» المعبود الفلسطيني (قضاة ١٦ : ٢٣)، المسمى أيضًا سيتون مخترع استعمال القمح، وهذا الاسم ظاهر تحريفه في عين الدوق٢٩ التي هي أحد أحياء المدينة اليوم، واقعة على رابية في الضفة الشمالية إلى الجهة الغربية، مشهورة بطيب هوائها وعذوبة مائها، حتى توصف سكناها للمرضى. ومن أظهر كل ذلك أنَّ الرومان يسمون عليون ساترن؛ أي زحل، فلعلهم شيدوا له معبدًا في علين هذه، وسميت المدينة باسمه. وقبالة زحلة إلى الشرق في مدخل وادي يحفوفه، بعد أن يترك القطار موقف (محطة) رياق قرية ماسة، إلى يمين الداخل على تلة، وهناك هيكل لزحل كما مرَّ آنفًا؛ فضلًا عن أنَّ لأيل — أحد أولاد عليون — بنتين عنت وتنيت، وهي عشتروت؛ أي الزهرة، ومنها أُخذ اسم عيتنيت في آخر منعطف البقاع كما مرَّ، إلى غير ذلك مما يملأ تفصيله كتابًا برمَّته.

هذا ما رأيته في تسمية المدينة وأرباضها، مما يدل على قدمها، بقي أنَّ ما فيها من المغاور في الصخور قرب نزل (لوكندة) الصحة إلى غربيها، التي يسميها العامة الطوق، وبها سمي دير النبي إلياس يدل على سكن الإنسان قديمًا فيها، في طور الظرَّان؛ أي الطور الحجري؛ لأن لبنان كان فيها أناس يسكنون مغاوره الكثيرة الطبيعية، وذكر يشوع بن نون (١٣ : ٤) مغاور الصيدونيين، والمراد بها مغاور نيحا «من الشوف في لبنان الآن» وعدلون. وكذلك اسم الصفه ربما كان عبرانيًا؛ لأن «صفه» العبرانية بمعنى استشرف ونظر، فلعلَّ هذا الاسم كان لمحل على رابية عالية كثيرة الأحادير على ضفة النهر الجنوبية تسمى الآن سور المشيرفة (تصغير المشرفة)، وصفا سميم وبعل شميم بمعنى عبدة السماء ورب السماء، من العبادات الفينيقية، وهو زفس عند اليونان، فعرِّب بالمشيرفة وبقي اسمه القديم لحضيضه، وهناك قبالة نزل الصحة غرفة منقورة في الصخر مربعة تدل على أنها كانت هيكلًا صغيرًا ونحوه. وفوقها مغاور قديمة منحوتة في الصخور، كانت مدافن للموتى ذات حنايا وأضرحة منقورة في الصخر، وهي مقابل المغاور المسماة بالطوق. وفي المدينة كثير منها ولا سيما في صخر، هو كالنطاق لتلة المشيرفة التي هي أكمة خرماء «لها جانب لا يمكن الصعود فيه»، وقد ظهرت مؤخرًا فيه مغارة قديمة شاهدتها، ووصفتها في جريدة المهذب وهاك الآن ما عرفته عنها بالتفصيل: إنَّ في ذلك النطاق الصخري في سفح المشيرفة مغاور كثيرة قريبًا بعضها من بعض، كما يظهر للمتأمل على علو أكثر من ألف وأربعمائة متر عن البحر، وعلى بعد نصف ساعة عن المدينة، ولم يحتفر منها إلا مغارة اهتدى محتفرها إلى معرفتها بكثرة الأرانب التي كانت قد اتخذتها مخزَّة «المخزة بيت الأرنب»، فانتبه بعد مراقبتها مرارًا إلى أن ثمَّ مغارة اتخذتها الأرانب مأوًى لها، فاحتفر الفتحة الصخرية التي تبلغ نحو ثلاثة أمتار، وهي مدخل إلى باب المغارة الحجري وغلقه أيضًا من حجر، وطوله نحو ثمانين سنتيمترًا بعرض سبعين، والغلق الحجري مركز على نجرانين؛ أي محورين حديديين في أعلاه وأسفله لفتحه وإغلاقه بسهولة، وهو ضخم أبيض اللون قد نُزع من محله، وفيه ثقب مستطيل يدل على أنه اتخذ لوضع شيء فيه، إحكامًا لسده وتوثيقًا لإغلاقه، وفي جانب الباب المقابل لمحل المحورين ثقب يقابله. وفي داخل المغارة ثمانية نواويس منقورة في أرض المغارة الصخرية، اثنان منها على جانبي الداخل وخمسة في وسطها متناسبة الوضع وناووس في أقصاها. وهناك نواتئ صخرية تمثل رفوفًا وجدت عليها سرج من فخار منقوش، مستديرة أو بيضية الشكل مستطيلته، ولكلٍّ منها ثقبان؛ أحدهما في مستدق طرفه، والثاني في وسطه. وقياس كل قبر منها نحو ثمانية أشبار طولًا وأكثر من اثنين عرضًا ونحو شبرين عمقًا. وعلو سمك (سقف) المغارة عن سطح النواويس نحو ثمانين سنتيمترًا فقط، بحيث لا يستطيع الداخل أن ينتصب. وطول هذه المغارة من الشرق إلى الغرب نحو عشرين شبرًا في عرض مثلها، وهي منحوتة في صخر أبيض رخو، يُعرف بالحجر السكري، ولها حنايا (قناطر) فوق القبور كلها منحوتة، ووجد في هذه النواويس عظام نخرة بعضها كبير والآخر صغير، وفوق الباب وجدت كوة غير نافذة. ولو تقصَّى الباحثون في حفر هذا النطاق وغيره، لعثروا على أشياء كثيرة ترشد المؤرخ إلى حالة المدينة القديمة.

وإذا صعدت من هذا النطاق إلى علو خمسين مترًا، وعلى بُعد ربع ساعة، وصلت إلى تلة المشيرفة،٣٠ وهي تصغير المشرفة بمعنى المُطلَّة على ما حولها، وفي طلع هذه الأكمة (المكان الذي يشرف منها على ما حولها)، التي تعلو ألف وخمسمائة متر عن سطح البحر، ونحو خمسمائة عن حضيض وادي البردوني آثار أبنية قديمة ضخمة الحجارة، كما يروي المعمرون من سكان زحلة، وكانت مضفورة؛ أي مبنية بحجارة بلا كلس ولا طين، فهدمت أطلالها ودحرجت حجارتها إلى الوادي، واتخذت لبعض الأبنية منذ القديم. ولعل من بقاياها تاجي عمودين منقوشين أمام دير الطوق حتى الآن. وكانت هناك نواويس منفردة على شكل أجران مستطيلة، ولها أغطية مسنَّمة «بشكل جملون». وهناك آبار مستديرة منقورة في الصخور، ولها محل منقور حول فوَّهاتها لوضع أغطيتها، وبالحقيقة أنَّ تسمية هذه الرابية بالمشيرفة جاءت اسمًا على مسمى؛ لأن الواقف على طِلعها يشرف على جبل صنين والكنيِّسة، وجبل الشوف المتصل بجبل عامل (بلاد بشارة)، وجبل الشيخ «حرمون»، والجبل الشرقي «أنتيلبنان»، إلى أن يستشرف أطلال بعلبك الشهيرة، ويُنتقل إلى جبل المنيطرة حتى ينتهي النظر في صنين حيث ابتدأ، فكأنَّ الواقف عليها هو في مركز دائرة والأفق حوله كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها، فضلًا عما يراه من القرى في سفوح هذه الجبال، وفي سهل البقاعين وبعلبك ووادي التيم، وقلما يجد الرائي مثل هذه المناظر الجامعة بين السهول والجبال والأودية والتلال والمنبسطات والرعان والأنهر والينابيع، والخضرة التي لا تخلو منها السهول. فهل نسلِّم أنَّ هذا المحل مع مناعته ووقوعه في مدخل البقاع بين جبلي صنين والكنيِّسة كان خلوًا من هيكل قديم حوَّل معقلًا حربيًّا قوِّضت أركانه؟ كلَّا لا يقتنع العقل بخلوِّه من بناءٍ عظيم لحسن موقعه وحصانته.

فما هو هذا البناء يا ترى؟ وأي متى شيِّد؟ ومن رفع دعائمه؟ وكيف أصبح أطلالًا دارسة؟ إنَّ من راجع التاريخ بتبصر وتروٍّ علم أنَّ الفاتحين من فراعنة مصر، والغزاة من الفرس والرومان والأمم القديمة التي اجتاحت سورية من جهات مختلفة، كانوا لا يستغنون عن الدخول في المضايق المحصنة المحدقة بلبنان وسهوله أو الخروج منها. وأهم هذه المضايق المطروقة هي مضيق جبل المنيطرة، قرب بحيرة اليمونة مقابل بعلبك، حيث هناك آثار طرق رومانية مرصَّفة بالحجارة، تؤَدي من نهر الكلب إلى بعلبك على طريق العاقورة قرب مغارة أفقا، حيث يخرج نهر إبراهيم أو أدونيس (تموز) المشهور في التأريخ، وسمي ذلك الجبل بالمنيطرة لكونه كان محرسًا ومرتقبًا. والمدخل الثاني هو بين جبلي صنين والكنيِّسة. والثالث هو قرب المريجات عن طريق بيروت إلى دمشق. وهناك معابر أخرى من جهة وادي التيم إلى البقاع، ومن جهة حمص إلى سهل بعلبك وغيرها، مثل مضيق وادي القرن إلى دمشق، ومدخل وادي يحفوفه إليها أيضًا. ولما كان كلامنا منحصرًا الآن في تأريخ زحلة، نخص بالذكر من هذه المضايق ما بين صنِّين والكنيِّسة، وهو الذي اجتازه بومبي القائد الروماني الشهير، لما اجتاح سورية في القرن الأول للميلاد، كما ذكر اسطرابون الجغرافي الشهير، وقوَّض في غزوته بعض المعاقل منها قلعة «سنَّان»، ومن رأي الأب هنري لامنس اليسوعي في «تسريح الأبصار ١ : ٣٤»، أنَّ هذه القلعة لم تكن في مشارف صنين العليا لكثرة الثلوج وقرس البرد، وإنما كانت على منعطف رباه، وإذا بحثنا في جوار صنين الذي سمي باسم هذه القلعة «سنَّان»، لا نجد أفضل من هذا الموقع المتوسط بين السهل والجبل، لهذا المعقل فنرجح إذن أنَّ قلعة «سنَّان» كانت في محلة المشيرفة، فهدمها بومبي ودكها برمتها إلى الأرض، لما غزا الأيطوريين (الجبليين) الذين مدُّوا سلطتهم من حوران إلى بطاح سورية المجوفة، وأعالي لبنان الغربي، وسفوحه حتى شاطئ البحر المتوسط، ولا سيما في مدينتي طرابلس وجبيل. ثم أخنت الأيام عليها، فضعضعت أركانها ونسفت أبنيتها ومحت آثار عظمتها، فنقل سكان زحلة القدماء ومجاوروهم حجارتها الضخمة، وصغروها ليستعينوا بها في أبنيتهم لقلة الحجر في المشارف السفلى. ولا خفاء أنَّ هذا المعقل كان في الأصل معبدًا وثنيًّا حُوِّل إلى حصن.

والمروي على ألسنة الشيوخ إلى عهدنا، أنَّ تحت معقل المشيرفة نفقًا (سردابًا) على مسافة ميل، يصل إلى مياه البردوني كان المحاصرون يستقون منه في أيام الحروب. ويسمُّون هذه الأطلال «سور المشيرفة»؛ لأن زحلة لما جدِّد بناؤها كانت آثار السور باقية فنسبوها إليه. وإلى غربي هذه الأكمة الشمالي على مقربة منها مغارة الراهب. وهي فتحة في صخر ناتئ، لها باب مربع يتجه إلى أعلى التلة، وفي داخلها ثلاثة نواويس محفورة في الأرض الصخرية وناووس رابع في أقصاها، منقورة جميعها في صخر صلد، ولها كوة نافذة من سطحها، وهي تمثل غرفة بديعة الوضع.

يقال إنَّ أحد الرهبان تنسك فيها فنُسبت إليه. ولها حنية فوق النواويس الثلاثة، وأما فوق الرابع فالسمك (السقف) مسطح وارتفاعها متوسط، بحيث لا يمكن للداخل إليها أن ينتصب، وقربها بعض المغاور نظيرها. وقد وُجدت هناك قطع نقود قديمة رأيت بعضها، وعليها النسر الروماني الذي هو شارتهم، وعلى وجه آخر صورة واسم أدريانوس أوغسطوس الذي وُلد سنة ٧٦م، وتبوَّأ العرش الروماني من سنة ١١٧–١٣٨م، ويقال: إنه هو الذي ابتنى قلعة نيحا وبعض هياكل في بعلبك وغيرهما، فلعله جدَّد قلعة المشيرفة أيضًا. وكذلك في بدء السنة الحالية (١٩١١م)، كان بعض الفعلة يحفرون في حضيض هذه التلة الشرقي، وراء دير النبي إلياس (الطوق)، فوجدوا آثار معاصر زيت ومعصارًا «مكبسًا» حجريًّا أبيض كبيرًا. وبينما أحدهم يقلب حجرًا من الأرض التي كان ينقبها، وجد تحته أكثر من ستمائة قطعة من النقود الشبهيَّة (البرونزية) توازعها الفعلة، فرأيت بعضها وعليها اسم قسطنطين، أول ملك مسيحي من الرومانيين، تبوأ العرش من سنة ٣٠٦–٣٣٧م، ومن سنة ٣١٣م نادى في مملكته شرقًا وغربًا بحرِّية الديانة المسيحية، وشيَّد كثيرًا من الكنائس والمعابد، معظمها حوَّله من الهياكل الوثنية ولن يزال إلى يومنا، ولعله بنى في زحلة معبدًا باسم النبي إلياس المشهور في هذه الجهة، ومما يدل عليه بر إلياس وقب إلياس والنبي إيلا (إيليا أي إلياس)، وفي نواحي المعلقة قرب بساتينها قطعة أرض باسم كروم (دير لباس)، ويروي الشيوخ أنها محرَّف دير النبي إلياس، وروى الأب جوليان اليسوعي أنَّ كساره تحريف قيصرية، ولعلها كانت مستعمرة لأحد القياصرة الرومانيين، وقيل: إنَّ اسم كساره آرامي بمعنى الخصب والريع. أما الكتابة على هذه النقود فهي باللغة اللاتينية Imprator Constantin، ومعناها الإمبراطور قسطنطين، مما يدل على أنه هو الذي صكها وصورته واضحة على كلٍّ منها، ومع أنَّ حجمها لا يتجاوز حجم المتليك من نقودنا الحاضرة، فهي أسمك منه، تجد على وجهها الثاني صورة قائد قد رفع على ذراعيه ولدًا بيده زهرة، هي علامة الانتصار وتحته طير. وليست هذه الصورة متماثلة في ما رأيناه منها؛ لأن العادة المعروفة في التاريخ إذ ذاك أنَّ كل قائد ينتصر تنقش صورته على النقود تخليدًا لذكره، فلذلك اختلفت الصور باختلاف المنتصرين من قواد الجحفل أو الفيلق الذي كان عدده في ذلك العهد ستة آلاف وستمائة جندي. وظهرت فيها نقود عربية فضية من صدر الإسلام، وقد رأيت مصكوكات قديمة وُجدت في عنجر (عين الجر أو خلقيس أو كلشيس)، عليها رسم واسم هذا الملك أيضًا، وكل ذلك يدل صريحًا على قدم المدينة، وأنها كانت مأهولة في الأزمنة القديمة.

ومن الآثار التي ظهرت في الوادي والبساتين وتل شيحا وعلِّين نواويس رصاصية على أغطيتها صور أشخاص بديعة ونواويس حجرية مفردة مسنمة الأغطية، على بعضها نقوش بسيطة، وفوق قصر (سراي) الحكومة في محلة البيادر على مشارف التلة الجنوبية، وُجد كثير منها قريب بعضه من بعض يدل على أنه كان مقبرة، ولن يزال أحدها على طريق العربات تحت ميزاب «عين السراي» النافذة مياهه هناك أمام قصر الحكومة. ووُجد في بعض هذه النواويس رمم هياكل بشرية، وعلى بعضها رقٌّ ذهبي يغطي الوجه، وشنف أي حلقة من حجر بديعة الصنع رماها أحد الفعلة فانكسرت، ومما يؤسف له أنَّ الذي ظهرت له هذه النواويس لم يحافظ عليها، بل كسَّرها وباعها حجارة والرصاصية أذابها، فهكذا تلفَت آثار المدينة القديمة، حتى كاد تأريخها يطمس ذكرًا.

وإذا راجعنا أقوال الأثريين في مثل هذه المدافن، نجدهم قد قسموها إلى أربعة أشكال: أولها القبور الغائرة، وهي المنقورة في الصخور كالأضرحة الحديثة والمسدودة بالحجارة، وثانيها القبور النفقية (الدهليزية) وهي ذوات فتحات من خمس إلى ست أقدام طولًا، ونحو قدم ونصف عرضًا، تكون في الغالب محفورة في الصخر أفقيًّا، وفيها ضريح لطمر الجثة. وثالثها القبور الرفية وهي ذوات رفوف أو مقاعد لاستقبال الجثة تعلو نحو قدمين عن الأرض، وتكون في الغالب مقببة، ورابعها القبور ذوات الكوَّة الغير النافذة وهي منحوتة غالبًا في وجه الصخر.

أما غرف القبور فهي ثلاثة أنواع: أولها القبور المفتوحة ولها أضرحة غائرة في أرضها. وثانيها القبور ذوات الرفوف أو المقاعد الحجرية الممتدة حول الجدران المتخذة كرفوف للقبور. أو القبور ذوات الضرائح التي كالجسور المحفورة في الجدران فوقها. ومدخلها مغلق بصفيح حجري أو باب حجري صغير. وثالثها مجموع غرف ذوات باب له أسكفة (العتبة العليا) تؤدي إلى مدخل فيه أبواب صغيرة مفتوحة لغرف مختلفة. ونقوشها تكون في الغالب أضاميم من ورق أو زهر. على أنَّ القبور الحجرية المفردة لم يكن يستعملها إلا الأغنياء، وقد اقتبسها الفينيقيون والعبرانيون عن المصريين، وربما كانت هذه القبور الحوضية زوجًا ولها غطاء واحد. وكثير منها ينظر الآن في سورية أجرانًا للينابيع تستقي منها المواشي.

أما عادة النقش على النواويس، فكانت أقل شيوعًا بين العبرانيين والفينيقيين القدماء، تابعة لذوقهم وحبهم للتاريخ منها بين الأشوريين والمصريين الذين نقل الأولون عنهم. ثم أخذ عنهم الرومان واليونان والمسيحيون في أول عهدهم.

فمن كل ما ذُكر نستنتج أنَّ هذه المدافن التي وُجدت في مدينة زحلة ومشارفها وأرباضها، هي من عهد العبرانيين أو الرومانيين إن لم تكن أقدم، لما في وضعها من المناسبة لمدافنهم. وقد وجدت مدافن محفورة في الأرض مبنية بالحجارة في أنحاء المدينة، منها ضريح عليه قبرية (بلاطة يكتب عليها اسم الميت وتاريخ وفاته) بتاريخ سنة ٢٠٠ﻫ/٨١٥م، وفي الضيعة؛ أي حارة دير النبي إلياس للرهبنة المخلصية في وسط المدينة قرب قصر الحكومة، توجد مقابر تحت البيوت الحالية، وقد ظهر على أحدها قبرية كُتب عليها: «توفي في شهر ذي الحجة من شهور سنة ٧٣٢ﻫ/١٣٣١م رحمه الله.» وقد وجد قرب دير النبي إلياس للرهبنة الحناوية في غربي المدينة حجارة منحوتة اتُّخذت لبناء الدير منذ القديم. وظهرت في أنحاء المدينة آثار حرائق ومخازن في بعضها آثار صياغة، وأبنية نُقشت بالفسيفساء. وقنوات للمياه ذات أنابيب (قساطل) خزفية متينة ضخمة، تدل على توزيع المياه في المدينة القديمة. وحنايا تحت الأرض أو أقبية، منها سَرَب في بيت يوسف حجي متجه إلى الغرب، يستطيع الإنسان أن يدخله منتصبًا ولا آخر له ولا منفذ. ووجد في القديم تمثال حجري لأحد الأصنام، وربما كان لزحل. وظهر في تل شيحا تمثال خروف من خزف وآنية خزفية بديعة. وفي حضيض وادي البردوني الجنوبي قرب عين البخاش، ومقابل محلة الطوق سَرَب يسمى مغارة الرصد، يتجه إلى الشرق حتى يقابل دير النبي إلياس الطوق ولا منفذ له. وكذلك في علِّين وتل شيحا آثار خزف قديمة وآبار وأساسات متينة الحجارة وخزف بديع، وفي المشيرفة آثار خزف منقوش بديع الألوان متقن الصقل. وظهرت آثار آبار قديمة بعضها مربع والآخر مستدير، وهي من القصرملِّ؛ أي الرمل والحصى والكلس. وكذلك خواتم من حجر المرمر عليها نقوش أشخاص بديعة.

وكان فيها جسر عظيم الحجارة متين البناء، ربما كان رومانيًّا أو من زمن الصليبيين محل الجسر الكبير الآن قرب الحارة السفلى (التحتا)، فهدمته السيول سنة ١٨١٥م، وجدِّد بناؤه بقنطرة واطئة فهُدم ثانيةً وتجدَّد سنة ١٨٢٢م، وكان هذا الجسر أشبه بجسر المعلقة القديم، كأنهما أخوان شق الأبلمة. وعند محلة (الصفة) في منقطع الوادي، كان جسر قديم مثله يعبر عليه إلى قرية عين الدوق، فهدمته سيول عظيمة وجدِّد بناؤه بزمن نعوم باشا سنة ١٨٩٧م. ولعله كان من بناء الصليبيين أو أقدم منهم.

فكل هذه الآثار لا يصح أن تبقي تاريخ المدينة حديثًا، بل هي أدلة على أنها كانت معاصرة لما يجاورها من القرى التي فيها آثار لم تعبث فيها يد التخريب والتشويه إلى يومنا.

وإذا أرسلنا نظرة أخرى إلى جهة ثانية من التاريخ القديم، نجد أنَّ عبادة ديونيس إله الخمر كانت منتشرة في دمشق وضواحي سورية المجوفة، حتى كثرت الهياكل لهذا الإله الخمري، وتغالى السكان بغرس الكرمة٣١ احتفاءً به، فكان لزحلة وضواحيها نصيب كبير من هذه الحفلات الشائعة بلا ريب. وكان ديونيس الفينيقي قاهر أرنط الجبار الهندي أو الأثيوبي في نهر العاصي المنسوب إلى أُرنط، والمعروف أيضًا بالمقلوب، فصار ديونيس في آخر عهد الوثنية بمنزلة زفس أو المشتري بطل الأساطير في سورية المجوفة، وتمكنت عبادته في دمشق حتى سمت ملكها أنطيوخوس الثاني عشر ديونيس الجديد، كما كانت تسمى بذلك سابقًا ملوكها بني هدد. وانتشرت انتشارًا عظيمًا في سورية المجوفة، وأقيمت له الحفلات الخلاعية ردحًا من الزمان، وشيد لديونيس في سورية المجوفة قصر تحدق به جفان الكرم التي كانت شارته الخاصة فعمت زراعة الكرمة في هذه الضواحي. ولن يزال عنبها وخمرها من أفخر ما يوجد منها حتى الآن، ولا سيما في زحلة وضواحيها فلا يبعد أنَّ قصره كان فيها. وإذا حللنا بعض أسماء القرى في هذه البطاح يتجلى لنا أنَّ دورس التي فيها القبة القديمة الشهيرة بجوار بعلبك، ربما كانت محرَّفة عن ديونيس فقالوا ديوريس ثم دورس. ومما يدل بصراحة على هذا البطل الخرافي أنَّ في أطراف البقاع على تخوم وادي التيم قرية كفردينس، وهي بلا شك نفس كلمة ديونيس خففها العامة على عادتهم. ولعلَّ اسم قرية كفردان قرب حدث بعلبك بقية اسم ديونيس، فحرِّف إلى دان، والله أعلم.

ففي الصفة أو المشيرفة وعين الدوق وعلِّين وكرك نوح وعرجموش وترحين وبحوشه وقمل وبلوده وكساره والتويته والرمثانية وبوارش أدلة واضحة على قدم زحلة ومعاصرتها لما يجاورها من الأماكن القديمة، مثل عين الجروماسة ونيحا وقصرنبا والفرزل وجديتا وقب إلياس ومندرة اليونانية الاسم وغيرها.

وحبذا لو تفرَّغ فريق من العلماء لدرس آثارنا، وكشف القناع عن محيا قدمها. وقد اكتُشف في الفرزل أثر يمثل صورة إله غريب الشكل ممتطٍ جوادًا، ولابس لبس الأسويين، وهو معبود شمسي اتخذه الشرقيون، كما اتخذ اليونانيون عبادة الشمس باسم هليوس، ومنها اسم هليوبوليس لبعلبك ومعناها مدينة الشمس (مجلة المشرق ٨ : ٢٧٠). واكتشف في تل شيحا من زحلة تمثال لهذه العبادة. وفوق قصرنبا صورة المشتري منقوشة على صخر كبير. وكذلك قرب قب إلياس نقوش معبودات يونانية وغيرها على صخور كبيرة، وفي مشارف صنين والكنيسة فوق زحلة نقوش وكتابات.

وبقي اسم نهر البردوني، فربما كان تصغير برَدَى٣٢ على القاعدة السريانية مثل اليموني تصغير اليم بمعنى البحر، ومعنى بردى البارد أو الفردوس. وفي هذا الاسم دليل على قِدم المدينة أيضًا وشئونها التاريخية. وفي سهل بعلبك مقابل المدينة قريتان؛ إحداهما تسمى حوش الذهب والثانية حوش بردى، وهما من أسماء نهر بردى الدمشقي الذي يسمى مجرى الذهب. ولعل في هذه التسمية سرًّا يكشفه البحث أو هي من الكلمة الفارسية «بِردَن» بمعنى الاشتداد في العدو وفيه إشارة إلى سرعة جري النهر لانحدار مجراه ولا سيما قبل وصوله إلى زحلة.

هوامش

(١) الفرزل تحريف برزل؛ أي الحديد بالفينيقية والسريانية، موقعها في المنقلب الشرقي من سفح لبنان الغربي على بُعد ساعة عن زحلة إلى الشرق الشمالي، تحدق بها الرعان والتلال جيدة الماء والهواء، ولقد ظن بعض المؤرخين أنها بلدة ماريمناسيس المذكورة في صدر التأريخ المسيحي، ولقد زارها ياقوت الحموي في القرن الثالث عشر للميلاد، ووصفها في كتابه معجم البلدان بقوله: «الفَرزَل (بفتح أولها وثالثها) من قرى بقاع بعلبك كبيرة نزهة في لحف جبلها الغربي، فيها الزبيب الجوزاني ويعمل بها الملبن المسمَّى بجلد الفرس وهو من خصائصها، وبها قوم يُعرفون ببني رجاء، وهم رؤساؤها معروفون بالكرَم وإقراء الضيوف والتجمل الظاهر في الملبس والمأكل والمشرب والمركب.» ا.ﻫ. والمشهور بضبط لفظها اليوم الفُرْزُل (بضم أولها وثالثها). وفي نواحي معرة النعمان قرب حلب ناحية باسم الفرزل.
وإلى فرزل البقاع هذه تُنسب أسقفية زحلة للروم الكاثوليك، ولعل ذلك مسبب عن خراب زحلة قبلها فنقلت الأسقفية إليها، ثم أُعيدت إلى مقرها الآن منذ أوائل القرن الثامن عشر للميلاد، كما صرَّح بذلك الطيب الذكر المطران غريغوريوس عطا. وقد ذكر أسقف هذا الكرسي بردانوس في القرن الخامس للميلاد. ويقال: إنَّ الملك الظاهر خرب الفرزل في القرن الثالث عشر، ثم عمرت بعد ذلك باندفاق الأُسر (العيال) الحورانية إلى سهل بعلبك والبقاعين، ثم نزح كثير من سكانها إلى زحلة وجهات لبنان وسورية كما ترى في تاريخي «دواني القطوف» لما خرَّبها الحرفوشيون في القرن السادس عشر، فبقيت على ما هي عليه اليوم، وسكانها أكثر من ثمانمائة نفس من الروم الكاثوليك، وهي الآن من قضاء البقاع، وفيها كنيسة السيدة وآثار قديمة، منها مغاور إلى الغرب الشمالي تسمَّى «مغر الحبيس»، على بعضها نقوش رائعة قديمة، سكنها الناس في الطور الظرَّاني (الحجري). وفي سند الجبل على علو نصف ساعة آثار هيكل قديم ربما كان معبدًا، وأمامه مسلة (عمود) مصرية الشكل متوجة بإكليل الغار. وهناك في الجبل أنقاض قرية تسمَّى «بستي». وأما ما ذهب إليه الطيب الذكر وطنينا المطران غريغوريوس عطا في تاريخ زحلة المخطوط. أنها هي أبلية ليسانيوس المذكورة في إنجيل لوقا، وأنَّ اليونانيين سموا الأبلية برادسوس أي الفردوس لخصبها، فحرفت إلى فرزل، فهو مما لم يثبته المؤرخون، والمؤكد الآن أنَّ الأبلية هي سوق وادي بردي كما سترى.
(٢) الزبداني قرية كبيرة تبعد عن دمشق نحو سبع ساعات، وهي قصبة قضاء باسمها نظم سنة ١٨٩٩، وفيها مقر قائم المقام وقصر الحكومة، تعلو عن سطح البحر نحو ألف ومائتي متر، وفيها الآن ثلاثة آلاف ساكن، وفي أواخر سنة ١٩٠٩م مُدَّ السلك التلغرافي من دمشق إليها وإلى بلودان مقر الحكومة الصيفي. وفيها موقف للقطار الحديدي بين زحلة ودمشق. وذكر المؤرخون قديمًا أنها من وادي نهر بردى؛ ولعلهم قالوا ذلك؛ لأن مخرج بردي بقربها. وذكرت في بعض المخطوطات القديمة باسم مدينة يوحنا. واشتهرت بخصبها؛ لأن معظم الفواكه اللذيذة كالتفاح والسفرجل والعنب من حاصلاتها، وفيها تنبت جميع أشجار الفواكه وأنواع الحبوب، وقد اعتنى سكانها بغرس التوت الذي يستنتج من ريعه نحو أربعة آلاف أقة من الفيالج (الشرانق) في كل سنة، وفيها معمل لحل الحرير. ومما امتازت به وجود ينابيع معدنية حديدية غير جارية، فلو اعتُنيَ باستنباطها لاستفادت البلاد منها. ومنسوجاتها فاخرة ولا سيما العباءات والمقارم (الشراشف) وغيرها. ولكثرة خصبها كان الملوك يعطونها إقطاعًا لخاصتهم ولا سيما الأيوبيون. ومن أمثال المولدين «من عاشر الزبداني فاحت روائحه» وذلك كناية عن كثرة فواكهها العطرة. وكانت فيها منذ القديم ولا سيما بزمن الصليبيين وبعدهم مواقف لبدلات الطريق بين بيروت ودمشق وأبراج الحمام الزاجل الذي كان تلغرافهم آنئذ ينقلون بواسطته الأخبار.
ومرَّ بها الرحالة ابن بطوطة في القرن الثالث عشر ووصفها بكثرة الفواكه. وكانت في عهده مبيتًا للذاهبين إلى دمشق من بعلبك وضواحيها. ووصفها أبو الفداء في تأريخه أنها مدينة بلا أسوار. وذكر خليل بن شاهين الظاهري أنها شبه مدينة، وأنَّ في إقليمها نيفًا وخمسين قرية ويتبعها الآن ثمان وعشرون قرية فقط. ونبغ فيها كثير من العلماء مثل العدل الزبداني الذي كان من خاصة صلاح الدين الأيوبي، ولكنه لم يكن محمودًا في طريقته، والشيخ إبراهيم بن محمد المعروف بابن الأحدب الزبداني الفرضي المشهور المتوفى في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة، وكانت أسرته «بنو الأحدب» من مشاهير تلك الجهة. ومن متأخريها بني التل الذين كانت لهم كلمة نافذة عند الأمراء الحرفوشيين حكام بعلبك، وأشهرهم عباس التل الذي حكم الزبداني ونواحيها في أثناء القرن الثامن عشر للميلاد. وعلى الجملة فإن الزبداني واقعة في سفح الجبل مرتفعة عن الحدائق الغناء التي تحيط بها وتملأ بطاحها الواسعة، وهواؤها جيد وماؤها لذيذ وفوقها إلى الشمال على سند الجبل الأعلى الذي يعلو عن البحر نحو سبعة آلاف وأربعمائة قدم قرية بلودان، وهي مشهورة بقدمها وفيها آثار دير فخيم وأبنية قديمة تنتقل إليها في الصيف حكومة الزبداني، ويقصدها المصطافون من جهات مختلفة ولا سيما الدمشقيون. وقرب الزبداني على بُعد ساعتين إلى الجنوب قرية البطرونة في سفح الجبل على بعد ربع ساعة عن نبع بردى، وفيها أطلال قلعة قديمة. ومقابلها على ضفة بردى محلة التكيَّة حيث تتولد الكهربائية التي تنير دمشق وتسير قطاراتها الكهربائية، وفيها مغاور قديمة بديعة بأفاريز. وهناك موقف للقطار الحديدي. وأبنية لشركة التنوير الكهربائي البلجيكية وشلال بديع.
(٣) قطنا بلدة كبيرة بضواحي دمشق وهي اليوم قصبة قضاء وادي العجم التابع لدمشق، ذكرت بزمن الوليد بن يزيد الأموي في القرن الثاني للهجرة وإليها يُنسب الحسن بن علي بن محمد أبو علي القطني وبنواحيها حدثت موقعة سنة ١٨١٠م بين يوسف باشا والي الشام المعزول وسليمان باشا والي عكا خلفه في ولاية الشام؛ لأن الأول أبَى تسليم الولاية للثاني فاستنجد سليمان باشا بالأمير بشير الشهابي الكبير، فجمع عسكرًا من لبنان كان فيه كثير من الزحليين، فانتصر على يوسف باشا وأطاعه أعيان دمشق فدخلها مع الأمير بشير واستلمها، أما يوسف باشا ففر من وجهه.
(٤) إنَّ قرية سوق وادي بردى كانت تسمى في القديم آبيلا أو آبل أو آبلة نسبة إلى هابيل الذي قيل في التقاليد القديمة إنه قدم ضحية هو وأخوه قايين (قابيل) على قمة قرب هذه القرية وقيل على جبل قاسيون فوق صالحية دمشق. ومنذ قرنين ونيف كان على القمة المجاورة لسوق وادي بردى عمودان على كلٍ منهما قاعدة وتاج تدحرجا إلى حضيض الجبل بعد ذلك. وقد سميت كورة الغوطة المجاورة لهذه القرية باسم أبيلية، وفي إنجيل لوقا دعيت آبل ليسانياس الذي كان رئيس الربع على تلك الكورة وقد وجدت في بعلبك كتابة تدل على هذه الولاية وولاتها (راجع تاريخ بعلبك الطبعة الثانية صفحة ١٣٧). وسماها المؤرخ الإسرائيلي يوسيفوس آبل لبنان ثم سماها العرب آبل السوق؛ لسوق أقاموها فيها للبيع والشراء، ثم أطلق عليها اسم سوق وادي بردى، وأُسقطت كلمة آبل فلهذا توهم بعض المؤرخين أنها غير آبل والصحيح أنها هي هي بعينها، وقد ذكرها بالاسم الأول أحمد بن منير الطرابلسي بقوله من أبيات:
فالماطرون فداريًا فجارتها
فآبل فمغاني دير قانونِ
تلك المنازل لا وادي الأراك ولا
رمل المصلَّى ولا أثلات يبرينِ
وهي الآن قرية كبيرة بديعة الموقع على مسافة ١٨ ميلًا عن دمشق، أو نحو خمس ساعات في غورٍ جميل تحدق به بساتين يخترقها نهر بردى، وفيها كثير من الفواكه اللذيذة، وفي أحد بساتينها رابية بديعة الموقع أشبه بجزيرة في بحر الخضرة، وربما كان عليها بناء قديم وهي جرداء عليها شجرة واحدة فقط. وإليها ينسب أبو طاهر المقَّري الآبلي المعروف بابن خراشة الأنصاري الخزرجي المتوفى سنة ١٠٣٦م، وكان إمامًا لجامع دمشق. وإلى جنوبها موقف للقطار الحديدي في سند رابية شامخة صعبة المرتقى متعرجة الطريق، وعلى قمتها مقام هابيل؛ وهو بناء طوله نحو عشرة أمتار يزوره سكان تلك النواحي وإلى جنوبي هذا المزار أطلال كنيسة بنتها الملكة هيلانة أم قسطنطين الملك في القرن الرابع للميلاد وأعمدتها وحجارتها قد تدحرجت إلى الحضيض. وبين السوق والتكية مغاور كثيرة إلى يسار الذاهب إلى دمشق واقعة في سند الجبل فوق مجرى النهر وهي بديعة النحت، ولبعضها أفاريز حجرية ونقوش.
والظاهر أنها كانت مساكن للإنسان في الطور الظرَّاني، ثم اتخذها السياح والنساك معتزلات للعبادة، وربما كانت هذه المغاور ومغاور التكية في هذا الوادي مناسك لدير القديس قونن المسمى الآن «دير قانون» وفيه موقف للقطار. ولقد كثرت الأسماء المضافة إليها لفظة آبل؛ مثل آبل معكة وآبل القمح وآبل السقي في جهات فلسطين، وآبل في جهة حمص وغيرها.
(٥) ومن المزاعم أنَّ نمرود جبار الصيد بنى قلعة بعلبك ليصعد منها إلى السماء بعجلة تجرها أربعة طيور فجلب على نفسه اللعنة لتجبرَّه. ولن يزال قحل الجبل الشرقي دليل ذلك عند هؤلاء الزاعمين، ولكن عجلته تاهت في الجو حتى تدهورت على جبل حرمون فقبر في جواره بقرية كفر حوار من قضاء وادي العجم. وقبره عبارة عن صخرين مربعين عظيمين قد طُرحا في حقل قرب القرية وهو أشبه بقبر جبار آخر قرب بيوك دره على البسفور في الأستانة. ويقول سكان كفر حوار إنَّ السدى (ندى الليل) لا يبلله وأنَّ الحيوانات الضارية لا تدنو منه رهبة.
(٦) إنَّ قرية النبي شيت من قضاء بعلبك على بُعد أكثر من ساعة عنها وسكانها نحو ثمانمائة نفس من الشيعيين «المتاولة». وفي وسطها قبر النبي شيت طوله مائة قدم وعرضه عشر مقبب البناء وفوقه بساط أخضر ممدود على طوله وهو مزار للشيعيين، يتقاطرون إليه ويقابل قبر نوح في الكرك. وفي القرية ينبوع غزير غرست حوله غياض الحور يتصل بنهر يحفوفه الذي يصب في الليطاني.
(٧) دمشق من أقدم مدن سورية وأعظمها علوها عن سطح البحر ٢٤٠٠ قدم مبنية في ذيل جبل قاسيون (الصالحية) في منبسط من الأرض، يتخللها نهر بردَى، وسماها أرميا النبي مدينة المسرَّة لكثرة حدائقها ورياضها الغنَّاء وغوطتها الفسيحة من متنزهات الدنيا، وعدَّها كثير من المؤرخين جنة عدن التي طُرد منها جدَّانا الأولان آدم وحواء. وفي سفح جبل قاسيون مغارة الدم التي قُتل فيها هابيل على زعمهم، وقربها آثار الأنبياء. وعلى قمته مرصد فلكي قديم ذُكر بزمن الأمويين، وربما كان أقدم من ذلك، وقبته لن تزال قائمة. وفي المدينة آثار قديمة رائعة مثل الجامع الأموي والكنيسة المريمية وبعض الأبواب وبقايا السور، وسكانها الآن ثلاثمائة ألف ومعظمهم من المسلمين، أما المسيحيون فعددهم نحو ثلاثين ألفًا واليهود نحو عشرين، وفيها الآن حركة علمية وكثير من المجلات والمطابع والمدارس والمكاتب والصناعات الفائقة، وطول غوطتها مرحلتان في عرض مرحلة، وفيها ضياع كالمدن بلغ عددها في القرون المتأخرة أكثر من ثلاثمائة، ومن أراد معرفة تاريخها مطوَّلًا فليراجع كتاب «الروضة الغنَّاء» لنعمان أفندي قساطلي.
ومن أهم صناعاتها القديمة السيوف والقيشاني والنسج والترصيع «التطعيم» ولا يزال إلى الآن اسم الدامسكو أو الدمقس والدامسكينة عند الإفرنج شاهدًا عليها. وهي منوَّرة بالكهرباء وفيها قطارات كهربائية وإليها جرَّت مياه نبع الفيجة.
(٨) بيت لهيا سريانية بمعنى بيت الآلهة، وهي الآن من قضاء راشيا، وكانت قديمًا من غوطة دمشق، قال ياقوت في معجمه: «إنَّ آزر أبا إبراهيم الخليل (عم) كان ينحت بها الأصنام، ويدفعها إلى إبراهيم ليبيعها، فيأتي بها إلى حجر فيكسرها عليه، والحجر الآن بدمشق معروف يقال له درب الحجر» ثم نقض هذا القول بأن إبراهيم من أرض بابل. وذكرها الشعراء كقول أحمد بن منير الطرابلسي:
سقاها وروَّى من النيربين
إلى الغيضتين وحمُّوريه
إلى بيت لهيا إلى برزةٍ
دلاحٌ مكفكفة الأوعية
والنسبة إليها بتلهي، ونشأ فيها علماء كثيرون من أهل الرواية كيحيى السكسكي وبعض أنسبائه وغيرهم.
(٩) إنَّ معنى حرمون القمة البارزة الشامخة وقيل: الحرم واللعنة وهو من أجمل جبال سورية وفلسطين، ويسمى جبل الشيخ؛ لبياض هامته بالثلج، وكان بزمن الإسرائيليين تخم بلادهم يرونه من كل جهة منها، وذكروا نداه كثيرًا لكثرة التبخر في قمته. وله ثلاث قمم أشبه بثلاث زوايا من مثلث قريب أحدها من الآخر تعلو عن السلسلة نحو ألف متر، وعلى إحداها أنقاض هيكل قديم عبراني سموه بعل حرمون، وربما كان هيكلًا لعشتروت (الزهرة) عند الفلسطينيين والآراميين وتحدق به، وبجواره هياكل كثيرة كان هيكله أعظمها يزوره الوثنيون. وهو أجرد؛ أي خالٍ من الأشجار، ويسمى بجبل الثلج ومعظم ارتفاعه عن سطح البحر ٢٨٠٠ قدم، وقد بنى على قمته الأمير نجم الشهابي حاكم حاصبيا منزلًا للنزهة كان يصطاف فيه، وله فيه أشعار منها قوله:
ومنزل فوق قنِّ الشيخ بتُّ به
معانق الأنس واللذات والطرب
أهدى لنا من صبا نجدٍ معطَّرة
ومنظرًا من ديار العجم والعرب
(١٠) عين الجر هي خلقيس أو كلشيس القديمة وقد ذكرت في كتابات تل العمارنة في مصر سنة ١٥٠٠ق.م باسم «مات نحاسي»؛ أي مدينة النحاس، وهو من معاني اسمها اليوناني خلقيس؛ لأنهم استخرجوا النحاس من جوارها، وكانت عاصمة الأيطوريين، كما ذكرت في تاريخي دواني القطوف صفحة ٥٠، ومعنى الإيطوريين الجبليون، وهم الذين امتد ملكهم من حوران إلى دمشق فسورية المجوفة، واشتهر زعيمهم بطليموس بن منايوس المثري الشهير الذي تولى لبنان الشمالي والبقاع وبعلبك متخذًا خلقيس عاصمة لمملكته هذه، وقد حارب الإيطوريون الرومانيين واستظهروا عليهم في عهده؛ فطار صيتهم واعتصموا بالجبال المنيعة وأنشأوا في لبنان الغربي دولة لهم كانت عاصمتها طرابلس الشام، ولعل اسم قرية تربل في البقاع هو من تسمياتهم التي عرفوها من تلك الجهة ثم خضد الرومان شوكتهم وأذلوهم فبادوا أو امتزجوا باللبنانيين وخفي أمرهم. وإلى خلقيس هذه ينسب الفيلسوف بمبليخس شارح أفلاطون، وقيل: إنه زوَّر كتابات وثنية خرافية نسبها إليه، وإليها يُنسب الزعيم لنجينوس الذي شيد هيكل قرية ماسة في فم وادي يحفوفه لزحل فتحوَّل إلى كنيسة.
وذكر هذه المدينة يوسيفوس المؤرخ، وقال: إنَّ بومبي عاج بها قبل الميلاد بثلث قرن. وبقي ذكرها مطويًّا إلى زمن الصليبيين، فكانت عامرة تسمى عين الجر، كما سماها مؤرخو العرب وياقوت في معجمه، فسموها «أمجرا» محرَّفة عن هذا الاسم. وزحف إليها بلدوين الرابع من صيدا وخيم في مشغره، ثم هاجمها ففرَّ أهلها إلى الجبال فنهبها وأحرقها ولن تزال أطلالًا دارسة. وفيها بركة ماء دورية تمد مياهها ثم تجزر، وهناك آثار قنوات قديمة تُنسب إلى زينب تدل على جر المياه إلى محل آخر، ولعلها أخذت من هنا اسمها، وفيها أنقاض سور سُمكه نحو ثلاثة أذرع وأطلال ونقود رومانية. ومن المواقع الأخيرة التي حدثت فيها معركة بين الأمير فخر الدين المعني حاكم لبنان والأمير موسى الحرفوشي حاكم بعلبك والبقاع سنة ١٦٢٣م، كان فيها الظفر للمعني. ومنها يجري نهر عنجر أو الغزير أو مرسيا باسم البقاع القديم ويصب في الليطاني ذكره بلين واسترابون وغيرهما من المؤرخين. وهي على بُعد ربع ساعة من محطة المصنع المعروف بمجدل عنجر على طريق العربات بين بيروت ودمشق في مدخل وادي الحرير ووادي القرن. وخلكيس اسم قنَّسرين قرب حلب ومدن وأنهر قديمة في اليونان وتركية.
(١١) القلمون يونانية بمعنى الإقليم والمناخ؛ لأن جودة هواء هذا الجبل مشهورة وذكره ياقوت في المعجم فقال: إنه بين حمص وبعلبك وفيه المناخ. وذكره أبو الفداء باسم سنير، وهو مشهور بالاسم الأول؛ أي جبل القلمون. وهو قسمان أعلى وأسفل، سكانه نحو ستين ألفًا، ويمتاز بمملحته التي يسمونها المنقلبة لزلزلة قلبت أرضها، وهي قرب جيرود، ومحيطها ١٢ ميلًا، وطولها نحو ساعتين بعرض ساعة في القلمون الأسفل وملحها مرٌّ يمزج مع ملح تدمر فيصلح لمعالجة الطعام. وفي الضمير عين كبريتية يستحم بها. وقرب المملحة معدن جبس (جفصين)، يستخرج قطعًا، ومن خواص تلك الجهات الفوَّة، وهي نبات للصبغ الأحمر والأُشنان نبات يحرق فيستخرج منه القلى. ويظهر فيه بزمن الربيع الكماة (الكما). ومن جيرود يؤخذ قش لضفر (نسج) الحُصر؛ وهو جميل متين. وهذا الجبل أجرد (قليل الشجر)، وفيه أطلال قديمة ونواويس ومغاور وتُنسج فيه البسط الغليظة، ومن قُراه الشهيرة صيدنايا ومعلولا ودير عطية وقارة ويبرود والنبك، وجميعها حسنة المواقع صحية جيدة الماء، وإلى صيدنايا ومعلولا (سلفكية) تُنسب أسقفية الروم الأرثوذكس في زحلة الآن.
ومن تلك القرى نزح كثير من الزحليين في أيام عمران مدينتهم، وبعضهم يُنسب إلى القرى التي نشأوا فيها مثل بني المعلولي والنبكي والمعراوي والقاري وغيرهم. وقسم من هذا الجبل الآن يتبع قضاء النبك والآخر قضاء دومة دمشق. ومن تلك الجهات جبة عسال الورد. وقد نشأ منه علماء وأدباء من جميع المذاهب وأساقفة الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، وقد مرَّ في هذا الجبل الرحالة ابن جبير الأندلسي في القرن الثاني عشر للميلاد ونزل بقارة ووصفها بأنها قرية كبيرة للنصارى، وليس فيها من المسلمين أحد، وكذلك مرَّ بالنبك إلى أن نزل بدمشق قادمًا من حمص. وفي صيدنايا دير الشاغورة القديم للراهبات الأرثوذكسيات ومكتبة مخطوطة. ويسمى جبل القلمون الآن باسم «بلاد الشرق». وإليه تُنسب الحنطة المشرقانية؛ أي البيضاء، ومعظم الاتجار بها في زحلة.
(١٢) الكرك لفظة سريانية (كركو) ومعناها حصن أو معقل، وكان فيه هيكل روماني قديم في سفح الجبل لم يبقَ له أثر، وهناك كان قبر نوح أولًا ولما تملك السلطان بيبرس البندقداري الملقب بالملك الظاهر سنة ١٢٥٨م بنى هذا القبر الباقي إلى يومنا، وجعل طوله وفقًا لاعتقادهم واحدًا وثلاثين مترًا، ونقله إلى محله اليوم، وقد زاره كثير من الملوك والرحالة ووصفه آخرون فابن جبير الأندلسي الرحالة وصفه دون أن يشاهده في أواخر القرن الثاني عشر بقوله: ومن المشاهد الكريمة التي لم نعاينها ووصفت لنا قبر شيت ونوح (عم) وهما بالبقاع، وهي على يومين من البلد «أي دمشق»، وحدثنا من ذرع قبر شيت فألفى فيه أربعين باعًا، وفي قبر نوح ثلاثين، وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له وعلى هذه القبور بناء، ولها أوقاف كثيرة ولها قيم يلتزمها. ثم زاره الرحالة ابن بطوطة المغربي في القرن الثاني عشر فقال بوصفه (١ : ٣٥): «وقصدنا منها (أي بيروت) زيارة أبي يعقوب يوسف الذي يزعمون أنه من ملوك المغرب وهو بموضع يعرف بكرك نوح من بقاع العزير، وعليه زاوية يطعم بها الوارد والصادر. ويقال: إنَّ السلطان صلاح الدين وقف عليها الأوقاف وقيل السلطان نور الدين. وكان من الصالحين، ويذكر أنه كان ينسج الحصر ويقتات بثمنها.» ا.ﻫ. وأورد هنا قصة السلطان يعقوب الذي يقال: إنه دفن بقرية في البقاع تُنسب إليه حتى يومنا، وأنكر ذلك المقري في نفح الطيب، والله أعلم. وذكره ياقوت في معجمه وزاره أبو الفداء المؤرخ الحموي سنة ٧٢٨ﻫ عن طريق بعلبك، وانحدر إلى الساحل شاخصًا إلى القدس الشريف. وذكره ابن حوقل كما مرَّ آنفًا والدمشقي بقوله: إنَّ قبره محفور بالصخر طوله ٥١ قدمًا. وزاره تيمورلنك الطاغية لما اجتاح سورية في أول القرن الخامس عشر. وإلى هذه القرية ينتسب ابن جاندار وهو حسين بن شهاب الدين حسين بن جاندار البقاعي الكركي من أهل القرن الحادي عشر للهجرة والسابع عشر للميلاد. وكان مقر ولاية البقاع العزيزي مدة طويلة وللحرافشة فيه قصور فخيمة إلى أن أخذه الأمير بشير الشهابي الكبير فهدمه ونقله إلى المعلقة، وهو قرية صغيرة سكانها نحو أربعمائة نسمة من الروم الكاثوليك والشيعة. وقبر نوح مزار للشيعيين إلى يومنا.
وفي سورية ثلاث محلات باسم الكرك؛ أحدها كرك نوح هذا، والثاني في فلسطين، والثالث قرب طبرية باسم الكرك والشوبك. وفي بغداد وغيرها محل يعرف بالكرخ وهو تحريف الكرك. ويسمى كرك نوح بكرك بعلبك أيضًا.
(١٣) قال ياقوت في معجمه (٦ : ١٤١): «عرجموس «بالسين» قرية في بقاع بعلبك يزعمون أنَّ فيها قبر حبلة بنت نوح (عم).» ا.ﻫ. وهي على مقربة من محلة الفيضة الآن خَربة لا سكان فيها، وذُكرت في التواريخ باسم وطا عرجموش ومرج عرجموش، خيَّم فيها إبراهيم باشا والي مصر بعسكره سنة ١٥٨٤م للاقتصاص من سارقي الخزينة السلطانية في جون عكار وأرعب البلاد. وسنة ١٦٩٤م اجتمع في مرج عرجموش نحو ثلاثة عشر ألف مقاتل وأعيان البلاد لمساعدة أرسلان باشا على خصيمه الأمير أحمد المعني.
(١٤) سمي البقاع بالعبرانية باسم عميق، وذكر أبو الفداء المؤرخ الحموي اسم بحيرة عميق وقال: إنها مستنقعات وأقصاب وقش يعمل منها الحصر في وسط البقاع البعلبكي بين كرك نوح وعين الجرِّ، وقد اشترى هذا الغاب الأمير سيف الدين دنكز في النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد لما تولى الشام من بيت المال وعمل مجاري للمياه تنفذ إلى الليطاني فنضبت المياه وذلك بإشارة علاء الدين بن صبح البقاعي فعمر فيه نحو عشرين قرية ولما صادره الملك الناصر وأخذ قراه وأقطعها أمراء الشام عطلت القني فعاد الغاب سباخًا مستنقعًا لا يصلح لشيء إلا لإنبات القصب والقش. ويقال: إنَّ الأمير فخر الدين المعني جففه وكذلك الأمير بشير الشهابي الكبير ولكنه عادت إليه المياه فغمرته فكان محصنًا للجراثيم المرضية تستنقع فيه وتنشر الحميات في جميع هذه النواحي على أن سعادتلو نجيب بك يوسف سرسق البيروتي جففه وأنفق عليه أكثر من مئة ألف ليرة فوقى الناس شرَّ الأمراض وهو الآن قرية خصبة وقلَّ ما بقي سباخًا من أرضها.
(١٥) ولن تزال آثار هذا الاسم في السهل إلى يومنا مثل النبي إيلا «أي إلياس» وقب إلياس وبر إلياس وكروم دير إلياس «لباس» في الكرك ودير النبي إلياس في زحلة وغيرها من القرى.
(١٦) إنَّ قرية حام في سند الجبل الشرقي على بعد أربع ساعات من بعلبك ومن قضائها، وقربها معربون من هذا القضاء أيضًا وعلى مقربة منهما مخرج نهر يحفوفه من قرية باسمه في سفح الجبل ذات بساتين غناء خصيبة، وفيها موقف للقطار الحديدي وهي من قضاء الزبداني على بعد ثلاث ساعات منها.
(١٧) وتوجد محلة «عين البقر» قرب عكاء وهي مزار للمسلمين والنصارى واليهود، يزعمون أنَّ البقر الذي حرث عليه آدم خرج منها أيضًا، وعليها مشهد كما ذكر ياقوت في معجمه (٦ : ٢٥٣). ويقال: إنَّ عين البقر فوق زحلة كانت مزارًا للشيعيين الذين لن يزالوا في جوارها في قمَّل وحزَّرته وبوارج وغيرها.
(١٨) إنَّ حوشبيه الآن أطلال دارسة، وقد وهم الأب جوليان اليسوعي في كتابه «بعلبك وآثارها» أنها قرية صغيرة، وهي بين قريتي شمسطار التابعة للبنان وكفر دبش التابعة لبعلبك في منعطف قرب تلة باسمها، وفيها أطلال قلعة قد سقطت أعمدتها القنينية الشكل ونقلت حجارتها، وهناك آثار حمَّامات وجدتُ فيها حجرًا عليه رسم رأس ناتئ هشم وحوله كتابة رومانية ظاهرة. ومن هذه الأطلال قنطرة ضخمة الحجارة ينبجس منها ينبوع غزير المياه يسقي أراضيها وما يجاورها، وهي الآن تابعة لقرية طاريَّا قرب شمسطار وعلى هذه القنطرة كتابة رومانية تعريبها «للمشتري الصالح جدًّا والعظيم جدًّا الهليوبولي كوينتوس بربيوس روفوس» وهي تدل على شيوع عبادة المشتري في تلك الضواحي، ولعلَّ اسمها منحوت من كلمتي حوش وبيك فقيل حوشبيه.
(١٩) نيحا كلمة سريانية بمعنى المستريحة، وهي الآن من قضاء البقاع ألحقت به منذ بضع وعشرين سنة منسلخة عن قضاء بعلبك، وهي في المنقلب الشرقي للبنان الغربي سكانها نحو ستمائة، وفيها التوت والكرم، تبعد عن زحلة نحو ساعتين إلى الشرق الشمالي، وفيها هيكلان؛ أحدهما على رابية فوقها يسمى قلعة الحصن، وهو من هياكل المشتري البعلبكي وبانيه أدريانوس أوغسطوس في القرن الثاني مشيد على علو ٢٤٠٠ قدم عن سطح البحر و١٢٠٠ قدم عن السهل كورنثي الهندسة وأرضه مرصعة بالفسيفساء وطوله نحو أربعين ذراعًا بعرض نحو ١٦، وفيه نقوش بديعة ورسوم كثيرة؛ منها تمثال امرأة ساحرة بيدها كتاب وهو يوناني الشكل. وقد هدمت أروقة هذا الحصن ويستنتج من بقاياه أنه على هندسة هيكل المشتري في بعلبك ولكنه أصغر منه وعليه كتابات كثيرة فهو أجمل الهياكل الباقية بعد بعلبك. وفي القرية هيكل للنذور شيد للإله السرياني هادرناس وكان مخصصًا لعبادة روح الظلام من العذارى النادمات. وعليه كتابة معناها أنَّ عذراء كرَّست ذاتها لهذا الإله وعملت بأمره الصادع بأن لا تأكل خبزًا مدة عشرين سنة. وهناك صورة رأسها على الأرجح، وقد بعثرت حجارة هذا الهيكل بزلزلة قوية وهو ضخم البناء، ومن كنيسة الأرثوذكس فيها اقتلعت الجمعية الألمانية، التي احتفرت آثار بعلبك منذ بضع سنوات، حجرًا يمثل امرأة وتحته طفل وبقربه عجلان معدَّان لتقديم المحرقة للمشتري الذي شفى طفلها فنقلته، وفيها وجد رسم مثلث الآلهة يمثل هرقل بثوبه الوطني الشرقي، وهو مجنح راكب على ثور وبيده هراوة، إلى غير ذلك من العاديات النفيسة. وحدثت في نيحا مواقع كثيرة بين حكام بعلبك ولبنان كما في (الدواني).
(٢٠) لا صحة لما يزعمه المؤرخون أنَّ هذه القرية سميت باسم نبا، وهو رجل قتل المشد (أي متولي الديوان) في الجبل الأعلى قرب حلب وفرَّ إلى لبنان فاعتصم بجباله المنيعة وابتنى قصرًا في هذه القرية سنة ٨٢٠م. ولن تزال أطلال قصر الإله البابلي نابو فوق القرية في موقع جميل، ويظهر أنه لم يكمل وأساسه عالٍ يقيس أحد أعراقه «مداميكهِ» أكثر من عشرة أمتار مكعبة من المرمر «شحم بلحم». وعلى مقربة من هذا القصر المقطع المرمري الذي قطعت منه حجارة هذا القصر. وهو صخر عظيم فيه آثار قطع الحجارة كأنها نشرت بمنشار، وفيه حجارة كثيرة بدئ بقطعها ولم يكمل فهي دليل دقة أعمال الأقدمين التي قصر عنها المتأخرون. وفوق هذا المقطع على صفيح صخري عاديٍّ صورة المشتري منقوشة ناتئة فيه، وموقع قرية قصرنبا قرب الفرزل وسكانها شيعيون. وقد سمي باسم هذا الإله كثير من القرى مثل نابيه في متن لبنان. وكفر نبو في جبل سمعان غربي حلب.
(٢١) بيت شاما قرية من قضاء بعلبك قرب كفر دبش وحوشبيه وفيها موقف للعربات بين زحلة وبعلبك وكروم مشهورة بعنبها وتوت خصيب، وفوق القرية آثار هيكل الإلهة شيما وكتابات قديمة ومعظم سكانها مسيحيون أرثوذكسيون، ومن أسماء القرى المنتسبة إلى هذا الإله بعلشميه وشامات في لبنان.
(٢٢) من قضاء بعلبك إلى جنوبي سرعين على مشارف وادي يحفوفه إلى شرقي رياق على مقربة منها. إلى يمين الراكب في القطار إلى دمشق على تلة بديعة سكانها نحو مائة، وفيها هيكل زحل قد حوِّل إلى كنيسة وعلى إحدى دعائمه كتابة معناها أنَّ لنجينوس الكلشيسي «العنجري» شيده لزحل تذكارًا لخلاص القيصر الذي يرجح أنه مرقس أوريليوس.
(٢٣) من قضاء البقاع وإليها يُنسب زكريا بن خضر العينتيتي البقاعي الفقيه الشافعي المتوفى سنة ١٦١١م ذكره المحبي في خلاصة الأثر بهذه النسبة، وقال: إنَّ عينتيت من شوف الحراذين في لبنان. وهذه التسمية تؤيد رأينا.
(٢٤) ذكر صالح بن يحيى البحتري في تاريخ بيروت اسم هذه القرية عينتا في تضاعيف القرن الثالث عشر والرابع عشر، واشتهرت بصناعة الفخار المتين حتى نسبت إليه ونبغ منها علماء كثيرون مثل شهاب الدين العيثاوي في القرن السادس عشر وكمال الدين بن مرعي في القرن السابع عشر وغيرهما.
(٢٥) اليمونة سريانية بمعنى البحيرة، وهي في منعطف جبل المنيطرة الشرقي مقابل بعلبك، وفيها بحيرة مشهورة طولها بين ثلاثة وأربعة كيلومترات وعرضها نحو كيلومترين، بيضية الشكل يصب فيها ينبوع الأربعين الدوري الذي ينضب في الشتاء، ويفيض في أول الربيع عند ذوبان الثلج في عيد الأربعين شهيدًا فنسب إليهم، وقد بني لهذا الينبوع سدٌّ بعلو نحو خمس وعشرين ذراعًا لجر مياهه إلى أراضي قرية اليمونة المرتفعة عن البحيرة على علو ١٥٤٠ مترًا عن سطح البحر، ولهذه المياه منفذ إلى مغارة أفقا (المخرج) قرب العاقورة، وهي منبع نهر إبراهيم الذي يصب قرب جبيل. وفي اليمونة سمك صغير لذيذ. وهناك آثار هيكل للزهرة. وطريق رومانية تمتد إلى العاقورة وتنحدر إلى نهر الكلب، وهي مرصوفة تدل على أنها كانت منهجًا إلى بعلبك وربما نُقلت عليها الأعمدة الأصوانية (السماقية)، ومن رأي بعض الباحثين أنها نُقلت من طريق صور إلى مدخل البقاع الغربي متخللة السهول. وستجر مياه اليمونة إلى ما يجاورها من القرى لسقياها، وهو مشروع زراعي مفيد. وفوقها على طريق الأرز قرية عيناتا المذكورة أعلاه، وفيها ينبوع بارد شهير وفي القريتين قليل من السكان. وحولهما بعض الهياكل والآثار القديمة. أهمها قصر شليفه (راجع وصفها في «دواني القطوف»).
(٢٦) جب جنين هي الآن قاعدة البقاع الشرقي، وفيها مدير يدير ثلاث عشرة قرية من البقاع. وسكانها نحو ألفين من المسيحيين والمسلمين وكل منهما نحو النصف، وقد ذكرت في القرن الرابع عشر للميلاد إذ اشتهر مقدمها ملَّا بموقعة الإفرنج في بيروت. وفيها أطلال قديمة. وقربها على الليطاني جسر روماني قديم مؤَلف من أربع عشرة قنطرة شاهقة وعليه كتابة قديمة.
(٢٧) وذكرها ياقوت باسم «يونان»، وفيها نشأ الشيخ عبد الله اليونيني الذي شُيد له مقام على رابية في غربي بعلبك فوق المغاور. وهي قرية في وادٍ خصيب غزير المياه كثير الحدائق وسكانها نحو ألف من الشيعيين. وقربها قرية نحلة الخصيبة وفيها آثار هيكل للمشتري ضخم الحجارة وفي جوارها نبع اللجوج الذي جرَّ قديمًا إلى بعلبك.
(٢٨) كانت علِّين وقمل في مشاحنة دائمة؛ لأن سكان إحداهما من القيسيين وسكان الأخرى من اليمنيين فخربتا لكثرة خصامهما ودكَّت أبنيتهما، ولا سيما بعد موقعة عين دارة سنة ١٧١١م، فاستظهر القيسيون على اليمنيين، ومُحي اسم هؤلاء فلم تقم لهم قائمة بعد ذلك. ولقد كان أكثر سكان البقاع من اليمن من القبائل التي هجرت بلادها على أثر انفجار سد مأرب وحدوث سيل العرم، واشتهرت علِّين بأخربتها القديمة حتى نُسب إليها وجود الجن، فضُرب المثل في لبنان بجنها، وذلك في قولهم «مثل جنية علِّين» والشيوخ يقولون: إن ملوك عنجر كانوا يأتون بقارب إليها للتنزه، وموقعها بديع إلى الآن.
(٢٩) توجد آثار لعين الدوق في واحدة أريحا «فلسطين»، ويرجح العلماء أنَّ اسمها محرَّف عن داجون بمعنى سُميكة تصغير سمكة. أما عين الدوق من أحياء زحلة فهي مشهورة بطيب هوائها وعذوبة مائها حتى توصف سكناها للمرضى، وهذا يؤيد قولنا إنها محرَّف داجون إله الطب فقيل فيه دوج ثم دوق. وهي قائمة على رابية في الغرب على الضفة الشمالية وفيها التأم المجمع الثامن والعشرون لطائفة الروم الكاثوليكيين وكان مؤلفًا من أربعة أساقفة، وذلك في ١٢ آب سنة ١٨٥٩، فلم يصادق عليه وبحثه كان في مسألة الحساب الغريغوري. وهذا الحي الآن هو للرهبنة الحلبية صنو الرهبنة الشويرية، وفيه كنيسة ومأوى «أنطوش» للرهبنة صغير. وربما كانت عين الدوق نسبة إلى دوك صليبي احتلها في أثناء الحروب الصليبية ليخفر طريق المتن إلى لبنان. وكانت عبادة بعل داجون شائعة عند الفينيقيين، إذ اكتُشفت صورته مرة منتصبًا، وأخرى بصورة سمكة على نقود ملوكهم في جزيرة أرواد في القرن الرابع قبل المسيح. والله أعلم.
(٣٠) يوجد هذا الاسم لكثير من الأماكن والقرى. فرأس المشيرفة مكان يشرف على عكاء. والمشيرفة قرية عند وادي خالد بين حمص وبلاد الحصن. والمشرفة في لبنان. ومشارف اليمن والشام كانت تصنع فيها السيوف المشرفية. وهو اسم شائع كثيرًا لكل ما يدل على ارتفاعه وإشرافه على ما حوله من الأماكن.
(٣١) قال المقدسي من مؤرخي القرن العاشر للميلاد: «ولا أشرب للخمور من أهل بعلبك ومصر.» ولذلك كثرت الكروم في هذه الجهات وأخصبها وألذها، وأشهرها ما كان في زحلة وضواحيها من لبنان الغربي فاسم خمَّارة — إحدى قرى البقاع — بمعنى الحانة أو المخمرة، ولعل تلة الخمَّار فوق المعلقة اشتهرت بهذا الاسم من خمورها لا من حمرة تربتها كما سبقت الإشارة. ومن أهم الآثار الدالة على هذه العبادات هيكل باخوس في قلعة بعلبك أو الهيكل الصغير الذي تسميه العامة دار السعادة، وهو من أنفس الآثار الباقية وأكثرها إتقانًا، وعلى بابه نقوش رائعة تمثل دوالي العنب متدلية العناقيد منفرشة الأوراق، حتى إنَّ ضلوعها الصغيرة تظهر للرائي لدقة حفرها. وعلى مذابحه وأدراجه صور راقصات باخوس المتهتكات تمثل حفلاته الخلاعية.
(٣٢) نهر بردى يسميه الكتاب المقدس نهر إبانة، وهي لفظة عبرانية بمعنى مياه الصخر، ومخرجه من فوَّار في أرض مرملة في لحف صخور عالية تحدد سهل الزبداني على علو نحو أربعمائة متر وبعد ٢٣ ميلًا عن دمشق، ويكوِّن في أول مصبه شبه بحيرة صغيرة تنساب إلى الجنوب، وفي محلة التكية يتكون منه شلال تتولد منه الكهربائية بقوة نحو خمسة آلاف حصان؛ لتنوير دمشق وتسيير قطاراتها، ثم ينساب في وادٍ ضيق إلى أن يمرَّ قرب آبل (سوق وادي بردى)، ولما يقرب من عين الفيجة على بُعد ستمائة متر عن ينبوعها الغزير تنضم إليه مياهها، فيكبر حجمه وينساب إلى دمشق؛ حيث يتوزع في سبعة أنهر على المدينة، ثم يخرج منها إلى الغوطة فيروي رياضها الغناء وهي من منتزهات الدنيا الأربع، ثم يصب في بحيرة المرج أو البحيرة القبلية، وسماه اليونان خريسرُّواس؛ أي مجرى الذهب لكثرة خصب الأرض التي يسقيها، وسموه أيضًا بردينس ومنه اسم بردى هذا. قال حسان بن ثابت الأنصاري:
يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسلِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤