زحلة الحديثة ووقائعها في القرن الثامن عشر

روى بعضهم أنَّ زحلة هي أبلية ليسانيوس، وقد مرَّ تفنيد هذا الزعم. والصحيح أنَّ أبلية هي سوق وادي بردى. وقال آخرون: إنها سلفكية (سلوقية). والصحيح أنَّ سلوقية هي السويدية على مصب العاصي. كان فيها كرسي أسقفية فلما دخل العرب الشام نقل الروم مقر هذه الأسقفية إلى قرية معلولًا، وبقي اسمها سلفكية١ وأضافها الأرثوذكس إلى زحلة. وظن غيرهم أنها كلشيس أو خلقيس والصحيح أنَّ هذه عنجر (عين الجرِّ)، ولهذا لا نستطيع أن نعلم اسم مدينة زحلة القديم قبل خرابها إلا إذا كانت مسماة باسم هيكل زُحل فيها،٢ وقد أشرنا إلى أنه كان مشيدًا في علين. وإذا لم تصح جميع هذه الآراء، فالأولى أن تكون المدينة قد اشتهرت بعد خرابها بزحل أرضها وطمر آثارها القديمة، فتغلب عليها هذا الاسم وبقيت مدة لم تتجدَّد أبنيتها خشية أن تصاب بما أُصيبت به قبلًا، وفي لبنان أسماء قرى بهذا المعنى مثل عين زحلتا وبزحل وغيرهما.

أما موقع المدينة القديم، فربما كان في الوادي القائمة فيه الآن، ثم زحلت الأرض من الجانبين فطمرتها. أو أنها كانت في مشارفها الدُنيا ممثلة مستعمرات صغيرة مثل المشيرفة وعلين وعين الدوق وكساره (قيصرية) وتل زينة. أو أنها كانت في محلة البساتين مثل دمشق؛ لأن فيها أطلال أبنية كثيرة تحت الأرض ولا سيما عرجموش وترحين. فكان البردوني يتخللها كما يتخلل بردى تلك، ويتوزع في أحيائها. وهكذا بنى الأقدمون مدنهم المجاورة للمياه مثل طرابلس الشام وجبيل وغيرهما.

وكانت أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر للميلاد معترك التحزُّب بين القيسيين واليمنيين،٣ ففي سنة ١٦٩٣م عزل علي باشا عن أيالة طرابلس الشام وصار وزير الصدارة، ولما كان قد رأى في مقاطعة طرابلس عيث المشايخ الحماديين وفسادهم في البلاد؛ أرسل وهو على طريقه إلى الأستانة رسولًا من حلب إلى الأمير أحمد المعني، يعرض عليه ولاية مقاطعة الحماديين في جبيل والبترون، والضرب على أيديهم ومنع شرِّهم عن مقاطعة طرابلس التي خلفه في حكمها أرسلان باشا المطرجي، فلم يقبل بذلك الأمير المعني، فأوغر صدر الوزير عليه وولى واليين من غير الحمادية على مقاطعاتهم، ففر الحمادية إلى الشوف، وصاروا يعيثون في البلاد ودهموا مدبر أرسلان باشا حاكم طرابلس، وقتلوا كثيرًا من رجاله وابن الأمير موسى علم الدين اليمني، فرفع الشكوى أرسلان باشا إلى السلطان أحمد العثماني، وأخبره أنَّ الأمير المعني هو الذي يساعد الحماديين على العيث في البلاد، وقد اعتصموا بمقاطعاته فأمر السلطان في هذه السنة بكف يد الأمير أحمد المعني القيسي، وإسناد الولاية إلى الأمير موسى علم الدين اليمني على مقاطعاته السبع؛ وهي الشوف والجرد والمتن والغرب وكسروان وإقليم جزين وإقليم الخروب. ثم أصدر أوامره السلطانية إلى الوزراء في سورية أن يجتمعوا بعساكرهم، ويقتصوا من الأمير المعني ومشايعيه لكثرة عيثهم.
فاجتمع الوزراء وخيموا في مرج عرجموش٤ قرب زحلة في محلة الفيضة الآن، وكانوا درسن باشا التفكجي والي حلب رئيس العساكر، وإسماعيل باشا والي دمشق، ومصطفى باشا والي صيداء، وأحمد باشا والي غزة، وأرسلان باشا المطرجي والي طرابلس، وعسكرهم ثلاثة عشر ألفًا، فانضم إليهم جماعة اليمنيين وأحزابهم وبعض القيسيين مثل المشايخ النكديين، ومشايخ بني العيد والشيخ سيد أحمد أبي عذرا اليزبكي والشيخ حصن الخازن وغيرهم من مشايعيهم.٥ ففر الأمير المعني لترك معظم أصحابه إياه، والتجأ إلى الأمير نجم الشهابي في وادي التيم وبقي نحو سنة، فخرَّبوا بلاده وصادروا قومه ولما لم يهتدوا إلى مخبأه انفض جمعهم كلٌّ إلى ولايته. وثبتت الولاية للأمير موسى اليمني، واعتز به اليمنيون فحرك ذلك دفين حقد القيسيين.

وسنة ١٦٩٤ لما سكن الاضطراب، ظهر الأمير أحمد المعني واجتمع إليه القيسيون، فنهض بهم من وادي التيم إلى الشوف ومعه الأميران نجم وبشير الشهابيان برجالهما. فلما وصل الشوف ذهب الأمير موسى الحاكم من دير القمر إلى صيداء ملتجئًا إلى واليها مصطفى باشا، فأعيد الحكم للأمير أحمد بعد استرضاء الدولة عليه.

ولما استلم الأمير أحمد المعني الولاية، سعى بالأمير اليمني خصمه لدى والي صيداء المذكور، فأرسل إليه هدية فاخرة وكتب إليه «أنه يخشى أن يخدعه الأمير اليمني، كما خدع أبوه الأمير علي والي دمشق بشيرًا باشا في واقعة وادي القرن.»٦ ولما كان الوزير قد رأى تقلب الأمير اليمني بآرائه وعدم ثباته على عهده، صدَّق قول الأمير المعني، فطرد الأمير اليمني ومال إلى الأمير المعني وأحبه وكتب إلى السلطان مصطفى الجديد يلتمس له منه العفو وتقرير الولاية، وأرسل له مائة ألف غرش، فقرر المعني على الولاية وحسنت حاله، وسنة ١٦٩٦ فرض المعني مال (المسعدة) على الشوف، ولكنه دهمته المنية في ١٥ أيلول سنة ١٦٩٧ بلا عقب وانقطعت سلالته من الذكور.

ولما كانت أخت الأمير أحمد المعني، متزوجة بالأمير حسين الشهابي أمير راشيا، وكان لها منه ولد اسمه الأمير بشير، اتفق أعيان البلاد جميعًا على توليته حكم المعنيين خلفًا لهم.

وسنة ١٦٩٧ قدم اللبنانيون بالأمير بشير حسين الشهابي من راشيا إلى دير القمر، وبايعوه فيها الولاية بحفلة حافلة فكان أول الأمراء الشهابيين حكام لبنان، فتحولت إليه مقاطعات المعنيين ومتخلفاتهم ورتبت عليه الأموال لأيالة صيداء حسب العادة. واستأذنوا السلطان مصطفى العثماني بذلك، فأمر بتقرير ولاية لبنان بواسطة الأمير حسين ابن الأمير فخر الدين المعني نزيل الأستانة على الأمير حيدر موسى الشهابي؛ لأنه ابن بنت الأمير أحمد المعني، فهو أحق من ذاك بالولاية. ولما ورد الأمر بتقرير الولاية للأمير حيدر توسط الأمير بشير الأمر مع أرسلان باشا والي صيداء أن يعرض للسلطان أنَّ الأمير حيدر قاصر؛ لأنه ابن اثنتي عشرة سنة وأنَّ عمه الأمير بشير كفء للنيابة عنه إلى أن يبلغ ذاك أشدَّه، وهكذا كان. أما اليمنيون فاعترضوا على ذلك، ولما لم يجب طلبهم فرَّ أمراؤهم آل علم الدين إلى دمشق وسكنوا في غوطتها، فاستفحلت الشحناء بين القيسيين واليمنيين على حدِّ قول المتنبئ بهذا المعنى:

برغم شبيبٍ فارق السيف كفه
وكانا على العلات يصطحبان
كأنَّ رقاب الناس قالت لسيفه
رفيقك قيسيٌّ وأنت يماني

والأجدر أن يقال الآن:

إنَّ عصرًا نهجهُ حبُّ الوطن
عصر نورٍ قد محا ليل الفتنْ
كلنا يا صاح فيه أخوةٌ
ليس فرق بين قيسٍ ويمنْ

وما ثبتت ولاية لبنان للأمراء الشهابيين أخلاف المعنيين، حتى خرج عليهم الشيعيون (المتاولة) في جبل عامل، والحرفوشيون في البقاع وبعلبك، والحماديون في بلاد جبيل، وغيرهم في غيرها؛ وذلك لأن الشهابيين من القيسيين وهؤلاء من اليمنيين.

ففي سنة ١٧٠٠م، خرج الشيخ مشرف بن علي الصغير٧ المتوالي اليمني صاحب مقاطعة بلاد بشارة عن طاعة أرسلان باشا المطرجي والي صيداء، وقتل بعض غلمانه، فاستنجد الوزير الأمير بشيرًا الأول الشهابي لقتاله، وأطلق له ولاية صفد مع مقاطعات جبل عامل الثلاث وهي: مقاطعة بلاد بشارة وكانت لبني علي الصغير، ومقاطعة إقليمي الشمَّار أو الشومر والتفاح وكانتا لبني منكر، ومقاطعة الشقيف وكانت لبني صعب. فجمع الأمير بشير من رجاله القيسيين ثمانية آلاف مقاتل، وزحف بهم إلى قتال المتاولة، فقابلهم في قرية المزيرعة من بلاد بشارة، وانتصر عليهم وقبض على مشرف بن علي المذكور وشقيقه الحاج محمد ومدبرهما الحاج حسين المرجي، وأرسلهم إلى أرسلان باشا فقتل الحاج حسينًا وسجن مشرفًا وأخاه، وامتدت ولاية الأمير من صفد إلى جسر المعاملتين. ووقعت العداوة في البلاد بين المتاولة وغيرهم من سكانها. ولما مات الأمير بشير سنة ١٧٠٧م وخلفه الأمير حيدر وعزل أرسلان باشا وخلفه أخوه بشير باشا، عاد بنو علي الصغير إلى العيث في مقاطعاتهم، وانضم إليهم المناكرة والصعبية؛ لأن بشير باشا أعاد لهم مقاطعاتهم، فجمع الأمير عسكرًا وسار إليها للاستيلاء عليها ولقتال المتاولة المذكورين، فبلغ قرية النبطية فالتقاه المتاولة خارجها فتصادموا وكسرهم وقتل كثيرًا منهم، فالتجأ بعضهم إلى القرية وتحصنوا فيها، فأغار عليهم وأعمل فيهم السيف حتى مزَّق شملهم وقتل معظمهم، فجلا بنو علي الصغير عن بلاد بشارة واستولى عليها الأمير، ووضع محمودًا أبا هرموش الدرزي نائبًا عنه ليجبي الأموال الأميرية، وعاد إلى دير القمر وكان ذلك سنة ١٧٠٨م.

أما محمود أبو هرموش فظلم الناس، وأخذ أموالًا زائدة عن المرتبات المعينة، فنمى ذلك إلى الأمير حيدر فاستقدمه للمحاسبة نحو سنة ١٧١٠م، ففرَّ إلى صيداء والتجأ إلى واليها بشير باشا، وكان يحبه لكثرة هداياه له فحماه مدة. وأرسل فأثار بعض الأمراء والأعيان اليمنيين في الغرب والجرد بمساعدة الأمير يوسف أرسلان حاكم الغربين الأعلى والأدنى (في الشوف). وانحاز أبو هرموش من الحزب القيسي إلى اليمني، وصار من زعمائه وتبعه بعض القيسيين، فصاروا يمنيين فتقوَّى اليمنيون في الشوف واستولى كبيرهم الأمير يوسف علم الدين مع محمود أبي هرموش على لبنان، فترك الأمير حيدر دير القمر بولديه الأمير ملحم والأمير أحمد وتبعه من أعيان البلاد الشيخ قبلان القاضي وولده الشيخ أمين والشيخ علي النكدي والشيخ جنبلاط عبد الملك والشيخان محمد تلحوق وولده شاهين. وبقي له في البلاد حزب آخر مثل الأمراء اللمعيين مقدمي المتن وغيرهم من الأعيان.

فسار الأمير حيدر بمن تبعه إلى غزير وأرسل عياله إلى مقاطعة الفتوح إلى المشايخ الخازنيين. فما وصل محمود أبو هرموش إلى دير القمر حتى استقدم إليه الأمراء آل علم الدين من دمشق؛ إذ كانوا قد فروا إليها كما مرَّ، وأرسل عسكرًا إلى غزير لقتال الأمير حيدر الذي أنجده المشايخ الحبيشيون، وانتشب بينهم القتال من الفجر إلى المساء. فاندحر عسكر أبي هرموش إلى جهة البحر متقهقرًا. وفرَّ الأمير حيدر بأعوانه، واختبأ في مغارة فاطمة أو مغارة عزرائيل في سفح جبل الهرمل، وفرَّ الغزيريون إلى جهات طرابلس.

ولما خلت غزير من القيسيين أغار عليها اليمنيون سحرًا، فنهبوها وأحرقوها حتى تركوها قاعًا صفصفًا وقيل في تأريخها: «ندمت غزير ١٧١١».٨

وعاد عسكر أبي هرموش إلى دير القمر، وقد كثر قتلاه وجرحاه، فتحامل على القيسيين وصادرهم ورفع منزلة اليمنيين، وتزوَّج ابنه من أمراء آل علم الدين، وصار مدبرًا لشئون حاكمي لبنان منهم وهما الأمير يوسف وشقيقه الأمير منصور، فصار زمام الولاية بيده، فحصر المقاطعات باليمنيين وضرب على أيدي القيسيين، ولم يبقِ لهم حرمة ولا حفظ لهم عهدًا، فأضمر القيسيون له ولأعوانه السوء وسعوا في جمع كلمتهم والتئام شملهم واستعادة سلطتهم. وهكذا حمي وطيس التحزُّب في أنحاء لبنان وضواحيه بسبب هذه العصبية، واضطرب حبل الأمن وانتشرت القلاقل، فصارت البلاد ميدانًا للمشاحنات والتعصبات ومثارًا لعواصف الفتنة، ومهبًّا لزعازع المخاصمات في جميع المقاطعات.

ولما كان حكام صيداء وعكاء ودمشق وطرابلس يرون سلطة الإقطاعيين وسطوتهم واعتزازهم بالمال والرجال، سعوا بخضد شوكتهم وتفريق كلمتهم، فكانوا يثيرون فيهم العصبيتين القيسية واليمنية وينحازون إلى أحد الحزبين لإضعاف الآخر، فأوقظوا بذلك طرف الفتنة وكثرت الدسائس، وانتشر الخداع بين القوم فأخذوا يتطاحنون ويتنابذون. وكانت قرية عين دارة إذ ذاك قد اعتصم بها اليمنيون وتقوَّوا وبنوا لهم فيها حصونًا منيعة، ووقفوا في طريق المارة من القيسيين في أعلى الجبل، وكان أكثر مقدمي المتن والجرد وشيوخهما يمنيين وعين دارة نقطة اجتماعهم، وهي من العرقوب في الشوف.

وسنة ١٧١١م عقد القيسيون اجتماعات كثيرة قرَّروا فيها الضرب على أيدي اليمنيين، فأرسلوا يستقدمون إليهم زعيمهم الأمير حيدر الشهابي بواسطة المشايخ الخازنيين، وكان هذا لن يزال مختبئًا في الهرمل ومعه بعض أعوانه، فقدم إليهم برجاله المذكورين، وسار إلى قرية رأس المتن ونزل عند المقدم حسين بن عبد الله بن قيدبيه بن محمد اللمعي زعيم أحزابه، وراسل مشايعيه القيسيين في الشوف وغيرها واستقدمهم إليه، فاجتمع عنده المقدم مراد ابن المقدم محمد والمقدم عبد الله اللمعيان برجال المتن، والشيخ سيد أحمد أبو عذرا والشيخ سرحال العماديان برجال الباروك وما يليها، والشيخ خازن الخازن برجال كسروان، والشيخ علي أبو نكد برجال المناصف، والشيخ محمد تلحوق برجال الغرب، والشيخ جنبلاط عبد الملك والشيخ قبلان القاضي وغيرهم.

فلما علم محمود أبو هرموش بذلك، بعث إلى أنسبائه الأمراء السبعة من آل علم الدين الفارِّين كما مرَّ قبلًا، فحضروا إليه من غوطة دمشق بتسعمائة من أعوانهم، وانضم إليه جميع الأحزاب اليمنية من الجرد والمتن والغرب وغيرهم، فاشتد بهم أزره، وكتب إلى حليفيه بشير باشا والي صيداء ونصوح باشا والي دمشق يستصرخهما، فجاء والي صيداء المذكور برجاله إلى حرش بيروت، ثم إلى بيت مري في المتن، ووالي دمشق الموما إليه إلى قب إلياس في البقاع، ثم إلى المغيثة فوق حمانا في الجبل حسب طلب أبي هرموش، الذي نهض بعسكره إلى عين دارة ليجتمع بأعوانه، ويزحف على الأمير حيدر بيوم واحد.

أما الأمير حيدر، فلما علم بوصول محمود باشا إلى عين دارة، قصدها برجاله الذين اجتمعوا عنده في عين زحلتا، وقسم عسكره إلى ثلاثة أقسام وفاجأوا عين دارة. وكان أسرع من زحف إليها اللمعيون؛ لأنهم ساروا في وادي قطليج عند جسر شمليخ، فوصلوا إلى رأس القرية قبل غيرهم.

فدخل إليها أولًا المقدم عبد الله وولده المقدم حسين برجالهما المتنيين الأشداء، واضطرمت نار الحرب وأبلوا بلاءً حسنًا. فدخل عسكر الأمير حيدر القرية عنوة، واشتبك القتال بين الحزبين حتى كثر عدد القتلى، وكان كل من له عدو يفتك به، فقتل المقدم حسين اللمعي الأمير محمدًا الصوَّاف عدوَّه صاحب المتن اليمني واثنين من آل علم الدين. وما تكبدت الشمس السماء حتى عقد لواء النصر للقيسيين، واستظهروا على اليمنيين الذين تمزَّق شملهم كلَّ ممزق. وقبضوا على محمود أبي هرموش وأربعة من الأمراء اليمنيين وهم الأمراء يوسف وعلي ومنصور وأحمد من آل علم الدين الذين قتلهم الأمير، فظن المؤرخون أنَّ سلالتهم انقطعت؛ لأنهم كانوا سبعة، فقتلوا منهم أربعة بعد أسرهم وفي الموقعة ثلاثة، ولكن فرَّ أحدهم من تحت السيف إلى دمشق٩ فأحيا سلالتهم.
ولما فاز الأمير في هذه الموقعة، أقطع أعوانه القطائع وأعاد إلى مقدمي آل اللمع إمارتهم،١٠ وكتب إلى الباقين الأخ العزيز، فصاروا من طبقة المشايخ ولهم امتيازاتهم الخاصة،١١ وتزوج من الأمراء اللمعيين وزوَّجهم، فتوثقت بين الأسرتين الشهابية واللمعية علائق المودة. وأكثر الأمير حيدر قطائعهم وصفت له كأس الراحة.
فبعد موقعة عين دارة هذه، أطلق لقب الإمارة على اللمعيين،١٢ ونالوا الحظوة عند الأمراء الشهابيين، فنفذت كلمتهم عندهم وتزوَّج الأمير حيدر رأس الشهابيين وحاكم لبنان بالأميرة طفلا ابنة الأمير حسين اللمعي،١٣ وزوَّج أخته الأميرة غضيَّة بالأمير عبد الله اللمعي،١٤ وأقطعه قاطع بيت شباب، وأعطى الأمير مرادًا بن المقدم محمد اللمعي نصف حكم المتن وبسكنتا،١٥ وتزوَّج بوالدته أم محمد١٦ التي كانت مترملة إذ ذاك وأحبه كثيرًا ووسع إقطاعه مكافأة على بسالته وإكرامًا لزوجته، وهكذا دخلت زحلة في إقطاع اللمعيين، وصارت من أملاكهم فبدءوا منذ الآن يستعمرونها.

وكانت زحلة في القديم تابعة للبقاع، وبعلبك تحت حكم الشام، لاتجاهها إلى السهل واتصالها به، ولا سيما أنَّ لبنان الغربي بقي مدة يحدُّه منقلب الماء الشرقي من الجبل. ثم قسمت معاملة لبنان إلى اثنتين؛ إحداهما معاملة صيداء، والثانية معاملة طرابلس. فالأولى كانت من جسر المعاملتين تحت غزير في كسروان المسمى بالمعاملتين؛ لأنه تخمهما إلى نهر الأولى عند صيداء. ومعاملة صيداء هذه صارت سنة ١٦٦٠ وزارة، وصار حاكمها يلقب بالباشا، وأول من استمد لها ذلك أحمد باشا الكبرلي والي دمشق، فولى عليها علي باشا الدفتردار واستوزره، وتوالى عليها الوزراء. وكان يتبعها من المقاطعات الشوف والجرد والمتن والغرب وكسروان وإقليم جزين وإقليم الخروب. وبزمن الشهابيين سنة ١٧٠٠ امتدت ولايتها من جسر المعاملتين إلى صفد.

وأما معاملة طرابلس الشام، فقد جعلتها الدولة سنة ١٥٧٩ وزارة لكسر شوكة الأمير منصور العسافي، الذي امتد ملكه سنة ١٥٧٢ من جسر المعاملتين إلى حماة، وكان أول وزير تولاها يوسف باشا سيفا الكردي، ومن مقاطعاتها بلاد جبيل والبترون وجبة بشرِّي والكورة والزاوية والضنية وعكار والحصن وصافيتا.

وكانت ولاية لبنان بزمن الأمير فخر الدين المعني الشهير قد امتدت من حدود حلب إلى تخوم القدس، وسمي سلطان البرِّ وذلك سنة ١٦٢٤م، واشتهر بحروبه مع بني سيفا والحرفوشيين وغيرهم من المجاورين، على أنَّ لبنان كان يتسع ويضيق بحسب نفوذ حكامه وسطوتهم، حتى اتصل بعجلون وحوران وغيرهما.

أما مدينة كرك نوح القديمة التي كانت زحلة إحدى مستعمراتها، فكان الأمراء الحرافشة قد بنوا فيها وفي قب إلياس وسرعين ومشغره دورهم، واتخذوها بعد بعلبك حواضر لولايتهم البعلبكية. فلما اعتدى الأمير يونس الحرفوشي على الشوفيين «نسبة إلى جبل الشوف في لبنان»، الذين كانوا يزرعون في البقاع أراضي اشتروها من زمن الأمير منصور فروخ١٧ ومنعهم من زراعتها، وضبط للأمير علي المعني تل النمورة عند قب إلياس وكان مختصًّا به. استاء المعنيون من الحرفوشيين، وطردهم الأمير فخر الدين المعني من كرك نوح سنة ١٦٢١م، وسنة ١٦٢٢ تحصن الأمير يونس الحرفوشي في قبر نوح بالكرك، ومعه نحو مائة من سكانه، فحاصرهم الأمير فخر الدين، وقتل من الحرفوشيين نحو ٤٠ ومن رجاله خمسة، واستولى على الكرك. وأحرقها في اليوم الثاني حتى لم يبق فيها بيت، فخربت من ذلك الحين، وصارت هي وزحلة وضواحيهما مغارس للكروم، ثم سكنها بعض الشيعيين هي ومشارف زحلة، ولكنها لم تكن إذ ذاك إلا مزارع صغيرة لا شأن لها، وكانت زحلة غابات غبياء على ضفتي النهر تسمى بوادي النمورة؛ لكثرة النمر فيها. وكثيرًا ما كان يقصدها أمراء لبنان وبعلبك ووادي التيم للصيد والتنزه.
فلم يتنفس صبح العقد الأول من القرن الثامن عشر، حتى كانت زحلة بيد الأمراء اللمعيين الذين مرَّ ذكرهم. وكان اللمعيون إذ ذاك من الطائفة الدرزية كما مرَّ، فقويت شوكة الدروز فيها وفي البقاع، وكثر فيها أهل المتن من مقاطعة اللمعيين من دروز ومسيحيين. وكان في زحلة لكل أميرٍ منهم حوش١٨ يسمَّى باسمه وهي ثلاثة أحواش إذ ذاك؛ حوش الأمير مراد من أمراء قرنايل، وفالوغا وموقعه محل دار المرحوم يوسف حجي الآن، قرب كنيسة سيدة الزلزلة الأرثوذكسية، وحوش الأمير يوسف قرب كنيسة القديس إلياس «للمخلصيين» غربي حوش الأمير مراد، وشماليه حوش الحواطمة،١٩ فكان الأرثوذكس قد بنوا كنيسة سيدة الزلزلة قرب محلة البيادر؛ لإقامة فروضهم الدينية، فهذه حالة زحلة في آخر الربع الأول من القرن الثامن عشر.

وكان سكان زحلة الأولون من اللبنانيين، ومن الفرزل وأبلح ممن حدثت بينهم وبين الأمراء الحرفوشيين الشيعيين موقعة قُتل فيها أمير منهم، فتحاملوا عليهم، فجاء المتهمون إلى الأمراء اللمعيين وسكنوا في مقاطعاتهم بزحلة، فرفعوا عنهم تعديات الحرفوشيين. وكانت أسرة الحاج شاهين المعروفة بسلالة إبراهيم الحنا النصراني قد تبعت السلطان سليم العثماني فاتح سورية سنة ١٥١٧م من مسقط رأسها كفربهم قرب حماه إلى سورية المجوفة (البقاع وبعلبك)، فأقطعها قرية ترحين قرب عرجموش، وترك لها الأموال الأميرية ببراءة كانت في أيدي أبنائها سلموها إلى حكومة دمشق، وحدث في تلك الأثناء بينها وبين السيَّاد في برِّ إلياس خصام استفحل أمره، فتركوا ترحين وجاءوا زحلة واستوطنوها. وكان بنو شحادة الخوري صعب من بعلبك وغيرهم من البعلبكيين قد تركوا بعلبك؛ لجور الحرفوشيين وسكنوا زحلة، فاجتمع من هؤلاء مستعمرة صغيرة مسيحية في إقطاع الأمراء اللمعيين مع المتنيين، فضلًا عمن كان في البلدة من الدروز كالحواطمة وبني القنطار وبني حسان. ومن المسلمين كبني الطرابلسي الذين سكنوا إذ ذاك في حي مارتقلا «الآن»، ثم انتقلوا إلى دمشق بعد ذلك ولم يبقَ منهم أحد في زحلة. فهكذا بدأت زحلة الحديثة تعمر وتنمو.

وكان إذا أراد أحد من المهاجرين أن يقطن زحلة يستأذن الأمير الذي يريد أن يحل في حارته أو حوشه، فيعطيه محل البيت وجائزًا (جسرًا) من الصنوبر وروافد (ما يوضع على الجسور لسقف البيت)، فيصير هو وعيلته خاصًّا بالأمير ومن عهدته، فيأخذ منه كل سنة أربع مصاري٢٠ مال عنقه. وكانوا يقطعون الأشجار القديمة؛ ليعمروا محلها لكثرة الأدغال والحراج.

وكان الأمير يرسل من قبله وكيلًا أو دهقانًا (خوليًّا) يدير حوشه، ويقضي حاجات عهدته، وكثيرًا ما يزور زحلة ترويحًا للنفس ومشارفة لأعمال وكلائه. ويصطاد في المدينة الكثيرة الأطيار والوحوش. وقد جاء مرة الأمير مراد بن شديد اللمعي ليصطاد ويستثمر غلة زروعه؛ لأن الزرع كان في السهل والجبل والدياسة على البيادر، التي هي باقية إلى اليوم بجوار السراي. وكان عنده بازٍ مولع به كثيرًا يستخدمه للصيد. فوقع مرة في جدَّاد (هيش) قرب الأنزال (اللوكندات) الحديثة حذاء عين الدويليبي اليوم. ولحب الأمير إياه وحرصه عليه أمر أن تقطع مشتبكات النباتات، حيث سقط ويفتش عليه، فوجد ذلك البازي في قنطرة طاحون قديمة سالمًا، فأُخرج وانتبه الأمير إلى إقامة طاحون على أنقاض القديمة، فبناها وسميت باسمه؛ أي طاحون مراد وهي إلى اليوم، فكانت أول طاحون شيدت في هذا القرن بعد استعمار زحلة الأخير.

وسنة ١٧٢٠ نقل المطران أفتيموس فاضل المعلولي الكاثوليكي داره الأسقفية من الفرزل إلى زحلة، وابتنى له فيها دارًا صغيرة. وفي هذه الأثناء بني رهبان مار يوحنا الشوير دير مار إلياس بقلب البلدة، وهو الذي أعطوه للمخلصية بعد ذلك.٢١

وسنة ١٧٤٠ بنيت كنيسة للكهنة غير الرهبان قرب تلك الأحواش باسم القديس جاورجيوس، التي هي الآن بيد الرهبان الحلبيين الكاثوليكيين، ووسعت سيدة الزلزلة للروم الأرثوذكس.

وسنة ١٧٤١ حدثت موقعة بين الأمير ملحم الشهابي حاكم لبنان وأسعد باشا العظم والي دمشق في البقاع، فانهزم عسكر دمشق فتأثره عسكر الأمير إليها، ثم رجع فأحرق قرى البقاع، وكان في عسكره بعض الزحليين.

وسنة ١٧٤٣ حصل اختلاف بين الأمير ملحم والأمراء اللمعيين، ثم تصالحوا بعد أن لحق الزحليين خسائر.

وسنة ١٧٤٤ عصى متاولة جنوبي لبنان على حاكمه الأمير ملحم الشهابي، فجرَّد عسكرًا من مقاطعاته كان بينه بعض الزحليين وهاجم المتاولة إلى قرية أنصار، فاستظهر عليهم وعرف اللبنانيون ببسالتهم من ذلك العهد.٢٢

وسنة ١٧٤٧ جاء البقاع أسعد باشا العظم حاكم الشام لمحاربة الأمير ملحم حاكم لبنان، فالتقاه هذا بعسكره اللبناني الباسل، وفيه الزحليون إلى برِّ إلياس، فظفر به وبعسكره وهزمه إلى دمشق، فطار صيت اللبنانيين ببسالتهم وثباتهم في مواقف القتال.

وسنة ١٧٤٨ حدث بينهما اقتتال في صحراء برِّ إلياس، وظفر الأمير وأحرق قرى البقاع، وسباها وصار غلاء شديد.

وفي تلك الأثناء كان أمراء صليما اللمعيون قد ابتنوا حوشًا في ساحة القمح العتيقة،٢٣ وأمراء المتين اتخذوا حوشًا وراء دير القديس أنطونيوس للرهبنة اللبنانية البلدية المارونية،٢٤ وهنا كان سكن بعض بني القنطار الدروز.

وكان للأمراء اللمعيين في تلك الأيام فريضة على سكان زحلة ثلاثة غروش على كل مكلف، ومال أميريِّ حدًّا على الكروم. وامتدت سطوتهم في زحلة والبقاع وبعلبك، وكل أمير يحمي سكان حارته الذين من عهدته ويدافع عنهم بقوته. ولم يكن لحاكم لبنان العام الشهابي مال معين على السكان؛ بل كان يصادرهم (يبلصهم) بما يريد من الأموال وما يضرب من الضرائب، وهكذا كان الحال في زحلة. ولما اشتهرت برواج أعمالها بعد ذلك العهد، انصبت إليها صادرات البلاد المجاورة لها، فرتب الأمراء فيها حسبة على المدِّ والقبان، واحتكروا هم بأنفسهم دخلها كما سيأتي.

وفي تلك الأثناء كان الرهبان الشويريون الذين ابتنوا كنيسة النبي إلياس في قلب البلدة، قد سلموها للرهبنة المخلصية٢٥ وهي صغيرة جدًّا وابتنوا عوضها كنيسة القديس ميخائيل؛ لأن البناء كان قد تكاثر حولها؛ لازدياد المهاجرين من لبنان وبعلبك.
وفي سنة ١٧٥٠م جاء كثير من اللبنانيين زحلة والبقاع وبعلبك وتوطنوها وبينهم بنو المعلوف، فابتنى هؤلاء لهم بيوتًا حول الدار الأسقفية، فسميت الحارة باسمهم؛ أي حارة المعالفة.٢٦

وفي هذه السنة تطاول المشايخ المناكرة على إقليم جزين وقتلوا اثنين من خدام الشيخ علي جنبلاط، فشق ذلك على حاكم لبنان الأمير ملحم الشهابي، فجمع عسكرًا من لبنان بينه الزحليون وسار بهم إلى جباع الحلاوة، فهرب المتاولة من وجهه، فاستظهر عليهم وأحرق كثيرًا من قرى جبل عامل وقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقطع أشجارهم وأحرق بلاد الشقيف وبلاد بشارة، وفرَّ بعضهم إلى مزار تحصنوا به فوجه إليهم كتيبة من الجيش بقيادة الأمير مراد اللمعي بعسكر المتن وزحلة والشيخ ميلان الخازن بعسكر كسروان، فظفروا بهم وأهلكوهم جميعًا. ولما عاد إلى دير القمر منصورًا، وزع غرامة على أهل بلاده تعويضًا عما دفعه من الأموال السلطانية على كل رجل غرشًا، فأبى الإقطاعيون ذلك فعدل عن مطلوبه مكرهًا، وأخذ يلقي الدسائس والفتن بينهم، ولا سيما بين الأمراء اللمعيين والمشايخ النكديين حتى تغلب عليهم لانقسام كلمتهم.

وفي تلك الأثناء ظلم الشيخ شاهين تلحوق في البقاع وقطع الطريق على المسافرين. فوجه سليمان باشا حاكم دمشق نائبه بعسكر لمناصبته ورفع تعديه. فدهم الشيخ شاهين في قرية تعنايل، فهرب وقتل من حاشيته ثلاثة رجال. فجمع الأمير ملحم عسكره وبينهم الزحليون ودهم النائب، فهزمه إلى دمشق وقتل عددًا من عسكره. فأوغر ذلك صدر سليمان باشا، وتأهب للخروج إلى بلاد الشوف بعساكره اقتصاصًا من الأمير ملحم، فتوسط الأمر مصطفى القواس والي صيداء، وجاء البقاع وأصلح بين الحاكمين ذات البين، على شرط أن يدفع ملحم لسليمان باشا خمسة وسبعين ألف غرش بدل نفقة عسكره، وأرسل الأمير ملحم أخاه الأمير عليًّا رهنًا إلى مدينة صيداء، فوضع في خان الإفرنج خمسة أشهر، فوزع الأمير ملحم المال السلطاني على بلاده مضاعفًا، وفك أخاه من الرهن فلحق الزحليين خسائر كثيرة.

وفيها صار ثلج عظيم كان في زحلة كثير الارتفاع، فسدَّ طرقاتها واتصل إلى ساحل بيروت، حتى كان على المراكب ثلاثة أشبار وعقبه ضيق وجوع وغلاء.

وسنة ١٧٥١ كثر الخصام بين الأمير ملحم الشهابي حاكم لبنان والمشايخ النكديين، وتوسط أمرهم الأمير إسماعيل حاكم حاصبيا، فعادوا إلى المناصف بعد أن نزحوا من دير القمر إلى وادي التيم، وكان في البلاد قلق شديد اتصل بزحلة وضواحيها.

وسنة ١٧٥٣م قتل الأمير إسماعيل اللمعي ابن عمه الأمير أسعد، فركب الأمير منصور الشهابي الحاكم إلى المتن وزحلة، وصادر القاتل وأتلف أبنيته وأغراسه، وضبط ما بقي من أملاكه، وبعد ذلك رضي عنه وأخذ منه عشرين ألف غرش وزَّعها على مقاطعته، فلحق زحلة قسم منها.

وسنة ١٧٥٤م/١١٦٨ﻫ ابتاع الرهبان الشويريون من الأمراء فارس وأحمد ومنصور مراد اللمعيين من الشبانية محلة الطوق٢٧ التابعة لحزرته،٢٨ وهي من خندق الجحش فوق القطين مقابل وادي العرايش إلى وادي أبي كحيل في حدود كرم البالوع٢٩ بثمن سبعمائة وثمانية وسبعين غرشًا، يدفعون لهم عنها المال الأميري في السنة أربعين غرشًا، ومن سكن في هذا الموضع يجب أن يدفع للأمراء ثلاثة غروش إلا ربعًا، ويعفى من ذلك الأجير والمكاري. والوثيقة (الحجة) كتبت باسم رهبان مار يوحنا الطبشي٣٠ الحلبيين الخوري نقولا الصائغ الرئيس العام، والقس أغناطيوس جربوع والقس يعقوب الصاجاتي والقس بولس كسَّار والقس بوخوميوس. واستأذن هؤلاء الرهبان المطران أفتيموس فاضل المعلولي مطران الفرزل وزحلة ببناء دير النبي إلياس الطوق، المسمَّى باسم القطعة المشتراة المشتهرة باسم الطُّوَق، فشرعوا في بناء هذا الدير سنة ١٧٥٥م، وبنوا الطبقة السفلى منه وراء محله الحالي الآن لجهة الغرب.
أما محلة عين الدوق على عدوة وادي البردوني الشمالية، فأخذوها باسم راهبات دير البشارة في الزوق (كسروان) وبنوا كنيستها القديمة محل المأوى «الأنطوش» الآن، وبعد قسمة الرهبانية إلى حلبية وبلدية خصصت بدير زرعايا٣١ في لبنان.

ونحو سنة ١٧٥٦م ضرب الأمير حسين الحرفوش ضريبة فادحة على سكان قرية راس بعلبك، فعجزوا عن دفعها فحاربهم وصادرهم، فهجروا بلادهم وجاءوا زحلة ملتجئين إلى الأمراء اللمعيين. فأرسلوا وفدًا منهم إليهم في الشبانية يستأذنونهم في النزول بزحلة والسكنى فيها، فأذنوا لهم بالإقامة فيها واستعمار جهتها الغربية، فبنوا حارة الراسية المنتسبة إليهم حتى الآن. وكانت الرهبانية تتساهل مع سكان هذه الحارة، وتسهِّل لهم أسباب الإقامة، فتعطيهم محل البيت وتساعدهم بعماره وتقطع لهم من غاباتها الخشب لسقفه، فتكاثروا فيها وصاروا شركاء الدير، وبينهم المكارون فعمرت الجهة الغربية من زحلة.

وعلى الجملة فكان الذين من خاصة الأمراء اللمعيين يتبعون الرهبنة المخلصية، والذين من خاصة آل قيدبيه يتبعون الرهبنة الشويرية. وكانت حارة المعالفة مختصة بأمراء صليما من بني قيدبيه؛ لأنهم كانوا من عهدتهم قبل مجيئهم من كفر عقاب وكفر تيه في قضاء متن لبنان.

وسنة ١٧٥٧م في شهر حزيران مات الأمير فارس اللمعي حاكم الشبانية في لبنان، فأقيم له مأتم حافل حسب عادة تلك الأيام حضره اللبنانيون وبينهم الزحليون، وكانت مناحته عظيمة عند هؤلاء؛ لأنه سعى بعمران زحلة وأحب سكانها، فحزنوا عليه كثيرًا وخلفه ابنه الأمير سلمان الذي أحبهم مثل أبيه.

وسنة ١٧٥٨م ارتفعت أسعار الحنطة في زحلة، وحصل ضيق شديد على سكانها، وامتد الغلاء في جميع سورية، ومات كثيرون جوعًا ولا سيما في حلب.

وسنة ١٧٥٩م في ١٩ تشرين الأول حدثت زلزلة (هزة) في الصباح، وقتل فيها كثيرون وخربت كنيسة السيدة الأرثوذكسية، فسميت بعد تجديدها بسيدة الزلزلة. وأعادت الكرة في نصف تشرين الثاني من تلك السنة بعد غياب الشمس، فأخربت بلاد بعلبك ونواحيها وجهات الشام، وقتل نحو ثلاث مائة نفس، فأضرت بأبنية زحلة مع حقارتها إذ ذاك، وهدمت كثيرًا منها وقتلت بعض سكانها. وبعد أن انقطعت معاودتها رممت أبنيتها وكنائسها بمساعدة الأمراء.

وسنة ١٧٦٠م تفشى طاعون جارف عمَّ بلاد الشرق، وأفنى كثيرين في مدنها ولا سيما حلب ودمشق، وامتد إلى زحلة ولبنان، فأمات كثيرين في زحلة وفرَّ الناس إلى الأديار والجبال العالية مذعورين، وبقوا مدة طويلة إلى أن تقلصَّ ظله.

وسنة ١٧٦١م في ١٧ نيسان عادت الزلزلة في الساعة الثانية ليلًا، وهدمت رأس بعلبك برمتها ودير السيدة فيها، وقتلت خلقًا كثيرًا بأنقاض المهدومات منها، وبينهم أربعون امرأة كنَّ في محضن (مدخن) القز وأصاب زحلة بعض الضرر، ولجأ إليها كثير من الراسيين، فسكنوا بين مواطنيهم في حارة الراسية وغيرها.

وفيها وقع الخلاف بين الأمير قاسم ملحم الشهابي وعميه الأميرين أحمد ومنصور على الحكم، وذلك على أثر وفاة أبيه، فجاء الأمير قاسم زحلة والبقاع، ثم ذهب إلى عين دارة التي من أقطاعه وصالح عميه، وبهذه الأثناء تنصَّر الأمراء الشهابيون، وأول من قبل ذلك منهم الأمير عُمر جد الأمير بشير الشهابي الكبير لأبيه.

وسنة ١٧٦٦م جاء زحلة السيد أغناطيوس جوهر بطريرك الروم الكاثوليك، ونزل ضيفًا على المطران أفتيموس فاضل المعلولي في الدار الأسقفية، وكان قاصدًا زيارة بعلبك بصفة بطريركية، فلم يتمكن من ذلك؛ لأن الأمير حيدر الحرفوشي حاكمها كان قد أخبره المطران فيلبس أسقف بعلبك أنه ليس ببطريرك فعدل عن ذلك.

وفيها توفي القس بروكوبيوس الحكيم الراهب الشويري في صليما يوم عيد ميلاد العذراء في ١٤ أيلول، وكان كثيرًا ما يطبب بزحلة وغيرها بارعًا بصناعته، وكان فن الطب إذ ذاك منحصرًا بالرهبان وببعض الخاصة.

وسنة ١٧٦٧م ضبط الأمير حيدر الحرفوشي دير السيدة في رأس بعلبك وضايق بعض رهبانه، ففروا إلى دير النبي إلياس الطوق في زحلة، وأخبروا بما حدث لهم، فذهب بعض رهبان زحلة إلى الأمير بشير اللمعي في برمانا وكان هذا الأمير مشهورًا بسطوته ونفوذ كلمته، فأرسل معتمده إلى الأمير الحرفوشي المذكور في بعلبك، فأصلح ذات البين وعادت مياه الراحة إلى مجاريها، ورجع بعض الرهبان إلى دير سيدة الراس.

وفي هذه السنة توفي المطران أفتيموس المذكور، مطران الفرزل وزحلة في قرية القريعة من البقاع، ودفن في دير المخلص، وهو أول أسقف سكن زحلة، ومنه ابتدأت سلسلة أساقفتها وبقي على كرسيها أربعًا وأربعين سنة أسقفًا؛ لأنه سيم عليها سنة ١٧٢٤م، وكان من كهنة البطريرك كيرللس طاناس أقام أولًا في الفرزل، ثم نقل إلى زحلة سنة ١٧٢٧م كما مرَّ آنفًا. وهو من بني إسكندر في معلولا من جبل القلمون، فحضر إليه أخوه إلى زحلة وبقيت سلالته فيها، وهم إلى الآن بقرب دير الآباء اليسوعيين يلقبون ببني المطران (راجع «دواني القطوف») وحضر هذا الأسقف سنة ١٧٣٦م مجمع دير المخلص الذي عقده البطريرك كيرللس المشار إليه، لاتحاد الرهبانيتين الشويرية٣٢ والمخلصية.٣٣ وكان عدد الأساقفة فيه عشرة مع رئيسي الرهبانيتين العامين، ولكنه لم يتوفق إلى اتحادهما، وكان هذا الأسقف من حزب السيد أغناطيوس جوهر، ثم خضع في هذه السنة للسيد ثاودوسيوس الدهان.

وسنة ١٧٦٩ في شهر تموز جاء زحلة البطريرك ثاودوسيوس الدهان الكاثوليكي، قادمًا إليها من بيروت، وحلَّ في دير النبي إلياس نحو أربعة أشهر. ففض بعض مشاكل الرهبان ورتب لهم نظامًا جديدًا. وسُرَّ بعمران زحلة وترقيها، وفيها حضر من حلب جبرائيل بن الغضبان شقيق إلياس الغضبان، فمكث مدة في دير النبي أشعيا للرهبنة الحناوية، ثم جاء زحلة فقضى مدة طويلة في دير النبي إلياس.

وفيها أسست الرهبنة البلدية المارونية٣٤ مأوى (أنطوش) دير القديس أنطونيوس في محله الحاضر الآن مع كنيسة صغيرة،٣٥ وصار لها فيه رئيس ينوب عن أسقف صور وصيداء،٣٦ الذي كانت زحلة تابعة له إذ ذاك.

وسنة ١٧٧٠م ثار متاولة جبل عامل، وناهضوا درويش باشا والي صيداء، الذي سلَّم ولاية لبنان إلى الأمير يوسف الشهابي بدلًا من حليفهم عمه الأمير منصور، في شهر آب من تلك السنة. فانحازوا إلى الشيخ ظاهر العمر الزيداني، وشرعوا يزرعون الفتن ويقلقون الراحة حتى اتصلوا بحاصبيا، وكان أشدهم تحمسًا وعيثًا الصغيرية والصعبية. فأوغر تعديهم صدر الأمير يوسف ونوى التنكيل بهم، فنهض من دير القمر في أول تشرين الأول بزهاء عشرين ألف مقاتل بين فرسان ومشاة، وقيل: كان عددهم ثلاثين ألفًا وبينهم الزحليون، فاحتدم القتال بينهم وبين المتاولة في نواحي جبل عامل، ولما كاد اللبنانيون ينالون النصر ويستظهرون على الأعداء، ارتد بعض الجنبلاطيين والأمراء على أعقابهم في إبان العراك، فأضعف ذلك قلوب اللبنانيين، وانهزموا فطمع بهم المتاولة، ولا سيما بعد أن وصلت نجدة لهم من ظاهر العمر، فتأثروا اللبنانيون وأصلوهم نارًا حامية وأعملوا السلاح في أقفيتهم، حتى قتلوا منهم نحو ألف وخمسمائة قتيل من دروز ونصارى. وكان بينهم بشير بن صعب كساب كاخية الأمير عساف اللمعي من أمراء صليما. والمتناقل على ألسنة الشيوخ، أنه قُتل في هذه الموقعة مائتا زوج أخوة من لبنان، ومن عسكر اللمعيين ستة عشر زوج أخوة معظمهم من المعلوفيين من كفر عقاب وزحلة. وفي هذه الأثناء كان قد وصل عسكر الأمير إسماعيل الشهابي حاكم حاصبيا وخال الأمير يوسف لنجدته، إذ كان قد استصرخه قبل زحفه وهو كثير بقيادة الأمير إسماعيل، فاشتد أزر اللبنانيين ولكنهم كانوا قد بعدوا عن المتاولة، فدخلوا لبنان مدحورين، واستثأر المتاولة منهم لقاء ما فعل بهم سلفه الأمير ملحم سنة ١٧٣٤ كما مر.

وقد اشتهر بهذه الموقعة مخايل عيد المعلوف ببسالته وطنوس أبو عقل المعلوف، وهما من فرع أبي مدلج، فهذا خلَّص العلم (البيرق) عند انكسار اللبنانيين ولم يقوَ الأعداء على أخذه. ويقال: إنه لم يسلم سواه فشكره الأمير ولقبه بالكُحَيل، واشتهر فرعه بهذا اللقب (راجع «دواني القطوف» صفحة ٢٠٧). وعرفت هذه الموقعة بحادثة الجرمق أو الزهراني، حيث حدثت في بلاد الشقيف في وادي الجرمق وقرب نهر الزهراني. ولم يذق اللبنانيون فشلًا مثل هذا في مواقعهم؛ لأن بعض المشايخ خانوا الأمير يوسف وأرادوا خذلانه انتصارًا للأمير منصور، وكان الأمير يوسف في بدء هذه المعركة منتصرًا؛ لأنه لما وصل إلى جباع الحلاوة أول بلاد المتاولة هاجم الشيخ حيدر الفارس زعيمهم المقيم هناك، فهزمه ودخل الأمير القرية وأحرقها، ثم انتقل إلى النبطية. فورد إليه كتاب من الشيخ ظاهر العمر يسأله أن يكف عن القتال بثلاثة شروط؛ أولها: إنه يرسل إليه شيوخ المتاولة ليقدموا له الطاعة، وثانيها: إنهم يقدمون له دراهم نفقة عساكره، وثالثها: إنه يعطيه مدينة صيداء فيتولى شئونها. وكانت هذه الشروط على يد الشيخ علي جنبلاط فلم يقبل الأمير يوسف بها. فتراجع عنه الجنبلاطيون بإشارة زعيمهم الشيخ علي. وكذلك مال عنه كلٌّ من الشيخين عبد السلام العماد وكليب نكد خدمةً للأمير منصور الذي كان يحركهما سرًّا ضد الأمير يوسف، وهما اللذان أقنعاه بعدم قبول شروط الشيخ ظاهر الآنفة الذكر. وكانا يراسلان مشايخ المتاولة سرًّا، وأنهما سيغدران بالأمير خدمةً لهم، فتشدد المتاولة وهجم نحو مائة فارس منهم على عسكر الأمير يوسف فانهزم زعماؤه من أمامهم إنجازًا لوعدهم، وتمت المكيدة وتمزق شمل اللبنانيين وعمَّ العويل والنحيب في جميع لبنان وما يجاوره، حتى كانت النساء في كل مكان كالأغربة حدادًا على القتلى، وتمرَّد المتاولة كما فصَّل ذلك القس حنانيا المنير في تاريخه الدر المرصوف، في تاريخ الشوف وغيره من المؤرخين.

وسنة ١٧٧٢م طلب الأمير يوسف حاكم لبنان من عثمان باشا المصري والي الشام ولاية البقاع لأخيه الأمير سيد أحمد، فألقى إليه مقاليد أمورها، فجاء الأمير سيد أحمد، وتوطن قلعة قب إلياس التي كانت الزلازل قد هدمتها، ورممها وجهزها بالمدافع والرجال وصار يمخرق في البقاع، فنهب قافلة لتجار دمشق كانت مارَّة في طريق البقاع، فكتب عثمان باشا إلى الأمير أن يردع أخاه عن العيث في البلاد وأن يرد ما سلبه، فكتب الأمير إلى أخيه فلم يرعوِ، فاعتذر الأمير يوسف للوزير فرأى اعتذاره غير واقع في محله.

وسنة ١٧٧٣م خرج الوزير مع بعض الباشوات بعساكر جرَّارة أكثر من خمسة عشر ألفًا، فنزلوا في صحراء برِّ إلياس، وضربوا فيها خيامهم وارتجت البلاد لقدومهم، وكانوا يحبون الاقتصاص من الأمير سيد أحمد الذي لم يترك المخرقة في البقاع ولا ردَّ مال القافلة الذي سلبه. فلما بلغ الأمير يوسف قدوم عساكر دمشق جمع رجاله وسار إلى المغيثة. ثم انتقل إلى زحلة فانضم إليه رجالها الأشداء، فحارب عسكر دمشق مرارًا، فلم يظفر بهم ولا ظفروا به، وذلك لخيانة الأمراء والمشايخ الذين كان الجزَّار قد رشاهم بالمال الذي قبضه من مركب فرنسي جاء بيروت حاملًا الدراهم لتجارها، وقيمتها أربعمائة كيس في أثناء محاصرة الجزار إياها. فاستصرخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني، فأرسل إليه عسكرًا وافرًا بقيادة ولده الشيخ علي والشيخ ناصيف النصار زعيم المتاولة، فلما وصلوا إلى القرعون في أول البقاع من جهة الجنوب علم بهم عثمان باشا وأعوانه، فأركنوا إلى الفرار بعساكرهم وتركوا خيامهم وذخائرهم وعددهم ومدافعهم وساروا إلى دمشق، فغنم كل ذلك عسكر الأمير وجهزوا بالمدافع قلعة قب إلياس وحصَّنوها، وتجددت المودَّة بينهم وبين الشيخ ناصيف النصار ورجاله، وأذهبت الحفائظ أحقادهم القديمة. فعاد عسكر الشيخ ظاهر ظافرًا مشكورًا من الأمير الذي عاد إلى دير القمر. وجدد المواثيق بينه وبين المشايخ آل ظاهر العمر وآل علي الصغير وغيرهم.

وفي هذه السنة شيَّد الرهبان الشويريون كنيسة دير النبي إلياس الطوق؛ لأنهم كانوا قبل ذلك قد بنوا الأقبية والممشى الشمالي فقط، وكانوا يقيمون الصلاة بغرفة صغيرة.

وسنة ١٧٧٤ كان الأمير أحمد قد قويت شوكته في البقاع، وحصَّن قلعة قب إلياس بالمدافع كما مرَّ، فعصى على أخيه الأمير يوسف وسوَّلت له نفسه محاربته، فانحاز إلى الذين أبعدهم أخوه من اليزبكية مثل الشيخ عبد السلام العماد والشيخ حسين تلحوق وغيرهما، وكان عنده في القلعة الأمير فارس يونس، فاستمال إليه الأمير منصورًا صاحب راشية، وانضمَّ إليه كثير من مناوئي أخيه، فثقَّل على قرى الشيخ علي جنبلاط في البقاع، فحنق عليه أخوه الأمير يوسف وزحف بعساكره لقتاله، وحاصر قلعة قب إلياس نحو شهر فلم يظفر منها بطائل، فانفض أكثر عسكره ضجرًا بدسيسة الشيخ عبد السلام المذكور. فاستقدم إليه عسكر المغاربة من دمشق، وأقامهم على حصارها حتى استنفد ما فيها من الماء والزاد فضويق الأمير سيد أحمد، وكتب إلى الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب النكدي أنه يريد التسليم لأخيه على أيديهما. فتوسط الأمر فقبل الأمير يوسف بذلك. فخرج أخوه الأمير سيد أحمد من القلعة بمن معه، وسلمها لأخيه وسار إلى حارة حدث بيروت، وتوطنها مع بعض مريديه الذين كانوا محاصرين معه. فاستولى الأمير يوسف على القلعة، وأراد تقويض دعائمها فلم يستطع الفعلة الكثيرون إلا هدم بعض جدارها لمناعتها.

ثم كتب الأمير يوسف إلى محمد باشا العظم خلف عثمان باشا المصري في ولاية دمشق أن يسند إليه إدارة ولاية البقاع، فأرسل إليه الخلعة بذلك، وطلب منه أن يعيد لتجار دمشق ما كان سلبه منهم أخوه الأمير سيد أحمد من قافلتهم ففعل، وكان ذلك اقتصاصًا من الأمراء اللمعيين؛ لأن الأمير شديدًا منهم قتل دهقانه، فنهض الأمير يوسف من غزير إلى الرمتانية لقصاصهم، فوضع يده على أملاكهم ورجع إلى غزير، وأقام أخاه الأمير قاسمًا وكيلًا عنه في ولاية البقاع، فأخذ من أخيه مال التجار وأرجعه إلى أصحابه، وعوَّض عليه مالًا من عنده.

وسنة ١٧٧٥م في أواخرها سقَّف البطريرك ثاودوسيوس الدهان الكاثوليكي في دير القديس أنطونيوس القرقفة في كفر شيما (لبنان) القس يوسف فرحات الراهب المخلصي على ضيعة الفرزل باسمه، وشرع ببناء كنيسة حذاء داره الأسقفية في زحلة، وكان يلقب بأسقف الفرزل، فزاد على لقبه لفظة البقاع؛ أي أسقف الفرزل والبقاع، وكان قد تكاثر مجيء سكان بعلبك إلى زحلة واستعمارها تخلصًّا من ظلم الأمراء الحرفوشيين، فكثر البناء فيها وبنى المطران بعض غرف في الدار الأسقفية، وهو أول من طاف بالقربان المقدَّس في زحلة، إذ كان قد أدخل عيد الجسد الإلهي البطريرك مكسيموس الحكيم الكاثوليكي، فكان كثير من السكان والمجاورين يقصدون زحلة للاحتفال بذلك، ولن تزال هذه العادة جارية إلى عهدنا.

وسنة ١٧٧٦م في ١٦ نيسان صار ثلج وبرد كثير، حتى اتصل الثلج بحدود الساحل، وكان في زحلة وما يجاورها كثيرًا، فحصل ضيق للسكان والمواشي.

وفيها في أول تموز جاء عسكر من دمشق إلى بعلبك، فعزلوا الأمير مصطفى الحرفوشي حاكمها وولُّوا عوضه أخاه محمدًا، فهرب الأمير مصطفى إلى زحلة ودخل في حماية الأمراء اللمعيين، ولبث فيها مدة وتمكنت المودة بينه وبين الزحليين، (راجع تفصيل ذلك في «دواني القطوف»).

وفيها صار أحمد باشا الجزار واليًا على صيداء، وعزل عنها محمد باشا الذي كان قد وضعه حسن باشا القبطان فيها. ولما بلغ الأمير يوسف قدومه اضطرب، لما كان بينهما من الضغينة عند حصار بيروت، ولكنه رأى من المناسب أن يتظاهر بالسرور، فأرسل يهنئه وبعث إليه هدايا من الخيول المطهمة ونحوها، فأجابه الجزار شاكرًا صداقته. ومالأ الأمير يوسف حسن باشا اقتصاصًا من الجزار منتهزًا الفرصة لذلك، وأراد خدمته بتقديم المال المرتب عليه، فاستشار مريديه وأعوانه فقر رأيهم على أن يضع الأمير يوسف يده على عقارات الأمراء الشهابيين أنسبائه ويدفع المال من ريعها ففعل. وأغضب بذلك الأمراء، فنهضوا إلى البقاع وعاثوا فيه وكدَّروا مياه الأمن، وأثاروا القلق وسلبوا ما لأهل البلاد هنالك. فسار الأمير بعسكره إلى قب إلياس لردعهم؛ ففروا إلى إقليم البلان ومنه إلى الحولانية، فتوسط أمرهم نسيبهم الأمير إسماعيل حاكم حاصبية. فقبل الأمير يوسف وساطته، وتعهد لهم بإرجاع ما تناوله من ريع عقاراتهم ورجع كل إلى وطنه، ما عدا شقيقيه الأميرين سيد أحمد وأفندي، فبقيا يناوئانه بالانحياز إلى ناصيف النصار زعيم المتاولة، فاسترضاهما وأعادهما إلى البلاد، وعاد هو إلى دير القمر فجمع المال الذي تعهد به إلى حسن باشا ودفعه له، فأعطاه البراءة والخلعة بحكم جبل الشوف وملحقاته وبيروت وجبيل والبقاع. وكتب له ميثاقًا بأن والي صيداء لا يطالبه إلا بالمال الأميري، وسار إلى الأستانة فانتهز الجزار الفرصة وحرَّك دفين حقده على الأمير يوسف، وجاء بيروت وملكها ورفع يد الأمير يوسف عنها، وضبط ما فيها من عقارات وأبنية للشهابيين، وكتب إلى الأمير يوسف يطلب منه الأموال السلطانية عن السنوات الثلاث الماضية وألحف في الطلب، فخشي الأمير غدره وكتب إلى حسن باشا يستصرخه، فأدركه الرسول في جزيرة قبرس، فعاد ببعض السفن إلى بيروت وأخرج الجزار منها، ووعد الأمير أنه سيعزل الجزار عن الولاية واستأنف السفر إلى الأستانة. وكان عسكر الجزار الذي جاء به بيروت ستمائة فارس من اللاوند الشجعان، فساروا إلى صيداء برًّا فأرسل لهم الأمير المشايخ النكدية، فكمنوا لهم في أرض السعديات قرب الدامور، وكان معهم مائتا رجل والتقيا في الصباح، فاستظهر عليهم اللاوند وجندلوا زعيمهم الشيخ أبا فاعور، وأمسكوا ولده الشيخ محمودًا والشيخ واكدًا، وجرح أخوه الشيخ بشير فساروا بالأسيرين إلى الجزار غانمين الأسلاب فحبسهما في القلعة. ثم فكهما الأمير يوسف معتذرًا إلى الجزار أنَّ ذلك جرى دون علمه؛ ولذلك اضطر الأمير يوسف أن يوزع فدية الأسيرين، وهي مائة ألف غرش على البلاد، فعصى عليه الأمراء اللمعيون وأبوا دفع تلك الضريبة وأثاروا الخواطر ضدَّه، فأوغر ذلك صدر الأمير والجزار معًا فأرسل هذا مصطفى أغا قراملا (أي القارئ الأسود) قائد عسكره بجماعة إلى بيروت، ومنها إلى مقاطعة اللمعيين في المتن وزحلة والبقاع، فأحرقوا قرى المكلس والدكوانة والجديدة وقتلوا جماعة من أعوانهم، وساروا إلى البقاع فاستولوا على ما للأمراء الشهابيين واللمعيين فيه من العقارات والقرى. فانحاز الأمير يوسف إلى اللمعيين، وجمع عسكرًا من البلاد كان بينه الزحليون وزحف به إلى المغيثة.

وفي آخر شهر نيسان من سنة ١٧٧٧ كان قراملَّا مع عسكره الأكراد قد مرُّوا بقلعة قب إلياس، فعلم محافظ القلعة بقدومهم فحصنها، حتى امتنعت عليهم وردَّهم عنها بقنابل المدافع، فساروا إلى بعلبك وعاثوا فيها كلَّ العيث وأمسكوا زعماء الشيعيين فيها، وصادروهم بأموال كثيرة وحبسوا الأمير محمدًا الحرفوشي وضبطوا أمواله، وكان في بعلبك القس أكلمينضوس الراهب الحناوي بارعًا في الطب فطبَّب ذات يوم قراملَّا وشفاه، فصار له عليه دالَّة، فاستأمنه على المسيحيين فأمَّنهم وجمعهم في الدار الأسقفية في بعلبك، وأقام عليهم محافظين فلم يمسُّوا بسوء.

وكان الجزار قد استصرخ حاكم الشام وولده حاكم طرابلس ليساعداه على محاربة جبل لبنان، فامتنعا حفظًا لعهدهم مع الأمير حاكمه.

فجاء عسكر قراملَّا وخيموا في البقاع، وقطعوا الطريق على المارَّة، ونازلوا قرية سعد نايل في جوار زحلة ونهبوا مواشيها وقتلوا بعض سكانها وذلك في شهر حزيران، وأرادوا الهجوم على زحلة فمنعهم المطر الكثير الذي انهمر في تلك الأثناء.

وفي ١٩ تموز هاجموا زحلة ودير مار إلياس الطوق في غربيها، فهرب الرهبان إلى القلعة فوق الدير. فدخلوه ونهبوا ما فيه من الحرير والأمتعة، فجمع الزحليون رجالهم بقيادة بعض الأمراء اللمعيين ونازلوهم قرب الدير المذكور وحمي وطيس القتال، فظفر الزحليون بهم وقتلوا منهم خمسين رجلًا، ولم يُقتل من الزحليين سوى ستة رجال. واستعادوا جميع ما نُهب من الدير سوى بعض الحرير الذي لم يجدوه بين المسلوبات. وقد اشتهر بهذه الموقعة من الزحليين نجم أبو ضاهر المعلوف جد المرحوم نعمان المعلوف لأبيه مع أخوته وغيرهم، وهو الذي حاصر في بيته وحماه من الحريق مع ما حوله، فترك الأكراد زحلة مدحورين وعادوا إلى مخيمهم في البقاع. ولما ذاع خبر مهاجمتهم لزحلة جاء بعض المشايخ والأمراء من لبنان لمعاضدة الزحليين بعساكرهم.

ولما استعاد الأكراد قوتهم وجمعوا شملهم؛ أعادوا الكرة على زحلة في السابع من شهر آب، ولما بدأ القتال فرَّ المشايخ بعسكر الدروز وبعض الأمراء اللمعيين، فتبدد شملهم وضعف عزائم الزحليين لهذه الخيانة. فقتل منهم الأكراد أكثر مما قتل من عسكرهم، وأحرقوا القرية ودير مار إلياس الطوق وغابات المدينة المشتبكة. ولولا معاضدة الأمير مصطفى الحرفوشي للزحليين ووقوفه برجاله في وجه الأكراد، لما أبقوا أحدًا من السكان الذين فرُّوا إلى الجبال العالية في لبنان، وقتلوا الشيخ سيد أحمد العماد من الباروك ونحو ثلاثين من غير الزحليين. أما رهبان دير مار إلياس الطوق، فغادروه فارغًا وحملوا أمتعتهم وذهبوا إلى قرية بر إلياس ونزلوها مدة، واشتهرت هذه الموقعة في زحلة باسم موقعة قراملَّا إلى يومنا.

وفي ١٢ آب نزل قراملَّا بعسكره من زحلة إلى جهات ثعلبايا وقلعة قب إلياس، فالتقاه العسكر اللبناني، فاستظهر عليهم وقتل منهم نحو مائة بينهم زين الدين مزهر مقدم حمانا، والشيخ ظاهر عبد الملك من الجرد في الشوف من الدروز، ورحال بن شبلي كسَّاب من مسيحيي صليما، وقتل من الأكراد نحو أربعين شخصًا، وفر عسكر لبنان. فأحرق الأكراد كثيرًا من قرى البقاع وما يجاورها، وهاجموا قرية سغبين مرتين؛ فعادوا عنها مدحورين لصعوبة مسالكها، وقتل منهم نحو مائتين. ثم استقدمهم إليه الجزار فجأة، فرحلوا عن البقاع تاركين فيها آثارًا سيئة.

وأما الأمير يوسف فأوغر صدره ما فعله هؤلاء في بلاده، فجمع عسكرًا كان فيهم الأمراء اللمعيون برجالهم وبينهم الزحليون، وانضمَّ إليه الحرفوشيون حكام بعلبك برجالهم، وبينهم المعلوفيون فواقعوا الجزار وهزموا عساكره وشفوا غليلهم منه.

وفي هذه السنة كثر الجراد في الجروم (السواحل) فأضرَّ بها كثيرًا، واتصل إلى الصرود (الجرود) فكان فيها قليل الضرر.

وفي هذه الأثناء كان الأمير يوسف قد وزَّع مالًا على البلاد، فدفع الشيخ علي جنبلاط ما خصَّه هو وأعوانه، فخشي الأمير زعامته ونفوذه، فألقى زوان الفتنة بينه وبين الشيخ عبد السلام العماد، فتجاذبا كلاهما أهداب الزعامة، وأراد كلٌّ منهما أن يحتكرها لنفسه. فنشأ في البلاد حزب جديد خلف القيسي واليمني، وهو الحزب المعروف باليزبكي والجنبلاطي، فعمَّ الانقسام الشهابيين واللمعيين والنصارى اللبنانيين إلا المشايخ النكديين، فإنهم كانوا على الحيادة؛ فصار حزب يزبك يطلق على المشايخ آل العماد وآل تلحوق وآل عبد الملك ومواليهم وزعماؤه آل العماد الذين كان بينهم اسم يزبك، فنسبت العصبية إليه، والباقون من الإقطاعيين والعشائر كانوا جنبلاطيين وزعماؤهم آل جنبلاط.

وسنة ١٧٧٨م حدث غلاء فاحش عم جميع أنحاء سورية، فكان ثمن كيل الحنطة البيروتي اثني عشر غرشًا، وثمن قفة الأرز عشرين غرشًا؛ ونال زحلة من ذلك ضيق شديد.

وفيها قتل الأمير شديد مراد اللمعي دهقانه (خوليَّه)، فلم يتمكن الأميران سيد أحمد وأفندي حاكما لبنان من الاقتصاص منه. وكان أخوهما الأمير يوسف في غزير، فكتب إلى محمد باشا العظم والي دمشق يطلب منه حكم البقاع، فولَّاه إياه فقام من غزير إلى قرية الرمتانية فوق زحلة للاقتصاص من الأمراء اللمعيين، وكان قد انضمَّ إليه بعض أعيان البلاد والأميران إسماعيل وبشير الأخوان حاكما حاصبية، فتقوى بهم وضبط أملاك الأمراء اللمعيين، وألحق بالزحليين الخسائر وعاد إلى غزير ثم أصلح ذات البين بينه وبين أخويه، ولم يطل العهد حتى أعيدت له الولاية وصالح أخويه واستتبَّ له الحكم.

وسنة ١٧٧٩م في آذار توفي الأمير حسين أبو إسماعيل جد الأمير حيدر إسماعيل الشهير حاكم صليمة لأبيه، وفي ١١ تشرين الثاني توفي الأمير أحمد حاكم بسكنته، فأقيم لهما مأتم حافل حضره الزحليون ولا سيما المعلوفيون الذين من عهدتهما، ولبست مقاطعة المتن وزحلة عليهما الحداد.

وفيها صار ثلج تعاظم جدًّا جدًّا وبقي أيامًا طويلة متجمدًا، وضويق الناس. وفي الثامن من شهر أيار أمطرت السماء مطرًا خرَّت منه مرافض الأودية، وجرت السيول الطامية وسقط في قرية رأس بعلبك ونواحي مدينة حمص برد كان حجمه يتراوح بين حجم الخوخة وبيضة الدجاجة، فسبَّب أضرارًا كثيرة وخسائر فادحة في الأشجار. وفي ذلك اليوم نزل شهاب ناري من السماء منقضًّا على ثلاثة رءوس خيل في تلك الجهات فقتلها لساعته. وفي ١٣ من شهر تشرين الثاني خسف القمر خسوفًا كاملًا طالت مدته.

وسنة ١٧٨٠ في ليلة الحادي عشر من كانون الثاني بعد غياب الشمس بساعتين ونصف حدثت زلزلة (هزة) خفيفة، لم ينجم عنها أضرار واشتد هبوب الرياح فاقتلع الأشجار. وفي آخر شهر نيسان سقط ثلج وبرد عظيم الواحدة بقدر الجوزة وأتلفت أشجارًا كثيرة. وفي أيار انهملت الأمطار العظيمة، وفاضت الأنهار وتجاوزت حدودها وطغى نهر الكلب في كسروان، فحمل أخشابًا ضخمة صدمت في جريها الجسر فانهدم، وكان جسرًا قديمًا عظيمًا من أيام الرومانيين فصاروا يقطعون النهر بالقوارب إلى أن رمموا الجسر ولحق زحلة المطر والثلج وما سببا من الأضرار. وفيها ضرب الأمير يوسف ضريبة على التوت، فأصاب أوقية بزر الحرير خمسة غروش، وتضايق الناس لأن هذا كان مالًا ثانيًا على البلاد فأصاب زحلة منه قسمٌ وافرٌ.

وسنة ١٧٨١م جاء راهبان من دير مار يوحنا الصابغ في الخنشارة بأمر رئيسهما القس أكاكيوس ابن بولس الحكيم الشابوري إلى دير النبي إلياس الطوق في زحلة، وأخذا معهما راهبًا من دير النبي إلياس، وقصدوا سهل البقاع ليصطادوا السمك من نهر الليطاني، وكان حاكم البقاع محمد أغا العبد، فقبض عليهم ووضع الحديد في أعناقهم وتهددهم بالقتل، فبلغ الخبر رهبان دير الطوق، فقدموا له خمسة أرطال قهوة وقفتي أرز فأطلق سراحهم، وكان بينهم القس حنانيا المنير المؤرخ صاحب «تاريخ الرهبنات»، و«الدر المرصوف» و«مجموع الأمثال العامية» وغيرها.

وفي تلك الأثناء حدثت نزغة بين الأميرين محمد الحرفوشي وشقيقه مصطفى، فلجأ هذا إلى زحلة لما كان بينه وبين سكانها من المودَّة، ولا سيما المعلوفيون أنسباء آل شبلي المعلوف الذين كانت لهم منزلة كبيرة عند الحرفوشيين في بعلبك؛ لأنهم كانوا مستشاريهم. فرفع عليه أخوه الشكوى إلى حاكم دمشق، فأرسل هذا عسكرًا إلى زحلة لإلقاء القبض عليه في شهر آذار، ففرَّ منها وخشي الزحليون فتك الحاكم وغدره، فتركوا بلدتهم وساروا إلى لبنان بأمتعتهم، أما غلالهم فكانت على البيادر فاستولى عليها عسكر دمشق ونهب أمتعة دير النبي إلياس الطوق وتركوه قاعًا صفصفًا، فكان ما فقد منه يقدر بثلاثة آلاف غرش.

وإذ ذاك جاء زحلة الأمير سيد أحمد الشهابي فارًّا من وجه أخيه الأمير يوسف؛ لأنه كان قد سعى مع أخيه الأمير أفندي بقتله فقتل الأمير أفندي، وجرح الأمير سيد أحمد وذلك بالاتفاق مع المشايخ الجنبلاطيين ضد المشايخ اليزبكيين، وكان هذا الحزب في معظم شدته. فطلب الأمير سيد أحمد من حاكم الشام الذي كان في دير النبي إلياس الطوق أن يوليه حكم البقاع ويسلمه قلعة قب إلياس، فسلَّمه مقاليد حكم البقاع، واتفق مع الوزير أن يغرِّم أهل زحلة بعشرة أكياس لحمايتهم الأمير مصطفى الحرفوشي ويرفع عنهم العسكر؛ فقبل، فاستقدمهم الأمير سيد أحمد من لبنان، ودفعوا ما تعهد به وعادوا إلى بلدتهم، وعمَّروا ما خرب منها وجدد الرهبان الشويريون بناء الدير.

وسنة ١٧٨٢م أرسل الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان الأمير شديد بن مراد اللمعي، فنهب بر إلياس وخرب قلعتها فهرب البقاعيون، وكان بين عسكره رجال من زحلة نهبوا قرية النبي إيلا (إيليا) قرب أبلح والفرزل، وقتلوا أراجة حميَّة من طاريا، فاستاء الأمير مصطفى الخرفوشي حاكم بعلبك وأرسل يتهدد الزحليين ويصادرهم بأموال كثيرة، وكان يتأهب لمقاتلتهم فرحل بعضهم خوفًا من مكره، وكان ذلك في شهر آذار ونقلوا أمتعتهم. وفي تلك الأثناء تصدَّى الأمير محمد الحرفوشي لمحاربة أخيه الأمير مصطفى في بعلبك بعسكر جرَّار، فهرب هذا إلى نواحي حمص وجمع عسكرًا وهاجم بعلبك، فالتقاه أخوه محمد برجاله وبعد مناوشات كثيرة، كانت الغلبة للأمير مصطفى بعد قتل عشرة من رجاله، فدخل إلى بعلبك وحكمها وهرب الأمير محمد إلى زحلة برجاله.

وسنة ١٧٨٢م جاء زحلة أنتيموس بطريرك أنطاكية الأرثوذكسي قادمًا من الأستانة بطريق طرابلس الشام، وأصلح الخلاف بين المعلوفيين على كنيسة الخرائب في كفر عقاب، إذ استقدم إليه كهنتها وشيوخها، وكتب بينهم وثيقة كما في «دواني القطوف».

وسنة ١٧٨٤م في شهر كانون الثاني ظهر في الغرب مذنَّب كان ذنبه متجهًا للشرق، وخاف الناس منه وتطيَّروا من منظره، وحسبوا لظهوره حسابات تدور على تفشي الأمراض والحروب والفواجع، وكانوا يقرعون صدورهم ويستغيثون بالإله ليدفع عنهم شرَّه.

وكان الزحليون خائفين من مكر الحرفوشيين الذين كانوا يتجاذبون أهداب حكم بعلبك والبقاع، ويمخرقون في البلاد فتارةً يوالون الزحليين وطورًا يعادونهم، حتى ملَّوا من معاشرتهم وأحبوا البعد عنهم. ففي بدء هذه السنة أرسل حاكم دمشق محمد درويش باشا عسكرًا إلى بعلبك بالاتفاق مع أحمد باشا الجزار حاكم عكاء، وألقوا القبض على الأمير مصطفى الحرفوشي وأخوته الستة، ونقلوهم إلى دمشق، فشنقوا ثلثة منهم وحبسوا ثلثة، وتولى بعلبك رمضان آغا ورفعت يد الحرفوشيين عن بعلبك وضواحيها، وصفت كأس الراحة، وأرسل محمد باشا أمرًا إلى الزحليين يطيب به خاطرهم ويعدهم بالخير، وأوصى بهم حاكم بعلبك. ثم انتقل حكم بعلبك إلى يد الجزار، فأرسل عليها حاكمًا من قبله اسمه سليم أغا، وكثرت القلاقل والفتن فصح بهذه البلاد قول الشاعر:

إذا استغنيت عن داءٍ بداءٍ
فاقتل ما أضرك ما شفاكا

وكان أغناطيوس صرُّوف مطران بيروت قد استفحل الخلاف بينه وبين الرهبان الحناويين، فعمَّ البلاء واشتد الخطب وساد الاضطراب، وفيها توفي الأمير مراد منصور اللمعي وحضر الزحليون مأتمه ولبسوا عليه الحداد.

وسنة ١٧٨٥م عمَّ الطاعون مصر وبيروت وطرابلس وبعض أنحاء سورية ولبنان، وهرب السوريون إلى الجبال العالية، وكثر الغلاء وتضايق الناس ما عدا مدينة حلب، فإنها كانت بسعة لرخص الحبوب والحاجات فيها، ولحق زحلة ضيق شديد.

وسنة ١٧٨٦م حكم بعلبك محمد أغا العبد الذي كان حاكم البقاع، فجاء الأمير مصطفى الحرفوشي زحلة، وكان فارًّا عند عرب خزاعة أنسبائه في شمالي سورية، فجمع من زحلة مائة مقاتل وبينهم بنو شبلي المعلوف المقربين منه، فنعل الخيول باللباد ودخل بعلبك بعسكره ليلًا، وقتلوا من التقوا به وأهلكوا من عسكر العبد كثيرًا، وكاد هو يسقط في أيديهم ففرَّ إلى دمشق، واستتب الحكم لجهجاه وجاء زحلة كثير من سكان بعلبك وضواحيها، وعمروا كنيسة القديس ميخائيل الكاثوليكية.

وفيها انتشر الطاعون في البقاع واتصل بزحلة وضواحيها، ومات كثير من بدو البقاع وبعلبك، ولا سيما عرب الفضل، وامتد منها إلى حمص ونواحيها وأفنى التركمان، وكان فتكه ذريعًا. وفي الصيف جفت المياه والينابيع ولا سيما العاصي وكثر الغلاء. وفي ٢٢ تشرين الأول بعد نصف الليل حدثت زلزلة خفيفة. وفي تشرين الثاني من هذه السنة انفجرت ميازيب السماء، وجرت المياه على الأرض وحملت المواشي والغراس وأماتت اثني عشر شخصًا، وهدمت كثيرًا من الأبنية، وكان ضررها في زحلة عظيمًا حتى طاف البردوني، وحمل بعض الناس وخرَّب العقارات.

وسنة ١٧٨٨م كان أظن إبراهيم باشا قد نال ولاية دمشق بعد قتالٍ وخلاف، فأرسل إلى الأمير جهجاه الحرفوشي يتهدده لاعتدائه على بعلبك، فأرسل حريمه إلى زحلة وخرَّب طواحين بعلبك التي تركها أهلها وفروا إلى زحلة وغيرها، فأسند والي الشام المذكور حكم بعلبك إلى الأمير كنج بن محمد الحرفوشي، وخلع عليه وأمدَّه بعسكر دالاتية ومغاربة، فحارب هذا ابن عمه الأمير جهجاه، فاستنجد هذا بالأمير يوسف الشهابي وبالأمير شديد مراد اللمعي حاكم زحلة إذ ذاك، فأرسلا له عسكرًا بينهم الزحليون فقصدوا قرية صنبرة فوق بعلبك، حيث كان عسكر دمشق محاصرًا إياها للقبض على الأمير جهجاه، ففرقوا شمل المحاصرين وارتد عسكر جهجاه على المغاربة، فقتلوا منهم أربعين نفرًا والباقون فروُّا إلى بعلبك، وكان ذلك يوم عيد الأربعين شهيدًا في ٩ آذار، وتوسط الأمر الشيخ عباس التل حاكم الزبداني، فدفع جهجاه ثلثين كيسًا غرامة (بلصة)، ونحو مائتي كيس على حكم بعلبك، فأرسلت إليه الخلع مع حاكم الزبداني المذكور ليلة عيد البشارة في ٢٥ آذار، ويوم العيد وصل الخبر إلى زحلة فسرَّ أهلها وأطلقوا البنادق واطمأنوا بعدما كانوا قد أرسلوا أمتعتهم إلى الجبل، وبعدئذ حضر الأمير جهجاه إلى زحلة حيث أسرته فيها وفاوض المطران بنادكتوس أسقف بعلبك ليعود إليها لاستتباب الراحة، فيرجع جميع النصارى إليها قريرين، وعاد بأسرته وتبعه المطران وجميع الأهلين من نصارى ومسلمين وشيعيين.

وفيها توفي الأمير إسماعيل اللمعي أكبر أمراء المتن سنًّا وجاهًا ورأس عهدة (سميَّة) بني قيدبيه، وكان ذا سطوة ونباهة، فأجري له مأتم حافل حضره الزحليون ولا سيما المعلوفيون؛ لأنهم من عهدته، وخلف ثلاثة أولاد وهم الأمير حسن والأمير عساف والأمير حيدر الذي اشتهر بعد ذلك.

وفيها سقط ثلج عظيم حتى بلغ سواحل بيروت، وتضايق الزحليون منه ومات كثير من المواشي.

وفي ٢٤ أيار انكسفت الشمس قبل الظهر بساعتين، وبقيت بضع ساعات.

وسنة ١٧٨٩ حدث خلاف بين الأمير يوسف الشهابي والجزار، وانضم الأمير جهجاه الحرفوشي إلى الأمير الشهابي، فزحفت عساكرهما على وادي التيم، وفي ٢٠ تموز التقيا في وادي عباد بعسكر الجزار وأمراء حاصبيا وعساكرها؛ فكان النصر للشهابي والحرفوشي وقتل من عسكر الجزار نحو مائتي نفر، فأوغر ذلك صدره غيظًا وأرسل عسكرًا إلى البقاع، وضبط غلالها ليحمل الناس على خلع الأمير يوسف واستمال الجنبلاطيين، فسعوا بتأييد آرائه فترك الأمير يوسف الحكم لابن أخيه الأمير بشير قاسم الشهير، وما استتب له الحكم حتى طلب منه الجزار طرد الأمير يوسف من البلاد، ففر هذا إلى صرد (جرد) كسروان، والتقى الجيشان في وادي الميحان، وهو عسر لا تسلك فيه الخيل إلا بشعب ضيِّق في حرج (حرش) كثيف الأشجار. وكان كمين من عسكر الأمير يوسف بينه رجال جبة بشراي والمشايخ الحماديون وأعوانهم في ذلك المضيق، فلما أقبل عسكر الأمير بشير وبينهم الزحليون وغيرهم من رجال البلاد أوقعوا بهم وفتكوا كل الفتك، فقتلوا منهم على حين غرة خلقًا كثيرًا، ولما رأى الأمير بشير أنَّ عسكره كاد يندحر جرد سيفه وكرَّ أمامهم، فتبعوه وصدموا عسكر الأمير يوسف بقلوب قوية، فشتتوا شملهم ومزَّقوهم كل ممزق ففر الأمير يوسف إلى الجبة ومنها إلى طاريَّا في بلاد بعلبك فالزبدانة فمنين قرب دمشق فحوران. وقتل بهذه الموقعة بعض الزحليين لهجومهم مع الآراء اللمعيين، ومن الجنبلاطيين قتل أو دعيبس بن علي بن بشير جنبلاط. والشيخ يوسف الدويهي من الجبة وغيره، وعرفت هذه الموقعة بموقعة الميحان إلى يومنا.

وفي هذه الأثناء اشتد الخلاف بين الأمراء الحرفوشيين على حكم بعلبك، وكان الخلاف بين الجزار والأمير يوسف شديدًا، وهكذا الحال في وادي التيم، فعمَّ الويل في البلاد وكثر القلق واضطرب حبل الأمن، وكثرت المهاجرة إلى زحلة من جهات كثيرة، ولحقها خسائر ومخاوف ومصادرات كثيرة. وكان الأمير جهجاه قد صودر بأموال وافرة كما مرَّ، فلم يستطع دفعها فدهمه الحاج إسماعيل الكردي من حمص بعساكره تلبية لطلب وزير الشام، ولما كان جهجاه خارج بعلبك سُبي حريمه الأربع وماله وأمتعته وذهب إلى دمشق. فاشتد غيظ جهجاه وجاء بعلبك وعاث فيها وتهدَّد سكانها، ففروا مع كثير من سكان قرى بعلبك إلى زحلة ونواحي دمشق.

وفي شهر تشرين الثاني جاء الحاج إسماعيل المذكور واستلم زمام أحكام بعلبك، وتأثر الأمير جهجاه حتى كرك نوح، ففر إلى زحلة وذهب معه بعض سكانها إلى فالوغا مستصرخًا الأمراء آل مراد اللمعيين، فسكَّنوا روعه مدة ثم عاد إلى زحلة بكثير من الرجال، فبعث نقولا الدروبي من زحلة إلى الحاج إسماعيل في بعلبك يخبره بمجيئه، فقصده بست مائة فارس ومائة راجل ولما دنا من زحلة أرسل چاويشًا ينادي فيها بالأمان، وأن لا يتعرض لأحد من الزحليين ولكنه يبغي القبض على الأمير جهجاه؛ فأجابوه أنَّ هذا خصمك جهجاه خارج إليك فاعمل به ما تشاء. وكان جهجاه قد هجم برجاله وبينهم الزحليون، فدحر حاكم بعلبك وعسكره وتأثروهم وأعملوا السلاح في أقفيتهم، فقتلوا منهم نحو مائتي رجل دون أن يُمسُّوا بسوء وبقي يطاردهم إلى قرب الزبداني، ثم عاد إلى زحلة، وكان ذلك في العاشر من كانون الثاني سنة ١٧٩٠م. وفعل جهجاه أشياء منكرة مع من عاد إلى بعلبك، ولا سيما قطع رأس المفتي وغيره ممن حرَّضهم على تركها، فزاد في طين الخلاف بلة وأوغر صدر الوزير حقدًا ونوى الاقتصاص منه ومهاجمة زحلة وإحراقها، فمنعه سقوط الثلج الذي برَّد نار انتقامه. فبلَّغ الزحليين قصده فتركوا بلدتهم، ثم توسط الأمر الشيخ عباس التل حاكم الزبداني، فأطلق سراح حريم الأمير جهجاه وأصلح بينه وبين الوزير على أن يغرَّم بأربعين كيسًا، ويرهن أخاه لقاء الأموال الأميرية المتأخرة عنده وحمل إليه خلع الولاية، فطلب الأمير بشير مالًا من الزحليين، فجمعوا له خمسة عشر كيسًا وأرسلوها فلم يكتفِ بهذه المصادرة؛ بل أرسل من قبله من صادر أغنياءها، فأخذوا من فرنسيس ابن الحاج فرح البعلبكي نحو ثمانمائة غرش، ومن طنوس حجي خمسمائة ومن غيرهم غير ذلك، ثم فرض على زحلة ١٥ كيسًا فتضايق الناس وفر بعضهم.

وفيها جاء زحلة الأمير قاسم الحرفوشي بإيعاز الأمير بشير والجزار، ومعه عسكر من الدروز والنصارى من دير القمر وجمع من زحلة نحو ٥٠٠ راجل، وذهب بهم لمحاربة ابن عمه الأمير جهجاه الذي كان معسكرًا في تمنين، فلاقاهم إلى أبلح فهرب الدروز ولحقهم جهجاه، فقتل بعضهم ونزع سلاح الآخرين، وذلك في ٢١ حزيران فبعث الأمير عسكرًا لمصادرته، فجاء زحلة ونهب بغال دير مار إلياس الطوق وحرق بيادره.

وسنة ١٧٩١ اشتد الخلاف واتقدت نيران الفتن بين الأمراء الشهابيين، وشنق الجزار الشيخ غندور بن سعد الخوري وغيره. وكان بعض ممالئي الأمير يوسف الشهابي ضد الأمير بشير قد حركوا دفين حقده، فطلب الأمير بشير عسكرًا من دمشق ومن الأمير أسعد الشهابي حاكم حاصبية وأرسلهم إلى البقاع، فخيموا في بر إلياس وهاجموا زحلة مرارًا، فانتصر الزحليون عليهم وقتلوا منهم ١٥ شخصًا، ثم نزل الدروز إليها وثقلوا على سكانها، ففرَّ بعضهم والباقون حاربهم عسكر دمشق، فانتصر عليهم وأحرق زحلة في ٢٦ تموز وأحرق دير النبي إلياس الطوق، ولما عاد العسكر إلى دمشق رجع الزحليون والأمراء إلى بلدتهم، وأعادوا بناء بيوتها حقيرة كبيوت القرى، ولكنها أحسن من ذي قبل.

وسنة ١٧٩٣ اشتد الغلاء لكثرة الفتن والنهب، فصار كيل القمح الشامي بسعر ١٢ غرشًا ولم يوجد، وقُفَّة الأرز بثلاثين غرشًا وكَيْل الذرة بثلاثة غروش٣٧ وتضايق الناس، فذهب بعض المكارين من زحلة إلى حلب لجلب الحنطة إذ كانت فيها رخيصة وكثيرة، فقبض عليهم متسلم حمص وأخذ منهم الحنطة، فاستغاث الزحليون بالأمير سليمان اللمعي في الشبانية، فأرسل أحد الأمراء وأمسك قفلًا من المكارين ذاهبًا إلى دمشق، وحجز عليه في مجدل عنجر، فطلب وكيل الجزار من متسلم حمص إرجاع بغال الزحليين فأبى، فقبض عليه وسجنه واسترجع الدمشقيون بضائعهم بتأدية قيمة مالية فكاكًا.

وكثرت في هذه السنة الضرائب، فجمع حكام لبنان الشاشية من الفقير ثلاثين بارة ومن غيره أكثر، فجمعوا ثلاثين ألفًا ثم جمعوا مالًا ونصفًا أيضًا، ليدفعوا للجزار تتمة مائتي كيس صادرهم بها. وكان موسم الحرير غير جيِّد، فتضايق الناس أشد الضيق، وصار في هذه السنة ثمن كيل الحنطة الشامي ٢٧ غرشًا وكيل الذرة ١٨ غرشًا ورطل الرز ريالًا (عشرين بارة) ومد الكرسنة ريالًا. وفشا الطاعون في البلاد.

وفي تلك الأثناء لما كثرت المهاجرة إلى زحلة بسبب الفتن التي سادت في سورية ولبنان وكثرة الضرائب التي استنزفت الأموال وضايقت الناس؛ صار الأمير بشير الشهابي يناوئ الزحليين ليعيد المهاجرين إلى مواطنهم، فقوَّى بني القنطار وحاطوم الذين كانوا في زحلة مع بني حسان، وجميعهم من الطائفة الدرزية من متن لبنان، فعاثوا في البلدة فسادًا واشتد أزرهم، فازدادوا شرًّا وعتوًّا. وكان الأمراء الحرفوشيون قد شعروا بكثرة مهاجرة سكان بعلبك وقراها إلى زحلة، فأخذوا يصادرون المسيحيين ويقوون الدروز والشيعيين ليناوئوهم ولا سيما بنو مكارم الذين كانوا في ماسَّة من الدروز، وكثير من الإقطاعيين في البقاع.

ولكن الحواطمة الدروز سكان كفر سلوان وزحلة الذين كانوا من خاصة الأمراء اللمعيين، أوقدوا نار الثورة ضد الأمير بشير لما طلب الضرائب من اللبنانيين، فحاربهم بقيادة ابن عمه الأمير حيدر ملحم الشهابي الذي جاء بخمسين نفرًا من العسكر ليحرق منازل بني حاطوم في كفر سلوان، فثار عليه أهل القرية واجتمع إليهم المتنيون وحاصروه في القرية ودخلوها وسلبوا رجاله، وقتلوا ثلثة منهم وقتل منهم هم خمسة، فامتدت الفتنة وامتنع اللبنانيون عن دفع الضرائب فأغر ذلك صدر الأمير غيظًا.

وفي ١٩ حزيران سنة ١٧٩٣ توفي المطران يوسف فرحات الكاثوليكي، وبقي مطرانًا على «الفرزل والبقاع» كما كان يدعى إذ ذاك نحو ثماني عشرة سنة. وقد أرسل من قبله القس أنطون الجمال المخلصي لينوب عنه في المجمع الذي عقده البطريرك اثناسيوس جوهر في دير المخلص في ٨ تشرين الثاني في سنة ١٧٩٠م بعد تثبيته بطريرك على أثر وفاة البطريرك ثاودوسيوس الدهان. وكان برًّا تقيًّا محبًّا للزحليين ساعيًا في ترقية شئونهم.

وفي هذه الأثناء صارت زحلة محل تجارة الغلال التي كان الزحليون يبتاعونها من حوران وحمص وجبل القلمون (بلاد الشرق)، وكثرت فيها أسواق البيع والشراء وازدحمت فيها الأقدام. وكان سكانها يشترون الأغنام من حمص ومن العرب في البقاع وبعلبك وما إليهما. وشاعت فيها صناعة النسج حتى اشتغل بها نحو جميع سكانها، وكانوا يحملون المنسوجات إلى نواحي حوارن ونابلس وحمص وبعض الجهات ويجلبون القطن فيغزلونه وينسجونه، وأهم منسوجاتهم الخام البلدي الذي كانت النساء تطرِّزه بالحرير أكسية للرجال والنساء. وكان عندهم خان يسمى «خان القطن» في حارة بني غرة الآن، فضلًا عن اتجارهم بالقطران وغيره، فلما كثرت فيها الحركة التجارية والصناعية راجت سوقها، فطمع بها الدروز الذين كانوا فيها وفي البقاع فاتخذوها موطنًا لهم، وكان الأمراء إذ ذاك يعضدونهم؛ لأنهم لم تنتشر المسيحية بينهم انتشارًا كاملًا، وكان حاكم لبنان يطلب المال الأميري من الأمراء والنواطير الدروز تجمعه؛ فتضايق الزحليون من هذه المصادرة والتثقيلات، وكانت عمشاء القنطار وأنسباؤها يعيثون في هذه البلدة فسادًا واستبدادًا، ولن يزال الناس يتناقلون أخبارهم الهمجية إلى الآن.

ولما كانت كثرة الضغط تحدث انفجارًا أخذ الزحليون يستحثون قواهم ويجمعون كلمتهم وشتاتهم للتملص من هذا الاستبداد، فكانوا يعقدون الجمعيات ويتشاورون في اتخاذ أقوم الذرائع للضرب على أيدي مناوئيهم، وكان شيوخهم ذوي تدبير وسداد رأي، فرأوا من الحكمة أن يوالوا حاكم لبنان وينالوا لديه الحظوة ليتمكنوا من نيل متمناهم، فانتهزوا فرصة غضبه على الحواطمة وبعض الدروز.

ولما كان الخلاف مستفحلًا بين الأمير بشير الشهابي الكبير وأولاد عمه أبناء الأمير يوسف الشهابي، وكان الزحليون ينتمون إذ ذاك إلى هؤلاء؛ لأنهم أصدقاء الأمراء اللمعيين استاء الأمير بشير من الزحليين، وهو معروف بحزمه وشدة انتقامه؛ فاجتمع وجهاء زحلة وشيوخها مرارًا لإعداد الذرائع التي تخلِّصهم من الجور المحدق بهم، فلما رأوا الخلاف بين الأمير بشير والحواطمة وبعض الدروز؛ اغتنموا الفرصة وأخذوا يتحفزون للقيام على الدروز الذين أرهقوهم ولا سيما بني القنطار.

وفي سنة ١٧٩٥ اشتد الخلاف بين الأمير بشير الشهابي والجزار، فجاء عسكر الجزار إلى البقاع، وكان يعيث فيه فسادًا فنقل الزحليون أمتعتهم إلى الجبل، لكثرة ما نابهم من التحامل والضرائب والانتقام الذي عم البلاد ومصادرة الأمير بشير للأمراء اللمعيين أصحاب زحلة، فبحث الأمير بشير عن مستودعات أمتعة الزحليين، وضبط كثيرًا منها في دير النبي إلياس شويا الأرثوذكسي قرب الشوير في متن لبنان. وكذلك في دير القديس يوحنا الصابغ في الخنشارة بجواره، وفي دير سيدة النياح في بقاع توته من أعمال كسروان قرب بسكنته وهما للكاثوليك، فازداد الزحليون كرهًا له، وكذلك كان كثير من اللبنانيين يميلون مثلهم إلى أولاد الأمير يوسف.

وفي هذه السنة تولى أولاد الأمير يوسف حكم بلاد جبيل من خليل باشا والي طرابلس الشام، فحاربهم عسكر الجزار بإشارة الأمير بشير. فهربوا وجاءوا زحلة وأرسل والي الشام الملَّا إسماعيل لنجدتهم، فأرسل الأمير بشير عسكرًا من لبنان مع عسكر الجزار، وشبت الحرب في أراضي قب إلياس، فانهزم الملَّا إسماعيل وأولاد الأمير يوسف فرَّوا من زحلة إلى بلاد بعلبك فدمشق، وقتل في هذه الموقعة الشيخ نمر النكدي وغيره.

وفيها فرضت الشاشية على كل شخص ثلاثة غروش، وصار على أثرها ضريبة فادحة، وكان ثمن كيل الحنطة في البيادر من ستة غروش إلى سبعة، ثم تناقص فرجع إلى الخمسة. وأتى جراد من الجنوب فأتلف المزروعات ورزَّ في الأرض، فسلط عليه السمرمر في شهر حزيران فأفناه، وتضايق الزحليون واللبنانيون.

وفي أوائل سنة ١٧٩٦م سام البطريرك كيرلس سياج القس باسيليوس جبلي المخلصي من يبرود أسقفًا على زحلة باسمه، واستقدم إليه شقيقه فسكن زحلة وعرفت سلالته ببني المطران، وسكنوا في الحارة السفلى (التحتا).٣٨

وفي سنة ١٧٩٧م شاع قدوم نابليون بونابرت ملك فرنسه إلى مصر، فخاف المسيحيون ولا سيما سكان دمشق وجاء كثير منهم زحلة، ولبثوا فيها زمنًا وعمر أحدهم مسكنًا قرب الدار الأسقفية، ثم عادوا إلى مدينتهم لما سكنت الخواطر.

وفيها كان الزحليون مرهقين من بني القنطار وحاطوم، وكان الأمير بشير حاقدًا عليهم لا يقبل لهم شكوى على مستعبديهم، فانفتح لهم مجالًا؛ لأن بعض المسيحيين في زحلة وبلاد بعلبك قاموا على بني مكارم الدروز في ماسَّة (البقاع)، واشتد الخلاف بينهم وامتد إلى لبنان حتى انتهى بطرد المكارميين وغيرهم من قرى بعلبك والبقاع إلى لبنان كما فصلت ذلك في كتابي «دواني القطوف». وبقي الخلاف بضع سنين اضطرب فيها حبل الأمن، وانكسرت شوكة الدروز، وجاء زحلة بعض الأُسر مثل بني عطا وغيرهم من جبل القلمون ولبنان ورأس بعلبك.

وكان بنو القنطار سنة ١٧٩٩ قد أحرقوا دار ناصيف نصر الله الحويص في عين الصفصافة (قرب الشوير في لبنان)، وكان هذا كاخية (كتخدا) الأمير منصور مراد اللمعي في المتن، فحنق عليهم الأمراء اللمعيون وأثاروا الزحليين عليهم، فبدءوا يتأهبون للإيقاع بهم بعد أن نالوا من حكومة لبنان التأديب الشديد.

وكان الزحليون يحملون الخمر والكحول (العرق) إلى عكاء للعسكر الفرنسي، وكانوا هم أول من قطرها فاخرة، فقطع عليهم الدروز الطريق في البقاع، وأوقفوا بعض قوافلهم وقوافل أهل بكفية من متن لبنان الناقلة خمرًا، وكانوا من أخصَّاء الأمراء اللمعيين أيضًا، فأرسل هؤلاء إلى مشايخ الدروز العماديين والنكديين وغيرهم ليردُّوا القوافل لأصحابها فلم يفعلوا، فأرسل الأمراء رجالًا من زحلة والمتن إلى البقاع، فدهموا قرية كامد اللوز ونهبوها ثم أصلح ذات بينهم الشهابيون والتلحوقيون.

وكان الخلاف يشتد بين مشايخ الدروز والأمير بشير، مما سهل للزحليين التذرع لكسر قيود الذل التي أثقلتهم، ولا سيما بعدما تمكنت المبادئ المسيحية في نفوس الأمراء حكامهم فمالوا إليهم.

وهكذا كان ختام القرن الثامن عشر زمن تحريك لهمم الزحليين حتى يتخلصوا من ربقة الضغط، وكان يتعاقب على حكومة لبنان الأمير بشير الشهابي وأولاد عمه الأمير يوسف، فكثر الخلاف بين اللبنانيين لانحياز بعضهم إلى أحد الحاكمين، وكان الشعب في الغالب ينقاد للظافر منهما؛ فلذلك لم يستتب الأمر لفريق من الناس؛ بل كان الاضطراب سائدًا والشقاق كثيرًا والوزائع والضرائب فادحة والناس في ضيق شديد ينتظرون الفرج وانحلال هذه الضائقة (الأزمة)، وهكذا كان الزحليون ينشدون معهم قول الشاعر:

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج

هوامش

(١) وفوق قرية شمسطار إلى شمال زحلة الشرقي أطلال مدينة سلوقية في أعلى الجبل إلى يومنا.
(٢) البعل اسم عند الآراميين لما سماه الفينيقيون أيلًا والعمونيون مولكًا أو ملكًا والروم ساتورن والعرب زُحل. وكلمة بعل في مدينة بعلبك ظاهرة حتى قال بعضهم إنها محرَّف بعل بقاع لشيوع هذه العبادة فيه. وقد تركبت لفظة بعل مع أعلام كثيرة جغرافية وتاريخية مثل بعلبك وبعل شمين؛ أي مولى السموات، وبعل حمون، وبعل حرمون، وبعل شمس، وبعل جاد، وبعل صفون، وبعل دان، وبعل شاصر، ويارُبعل، وأشبعل، وأسدروبعل، وأذروبعل، وأنيبعل، وبعل شميه في متن لبنان، وبعلول قرية في البقاع، ودير بعليه على بُعد ساعة عن حمص، وبعل فغور، ولعل وادي فعره على طريق حمص باسمه، واليونان سموا البعل ڤيلوس والرومان بيلوس.
(٣) كان قيس ويمن زعيمي قومهما في الجاهلية فاختلفا وانتمى إلى كلٍّ منهما قبائل نُسبت إليه وكثرت وقائعهم في القديم، ثم نُقل هذا التعصب إلى لبنان ومن أقدم المواقع بين حزبيه موقعة العاقورة سنة ١٥٣٤ بين مالك اليمني وهاشم العجمي القيسي، وموقعة مرحلاتا في أعلى الشوير سنة ١٦٣٦، وموقعة برج الغلغول في بيروت سنة ١٦٦٧ وغيرها فانقسمت البلاد إلى حزبين كانا يتراوحان بين النصر والفشل بحسب حالة زعمائهم، وربما كانت المدينة برمتها من حزب واحد مثل حمص التي قيل فيها «أذل من قيسي بحمص» ولما انقرض المعنيون زعماء القيسيين ساد اليمنيون واضطهدوهم وسنة ١٧٠٨م أغار بشير باشا والي صيداء على الأمير حيدر الشهابي، فحزَّب بقية الأمراء آل علم الدين والأمير يوسف أرسلان حاكم الغربين الأعلى والأدنى والشيخ محمود هرموش وكثيرًا من الأعيان والإقطاعيين. فكسر شوكة القيسيين ثم جمعوا شملهم بعد سنوات، وأعادوا الكرة على اليمنيين في موقعة عين دارة هذه التي حدثت ليلة الجمعة في ١٨ محرَّم سنة ١١٢٣ﻫ، ولن يزال أثر برجين في عين دارة؛ أحدهما للقيسيين والآخر لليمنيين. وفي زحلة كانت كلٌّ من قريتي قمل وعلِّين الأولى للقيسيين والثانية لليمنيين، فخربتا في ذلك العهد. وكان معظم سكان البقاع من القبائل العربية اليمنية ويسمَّون العشران، وكانوا من الحزبين ولهم وقائع كثيرة متفرقة في كتب التاريخ. راجع «دواني القطوف» تقف على تفاصيل ذلك.
(٤) راجع [قِدمها وآثارها].
(٥) راجع أصول وأخبار الأعيان والأسر التي ذُكرت وستُذكر في كتابنا «دواني القطوف».
(٦) كانت هذه الموقعة سنة ١٦٥٠م؛ لأن الأمير عليًّا علم الدين اليمني كان قد نقد بشير باشا والي الشام مالًا ليأخذ ولاية لبنان من الأمير ملحم المعني، وطلب منه عسكرًا لمنازلته فسار بشير باشا بعساكره لمحاربة الأمير المعني والتقيا في وادي القرن المشهور على طريق دمشق في شرقي البقاع فتناجزا القتال، واندحر والي الشام نادمًا خاسرًا، وفشل الأمير اليمني وعرفت الموقعة باسم «موقعة وادي القرن»، ومن أهم ما اشتهر به ذلك الوادي أنه مكمن اللصوص منذ القديم؛ حتى يُضرب به المثل. ومن حوادثه التاريخية أنه في شهر نيسان سنة ١٨٦٠م مات فيه قفل مؤلف من أكثر من مائة شخص صردًا «دنقًا» هم ودوابهم لشدة برد تلك السنة.
(٧) اشتهر بنو علي الصغير الشيعيون (المتاولة) في هذا القرن بتوليهم بلاد بشارة وضواحيها، فكان الحاكم عليها منهم إذ ذاك الشيخ مشرف هذا وأخوه الشيخ نصار، ولقد كثرت الحروب بينهم وبين حكام صيداء ولبنان ودمشق، كما سترى، طمعًا في إقرار الولاية لهم على بلادهم. واشتهر منهم الشيخ نصيف النصار في أواسط القرن الثامن عشر بماله ورجاله وحصونه فتولى بلاده واستأثر بالحكم وصفت له الأيام واتحد مع الشيخ ظاهر العمر حاكم عكاء، ثم مع الأمير يوسف الشهابي، ونال منزلة رفيعة ووالى محمدًا بك أبا الذهب، وهو الذي حارب الجزار مع أخوته ومشايعيه سنة ١٧٨٢، فأبدى من الشجاعة ما يذكره التاريخ، ولما حمل في مقدمة العسكر قُتل برصاصة أصابته، وقتل أخوه الشيخ أبو أحمد المشهور فتمزَّق شمل المتاولة، ولا سيما زعمائهم بني علي الصغير. وبنو منكر اشتهر منهم إذ ذاك مقدماهم الشيخ محمد الحسن والشيخ حيدر الفارس ومن سلم منهم من هذه الحرب هرب مع أولاد الشيخ نصيف النصار إلى عكار، والتجأوا إلى محمد بك الأسعد المرعبي وبعد سنة عادوا إلى الأمير يوسف واستعادوا حكمهم، وبعد سنة طلبهم الجزار من الأمير يوسف وكانوا في مشغره، فأرسل له منهم سبعة عشر فقتلهم شنقًا، ثم والُّوا الأمير بشير المالطي واشتهر منهم الشيخ فارس ابن الشيخ نصيف النصار. ومن سلالتهم الآن شبيب باشا الأسعد وولداه في الأستانة وناصيف باشا الأسعد وولده في صيداء. وكامل بك الأسعد المنتخب مؤخرًا نائبًا عن ولاية بيروت عوض سليمان أفندي البستاني الذي صار عضوًا في مجلس الأعيان. ولهم مع اللبنانيين مواقع عديدة ستراها مفصلة في ما يأتي. ومن أنسبائهم مقدمو جزِّين الشيعيون إلى عهدنا.
(٨) وروى الأمير حيدر الشهابي الشملاني في تاريخه الكبير: أنَّ سبب حريق غزير كان؛ لأن الأمراء اليمنيين حكام لبنان أرسلوا أربعين فارسًا من رجال الدولة لمطالبة المشايخ الخازنيين بالأموال السلطانية المعروفة بالهميد، «وهو المال المرتب من الديوان» فحضر الشيخ نادر بن خطار الخازن إلى دير القمر، فأراه أبو هرموش رسالة المشايخ الحبيشيين من غزير المؤذنة بمعاضدة الخازنيين للأمير حيدر الشهابي ومعرفة مكمنه، وحفظ عياله في حماهم، فأنكر الشيخ الخازني ذلك وقال لأبي هرموش: انقل العساكر من عندنا إلى الحبيشيين فإن قبلوهم كانوا صادقين وإلا فلا. فسعى مع الأميرين الحاكمين بنقلهم فنقلوا، ولما علم بهم الحبيشيون منعوهم عن الدخول، وقتلوا منهم ثلاثة أشخاص وخمسة أفراس فرجعوا إلى دير القمر وأخبروا بما كان فهوجمت غزير مقر الحبيشيين وكان ما سبق وصفه.
(٩) والمشهور الآن أنَّ الأمير أحمد علم الدين فرَّ من القتل وذهب إلى دمشق ونشأ فيها حفيده الشيخ أبو أمين سعيد الذي كان شيخ السروجية فيها «شيخ صنائع» فعرفوا إلى يومنا ببني شيخ السروجية وهم الآن سنيون في دمشق.
(١٠) تناقل المؤرخون أنَّ الأمير حيدر أمَّر اللمعيين؛ أي أعطاهم الإمارة، مع أنَّ الأمير لا يعطي الإمارة هو بنفسه لغيره، وهي رتبته الخاصة إلا إذا كانت رتبته الوزارة ونحوها. وقد استوفيت ذلك وفصلته في كتابي «شرح المتن في تاريخ قضاء المتن» المخطوط. وكان أعيان لبنان أربع رتب؛ الأمراء وهي أعلاها وبعدهم الخوندية من خوند التي فارسيتها خداوند بمعنى السيد ثم المقدَّمون فالمشايخ. وقد وجدت الثلاث في لبنان أما الخوند فلم يلقب به أحد.
(١١) راجع تفصيل ذلك في كتابي «دواني القطوف».
(١٢) أصل الأمراء اللمعيين من بني فوارس قدم منهم عشر قبائل إلى لبنان سنة ٨٢١م من معرة النعمان وكان رأسهم الأمير تنوخ فخيموا في البقاع، ثم انتقلوا إلى لبنان وتوازعوه فاشتهر منهم الأمير تنوخ زعيمهم الذي سكن حصن سرحمول في غرب لبنان الأسفل وبقيت سلالته حاكمة إلى أن انقرضت. والأمراء بنو أرسلان سكنوا سن الفيل في متن لبنان، ثم قرية الشويفات، وبنو عبد الله وبنو هلال سكنوا مقاطعة الغرب وبنو العيد سكنوا العرقوب. وبنو أبي اللمع هؤلاء نزلوا أولًا عيناب في الشوف، ثم انتقلوا إلى بيسور فكفر سلوان فوق زحلة في منقلب جبل بوارش الغربي وعرفوا بالمقدَّمين، وتولوا مقاطعة المتن، واستعمروا قسمًا من البقاع وسنة ١٦٥٦م تولى المقدم فارس بن مراد ابن أبي اللمع جبة بشري بزمن ولاية محمد باشا علي طرابلس، وسنة ١٦٥٨م تولى على عكار بزمن محمد الطباخ والي طرابلس وخلفه قبلان باشا. ولقد ناصب اللمعيون المقدمين بني الصواف حكام الأشبانية ورأس المتن، وكذلك آل علم الدين وحاربوا مع المعنيين والشهابيين، ولا سيما في موقعة عين دارة فوسع الأمير حيدر الشهابي مقاطعتهم وضم إليها البقاع وقسمًا من كسروان، وهو الآن مديرية بسكنتا والقاطع وأعيدت لهم إمارتهم وعرفوا بثلاثة بطون آل قيدبيه «تحريف قائد بك» الذين حكموا في الشبانية ورأس المتن وصليما، وآل مراد الذين حكموا في فالوغا وقرنايل والمتين والعبادية، وآل فارس الذين حكموا في بسكنتا، وكانوا من الطائفة الدرزية التي امتدت في جهات حلب ومنها انتقلت إلى لبنان؛ فاستعمروا زحلة والبقاع، واستقدموا إليهما كثيرًا من المتنيين الذين كانوا من عهدتهم؛ أي في حكمهم، ومعظمهم من الدروز وبعض المسيحيين، فكان أول من استعمر زحلة المتنيون من الطائفتين المذكورتين. وكان للفروع الثلاثة اللمعيين سيطرة على زحلة والبقاع؛ لأنها أضيفت إلى مقاطعاتهم بالاشتراك، فما تملكوها حتى بدءوا بعمارها وإعادة مجدها القديم، واستثمار أراضيها والانتفاع بمياهها، واختص بزحلة أمراء المتين والشبانية. وأخذ آل فارس منهم ما يجاورها مثل عين الدوق ووادي العرايش وقعفرين، وبنوا فيها دورًا أسكنوا فيها خاصتهم وسموها أحواشًا، وكان لهم فيها دهاقين (خولية) لإدارة أملاكهم واستغلال أراضيهم في البقاع. وفي أوائل القرن التاسع عشر تنصَّروا، فعضدوا النصارى وضربوا على أيدي الدروز كما سترى. فللأمراء اللمعيين على زحلة يد بيضاء، وكانت حتى تنظيم المتصرفية من مقاطعاتهم تابعة للمتن؛ ولذلك كان المتنيون من مسيحيين ودروز أقدم سكانها، وهم الذين دافعوا عنها أيام غارات الحرافشة عليهم، كما سترى ذلك مفصلًا، ثم جاءها الناس من بلاد بعلبك ووادي التيم، واتسع نطاق استعمارها فصارت مدينة زاهرة وخلفت الكرك التي خربت. ولقد سعى بترقية زحلة الأمير حيدر إسماعيل قائم مقام النصارى قبل المتصرفية وغيره من أخلافه. إلى أن كفت يد الإقطاعيين عن مقاطعاتهم فصار حكامها من قبل المتصرفية واستقلت بإداراتها كقضاء خاص بعد أن كانت حاضرة إقليم الشوف البياضي مدة طويلة كما سيأتي.
(١٣) وهي التي ولد له منها الأمير بشير الملقب بالسمين.
(١٤) وفي تاريخ الشدياق المذكور. أنه زوَّج بنته من الأمير عساف ابن الأمير حسين المذكور وأقطعه قاطع بيت شباب وبكفيا وصحح ذلك في محل آخر وقال: ثم تزوَّج شقيقة زوجته فولد له منها خمسة ذكور.
(١٥) كان كل من قاطع بيت شباب وبسكنتا وما يجاورها «مما يؤلف الآن مديريتين، الأولى باسم القاطع والثانية باسم بسكنتا» من كسروان، الذي يمتد إلى نهر الجعماني ففصلهما الأمير حيدر عن كسروان، وجعلهما مستقلتين للأمراء اللمعيين، وهما الآن من قضاء المتن وكانت زحلة داخلة فيهما إذ ذاك مع معظم البقاع.
(١٦) وهي التي ولد له منها الأمير عمر والد الأمير بشير الشهابي الكبير المشهور بالمالطي.
(١٧) وهو الأمير منصور بن الفريخ أو فرُّوخ البدوي من عرب البقاع، تولى حكمه بعد أولاد الحنش، واستعمر محلات كثيرة فيه وبنى بقرية قب إلياس ودمشق أبنية فخيمة، وأمَّن الطرق وقُتل سنة ١٠٠٢ﻫ/١٥٩٣م، واشتهر ولده قرقماس بظلمه فقُتل بعده بسنة، وانقرضت سلالته وتولى بعده بنو حيمور، ولن تزال سلالتهم في جب جنين وغيرها إلى يومنا، وهم من عرب الحمراء أو الحميراء الذين اشتهروا في البقاع. ولقد فصَّلتُ ذلك في كتابي «تاريخ سورية المجوفة» المخطوط المطوَّل، وفيه أبحاث عن استعمار البقاع ومدنه القديمة ووقائعه وعلمائه وآثاره والأساطير الوثنية فيه، مما قادني إليه البحث عن تاريخ زحلة وتاريخ قضاء المتن الذي أشرت إليه في ما مضى. ولعلي أتوفق إلى طبع الكتابين فإن فيهما فوائد لن تزال محجوبة عن المطالعين في بطون المخطوطات وفي حافظة الشيوخ.
(١٨) الحوش عبارة عن مجتمع بيوت على شكل مستعمرة صغيرة مسوَّرة ببوابات.
(١٩) الحواطمة هم بنو حاطوم من دروز كفر سلوان، ولن يزالوا فيها إلى اليوم وبعضهم فرَّ من زحلة مع بني القنطاز إلى قضاء راشيا وحوران وغيرهما، واشتهروا بنفوذ كلمتهم في المتن وزحلة ويقال: إنهم جاءوا لبنان مع التنوخيين.
(٢٠) المصرية من النقود ما ضرب في مصر ويراد بها القطع الصغيرة، وعرفت بعد ذلك باسم البارة، وهي لفظة فارسية بمعنى قطعة. فكان الغرش أربعين مصرية أو بارة.
(٢١) كانت الطوائف الشرقية تقيم الصلوات معًا في كنيسة سيدة الزلزلة، ولما تمَّ الانقسام بين الأرثوذكس والكاثوليك بُنِيَت كنائس هؤلاء.
(٢٢) سنة ١٧٣٤ انتقض متاولة جبل عامل على حكومة صيداء وعاثوا في البلاد حتى دخلوا لبنان، فحاربهم الأمير ملحم مع الوزير سعد الدين باشا العظم والي صيداء، وسنة ١٧٤٤ أعاد الكرة عليهم وكذلك سنة ١٧٥٠. راجع تفصيل هذه المواقع في «دواني القطوف» صفحة ٢٠٤.
(٢٣) كانت محل كنيسة الأمير كان اليوم قرب كنيسة مار تقلا.
(٢٤) وذلك محل بيت الخراط الآن.
(٢٥) وهي المعروفة اليوم باسم مار إلياس المخلصية.
(٢٦) وتعرف أيضًا بحارة سيدة النجاة وهي من أجمل مواقع المدينة.
(٢٧) الطوق جمع طاقة عند العامة، وسميت بذلك لما فيها من المغاور وراء نزل الصحة الآن التي تمثل أبوابها نوافذ صغيرة.
(٢٨) حزرته كلمة سريانية بمعنى التلة، وهي قرية تابعة المتن الأعلى في منقلب تلة المشيرفة إلى الغرب الشمالي سكانها متاولة قليلو العدد.
(٢٩) ويعرف هذا الوادي الآن باسم الخندق، وهو الفاصل بين حارة المعالفة وحارة الراسية إلى نهر البردوني فتدخل فيه حارة القديس أنطونيوس الموارنة أيضًا وحارة مار تقلا للكاثوليكيين.
(٣٠) ويعرف أيضًا باسم مار يوحنا الشوير. والطبشي اسم لقرية الخنشارة المجاورة للدير الآن.
(٣١) أسس دير زرعايا للراهبات الحلبيات قرب قرية كفر تيه في قضاء كسروان نحو سنة ١٨٥٠م والكنيسة سنة ١٨٥٥م، وحوله بعض الكتابات القديمة على الصخور تدل على تحديد الغابات وحفظها، وفيه كثير من المتعبدات وفي زمن رئيسته المرحومة انسطاسيا كبابه الحلبية سقف بالآجر (القرميد)، وجرَّت إليه المياه من كفر تيه وأصلحت أوقافه، وذلك من مال شقيقها المرحوم بولس كبابه المثري الشهير المتوفى في لندن، الذي وقف له قسمًا من ثروته أنفق على إصلاحه مع ما خص الرئيسة المذكورة من ثروته.
(٣٢) أسست الرهبانية الباسيلية القانونية الملقبة بالشويرية لقرب مقرها الرئاسي من الشوير وبالحناوية نسبة إلى ديرها الرئاسي على اسم القديس يوحنا الصابغ (المعمدان) في أوائل القرن الثامن عشر، وأنشأت مطبعة عربية باقية إلى الآن وانقسمت إلى بلدية وحلبية سنة ١٨٣١، وهما الآن رهبانيتان راقيتان لهما أديار وأوقاف ومدارس أهمها الكلية الشرقية في زحلة وعلامة رهبانهما (ق.ب)؛ أي قانوني باسيلي ونشأ منهما رهبان أفاضل.
(٣٣) أسست الرهبانية الباسيلية المخلصية في أوائل القرن الثامن عشر، ونُسبت إلى ديرها الرئاسي على اسم المخلص، وأنشأت مطبعة عربية في بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتعطلت، ولها أديار وأوقاف ومدارس وعلامة رهبانها (ب.م)؛ أي باسيلي مخلصي ونشأ منها رهبان أفاضل.
(٣٤) أنشئت الرهبنة البلدية المارونية سنة ١٦٩٥م وتثبتت سنة ١٧٠٠م وقُسمت إلى رهبنيتين؛ إحداهما البلدية أو اللبنانية، والثانية الحلبية سنة ١٧٧٠م، ولهما أديار كثيرة وأوقاف وافرة ومدارس.
(٣٥) تجددت هذه الكنيسة سنة ١٨٦٥م بعد إحراقها ووسعت. وفي حوش الأمراء مأوى (أنطوش) مار تقلا، وهو الآن خراب، وكذلك كنيسة النبي إلياس، وهي تابعة لمأوى القديس أنطونيوس.
(٣٦) كان مارونيو زحلة تابعين لأسقفية صور وصيداء وفي زمن أسقفها المطران بطرس البستاني ألحقوا بأسقفية دمشق، التي كان أسقفها المطران نعمة الله الدحداح، ولن يزالوا تابعين لدمشق إلى يومنا.
(٣٧) ومما يدل على رخص الأسعار أنَّ رجلًا من بني البخاش الزحليين بعد اجتماع الرهبان في دير الطوق على أثر تشييده استؤجر ليركب على دابته راهبًا منهم إلى بعلبك بأجرة غرش، ولما وصل إليها لم يوجد قطعة غرش مع الكاهن ولا مع المطران فكالوا له به كيل ذرة؛ أي ستة أمداد. ولما عاد إلى زحلة أهانه والده؛ لأنه لم يجلب أجرته غرشًا نقدًا؛ فتأمل الرخص إذ ذاك.
(٣٨) توجد في زحلة ثلاث أسر باسم بني المطران؛ إحداهما بعلبكية الأصل، والثانية نسيبة المطران أفتيموس فاضل المعلولي، والثالثة نسيبة هذا المطران يبرودية (راجع الدواني).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤